Translate

الأربعاء، 24 أغسطس 2022

ج5.وج6.. تفسير القرطبي

 

5.   الجامع لأحكام القرآن = تفسير القرطبي
المؤلف : أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي شمس الدين القرطبي (المتوفى : 671هـ)

وقوله تعالى: (فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَما عَلَّمَكُمْ" أي ارجعوا إلى ما أمرتم به من إتمام الأركان. وقال مجاهد:" أَمِنْتُمْ" خرجتم من دار السفر إلى دار الإقامة، ورد الطبري على هذا القول. وقالت «1» فرقة:" أَمِنْتُمْ" زال خوفكم الذي ألجأكم إلى هذه الصلاة. السابعة- واختلف العلماء من هذا الباب في بناء الخائف إذا أمن، فقال مالك: إن صلى ركعة آمنا ثم خاف ركب وبنى، وكذلك إن صلى راكبا وهو خائف ثم أمن نزل وبنى، وهو أحد قولي الشافعي، وبه قال المزني. وقال أبو حنيفة: إذا افتتح الصلاة آمنا ثم خاف استقبل ولم يبن، فإن صلى خائفا ثم أمن بنى. وقال الشافعي: يبنى النازل ولا يبنى الراكب. وقال أبو يوسف: لا يبنى في شي من هذا كله. الثامنة- قوله تعالى: (فَاذْكُرُوا اللَّهَ) قيل: معناه اشكروه على هذه النعمة في تعليمكم هذه الصلاة التي وقع بها الاجزاء، ولم تفتكم صلاة من الصلوات وهو الذي لم تكونوا تعلمونه. فالكاف في قوله" كَما" بمعنى الشكر، تقول: افعل بى كما فعلت بك كذا مكافأة وشكرا. و" ما" في قوله" ما لَمْ" مفعولة ب" عَلَّمَكُمْ". التاسعة- قال علماؤنا رحمة الله عليهم: الصلاة أصلها الدعاء، وحالة الخوف أولى بالدعاء، فلهذا لم تسقط الصلاة بالخوف، فإذا لم تسقط الصلاة بالخوف فأحرى ألا تسقط بغيره من مرض أو نحوه، فأمر الله سبحانه وتعالى بالمحافظة على الصلوات في كل حال من صحة أو مرض، وحضر أو سفر، وقدرة أو عجز وخوف أو أمن، لا تسقط عن المكلف بحال، ولا يتطرق إلى فرضيتها اختلال. وسيأتي بيان حكم المريض في آخر" آل عمران «2»" إن شاء الله تعالى. والمقصود من هذا أن تفعل الصلاة كيفما أمكن، ولا تسقط بحال حتى لو لم يتفق فعلها إلا بالإشارة بالعين لزم فعلها، وبهذا تميزت عن سائر العبادات، كلها تسقط بالاعذار ويترخص فيها بالرخص. قال ابن العربي: ولهذا قال علماؤنا: وهى مسألة عظمي، إن تارك الصلاة يقتل، لأنها أشبهت الايمان الذي لا يسقط بحال، وقالوا فيها: إحدى دعائم
__________
(1). في ز: وقال الطبري.
(2). راجع ج 4 ص 3- 15 (310)

وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240)

الإسلام لا تجوز النيابة عنها ببدن ولا مال، فيقتل تاركها، أصله الشهادتان. وسيأتي ما للعلماء في تارك الصلاة في" براءة «1»" إن شاء الله تعالى.

[سورة البقرة (2): آية 240]
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240)
فيه أربع مسائل: الاولى- قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً) ذهب جماعة من المفسرين في تأويل هذه الآية أن المتوفى عنها زوجها كانت تجلس في بيت المتوفى عنها حولا، وينفق عليها من ماله ما لم تخرج من المنزل، فإن خرجت لم يكن على الورثة جناح في قطع النفقة عنها، ثم نسخ الحول بالأربعة الأشهر والعشر، ونسخت النفقة بالربع والثمن في سورة" النساء «2»" قاله ابن عباس وقتادة والضحاك وابن زيد والربيع. وفى السكنى خلاف للعلماء، روى البخاري عن ابن الزبير قال: قلت لعثمان هذه الآية التي في" البقرة":" وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً- إلى قوله- غَيْرَ إِخْراجٍ" قد نسختها الآية الأخرى فلم تكتبها أو تدعها؟ قال. يا بن «3» أخى لا أغير شيئا منه من مكانه. وقال الطبري عن مجاهد: إن هذه الآية محكمة لا نسخ فيها، والعدة كانت قد ثبتت أربعة أشهر وعشرا، ثم جعل الله لهن وصية منه سكنى سبعة أشهر وعشرين ليلة «4»، فإن شاءت المرأة سكنت في وصيتها، وإن شاءت خرجت، وهو قول الله عز وجل: (غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ). قال ابن عطية: وهذا كله قد زال حكمه بالنسخ المتفق عليه إلا ما قوله الطبري مجاهدا رحمهما الله تعالى، وفى ذلك نظر على الطبري. وقال القاضي عياض: والإجماع منعقد على أن الحول منسوخ وأن عدتها أربعة أشهر وعشر. قال غيره: معنى قوله" وَصِيَّةً" أي من الله تعالى تجب على النساء بعد وفاة الزوج بلزوم البيوت سنة ثم نسخ.
__________
(1). راجع ج 8 ص 72.
(2). راجع ج 5 ص 75. [.....]
(3). كذا في صحيح البخاري. والذي في الأصول:" ... فلم تكتبها؟ قال: تدعها يا ابن أخى ... إلخ" قوله" أو تدعها" أي تتركها في المصحف، والشك من الراوي، وكان ابن الزبير ظن أن الذي ينسخ حكمه لا يكتب.
(4). في هـ: يوما.

قلت: ما ذكره الطبري عن مجاهد صحيح ثابت، خرج البخاري قال: حدثنا إسحاق قال حدثنا روح قال حدثنا شبل عن ابن أبى نجيح عن مجاهد" وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً" قال: كانت هذه العدة تعتد عند أهل زوجها واجبة «1» فأنزل الله تعالى:" وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً- إلى قوله- مِنْ مَعْرُوفٍ" قال: جعل الله لها تمام السنة سبعة أشهر وعشرين ليلة وصية، إن شاءت سكنت في وصيتها وإن شاءت خرجت، وهو قول الله تعالى:" غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ" إلا أن القول الأول أظهر لقوله عليه السلام:" إنما هي أربعة أشهر وعشر وقد كانت إحداكن في الجاهلية ترمى بالبعرة عند رأس الحول" الحديث. وهذا إخبار منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن حالة المتوفى عنهن أزواجهن قبل ورود الشرع، فلما جاء الإسلام أمرهن الله تعالى بملازمة البيوت حولا ثم نسخ بالأربعة الأشهر والعشر، هذا- مع وضوحه في السنة الثابتة المنقولة بأخبار الآحاد- إجماع من علماء المسلمين لا خلاف فيه، قال أبو عمر، قال: وكذلك سائر الآية. فقوله عز وجل:" وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ
" منسوخ كله عند جمهور العلماء، ثم نسخ الوصية بالسكنى للزوجات في الحول، إلا رواية شاذة مهجورة جاءت عن ابن أبى نجيح عن مجاهد لم يتابع عليها، ولا قال بها فيما زاد على الاربعة الأشهر والعشر أحد من علماء المسلمين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم فيما علمت" «2». وقد روى ابن جريج عن مجاهد مثل ما عليه الناس، فانعقد الإجماع وارتفع الخلاف، وبالله التوفيق. الثانية- قوله تعالى: (وَصِيَّةً) قرأ نافع وابن كثير والكسائي وعاصم في رواية أبى بكر" وصية" بالرفع على الابتداء، وخبره (لِأَزْواجِهِمْ). ويحتمل أن يكون المعنى عليهم وصية، ويكون قوله" لِأَزْواجِهِمْ" صفة، قال الطبري: قال بعض النحاة: المعنى كتبت عليهم وصية، ويكون قوله" لِأَزْواجِهِمْ" صفة، قال: وكذلك هي في قراءة عبد الله
__________
(1). كذا في الأصول. والذي في البخاري:" واجبا" أي أمرا واجبا.
(2). في الأصول:" ... ومن بعدهم من المخالفين فيما علمت".

وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242)

ابن مسعود. وقرا أبو عمرو وحمزة وابن عامر" وَصِيَّةً" بالنصب، وذلك حمل على الفعل، أي فليوصوا وصية. ثم الميت لا يوصى، ولكنه أراد إذا قربوا من الوفاة، و" لِأَزْواجِهِمْ" على هذه القراءة أيضا صفة. وقيل: المعنى أوصى الله وصية." مَتاعاً" أي متعوهن متاعا: أو جعل الله لهن ذلك متاعا لدلالة الكلام عليه، ويجوز أن يكون نصبا على الحال أو بالمصدر الذي هو الوصية، كقوله:" أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً «1»" والمتاع هاهنا نفقة سنتها. الثالثة- قوله تعالى: (غَيْرَ إِخْراجٍ) معناه ليس لأولياء الميت ووارثي المنزل إخراجها. و" غَيْرَ" نصب على المصدر عند الأخفش، كأنه قال لا إخراجا. وقيل: نصب لأنه صفة المتاع. وقيل: نصب على الحال من الموصين، أي متعوهن غير مخرجات. وقيل: بنزع الخافض، أي من غير إخراج. الرابعة- قوله تعالى: (فَإِنْ خَرَجْنَ) الآية. معناه باختيارهن قبل الحول. (فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) أي لا حرج على أحد ولى أو حاكم أو غيره، لأنه لا يجب عليها المقام في بيت زوجها حولا. وقيل: أي لا جناح في قطع النفقة عنهن، أو لا جناح عليهن في التشوف إلى الأزواج، إذ قد انقطعت عنهن مراقبتكم أيها الورثة، ثم عليها ألا تتزوج قبل انقضاء العدة بالحول، أو لا جناح في تزويجهن «2» بعد انقضاء العدة، لأنه قال" مِنْ مَعْرُوفٍ" وهو ما يوافق الشرع. (وَاللَّهُ عَزِيزٌ) صفة تقتضي الوعيد بالنسبة لمن خالف الحد في هذه النازلة، فأخرج المرأة وهى لا تريد الخروج. (حَكِيمٌ) أي محكم لما يريد من أمور عباده.

[سورة البقرة (2): الآيات 241 الى 242]
وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242)
اختلف الناس في هذه الآية، فقال أبو ثور: هي محكمة، والمتعة لكل مطلقة، وكذلك قال الزهري. [قال «3» الزهري [حتى للامة يطلقها زوجها. وكذلك قال سعيد بن جبير: لكل مطلقة متعة وهو أحد قولي الشافعي لهذه الآية. وقال مالك: لكل مطلقه- اثنتين
__________
(1). راجع ج 20 ص 69.
(2). في هـ: تزوجهن.
(3). في هـ.

أو واحدة بنى بها أم لا، سمى لها صداقا أم لا- المتعة، إلا المطلقة قبل البناء وقد سمى لها صداقا فحسبها نصفه، ولو لم يكن سمى لها كان لها المتعة أقل من صداق المثل أو أكثر، وليس لهذه المتعة حد، حكاه عنه ابن القاسم. وقال ابن القاسم في إرخاء الستور من المدونة، قال: جعل الله تعالى المتعة لكل مطلقة بهذه الآية، ثم استثنى في الآية الأخرى التي قد فرض لها ولم يدخل بها فأخرجها من المتعة، وزعم ابن زيد أنها نسختها. قال ابن عطية: ففر ابن القاسم من لفظ النسخ إلى لفظ الاستثناء والاستثناء لا يتجه في هذا الموضع، بل هو نسخ محض كما قال زيد بن أسلم، وإذا التزم ابن القاسم أن قوله:" وَلِلْمُطَلَّقاتِ" يعم كل مطلقة لزمه القول بالنسخ ولا بد. وقال عطاء بن أبى رباح وغيره: هذه الآية في الثيبات اللواتي قد جومعن، إذ تقدم في غير هذه الآية ذكر المتعة للواتي لم يدخل بهن، فهذا قول بأن التي قد فرض لها قبل المسيس لم تدخل قط في العموم. فهذا يجئ على أن قوله تعالى:" وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ" مخصصة لهذا الصنف من النساء، ومتى قيل: إن هذا العموم يتناولها فذلك نسخ لا تخصيص. وقال الشافعي في القول الآخر: إنه لا متعة إلا للتي طلقت قبل الدخول وليس ثم مسيس ولا فرض، لان من استحقت شيئا من المهر لم تحتج في حقها إلى المتعة. وقول الله عز وجل في زوجات النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ «1»" محمول على أنه تطوع من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لا وجوب له. وقوله:" فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ «2»" محمول على غير المفروضة أيضا، قال الشافعي: والمفروض لها المهر إذا طلقت قبل المسيس لا متعة لها، لأنها أخذت نصف المهر من غير جريان وطئ، والمدخول بها إذا طلقت فلها المتعة، لان المهر يقع في مقابلة الوطي والمتعة بسبب الابتذال بالعقد. وأوجب الشافعي المتعة للمختلعة والمبارئة. وقال أصحاب مالك: كيف يكون للمفتدية متعة وهى تعطى، فكيف تأخذ متاعا! لا متعة لمختارة الفراق من مختلعة أو مفتدية أو مباريه أو مصالحة أو ملاعنة أو معتقة تختار الفراق، دخل بها أم لا، سمى لها صداقا أم لا، وقد مضى هذا مبينا «3».
__________
(1). راجع ج 14 ص 170 وص 202.
(2). راجع ج 14 ص 170 وص 202.
(3). راجع ص 200 من هذا الجزء.

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (243)

[سورة البقرة (2): آية 243]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (243)
فيه ست مسائل: الاولى قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ) هذه رؤية القلب بمعنى ألم تعلم. والمعنى عند سيبويه تنبه إلى أمر الذين. ولا تحتاج هذه الرؤية إلى مفعولين. وقرا أبو عبد الرحمن السلمى" ألم تر" بجزم الراء، وحذفت الهمزة حذفا من غير إلقاء حركة لان الأصل ألم ترء. وقصة هؤلاء أنهم قوم من بنى إسرائيل وقع فيهم الوباء، وكانوا بقرية يقال لها" داوردان «1»" فخرجوا منها هاربين فنزلوا واديا فأماتهم الله تعالى. قال ابن عباس: كانوا أربعة آلاف خرجوا فرارا من الطاعون وقالوا: نأتى أرضا ليس بها موت، فأماتهم الله تعالى، فمر بهم نبى فدعا الله تعالى فأحياهم. وقيل: إنهم ماتوا ثمانية أيام. وقيل: سبعة، والله أعلم. قال الحسن: أماتهم الله قبل آجالهم عقوبة لهم، ثم بعثهم إلى بقية آجالهم. وقيل: إنما فعل ذلك بهم معجزة لنبي من أنبيائهم، قيل: كان اسمه شمعون. وحكى النقاش أنهم فروا من الحمى. وقيل: إنهم فروا من الجهاد ولما أمرهم الله به على لسان حزقيل النبي عليه السلام، فخافوا الموت بالقتل في الجهاد فخرجوا من ديارهم فرارا من ذلك، فأماتهم الله ليعرفهم أنه لا ينجيهم من الموت شي، ثم أحياهم وأمرهم بالجهاد بقوله تعالى:" وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ"، قال الضحاك. قال ابن عطية: وهذا القصص كله لين الأسانيد، وإنما اللازم من الآية أن الله تعالى أخبر نبيه محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إخبارا في عبارة التنبيه والتوقيف عن قوم من البشر خرجوا من ديارهم فرارا من الموت فأماتهم الله تعالى ثم أحياهم، ليرواهم وكل من خلف من بعدهم أن الإماتة إنما هي بيد الله تعالى لا بيد غيره، فلا معنى لخوف خائف ولا لاغترار مغتر. وجعل
__________
(1). داوردان (بفتح الواو وسكون الراء وآخره نون): من نواحي شرقي واسط بينهما فرسخ. (معجم ياقوت). وفى ابن عطية: ذاوردان. بذال معجمة.

الله هذه الآية مقدمة بين يدي أمره المؤمنين من أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالجهاد، هذا قول الطبري وهو ظاهر رصف «1» الآية. قوله تعالى: (وَهُمْ أُلُوفٌ «2») قال الجمهور: هي جمع ألف. قال بعضهم: كانوا ستمائة ألف. وقيل: كانوا ثمانين ألفا. ابن عباس: أربعين ألفا. أبو مالك: ثلاثين ألفا. السدى: سبعة وثلاثين ألفا. وقيل: سبعين ألفا، قال عطاء ابن أبى رباح. وعن ابن عباس أيضا أربعين ألفا، وثمانية آلاف، رواه عنه ابن جريج. وعنه أيضا ثمانية آلاف، وعنه أيضا أربعة آلاف، وقيل: ثلاثة آلاف. والصحيح أنهم زادوا على عشرة آلاف لقوله تعالى:" وَهُمْ أُلُوفٌ" وهو جمع الكثرة، ولا يقال في عشرة فما دونها ألوف. وقال ابن زيد في لفظة ألوف: إنما معناها وهم مؤتلفون، أي لم تخرجهم فرقة قومهم ولا فتنة بينهم إنما كانوا مؤتلفين، فخالفت هذه الفرقة فخرجت فرارا من الموت وابتغاء الحياة بزعمهم، فأماتهم الله في منجاهم بزعمهم. فألوف على هذا جمع آلف، مثل جالس وجلوس. قال ابن العربي: أماتهم الله تعالى ] مدة «3» [عقوبة لهم ثم أحياهم، وميتة العقوبة بعدها حياة، وميتة الأجل لا حياة بعدها. قال مجاهد: إنهم لما أحيوا رجعوا إلى قومهم يعرفون ] أنهم كانوا «4» موتى [ولكن سحنة الموت على وجوههم، ولا يلبس أحد منهم ثوبا إلا عاد كفنا دسما «5» حتى ماتوا لآجالهم التي كتبت لهم. ابن جريج عن ابن عباس: وبقيت الرائحة على ذلك السبط من بنى إسرائيل إلى اليوم. وروى أنهم كانوا بواسط العراق. ويقال: إنهم أحيوا بعد أن أنتنوا، فتلك الرائحة موجودة في نسلهم إلى اليوم. الثانية- قوله تعالى: (حَذَرَ الْمَوْتِ) أي لحذر الموت، فهو نصب لأنه مفعول له. و(مُوتُوا) أمر تكوين، ولا يبعد أن يقال: نودوا وقيل لهم: موتوا. وقد حكى أن ملكين صاحا بهم: موتوا فماتوا، فالمعنى قال لهم الله بواسطة الملكين" مُوتُوا"، والله أعلم.
__________
(1). في ابن عطية وز: رصف وباقى الأصول: وصف.
(2). في ز: الثانية" وَهُمْ أُلُوفٌ" ثم جعل المسائل سبعا، وقد نص عليها ستا كما في غيرها من النسخ.
(3). زيادة عن كتاب أحكام القرآن لابن العربي. [.....]
(4). زيادة عن الطبري.
(5). الدسم: الدنس وهو الودك والوساخة.

الثالثة- أصح هذه الأقوال ] وأبينها «1» [وأشهرها أنهم خرجوا فرارا من الوباء، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: خرجوا فرارا من الطاعون فماتوا، فدعا الله نبى من الأنبياء أن يحييهم حتى يعبدوه فأحياهم الله. وقال عمرو بن دينار في هذه الآية: وقع الطاعون في قريتهم فخرج أناس وبقي أناس، ومن خرج أكثر ممن بقي، قال: فنجا الذين خرجوا ومات الذين أقاموا، فلما كانت الثانية خرجوا بأجمعهم إلا قليلا فأماتهم الله ودوابهم، ثم أحياهم فرجعوا إلى بلادهم وقد توالدت ذريتهم. وقال الحسن: خرجوا حذارا من الطاعون فأماتهم الله ودوابهم في ساعة واحدة، وهم أربعون ألفا. قلت: وعلى هذا تترتب الأحكام في هذه الآية. فروى الأئمة واللفظ للبخاري من حديث عامر بن سعد بن أبى وقاص أنه سمع أسامة بن زيد يحدث سعدا أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذكر الوجع «2» فقال" رجز أو عذاب عذب به بعض الأمم ثم بقي منه بقية فيذهب المرة ويأتي الأخرى فمن سمع به بأرض فلا يقدمن عليه ومن كان بأرض وقع بها فلا يخرج فرارا منه" وأخرجه أبو عيسى الترمذي فقال: حدثنا قتيبة أنبأنا حماد بن زيد عن عمرو ابن دينار عن عامر بن سعد عن أسامة بن زيد أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذكر الطاعون فقال:" بقية رجز أو عذاب أرسل على طائفة من بنى إسرائيل فإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها وإذا وقع بأرض ولستم بها فلا تهبطوا عليها" قال: حديث حسن صحيح. وبمقتضى هذه الأحاديث عمل عمر والصحابة رضوان الله عليهم لما رجعوا من سرغ «3» حين أخبرهم عبد الرحمن بن عوف بالحديث، على ما هو مشهور في الموطأ وغيره. وقد كره قوم الفرار من الوباء والأرض السقيمة، روى عن عائشة رضى الله عنها أنها قالت: الفرار من الوباء كالفرار من الزحف. وقصة عمر في خروجه إلى الشام مع أبى عبيدة معروفة، وفيها: أنه رجع. وقال الطبري: في حديث سعد دلالة على أن على المرء توقى المكاره قبل نزولها، وتجنب الأشياء المخوفة قبل هجومها، وأن عليه الصبر وترك الجزع بعد نزولها، وذلك أنه عليه
__________
(1). من ز.
(2). ورد الحديث في البخاري في كتاب الطب بلفظ الطاعون وفى كتاب الحيل بالوجع.
(3). سرغ: قرية بوادي تبوك من طريق الشام وهى على ثلاث عشرة مرحلة من المدينة.

السلام نهى من لم يكن في أرض الوباء عن دخولها إذا وقع فيها، ونهى من هو فيها عن الخروج منها بعد وقوعه فيها فرارا منه، فكذلك الواجب أن يكون حكم كل متق من الأمور غوائلها، سبيله في ذلك سبيل الطاعون. وهذا المعنى نظير قوله عليه السلام:" لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاصبروا". قلت: وهذا هو الصحيح في الباب، وهو مقتضى قول الرسول عليه السلام، وعليه عمل أصحابه البررة الكرام ] رضى الله «1» عنهم [، وقد قال عمر لابي عبيدة محتجا عليه لما قال له: أفرارا من قدر الله! فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة" نعم، نفر من قدر الله إلى قدر الله. المعنى: أي لا محيص للإنسان عما قدره الله له وعليه، ولكن أمرنا الله تعالى بالتحرز من المخاوف ] والمهلكات «2» [، وباستفراغ الوسع في التوقي من المكروهات. ثم قال له: أرأيت لو كانت لك إبل فهبطت واديا له عدوتان «3» إحداهما خصبة «4» والأخرى جدبة، أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله [عز وجل ]. فرجع عمر من موضعه ذلك إلى المدينة. قال الكيا الطبري: ولا نعلم خلافا أن الكفار أو قطاع الطريق إذا قصدوا بلدة ضعيفة لا طاقة لأهلها بالقاصدين فلهم أن يتنحوا «5» من بين أيديهم، وإن كانت الآجال المقدرة لا تزيد ولا تنقص. وقد قيل: إنما نهى عن الفرار منه لان الكائن بالموضع الذي الوباء فيه لعله قد أخذ بحظ منه، لاشتراك أهل ذلك الموضع في سبب ذلك المرض العام، فلا فائدة لفراره، بل يضيف إلى ما أصابه من مبادئ الوباء مشقات السفر، فتتضاعف الآلام ويكثر الضرر فيهلكون بكل طريق ويطرحون في كل فجوة ومضيق، ولذلك يقال: ما فر أحد من الوباء فسلم، حكاه ابن المدائني. ويكفى في «6» ذلك موعظة قوله تعالى:" أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا" ولعله إن فر ونجا يقول: إنما نجوت من أجل خروجي عنه فيسوء اعتقاده. وبالجملة فالفرار منه ممنوع لما ذكرناه، ولما فيه من تخلية البلاد: ولا تخلو من مستضعفين يصعب عليهم الخروج
__________
(1). من هـ.
(2). من ز، وفى الأصول الأخرى: الهلكات.
(3). العدوة (بضم العين وكسرها وسكون الدال) شاطئ الوادي وحافته.
(4). في البخاري: خصيبة. قال ابن حجر: بوزن عظيمة.
(5). من هـ: وفيها: ينجوا.
(6). في هـ وز وج: من.

منها، ولا يتأتى لهم ذلك، ويتأذون بحلو البلاد من المياسير الذين كانوا أركانا للبلاد ومعونة للمستضعفين. وإذا كان الوباء بأرض فلا يقدم عليه أحد أخذا بالحزم والحذر والتحرز من مواضع الضرر، ودفعا للأوهام المشوشة لنفس الإنسان، وفى الدخول عليه الهلاك، وذلك لا يجوز في حكم الله تعالى، فإن صيانة النفس عن المكروه واجبة، وقد يخاف عليه من سوء الاعتقاد بأن يقول: لولا دخولي في هذا المكان لما نزل بى مكروه. فهذه فائدة النهى عن دخول أرض بها الطاعون أو الخروج منها، والله أعلم. وقد قال ابن مسعود: الطاعون فتنة على المقيم والفار، فأما الفار فيقول: فبفراري نجوت، وأما المقيم فيقول: أقمت فمت، وإلى نحو هذا أشار مالك حين سئل عن كراهة النظر إلى المجذوم فقال: ما سمعت فيه بكراهة، وما أرى ما جاء من النهى عن ذلك إلا خيفة أن يفزعه أو يخيفه شي يقع في نفسه، قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الوباء:" إذا سمعتم به في أرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه". وسيل أيضا عن البلدة يقع فيها الموت وأمراض، فهل يكره الخروج منها؟ فقال: ما أرى بأسا خرج أو أقام. الرابعة- في قوله عليه السلام:" إذا وقع الوباء بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه". دليل على أنه يجوز الخروج من بلدة الطاعون على غير سبيل الفرار منه، إذا اعتقد أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وكذلك حكم الداخل إذا أيقن أن دخولها «1» لا يجلب إليه قدرا لم يكن الله قدره له، فباح له الدخول إليه والخروج منه على هذا الحد الذي ذكرناه، والله أعلم. الخامسة- في فضل الصبر على الطاعون وبيانه. الطاعون وزنه فاعول من الطعن، غير أنه لما عدل به عن أصله وضع دالا على الموت العام بالوباء، قاله الجوهري. ويروى من حديث عائشة رضى الله عنها أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:" فناء أمتي بالطعن والطاعون" قالت: الطعن قد عرفناه فما الطاعون؟ قال:" غدة كغدة «2» البعير تخرج في المراق «3» والآباط". قال العلماء: وهذا الوباء قد يرسله الله نقمة وعقوبة على من يشاء
__________
(1). في ج وح: أن دخوله.
(2). الغدة: طاعون الإبل، وقلما تسلم منه.
(3). المراق: ما سفل من البطن فما تحته من المواضع التي ترق جلودها، واحدها مرق. وقال الجوهري: لا واحد لها. [.....]

من العصاة من عبيده وكفرتهم، وقد يرسله شهادة ورحمة للصالحين، كما قال معاذ في طاعون عمواس «1»: إنه شهادة ورحمة لكم ودعوه نبيكم، اللهم أعط معاذا واهلة نصيبهم من رحمتك. فطعن في كفه رضى الله عنه. قال أبو قلابة: قد عرفت الشهادة والرحمة ولم أعرف ما دعوة نبيكم؟ فسألت عنها فقيل: دعا عليه السلام أن يجعل فناء أمته بالطعن والطاعون حين دعا ألا يجعل بأس أمته بينهم فمنعها فدعا بهذا. ويروى من حديث جابر وغيره عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال:" الفار من الطاعون كالفار من الزحف والصابر فيه كالصابر في الزحف". وفى البخاري عن يحيى بن يعمر عن عائشة أنها أخبرته أنها سألت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الطاعون فأخبرها نبى الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" أنه كان عذابا يبعثه الله على من يشاء فجعله الله رحمة للمؤمنين فليس من عبد يقع الطاعون فيمكث في بلده صابرا يعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له إلا كان له مثله أجر الشهيد". وهذا تفسير لقوله عليه الصلاة والسلام:" الطاعون شهادة والمطعون شهيد". أي الصابر عليه المحتسب أجره على الله العالم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله عليه، ولذلك تمنى معاذ أن يموت فيه لعلمه أن من مات فهو شهيد. وأما من جزع من الطاعون وكرهه وفر منه فليس بداخل في معنى الحديث، والله أعلم. السادسة- قال أبو عمر: لم يبلغني أن أحدا من حملة العلم فر من الطاعون إلا ما ذكره ابن المدائني أن على بن زيد بن جدعان هرب من الطاعون إلى السيالة «2» فكان يجمع كل جمعة ويرجع، فكان إذا جمع صاحوا به: فر من الطاعون! فمات بالسيالة. قال: وهرب عمرو بن عبيد ورباط بن محمد إلى الرباطية فقال إبراهيم بن على الفقيمي في ذلك:
ولما استفز الموت كل مكذب ... صبرت ولم يصبر رباط ولا عمرو
__________
(1). عمواس (روى بكسر أوله وسكون ثانيه، وروى بفتح أوله وثانيه وآخره سين مهملة): كورة من فلسطين بالقرب من بيت المقدس، ومنها كان ابتداء الطاعون في أيام عمر رضى الله عنه، ثم فشا في أرض الشام فمات منه خلق كثير لا يحصون من الصحابة رضى الله عنهم ومن غيرهم، وذلك في سنة 18 للهجرة.
(2). السيالة (بفتح أوله وتخفيف ثانيه): موضع بقرب المدينة، وهى أول مرحلة لأهل المدينة إذا أرادوا مكة. وقيل: هي بين ملل والروحاء في طريق مكة إلى المدينة (عن شرح القاموس).

وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244)

وذكر أبو حاتم عن الأصمعي قال: هرب بعض البصريين من الطاعون فركب حمارا له ومضى بأهله نحو سفوان «1»، فسمع حاديا يحدو خلفه:
لن يسبق الله على حمار ... ولا على ذى منعة طيار
أو يأتي الحتف على مقدار ... قد يصبح الله أمام الساري
وذكر المدائني قال: وقع الطاعون بمصر في ولاية عبد العزيز بن مروان فخرج هاربا منه فنزل قرية من قرى الصعيد يقال لها" سكر" «2». فقدم عليه حين نزلها رسول لعبد الملك ابن مروان. فقال له عبد العزيز: ما أسمك؟ فقال له: طالب بن مدرك. فقال: أو هـ «3» ما أراني راجعا إلى الفسطاط! فمات في تلك القرية.

[سورة البقرة (2): آية 244]
وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244)
قوله تعالى: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244) هذا خطاب لامة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالقتال في سبيل الله في قول الجمهور. وهو الذي ينوي به أن تكون كلمة الله هي العليا. وسبل الله كثيرة فهي عامة في كله سبيل، قال الله تعالى:" قُلْ هذِهِ سَبِيلِي «4»". قال مالك: سبل الله كثيرة، وما من سبيل إلا يقاتل عليها أو فيها أولها، وأعظمها دين الإسلام، لا خلاف في هذا. وقيل: الخطاب للذين أحيوا من بنى إسرائيل، روى عن ابن عباس والضحاك. والواو على هذا في قوله" وَقاتِلُوا" عاطفة على الامر المتقدم، وفى الكلام متروك تقديره: وقال لهم قاتلوا. وعلى القول الأول عاطفة جملة كلام على جملة ما تقدم، ولا حاجة إلى إضمار في الكلام. قال النحاس:" وَقاتِلُوا" أمر من الله تعالى للمؤمنين ألا تهربوا كما هرب هؤلاء. (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي يسمع قولكم إن قلتم مثل ما قال هؤلاء ويعلم مرادكم به، وقال الطبري: لا وجه لقول من قال: إن الامر بالقتال للذين أحيوا. والله أعلم.
__________
(1). سفوان (بالتحريك): ماء على قدر مرحلة من باب المربد بالبصرة (معجم ياقوت).
(2). سكر (وزان زفر): موضع بشرقية الصعيد بينه وبين مصر يومان، كان عبد العزيز بن مروان يحرج إليه كثيرا. (عن ياقوت). وقد ورد في الأصول:" سكن" بالنون وهو تحريف.
(3). أوه: كلمة يقولها الرجل عند الشكاية والتوجع وهى ساكنة الواو مكسورة الهاء، وربما قلبوا الواو ألفا فقالوا:" أوه من كذا"، وربما شددوا الواو وكسروها وسكنوا الهاء فقالوا:" أوه"، وبعضهم يفتح الواو مع التشديد فيقول:" أوه". (عن النهاية).
(4). راجع ج 9 ص 274

مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)

[سورة البقرة (2): آية 245]
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)
فيه إحدى عشرة مسألة: الاولى- قوله تعالى: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً) لما أمر الله تعالى بالجهاد والقتال على الحق- إذ ليس شي من الشريعة إلا ويجوز القتال عليه وعنه، وأعظمها دين الإسلام كما قال مالك- حرض على الإنفاق في ذلك. فدخل في هذا الخبر المقاتل في سبيل الله، فإنه يقرض به رجاء الثواب كما فعل عثمان رضى الله عنه في جيش العسرة «1». و" من" رفع بالابتداء، و" ذا" خبره، و" الذي" نعت لذا، وإن شئت بدل. ولما نزلت هذه الآية بادر أبو الدحداح إلى التصدق بماله ابتغاء ثواب ربه. أخبرنا الشيخ الفقيه الامام المحدث القاضي أبو عامر «2» يحيى بن عامر بن أحمد بن منيع الأشعري نسبا ومذهبا بقرطبة- أعادها الله- في ربيع الآخر عام ثمانية وعشرين وستمائة قراءة منى عليه قال: أخبرنا أبى إجازة قال: قرأت على أبى بكر عبد العزيز بن خلف بن مدين الأزدي عن أبى عبد الله بن سعدون سماعا عليه، قال: حدثنا أبو الحسن على بن مهران قال: حدثنا أبو الحسن محمد بن عبد الله ابن زكريا بن حيوة النيسابوري سنة ست وستين وثلاثمائة، قال: أنبأنا عمى أبو زكريا يحيى ابن زكريا قال: حدثنا محمد بن معاوية بن صالح قال: حدثنا خلف بن خليفة عن حميد «3» الأعرج عن عبد الله بن الحارث عن عبد الله بن مسعود قال: لما نزلت:" مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً" قال أبو الدحداح: يا رسول الله أو إن الله تعالى يريد منا القرض؟ قال:" نعم يا أبا الدحداح" قال: أرني يدك [قال ] فناوله، قال: فإنى أقرضت الله حائطا فيه ستمائة نخلة.
__________
(1). جيش العسرة: في غزوة تبوك، كان في عسرة وشدة من الحر وجدب البلاد، أمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الناس بالجهاز وحض الأغنياء على النفقة في سبيل الله، فأنفق عثمان رضى الله عنه في ذلك نفقة عظيمة. ابن هشام: حدثني من أثق به أن عثمان. أنفق ألف دينار غير الإبل والزاد وما يتعلق بذلك، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" اللهم أرض عن عثمان فإنى عنه راض".
(2). في ج وهـ وز:" أبو عامر يحيى أبن أحمد بن ربيع الأشعري".
(3). في جميع الأصول: عن الأعرج، وليس بصحيح لان حميد الأعرج الكوفي هو الراوي عن ابن الحارث وعن خلف ابن حليفة.

ثم جاء يمشى حتى أتى الحائط وام الدحداح فيه وعياله، فناداها: يا أم الدحداح، قالت: لبيك، قال: أخرجي، قد أقرضت ربى عز وجل حائطا فيه ستمائة نخلة. وقال زيد بن أسلم: لما نزل:" مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً" قال أبو الدحداح: فداك أبى وأمي يا رسول الله! إن الله يستقرضنا وهو غنى عن القرض؟ قال:" نعم يريد أن يدخلكم الجنة به". قال: فإنى إن أقرضت ربى قرضا يضمن لي به ولصبيتى الدحداحة معى الجنة؟ قال:" نعم" قال: فناولني يدك، فناوله رسوله الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يده. فقال: إن لي حديقتين إحداهما بالسافلة والأخرى بالعالية، والله لا أملك غيرهما، قد جعلتهما قرضا لله تعالى. قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" اجعل إحداهما لله والأخرى دعها معيشة لك ولعيالك" قال: فأشهدك يا رسول الله أنى قد جعلت خيرهما لله تعالى، وهو حائط فيه ستمائة نخلة. قال:" إذا يجزيك الله به الجنة". فأنطلق أبو الدحداح حتى جاء أم الدحداح وهى مع صبيانها في الحديقة تدور تحت النخل فأنشأ يقول:
هداك ربى سبل الرشاد ... إلى سبيل الخير والسداد
بيني من الحائط بالوداد ... فقد مضى قرضا إلى التناد
أقرضته الله على اعتمادي ... بالطوع لا منّ ولا ارتداد «1»
إلا رجاء الضعف في المعاد ... فارتحلي بالنفس والأولاد
والبر لا شك فخير زاد ... قدمه المرء إلى المعاد
قالت أم الدحداح: ربح بيعك! بارك الله لك فيما اشتريت، ثم أجابته أم الدحداح وأنشأت تقول:
بشرك الله بخير وفرح ... مثلك أدى ما لديه ونصح
قد متع الله عيالي ومنح ... بالعجوة السوداء والزهو البلح

والعبد يسعى وله ما قد كدح ... طول الليالي وعليه ما اجترح
__________
(1). في هـ: ازدياد.

ثم أقبلت أم الدحداح على صبيانها تخرج ما في أفواههم وتنفض ما في أكمامهم حتى أفضت إلى الحائط الآخر، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" كم من عذق «1» رداح ودار «2» فياح لابي الدحداح". الثانية- قال ابن العربي:" انقسم الخلق بحكم الخالق وحكمته وقدرته ومشيئته وقضائه وقدره حين سمعوا هذه الآية أقساما، فتفرقوا فرقا ثلاثة: الفرقة الاولى الرذلى قالوا: إن رب محمد محتاج فقير إلينا ونحن أغنياء، فهذه جهالة لا تخفى على ذى لب، فرد الله عليهم بقوله:" لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ «3»". الفرقة الثانية لما سمعت هذا القول آثرت الشح والبخل وقدمت الرغبة في المال، فما أنفقت في سبيل الله ولا فكت أسيرا ولا أعانت «4» أحدا، تكاسلا عن الطاعة وركونا إلى هذه الدار. [الفرقة «5»] الثالثة لما سمعت بادرت إلى امتثاله وآثر المجيب منهم بسرعة بماله كأبي الدحداح رضى الله عنه وغيره. والله أعلم. الثالثة- قوله تعالى: (قَرْضاً حَسَناً) القرض: اسم لكل ما يلتمس عليه الجزاء. وأقرض فلان فلانا أي أعطاه ما يتجازاه، قال الشاعر وهو لبيد:
وإذا جوزيت قرضا فاجزه ... إنما يجزى الفتى ليس الجمل
والقرض بالكسر لغة فيه حكاها الكسائي. واستقرضت من فلان أي طلبت منه القرض فاقرضني. واقترضت منه أي أخذت القرض. وقال الزجاج: القرض في اللغة البلاء الحسن والبلاء السيئ، قال أمية:
كل امرئ سوف يجزى قرضه حسنا ... أو سيئا ومدينا مثل ما دانا
وقال آخر:
تجازى القروض بأمثالها ... فبالخير خيرا وبالشر شرا
وقال الكسائي: القرض ما أسلفت من عمل صالح أو سيئ. واصل الكلمة القطع، ومنه المقراض. وأقرضته أي قطعت له من مالى قطعة يجازى عليها. وانقرض القوم: انقطع
__________
(1). العذق (بفتح فسكون): النخلة. وبكسر فسكون: العرجون بما فيه من الشماريخ. ورداح ثقيلة.
(2). الفياح (بالتشديد والتخفيف): الواسع.
(3). راجع ج 4 ص 294.
(4). في ابن العربي: أغاثت. [.....]
(5). في ابن العربي.

أثرهم وهلكوا. والقرض هاهنا: اسم، ولولاه لقال [هاهنا «1»] إقراضا. واستدعاء القرض في هذه الآية إنما هي تأنيس وتقريب للناس بما يفهمونه، والله هو الغنى الحميد، لكنه تعالى شبه عطاء المؤمن في الدنيا بما يرجو به ثوابه في الآخرة بالقرض كما شبه إعطاء النفوس والأموال في أخذ الجنة بالبيع والشراء، حسب ما يأتي بيانه في" براءة «2»" إن شاء الله تعالى. وقيل المراد بالآية الحث على الصدقة وإنفاق المال على الفقراء والمحتاجين والتوسعة عليهم، وفى سبيل الله بنصرة الدين. وكنى الله سبحانه عن الفقير بنفسه العلية المنزهة عن الحاجات ترغيبا في الصدقة، كما كنى عن المريض والجائع والعطشان بنفسه المقدسة عن النقائص والآلام. ففي صحيح الحديث إخبارا عن الله تعالى:" يا ابن آدم مرضت فلم تعدني واستطعمتك فلم تطعمني واستسقيتك فلم تسقني" قال يا رب كيف سقيك وأنت رب العالمين!؟ قال: استسقاك عبدى فلان فلم تسقه أما إنك لو سقيته وجدت ذلك عندي". وكذا فيما قبل، أخرجه مسلم والبخاري وهذا كله خرج مخرج التشريف لمن كنى عنه ترغيبا لمن خوطب به. الرابعة- يجب على المستقرض رد القرض، لان الله تعالى بين أن من أنفق في سبيل الله لا يضيع عند الله تعالى بل يرد الثواب قطعا وأبهم الجزاء. وفى الخبر:" النفقة في سبيل الله تضاعف إلى سبعمائة ضعف وأكثر" على ما يأتي بيانه في هذه السورة عند قوله تعالى:" مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ" الآية «3». وقال هاهنا: (فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً) وهذا لا نهاية له ولا حد. الخامسة- ثواب القرض عظيم، لان فيه توسعة على المسلم وتفريجا عنه. خرج ابن ماجة في سننه عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" رأيت ليلة اسرى بى على باب الجنة مكتوبا الصدقة بعشر أمثالها والقرض بثمانية عشر فقلت لجبريل: ما بال القرض أفضل من الصدقة قال لان السائل يسأل وعنده والمستقرض لا يستقرض إلا من حاجة". قال حدثنا محمد بن خلف العسقلاني حدثنا يعلى حدثنا سليمان بن يسير
__________
(1). الزيادة من ز، وفى هـ لقالوا إقراضا.
(2). راجع ج 8 ص 266.
(3). راجع ص 302 من هذا الجزء.

عن قيس بن رومي قال: كان سليمان بن أذنان «1» يقرض علقمة ألف درهم إلى عطائه، فلما خرج عطاؤه تقاضاها منه، واشتد عليه فقضاه، فكأن علقمة غضب فمكث أشهرا «2» ثم أتاه فقال: أقرضني ألف درهم إلى عطائي، قال: نعم وكرامة! يا أم عتبة هلمي تلك الخريطة المختومة التي عندك، قال: فجاءت بها فقال: أما والله إنها لدراهمك التي قضيتني ما حركت منها درهما واحدا قال: فلله أبو ك؟ ما حملك على ما فعلت بى؟ قال: ما سمعت منك، قال: ما سمعت منى؟ قال: سمعتك تذكر عن ابن مسعود أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:" ما من مسلم يقرض مسلما قرضا مرتين إلا كان كصدقتها مرة" قال: كذلك أنبأني ابن مسعود. السادسة- قرض الآدمي للواحد واحد، أي يرد عليه مثله ما أقرضه. وأجمع أهل العلم على أن استقراض الدنانير والدراهم والحنطة والشعير والتمر والزبيب وكل ما له مثل من سائر الأطعمة جائز. وأجمع المسلمون نقلا عن نبيهم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن اشتراط الزيادة في السلف ربا ولو كان قبضة من علف- كما قال ابن مسعود- أو حبة واحدة. ويجوز أن يرد أفضل مما يستلف إذا لم يشترط ذلك عليه، لان ذلك من باب المعروف، استدلالا بحديث أبى هريرة في البكر:" إن خياركم أحسنكم قضاء" رواه الأئمة: البخاري ومسلم وغيرهما. فأثنى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على من أحسن القضاء، وأطلق ذلك ولم يقيده بصفة. وكذلك قضى هو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في البكر وهو الفتى المختار من الإبل جملا خيارا رباعيا، والخيار: المختار، والرباعي هو الذي دخل في السنة الرابعة، لأنه يلقى فيها رباعيته وهى التي تلى الثنايا وهى أربع رباعيات- مخففة الباء- وهذا الحديث دليل على جواز قرض الحيوان، وهو مذهب الجمهور، ومنع من ذلك أبو حنيفة وقد تقدم. السابعة- ولا يجوز أن يهدى من استقرض هدية للمقرض، ولا يحل للمقرض قبولها إلا أن يكون عادتهما ذلك، بهذا جاءت السنة: خرج ابن ماجة حدثنا هشام بن عمار قال حدثنا إسماعيل بن عياش حدثنا عتبة بن حميد الضبي عن يحيى بن أبى إسحاق الهنائي قال:
__________
(1). في التاج: سليمان بن أذنان (مثنى أذن) وعلقمة: هو ابن قيس النخعي الكوفي، والحديث كما في السنن.
(2). الحديث مصحح من ابن ماجة وفى الأصول خلاف له.

سألت أنس بن مالك عن الرجل منا يقرض أخاه المال فيهدى إليه؟ قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" إذا أقرض أحدكم أخاه قرضا فأهدى له أو حمله على دابته فلا يقبلها ولا يركبها إلا أن يكون جرى بينه وبينه قبل ذلك". الثامنة- القرض يكون من المال- وقد بينا حكمه- ويكون من العرض، وفى الحديث عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم كان إذا خرج من بيته قال اللهم إنى قد تصدقت بعرضي على عبادك". وروى عن ابن عمر: أقرض من عرضك ليوم فقرك، يعنى من سبك فلا تأخذ منه حقا ولا تقم عليه حدا حتى تأتى يوم القيامة موفر الأجر. وقال أبو حنيفة: لا يجوز التصدق بالعرض لأنه حق الله تعالى، وروى عن مالك. ابن العربي: وهذا فاسد، قال عليه السلام في الصحيح:" إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام" الحديث. وهذا يقتضى أن تكون هذه المحرمات الثلاث تجرى مجرى واحدا في كونها باحترامها حقا للآدمي. التاسعة- (حَسَناً) قال الواقدي: محتسبا طيبة به نفسه. وقال عمرو ابن عثمان الصدفي: لا يمن به ولا يؤذى. وقال سهل بن عبد الله: لا يعتقد في قرضه عوضا. العاشرة- قوله تعالى: (فَيُضاعِفَهُ لَهُ) قرأ عاصم وغيره" فَيُضاعِفَهُ" بالألف ونصب الفاء. وقرا ابن عامر ويعقوب بالتشديد في العين مع سقوط الالف ونصب الفاء. وقرا ابن كثير وأبو جعفر وشيبة بالتشديد ورفع الفاء. وقرا الآخرون بالألف ورفع الفاء. فمن رفعه نسقه على قوله:" يُقْرِضُ" وقيل: على تقدير هو يضاعفه. ومن نصب فجوابا للاستفهام بالفاء. وقيل: بإضمار" أن" والتشديد والتخفيف لغتان. دليل التشديد" أَضْعافاً كَثِيرَةً" لان التشديد للتكثير. وقال الحسن والسدي: لا نعلم هذا التضعيف إلا لله وحده، لقوله تعالى:" وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً «1»". قاله أبو هريرة: هذا في نفقة الجهاد، وكنا نحسب والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين أظهرنا نفقة الرجل على نفسه ورفقائه وظهره بألفي ألف.
__________
(1). راجع ج 5 ص 195

أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246)

الحادية عشرة- قوله تعالى: (وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ) هذا عام في كل شي فهو القابض الباسط، وقد أتينا عليهما في" شرح الأسماء الحسنى في الكتاب الأسنى". (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) وعيد، فيجازى كلا بعمله.

[سورة البقرة (2): آية 246]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلاَّ تُقاتِلُوا قالُوا وَما لَنا أَلاَّ نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246)
قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلَّا تُقاتِلُوا قالُوا وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246) ذكر في التحريض على القتال قصة أخرى جرت في بنى إسرائيل. والملا: الاشراف من الناس، كأنهم ممتلئون شرفا. وقال الزجاج: سموا بذلك لأنهم ممتلئون مما يحتاجون إليه منهم. والملا في هذه الآية القوم، لان المعنى يقتضيه. والملا: اسم للجمع كالقوم والرهط. والملا أيضا: حسن الخلق، ومنه الحديث" أحسنوا الملا فكلكم سيروى" خرجه مسلم. قوله تعالى: (مِنْ بَعْدِ مُوسى ) أي من بعد وفاته (إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً) قيل: هو شمويل بن بال «1» بن علقمة ويعرف بابن العجوز. ويقال فيه: شمعون، قال السدى: وإنما قيل: ابن والعجوز لان أمه كانت عجوزا فسألت الله الولد وقد كبرت وعقمت فوهبه الله تعالى لها. ويقال له: سمعون لأنها دعت الله أن يرزقها الولد فسمع دعاءها فولدت غلاما فسمته" سمعون"، تقول: سمع الله دعائي، والسين تصير شينا بلغة العبرانية، وهو من ولد يعقوب. وقال مقاتل: هو من نسل هارون عليه السلام. وقال قتادة: هو يوشع بن نون. قال ابن عطية: وهذا ضعيف لان مدة داود هي من بعد موسى بقرون من
__________
(1). كذا في ج وز وح. وفى هـ: نال. وفى ا: بان. والذي في الطبري وابن عطية:" بالي".

الناس، ويوشع هو فتى موسى. وذكر المحاسبي أن اسمه إسماعيل، والله أعلم. وهذه الآية هي خبر عن قوم من بنى إسرائيل نالتهم ذلة وغلبة عدو فطلبوا الاذن في الجهاد وأن يؤمروا به، فلما أمروا كع «1» أكثرهم وصبر الأقل فنصرهم الله. وفى الخبر أن هؤلاء المذكورين هم الذين أميتوا ثم أحيوا، والله أعلم. قوله تعالى: (نُقاتِلْ) بالنون والجزم وقراءة جمهور القراء على جواب الامر. وقرا الضحاك وابن أبى عبلة بالياء ورفع الفعل، فهو في موضع الصفة للملك. قوله تعالى: (قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ) و" عسيتم" بالفتح والكسر لغتان، وبالثانية قرأ نافع، والباقون بالأولى وهى الأشهر. قال أبو حاتم: وليس للكسر وجه، وبه قرأ الحسن وطلحة. قال مكي في اسم الفاعل: عس، فهذا يدل على كسر السين في الماضي. والفتح في السين هي اللغة الفاشية. قال أبو على: ووجه الكسر قول العرب: هو عس بذلك، مثل حر وشج، وقد جاء فعل وفعل في نحو نعم ونعم، وكذلك عسيت وعسيت، فإن أسند الفعل إلى ظاهر فقياس عسيتم أن يقال: عسى زيد، مثل رضى زيد، فإن قيل فهو القياس، وإن لم يقل، فسائغ أن يؤخذ باللغتين فتستعمل إحداهما موضع الأخرى. ومعنى هذه المقالة: هل أنتم قريب من التولي والفرار؟. (إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلَّا تُقاتِلُوا) قال الزجاج:" أَلَّا تُقاتِلُوا" في موضع نصب، أي هل عسيتم مقاتلة. (قالُوا وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) قال الأخفش:" أن" زائدة. وقال الفراء: هو محمول على المعنى، أي وما منعنا، كما تقول: ما لك ألا تصلى؟ أي ما منعك. وقيل: المعنى وأى شي لنا في ألا نقاتل في سبيل الله! قال النحاس: وهذا أجودها." وأن" في موضع نصب. (وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا) تعليل، وكذلك (وَأَبْنائِنا) أي بسبب ذرارينا. قوله تعالى: (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ) أي فرض عليهم (الْقِتالُ تَوَلَّوْا) أخبر تعالى أنه لما فرض عليهم القتال ورأوا الحقيقة ورجعت أفكارهم إلى مباشرة الحرب وأن نفوسهم
__________
(1). يقال: رجل كع وكاع إذا جبن عن القتال، وقيل: هو الذي لا يمضى في عزم ولا حزم وهو الناكص على عقبيه.

وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247)

ربما قد تذهب" تَوَلَّوْا" أي اضطربت نياتهم وفترت عزائمهم، وهذا شأن الأمم المتنعمة المائلة إلى الدعة تتمنى الحرب أوقات الأنفة فإذا حضرت الحرب كعت وانقادت لطبعها. وعن هذا المعنى نهى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله:" لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية فإذا لقيتموهم فأثبتوا" رواه الأئمة. ثم أخبر الله تعالى عن قليل منهم أنهم ثبتوا على النية الاولى واستمرت عزيمتهم على القتال في سبيل الله تعالى.

[سورة البقرة (2): آية 247]
وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (247)
قوله تعالى: (وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً) أي أجابكم إلى ما سألتم، وكان طالوت سقاء. وقيل: دباغا. وقيل: مكاريا، وكان عالما فلذلك رفعه الله على ما يأتي: وكان من سبط بنيامين ولم يكن من سبط النبوة ولا من سبط الملك، وكانت النبوة في بنى لاوى، والملك في سبط يهوذا فلذلك أنكروا. قال وهب بن منبه: لما قال الملا من بنى إسرائيل لشمويل بن بال ما قالوا، سأل الله تعالى أن يبعث إليهم ملكا ويدله عليه، فقال الله تعالى له: انظر إلى القرن «1» الذي فيه الدهن في بيتك فإذا دخل عليك رجل فنش «2» الدهن الذي في القرن، فهو ملك بنى إسرائيل فادهن رأسه منه وملكه عليهم. قال: وكان طالوت دباغا فخرج في ابتغاء دابة أضلها، فقصد شمويل عسى أن يدعو له في أمر الدابة أو يجد عنده فرجا، فنش الدهن على «3» ما زعموا، قال: فقام إليه شمويل فأخذه ودهن منه رأس طالوت، وقال له: أنت ملك بنى إسرائيل الذي أمرني الله تعالى بتقديمه، ثم قال لبنى إسرائيل:" إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً". وطالوت وجالوت اسمان أعجميان معربان، ولذلك
__________
(1). القرن (بالتحريك): الجعبة من جلود تكون مشقوقة ثم تخرز.
(2). نش: صوت.
(3). في هـ وج: فيما يزعمون.

لم ينصرفا، وكذلك داود، والجمع طواليت وجواليت ودواويد، ولو سميت رجلا بطاوس وراقود «1» لصرفت وإن كان أعجميين. والفرق بين هذا والأول أنك تقول: الطاوس، فتدخل الالف واللام فيمكن في العربية ولا يمكن هذا في ذاك. قوله تعالى: (أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا) أي كيف يملكنا ونحن أحق بالملك منه؟. جروا على سنتهم في تعنيتهم الأنبياء وحيدهم عن أمر الله تعالى فقالوا:" أنى" أي من أي جهة، ف" أنى" في موضع نصب على الظرف، ونحن من سبط الملوك وهو ليس كذلك وهو فقير، فتركوا السبب الأقوى وهو قدر الله تعالى وقضاؤه السابق حتى احتج عليهم نبيهم بقوله: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ) أي اختاره وهو الحجة القاطعة، وبين لهم مع ذلك تعليل اصطفاء طالوت، وهو بسطته في العلم الذي هو ملاك الإنسان، والجسم الذي هو معينه في الحرب وعدته عند اللقاء، فتضمنت بيان صفة الامام وأحوال الامامة، وأنها مستحقة بالعلم والدين والقوة لا بالنسب، فلا حظ للنسب فيها مع العلم وفضائل النفس وأنها متقدمة عليه، لان الله تعالى أخبر أنه اختاره عليهم لعلمه وقوته، وإن كانوا أشرف منتسبا. وقد مضى في أول السورة من ذكر الامامة وشروطها ما يكفى ويغنى «2». وهذه الآية أصل فيها. قال ابن عباس: كان طالوت يومئذ أعلم رجل في بنى إسرائيل وأجمله وأتمه، وزيادة الجسم مما يهيب العدو. وقيل: سمى طالوت لطوله. وقيل: زيادة الجسم كانت بكثرة معاني الخير والشجاعة، ولم يرد عظم الجسم، ألم تر إلى قول الشاعر «3»:
ترى الرجل النحيف فتزدريه ... وفي أثوابه أسد هصور «4»
ويعجبك الطرير فتبتليه ... فيخلف ظنك الرجل الطرير «5»
وقد عظم البعير بغير لب ... فلم يستغن بالعظم البعير
__________
(1). الراقود: الدن الكبير، أو هو دن طويل الأسفل، والجمع الرواقيد معرب.
(2). تراجع المسألة الرابعة وما بعدها ج 1 ص 264. [.....]
(3). هو العباس بن مرداس، كما في الحماسة وغيرها.
(4). في اللسان في مادة مزر:" مزير". والمزير. الشديد القلب القوى النافد، والهصور: الشديد الذي يفترس ويكسر.
(5). الطرير: ذو الرواء والمنظر. في هـ: فما يغنى بجثته.

وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248)

قلت: ومن هذا المعنى قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأزواجه:" أسرعكن لحاقا بى أطولكن يدا" فكن يتطاولن، فكانت زينب أولهن موتا، لأنها كانت تعمل بيدها وتتصدق، خرجه مسلم. وقال بعض المتأولين: المراد بالعلم علم الحرب، وهذا تخصيص العموم من غير دليل. وقد قيل: زيادة العلم بأن أوحى الله إليه، وعلى هذا كان طالوت نبيا، وسيأتي. قوله تعالى: (وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ) ذهب بعض المتأولين إلى أن هذا من قول الله عز وجل لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقيل: هو من قول شمويل وهو الأظهر. قال لهم ذلك لما علم من تعنتهم وجدالهم في الحجج، فأراد إن يتمم كلامه بالقطعي الذي لا اعتراض عليه فقال الله تعالى:" وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ". وإضافة ملك الدنيا إلى الله تعالى إضافة مملوك إلى ملك. ثم قال لهم على جهة التغبيط والتنبيه من غير سؤال منهم:" إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ". ويحتمل أن يكونوا سألوه الدلالة على صدقه في قوله:" إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً". قال ابن عطية: والأول أظهر بمساق الآية، والثاني أشبه بأخلاق بنى إسرائيل الذميمة، وإليه ذهب الطبري.

[سورة البقرة (2): آية 248]
وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248)
قوله تعالى: وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248) قوله تعالى: (وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ) إتيان التابوت، والتابوت كان من شأنه فيما ذكر أنه أنزله الله على آدم عليه السلام، فكان عنده إلى أن وصل إلى يعقوب عليه السلام، فكان في بنى إسرائيل يغلبون به من قاتلهم حتى عصوا فغلبوا على التابوت غلبهم عليه العمالقة: جالوت وأصحابه في قول السدى، وسلبوا التابوت منهم. قلت: وهذا أدل دليل على أن العصيان سبب الخذلان، وهذا بين. قال النحاس: والآية في التابوت على ما روى أنه كان يسمع فيه أنين، فإذا سمعوا ذلك ساروا لحربهم،

وإذا هدأ الأنين لم يسيروا ولم يسر التابوت. وقيل: كانوا يضعونه في مأزق الحرب فلا تزال تغلب حتى عصوا فغلبوا واخذ منهم التابوت وذل أمرهم، فلما رأوا آية الاصطلام «1» وذهاب الذكر، أنف بعضهم وتكلموا في أمرهم حتى اجتمع ملؤهم أن قالوا لنبي الوقت: أبعث لنا ملكا، فلما قال لهم: ملككم طالوت راجعوه فيه كما أخبر الله عنهم، فلما قطعهم بالحجة سألوه البينة على ذلك، في قول الطبري. فلما سألوا نبيهم البينة على ما قال، دعا ربه فنزل بالقوم الذين أخذوا التابوت داء بسببه، على خلاف في ذلك. قيل: وضعوه في كنيسة لهم فيها أصنام فكانت الأصنام تصبح منكوسة. وقيل: وضعوه في بيت أصنامهم تحت الصنم الكبير فأصبحوا وهو فوق الصنم، فأخذوه وشدوه إلى رجليه فأصبحوا وقد قطعت يدا الصنم ورجلاه وألقيت تحت التابوت، فأخذوه وجعلوه في قرية قوم فأصاب أولئك القوم أوجاع في أعناقهم. وقيل: جعلوه في مخرأة قوم فكانوا يصيبهم الباسور «2»، فلما عظم بلاؤهم كيفما كان، قالوا: ما هذا إلا لهذا التابوت! فلنرده إلى بنى إسرائيل فوضعوه على عجلة بين ثورين وأرسلوهما في الأرض نحو بلاد بنى إسرائيل، وبعث الله ملائكة تسوق البقرتين «3» حتى دخلنا على بنى إسرائيل، وهم في أمر طالوت فأيقنوا بالنصر، وهذا هو حمل الملائكة للتابوت في هذه الرواية. وروى أن الملائكة جاءت به تحمله وكان يوشع بن نون قد جعله في البرية، فروى أنهم رأوا التابوت في الهواء حتى نزل بينهم، قاله الربيع بن خيثم. وقال وهب بن منبه: كان قدر التابوت نحوا من ثلاثة أذرع في ذراعين. الكلبي: وكان من عود شمسار «4» الذي يتخذ منه الأمشاط. وقرا زيد بن ثابت" التابوه" وهى لغته، والناس على قراءته بالتاء وقد تقدم. وروى عنه" التيبوت" ذكره النحاس. وقرا حميد بن قيس" يحمله" بالياء. قوله تعالى: (فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ) اختلف الناس في السكينة والبقية، فالسكينة فعيلة مأخوذة من السكون والوقار والطمأنينة. فقوله" فِيهِ سَكِينَةٌ" أي هو سبب سكون
__________
(1). الاصطلام: الاستئصال والإبادة.
(2). في ز، وابن عطية:" الناسور" بالنون.
(3). كذا في الأصول، وفى الطبري: الثورين.
(4). في ح وا وج بالشين المعجمة والميم والسين المهملة. والذي في هـ والبحر بالمعجمتين بينهما ميم وفى معجم أسماء النبات" شمساد" ص 34

قلوبكم فيما اختلفتم فيه من أمر طالوت، ونظيره" فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ «1»" أي أنزل عليه ما سكن [به «2»] قلبه. وقيل: أراد أن التابوت كان سبب سكون قلوبهم، فأينما كانوا سكنوا إليه ولم يفروا من التابوت إدا كان معهم في الحرب. وقال وهب بن منبه: السكينة روح من الله تتكلم، فكانوا إذا اختلفوا في أمر نطقت ببيان ما يريدون، وإذا صاحت في الحرب كان الظفر لهم. وقال على بن أبى طالب: هي ريح هفافة «3» لها وجه كوجه الإنسان. وروى عنه أنه قال: هي ريح خجوج «4» لها رأسان. وقال مجاهد: حيوان كالهر له جناحان وذنب ولعينيه شعاع، فإذا نظر إلى الجيش انهزم. وقال ابن عباس: طست من ذهب من الجنة، كان يغسل فيه قلوب الأنبياء، وقال السدى. وقال ابن عطية: والصحيح أن التابوت كانت فيه أشياء فاضلة من بقايا الأنبياء وآثارهم، فكانت النفوس تسكن إلى ذلك وتأنس به وتقوى. قلت: وفى صحيح مسلم عن البراء قال: كان رجل يقرأ سورة" الكهف" وعنده فرس مربوط بشطنين «5» فتغشته سحابة فجعلت تدور وتدنو وجعل فرسه ينفر منها، فلما أصبح أتى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فذكر ذلك له فقال:" تلك السكينة تنزلت للقرآن". وفى حديث أبى سعيد الخدري: أن أسيد بن الحضير بينما هو ليلة يقرأ في مربده «6» الحديث. وفية: فقال رسوله الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" تلك الملائكة كانت تستمع لك ولو قرأت لأصبحت يراها الناس ما تستتر منهم" خرجه البخاري ومسلم. فأخبر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن نزول السكينة مرة، ومرة عن نزول الملائكة، فدل على أن السكينة كانت في تلك الظلة، وأنها تنزل أبدا مع الملائكة. وفى هذا حجة لمن قال إن السكينة روح أو شي له روح، لأنه لا يصح استماع القرآن إلا لمن يعقل، والله أعلم. قوله تعالى: (وَبَقِيَّةٌ) اختلف في البقية على أقوال، فقيل: عصا موسى وعصا هارون ورضاض «7» الألواح، لأنها انكسرت حين ألقاها موسى، قاله ابن عباس. زاد عكرمة:
__________
(1). راجع ج 8 ص 148.
(2). الزيادة من ز.
(3). هفافة: سريعة المرور في هبوبها.
(4). ريح خجوج: شديدة المرور في غير استواء.
(5). الشطن: الحبل، وجمعه أشطان.
(6). المربد (بكسر فسكون ففتح): الموضع الذي ييبس فيه التمر.
(7). رضاض الشيء (بضم الراء): فتاته. [.....]

فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249)

التوراة. وقال أبو صالح: البقية: عصا موسى وثيابه وثياب هارون ولوحان من التوراة «1». وقال عطية بن سعد: هي عصا موسى [وعصا «2»] هارون وثيابهما ورضاض الألواح. وقال الثوري: من الناس من يقول البقية قفيزا «3» من في طست من ذهب وعصا موسى وعمامة هارون ورضاض الألواح. ومنهم من يقول: العصا والنعلان. ومعنى هذا ما روى من أن موسى لما جاء قومه بالألواح فوجدهم قد عبدوا العجل، ألقى الألواح غضبا فتكسرت، فنزع منها ما كان صحيحا واخذ رضاض ما تكسر فجعله في التابوت. وقال الضحاك: البقية: الجهاد وقتال الاعداء. قال ابن عطية: أي الامر بذلك في التابوت، إما أنه مكتوب فيه، وإما أن نفس الإتيان به [هو «4» [كالأمر بذلك، وأسند الترك إلى [آل «5» [موسى و[آل «6» [هارون من حيث كان الامر مندرجا من قوم إلى قوم وكلهم آل موسى وآل هارون. وآل الرجل قرابته. وقد تقدم «7».

[سورة البقرة (2): آية 249]
فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249)
فيه إحدى عشرة مسألة: الاولى- قوله تعالى: (فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ)" فَصَلَ" معناه خرج بهم. فصلت الشيء فانفصل، أي قطعته فانقطع. قال وهب بن منبه: فلما فصل طالوت قالوا له إن المياه لا تحملنا فادع الله أن يجرى لنا نهرا، فقال لهم طالوت: إن الله مبتليكم بنهر. وكان عدد الجنود- في قول السدى- ثمانين ألفا. [وقال وهب «8» [: لم يتخلف عنه إلا ذو
__________
(1). في ز وابن عطية: والمن.
(2). من هـ وج وز.
(3). كذا في ج وهـ وابن عطية وفى هـ: قفير، وهو الزبيل.
(4). الزيادة من ز، وابن عطية.
(5). الزيادة من ز، وابن عطية.
(6). الزيادة من ز، وابن عطية.
(7). راجع المسألة الثانية والثالثة ج 1 ص 381.
(8). من ج وهـ.

عذر من صغر أو كبر أو مرض. والابتلاء الاختبار. والنهر والنهر لغتان. واشتقاقه من السعة، ومنه النهار وقد تقدم «1». قال قتادة: النهر الذي ابتلاهم الله به هو نهر بين الأردن وفلسطين. وقرا الجمهور" بِنَهَرٍ" بفتح الهاء. وقرا مجاهد وحميد الأعرج" بِنَهَرٍ" بإسكان الهاء. ومعنى هذا الابتلاء أنه اختبار لهم، فمن ظهرت طاعته في ترك الماء علم أنه مطيع فيما عدا ذلك، ومن غلبته شهوته [في الماء «2»] وعصى الامر فهو في العصيان في الشدائد أحرى، فروى أنهم أتوا النهر وقد نالهم عطش وهو في غاية العذوبة والحسن، فلذلك رخص للمطيعين في الغرفة ليرتفع عنهم أذى العطش بعض الارتفاع وليكسروا نزاع النفس في هذه الحال. وبين أن الغرفة كافة ضرر العطش عند الحزمة الصابرين على شظف العيش الذين همهم في غير الرفاهية، كما قال عروة:
وأحسوا قراح الماء والماء بارد

قلت: ومن هذا المعنى قوله عليه السلام:" حسب المرء لقيمات يقمن صلبه". وقال بعض من يتعاطى غوامض المعاني: هذه الآية مثل ضربه الله للدنيا فشبهها الله بالنهر والشارب منه والمائل إليها والمستكثر منها، والتارك لشربه بالمنحرف عنها والزاهد فيها، والمغترف بيده غرفة بالآخذ منها قدر الحاجة، وأحوال الثلاثة عند الله مختلفة. قلت: ما أحسن هذا لولا ما فيه من التحريف في التأويل والخروج عن الظاهر، لكن معناه صحيح من غير هذا. الثانية- استدل من قال أن طالوت كان نبيا بقوله:" إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ" وأن الله أوحى إليه بذلك وألهمه، وجعل الإلهام ابتلاء من الله لهم. ومن قال لم يكن نبيا قال: أخبره نبيهم شمويل بالوحي حين أخبر طالوت قومه بهذا، وإنما وقع هذا الابتلاء ليتميز الصادق من الكاذب. وقد ذهب قوم إلى أن عبد الله بن حذافة السهمي صاحب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما أمر أصحابه بإيقاد النار والدخول فيها تجربة لطاعتهم، لكنه حمل مزاحه على تخشين الامر الذي كلفهم، وسيأتي بيانه في" النساء «3»" إن شاء الله تعالى.
__________
(1). راجع ج 1 ص 239.
(2). من ج وهـ وز.
(3). راجع ج 5 ص 258

الثالثة- قوله تعالى: (فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي) شرب قيل معناه كرع. ومعنى" فَلَيْسَ مِنِّي" أي ليس من أصحابي في هذه الحرب، ولم يخرجهم بذلك عن الايمان. قال السدى: كانوا ثمانين ألفا، ولا محالة أنه كان فيهم المؤمن والمنافق والمجد والكسلان، وفى الحديث" من غشنا فليس منا" أي ليس من أصحابنا ولا على طريقتنا وهدينا. قال «1»: إذا حاولت في أسد فجورا فإنى لست منك ولست منى وهذا مهيع «2» في كلام العرب، يقول الرجل لابنه إذا سلك غير أسلوبه: لست منى. الرابعة- قوله تعالى: (وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي) يقال: طعمت الشيء أي ذقته. وأطعمته الماء أي أذقته، ولم يقل ومن لم يشربه لان من عادة العرب إذا كرروا شيئا أن يكرروه بلفظ آخر، ولغة القرآن أفصح اللغات، فلا عبرة بقدح من يقول: لا يقال طعمت الماء. الخامسة- استدل علماؤنا بهذا على القول بسد الذرائع، لان أدنى الذوق يدخل في لفظ الطعم، فإذا وقع النهى عن الطعم فلا سبيل إلى وقوع الشرب ممن يتجنب الطعم، ولهذه المبالغة لم يأت الكلام" ومن لم يشرب منه". السادسة- لما قال تعالى: (وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ) دل على أن الماء طعام وإذا كان طعاما كان قوتا لبقائه واقتيات الأبدان به فوجب أن يجرى فيه الربا، قال ابن العربي: وهو الصحيح من المذهب. قال أبو عمر قال مالك: لا بأس ببيع الماء على الشط بالماء متفاضلا وإلى أجل، وهو قول أبى حنيفة وأبى يوسف. وقال محمد بن الحسن: هو مما يكال ويوزن، فعلى هذا القول لا يجوز عنده التفاضل، وذلك عنده فيه ربا، لان علته في الربا الكيل والوزن. وقال الشافعي: لا يجوز بيع الماء متفاضلا ولا يجوز فيه الأجل، وعلته في الربا أن يكون مأكولا جنسا.
__________
(1). هو النابغة الذبياني، يقول هذا لعيينة بن حصن الفزاري، وكان قد دعاه وقومه إلى مقاطعة بنى أسد ونقض حلفهم فأبى عليهم وتوعده بهم، وأراد بالفجور نقض الحلف. (عن شرح الشواهد).
(2). المهيع: الطريق الواضح الواسع البين.

السابعة- قال ابن العربي قال أبو حنيفة: من قال إن شرب عبد ى فلان من الفرات فهو حر فلا يعتق إلا أن يكرع فيه، والكرع أن يشرب الرجل بفيه من النهر، فإن شرب بيده أو اغترف بالاناء منه لم يعتق، لان الله سبحانه فرق بين الكرع في النهر وبين الشرب باليد. قال: وهذا فاسد، لان شرب الماء يطلق على كل هيئة وصفه في لسان العرب من غرف باليد أو كرع بالفم انطلاقا واحدا، فإذا وجد الشرب المحلوف عليه لغة وحقيقة حنث، فاعلمه. قلت: قول أبى حنيفة أصح، فإن أهل اللغة فرقوا بينهما كما فرق الكتاب والسنة. قال الجوهري وغيره: وكرع في الماء كروعا إذا تناوله بفيه من موضعه من غير أن يشرب بكفيه ولا بإناء، وفية لغة أخرى" كرع" بكسر الراء [يكرع «1»] كرعا. والكرع: ماء السماء يكرع فيه. وأما السنة فذكر ابن ماجة في سننه: حدثنا واصل بن عبد الأعلى حدثنا ابن فضيل عن ليث عن سعيد بن عامر عن ابن عمر قال: مررنا على بركة فجعلنا نكرع فيها فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" لا تكرعوا ولكن اغسلوا أيديكم ثم اشربوا فيها فإنه ليس إناء أطيب من اليد" وهذا نص. وليث بن أبى سليم خرج له مسلم وقد ضعف. الثامنة- قوله تعالى: (إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ) الاغتراف: الأخذ من الشيء باليد وبآلة، ومنه المغرفة، والغرف مثل الاغتراف. وقرى" غرفة" بفتح الغين وهى مصدر، ولم يقل اغترافه، لان معنى الغرف والاغتراف واحد. والغرفة المرة الواحدة. وقرى" غُرْفَةً" بضم الغين وهى الشيء المغترف. وقال بعض المفسرين: الغرفة بالكف الواحد والغرفة بالكفين. وقال بعضهم: كلاهما لغتان بمعنى واحد. وقال على رضى الله عنه: الأكف أنظف الآنية، ومنه قول الحسن:
لا يدلفون إلى ماء بآنية ... إلا اغترافا من الغدران بالراح
الدليف: المشي الرويد.
__________
(1). في هـ وج وز. [.....]

قلت: ومن أراد الحلال الصرف في هذه الأزمان دون شبهة ولا امتراء ولا ارتياب فليشرب بكفيه الماء من العيون والأنهار المسخرة بالجريان آناء الليل و[آناء «1»] النهار، مبتغيا بذلك من الله كسب الحسنات ووضع الأوزار واللحوق بالأئمة الأبرار، قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" من شرب بيده وهو يقدر على إناء يريد به التواضع كتب الله له بعدد أصابعه حسنات وهو إناء عيسى بن مريم عليهما السلام إذا طرح القدح فقال أف هذا مع الدنيا". خرجه ابن ماجة من حديث ابن عمر قال: نهى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن نشرب على بطوننا وهو الكرع، ونهانا أن نغترف باليد الواحدة، وقال:" لا يلغ أحدكم كما يلغ الكلب ولا يشرب باليد الواحدة كما يشرب القوم الذين سخط الله عليهم ولا يشرب بالليل في إناء حتى يحركه إلا أن يكون إناء مخمرا ومن شرب بيده وهو يقدر على إناء ..." الحديث كما تقدم، وفى إسناده بقية بن الوليد، قال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به. وقال أبو زرعة: إذا حدث بقية عن الثقات فهو ثقة. التاسعة- قوله تعالى: (فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ) قال ابن عباس: شربوا على قدر يقينهم، فشرب الكفار شرب الهيم «2» وشرب العاصون دون ذلك، وانصرف من القوم ستة وسبعون ألفا وبقي بعض المؤمنين لم يشرب شيئا واخذ بعضهم الغرفة، فأما من شرب فلم يرو، بل برج به العطش، وأما من ترك الماء فحسنت حاله وكان أجلد ممن أخذ الغرفة. العاشرة- قوله تعالى: (فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ) الهاء تعود على النهر، و" هو" توكيد. (وَالَّذِينَ) في موضع رفع عطفا على المضمر في" جاوَزَهُ" يقال: جاوزت المكان مجاوزة وجوازا. والمجاز في الكلام ما جاز في الاستعمال ونفذ واستمر على وجهه. قال ابن عباس والسدي: جاز معه في النهر أربعة آلاف رجل فيهم من شرب، فلما نظروا إلى جالوت وجنوده وكانوا مائة ألف كلهم شاكون في السلاح رجع منهم ثلاثة آلاف وستمائة وبضعة وثمانون، فعلى هذا القول قال المؤمنون الموقنون بالبعث والرجوع إلى الله تعالى عند ذلك وهم عدة أهل
__________
(1). كذا في هـ وج وفى ز: أطراف.
(2). الهيم: الإبل التي يصيبها داء فلا تروى من الماء، واحدها أهيم، والأنثى هيماء.

بدر:" كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ". وأكثر المفسرين: على أنه إنما جاز معه النهر من لم يشرب جملة، فقال بعضهم: كيف نطيق العدو مع كثرتهم! فقال أولو العزم منهم:" كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ". قال البراء بن عازب: كنا نتحدث أن عدة أهل بدر كعدة أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا- وفى رواية: وثلاثة عشر رجلا- وما جاز معه إلا مؤمن. الحادية عشرة- قوله تعالى: (قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ) والظن هنا بمعنى اليقين، ويجوز أن يكون شكا لا علما، أي قال الذين يتوهمون أنهم يقتلون مع طالوت فيلقون الله شهداء، فوقع الشك في القتل. قوله تعالى: (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً) الفئة: الجماعة من الناس والقطعة منهم، من فأوت رأسه بالسيف وفأيته أي قطعته. وفى قولهم رضى الله عنهم:" كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ" الآية، تحريض على القتال واستشعار للصبر واقتداء بمن صدق ربه. قلت: هكذا يجب علينا نحن أن نفعل؟ لكن الأعمال القبيحة والنيات الفاسدة منعت من ذلك حتى ينكسر العدد الكبير منا قدام اليسير من العدو كما شاهدناه غير مرة، وذلك بما كسبت أيدينا! وفى البخاري: وقال أبو الدرداء: إنما تقاتلون بأعمالكم. وفية مسند أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:" هل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم". فالأعمال فاسدة والضعفاء مهملون والصبر قليل والاعتماد ضعيف والتقوى زائلة!. قال الله تعالى:" اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ «1»" وقال:" وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا «2»" وقال:" إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ «3»" وقال:" وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ «4»" وقال:" إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ «5»". فهذه أسباب النصر وشروطه وهى معدومة عندنا غير موجودة فينا، فإنا لله وإنا إليه راجعون على ما أصابنا وحل بنا! بل لم يبق من الإسلام إلا ذكره، ولا من الدين إلا رسمه لظهور الفساد ولكثرة الطغيان وقلة الرشاد حتى استولى العدو شرقا وغربا برا وبحرا، وعمت الفتن وعظمت المحن ولا عاصم إلا من رحم!.
__________
(1). راجع ج 4 ص 322.
(2). راجع ج 6 ص 127.
(3). راجع ج 10 ص 202.
(4). راجع ج 12 ص 72
(5). راجع ج 8 ص 23

وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250)

[سورة البقرة (2): آية 250]
وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (250)
" بَرَزُوا" صاروا في البراز وهو الأفيح «1» من الأرض المتسع. وكان جالوت أمير العمالقة وملكهم ظله ميل. ويقال: إن البربر من من نسله، وكان فيما روى في ثلاثمائة ألف فارس. وقال عكرمة: في تسعين ألفا، ولما رأى المؤمنون كثرة عدوهم تضرعوا إلى ربهم، وهذا كقوله:" وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ" إلى قوله:" وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا «2»" الآية. وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا لقى العدو يقول في القتال:" اللهم بك أصول وأجول" وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول إذا لقى العدو:" اللهم إنى أعوذ بك من شرورهم وأجعلك في نحورهم" ودعا يوم بدر حتى سقط رداؤه عن منكبيه يستنجز «3» الله وعده على ما يأتي بيانه في" آل عمران «4»" إن شاء الله تعالى.

[سورة البقرة (2): آية 251]
فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ وَلَوْ لا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ (251)
قوله تعالى: (فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ) أي فأنزل الله عليهم النصر" فَهَزَمُوهُمْ": فكسروهم. والهزم: الكسر، ومنه سقاء متهزم، أي انثنى بعضه على بعض مع الجفاف، ومنه ما قيل في زمزم: إنها هزمة جبريل، أي هزمها جبريل برجله فخرج الماء. والهزم: ما تكسر من يابس الحطب. قوله تعالى: (وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ) وذلك أن طالوت الملك اختاره من بين قومه لقتال جالوت، وكان رجلا قصيرا مسقاما مصفارا أصغر أزرق، وكان جالوت من أشد الناس وأقواهم وكان يهزم الجيوش وحده، وكان قتل جالوت وهو رأس العمالقة على يده. وهو داود
__________
(1). كذا في هـ وج وز، وفى ا: الافسح.
(2). راجع ج 4 ص 228 فما بعد وص 190 فما بعد.
(3). في د: ويستنجز، وفي ا، هـ، و: ليستنجز، وما أثبتناه في ز.
(4). راجع ج 4 ص 228 فما بعد وص 190 فما بعد.

ابن إيشى «1»- بكسر الهمزة، ويقال: داود بن زكريا بن رشوى، وكان من سبط يهوذا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام، وكان من أهل بيت المقدس جمع له بين النبوة والملك بعد أن كان راعيا وكان أصغر إخوته وكان يرعى غنما، وكان له سبعة إخوة في أصحاب طالوت، فلما حضرت الحرب قال في نفسه: لأذهبن إلى رؤية هذه الحرب، فلما نهض في طريقه مر بحجر فناداه: يا داود خذني فبى تقتل جالوت، ثم ناداه حجر آخر ثم آخر فأخذها وجعلها في مخلاته وسار، فخرج جالوت يطلب مبارزا فكع «2» الناس عنه حتى قال طالوت: من يبرز إليه ويقتله فأنا أزوجه ابنتي وأحكمه في مالى، فجاء داود عليه السلام فقال: أنا أبرز إليه وأقتله، فازدراه طالوت حين رآه لصغر سنه وقصره فرده، وكان داود أزرق قصيرا، ثم نادى ثانية وثالثة فخرج داود، فقال طالوت له: هل جربت نفسك بشيء؟ قال نعم، قال بما ذا؟ قال: وقع ذئب في غنمي فضربته ثم أخذت رأسه فقطعته من جسده. قال طالوت: الذئب ضعيف، هل جربت نفسك في غيره؟ قال: نعم، دخل الأسد في غنمي فضربته ثم أخذت بلحييه فشققتهما، أفترى هذا أشد من الأسد؟ قال لا، وكان عند طالوت درع لا تستوي إلا على من يقتل جالوت، فأخبره بها وألقاها عليه فاستوت، فقال طالوت: فأركب فرسي وخذ سلاحي ففعل، فلما مشى قليلا رجع فقال الناس: جبن الفتى! فقال داود: إن الله إن لم يقتله لي ويعنى عليه لم ينفعني هذا الفرس ولا هذا السلاح، ولكني أحب أن أقاتله على عادتي. قال: وكان داود من أرمى الناس بالمقلاع، فنزل واخذ مخلاته فتقلدها واخذ مقلاعه وخرج إلى جالوت، وهو شاك في سلاحه على رأسه بيضة فيها ثلاثمائة رطل، فيما ذكر الماوردي وغيره، فقال له جالوت: أنت يا فتى تخرج إلى! قال نعم، قال: هكذا كما تخرج إلى الكلب! قال نعم، وأنت أهون. قال: لأطعمن لحمك اليوم للطير والسباع، ثم تدانيا وقصد جالوت أن يأخذ داود بيده استخفافا به، فأدخل داود يده إلى الحجارة، فروى أنها التأمت فصارت حجرا واحدا، فأخذه فوضعه في المقلاع وسمي الله
__________
(1). كذا في الأصول، والذي في البحر وغيره: إيشا.
(2). كع: جبن وضعف.

وأداره ورماه فأصاب به رأس جالوت فقتله، وحز رأسه وجعله في مخلاته، واختلط الناس وحمله أصحاب طالوت فكانت الهزيمة. وقد قيل: إنما أصاب بالحجر من البيضة موضع أنفه، وقيل: عينه «1» وخرج من قفاه، وأصاب جماعة من عسكره فقتلهم. وقيل: إن الحجر تفتت حتى أصاب كل من في العسكر شي منه، وكان كالقبضة التي رمى بها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هوازن يوم حنين، والله أعلم. وقد أكثر الناس في قصص هذه الآي، وقد ذكرت لك منها المقصود والله المحمود. قلت: وفى قول طالوت:" من يبرز له ويقتله فإنى أزوجه ابنتي وأحكمه في مالى" معناه ثابت في شرعنا، وهو أن يقول الامام: من جاء برأس فله كذا، أو أسير فله كذا على ما يأتي بيانه في" الأنفال «2»" إن شاء الله تعالى. وفية دليل على أن المبارزة لا تكون إلا بإذن الامام، كما يقوله أحمد وإسحاق وغيرهما. واختلف فيه عن الأوزاعي فحكى عنه أنه قال: لا يحمل أحد إلا بإذن إمامه. وحكى عنه أنه قال: لا بأس به، فإن نهى الامام عن البراز فلا يبارز أحد إلا بإذنه. وأباحت طائفة البراز ولم تذكر بإذن الامام ولا بغير إذنه، هذا قول مالك. سئل مالك عن الرجل يقول بين الصفين: من يبارز؟ فقال: ذلك إلى نيته إن كان يريد بذلك الله فأرجو ألا يكون به بأس، قد كان يفعل ذلك فيما مضى. وقال الشافعي: لا بأس بالمبارزة. قال ابن المنذر: المبارزة بإذن الامام حسن، وليس على من بارز بغير إذن الامام حرج، وليس ذلك بمكروه لأني لا أعلم خبرا يمنع منه. (وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ) قال السدى: أتاه الله ملك طالوت ونبوة شمعون. والذي علمه هو صنعة الدروع ومنطق الطير وغير ذلك من أنواع ما علمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقال ابن عباس: هو أن الله أعطاه سلسلة موصولة بالمجرة والفلك ورأسها عند صومعة داود، فكان لا يحدث في الهواء حدث إلا صلصلت السلسلة فيعلم داود ما حدث، ولا يمسها ذو عاهة إلا برئ، وكانت علامة دخول قومه في الدين أن يمسوها بأيديهم ثم يمسحون أكفهم على صدورهم، وكانوا يتحاكمون إليها بعد داود عليه السلام إلى أن رفعت.
__________
(1). في هـ وز: عينيه، وفى ا:" وفقا عينه". [.....]
(2). راجع ج 7 ص 363

قوله تعالى: (مِمَّا يَشاءُ) أي مما شاء، وقد يوضع المستقبل موضع الماضي، وقد تقدم. قوله تعالى: (وَلَوْ لا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ) فيه مسألتان «1»: الاولى- قوله تعالى: (وَلَوْ لا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) كذا قراءة الجماعة، إلا نافعا فإنه قرأ" دفاع" ويجوز أن يكون مصدرا لفعل كما يقال: حسبت الشيء حسابا، وآب إيابا، ولقيته لقاء، ومثله كتبه كتابا، ومنه" كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ «2»". النحاس: وهذا حسن، فيكون دفاع ودفع مصدرين لدفع وهو مذهب سيبويه. وقال أبو حاتم: دافع ودفع بمعنى واحد، مثل طرقت النعل وطارقت، أي خصفت إحداهما فوق الأخرى، والخصف: الخرز. واختار أبو عبيدة قراءة الجمهور" وَلَوْ لا دَفْعُ اللَّهِ". وأنكر أن يقرأ" دفاع" وقال: لان الله عز وجل لا يغالبه أحد. قال مكي: هذا وهم توهم فيه باب المفاعلة وليس به، واسم" اللَّهِ" في موضع رفع بالفعل، أي لولا أن يدفع الله. و" دفاع" مرفوع بالابتداء عند سيبويه." النَّاسَ" مفعول،" بَعْضَهُمْ" بدل من الناس،" بِبَعْضٍ" في موضع المفعول الثاني عند سيبويه، وهو عنده مثل قولك: ذهبت بزيد، فزيد في موضع مفعول فاعلمه. الثانية- واختلف العلماء في الناس المدفوع بهم الفساد من هم؟ فقيل: هم الابدال وهم أربعون رجلا كلما مات واحد بدل الله آخر، فإذا كان عند القيامة ماتوا كلهم، اثنان وعشرون منهم بالشام وثمانية عشر بالعراق. وروى عن على رضى الله عنه قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول:" إن الابدال يكونون بالشام وهم أربعون رجلا كلما مات منهم رجل أبدل الله مكانه رجلا يسقى بهم الغيث وينصر بهم على الاعداء ويصرف بهم عن أهل الأرض البلاء" ذكره الترمذي الحكيم في" نوادر الأصول". وخرج أيضا عن أبى الدرداء قال: إن الأنبياء كانوا أوتاد الأرض، فلما انقطعت النبوة أبدل الله مكانهم قوما من أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقال لهم الابدال، لم يفضلوا الناس بكثرة صوم ولا صلاة ولكن بحسن الخلق وصدق الورع وحسن النية وسلامة القلوب لجميع المسلمين والنصيحة لهم ابتغاء مرضاة الله بصبر وحلم ولب
__________
(1). كذا في ج، وليس في بقية الأصول: تقسيم، وفيها بدل الثانية مسألة.
(2). ج 5 ص 123

وتواضع في غير مذلة، فهم خلفاء الأنبياء قوم اصطفاهم الله لنفسه واستخلصهم بعلمه لنفسه، وهم أربعون صديقا منهم ثلاثون رجلا على مثل يقين إبراهيم خليل الرحمن، يدفع الله بهم المكاره عن أهل الأرض والبلايا عن الناس، وبهم يمطرون ومن يرزقون، لا يموت الرجل منهم حتى يكون الله قد أنشأ من يخلفه. وقال ابن عباس: ولولا دفع الله العدو بجنود المسلمين لغلب المشركون فقتلوا المؤمنين وخربوا البلاد والمساجد. وقال سفيان الثوري: هم الشهود الذين تستخرج بهم الحقوق. وحكى مكي أن أكثر المفسرين على أن المعنى: لولا أن الله يدفع بمن يصلى عمن لا يصلى وبمن يتقى عمن لا يتقى لأهلك الناس بذنوبهم، وكذا ذكر النحاس والثعلبي أيضا. [قال الثعلبي «1»] وقال سائر المفسرين: ولولا دفاع الله المؤمنين الأبرار عن الفجار والكفار لفسدت الأرض، أي هلكت. وذكر حديثا أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:" إن الله يدفع العذاب بمن يصلى من أمتي عمن لا يصلى وبمن يزكى عمن لا يزكى وبمن يصوم عمن لا يصوم وبمن يحج عمن لا يحج وبمن يجاهد عمن لا يجاهد، ولو اجتمعوا على ترك هذه الأشياء ما أنظرهم «2» الله طرفة عين- ثم تلا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض". وعن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:" إن لله ملائكة تنادى كل يوم لولا عباد ركع وأطفال رضع وبهائم رتع لصب عليكم العذاب صبا" خرجه أبو بكر الخطيب بمعناه من حديث الفضيل بن عياض. حدثنا منصور عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" لولا فيكم رجال خشع وبهائم رتع وصبيان رضع لصب العذاب على المؤمنين صبا". أخذ بعضهم هذا المعنى فقال:
لولا عباد للإله ركع ... وصبية من اليتامى رضع
ومهملات في الفلاة رتع ... صب عليكم العذاب الأوجع
وروى جابر أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:" إن الله ليصلح بصلاح الرجل ولده وولد ولده واهلة دويرته ودويرات حوله ولا يزالون في حفظ الله ما دام فيهم". وقال قتادة: يبتلى الله المؤمن بالكافر ويعافى الكافر بالمؤمن. وقال ابن عمر قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
__________
(1). في هـ وج.
(2). في هـ: ما أمطرهم.

تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252)

" إن الله ليدفع بالمؤمن الصالح عن مائة من أهل بيته وجيرانه البلاء". ثم قرأ ابن عمر" وَلَوْ لا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ". وقيل: هذا الدفع بما شرع على ألسنة الرسل من الشرائع، ولولا ذلك لتسالب الناس وتناهبوا وهلكوا، وهذا قول حسن فإنه عموم في الكف والدفع وغير ذلك فتأمله. (وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ). بين سبحانه أن دفعه بالمؤمنين شر الكافرين فضل منه ونعمة.

[سورة البقرة (2): آية 252]
تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252)
(تِلْكَ) ابتداء (آياتُ اللَّهِ) خبره، وإن شئت كان بدلا والخبر (نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ). (وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ)، خبر إن أي وإنك لمرسل. نبه الله تعالى نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن هذه الآيات التي تقدم ذكرها لا يعلمها إلا نبى مرسل.

[سورة البقرة (2): آية 253]
تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (253)
قوله تعالى: (تِلْكَ الرُّسُلُ) قال:" تِلْكَ" ولم يقل: ذلك مراعاة لتأنيث لفظ الجماعة، وهى رفع بالابتداء. و" الرُّسُلُ" نعته، وخبر الابتداء الجملة. وقيل: الرسل عطف بيان، و(فَضَّلْنا) الخبر. وهذه آية مشكلة والأحاديث ثابتة بأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:" لا تخيروا بين الأنبياء" و" لا تفضلوا بين أنبياء الله" رواها الأئمة الثقات، أي لا تقولوا: فلان خير من فلان، ولا فلان أفضل من فلان. يقال: خير فلان بين فلان وفلان، وفضل،

(مشددا) إذا قال ذلك. وقد اختلف العلماء في تأويل هذا المعنى، فقال قوم: إن هذا كان قبل أن يوحى إليه بالتفضيل، وقبل أن يعلم أنه سيد ولد آدم، وإن القرآن ناسخ للمنع من التفضيل. وقال ابن قتيبة: إنما أراد بقوله:" أنا سيد ولد آدم" يوم القيامة، لأنه الشافع يومئذ وله لواء الحمد والحوض، وأراد بقوله:" لا تخيرونى على موسى" على طريق التواضع، كما قال أبو بكر: وليتكم ولست بخيركم. وكذلك معنى قوله:" لا يقل أحد أنا خير من يونس بن متى" على معنى التواضع. وفى قوله تعالى:" وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ «1»" ما يدل على أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أفضل منه، لان الله تعالى يقول: ولا تكن مثله، فدل على أن قوله:" لا تفضلوني عليه" من طريق التواضع. ويجوز أن يريد لا تفضلوني عليه في العمل فلعله أفضل عملا منى، ولا في البلوى والامتحان فإنه أعظم محنة منى. وليس ما أعطاه الله لنبينا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من السودد والفضل يوم القيامة على جميع الأنبياء والرسل بعمله بل بتفضيل الله إياه واختصاصه له، وهذا التأويل اختاره المهلب. ومنهم من قال: إنما نهى عن الخوض في ذلك، لان الخوض في ذلك ذريعة إلى الجدال وذلك يؤدى إلى أن يذكر منهم ما لا ينبغي أن يذكر ويقل احترامهم عند المماراة. قال شيخنا: فلا يقال: النبي أفضل من الأنبياء كلهم ولا من فلان ولا خير، كما هو ظاهر النهى «2» لما يتوهم من النقص في المفضول، لان النهى اقتضى منه إطلاق اللفظ لا منع اعتقاد ذلك المعنى، فإن الله تعالى أخبر بأن الرسل متفاضلون، فلا تقول: نبينا خير من الأنبياء ولا من فلان النبي اجتنابا لما نهى عنه وتأدبا به وعملا باعتقاد ما تضمنه القرآن من التفضيل، والله بحقائق الأمور عليم. قلت: وأحسن من هذا قول من قال: إن المنع من التفضيل إنما هو من جهة النبوة التي هي خصلة واحدة لا تفاضل فيها، وإنما التفضيل في زيادة الأحوال والخصوص والكرامات والالطاف والمعجزات المتباينات، وأما النبوة في نفسها فلا تتفاضل وإنما تتفاضل بأمور أخر زائدة عليها، ولذلك منهم رسل وأولو عزم، ومنهم من اتخذ خليلا، ومنهم من كلم الله
__________
(1). راجع ج 18 ص 253.
(2). في هـ: النص.

ورفع بعضهم درجات، قال الله تعالى:" وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً «1»" وقال:" تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ". قلت: وهذا قول حسن، فإنه جمع بين الآي والأحاديث من غير نسخ، والقول بتفضيل بعضهم على بعض إنما هو بما منح من الفضائل وأعطى من الوسائل، وقد أشار ابن عباس إلى هذا فقال: إن الله فضل محمدا على الأنبياء وعلى أهل السماء، فقالوا: بم يا ابن عباس فضله على أهل السماء؟ فقال: إن الله تعالى قال:" وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ «2»". وقال لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً. لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ «3»". قالوا: فما فضله على الأنبياء؟ قال قال الله تعالى:" وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ «4»" وقال الله عز وجل لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ «5»" فأرسله إلى الجن والانس" ذكره أبو محمد الدارمي في مسنده. وقال أبو هريرة: خير بنى آدم نوح وإبراهيم وموسى ومحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهم أولو العزم من الرسل، وهذا نص من ابن عباس وأبى هريرة في التعيين، ومعلوم أن من أرسل أفضل ممن لم يرسل، فإن من أرسل فضل على غيره بالرسالة واستووا في النبوة إلى ما يلقاه الرسل من تكذيب أممهم وقتلهم إياهم، وهذا مما لا خفاء فيه، إلا أن ابن عطية أبا محمد عبد الحق قال: إن القرآن يقتضى التفضيل، وذلك في الجملة دون تعيين أحد مفضول، وكذلك هي الأحاديث، ولذلك قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" أنا أكرم ولد آدم على ربى" وقال:" أنا سيد ولد آدم" ولم يعين، وقال عليه السلام:" لا ينبغي لاحد أن يقول أنا خير من يونس بن متى" وقال:" لا تفضلوني على موسى". وقال ابن عطية: وفى هذا نهى شديد عن تعيين المفضول، لان يونس عليه السلام كان شابا وتفسخ «6» تحت أعباء النبوة. فإذا كان التوقيف لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فغيره أحرى.
__________
(1). راجع ج 10 ص 278.
(2). راجع ج 11 ص 272.
(3). راجع ج 16 ص 260
(4). راجع ج 9 ص 340
(5). راجع ج 14 ص 300
(6). يقال: تفسخ البعير تحت الحمل الثقيل إذا لم يطقه.

قلت: ما اخترناه أولى إن شاء الله تعالى، فإن الله تعالى لما أخبر أنه فضل بعضهم على بعض جعل يبين بعض المتفاضلين ويذكر الأحوال التي فضلوا بها فقال:" مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ" وقال" وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً «1»" وقال تعالى:" وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ «2»"،" وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ «3»" وقال تعالى:" وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً «4»" وقال:" وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ «5»" فعم ثم خص وبدأ بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا ظاهر. قلت: وهكذا القول في الصحابة إن شاء الله تعالى، اشتركوا في الصحبة ثم تباينوا في الفضائل بما منحهم الله من المواهب والوسائل، فهم متفاضلون بتلك مع أن الكل شملتهم الصحبة والعدالة والثناء عليهم، وحسبك بقوله الحق:" مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ «6»" إلى آخر السورة. وقال:" وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها «7»" ثم قال:" لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ «8»" وقال:" لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ «9»" فعم وخص، ونفى عنهم الشين والنقص، رضى الله عنهم أجمعين ونفعنا بحبهم آمين. قوله تعالى: (مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ) المكلم موسى عليه السلام، وقد سئل رسوله الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن آدم أنبى مرسل هو؟ فقال:" نعم نبى مكلم". قال ابن عطية: وقد تأول بعض الناس أن تكليم آدم كان في الجنة، فعلى هذا تبقى خاصية موسى. وحذفت الهاء لطول الاسم، والمعنى من كلمه الله. قوله تعالى: (وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ) قال النحاس: بعضهم هنا على قول ابن عباس والشعبي ومجاهد محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" بعثت إلى الأحمر والأسود وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ونصرت بالرعب «10» مسيرة شهر وأحلت لي الغنائم وأعطيت
__________
(1). راجع ج 6 ص 17. [.....]
(2). راجع ج 17 ص 262 وص 239.
(3). راجع ج 11 ص 295.
(4). راجع ج 13 ص 163.
(5). راجع ج 14 ص 126
(6). راجع ج 16 ص 292 وص 288 وص 274.
(7). راجع ج 16 ص 292 وص 288 وص 274.
(8). راجع ج 17 ص 262 وص 239.
(9). راجع ج 16 ص 292 وص 288 وص 274.
(10). الرعب: الخوف والفزع. كان أعداء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أوقع الله تعالى في قلوبهم الخوف، فإذا كان بينه وبينهم مسيرة شهر هابوه وفزعوا منه. (عن النهاية).

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)

الشفاعة". ومن ذلك القرآن وانشقاق القمر وتكليمه الشجر وإطعامه الطعام خلقا عظيما من تميرات ودرور شاة أم معبد بعد جفاف. وقال ابن عطية معناه، وزاد: وهو أعظم الناس أمة وختم به النبيون إلى غير ذلك من الخلق العظيم الذي أعطاه الله. ويحتمل اللفظ أن يراد به محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وغيره ممن عظمت آياته، ويكون الكلام تأكيدا. ويحتمل أن يريد به رفع إدريس المكان العلى، ومراتب الأنبياء في السماء كما في حديث الاسراء، وسيأتي. وبينات عيسى هي إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وخلق الطير من الطين كما نص عليه في التنزيل. (وَأَيَّدْناهُ) قويناه. (بِرُوحِ الْقُدُسِ) جبريل عليه السلام، وقد تقدم «1». قوله تعالى: (وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ) أي من بعد الرسل. وقيل: الضمير لموسى وعيسى، والاثنان جمع. وقيل: من بعد جميع الرسل، وهو ظاهر اللفظ. وقيل: إن القتال إنما وقع من الذين جاءوا بعدهم وليس كذلك المعنى، بل المراد ما اقتتل الناس بعد كل نبى، وهذا كما تقول: اشتريت خيلا ثم بعتها، فجائز لك هذه العبارة وأنت إنما اشتريت فرسا وبعته ثم آخر وبعته ثم آخر وبعته، وكذلك هذه النوازل إنما اختلف الناس بعد كل نبى فمنهم من آمن ومنهم من كفر بغيا وحسدا وعلى حطام الدنيا، وذلك كله بقضاء وقدر وإرادة من الله تعالى، ولو شاء خلاف ذلك لكان ولكنه المستأثر بسر الحكمة في ذلك الفعل لما يريد. وكسرت النون من" وَلكِنِ اخْتَلَفُوا" لالتقاء الساكنين، ويجوز حذفها في غير القرآن، وأنشد سيبويه:
فلست بآتيه ولا أستطيعه ... ولاك اسقني إن كان ماؤك ذا فضل
«2» (فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ)" من" في موضع رفع بالابتداء والصفة.

[سورة البقرة (2): آية 254]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)
__________
(1). ج 2 ص 24.
(2). البيت للنجاشي، وصف أنه اصطحب ذئبا في فلاة مضلة لا ماء فيها، وزعم أن الذئب رد عليه فقال: لست بآت ما دعوتني إليه من الصحبة ولا أستطيعه لأنني وحشي وأنت إنسى ولكن اسقني إن كأن ماؤك فاضلا عن ربك (عن شرح الشواهد للشنتمري).

قال الحسن: هي الزكاة المفروضة. وقال ابن جريج وسعيد بن جبير: هذه الآية تجمع الزكاة المفروضة والتطوع. قال ابن عطية. وهذا صحيح، ولكن ما تقدم من الآيات في ذكر القتال وأن الله يدفع بالمؤمنين في صدور الكافرين يترجح منه أن هذا الندب إنما هو في سبيل الله، ويقوى ذلك في آخر الآية قوله:" وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ" أي فكافحوهم بالقتال بالأنفس وإنفاق الأموال. قلت: وعلى هذا التأويل يكون إنفاق الأموال مرة واجبا ومرة ندبا بحسب تعين الجهاد وعدم تعينه. وأمر تعالى عباده بالإنفاق مما رزقهم الله وأنعم به عليهم، وحذرهم من الإمساك إلى أن يجئ يوم لا يمكن فيه بيع ولا شراء ولا استدراك نفقة، كما قال:" فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ «1»". والخلة: خالص المودة، مأخوذة من تخلل الاسرار بين الصديقين. والخلالة والخلالة والخلالة: الصداقة والمودة، قال الشاعر «2»:
وكيف تواصل من أصبحت ... خلالته كأبي مرحب
وأبو مرحب كنية الظل، ويقال: هو كنية عرقوب الذي قيل فيه: مواعيد عرقوب. والخلة (بالضم أيضا): ما خلا من النبت، يقال: الخلة خبز الإبل والحمض فاكهتها. والخلة (بالفتح): الحاجة والفقر. والخلة: ابن مخاض، عن الأصمعي. يقال: أتاهم بقرص كأنه فرسن «3» خلة. والأنثى خلة أيضا. ويقال للميت: اللهم أصلح خلته، أي الثلمة التي ترك. والخلة: الخمرة الحامضة. والخلة (بالكسر): واحدة خلل السيوف، وهى بطائن كانت تغشى بها أجفان السيوف منقوشة بالذهب وغيره، وهى أيضا سيور تلبس ظهر سيتى «4» القوس. والخلة أيضا: ما يبقى بين الأسنان. وسيأتي في" النساء «5»" اشتقاق الخليل ومعناه. فأخبر الله تعالى ألا خلة في الآخرة ولا شفاعة إلا بإذن الله. وحقيقتها رحمة منه تعالى شرف بها الذي أذن له في أن يشفع. وقرا ابن كثير وأبو عمرو" لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة"
__________
(1). راجع ج 18 ص 130.
(2). هو النابغة الجعدي، كما في اللسان.
(3). الفرسن (بكسر الفاء والسين وسكون الراء): عظم قليل اللحم، وهو خف البعير، كالحافر للدابة. [.....]
(4). سية القوس: ما عطف من طرفيها.
(5). راجع ج 5 ص 399

بالنصب من غير تنوين، وكذلك في سورة" إبراهيم"" لا بيع فيه ولا خلال «1»" وفى" الطور"" لا لغو فيها ولا تأثيم «2»" وأنشد حسان بن ثابت:
ألا طعان ولا فرسان عادية ... إلا تجشؤكم عند التنانير «3»
وألف الاستفهام غير مغيرة عمل" لا" كقولك: ألا رجل عندك، ويجوز ألا رجل ولا امرأة كما جاز في غير الاستفهام فاعلمه. وقرأ الباقون جميع ذلك بالرفع والتنوين، كما قال الراعي:
وما صرمتك حتى قلت معلنة ... لا ناقة لي في هذا ولا جمل
ويروى" وما هجرتك" فالفتح على النفي العام المستغرق لجميع الوجوه من ذلك الصنف، كأنه جواب لمن قال: هل فيه من بيع؟ فسأل سؤالا عاما فأجيب جوابا عاما بالنفي. و" لا" مع الاسم المنفي بمنزلة اسم واحد في موضع رفع بالابتداء، والخبر" فيه". وإن شئت جعلته صفة ليوم، ومن رفع جمله" لا" بمنزلة ليس. وجعل الجواب غير عام، وكأنه جواب من قال: هل فيه بيع؟ بإسقاط من، فأتى الجواب غير مغير عن رفعه، والمرفوع مبتدأ أو اسم ليس و" فيه" الخبر. قال مكي: والاختيار الرفع، لان أكثر القراء عليه، ويجوز في غير القرآن لا بيع فيه ولا خلة، وأنشد سيبويه لرجل من مذحج: هذا لعمركم الصغار بعينه لا أم لي إن كان ذاك ولا أب ويجوز أن تبنى الأول وتنصب الثاني وتنونه فتقول: لا رجل فيه ولا امرأة، وأنشد سيبويه:
لا نسب اليوم ولا خلة ... اتّسع الخرق على الراقع
فلا زائدة في الموضعين، الأول عطف على الموضع والثاني على اللفظ. ووجه خامس أن ترفع الأول وتبنى الثاني كقولك: لا رجل فيها ولا امرأة، قال أمية:
فلا لغو ولا تأثيم فيها ... وما فاهوا به أبدا مقيم
__________
(1). راجع ج 9 ص 366.
(2). راجع ج 17 ص 66
(3). يقول هذا لبنى الحارث بن كعب ومنهم النجاشي وكان يهاجيه فجعلهم أهل نهم وحرص على الطعام لا أهل غارة وقتال. والعادية: المستطيلة. ويروى غادية (بالغين المعجمة) وهى التي تغدو للغارة، وعادية أعم لأنها تكون بالغداة وغيرها. (عن شرح الشواهد للشنتمري).

اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)

وهذه الخمسة الأوجه جائزة في قولك: لا حول ولا قوة إلا بالله، وقد تقدم هذا والحمد لله. (وَالْكافِرُونَ) ابتداء. (هُمُ) ابتداء ثان، (الظَّالِمُونَ) خبر الثاني، وإن شئت كانت" هُمُ" زائدة للفصل و" الظَّالِمُونَ" خبر" الْكافِرُونَ". قال عطاء بن دينار: والحمد لله الذي قال:" وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ" ولم يقل والظالمون هم الكافرون.

[سورة البقرة (2): آية 255]
اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْ ءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)
قوله تعالى: (اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) هذه آية الكرسي سيدة آي القرآن وأعظم آية، كما تقدم بيانه في الفاتحة، ونزلت ليلا ودعا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زيدا فكتبها. روى عن محمد ابن الحنفية أنه قال: لما نزلت آية الكرسي خر كل صنم في الدنيا، وكذلك خر كل ملك في الدنيا وسقطت التيجان عن رؤوسهم، وهربت الشياطين يضرب بعضهم على بعض «1» إلى أن أتوا إبليس فأخبروه بذلك فأمرهم أن يبحثوا عن ذلك، فجاءوا إلى المدينة فبلغهم أن آية الكرسي قد نزلت. وروى الأئمة عن أبى بن كعب قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" يا أبا المنذر أتدرى أي آية من كتاب الله معك أعظم"؟ قال قلت: الله ورسوله أعلم، قال:" يا أبا المنذر أتدرى أي آية من كتاب الله معك أعظم"؟ قال قلت:" اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ" فضرب في صدري وقال:" ليهنك العلم يا أبا المنذر". زاد الترمذي الحكيم أبو عبد الله:" فو الذي نفسي بيده إن لهذه الآية للسانا وشفتين تقدس الملك عند ساق العرش". قال أبو عبد الله: فهذه آية أنزلها الله جل ذكره، وجعل ثوابها لقارئها عاجلا وآجلا، فأما في العاجل فهي حارسه لمن قرأها من الآفات، وروى لنا عن نوف البكالي أنه قال: آية الكرسي تدعى في التوراة
__________
(1). في هـ: فاجتمعوا إلى إبليس.

ولية الله. يريد يدعى قارئها في ملكوت السموات والأرض عزيزا، قال: فكان عبد الرحمن ابن عوف إذا دخل بيته قرأ آية الكرسي في زوايا بيته الأربع، معناه كأنه يلتمس بذلك أن تكون له حارسا من جوانبه الأربع، وأن تنفى عنه الشيطان من زوايا بيته. وروى عن عمر أنه صارع جنيا فصرعه عمر رضى الله عنه، فقال له الجنى: خل عنى حتى أعلمك ما تمتنعون به منا، فخلى عنه وسأله فقال: إنكم تمتنعون منا بآية الكرسي. قلت: هذا صحيح، وفى الخبر: من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة كان الذي يتولى قبض روحه ذو الجلال والإكرام، وكان كمن قاتل مع أنبياء الله حتى يستشهد. وعن على رضى الله عنه قال: سمعت نبيكم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول وهو على أعواد المنبر:" من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت ولا يواظب عليها إلا صديق أو عابد، ومن قرأها إذا أخذ مضجعه آمنه الله على نفسه وجاره وجار جاره والأبيات حوله". وفى البخاري عن أبى هريرة قال: وكلني رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بحفظ زكاة رمضان، وذكر قصة وفيها: فقلت يا رسول الله، زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها فخليت سبيله، قال:" ما هي"؟ قلت قال لي: إذا آويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم" اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ". وقال لي: لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح، وكانوا «1» أحرص شي على الخير. فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" أما إنه قد صدقك وهو كذوب تعلم من تخاطب منذ ثلاث ليال يا أبا هريرة"؟ قال: لا، قال:" ذاك شيطان". وفى مسند الدارمي أبى محمد قال الشعبي قال عبد الله بن مسعود: لقى رجل من أصحاب محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجلا من الجن فصارعه فصرعه الإنسي، فقال له الإنسي: إنى لأراك ضئيلا شخيتا كأن ذريعتيك ذريعتا كلب فكذلك أنتم معشر الجن، أم أنت من بينهم كذلك؟ قال: لا والله! إنى منهم لضليع ولكن عاودني الثانية فإن صرعتني علمتك شيئا ينفعك، قال نعم، فصرعه، قال:
__________
(1). الضمير في" كانوا" راجع إلى الصحابة. قال القسطلاني:" وكان الأصل أن يقول" كنا" لكنه على طريق الالتفات، وقيل هو مدرج من كلام بعض رواته".

تقرأ آية الكرسي:" اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ"؟ قال: نعم، قال: فإنك تقرأها في بيت إلا خرج منه الشيطان له خبج كخبج الحمار ثم لا يدخله حتى يصبح. أخرجه أبو نعيم عن أبى عاصم الثقفي عن الشعبي. وذكره أبو عبيدة في غريب حديث عمر حدثناه أبو معاوية عن أبى عاصم الثقفي عن الشعبي عن عبد الله قال: فقيل لعبد الله: أهو عمر؟ فقال: ما عسى أن يكون إلا عمر!. قال أبو محمد الدارمي: الضئيل: الدقيق، والشخيت: المهزول، والضليع: جيد الأضلاع، والخبج: الريح. وقال أبو عبيدة: الخبج: الضراط، وهو الحبج أيضا بالحاء. وفى الترمذي عن أبى هريرة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" من قرأ حم- المؤمن- إلى إليه المصير وآية الكرسي حين يصبح حفظ بهما حتى يمسي، ومن قرأهما حين يمسي حفظ بهما حتى يصبح" قال: حديث غريب. وقال أبو عبد الله الترمذي الحكيم: وروى أن المؤمنين ندبوا إلى المحافظة على قراءتها دبر كل صلاة. عن أنس رفع الحديث إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:" أوحى الله إلى موسى عليه السلام من داوم على قراءة آية الكرسي دبر كل صلاة أعطيته فوق ما أعطى «1» الشاكرين واجر النبيين وأعمال الصديقين وبسطت عليه يميني بالرحمة ولم يمنعه أن أدخله الجنة إلا أن يأتيه ملك الموت" قال موسى عليه السلام: يا رب من سمع بهذا لا يداوم عليه؟ قال:" إنى لا أعطيه من عبادي إلا لنبي أو صديق أو رجل أحبه «2» أو رجل أريد قتله في سبيلي". وعن أبى بن كعب قال قال الله تعالى:" يا موسى من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة أعطيته ثواب الأنبياء" قال أبو عبد الله: معناه عندي أعطيته ثواب عمل الأنبياء، فأما ثواب النبوة فليس لاحد إلا للأنبياء. وهذه الآية تضمنت التوحيد والصفات العلا، وهى خمسون كلمة، وفى كل كلمة خمسون بركة، وهى تعدل ثلث القرآن، ورد بذلك الحديث، ذكره ابن عطية. و" اللَّهُ" مبتدأ، و" لا إِلهَ" مبتدأ ثان وخبره محذوف تقديره معبود أو موجود. و" إِلَّا هُوَ" بدل من موضع لا إله. وقيل:" اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ" ابتداء وخبر، وهو مرفوع محمول على المعنى، أي ما إله إلا هو، ويجوز في غير القرآن لا إله إلا إياه، نصب على
__________
(1). في الأصول:" ... أعطيته قلوب الشاكرين" والتصويب عن كتاب" السر القدسي في تفسير آية الكرسي".
(2). في هـ: اجتبيته.

الاستثناء. قال أبو ذر في حديثه الطويل: سألت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أي آية أنزل الله عليك من القرآن أعظم؟ فقال:" اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ". وقال ابن عباس: أشرف آية في القرآن آية الكرسي. قال بعض العلماء: لأنه يكرر فيها اسم الله تعالى بين مضمر وظاهر ثماني عشرة مرة. (الْحَيُّ الْقَيُّومُ) نعت لله عز وجل، وإن شئت كان بدلا من" هُوَ"، وإن شئت كان خبرا بعد خبر، وإن شئت على إضمار مبتدأ. ويجوز في غير القرآن النصب على المدح. و" الْحَيُّ" اسم من أسمائه الحسنى يسمى به، ويقال: إنه اسم الله تعالى الأعظم. ويقال: إن عيسى ابن مريم عليه السلام كان إذا أراد أن يحيى الموتى يدعو بهذا الدعاء: ياحي يا قيوم. ويقال: إن آصف بن برخيا لما أراد أن يأتي بعرش بلقيس إلى سليمان دعا بقوله ياحي يا قيوم. ويقال: إن بنى إسرائيل سألوا موسى عن اسم الله الأعظم فقال لهم: أيا هيا شرا هيا، يعنى يا حي يا قيوم. ويقال: هو دعاء أهل البحر إذا خافوا الغرق يدعون به. قال الطبري عن قوم: إنه يقال حي قيوم كما وصف نفسه، ويسلم ذلك دون أن ينظر فيه. وقيل: سمى نفسه حيا لصرفه الأمور مصاريفها وتقديره الأشياء مقاديرها. وقال قتادة: الحي الذي لا يموت. وقال السدى: المراد بالحي الباقي. قال لبيد:
فإما تريني اليوم أصبحت سالما ... ولست بأحيا من كلاب وجعفر
وقد قيل: إن هذا الاسم هو اسم الله الأعظم. (الْقَيُّومُ) من قام، أي القائم بتدبير ما خلق، عن قتادة. وقال الحسن: معناه القائم على كل نفس بما كسبت حتى يجازيها بعملها، من حيث هو عالم بها لا يخفى عليه شي منها. وقال ابن عباس: معناه الذي لا يحول ولا يزول، قال أمية بن أبى الصلت:
لم تخلق السماء والنجوم ... والشمس معها قمر يقوم
قدره مهيمن قيوم ... والحشر والجنة والنعيم
إلا لأمر شأنه عظيم

قال البيهقي: ورأيت في" عيون التفسير" لإسماعيل الضرير تفسير القيوم قال: ويقال هو الذي لا ينام، وكأنه أخذه من قوله عز وجل عقيبه في آية الكرسي:" لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ". وقال الكلبي: القيوم الذي لا بدئ «1» له، ذكره أبو بكر الأنباري. واصل قيوم قيووم اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فأدغمت الاولى في الثانية بعد قلب الواو ياء، ولا يكون قيوم فعولا، لأنه من الواو فكان يكون قيووما. وقرا ابن مسعود وعلقمة والأعمش والنخعي" الحي القيام" بالألف، وروى ذلك عن عمر. ولا خلاف بين أهل اللغة في أن القيوم أعرف عند العرب وأصح بناء وأثبت علة. والقيام منقول عن القوام إلى القيام، صرف عن الفعال إلى الفيعال، كما قيل للصواغ الصياغ، قال الشاعر:
إن ذا العرش للذي يرزق النا ... س «2» وحي عليهم قيوم
ثم نفى عز وجل أن تأخذه سنة ولا نوم. والسنة: النعاس في قول الجميع. والنعاس ما كان من العين فإذا صار في القلب صار نوما، قال عدى بن الرقاع يصف امرأة «3» بفتور النظر:
وسنان أقصده النعاس فرنقت «4» ... في عينه سنة وليس بنائم
وفرق المفضل بينهما فقال: السنة من الرأس، والنعاس في العين، والنوم في القلب. وقال ابن زيد: الوسنان الذي يقوم من النوم وهو لا يعقل، حتى ربما جرد السيف على أهله. قال ابن عطية: وهذا الذي قاله ابن زيد فيه نظر، وليس ذلك بمفهوم من كلام العرب. وقال السدى: السنة: ريح النوم الذي يأخذ في الوجه فينعس الإنسان. قلت: وبالجملة فهو فتور يعتري الإنسان ولا يفقد معه عقله. والمراد بهذه الآية أن الله تعالى لا يدركه خلل ولا يلحقه ملل بحال من الأحوال. والأصل في سنة وسنة حذفت الواو
__________
(1). في الأصول:" لا بديل له" والتصويب عن اللسان.
(2). في ج: الخلق.
(3). هذا البيت في وصف ظبي، وقيل هذا البيت:
لولا الحياء وأن رأسي قد عسا ... فيه المشيب لزرت أم القاسم
كأنها وسط النساء أعارها ... عينيه أحور من جآذر جاسم.
(4). رنق النوم في عينيه: خالطها.

كما حذفت من يسن «1». والنوم هو المستثقل الذي يزول معه الذهن في حق البشر. والواو للعطف و" لا" توكيد. قلت: والناس يذكرون في هذا الباب عن أبى هريرة قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحكى عن موسى على المنبر قال:" وقع في نفس موسى هل ينام الله جل ثناؤه فأرسل الله إليه ملكا فأرقه ثلاثا ثم أعطاه قارورتين في كل يد قارورة وأمره أن يحتفظ بهما قال فجعل ينام وتكاد يداه تلتقيان ثم يستيقظ فينحي إحداهما عن الأخرى حتى نام نومة فاصطفقت يداه فانكسرت القارورتان- قال- ضرب الله له مثلا أن لو كان ينام لم تمتسك «2» السماء والأرض" ولا يصح هذا الحديث، ضعفه غير واحد منهم البيهقي قوله تعالى: (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي بالملك فهو مالك الجميع وربه. وجاءت العبارة ب" ما" وإن كان في الجملة من يعقل من حيث المراد الجملة والموجود. قال الطبري: نزلت هذه الآية لما قال الكفار: ما نعبد أوثانا إلا ليقربونا إلى الله زلفى. قوله تعالى: (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ)" من" رفع بالابتداء و" ذا" خبره، و" الذي" نعت ل" ذا"، وإن شئت بدل، ولا يجوز أن تكون" ذا" زائدة كما زيدت مع" ما" لان" ما" مبهمة فزيدت" ذا" معها لشبهها بها. وتقرر في هذه الآية أن الله يأذن لمن يشاء في الشفاعة، وهم الأنبياء والعلماء والمجاهدون والملائكة وغيرهم ممن أكرمهم وشرفهم الله، ثم لا يشفعون إلا لمن ارتضى، كما قال:" وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى «3»" قال ابن عطية: والذي يظهر أن العلماء والصالحين يشفعون فيمن لم يصل إلى النار وهو بين المنزلتين، أو وصل ولكن له أعمال صالحة. وفى البخاري في" باب بقية من أبو أب الرؤية": إن المؤمنين يقولون: ربنا إن إخواننا كانوا يصلون معنا ويصومون معنا. وهذه شفاعة فيمن يقرب أمره، وكما يشفع الطفل المحبنطئ «4» على باب الجنة. وهذا إنما هو في قراباتهم ومعارفهم. وإن الأنبياء يشفعون فيمن
__________
(1). الذي في كتب اللغة أن الفعل من باب" فرح". [.....]
(2). في ابن عطية: تستمسك. وفى هـ، چ، ز: تمسك.
(3). راجع ج 11 ص 381.
(4). المحبنطئ: اللازق بالأرض، وفى الحديث" إن السقط يظلل محبنطئا على باب الجنة" قال ابن الأثير: المحبنطئ. (بالهمز وتركه): المتغضب المستبطئ للشيء. وقيل: هو الممتنع امتناع يظل محبنطئا على باب الجنة" قال ابن الأثير: المحبنطئ (بالهمز وتركه): المتغضب المستبطئ للشيء، وقيل: هو الممتنع امتناع طلبة لا امتناع إباء.

حصل في النار من عصاة أممهم بذنوب دون قربى ولا معرفة إلا بنفس الايمان، ثم تبقى شفاعة أرحم الراحمين في المستغرقين [في الخطايا «1» و]- الذنوب الذين لم تعمل فيهم شفاعة الأنبياء. وأما شفاعة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في تعجيل الحساب فخاصة له. قلت: قد بين مسلم في صحيحه كيفية الشفاعة بيانا شافيا، وكأنه رحمه الله لم يقرأه وأن الشافعين يدخلون النار ويخرجون منها أناسا استوجبوا العذاب، فعلى هذا لا يبعد أن يكون للمؤمنين شفاعتان: شفاعة فيمن لم يصل إلى النار، وشفاعة فيمن وصل إليها ودخلها، أجارنا الله منها. فذكر من حديث أبى سعيد الخدري:" ثم يضرب الجسر على جهنم وتحل الشفاعة ويقولون اللهم سلم سلم- قيل: يا رسول الله وما الجسر؟ قال: دحض «2» مزلة فيها خطاطيف وكلاليب وحسكة «3» تكون بنجد فيها شويكة يقال لها السعدان فيمر المؤمنون كطرف العين وكالبرق وكالريح وكالطير وكأجاويد الخيل والركاب «4» فناج مسلم ومخدوش «5» مرسل ومكدوس «6» في نار جهنم حتى إذا خلص المؤمنون من النار فوالذي نفسي بيده ما من أحد منكم بأشد مناشدة لله في استيفاء الحق من المؤمنين لله يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار، يقولون ربنا كانوا يصومون معنا ويصلون ويحجون، فيقال لهم أخرجوا من عرفتم، فتحرم صورهم على النار فيخرجون خلقا كثيرا قد أخذت النار إلى نصف ساقيه وإلى ركبتيه ثم يقولون ربنا ما بقي فيها أحد ممن أمرتنا به، فيقول عز وجل أرجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من خير فأخرجوه، فيخرجون خلقا كثيرا، ثم يقولون ربنا لم نذر فيها أحدا ممن أمرتنا به، ثم يقول ارجعوا
__________
(1). في هـ.
(2). قال النووي: هو بتنوين" دحض" ودال مفتوحة والحاء ساكنة، و" مزلة" بفتح الميم وفى الزاي لغتان الفتح والكسر، والدحض، والمزلة بمعنى واحد وهو الموضع الذي تزل فيه الاقدام ولا تستقر.
(3). الحسكة (بالتحريك): واحدة الحسك وهو نبات له ثمرة خشنة تعلق بأصواف الغنم يعمل من الحديد على مثاله، وهو آلات العسكر يلقى حوله لتنشب في رجل من يدوسها من الخيل والناس الطارقين له. والسعدان منبته سهول الأرض وهو من أطيب مراعى الإبل ما دام رطبا.
(4). الركاب: الإبل التي يسار عليها، ولا واحد لهام لفظها.
(5). مخدوش مرسل أي مجروح مطلق من القيد.
(6). مكدوس أي مدفوع في جهنم. قال ابن الأثير: وتكدس الإنسان إذا دفع من ورائه فسقط. ويروى بالشين المعجمة من الكدش وهو السوق الشديد، والطرد والجرح أيضا.

فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار من خير فأخرجوه، فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقولون ربنا لم نذر فيها أحد ممن أمرتنا به، ثم يقول ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير فأخرجوه، فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقولون ربنا لم نذر فيها خيرا" وكان أبو سعيد يقول: إن لم تصدقوني بهذا الحديث فاقرءوا إن شئتم" إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً «1»"-" فيقول الله تعالى: شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوما لم يعملوا خيرا قط قد عادوا حمما «2»" وذكر الحديث. وذكر من حديث أنس عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" فأقول يا رب ائذن لي فيمن قال لا إله إلا الله قال ليس ذلك لك- أو قال ليس ذلك إليك- وعزتي وكبريائي وعظمتي [وجبريائى «3»] لأخرجن من قال لا إله إلا الله". وذكر من حديث أبى هريرة عنه عليه الصلاة وسلم:" حتى إذا فرغ الله من القضاء بين العباد وأراد أن يخرج برحمته من أراد من أهل النار أمر الملائكة أن يخرجوا من النار من كان لا يشرك بالله شيئا ممن أراد الله تعالى أن يرحمه ممن يقول لا إله إلا الله فيعرفونهم في النار يعرفونهم بأثر السجود تأكل النار ابن آدم إلا أثر السجود حرم الله على النار أن تأكل أثر السجود" الحديث بطوله. قلت: فدلت هذه الأحاديث على أن شفاعة المؤمنين وغيرهم إنما هي لمن دخله النار وحصل فيها، أجارنا الله! منها وقول ابن عطية:" ممن لم يصل أو وصل" يحتمل أن يكون أخذه من أحاديث أخر، والله أعلم. وقد خرج ابن ماجة في سننه عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" يصف الناس يوم القيامة صفوفا- وقال ابن نمير أهل الجنة- فيمر الرجل من أهل النار على الرجل فيقول يا فلان أما تذكر يوم استسقيت فسقيتك شربة؟ قال فيشفع له ويمر الرجل على الرجل فيقول أما تذكر يوم ناولتك طهورا؟ فيشفع له- قال ابن نمير- ويقول يا فلان أما تذكر يوم بعثتني لحاجة كذا وكذا فذهبت لك؟ فيشفع له".
__________
(1). راجع ج 5 ص 194
(2). الحمم (بضم الحاء وفتح الميم الاولى المخففة): الفحم، الواحدة حممة كحطمة.
(3). في هـ وب وج.

وأما شفاعات نبينا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاختلف فيها، فقيل ثلاث اثنتان، وقيل: خمس، يأتي بيانها في" سبحان «1»" إن شاء الله تعالى. وقد أتينا عليها في كتاب" التذكرة" والحمد لله. قوله تعالى: (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) الضميران عائدان على كل من يعقل ممن تضمنه قوله:" لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ". وقال مجاهد:" ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ" الدنيا" وَما خَلْفَهُمْ" الآخرة. قال ابن عطية: وكل هذا صحيح في نفسه لا بأس به، لان ما بين اليد هو كل ما تقدم الإنسان، وما خلفه هو كل ما يأتي بعده، وبنحو قول مجاهد قال السدى وغيره. قوله تعالى: (وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْ ءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ) العلم هنا بمعنى المعلوم، أي ولا يحيطون بشيء من معلوماته، وهذا كقول الخضر لموسى عليه السلام حين نقر العصفور في البحر: ما نقصى علمي وعلمك من علم الله إلا كما نقص هذا العصفور من هذا البحر. فهذا وما شاكله راجع إلى المعلومات، لان علم الله سبحانه وتعالى الذي هو صفة ذاته لا يتبعض»
. ومعنى الآية لا معلوم لاحد إلا ما شاء الله أن يعلمه. قوله تعالى: (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) ذكر ابن عساكر. في تاريخه عن على رضى الله عنه قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" الكرسي لؤلؤة والقلم لؤلؤة وطول القلم سبعمائة سنة وطول الكرسي حيث لا يعلمه إلا الله «3»". وروى حماد بن سلمة عن عاصم بن بهدلة- وهو عاصم بن أبى النجود- عن زر بن حبيش عن ابن مسعود قال: بين كل سماءين مسيرة خمسمائة عام وبين السماء السابعة وبين الكرسي خمسمائة عام، وبين الكرسي وبين العرش مسيرة خمسمائة عام، والعرش فوق الماء والله فوق العرش يعلم ما أنتم فيه وعليه. يقال: كرسي وكرسي والجمع الكراسي. وقال ابن عباس: كرسيه علمه. ورجحه الطبري، قال: ومنه الكراسة التي تضم العلم، ومنه قيل للعلماء: الكراسي، لأنهم المعتمد عليهم، كما يقال: أوتاد الأرض.
__________
(1). راجع ج 10 ص 309.
(2). في هـ: لا يتغير. [.....]
(3). في هـ وب وج: حيث لا يعلمه العالمون.

قال الشاعر:
يحف بهم بيض الوجوه وعصبة ... كراسي بالاحداث حين تنوب
أي علماء بحوادث الأمور. وقيل: كرسيه قدرته التي يمسك بها السموات والأرض، كما تقول: اجعل لهذا الحائط كرسيا، أي ما يعمده. وهذا قريب من قول ابن عباس في قول" وَسِعَ كُرْسِيُّهُ" قاله البيهقي: وروينا عن ابن مسعود «1» وسعيد بن جبير عن ابن عباس في قول" وَسِعَ كُرْسِيُّهُ" قال: علمه. وسائر الروايات عن ابن عباس وغيره تدل على أن المراد به الكرسي المشهور مع العرش. وروى إسرائيل عن السدى عن أبى مالك في قوله" وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ" قال: إن الصخرة التي عليها الأرض السابعة ومنتهى الخلق على أرجائها، عليها أربعة من الملائكة لكل واحد منهم أربعة وجوه: وجه إنسان ووجه أسد ووجه ثور ووجه نسر، فهم قيام عليها قد أحاطوا بالأرضين والسموات، ورءوسهم تحت الكرسي والكرسي تحت العرش والله واضع كرسيه فوق العرش. قال البيهقي: في هذا إشارة إلى كرسيين: أحدهما تحت العرش، والآخر موضوع على العرش. وفى رواية أسباط عن السدى عن أبى مالك، وعن أبى صالح عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود عن ناس من أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله" وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ" فإن السموات والأرض في جوف الكرسي والكرسي بين يدي العرش. وأرباب الإلحاد يحملونها على عظم الملك وجلالة السلطان، وينكرون وجود العرش والكرسي وليس بشيء. واهل الحق يجيزونهما، إذ في قدرة الله متسع فيجب الايمان بذلك. قال أبو موسى الأشعري: الكرسي موضع القدمين وله أطيط كأطيط الرحل «2». قال البيهقي: قد روينا أيضا في هذا عن ابن عباس وذكرنا أن معناه فيما يرى أنه موضوع من العرش موضع القدمين من السرير، وليس فيه إثبات المكان لله تعالى. وعن ابن بريدة عن أبيه قال: لما قدم جعفر من الحبشة قال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" ما أعجب شي رأيته"؟ قال: رأيت امرأة على رأسها مكتل طعام فمر فارس فأذراه «3» فقعدت تجمع
__________
(1). ليس في ج وب وهـ عن ابن مسعود.
(2). كذا في ب وهامش هـ. وفى: هـ وا وج وح: المرجل. والأطيط للرحل لا للرجل كما في اللغة.
(3). كذا في ج وب، وأذراه: رمى به وأطاره.

طعامها، ثم التفتت إليه فقالت له: ويل لك يوم يضع الملك كرسيه فيأخذ للمظلوم من الظالم! فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تصديقا لقولها:" لا قدست أمة- أو كيف تقدس أمة- لا يأخذ ضعيفها حقه من شديدها". قال ابن عطية: في قول أبى موسى" الكرسي موضع القدمين" يريد هو من عرش الرحمن كموضع القدمين من أسرة الملوك، فهو مخلوق عظيم بين يدي العرش نسبته إليه كنسبة الكرسي إلى سرير الملك. وقال الحسن بن أبى الحسن: الكرسي هو العرش نفسه، وهذا ليس بمرضى، والذي تقتضيه الأحاديث أن الكرسي مخلوق بين يدي العرش والعرش أعظم منه. وروى أبو إدريس الخولاني عن أبى ذر قال: قلت يا رسول الله، أي ما أنزل عليك أعظم؟ قال:" آية الكرسي- ثم قال- يا أبا ذر ما السموات السبع مع الكرسي إلا كخلقة ملقاة في أرض فلاة وفضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على الحلقة". أخرجه الآجري وأبو حاتم البستي في صحيح مسنده والبيهقي وذكر أنه صحيح. وقال مجاهد: ما السموات والأرض في الكرسي إلا بمنزلة حلقة ملقاة في أرض فلاة. وهذه الآية منبئة عن عظم مخلوقات الله تعالى، ويستفاد من ذلك عظم قدرة الله عز وجل إذ لا يؤده حفظ هذا الامر العظيم. و(يَؤُدُهُ) معناه يثقله، يقال: آدني الشيء بمعنى أثقلني وتحملت منه المشقة، وبهذا فسر اللفظة ابن عباس والحسن وقتادة وغيرهم. قال الزجاج: فجائز أن تكون الهاء لله عز وجل، وجائز أن تكون للكرسي، وإذا كانت للكرسي، فهو من أمر الله تعالى. و(الْعَلِيُّ) يراد به علو القدر والمنزلة لا علو المكان، لان الله منزه عن التحيز. وحكى الطبري عن قوم أنهم قالوا: هو العلى عن خلقه بارتفاع مكانه عن أماكن خلقه. قال ابن عطية: وهذا قول جهلة مجسمين، وكان الوجه ألا يحكى. وعن عبد الرحمن بن قرط أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة أسرى به سمع تسبيحا في السموات العلى: سبحان الله العلى الأعلى سبحانه وتعالى. والعلى والعالي: القاهر الغالب للأشياء، تقول العرب: علا فلان فلانا أي غلبه وقهره، قال الشاعر:
فلما علونا واستوينا عليهم ... تركناهم صرعى لنسر وكاسر

لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)

ومنه قوله تعالى:" إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ «1»". و(الْعَظِيمُ) صفة بمعنى عظيم القدر والخطر والشرف، لا على معنى عظم الأجرام. وحكى الطبري عن قوم أن العظيم معناه المعظم، كما يقال: العتيق بمعنى المعتق، وأنشد بيت الأعشى:
فكأن الخمر العتيق من الاس ... فنط «2» ممزوجة بماء زلال
وحكى عن قوم أنهم أنكروا ذلك وقالوا: لو كان بمعنى معظم لوجب ألا بكون عظيما قبل أن يخلق الخلق وبعد فنائهم، إذ لا معظم له حينئذ.

[سورة البقرة (2): آية 256]
لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لا انْفِصامَ لَها وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)
قوله تعالى: (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ). فيه مسألتان: الاولى- قوله تعالى: (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) الدين في هذه الآية المعتقد والملة بقرينة قوله: (قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ). والإكراه الذي في الأحكام من الايمان والبيوع والهبات وغيرها ليس هذا موضعه، وإنما يجئ في تفسير قوله:" إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ «3»". وقرا أبو عبد الرحمن" قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ" وكذا روى عن الحسن والشعبي، يقال: رشد يرشد رشدا، ورشد يرشد رشدا: إذا بلغ ما يحب. وغوى ضده، عن النحاس. وحكى ابن عطية عن أبى عبد الرحمن السلمى أنه قرأ" الرشاد" بالألف. وروى عن الحسن أيضا (الرشد) بضم الراء والشين. (الْغَيِّ) مصدر من غوى يغوى إذا ضل في معتقد أو رأى، ولا يقال الغى في الضلال على الإطلاق.
__________
(1). راجع ج 13 ص 248.
(2). الإسفنط ضرب من الأشربة: فارسي معرب.
(3). راجع ج 10 ص 180

الثانية- اختلف العلماء في [معنى «1»] هذه الآية على ستة أقوال: (الأول) قيل إنها منسوخة، لان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أكره العرب على دين الإسلام وقاتلهم ولم يرض منهم إلا بالإسلام، قاله سليمان بن موسى، قال: نسختها" يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ «2»". وروى هذا عن ابن مسعود وكثير من المفسرين. (الثاني) ليست بمنسوخة وإنما نزلت في أهل الكتاب خاصة، وأنهم لا يكرهون على الإسلام إذا أدوا الجزية، والذين يكرهون أهل الأوثان فلا يقبل منهم إلا الإسلام فهم الذين نزل فيهم" يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ". هذا قول الشعبي وقتادة والحسن والضحاك. والحجة لهذا القول ما رواه زيد بن أسلم عن أبيه قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول لعجوز نصرانية: اسلمي أيتها العجوز تسلمي، إن الله بعث محمدا بالحق. قالت: أنا عجوز كبيرة والموت إلى قريب! فقال عمر: اللهم اشهد، وتلا" لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ". (الثالث) ما رواه أبو داود عن ابن عباس قال: نزلت هذه في الأنصار، كانت تكون المرأة مقلاتا فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوده، فلما أجليت بنو النضير كان فيهم كثير من أبناء الأنصار فقالوا: لا ندع أبناءنا! فأنزل الله تعالى:" لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ". قال أبو داود: والمقلات التي لا يعيش لها ولد. في رواية: إنما فعلنا ما فعلنا ونحن نرى أن دينهم أفضل مما نحن عليه، وأما إذا جاء الله بالإسلام فنكرههم عليه فنزلت:" لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ" من شاء التحق بهم ومن شاء دخل في الإسلام. وهذا قول سعيد ابن جبير والشعبي ومجاهد إلا أنه قال: كان سبب كونهم في بنى النضير الاسترضاع. قال النحاس: قول ابن عباس في هذه الآية أولى الأقوال لصحة إسناده، وأن مثله لا يؤخذ بالرأى. (الرابع) قال السدى: نزلت الآية في رجل من الأنصار يقال له أبو حصين كان له ابنان، فقدم تجار من الشام إلى المدينة يحملون الزيت، فلما أرادوا الخروج أتاهم أبنا الحصين فدعوهما إلى النصرانية فتنصرا ومضيا معهم إلى الشام، فأتى أبوهما رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مشتكيا أمرهما، ورغب في أن يبعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من يردهما فنزلت:" لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ"
__________
(1). في هـ وج وب.
(2). راجع ج 8 ص 240

ولم يؤمر يومئذ بقتال أهل الكتاب، وقال:" أبعدهما الله هما أول من كفر"! فوجد أبو الحصين في نفسه على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين لم يبعث في طلبهما فأنزل الله جل ثناؤه" فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ «1»"، الآية ثم إنه نسخ" لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ" فأمر بقتال أهل الكتاب في سورة" براءة «2»". والصحيح في سبب قوله تعالى:" فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ" حديث الزبير مع جاره الأنصاري في السقي، على ما يأتي في" النساء «3»" بيانه إن شاء الله تعالى. وقيل: معناها لا تقولوا لمن أسلم تحت السيف مجبرا مكرها، وهو القول الخامس. وقول سادس، وهو أنها وردت في السبي متى كانوا من أهل الكتاب لم يجبروا إذا كانوا كبارا «4»، وإن كانوا مجوسا صغارا أو كبارا أو وثنيين فإنهم يجبرون على الإسلام، لان من سباهم لا ينتفع بهم مع كونهم وثنيين، ألا ترى أنه لا تؤكل ذبائحهم ولا توطأ نساؤهم، ويدينون بأكل الميتة والنجاسات وغيرهما، ويستقذرهم المالك لهم ويتعذر عليه الانتفاع بهم من جهة الملك فجاز له الإجبار. ونحو هذا روى ابن القاسم عن مالك. وأما أشهب فإنه قال: هم على دين من سباهم، فإذا امتنعوا أجبروا على الإسلام، والصغار لا دين لهم فلذلك أجبروا على الدخول في دين الإسلام لئلا يذهبوا إلى دين باطل. فأما سائر أنواع الكفر متى بذلوا الجزية لم نكرههم على الإسلام سواء كانوا عربا أم عجما قريشا أو غيرهم. وسيأتي بيان هذا وما للعلماء في الجزية ومن تقبل منه في" براءة «5»" إن شاء الله تعالى. قوله تعالى: (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ) جزم بالشرط. والطاغوت مؤنثة من طغى يطغى.- وحكى الطبري يطغوإذا جاوز الحد بزيادة عليه. ووزنه فعلوت، ومذهب سيبويه أنه اسم مذكر مفرد كأنه اسم جنس يقع للقليل والكثير. ومذهب أبى على أنه مصدر كرهبوت وجبروت، وهو يوصف به الواحد والجمع، وقلبت لامه إلى موضع العين وعينه موضع اللام كجبذ وجذب، فقلبت الواو ألفا لتحركها وتحرك ما قبلها فقيل طاغوت، واختار هذا القول النحاس. وقيل: أصل طاغوت في اللغة مأخوذة من الطغيان يؤدى معناه من غير اشتقاق، كما قيل: لآل من اللؤلؤ. وقال المبرد: هو جمع. وقال ابن عطية: وذلك
__________
(1). راجع ج 5 ص 266.
(2). راجع ج 8 ص 109.
(3). راجع ج 5 ص 266.
(4). في ب وج وا: وإن كانوا صغارا لم يجبروا.
(5). راجع ج 8 ص 109. [.....]

اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257)

مردود. قال الجوهري: والطاغوت الكاهن والشيطان وكله رأس في الضلال، وقد يكون واحدا قال الله تعالى:" يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ «1»". وقد يكون جمعا قال الله تعالى:" أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ" والجمع الطواغيت." وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ" عطف. (فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى ) جواب الشرط، وجمع الوثقى الوثق مثل الفضلى والفضل، فالوثقى فعلى من الوثاقة، وهذه الآية تشبيه. واختلفت عبارة المفسرين في الشيء المشبه به، فقال مجاهد: العروة الايمان. وقال السدى: الإسلام. وقال ابن عباس وسعيد ابن جبير والضحاك: لا إله إلا الله، وهذه عبارات ترجع إلى معنى واحد. ثم قال: (لَا انْفِصامَ لَها) قال مجاهد: أي لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، أي لا يزيل عنهم أسم الايمان «2» حتى يكفروا. والانفصام: الانكسار من غير بينونة. والقصم: كسر ببينونة، وفى صحيح الحديث" فيفصم عنه الوحى وإن جبينه ليتفصد عرقا" أي يقلع. قال الجوهري: فصم الشيء كسره من غير أن يبين، تقول: فصمته فانفصم، قال الله تعالى: لَا انْفِصامَ لَها" وتفصم مثله، قال ذو الرمة يذكر غزالا يشبهه بدملج فضة:
كأنه دملج من فضة نبه «3» ... في ملعب من جواري الحي مفصوم
وإنما جعله مفصوما لتثنيه وانحنائه إذا نام. ولم يقل" مقصوم" بالقاف فيكون بائنا بآثنين. وأفصم المطر: أقلع. وأفصمت عنه الحمى. ولما كان الكفر بالطاغوت والايمان بالله مما ينطق به اللسان ويعتقده القلب حسن في الصفات (سَمِيعٌ) من أجل النطق (عَلِيمٌ) من أجل المعتقد.

[سورة البقرة (2): آية 257]
اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (257)
__________
(1). راجع ج 5 ص 263 و280.
(2). في ج: الإسلام.
(3). النبه (بفتح النون والباء) كل شي سقط من إنسان فنسيه ولم يهتد إليه. شبه الغزال وهو نائم بدملج فضة قد طرح ونسى. وفى الديوان: عذارى.

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)

(اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا) الولي فعيل بمعنى فاعل. قال الخطابي: الولي الناصر ينصر عباده المؤمنين، قال الله عز وجل: (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ)، وقال:" ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ «1»". قال قتادة: الظلمات الضلالة، والنور الهدى، وبمعناه قال الضحاك والربيع. وقال مجاهد وعبدة ابن أبى لبابة: قوله" اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا" نزلت في قوم آمنوا بعيسى فلما جاء محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كفروا به، فذلك إخراجهم من النور إلى الظلمات. قال ابن عطية: فكأن هذا المعتقد «2» أحرز نورا في المعتقد خرج منه إلى الظلمات، ولفظ الآية مستغن عن هذا التخصيص، بل هو مترتب في كل أمة كافرة آمن بعضها كالعرب، وذلك أن من آمن منهم فالله وليه أخرجه من ظلمة الكفر إلى نور الايمان، ومن كفر بعد وجود النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الداعي المرسل فشيطانه مغوية، كأنه أخرجه من الايمان إذ هو [معه «3»] معد واهل للدخول فيه، وحكم عليهم بالدخول في النار لكفرهم، عدلا منه، لا يسأل عما يفعل. وقرا الحسن" أولياؤهم الطواغيت" يعنى الشياطين، والله أعلم.

[سورة البقرة (2): آية 258]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)
فيه مسألتان: الاولى- قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ) هذه ألف التوقيف، وفى الكلام معنى التعجب «4»، أي اعجبوا له. وقال الفراء:" أَلَمْ تَرَ" بمعنى هل رأيت، أي هل رأيت الذي حاج إبراهيم، وهل رأيت الذي مر على قية، وهو النمروذ «5» ابن كوش ابن كنعان ابن سام ابن نوح ملك زمانه
__________
(1). راجع ج 16 ص 234.
(2). في هـ وب وج وابن عطية: فكأن هذا القول.
(3). الزيادة في ج.
(4). أي التعجيب.
(5). نمروذ بضم النون وبالذال المعجمة. شهاب.

وصاحب النار والبعوضة! هذا قول ابن عباس ومجاهد وقتادة والربيع والسدي وابن إسحاق وزيد ابن أسلم وغيرهم. وكان إهلاكه لما قصد المحاربة مع الله تعالى بأن فتح الله تعالى عليه بابا من البعوض فستروا «1» عين الشمس وأكلوا عسكره ولم يتركوا إلا العظام، ودخلت واحدة منها في دماغه فأكلته حتى صارت مثل الفأرة، فكان أعز الناس عنده بعد ذلك من يضرب دماغه بمطرقة عتيدة لذلك، فبقى في البلاء أربعين يوما. قال ابن جريج: هو أول ملك في الأرض. قال ابن عطية: وهذا مردود. وقال قتادة: هو أول من تجبر وهو صاحب الصرح ببابل. وقيل: إنه ملك الدنيا بأجمعها، وهو أحد الكافرين «2»، والآخر بخت نصر. وقيل: إن الذي حاج إبراهيم نمروذ ابن فالخ ابن عابر ابن شالخ ابن أرفخشد ابن سام، حكى جميعه ابن عطية. وحكى السهيلي أنه النمروذ ابن كوش ابن كنعان ابن حام ابن نوح وكان ملكا على السواد «3» وكان ملكه الضحاك الذي يعرف بالازدهاق واسمه بيوراسب ابن أندراست وكان ملك الأقاليم كلها، وهو الذي قتله أفريدون ابن أثفيان، وفية يقول حبيب: «4»
وكأنه الضحاك من فتكاته ... في العالمين وأنت أفريدون
وكان الضحاك طاغيا جبارا ودام ملكه ألف عام فيما ذكروا. وهو أول من صلب وأول من قطع الأيدي والأرجل، وللنمروذ ابن لصلبه يسمى" كوشا" أو نحو هذا الاسم، وله ابن يسمى نمروذ الأصغر. وكان ملك نمروذ الأصغر عاما واحد ا، وكان ملك نمروذ الأكبر أربعمائة عام فيما ذكروا. وفى قصص هذه المحاجة روايتان: إحداهما أنهم خرجوا إلى عيد لهم فدخله إبراهيم على أصنامهم فكسرها، فلما رجعوا قال لهم: أتعبدون ما تنحتون؟ فقالوا: فمن تعبد؟ قال: أعبد [ربى «5»] الذي يحيى ويميت. وقال بعضهم: إن نمروذ كان يحتكر الطعام فكانوا إذا احتاجوا إلى الطعام يشترونه منه، فإذا دخلوا عليه سجدوا له، فدخل إبراهيم فلم يسجد له، فقال: مالك لا تسجد لي! قال: أنا لا أسجد إلا لربي. فقال له نمروذ: من ربك!؟ قال إبراهيم: ربى الذي يحيى ويميت. وذكر زيد ابن أسلم أن النمروذ هذا قعد
__________
(1). كذا في الأصول جميعا، والصحيح ما في الطبري: فبعثها الله عليهم فأكلت لحومهم وشربت دماءهم.
(2). في البحر:" ملك الأرض مؤمنان سليمان وذو القرنين وكافران نمروذ وبخت نصر".
(3). أي سواد العراق، وفى هـ: السودان.
(4). ابن أوس أبو تمام.
(5). من هـ وب.

يأمر الناس بالميرة «1»، فكلما جاء قوم يقول: من ربكم وإلهكم؟ فيقولون أنت، فيقول: ميروهم. وجاء إبراهيم عليه السلام يمتار فقال له: من ربك وإلهك؟ قال إبراهيم: ربى الذي يحيى ويميت، فلما سمعها نمروذ قال: أنا أحيى وأميت، فعارضه إبراهيم بأمر الشمس فبهت الذي كفر، وقال لا تميروه، فرجع إبراهيم إلى أهله دون شي فمر على كثيب رمل كالدقيق فقال في نفسه: لو ملأت غرارتي من هذا فإذا دخلت به فرح الصبيان حتى أنظر لهم، فذهب بذلك فلما بلغ منزله فرح الصبيان وجعلوا يلعبون فوق الغرارتين ونام هو من الإعياء، فقالت امرأته: لو صنعت له طعاما يجده حاضرا إذا انتبه، ففتحت إحدى الغرارتين فوجدت أحسن ما يكون من الحوارى «2» فخبزته، فلما قام وضعته بين يديه فقال: من أين هذا؟ فقالت: من الدقيق الذي سقت. فعلم إبراهيم أن الله تعالى يسر لهم ذلك. قلت: وذكر أبو بكر ابن أبى شيبة عن أبى صالح قال: انطلق إبراهيم النبي عليه السلام يمتار فلم يقدر على الطعام، فمر بسهلة «3» حمراء فأخذ منها ثم رجع إلى أهله فقالوا: ما هذا؟ فقال: حنطة حمراء، ففتحوها فوجدوها حنطة حمراء، قال: وكان إذا زرع منها شيئا جاء سنبله من أصلها إلى فرعها حبا متراكبا. وقال الربيع وغيره في هذا القصص: إن النمروذ لما قال أنا أحيى وأميت أحضر رجلين فقتل أحدهما وأرسل الآخر فقال: قد أحييت هذا وأمت هذا، فلما رد عليه بأمر الشمس بهت. وروى في الخبر: أن الله تعالى قال وعزتي وجلالي لا تقوم الساعة حتى آتى بالشمس من المغرب ليعلم أنى أنا القادر على ذلك. ثم أمر نمروذ بإبراهيم فالقى في النار، وهكذا عادة الجبابرة فإنهم إذا عورضوا بشيء وعجزوا عن الحجة اشتغلوا بالعقوبة، فأنجاه الله من النار، على ما يأتي «4». وقال السدى: إنه لما خرج إبراهيم من النار أدخلوه على الملك- ولم يكن قبل ذلك دخل عليه- فكلمه وقال له: من ربك؟ فقال:
__________
(1). الميرة: جلب الطعام، قاله ابن سيده. [.....]
(2). الحوارى (بضم الحاء وتشديد الواو وفتح الراء): الدقيق الأبيض، وهو لباب الدقيق وأجوده وأخلصه.
(3). السهلة (بكسر السين): رمل خشن ليس بالدقاق الناعم. والسهلة (بفتح السين) نقيض الحزنة، وهو ما غلظ من الأرض.
(4). راجع ج 11 ص 303

رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ. قال النمروذ: أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ، وأنا آخذ أربعة نفر فأدخلهم بيتا ولا يطعمون شيئا ولا يسقون حتى إذا جاعوا أخرجتهم فأطعمت اثنين فحييا وتركت اثنين فماتا. فعارضه إبراهيم بالشمس فبهت. وذكر الأصوليون في هذه الآية أن إبراهيم عليه السلام لما وصف ربه تعالى بما هو صفة له من الأحياء والإماتة لكنه أمر له حقيقة ومجاز، قصد إبراهيم عليه السلام إلى الحقيقة، وفزع نمروذ إلى المجاز وموه على قومه، فسلم له إبراهيم تسليم الجدل وانتقل معه من المثال وجاءه بأمر لا مجاز فيه (فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ) أي انقطعت حجته ولم يمكنه أن يقول أنا الآتي بها من المشرق، لان ذوى الألباب يكذبونه. الثانية- هذه الآية تدل على جواز تسمية الكافر ملكا إذا آتاه الملك والعز والرفعة في الدنيا، وتدل على إثبات المناظرة والمجادلة وإقامة الحجة. وفى القرآن والسنة من هذا كثير لمن تأمله، قال الله تعالى:" قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ»
"." إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ «2»" أي من حجة. وقد وصف خصومة إبراهيم عليه السلام قومه ورده عليهم في عبادة الأوثان كما في سورة" الأنبياء" وغيرها. وقال في قصة نوح عليه السلام:" قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا «3»" الآيات إلى قوله:" وَأَنَا بَرِي ءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ". وكذلك مجادلة موسى مع فرعون إلى غير ذلك من الآي. فهو كله تعليم من الله عز وجل السؤال والجواب والمجادلة في الدين، لأنه لا يظهر الفرق بين الحق والباطل إلا بظهور حجة الحق ودحض حجة الباطل. وجادل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أهل الكتاب وبأهلهم «4» بعد الحجة، على ما يأتي بيانه في" آل عمران". وتحاج آدم وموسى فغلبه آدم بالحجة. وتجادل أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم السقيفة وتدافعوا وتقرروا وتناظروا حتى صدر «5» الحق في أهله، وتناظروا بعد مبايعة أبى بكر في أهل الردة، إلى غير ذلك مما يكثر إيراده. وفى قول الله عز وجل:" فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ «6»" دليل على أن الاحتجاج بالعلم مباح شائع «7» لمن تدبر. قال المزني صاحب الشافعي: ومن حق المناظرة أن يراد بها الله عز وجل وأن يقبل منها ما تبين. وقالوا:
__________
(1). راجع ج 2 ص 74.
(2). راجع ج 8 ص 361.
(3). راجع ج 9 ص 27.
(4). المباهلة الملاعنة. ومعنى المباهلة أن يجتمع القوم إذا اختلفوا في شي فيقولوا لعنة الله على الظالم منا. راجع ج 4 ص 103، وص 108.
(5). في ب: ظهر.
(6). المباهلة الملاعنة. ومعنى المباهلة أن يجتمع القوم إذا اختلفوا في شي فيقولوا لعنة الله على الظالم منا. راجع ج 4 ص 103، وص 108.
(7). في هـ وب: سائغ.

لا تصح المناظرة ويظهر الحق بين المتناظرين حتى يكونوا متقاربين أو مستويين في مرتبة واحدة من الدين والعقل والفهم والانصاف، وإلا فهو مراء ومكابرة. قراءات- قرأ على ابن أبى طالب" ألم تر" بجزم الراء، والجمهور بتحريكها، وحذفت الياء للجزم." أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ" في موضع نصب، أي لان آتاه الله، أو من أجل أن آتاه الله. وقرا جمهور القراء" أن أحيى" بطرح الالف التي بعد النون من" أنا" في الوصل، وأثبتها نافع وابن أبى أويس، إذا لقيتها همزة في كل القرآن إلا في قوله تعالى:" إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ «1»" فإنه يطرحها في هذا الموضع مثل سائر القراء لقلة ذلك، فإنه لم يقع منه في القرآن إلا ثلاثة مواضع أجراها مجرى ما ليس بعده همزة لقلته فحذف الالف في الوصل. قال النحويون: ضمير المتكلم الاسم فيه الهمزة والنون، فإذا قلت: أنا أو أنه فالألف والهاء لبيان الحركة في الوقف، فإذا اتصلت الكلمة بشيء سقطتا، لان الشيء الذي تتصل به الكلمة يقوم مقام الالف، فلا يقال: أنا فعلت بإثبات الالف إلا شاذا في الشعر كما قال الشاعر:
أنا سيف العشيرة فاعرفوني ... حميدا «2» قد تذريت السناما
قال النحاس: على أن نافعا قد اثبت الالف فقرأ (أنا أحيى وأميت) ولا وجه له. قال مكي: والألف زائدة عند البصريين، والاسم المضمر عندهم الهمزة والنون وزيدت الالف للتقوية. وقيل: زيدت للوقف لتظهر حركة النون. والاسم عند الكوفيين" أَنَا" بكماله، فنافع في إثبات الالف على قولهم على الأصل، وإنما حذف الالف من حذفها تخفيفا، ولان الفتحة تدل عليها. قال الجوهري: وأما قولهم" أنا" فهو اسم مكنى وهو للمتكلم وحده، وإنما بنى على الفتح فرقا بينه وبين" أن" التي هي حرف ناصب للفعل، والألف الأخيرة إنما هي لبيان الحركة في الوقف، فإن توسطت الكلام سقطت إلا في لغة رديئة «3»، كذا قال:
أنا سيف «4» العشيرة فاعرفوني ... حميدا قد تذريت السناما
__________
(1). راجع ج 7 ص 336.
(2). كذا في ج وا وهـ وفى ب وج: حميدا. مرة، وجميعا، أخرى. وفى التاج: جميعا.
(3). في السمين: إثبات الالف وصلا ووقفا لغة تميم.
(4). في ابن عطية: أنا شيخ. وحميد هو ابن مجدل. [.....]

أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259)

وبهت الرجل وبهت وبهت إذا انقطع وسكت متحيرا، عن النحاس وغيره. وقال الطبري: وحكى عن بعض العرب في هذا المعنى" بهت" بفتح الباء والهاء. قال ابن جنى قرأ أبو حيوة:" فبهت الذي كفر" بفتح الباء وضم الهاء، وهى لغة في" بهت" بكسر الهاء. قال: وقرا ابن السميقع" فبهت" بفتح الباء والهاء على معنى فبهت إبراهيم الذي كفر، فالذي في موضع نصب. قال: وقد يجوز أن يكون بهت بفتحها لغة في بهت. قال: وحكى أبو الحسن الأخفش قراءة" فبهت" بكسر الهاء كغرق «1» ودهش. قال: والأكثرون بالضم في الهاء. قال ابن عطية: وقد تأول قوم في قراءة من قرأ" فبهت" بفتحها أنه بمعنى سب وقذف، وأن نمروذ هو الذي سب حين انقطع ولم تكن له حيلة.

[سورة البقرة (2): آية 259]
أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259)
قوله تعالى: (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها)" أو" للعطف حملا على المعنى والتقدير عند الكسائي والفراء: هل رأيت كالذي حاج إبراهيم في ربه، أو كالذي مر على قرية. وقال المبرد: المعنى ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه، ألم تر من هو! كالذي مر على قرية. فأضمر في الكلام من هو. وقرا أبو سفيان ابن حسين" أَوْ كَالَّذِي مَرَّ" بفتح الواو، وهى واو العطف دخل عليها ألف الاستفهام الذي معناه التقرير. وسميت القرية قرية لاجتماع الناس فيها، من قولهم: قريت الماء أي جمعته، وقد تقدم «2». قال سليمان ابن بريدة
__________
(1). في ج وهـ وب: كحرق. أي انقطعت حارقته وهى عصبة أو عرق في الرجل.
(2). راجع ج 1 ص 409

وناجية ابن كعب وقتادة وابن عباس والربيع وعكرمة والضحاك: الذي مر على القرية عزير. وقال وهب ابن منبه وعبد الله ابن عبيد ابن عمير وعبد الله ابن بكر ابن مضر: هو إرمياء وكان نبيا. وقال ابن إسحاق: إرمياء هو الخضر، وحكاه النقاش عن وهب ابن منبه. قال ابن عطية: وهذا كما تراه، إلا أن يكون اسما وافق اسما، لان الخضر معاصر لموسى، وهذا الذي مر على القرية هو بعده بزمان من سبط هارون فيما رواه وهب ابن منبه. قلت: إن كان الخضر هو إرميا فلا يبعد أن يكون هو، لان الخضر لم يزل حيا من وقت موسى حتى الآن على الصحيح في ذلك، على ما يأتي بيانه في سورة" الكهف «1»". وإن كان مات قبل هذه القصة فقول ابن عطية صحيح، والله أعلم. وحكى النحاس ومكي عن مجاهد أنه رجل من بنى إسرائيل غير مسمى. قال النقاش: ويقال هو غلام لوط عليه السلام. وحكى السهيلي عن القتبي هو شعيا في أحد قوليه. والذي أحياها بعد خرابها كوشك الفارسي. والقرية المذكورة هي بيت المقدس في قول وهب ابن منبه وقتادة والربيع ابن أنس وغيرهم. قال: وكان مقبلا من مصر وطعامه وشرابه المذكوران تين [أخضر «2» [وعنب وركوة «3» من خمر. وقيل من عصير. وقيل: قلة ماء هي شرابه. والذي أخلى بيت المقدس حينئذ بخت نصر وكان واليا على العراق للهراسب ثم ليستاسب ابن لهراسب والد اسبندياد «4». وحكى النقاش أن قوما قالوا: هي المؤتفكة. وقال ابن عباس في رواية أبى صالح: إن بخت نصر غزا بنى إسرائيل فسبى منهم أناسا كثيرة فجاء بهم وفيهم عزير ابن شرخيا وكان من علماء بنى إسرائيل فجاء بهم إلى بابل، فخرج ذات يوم في حاجة له إلى دير هرقل على شاطئ الدجلة. فنزل تحت ظل شجرة وهو على حمار له، فربط الحمار تحت ظل الشجرة ثم طاف بالقرية فلم ير بها ساكنا وهى خاوية على عروشها فقال: أنى يحيى هذه الله بعد موتها. وقيل: إنها القرية التي خرج منها الألوف حذر الموت، قال ابن زيد. وعن ابن زيد أيضا أن القوم الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا، مر رجل عليهم وهم عظام ] نخرة «5» [تلوح فوقف ينظر فقال: أنى يحيى هذه الله بعد موتها! فأماته الله
__________
(1). راجع ج 11 ص 16.
(2). الزيادة من ب وج وا وهـ.
(3). الركوة: إناء صغير من جلد يشرب فيه الماء، ودلو صغيرة.
(4). في ب: استندياد.
(5). من هـ.

مائة عام. قال: ابن عطية: وهذا القول من ابن زيد مناقض لألفاظ الآية، إذ الآية إنما تضمنت قرية خاوية لا أنيس فيها، والإشارة ب" هذه" إنما هي إلى القرية. وإحياؤها إنما هو بالعمارة ووجود البناء والسكان. وقال وهب ابن منبه وقتادة والضحاك والربيع وعكرمة: القرية بيت المقدس لما خربها بخت نصر البابلي. وفى الحديث الطويل حين أحدثت بنو إسرائيل الأحداث وقف إرميا أو عزير على القرية وهى كالتل العظيم وسط بيت المقدس، لان بخت نصر أمر جنده بنقل التراب إليه حتى جعله كالجبل، وراي إرميا البيوت قد سقطت حيطانها على سقفها فقال: أنى يحيى هذه الله بعد موتها. والعريش: سقف البيت. وكل ما يتهيأ ليظل أو يكن فهو عريش، ومنه عريش الدالية، ومنه قوله تعالى:" وَمِمَّا يَعْرِشُونَ «1»". قال السدى: يقول هي ساقطة على سقفها، أي سقطت السقف ثم سقطت الحيطان عليها، واختاره الطبري. وقال غير السدى: معناه خاوية من الناس والبيوت قائمة، وخاوية معناها خالية، واصل الخواء الخلو، يقال: خوت الدار وخويت تخوى خواء (ممدود) وخويا: أقوت، وكذلك إذا سقطت، ومنه قوله تعالى:" فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا «2»" أي خالية، ويقال ساقطة، كما يقال:" فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها «3»" أي ساقطة على سقفها. والخواء الجوع لخلو البطن من الغذاء. وخوت المرأة وخويت أيضا خوى أي خلا جوفها عند الولادة. وخويت لها تخوية إذا عملت لها خوية تأكلها وهى طعام. والخوى البطن السهل من الأرض على فعيل. وخوى البعير إذا جافى بطنه عن الأرض في بروكه، وكذلك الرجل في سجوده. قوله تعالى: (أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها) معناه من أي طريق وبأي سبب، وظاهر اللفظ السؤال عن إحياء القرية بعمارة وسكان، كما يقال الآن في المدن الخربة التي يبعد أن تعمر وتسكن: أنى تعمر هذه بعد خرابها. فكأن هذا تلهف من الواقف المعتبر على مدينته التي عهد فيها أهله وأحبته. وضرب له المثل في نفسه بما هو أعظم مما سأل عنه، والمثال الذي ضرب له في نفسه يحتمل أن يكون على أن سؤاله إنما كان على إحياء الموتى من بنى آدم،
__________
(1). راجع ج 10 ص 133.
(2). راجع ج 13 ص 216.
(3). كذا في كل الأصول، والصواب قال، إذ هذه آية. راجع ج 12 ص 73

أي أنى يحيى الله موتاها. وقد حكى الطبري عن بعضهم أنه قال: كان هذا القول شكا في قدرة الله تعالى على الأحياء، فلذلك ضرب له المثل في نفسه. قال ابن عطية: وليس يدخل شك في قدرة الله تعالى على إحياء قرية بجلب العمارة إليها وإنما يتصور الشك [من جاهل «1»] في الوجه الآخر، والصواب ألا يتأول في الآية شك. قوله تعالى: (فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ)" مِائَةَ" نصب على الظرف. والعام: السنة، يقال: سنون عوم وهو تأكيد للأول، كما يقال: بينهم شغل شاغل. وقال العجاج:
من مر أعوام السنين العوم

وهو في التقدير جمع عائم، إلا أنه لا يفرد بالذكر، لأنه ليس باسم وإنما هو توكيد، قاله الجوهري. وقال النقاش: العام مصدر كالعوم، سمى به هذا القدر من الزمان لأنها عومه من الشمس في الفلك. والعوم كالسبح، وقال الله تعالى:" كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ «2»". قال ابن عطية: هذا بمعنى قول النقاش، والعام على هذا كالقول والقال، وظاهر هذه الإماتة أنها بإخراج الروح من الجسد. وروى في قصص هذه الآية أن الله تعالى بعث لها ملكا من الملوك يعمرها ويجد «3» في ذلك حتى كان كمال عمارتها عند بعث القائل. وقد قيل: إنه لما مضى لموته سبعون سنة أرسل الله ملكا من ملوك فارس عظيما يقال له" كوشك" فعمرها في ثلاثين سنة. قوله تعالى: (ثُمَّ بَعَثَهُ) معناه أحياه، وقد تقدم الكلام فيه. قوله تعالى: (قالَ كَمْ لَبِثْتَ) اختلف في القائل له" كَمْ لَبِثْتَ"، فقيل:. الله عز وجل، ولم يقل له إن كنت صادقا كما قال للملائكة على ما تقدم. وقيل: سمع هاتفا من السماء «4» يقول له ذلك. وقيل: خاطبه جبريل. وقيل: نبى. وقيل: رجل مؤمن ممن شاهده من قومه عند موته وعمر إلى حين إحيائه فقال له: كم لبثت. قلت: والأظهر أن القائل هو الله تعالى، لقوله" وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً" والله أعلم. وقرا أهل الكوفة" كم لبت" بإدغام الثاء في التاء لقربها منها
__________
(1). زيادة عن ابن عطية.
(2). راجع ج 11 ص 282.
(3). في هـ: ويحددها.
(4). في هـ: من البلد. [.....]

في المخرج. فإن مخرجهما من طرف اللسان وأصول الثنايا وفى أنهما مهموستان «1». قال النحاس: والإظهار أحسن لتباين مخرج الثاء من مخرج التاء. ويقال: كان هذا السؤال بواسطة الملك على جهة التقرير. و" كَمْ" في موضع نصب على الظرف. (قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) إنما قال هذا على ما عنده وفى ظنه، وعلى هذا لا يكون كاذبا فيما أخبر به، ومثله قول أصحاب الكهف" قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ «2»" وإنما لبثوا ثلاثمائة سنة وتسع سنين- على ما يأتي- ولم يكونوا كاذبين لأنهم أخبروا عما عندهم، كأنهم قالوا: الذي عندنا وفى ظنوننا أننا لبثنا يوما أو بعض يوم. ونظيره قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قصة ذى اليدين:" لم أقصر ولم أنس". ومن الناس من يقول: إنه كذب على معنى وجود حقيقة الكذب فيه ولكنه لا مؤاخذة به، وإلا فالكذب الاخبار عن الشيء على خلاف ما هو عليه وذلك لا يختلف بالعلم والجهل، وهذا بين في نظر الأصول. فعلى هذا يجوز أن يقال: إن الأنبياء لا يعصمون عن الاخبار عن الشيء على خلاف ما هو عليه إذا لم يكن عن قصد، كما لا يعصمون عن السهو والنسيان. فهذا ما يتعلق بهذه الآية، والقول الأول أصح. قال ابن جريج وقتادة والربيع: أماته الله غدوة يوم ثم بعث قبل الغروب فظن هذا اليوم واحدا فقال: لبثت يوما، ثم رأى بقية من الشمس فخشي أن يكون كاذبا فقال: أو بعض يوم. فقيل: بل لبثت مائة عام، وراي من عمارة القرية وأشجارها ومبانيها ما دله على ذلك. قوله تعالى: (فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ) وهو التين الذي جمعه من أشجار القرية التي مر عليها. (وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ) وقرا ابن مسعود" وهذا طعامك وشرابك لم يتسنه". وقرا طلحة ابن مصرف وغيره" وانظر لطعامك وشرابك لمائة سنة". وقرا الجمهور بإثبات الهاء في الوصل إلا الاخوان «3»
__________
(1). الحروف المهموسة عشرة أحرف يجمعها قولك" حثه شخص فسكت" قال ابن جنى: فأما حروف الهمس فإن الصوت الذي يخرج معها نفس وليس من صوت الصدر إنما يخرج منسلا وليس كنفخ الزاي والظاء.
(2). راجع ج 10 ص 374.
(3). عبارة البحر: وقرا حمزة والكسائي بحذف الهاء في الوصل على أنها هاء السكت وقرا باقى السبعة بإثبات الهاء في الوصل والوقف. في ب وهـ وج: الاخوان، وصوابه الأخوين.

فإنهما يحذفانها، ولا خلاف أن الوقف عليها بالهاء. وقرأ طلحة ابن مصرف أيضا" لم يسن وانظر" أدغم التاء في السين، فعلى قراءة الجمهور الهاء أصلية، وحذفت الضمة للجزم، ويكون" يَتَسَنَّهْ" من السنة أي لم تغيره السنون. قال الجوهري: ويقال سنون، والسنة واحدة السنين، وفى نقصانها قولان: أحدهما الواو، والآخر الهاء. واصلها سنهة مثل الجبهة، لأنه من سنهت النخلة وتسنهت إذا أتت عليها السنون. ونخلة سناء أي تحمل سنة ولا تحمل أخرى، وسنهاء أيضا، قال بعض الأنصار: «1»
فليست بسنهاء ولا رجبية «2» ... ولكن عرايا «3» في السنين الجوائح «4»
وأسنهت عند بنى فلان أقمت عندهم، وتسنيت أيضا. واستأجرته مساناة ومسانهة أيضا. وفي التصغير سنية وسنيهة. قال النحاس: من قرأ" لم يتسن وانظر" قال في التصغير: سنية وحذفت الالف للجزم، ويقف على الهاء فيقول:" لَمْ يَتَسَنَّهْ" تكون الهاء لبيان الحركة. قال المهدوي: ويجوز أن يكون أصله من سانيته مساناة، أي عاملته سنة بعد سنة، أو من سانهت [بالهاء «5» [، فإن كان من سانيت فأصله يتسنى فسقطت الالف للجزم، وأصله من الواو بدليل قولهم سنوات والهاء فيه للسكت، وإن كان من سانهت فالهاء لام الفعل، واصل سنة على هذا سنهة. وعلى القول الأول سنوة. وقيل: هو من أسن الماء إذا تغير، وكان يجب أن يكون على هذا يتأسن. أبو عمرو الشيباني: هو من قوله" حَمَإٍ مَسْنُونٍ" «6» فالمعنى لم يتغير. الزجاج، ليس كذلك، لان قوله" مَسْنُونٍ" ليس معناه متغير وإنما معناه مصبوب على سنة الأرض. قال المهدوي: وأصله على قول الشيباني" يتسنن" فأبدلت إحدى
__________
(1). هو سويد بن الصامت (عن اللسان).
(2). نخلة رجبية (كعمرية وتشدد الجيم، وكلاهما نسب نادر) وترجيبها أن تضم أعذاقها (عراجينها) إلى سعفاتها ثم تشد بالخوص لئلا ينفضها الريح. وقيل: هو أن يوضع الشوك حوالى الأعذاق لئلا يصل إليها آكل فلا تسرق، وذلك إذا كانت غريبة طريفة.
(3). المرايا (واحدتها عرية): النخلة يعريها صاحبها رجلا محتاجا.
(4). في الأصول:" المواحل" والتصويب عن كتب اللغة. وقبل هذا البيت:
أدين وما ديني عليكم بمغرم ... ولكن على الشم الجلاد القراوح

والجوائح: السنون الشداد التي تجيح المال.
(5). من هـ.
(6). راجع ج. 1 ص 21

، النونين ياء كراهة التضعيف فصار يتسنى، ثم سقطت الالف للجزم ودخلت الهاء للسكت. وقال مجاهد:" لَمْ يَتَسَنَّهْ" لم ينتن. قال النحاس: أصح ما قيل فيه أنه من السنة، أي لم تغيره السنون. ويحتمل أن يكون من السنة وهى الجدب، ومنه قوله تعالى:" وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ" «1» وقوله عليه السلام:" اللهم اجعلها عليهم سنين كسنى يوسف". يقال منه: أسنت القوم أي أجدبوا، فيكون المعنى لم يغير طعامك القحوط والجدوب، أو لم تغيره السنون والأعوام، أي هو باق على طراوته وغضارته. قوله تعالى: (وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ) قال وهب بن منبه وغيره: وانظر إلى اتصال عظامه وإحيائه جزءا جزءا. ويروى أنه أحياه الله كذلك حتى صار عظاما ملتئمة، ثم كساه لحما حتى كمل حمارا، ثم جاءه ملك فنفخ فيه الروح فقام الحمار ينهق، على هذا أكثر المفسرين. وروى عن الضحاك ووهب بن منبه أيضا أنهما قالا: بل قيل له: وانظر إلى حمارك قائما في مربطه لم يصبه شي مائة عام، وإنما العظام التي نظر إليها عظام نفسه بعد أن أحيا الله منه عينيه ورأسه، وسائر جسده ميت، قالا: وأعمى الله العيون عن إرميا وحماره طول هذه المدة. وقوله تعالى: (وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ) قال الفراء: إنما أدخل الواو في قوله" وَلِنَجْعَلَكَ" دلالة على أنها شرط لفعل بعده، معناه" وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ" ودلالة على البعث بعد الموت جعلنا ذلك. وإن شئت جملت الواو مقحمة زائدة. وقال الأعمش: موضع كونه آية هو أنه جاء شابا على حاله يوم مات، فوجد الأبناء والحفدة شيوخا. عكرمة: وكان يوم مات ابن أربعين سنة. وروى عن على رضوان الله عليه أن عزيرا خرج من أهله وخلف امرأته حاملا، وله خمسون سنة فأماته الله مائة عام، ثم بعثه فرجع إلى أهله وهو ابن خمسين سنة وله ولد من مائة سنة فكان ابنه أكبر منه بخمسين سنة. وروى عن ابن عباس قال: لما أحيا الله عزيرا ركب حماره فأتى محلته فأنكر الناس وأنكروه، فوجد في منزله عجوزا عمياء كانت أمة لهم، خرج عنهم عزير وهى بنت عشرين سنة، فقال لها: أهذا منزل عزير؟ فقالت نعم! ثم بكت وقالت: فارقنا عزير منذ كذا وكذا سنة قال: فأنا عزير، قالت: إن عزيرا فقدناه منذ
__________
(1). راجع 7 ص 263

مائة سنة. قال: فالله أماتني مائة سنة ثم بعثني. قالت: فعزير كان مستجاب الدعوة للمريض وصاحب البلاء فيفيق، فادع الله يرد على بصرى، فدعا الله ومسح على عينيها بيده فصحت مكانها كأنها أنشطت من عقال. قالت: أشهد أنك عزير! ثم انطلقت إلى ملا بنى إسرائيل وفيهم ابن لعزير شيخ ابن مائة وثمانية وعشرين سنة، وبنو بنيه شيوخ، فقالت: يا قوم، هذا والله عزير! فأقبل إليه ابنه مع الناس فقال ابنه: كانت لابي شامة سوداء مثل الهلال بين كتفيه، فنظرها فإذا هو عزير. وقيل: جاء وقد هلك كل من يعرف، فكان آية لمن كان حيا من قومه إذ كانوا موقنين بحاله سماعا. قال ابن عطية: وفى إماتته هذه المدة ثم إحيائه بعدها أعظم آية، وأمره كله آية غابر الدهر، ولا يحتاج إلى تخصيص بعض ذلك دون بعض. قوله تعالى: (وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها) قرأ الكوفيون وابن عامر بالزاي والباقون بالراء، وروى أبان عن عاصم" ننشرها" بفتح النون وضم الشين والراء، وكذلك قرأ ابن عباس والحسن وأبو حيوة، فقيل: هما لغتان في الأحياء بمعنى، كما يقال رجع ورجعته، وغاض الماء وغضته، وخسرت الدابة وخسرتها، إلا أن المعروف في اللغة أنشر الله الموتى فنشروا، أي أحياهم الله فحيوا، قال الله تعالى:" ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ" «1» ويكون نشرها مثل نشر الثوب. نشر الميت ينشر نشورا أي عاش بعد الموت، قال الأعشى:
حتى يقول الناس مما رأوا ... يا عجبا للميت الناشر
فكأن الموت طى للعظام والأعضاء، وكان الأحياء وجمع الأعضاء بعضها إلى بعض نشر. وأما قراءة" نُنْشِزُها" بالزاي فمعناه نرفعها. والنشز: المرتفع من الأرض، قال:
ترى الثعلب الحولي فيها كأنه ... إذا ما علا نشزا حصان مجلل
قال مكي: المعنى: انظر إلى العظام كيف نرفع بعضها على بعض في التركيب للاحياء، لان النشز الارتفاع، ومنه المرأة النشوز، وهى المرتفعة عن موافقة زوجها، ومنه قوله تعالى:" وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا" «2» أي ارتفعوا وانضموا. وأيضا فإن القراءة بالراء بمعنى الأحياء، والعظام لا تحيا على الانفراد حتى ينضم بعضها إلى بعض، والزاي أولى بذلك المعنى، إذ هو
__________
(1). راجع ج 19 ص 215.
(2). راجع ج 17 ص 296

بمعنى الانضمام دون الأحياء. فالموصوف بالاحياء هو الرجل دون العظام على انفرادها، ولا يقال: هذا عظم حي، وإنما المعنى فانظر إلى العظام كيف نرفعها من أماكنها من الأرض إلى جسم صاحبها للاحياء. وقرا النخعي" ننشزها" بفتح النون وضم الشين والزاي، وروى ذلك عن ابن عباس وقتادة. وقرا أبى بن كعب" ننشيها" بالياء. والكسوة: ما وارى من الثياب، وشبه اللحم بها. وقد استعاره لبيد «1» للإسلام فقال:
حتى اكتسيت من الإسلام سربالا

وقد تقدم أول السورة «2». قوله تعالى: (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) بقطع الالف. وقد روى أن الله جل ذكره أحيا بعضه ثم أراه كيف أحيا باقى جسده. قال قتادة: إنه جعل ينظر كيف يوصل بعض عظامه إلى بعض، لان أول ما خلق الله منه رأسه وقيل له: انظر، فقال عند ذلك:" أَعْلَمُ" بقطع الالف، أي أعلم هذا. وقال الطبري: المعنى في قوله" فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ" أي لما اتضح له عيانا ما كان مستنكرا في قدرة الله عنده قبل عيانه قال: أعلم. قال ابن عطية: وهذا خطأ، لأنه ألزم مالا يقتضيه اللفظ، وفسر على القول الشاذ والاحتمال الضعيف، وهذا عندي ليس بإقرار بما. كان قبل ينكره كما زعم الطبري، بل هو قول بعثه الاعتبار، كما يقول الإنسان المؤمن إذا رأى شيئا غريبا من قدرة الله تعالى: لا إله إلا الله ونحو هذا. وقال أبو على: معناه أعلم هذا الضرب من العلم الذي لم أكن علمته. قلت: وقد ذكرنا هذا المعنى عن قتادة، وكذلك قال مكي رحمه الله، قال مكي: إنه أخبر عن نفسه عند ما عاين من قدرة الله تعالى في إحيائه الموتى، فتيقن ذلك بالمشاهدة، فأقر أنه يعلم أن الله على كل شي قدير، أي أعلم [أنا «3»] هذا الضرب من العلم الذي لم أكن أعلمه على معاينة، وهذا على قراءة من قرأ" أَعْلَمُ" بقطع الالف وهم الأكثر من القراء. وقرا حمزة والكسائي بوصل الالف، ويحتمل وجهين: أحدهما قال له الملك: اعلم، والآخر هو أن،
__________
(1). في الأصول وابن عطية: النابغة المعروف المشهور ما أثبتناه وصدره: الحمد لله إذ لم يأتني أجلى
(2). راجع ج 1 ص 153. [.....]
(3). في ج، ب، هـ.

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)

ينزل نفسه منزلة المخاطب الأجنبي المنفصل، فالمعنى فلما تبين له قال لنفسه: اعلمي يا نفس هذا العلم اليقين الذي لم تكوني تعلمين معاينة، وأنشد أبو على في مثل هذا المعنى:
ودّع هريرة إن الركب مرتحل «1» ... ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا
قال ابن عطية: وتأنس أبو على في هذا المعنى بقول الشاعر:
تذكر من أنى ومن أين شربه ... يؤامر نفسيه كذي الهجمة الإبل «2»
قال مكي: ويبعد أن يكون ذلك أمرا من الله جل ذكره له بالعلم، لأنه قد أظهر إليه قدرته، واراه أمرا أيقن صحته وأقر بالقدرة فلا معنى لان يأمره الله بعلم ذلك، بل هو يأمر نفسه بذلك وهو جائز حسن. وفى حرف عبد الله ما يدل على أنه أمر من الله تعالى له بالعلم على معنى الزم هذا العلم لما عاينت وتيقنت، وذلك أن في حرفه: قيل اعلم. وأيضا فإنه موافق لما قبله من الامر في قوله" فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ" و" انْظُرْ إِلى حِمارِكَ" و" انْظُرْ إِلَى الْعِظامِ" فكذلك و" أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ" وقد كان ابن عباس يقرؤها" قيل اعلم" ويقول أهو خير أم إبراهيم؟ إذ قيل له:" وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ". فهذا يبين أنه من قول الله سبحانه له لما عاين من الأحياء.

[سورة البقرة (2): آية 260]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)
اختلف الناس في هذا السؤال هل صدر من إبراهيم عن شك أم لا؟ فقال الجمهور: لم يكن إبراهيم عليه السلام شاكا في إحياء الله الموتى قط وإنما طلب المعاينة، وذلك أن النفوس
__________
(1). البيتان للأعشى، وعجز الأول: وهل تطيق وداعا أيها الرجل. والثاني عجزه: وعادك ما عاد السليم المسهدا.
(2). الهجمة (بفتح فسكون): القطعة الضخمة من الإبل، وقيل: هي ما بين الثلاثين والمائة. ورجل أبل (ككتف): حذق مصلحة الإبل.

مستشرقة إلى رؤية ما أخبرت به، ولهذا قال عليه السلام: (ليس الخبر كالمعاينة) رواه ابن عباس ولم يروه غيره، قاله أبو عمر. قال الأخفش: لم يرد رؤية القلب وإنما أراد رؤية العين. وقال الحسن وقتادة وسعيد بن جبير والربيع: سأل ليزداد يقينا إلى يقينه «1». قال ابن عطية: وترجم الطبري في تفسيره فقال: وقال آخرون سأل ذلك ربه، لأنه شك في قدرة الله تعالى. وأدخل تحت الترجمة عن ابن عباس قال: ما في القرآن آية أرجى عندي منها. وذكر عن عطاء بن أبى رباح أنه قال: دخل قلب إبراهيم بعض ما يدخل قلوب الناس فقال: رب أرني كيف تحيى الموتى. وذكر حديث أبى هريرة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (نحن أحق بالشك من إبراهيم) الحديث، ثم رجح الطبري هذا القول. قلت: حديث أبى هريرة خرجه البخاري ومسلم عنه أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال ر ب أرني كيف تحيى الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي ويرحم الله لوطا لقد كان يأوي إلى ركن شديد ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي (. قال ابن عطية: وما ترجم به الطبري عندي مردود، وما أدخل تحت الترجمة متأول، فأما قول ابن عباس: (هي أرجى آية) فمن حيث فيها الا دلال على الله تعالى وسؤال الأحياء في الدنيا وليست مظنة ذلك. ويجوز أن يقول: هي أرجى آية لقوله" أَوَلَمْ تُؤْمِنْ" أي إن الايمان كاف لا يحتاج معه إلى تنقير وبحث. وأما قول عطاء:" دخل قلب إبراهيم بعض ما يدخل قلوب الناس" فمعناه من حيث المعاينة على ما تقدم. وأما قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (نحن أحق بالشك من إبراهيم) فمعناه أنه لو كان شاكا لكنا نحن أحق به ونحن لا نشك فإبراهيم عليه السلام أحرى ألا يشك، فالحديث مبنى على نفى الشك عن إبراهيم، والذي روى فيه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: (ذلك محض الايمان) إنما هو في الخواطر التي لا تثبت، وأما الشك فهو توقف بين أمرين لا مزية لأحدهما على الآخر، وذلك هو المنفي عن الخليل عليه السلام. وإحياء الموتى إنما يثبت بالسمع وقد كان إبراهيم عليه السلام أعلم به، يدلك على ذلك قوله:" رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ" فالشك يبعد على من
__________
(1). في ج وهـ: إلى نفسه.

تثبت قدمه في الايمان فقط فكيف بمرتبة النبوة والخلة، والأنبياء معصومون من الكبائر ومن الصغائر التي فيها رذيلة إجماعا. وإذا تأملت سؤاله عليه السلام وسائر ألفاظ الآية لم تعط شكا، وذلك أن الاستفهام بكيف إنما هو سؤال عن حالة شي موجود متقرر الوجود عند السائل والمسئول، نحو قولك: كيف علم زيد؟ وكيف نسج الثوب؟ ونحو هذا. ومتى قلت: كيف ثوبك؟ وكيف زيد؟ فإنما السؤال عن حال من أحواله. وقد تكون" كيف" خبرا عن شي شأنه أن يستفهم عنه بكيف، نحو قولك: كيف شئت فكن، ونحو قول البخاري: كيف كان بدء الوحى. و" كَيْفَ" في هذه الآية إنما هي استفهام عن هيئة الأحياء، والأحياء متقرر، ولكن لما وجدنا بعض المنكرين لوجود شي قد يعبرون عن إنكاره بالاستفهام عن حالة لذلك الشيء يعلم أنها لا تصح، فيلزم من ذلك أن الشيء في نفسه لا يصح، مثال ذلك أن يقول مدع: أنا أرفع هذا الجبل، فيقول المكذب له: أرني كيف ترفعه! فهذه طريقة مجاز في العبارة، ومعناها تسليم جدلي، كأنه يقول: افرض أنك ترفعه، فأرني كيف ترفعه! فلما كانت عبارة الخليل عليه السلام بهذا الاشتراك المجازى، خلص الله له ذلك وحمله على أن بين له الحقيقة فقال له:" أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى " فكمل الامر وتخلص من كل شك، ثم علل عليه السلام سؤاله بالطمأنينة. قلت: هذا ما ذكره ابن عطية وهو بالغ، ولا يجوز على الأنبياء صلوات الله عليهم مثل هذا الشك فإنه كفر، والأنبياء متفقون على الايمان بالبعث. وقد أخبر الله تعالى أن أنبياءه وأولياءه ليس للشيطان عليهم سبيل فقال:" إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ" «1» وقال اللعين: إلا عبادك منهم المخلصين، وإذا لم يكن له عليهم سلطنة فكيف يشككهم، وإنما سأل أن يشاهد كيفية جمع أجزاء الموتى بعد تفريقها وإيصال الأعصاب والجلود بعد تمزيقها، فأراد أن يترقى من علم اليقين إلى علم اليقين، فقوله:" أَرِنِي كَيْفَ" طلب مشاهدة الكيفية. وقال بعض أهل المعاني: إنما أراد إبراهيم من ربه أن يريه كيف يحيى القلوب، وهذا فاسد
__________
(1). راجع ج 10 ص 28

مردود بما تعقبه من البيان، ذكره الماوردي وليست الالف في قوله" أَوَلَمْ تُؤْمِنْ" ألف استفهام وإنما هي ألف إيجاب وتقرير كما قال جرير:
ألستم خير من ركب المطايا

والواو واو الحال. و" تُؤْمِنْ" معناه إيمانا مطلقا، دخل فيه فضل إحياء الموتى. (قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) أي سألتك ليطمئن قلبي بحصول الفرق بين المعلوم برهانا والمعلوم عيانا. والطمأنينة: اعتدال وسكون، فطمأنينة الأعضاء معروفة، كما قال عليه السلام: (ثم اركع حتى تطمئن راكعا) الحديث. وطمأنينة القلب هي أن يسكن فكره في الشيء المعتقد. والفكر في صورة الأحياء غير محظور، كما لنا نحن اليوم أن نفكر [فيها «1»] إذ هي فكر فيها عبر فأراد الخليل أن يعاين فيذهب «2» فكره في صورة الأحياء. وقال الطبري: معنى" لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي" ليوقن، وحكى نحو ذلك عن سعيد بن جبير، وحكى عنه ليزداد يقينا، وقاله إبراهيم وقتادة. وقال بعضهم: لازداد إيمانا مع إيماني. قال ابن عطية: ولا زيادة في هذا المعنى تمكن إلا السكون عن الفكر وإلا فاليقين لا يتبعض. وقال السدى وابن جبير أيضا: أولم تؤمن بأنك خليلي؟ قال: بلى ولكن ليطمئن قلبي بالخلة. وقيل: دعا أن يريه كيف يحيى الموتى ليعلم هل تستجاب دعوته، فقال الله له: أو لم تؤمن أنى أجيب دعاءك، قال: بلى ولكن ليطمئن قلبي أنك تجيب «3» دعائي. واختلف في المحرك له على ذلك، فقيل: إن الله وعده أن يتخذه خليلا فأراد آية على ذلك، قاله السائب بن يزيد «4». وقيل: قول النمروذ: أنا أحيى وأميت. وقال الحسن: رأى جيفة نصفها في البر توزعها السباع ونصفها في البحر توزعها دواب البحر، فلما رأى تفرقها أحب «5» أن يرى انضمامها فسأل ليطمئن قلبه برؤية كيفية الجمع كما رأى كيفية التفريق، فقيل له: (فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ) قيل: هي الديك والطاوس والحمام والغراب، ذكر ذلك ابن إسحاق عن بعض أهل العلم، وقاله مجاهد وابن جريج وعطاء بن يسار وابن زيد. وقال ابن عباس مكان الغراب الكركي، وعنه أيضا مكان الحمام النسر. فأخذ هذه الطير حسب ما أمر وذكاها
__________
(1). في ج وهـ وب.
(2). في ب وج: فتذهب فكرة. بصيغة الجمع.
(3). في ج: تستجيب.
(4). كذا في هـ وب وج وهو الصواب كما في التهذيب والاستيعاب، وفى ج وا: زيد.
(5). في هـ: اختار.

ثم قطعها قطعا صغارا، وخلط لحوم البعض إلى لحوم البعض مع الدم والريش حتى يكون أعجب، ثم جعل من ذلك المجموع المختلط جزءا على كل جبل، ووقف هو من حيث يرى تلك الاجزاء وأمسك رءوس الطير في يده، ثم قال: تعالين بإذن الله، فتطايرت تلك الاجزاء وطار الدم إلى الدم والريش إلى الريش حتى التأمت مثل ما كانت أولا وبقيت بلا رءوس، ثم كرر النداء فجاءته سعيا، أي عدوا على أرجلهن. ولا يقال للطائر:" سعى" إذا طار إلا على التمثيل، قاله النحاس. وكان إبراهيم إذا أشار إلى واحد منها بغير رأسه تباعد الطائر، وإذا أشار إليه برأسه قرب حتى لقى كل طائر رأسه، وطارت بإذن الله. وقال الزجاج: المعنى ثم أجعل على كل جبل من كل واحد جزءا. وقرا أبو بكر عن عاصم وأبو جعفر" جزوا" على فعل. وعن أبى جعفر أيضا" جزا" مشددة الزاي. الباقون مهموز مخفف، وهى لغات، ومعناه النصيب. (يَأْتِينَكَ سَعْياً) نصب على الحال. و(فَصُرْهُنَّ) معناه قطعهن، قاله ابن عباس ومجاهد وأبو عبيدة وابن الأنباري، يقال: صار الشيء يصوره أي قطعه، وقاله ابن إسحاق. وعن أبى الأسود الدؤلي: هو بالسريانية التقطيع، قال توبة بن الحمير يصفه:
فلما جذبت الحبل أطت نسوعه ... بأطراف عيدان شديد سيورها
فأدنت لي الأسباب حتى بلغتها ... بنهضي وقد كاد ارتقائي يصورها
أي يقطعها. والصور: القطع. وقال الضحاك وعكرمة وابن عباس في بعض ما روى عنه: إنها لفظة بالنبطية معناه قطعهن. وقيل: المعنى أملهن إليك، أي اضممهن واجمعهن إليك، يقال: رجل أصور إذا كان مائل العنق. وتقول: إنى إليكم لاصور، يعنى مشتاقا مائلا. وامرأة صوراء، والجمع صور مثل أسود وسود، قال الشاعر:
الله يعلم أنا في تلفتنا ... يوم الفراق إلى جيراننا صور
فقوله" إِلَيْكَ" على تأويل التقطيع متعلق ب" فَخُذْ" ولا حاجة إلى مضمر، وعلى تأويل الإمالة والضم متعلق ب" فَصُرْهُنَّ" وفى الكلام متروك: فأملهن إليك ثم قطعهن. وفيها خمس قراءات: اثنتان في السبع وهما ضم الصاد وكسرها وتخفيف الراء. وقرا قوم" فصرهن" بضم الصاد

مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261)

وشد الراء المفتوحة، كأنه يقول فشدهن، ومنه صرة الدنانير. وقرأ قوم" فصرهن" بكسر الصاد وشد الراء المفتوحة، ومعناه صيحهن، من قولك: صر الباب والقلم إذا صوت، حكاه النقاش. قال ابن جنى: هي قراءة غريبة، وذلك أن يفعل بكسر العين في المضاعف المتعدي قليل، وإنما بابه يفعل بضم العين، كشد يشد ونحوه، ولكن قد جاء منه نم الحديث ينمه وينمه، وهر الحرب يهرها ويهرها، ومنه بيت الأعشى:
ليعتورنك القول حتى تهرّه «1»

إلى غير ذلك في حروف قليلة. قال ابن جنى: وأما قراءة عكرمة بضم الصاد فيحتمل في الراء الضم والفتح والكسر [كمد وشد «2»] والوجه ضم الراء من أجل ضمة الهاء من بعد. القراءة الخامسة" صرهن" بفتح الصاد وشد الراء مكسورة، حكاها المهدوي وغيره عن عكرمة، بمعنى فاحبسهن، من قولهم: صرى يصري إذا حبس، ومنه الشاة المصراة. وهنا اعتراض ذكره الماوردي [وهو «3»] يقال: فكيف أجيب إبراهيم إلى آيات الآخرة دون موسى في قوله" رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ «4»"؟ فعنه «5» جوابان: أحدهما أن ما سأله موسى لا يصح مع بقاء التكليف، وما سأله إبراهيم خاص يصح معه بقاء التكليف. الثاني أن الأحوال تختلف فيكون الأصلح في بعض الأوقات الإجابة، وفى وقت آخر المنع فيما لم يتقدم فيه إذن. وقال ابن عباس: أمر الله تعالى إبراهيم بهذا قبل أن يولد له وقبل أن ينزل عليه الصحف، والله أعلم.

[سورة البقرة (2): آية 261]
مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (261)
فيه خمس مسائل: الاولى- لما قص الله سبحانه ما فيه من البراهين، حث على الجهاد، وأعلم أن من جاهد بعد هذا البرهان الذي لا يأتي به إلا نبى فله في جهاده الثواب العظيم. ورى البستي
__________
(1). الذي في الديوان:
ليستدرجنك القول حتى تهره ... وتعلم أنى عنك لست بمجرم

(2). الزيادة من هـ وب وج وابن عطية.
(3). من هـ وب وج.
(4). راجع ج 7 ص 278. [.....]
(5). في ب: ففيه.

في صحيح مسنده عن ابن عمر قال: لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (رب زد أمتي) فنزلت" مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً «1»" قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (رب زد أمتي) فنزلت" إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ". وهذه الآية لفظها بيان مثال لشرف النفقة في سبيل الله ولحسنها، وضمنها التحريض على ذلك. وفى الكلام حذف مضاف تقديره مثل نفقة الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة. وطريق آخر: مثل الذين ينفقون أموالهم كمثل زارع زرع في الأرض حبة فأنبتت الحبة سبع سنابل، يعنى أخرجت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة، فشبه المتصدق بالزارع وشبه الصدقة بالبذر فيعطيه الله بكل صدقة له سبعمائة حسنة، ثم قال تعالى: (وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ) يعنى على سبعمائة، فيكون مثل المتصدق مثل الزارع، إن كان حاذقا في عمله، ويكون البذر جيدا وتكون الأرض عامرة يكون الزرع أكثر، فكذلك المتصدق إذا كان صالحا والمال طيبا ويضعه موضعه فيصير الثواب أكثر، خلافا لمن قال: ليس في الآية تضعيف على سبعمائة، على ما نبينه إن شاء الله. الثانية- روى أن هذه الآية نزلت في شأن عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف رضى الله عنهما، وذلك أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما حث الناس على الصدقة حين أراد الخروج إلى غزوة تبوك جاءه عبد الرحمن بأربعة آلاف فقال: يا رسول الله، كانت لي ثمانية آلاف فأمسكت لنفسي ولعيالي أربعة آلاف، وأربعة آلاف أقرضتها لربي. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (بارك الله لك فيما أمسكت وفيما أعطيت). وقال عثمان: يا رسول الله على جهاز من لا جهاز له، فنزلت هذه الآية فيهما. وقيل: نزلت في نفقة التطوع. وقيل: نزلت قبل آية الزكاة ثم نسخت بآية الزكاة، ولا حاجة إلى دعوى النسخ، لان الإنفاق في سبيل الله مندوب إليه في كل وقت. وسبل الله كثيرة وأعظمها الجهاد لتكون كلمة الله هي العليا.
__________
(1). راجع ص 237 من هذا الجزء وج 15 ص 240.

الثالثة- قوله تعالى: (كَمَثَلِ حَبَّةٍ) الحبة اسم جنس لكل ما يزدرعه ابن آدم ويقتاته، وأشهر ذلك البر فكثيرا ما يراد بالحب، ومنه قول المتلمس:
آليت حب العراق الدهر أطعمه ... والحب يأكله في القرية السوس
وحبة القلب: سويداؤه، ويقال ثمرته وهو ذاك. والحبة بكسر الحاء: بذور البقول مما ليس بقوت، وفي حديث الشفاعة: (فينبتون كما تنبت الحبة في حميل «1» السيل) والجمع حبب. والحبة (بضم الحاء «2») الحب، يقال: نعم وحبة وكرامة. والحب المحبة، وكذلك الحب (بالكسر). والحب أيضا الحبيب، مثل خدن وخدين وسنبلة فنعلة من أسبل الزرع إذا صار فيه السنبل، أي استرسل بالسنبل كما يسترسل الستر بالاسبال. وقيل: معناه صار فيه حب مستور كما يستر الشيء بإسبال الستر عليه. والجمع سنابل. ثم قيل: المراد سنبل الدخن فهو الذي يكون في السنبلة منه هذا العدد. قلت: هذا ليس بشيء فإن سنبل الدخن يجئ في السنبلة منه أكثر من هذا العدد بضعفين وأكثر، على ما شاهدناه. قال ابن عطية: وقد يوجد في سنبل القمح ما فيه مائة حبة، فأما في سائر الحبوب فأكثر ولكن المثال وقع بهذا القدر. وقال الطبري في هذه الآية: إن قوله (فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ) معناه إن وجد ذلك، وإلا فعلى أن يفرضه، ثم نقل عن الضحاك أنه قال:" فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ" معناه كل سنبلة أنبتت مائة حبة. قال ابن عطية: فجعل الطبري قول الضحاك نحو ما قال، وذلك غير لازم من قول الضحاك. وقال أبو عمرو الداني: وقرا بعضهم" مائة" بالنصب على تقدير أنبتت مائة حبة. قلت: وقال يعقوب الحضرمي: وقرا بعضهم" في كل سنبلة مائة حبة" على: أنبتت مائة حبة، وكذلك قرأ بعضهم" وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ" على" وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ «3»" وأعتدنا للذين كفروا عذاب جهنم. وقرا أبو عمرو وحمزة والكسائي" أنبتت سبع سنابل" بإدغام التاء في السين، لأنهما مهموستان، ألا ترى أنهما يتعاقبان. وأنشد أبو عمرو:
__________
(1). حميل السيل: ما يحمل من الغثاء والطين.
(2). قي هـ.
(3). راجع ج 18 ص 211

يا لعن الله بنى السعلاة «1» ... عمرو بن ميمون «2» لئام النات
أراد الناس فحول السين تاء. الباقون بالإظهار على الأصل لأنهما كلمتان. الرابعة- ورد القرآن بأن الحسنة في جميع أعمال البر بعشر أمثالها، واقتضت هذه الآية أن نفقة الجهاد حسنتها بسبعمائة ضعف. واختلف العلماء في معنى قوله (وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ) فقالت طائفة: هي مبينة مؤكدة لما تقدم من ذكر السبعمائة، وليس ثم تضعيف فوق السبعمائة. وقالت طائفة من العلماء: بل هو إعلام بأن الله تعالى يضاعف لمن يشاء أكثر من سبعمائة ضعف. قلت: وهذا القول أصح لحديث ابن عمر المذكور أول الآية. وروى ابن ماجة حدثنا هارون بن عبد الله الحمال حدثنا ابن أبى فديك عن الخليل بن عبد الله عن الحسن [عن «3»] على بن أبى طالب وأبى الدرداء وعبد الله بن عمرو وأبى أمامة الباهلي وعبد الله بن عمرو وجابر بن عبد الله وعمران بن حصين كلهم يحدث عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال:" من أرسل بنفقة في سبيل الله وأقام في بيته فله بكل درهم سبعمائة درهم ومن غزا بنفسه في سبيل الله وأنفق «4» في وجهه «5» فله بكل درهم سبعمائة ألف درهم- ثم تلا [هذه الآية «6»]- والله يضاعف لمن يشاء الله". وقد روى عن ابن عباس أن التضعيف [ينتهى «7»] لمن شاء الله إلى ألفى ألف. قال ابن عطية: وليس هذا بثابت الاسناد عنه. الخامسة- في هذه الآية دليل على أن اتخاذ الزرع من أعلى الحرف التي يتخذها الناس والمكاسب التي يشتغل بها العمال، ولذلك ضرب الله به المثل فقال:" مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ" الآية. وفى صحيح مسلم عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له صدقة". وروى هشام بن عروة
__________
(1). السعلاة: أخبث الغيلان. فإذا كانت المرأة قبيحة الوجه سيئة الخلق شبهت بالسعلاة.
(2). الذي في كتب اللغة (مادة ن وت):" عمر بن يربوع".
(3). عن ج وب، وابن ماجة، وفية في الهند: وأبى هريرة.
(4). عن ج وب، وابن ماجة، وفية في الهند: وأبى هريرة.
(5). في ابن ماجة:" في وجه"
(6). عن ج وب، وابن ماجة، وفية في الهند: وأبى هريرة.
(7). عن ب وهـ وج. (3- 20)

الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262)

عن أبيه عن عائشة قالت قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" التمسوا الرزق في خبايا الأرض" يعنى الزرع، أخرجه الترمذي. وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في النخل:" هي الراسخات في الوحل المطعمات في المحل". وهذا خرج مخرج المدح. والزراعة من فروض الكفاية فيجب على الامام أن يجبر الناس عليها وما كان في معناها من غرس الأشجار. ولقى عبد الله بن عبد الملك ابن شهاب الزهري فقال: دلني على مال أعالجه، فأنشأ ابن شهاب يقول:
أقول لعبد الله يوم لقيته ... وقد شد أحلاس المطي مشرقا
تتبع خبايا الأرض وادع مليكها ... لعلك يوما أن تجاب فترزقا
فيؤتيك مالا واسعا ذا مثابة ... إذا ما مياه الأرض غارت تدفقا
وحكى عن المعتضد أنه قال: رأيت على بن أبى طالب رضى الله عنه في المنام يناولني مسحاة وقال: خذها فإنها مفاتيح خزائن الأرض.

[سورة البقرة (2): آية 262]
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (262)
فيه ثلاث مسائل: الاولى- قوله تعالى: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) قيل: إنها نزلت في عثمان ابن عفان رضى الله عنه. قال عبد الرحمن بن سمرة: جاء عثمان بألف دينار في جيش العسرة فصبها في حجر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرأيته يدخل يده فيها ويقلبها ويقول:" ما ضر ابن عفان ما عمل بعد اليوم اللهم لا تنس هذا اليوم لعثمان". وقال أبو سعيد الخدري: رأيت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رافعا يديه يدعو لعثمان يقول:" يا رب عثمان إنى رضيت عن عثمان فأرض عنه" فما زال يدعو حتى طلع الفجر فنزلت:" الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً" الآية.

الثانية- لما تقدم في الآية التي قبل ذكر الإنفاق في سبيل الله على العموم بين في هذه الآية أن ذلك الحكم والثواب إنما هو لمن لا يتبع إنفاقه منا ولا أذى، لان «1» المن والأذى مبطلان لثواب الصدقة كما أخبر تعالى في الآية بعد هذا، وإنما على المرء أن يريد وجه الله تعالى وثوابه بإنفاقه على المنفق عليه، ولا يرجو منه شيئا ولا ينظر من أحوال في حال سوى أن يراعى استحقاقه، قال الله تعالى:" لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً «2»". ومتى أنفق ليريد من المنفق عليه جزاء بوجه من الوجوه فهذا لم يرد وجه الله، فهذا إذا أخلف ظنه فيه من بإنفاقه وآذى. وكذلك من أنفق مضطرا دافع غرم إما لمانة للمنفق عليه أو لقرينة أخرى من اعتناء معتن فهذا لم يرد وجه الله. وإنما يقبل ما كان عطاؤه لله وأكثر قصده ابتغاء ما عند الله، كالذي حكى عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أن أعرابيا أتاه فقال:
يا عمر الخير جزيت الجنه ... اكس بنياتي وأمّهنّه
وكن لنا من الزمان جنّه ... أقسم بالله لتفعلنه
قال عمر: إن لم أفعل يكون ماذا؟ قال:
إذا أبا حفص لأذهبنّه

قال: إذا ذهبت يكون ماذا؟! قال:
تكون عن حالي لتسألنه ... يوم تكون الأعطيات هنه
وموقف المسئول بينهنه ... إما إلى نار وإما جنه
__________
(1). عبارة ابن عطية كما في تفسيره:" ... وذلك أن المنفق في سبيل الله إنما يكون على أحد ثلاثة أوجه: إما أن يريد وجه الله تعالى ويرجو ثوابه فهذا لا يرجو من المنفق عليه شيئا، ولا ينظر من أحواله في حال سوى أن يراعى استحقاقه." إما أن يريد من المنفق عليه جزاء بوجه من الوجوه فهذا لم يرد وجه الله، بل نظر إلى هذه الحال من المنفق عليه. وهذا هو الذي متى أخلف ظنه من بإنفاقه وآذى. وإما أن ينفق مضطرا دافع غرم إما لمانة للمنفق عليه أو قرينة أخرى من اعتناء معتن ونحوه، فهذا قد نظر في حال ليست لوجه الله، وهذا هو الذي متى توبع وجرح بوجه من وجوه الجرح آذى. فالمن والأذى يكشفان ممن ظهرا منه أنه إنما كان على ما ذكرناه من المقاصد، وأنه لم يخلص لوجه الله تعالى. فلهذا كان المن والأذى مبطلين للصدقة من حيث بين كل واحد منهما أنها لم تكن صدقة".
(2). راجع ج 19 ص 128 [.....]

فبكى عمر حتى اخضلت لحيته ثم قال: يا غلام، أعطه قميصي هذا لذلك اليوم لا لشعره! والله لا أملك غيره. قال الماوردي: وإذا كان العطاء على هذا الوجه خاليا من طلب جزاء وشكر وعريا عن امتنان ونشر كان ذلك أشرف للباذل واهنا للقابل. فأما المعطى إذا التمس بعطائه الجزاء، وطلب به الشكر والثناء، كان صاحب سمعة ورياء، وفى هذين من الذم ما ينافي السخاء. وإن طلب كان تاجرا مربحا لا يستحق حمدا ولا مدحا. وقد قال ابن عباس في قوله تعالى:" وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ «1»" أي لا تعطى عطية تلتمس بها أفضل منها. وذهب ابن زيد إلا أن هذه الآية إنما هي في الذين لا يخرجون في الجهاد بل ينفقون وهم قعود، وإن الآية التي قبلها هي في الذين يخرجون بأنفسهم، قال: ولذلك شرط على هؤلاء ولم يشترط على الأولين. قال ابن عطية: وفى هذا القول نظر، لان التحكم فيه باد. الثالثة- قوله تعالى: (مَنًّا وَلا أَذىً) المن: ذكر النعمة على معنى التعديد لها والتقريع بها، مثل أن يقول: قد أحسنت إليك ونعشتك وشبهه. وقال بعضهم: المن: التحدث بما أعطى حتى يبلغ ذلك المعطى فيؤذيه. والمن من الكبائر، ثبت ذلك في صحيح مسلم وغيره، وأنه أحد الثلاثة الذين لا ينظر الله إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم، وروى النسائي عن ابن عمر قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة العاق لوالديه والمرأة المترجلة تتشبه بالرجال والديوث، وثلاثة لا يدخلون الجنة العاق لوالديه والمدمن الخمر والمنان بما أعطى". وفى بعض طرق مسلم:" المنان هو الذي لا يعطى شيئا إلا منة". والأذى: السب والتشكي، وهو أعم من المن، لان المن جزء من الأذى لكنه نص عليه لكثرة وقوعه. وقال ابن زيد: لئن ظننت أن سلامك يثقل على من أنفقت عليه تريد وجه الله فلا تسلم عليه. وقالت له امرأة: يا أبا أسامة دلني على رجل يخرج في سبيل الله حقا فإنهم إنما يخرجون يأكلون الفواكه فإن عندي أسهما وجعبة. فقال: لا بارك الله في أسهمك وجعبتك فقد آذيتهم قبل أن تعطيهم. قال علماؤنا رحمة الله عليهم: فمن أنفق في سبيل الله ولم يتبعه منا ولا أذى كقوله: ما أشد إلحاحك! وخلصنا الله منك! وأمثال هذا فقد تضمن الله له الأجر، والأجر الجنة،
__________
(1). راجع ج 19 ص 66

قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263)

ونفى عنه الخوف بعد موته لما يستقبل، والحزن على ما سلف من دنياه، لأنه يغتبط بآخرته فقال: (لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ). وكفى بهذا فضلا وشرفا للنفقة في سبيل الله تعالى. وفيها دلالة لمن فضل الغنى على الفقير حسب ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

[سورة البقرة (2): آية 263]
قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263)
فيه ثلاث مسائل: الاولى- قوله تعالى: (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ) ابتداء والخبر محذوف، أي قول معروف أولى وأمثل، ذكره النحاس والمهدوي. قال النحاس: ويجوز أن يكون" قَوْلٌ مَعْرُوفٌ" خبر ابتداء محذوف، أي الذي أمرتم به قول معروف. والقول المعروف هو الدعاء والتأنيس والترجية بما عند الله، خير من صدقة هي في ظاهرها صدقة وفى باطنها لا شي، لان ذكر القول المعروف فيه أجر وهذه لا أجر فيها. قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" الكلمة الطيبة صدقة وإن من المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق" أخرجه مسلم. فيتلقى السائل بالبشر والترحيب، ويقابله بالطلاقة والتقريب، ليكون مشكورا إن أعطى ومعذورا إن منع. وقد قال بعض الحكماء: آلق صاحب الحاجة بالبشر فإن عدمت شكره لم تعدم عذره. وحكى ابن لنكك «1» أن أبا بكر بن دريد قصد بعض الوزراء في حاجة لم يقضها وظهر له منه ضجر فقال:
لا تدخلنك ضجرة من سائل ... فلخير دهرك أن ترى مسئولا
لا تجبهن بالرد وجه مؤمل ... فبقاء عزك أن ترى مأمولا
تلقى الكريم فتستدل ببشره ... وترى العبوس على اللئيم دليلا
واعلم بأنك عن قليل صائر ... خبرا فكن خبرا يروق جميلا
__________
(1). هو ابو حسن محمد بن محمد، فرد البصرة وصدر أدبائها. (عن يتيمة الدهر ج 2 ص 116).

وروى من حديث عمر رضى الله عنه قال قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" إذا سأل السائل فلا تقطعوا عليه مسألته حتى يفرغ منها ثم ردوا عليه بوقار ولين أو ببذل يسير أو رد جميل فقد يأتيكم من ليس بإنس ولا جان ينظرون صنيعكم فيما خولكم الله تعالى". قلت: دليله حديث أبرص وأقرع وأعمى، خرجه مسلم وغيره. وذلك أن ملكا تصور في صورة أبرص مرة وأقرع أخرى وأعمى أخرى امتحانا للمسئول. وقال بشر بن الحارث: رأيت عليا في المنام فقلت: يا أمير المؤمنين! قل لي شيئا ينفعني الله به، قال: ما أحسن عطف الأنبياء على الفقراء رغبة في ثواب الله تعالى، وأحسن منه تيه الفقراء على الأغنياء ثقة بموعود الله. فقلت: يا أمير المؤمنين زدني، فولى وهو يقول:
قد كنت ميتا فصرت حيا ... وعن قليل تصير ميتا
فأخرب بدار الفناء بيتا ... وابن بدار البقاء بيتا
الثانية- قوله تعالى: (مَغْفِرَةٌ) المغفرة هنا: الستر للخلة وسوء حالة المحتاج، ومن هذا قول الاعرابي- وقد سأل قوما بكلام فصيح- فقال له قائل: ممن الرجل؟ فقال له: اللهم غفرا «1»! سوء الاكتساب يمنع من الانتساب. وقيل: المعنى تجاوز عن السائل إذا ألح وأغلظ وجفي خير من التصدق «2» عليه مع المن والأذى، قال معناه النقاش. وقال النحاس: هذا مشكل يبينه الاعراب." مَغْفِرَةٌ" رفع بالابتداء والخبر (خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ). والمعنى والله أعلم وفعل يؤدى إلى المغفرة خير من صدقة يَتْبَعُها أَذىً، وتقديره في العربية وفعل مغفرة. ويجوز أن يكون مثل قولك: تفضل الله عليك أكبر «3» من الصدقة التي تمن بها، أي غفران الله خير من صدقتكم هذه التي تمنون بها. الثالثة- قواه تعالى: (وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ) أخبر تعالى عن غناه المطلق أنه غنى عن صدقة العباد، وإنما أمر بها ليثيبهم، وعن حلمه بأنه لا يعاجل بالعقوبة من من وأذى بصدقته.
__________
(1). في هـ: عفوا.
(2). في ج: الصدقة.
(3). في ب:" أفضل".

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264)

[سورة البقرة (2): آية 264]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (264)
فيه ثلاث مسائل الاولى قوله تعالى: (بِالْمَنِّ وَالْأَذى ) قد تقدم معناه. وعبر تعالى عن عدم القبول وحرمان الثواب بالابطال، والمراد الصدقة التي يمن بها ويؤذى، لا غيرها. والعقيدة أن السيئات لا تبطل الحسنات ولا تحبطها، فالمن والأذى في صدقة لا يبطل صدقة غيرها. قال جمهور العلماء في هذه الآية: إن الصدقة التي يعلم الله من صاحبها أنه يمن أو يؤذى بها فإنها لا تقبل. وقيل: بل قد جعل الله للملك عليها أمارة فهو لا يكتبها، وهذا حسن. والعرب تقول لما يمن به: يد سوداء. ولما يعطى عن غير مسألة: يد بيضاء. ولما يعطى عن مسألة: يد خضراء. وقال بعض البلغاء: من من بمعروفه سقط شكره، ومن أعجب بعمله حبط أجره. وقال بعض الشعراء:
وصاحب سلفت منه إلى يد ... أبطا عليه مكافاتي فعاداني
لما تيقن أن الدهر حاربني ... أبدى الندامة فيما كان أولاني
وقال آخر:
أفسدت بالمن ما أسديت من حسن ... ليس الكريم إذا أسدى بمنان
وقال أبو بكر الوراق فأحسن:
أحسن من كل حسن ... في كل وقت وزمن
صنيعة مربوبة ... خالية من المنن

وسمع ابن سيرين رجلا يقول لرجل: وفعلت إليك وفعلت! فقال له: اسكت فلا خير في المعروف، إذا أحصى. وروى عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال:" إياكم والامتنان بالمعروف فإنه يبطل الشكر ويمحق الأجر- ثم تلا-" لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى ". الثانية- قال علماؤنا رحمة الله عليهم: كره مالك لهذه الآية أن يعطى الرجل صدقته الواجبة أقاربه لئلا يعتاض منهم الحمد والثناء، ويظهر منته عليهم ويكافئوه عليها فلا تخلص لوجه الله تعالى. واستحب أن يعطيها الأجانب، واستحب أيضا أن يولى غيره تفريقها إذا لم يكن الامام عدلا، لئلا تحبط بالمن والأذى والشكر والثناء والمكافأة بالخدمة من المعطى. وهذا بخلاف صدقة التطوع السر، لان ثوابها إذا حبط سلم من الوعيد وصار في حكم من لم يفعل، والواجب إذا حبط ثوابه توجه الوعيد عليه لكونه في حكم من لم يفعل. الثالثة- قوله تعالى: (كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ) الكاف في موضع نصب، أي إبطال" كَالَّذِي" فهي نعت للمصدر المحذوف. ويجوز أن تكون موضع الحال. مثل الله تعالى الذي يمن ويؤذى بصدقته بالذي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ لا لوجه الله تعالى، وبالكافر الذي ينفق ليقال جواد وليثنى عليه بأنواع الثناء. ثم مثل هذا المنفق أيضا بصفوان عليه تراب فيظنه الظان أرضا منبته طيبة، فإذا أصابه وابل من المطر أذهب عنه التراب وبقي صلدا، فكذلك هذا المرائى. فالمن والأذى والرياء تكشف عن النية في الآخرة فتبطل الصدقة كما يكشف الوابل عن الصفوان، وهو الحجر الكبير الأملس. وقيل: المراد بالآية إبطال الفضل دون الثواب، فالقاصد بنفقته الرياء غير مثاب كالكافر، لأنه لم يقصد به وجه الله تعالى فيستحق الثواب. وخالف صاحب المن والأذى القاصد وجه الله المستحق ثوابه- وإن كرر عطاءه- وأبطل فضله. وقد قيل: إنما يبطل من ثواب صدقته من وقت منه وإيذائه، وما قبل ذلك يكتب له ويضاعف، فإذا من وآذى انقطع التضعيف، لان الصدقة تربى لصاحبها حتى تكون أعظم من الجبل، فإذا خرجت من يد صاحبها خالصة على الوجه المشروع ضوعفت، فإذا جاء المن بها والأذى وقف بها هناك وانقطع زيادة التضعيف عنها، والقول الأول أظهر «1» والله أعلم.
__________
(1). في هـ: أولى.

والصفوان جمع واحده صفوانة، قال الأخفش. قال: وقال بعضهم: صفوان واحد، مثل حجر. وقال الكسائي: صفوان واحد وجمعه صفوان وصفي وصفي، وأنكره المبرد وقال: إنما صفى جمع صفا كقفا وقفى، ومن هذا المعنى الصفواء والصفا، وقد تقدم «1». وقرا سعيد بن المسيب والزهري" صفوان" بتحريك الفاء، وهى لغة. وحكى قطرب صفوان. قال النحاس: صفوان وصفوان يجوز أن يكون جمعا ويجوز أن يكون واحدا، إلا أن الاولى به أن يكون واحدا لقوله عز وجل: (عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ) وإن كان يجوز تذكير الجمع إلا أن الشيء لا يخرج عن بابه إلا بدليل قاطع، فأما ما حكاه الكسائي في الجمع فليس بصحيح على حقيقة النظر، ولكن صفوان جمع صفا، وصفا بمعنى صفوان، ونظيره ورل «2» وورلان واخ وإخوان وكرا وكروان، كما قال الشاعر:
لنا يوم وللكروان يوم ... تطير البائسات ولا نطير
والضعيف في العربية كروان جمع كروان، وصفي وصفي جمع صفا مثل عصا. والوابل: المطر الشديد. وقد وبلت السماء تبل، والأرض موبولة. قال الأخفش: ومنه قوله تعالى:" فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلًا «3»" أي شديدا. وضرب وبيل، وعذاب وبيل أي شديد. والصلد: الأملس من الحجارة. قال الكسائي: صلد يصلد صلدا بتحريك اللام فهو صلد بالإسكان، وهو كل ما لا ينبت شيئا، ومنه جبين أصلد، وأنشد الأصمعي لرؤبة:
براق أصلاد الجبين الأجله «4»

قال النقاش: الاصلد الأجرد بلغة هذيل. ومعنى (لا يَقْدِرُونَ) يعنى المرائى والكافر والمان (عَلى شَيْءٍ) أي على الانتفاع بثواب شي من إنفاقهم وهو كسبهم عند حاجتهم إليه، إذ كان لغير الله، فعبر عن النفقة بالكسب، لأنهم قصدوا بها الكسب. وقيل: ضرب هذا مثلا للمرائي في إبطال ثوابه ولصاحب المن والأذى في إبطال فضله، ذكره الماوردي.
__________
(1). راجع المسألة الثانية ج 2 ص 179.
(2). الورل (بالتحريك): دابة على خلقة الضب إلا أنها أعظم منه تكون في الرمال والصحارى، والعرب تستخبث الورل وتستقذره فلا تأكله.
(3). راجع ج 19 ص 47.
(4). الجله: أشد من الجرح وهو ذهاب الشعر من مقدم الجبين.

وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265)

[سورة البقرة (2): آية 265]
وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265)
قوله تعالى: وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ (" ابْتِغاءَ" مفعول من أجله." وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ" عطف عليه. وقال مكي في المشكل: كلاهما مفعول من أجله. قال ابن عطية: وهو مردود، ولا يصح في" تَثْبِيتاً" أنه مفعول من أجله، لان الإنفاق ليس من أجل التثبيت. و" ابْتِغاءَ" نصب على المصدر في موضع الحال، وكان يتوجه فيه النصب على المفعول من أجله، لكن النصب على المصدر هو الصواب من جهة عطف المصدر الذي هو" تَثْبِيتاً" عليه. ولما ذكر الله تعالى صفة صدقات القوم الذين لا خلاق لصدقاتهم، ونهى المؤمنين عن مواقعة ما يشبه ذلك بوجه ما، عقب في هذه الآية بذكر نفقات القوم الذين تزكو صدقاتهم إذ كانت على وفق الشرع ووجهه. و" ابْتِغاءَ" معناه طلب. و" مَرْضاتِ" مصدر من رضى يرضى." وَتَثْبِيتاً" معناه أنهم يتثبتون أين يضعون صدقاتهم، قال مجاهد والحسن. قال الحسن: كان الرجل إذا هم بصدقة تثبت، فإن كان ذلك لله أمضاه وإن خالطه شك أمسك. وقيل: معناه تصديقا ويقينا، قاله ابن عباس. وقال ابن عباس أيضا وقتادة: معناه واحتسابا من أنفسهم. وقال الشعبي والسدي وقتادة أيضا وابن زيد وأبو صالح وغيرهم:" وَتَثْبِيتاً" معناه وتيقنا أي أن نفوسهم لها بصائر فهي تثبتهم على الإنفاق في طاعة الله تعالى تثبيتا. وهذه الأقوال الثلاث أصوب من قول الحسن ومجاهد، لان المعنى الذي ذهبا إليه إنما عبارته" وَتَثْبِيتاً" مصدر على غير المصدر. قال ابن عطية: وهذا لا يسوغ إلا مع ذكر المصدر والإفصاح بالفعل المتقدم، كقوله تعالى:" وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ «1» نَباتاً"،" وَتَبَتَّلْ «2» إِلَيْهِ تَبْتِيلًا". وأما إذا لم يقع إفصاح بفعل فليس لك أن تأتى بمصدر في غير معناه ثم تقول: أحمله على معنى كذا وكذا، لفعل لم يتقدم له ذكر. قال ابن عطية: هذا مهيع كلام العرب فيما علمته. وقال النحاس:
__________ (1). راجع ج 18 ص 305.
(2). راجع ج 19 ص 42

لو كان كما قال مجاهد لكان وتثبتا من تثبت ككرمت تكرما، وقول قتادة: احتسابا، لا يعرف إلا أن يراد به أن أنفسهم تثبتهم محتسبة، وهذا بعيد. وقول الشعبي حسن، أي تثبيتا من أنفسهم لهم على إنفاق ذلك في طاعة الله عز وجل، يقال: ثبت فلانا في هذا الامر، أي صححت عزمه، وقويت فيه رأيه، أثبته تثبيتا، أي أنفسهم موقنة بوعد الله على تثبيتهم في ذلك. وقيل:" وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ" أي يقرون بأن الله تعالى يثبت عليها، أي وتثبيتا من أنفسهم لثوابها، بخلاف المنافق الذي لا يحتسب الثواب. قوله تعالى: (كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ) الجنة البستان، وهى قطعة أرض تنبت فيها الأشجار حتى تغطيها، فهي مأخوذة من لفظ الجن والجنين لاستتارهم. وقد تقدم. والربوة: المكان المرتفع ارتفاعا يسيرا، معه في الأغلب كثافة تراب، وما كان كذلك فنباته أحسن، ولذلك خص الربوة بالذكر. قال ابن عطية: ورياض الحزن ليست من هذا كما زعم الطبري، بل تلك هي الرياض المنسوبة إلى نجد، لأنها خير من رياض تهامة، ونبات نجد أعطر، ونسيمه أبرد وأرق، ونجد يقال لها حزن. وقلما يصلح هواء تهامة إلا بالليل، ولذلك قالت الاعرابية:" زوجي كليل تهامة". وقال السدى:" بِرَبْوَةٍ" أي برباوة، وهو ما انخفض من الأرض. قال ابن عطية: وهذه عبارة قلقة، ولفظ الربوة هو مأخوذ من ربا يربو إذا زاد. قلت: عبارة السدى ليست بشيء، لان بناء" رب و" معناه الزيادة في كلام العرب، ومنه الربو للنفس العالي. ربا يربو إذا أخذه الربو. وربا الفرس إذا أخذه الربو من عدو أو فزع. وقال الفراء في قوله تعالى:" فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً «1»" أي زائدة، كقولك: أربيت إذا أخذت أكثر مما أعطيت. وربوت في بنى فلان وربيت أي نشأت فيهم. وقال الخليل: الربوة أرض مرتفعة طيبة وخص الله تعالى بالذكر التي لا يجرى فيها ماء من حيث العرف في بلاد العرب، فمثل لهم ما يحسونه ويدركونه. وقال ابن عباس: الربوة المكان المرتفع الذي لا تجرى فيه الأنهار، لان قوله تعالى: (أَصابَها وابِلٌ) إلى آخر الآية يدل على أنها ليس فيها ماء جار، ولم يرد جنس التي تجرى فيها الأنهار، لان الله تعالى قد ذكر ربوة
__________
(1). راجع ج 18 ص 262

ذات قرار ومعين. والمعروف من كلام العرب أن الربوة ما ارتفع عما جاوره سواء جرى فيها ماء أو لم يجر. وفيها خمس لغات" ربوة" بضم الراء، وبها قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي ونافع وأبو عمرو. و" بِرَبْوَةٍ" بفتح الراء، وبها قرأ عاصم وابن عامر والحسن." وربوة" بكسر الراء، وبها قرأ ابن عباس وأبو إسحاق السبيعي. و" رباوة" بالفتح، وبها قرأ أبو جعفر وأبو عبد الرحمن، وقال الشاعر:
من منزلي في روضة برباوة ... بين النخيل إلى بقيع الغرقد
و" رباوة" بالكسر، وبها قرأ الأشهب العقيلي. قال الفراء: ويقال برباوة وبرباوة، وكله من الرابية، وفعله ربا يربو. قوله تعالى: (أَصابَها) يعنى الربوة (وابِلٌ) أي مطر شديد، قال الشاعر «1»:
ما روضة من رياض الحزن معشبة ... خضراء جاد عليها وابل هطل
(فَآتَتْ) أي أعطت. (أُكُلَها) بضم الهمزة: الثمر الذي يؤكل، ومنه قوله تعالى:" تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ «2»". والشيء المأكول من كل شي يقال له أكل. والاكلة: اللقمة، ومنه الحديث:" فإن كان الطعام مشفوها «3» قليلا فليضع «4» في يده منه أكلة أو أكلتين" يعنى لقمة أو لقمتين، خرجه مسلم. وإضافته إلى الجنة إضافة اختصاص، كسرج الفرس وباب الدار. وإلا فليس الثمر مما تأكله الجنة. وقرا نافع، وابن كثير وأبو عمرو" أكلها" بضم الهمزة وسكون الكاف، وكذلك كل مضاف [إلى «5»] مؤنث، وفارقهما أبو عمرو فيما أضيف إلى مذكر مثل أكله أو كان غير مضاف إلى شي مثل" أُكُلٍ خَمْطٍ «6»" فثقل أبو عمرو ذلك وخففاه. وقرا عاصم
__________
(1). هو أعشى ميمون: الذي في ديوانه والطبري واللسان والتاج في (حزن): مسبل هطل. [.....]
(2). راجع ج 9 ص 358.
(3). المشفوه: القليل، وأصله الماء الذي كثرت عليه الشفاه حتى قل. وقيل: أراد فإن كان مكثورا عليه، أي كثرت أكلته. النهاية.
(4). في الأصول:" فليطعمه منه ..." والتصويب عن صحيح مسلم.
(5). الزيادة من أبن عطية لازمة.
(6). راجع ج 14 ص 285

وابن عامر وحمزة والكسائي في جميع ما ذكرناه بالتثقيل. ويقال: أكل واكل بمعنى. (ضِعْفَيْنِ) أي أعطت ضعفى ثمر غيرها من الأرضين. وقال بعض، أهل العلم: حملت مرتين في السنة، والأول أكثر، أي أخرجت من الزرع ما يخرج غيرها في سنتين. قوله تعالى: (فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ) تأكيد منه تعالى لمدح هذه الربوة بأنها إن لم يصبها وابل فإن الطل يكفيها ومنوب مناب الوابل في إخراج الثمرة ضعفين، وذلك لكرم الأرض وطيبها. قال المبرد وغيره: تقديره فطل يكفيها. وقال الزجاج: فالذي يصيبها طل. والطل: المطر الضعيف المستدق من القطر الخفيف، قاله ابن عباس وغيره، وهو مشهور اللغة. وقال قوم منهم مجاهد: الطل: الندى. قال ابن عطية: وهو تجوز وتشبيه. قال النحاس: وحكى أهل اللغة وبلت وأوبلت، وطلت وأطلت. وفى الصحاح: الطل أضعف المطر والجمع الطلال، تقول منه: طلت الأرض وأطلها الندى فهي مطلولة. قال الماوردي: وزرع الطل أضعف من زرع المطر وأقل ريعا، وفية- وإن قل- تماسك ونفع. قال بعضهم: في الآية تقديم وتأخير، ومعناه كمثل جنة بربوة أصابها وابل فإن لم يصبها وابل فطل فآتت أكلها ضعفين. يعنى اخضرت أوراق البستان وخرجت ثمرتها ضعفين. قلت: التأويل الأول أصوب ولا حاجة إلى التقديم والتأخير. فشبه تعالى نمو نفقات هؤلاء المخلصين الذين يربى الله صدقاتهم كتربية الفلو «1» والفصيل بنمو نبات الجنة بالربوة الموصوفة، بخلاف الصفوان الذي انكشف عنه ترابه فبقى صلدا. وخرج مسلم وغيره عن أبى هريرة رضى الله عنه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" لا يتصدق أحد بتمرة من كسب طيب إلا أخذها الله بيمينه فيربيها كما يربى أحدكم فلوه أو فصيله حتى تكون مثل الجبل أو أعظم" خرجه الموطأ أيضا. قوله تعالى: (وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) وعد ووعيد. وقرا الزهري" يعملون" بالياء كأنه يريد به الناس أجمع، أو يريد المنفقين فقط، فهو وعد محض.
__________
(1). الفلو: بضم الفاء وفتحها مع ضم اللام، وبكسرها مع سكون (اللام): المهر الصغير، وقيل: هو العظيم من أولاد ذات الحافر.

أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266)

[سورة البقرة (2): آية 266]
أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266)
قوله تعالى: أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266) قوله تعالى: (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ) الآية. حكى الطبري عن السدى أن هذه الآية مثل آخر لنفقة الرياء، ورجح هو هذا القول. قلت وروى عن ابن عباس أيضا قال: هذا مثل ضربه الله للمرائين بالأعمال يبطلها يوم القيامة أحوج ما كان إليها، كمثل رجل كانت له جنة وله أطفال لا ينفعونه فكبر وأصاب الجنة إعصار أي ريح عاصف فيه نار فاحترقت ففقدها أحوج ما كان إليها. وحكى عن ابن زيد أنه قرأ قول الله تعالى:" يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى " الآية، قال: ثم ضرب في ذلك مثلا فقال:" أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ" الآية. قال ابن عطية: وهذا أبين من الذي رجح الطبري، وليست هذه الآية بمثل آخر لنفقة الرياء، هذا هو مقتضى سياق الكلام. وأما بالمعنى في غير هذا السياق فتشبه حال كل منافق أو كافر عمل عملا وهو يحسب أنه يحسن صنعا فلما جاء إلى وقت الحاجة لم يجد شيئا. قلت: قد روى عن ابن عباس أنها مثل لمن عمل لغير الله من منافق وكافر على ما يأتي، إلا أن الذي ثبت في البخاري عنه خلاف هذا. خرج البخاري عن عبيد بن عمير قال قال عمر بن الخطاب يوما لأصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فيم ترون هذه الآية نزلت" أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ"؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، فغضب عمر وقال: قولوا: نعلم أو لا تعلم! فقال ابن عباس: في نفسي منها شي يا أمير المؤمنين، قال: يا بن أخى قل ولا تحقر نفسك، قال ابن عباس: ضربت مثلا لعمل. قال عمر: أي عمل؟ قال ابن عباس: لعمل رجل غنى يعمل بطاعة الله ثم الله عز وجل له الشيطان فعمل

في المعاصي حتى أحرق عمله. في رواية: فإذا فنى عمره واقترب أجله ختم ذلك بعمل من أعمال الشقاء، فرضي ذلك عمر. وروى ابن أبى مليكة أن عمر تلا هذه الآية. وقال: هذا مثل ضرب للإنسان يعمل عملا صالحا حتى إذا كان عند آخر عمره أحوج ما يكون إليه عمل عمل السوء. قال ابن عطية: فهذا نظر يحمل الآية على كل ما يدخل تحت ألفاظها، وبنحو ذلك قال مجاهد وقتادة والربيع وغيرهم. وخص النخيل والأعناب بالذكر لشرفهما وفضلهما على سائر الشجر. وقرا الحسن" جنات" بالجمع. (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) تقدم ذكره. (لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) يريد ليس شي من الثمار إلا وهو فيها نابت. قوله تعالى: (وَأَصابَهُ الْكِبَرُ) عطف ماضيا على مستقبل وهو" تَكُونَ" وقيل:" يَوَدُّ" فقيل: التقدير وقد أصابه الكبر. وقيل إنه محمول على المعنى، لان المعنى أيود أحدكم أن لو كانت له جنة. وقيل: الواو واو الحال، وكذا في قوله تعالى" وَلَهُ". قوله تعالى: (فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ) قال الحسن:" إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ" ريح فيها برد شديد. الزجاج: الاعصار في اللغة الريح الشديدة التي تهب من الأرض إلى السماء كالعمود، وهى التي يقال لها: الزوبعة. قال الجوهري: الزوبعة رئيس من رؤساء الجن، ومنه سمى الاعصار زوبعة. ويقال: أم زوبعة، وهى ريح تثير الغبار وترتفع إلى السماء كأنها عمود. وقيل: الاعصار ريح تثير سحابا ذا رعد وبرق. المهدوي: قيل لها إعصار لأنها تلتف كالثوب إذا عصر. ابن عطية: وهذا ضعيف. قلت: بل هو صحيح، لأنه المشاهد المحسوس، فإنه يصعد عمودا ملتفا. وقيل: إنما قيل للريح إعصار، لأنه يعصر السحاب، والسحاب معصرات إما لأنها حوامل فهي كالمعصر «1» من النساء. وإما لأنها تنعصر بالرياح. وحكى ابن سيده: إن المعصرات فسرها قوم بالرياح لا بالسحاب. ابن زيد: الاعصار ريح عاصف وسموم شديدة، وكذلك قال السدى: الاعصار الريح والنار السموم. ابن عباس: ريح فيها سموم شديدة. قال ابن عطية: ويكون
__________
(1). المعصر: التي هي عرضة للحمل من النساء.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267)

ذلك في شدة الحر ويكون في شدة البرد، وكل ذلك من فيح «1» جهنم ونفسها، كما تضمن قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" إذا اشتد الحر فأبردوا عن الصلاة فإن شدة الحر من فيح جهنم" و" إن النار اشتكت إلى ربها" الحديث. وروى عن ابن عباس وغيره: إن هذا مثل ضربه الله تعالى للكافرين والمنافقين، كهيئة رجل غرس بستانا فأكثر فيه من الثمر فأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء- يريد صبيانا بنات وغلمانا- فكانت معيشته ومعيشة ذريته من ذلك البستان، فأرسل الله على بستانه ريحا فيها نار فأحرقته، ولم يكن عنده قوة فيغرسه ثانية، ولم يكن عند بنيه خير فيعودون على أبيهم. وكذلك الكافر والمنافق إذا ورد إلى الله تعالى يوم القيامة ليست له كرة يبعث فيرد ثانية، كما ليست عند هذا قوة فيغرس بستانه ثانية، ولم يكن عنده من افتقر إليه عند كبر سنه وضعف ذريته غنى عنه. (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) يريد كي ترجعوا إلى عظمتي وربوبيتي ولا تتخذوا من دوني أولياء. وقال ابن عباس أيضا: تتفكرون في زوال الدنيا وفنائها وإقبال الآخرة وبقائها.

[سورة البقرة (2): آية 267]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267) فيه إحدى عشر مسألة: الاولى- قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا) هذا خطاب لجميع أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. واختلف العلماء في المعنى المراد بالإنفاق هنا، فقال على بن أبى طالب وعبيدة السلماني وابن سيرين: هي الزكاة المفروضة، نهى الناس عن إنفاق الرديء فيها بدل الجيد. قال ابن عطية: والظاهر من قول البراء بن عازب والحسن وقتادة أن الآية في التطوع، ندبوا إلى
__________
(1). الفيح: سطوح الحر وفورانه

ألا يتطوعوا إلا بمختار جيد. والآية تعم الوجهين، لكن صاحب الزكاة تعلق بأنها مأمور بها والامر على الوجوب، وبأنه نهى عن الرديء وذلك مخصوص بالفرض، وأما التطوع فكما للمرء أن يتطوع بالقليل فكذلك له أن يتطوع بنازل في القدر، ودرهم خير من تمرة. تمسك أصحاب الندب بأن لفظة افعل صالح للندب صلاحيته للفرض، والرديء منهى عنه في النقل كما هو منهى عنه في الفرض، والله أحق من اختير له. وروى البراء أن رجلا علق قنو «1» حشف، فرآه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال:" بئسما علق" فنزلت الآية، خرجه الترمذي وسيأتي بكماله. والامر على هذا القول على الندب، ندبوا إلى ألا يتطوعوا إلا بجيد مختار. وجمهور المتأولين قالوا: معنى" مِنْ طَيِّباتِ" من جيد ومختار" ما كَسَبْتُمْ". وقال ابن زيد: من حلال ما كسبتم. الثانية الكسب يكون بتعب بدن وهى الإجارة وسيأتي حكمها، أو مقاولة في تجارة وهو البيع وسيأتي بيانه. والميراث داخل في هذا، لان غير الوارث قد كسبه. قال سهل بن عبد الله: وسيل ابن المبارك عن الرجل يريد أن يكتسب وينوي باكتسابه أن يصل به الرحم وأن يجاهد ويعمل الخيرات ويدخل في آفات الكسب لهذا الشأن. قال: إن كان معه قوام من العيش بمقدار ما يكف «2» نفسه عن الناس فترك هذا أفضل، لأنه إذا طلب حلالا وأنفق في حلال سئل عنه وعن وكسبه وعن إنفاقه، وترك ذلك زهد فإن الزهد في ترك الحلال. الثالثة- قال ابن خويز منداد: ولهذه الآية جاز للوالد أن يأكل من كسب ولده، وذلك أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:" أولادكم من طيب أكسابكم فكلوا من أموال أولادكم هنيئا". الرابعة- قوله تعالى: (وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) يعنى النبات والمعادن والركاز، وهذه أبواب ثلاثة تضمنتها هذه الآية. أما النبات فروى الدارقطني عن عائشة رضى الله عنها قالت: جرت السنة من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" ليس فيما دون خمسة
__________
(1). القنو: العذق وهو عنقود النخلة: الشماريخ مثمرة. والحشف: التمر يجف قبل النضج فيكون رديئا وليس له لحم.
(2). في ج وب: يكفى.

أوسق زكاة". والوسق ستون صاعا، فذلك ثلاثمائة صاع من الحنطة والشعير والتمر والزبيب. وليس فيما أنبتت الأرض من الحضر زكاة. وقد أحتج قوم لابي حنيفة بقول الله تعالى:" وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ" وإن ذلك عموم في قليل ما تخرجه الأرض وكثيره وفى سائر الأصناف، ورأوا ظاهر الامر الوجوب. وسيأتي بيان هذا في" الانعام «1»" مستوفى. وأما المعدن فروى الأئمة عن أبى هريرة عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال:" العجماء «2» جرحها جبار والبئر جبار والمعدن جبار وفى الركاز الخمس". قال علماؤنا: لما قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" وفى الركاز الخمس" دل على أن الحكم في المعادن غير الحكم في الركاز، لأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد فصل بين المعادن والركاز بالواو الفاصلة، ولو كان الحكم فيهما سواء لقال والمعدن جبار وفية الخمس، فلما قال" وفى الركاز الخمس" علم أن حكم الركاز غير حكم المعدن فيما يؤخذ منه، والله أعلم. والركاز أصله في اللغة ما ارتكز بالأرض من الذهب والفضة والجواهر، وهو عند سائر الفقهاء كذلك، لأنهم يقولون في «3» الندرة التي توجد في المعدن مرتكزة بالأرض لا تنال بعمل ولا بسعي ولا نصب، فيها الخمس، لأنها ركاز. وقد روى عن مالك أن الندرة في المعدن حكمها حكم ما يتكلف فيه العمل مما يستخرج من المعدن في الركاز، والأول تحصيل مذهبه وعليه فتوى جمهور الفقهاء. وروى بعد الله بن سعيد بن أبى سعيد المقبري عن أبيه عن جده عن أبى هريرة قال: سئل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الركاز قال:" الذهب الذي خلق الله في الأرض يوم خلق السموات والأرض". عبد الله بن سعيد هذا متروك الحديث، ذكر ذلك ابن أبى حاتم. وقد روى من طريق أخرى عن أبى هريرة ولا يصح، ذكره الدارقطني. ودفن «4» الجاهلية لأموالهم عند جماعة العلماء ركاز أيضا لا يختلفون فيه إذا كان
__________
(1). راجع ج 7 ص 47.
(2). العجماء: البهيمة، وجبار: هدر. والمعدن: المكان من الأرض يخرج منه شي من الجواهر والأجساد كالذهب والفضة والحديد والنحاس والرصاص والكبريت وغيرها، من عدن بالمكان إذا أقام به. ومعنى الحديث أن تنقلت البهيمة فتصيب من انفلاتها إنسانا أو شيئا فجرحها هدر، وكذلك البئر العادية يسقط فيها إنسان فيهلك فدمه هدر، والمعدن إذا انهار على من يحفره فقتله فدمه هدر. راجع معاجم اللغة وكتب السنة.
(3). الندرة (بفتح فسكون): القطعة من الذهب والفضة توجد في المعدن.
(4). في هـ: دفين. [.....]

دفنه قبل الإسلام من الأموال العادية، وأما ما كان من ضرب الإسلام فحكمه عندهم حكم اللقطة. الخامسة- واختلفوا في حكم الركاز إذا وجد، فقال مالك: ما وجد من دفن الجاهلية في أرض العرب أوفى فيافي الأرض التي ملكها المسلمون بغير حرب فهو لواجده وفية الخمس، وأما ما كان في أرض الإسلام فهو كاللقطة. قال: وما وجد من ذلك في أرض العنوة فهو للجماعة الذين افتتحوها دون واجده، وما وجد من ذلك في أرض الصلح فإنه لأهل تلك البلاد دون الناس، ولا شي للواجد فيه إلا أن يكون من أهل الدار فهو له دونهم. وقيل: بل هو لجملة أهل الصلح. قال إسماعيل: وإنما حكم للركاز بحكم الغنيمة لأنه مال كافر وجده مسلم فأنزل منزلة من قاتله واخذ ماله، فكان له أربعة أخماسه. وقال ابن القاسم: كان مالك يقول في العروض والجواهر والحديد والرصاص ونحوه يوجد ركازا: إن فيه الخمس ثم رجع فقال: لا أرى فيه شيئا، ثم آخر ما فارقناه أن قال: فيه الخمس. وهو الصحيح لعموم الحديث وعليه جمهور الفقهاء. وقال أبو حنيفة ومحمد في الركاز يوجد في الدار: إنه لصاحب الدار دون الواجد وفية الخمس. وخالفه أبو يوسف فقال: إنه للواجد دون صاحب الدار، وهو قول الثوري: وإن وجد في الفلاة فهو للواجد في قولهم جميعا وفية الخمس. ولا فرق عندهم بين أرض الصلح وأرض العنوة، وسواء عندهم أرض العرب وغيرها، وجائز عندهم لواجده أن يحتبس الخمس لنفسه إذا كان محتاجا وله أن يعطيه للمساكين. ومن أهل المدينة وأصحاب مالك من لا يفرق بين شي من ذلك وقالوا: سواء وجد الركاز في أرض العنوة أو في أرض الصلح أو أرض العرب أو أرض الحرب إذا لم يكن ملكا لاحد ولم يدعه أحد فهو لواجده وفية الخمس على عموم ظاهر الحديث، وهو قول الليث وعبد الله بن نافع والشافعي وأكثر أهل العلم. السادسة- وأما ما يوجد من المعادن ويخرج منها فاختلف فيه، فقال مالك وأصحابه: لا شي فيما يخرج من المعادن من ذهب أو فضة حتى يكون عشرين مثقالا ذهبا أو خمس

أواق فضة، فإذا بلغتا هذا المقدار وجبت فيهما الزكاة، وما زاد فبحساب ذلك ما دام في المعدن نيل، فإن انقطع ثم جاء بعد ذلك نيل آخر فإنه تبتدأ فيه الزكاة مكانه. والركاز عندهم بمنزلة الزرع تؤخذ منه الزكاة في حينه ولا ينتظر به حولا. قال سحنون في رجل له معادن: إنه لا يضم ما في واحد منها إلى غيرها ولا يزكى إلا عن مائتي درهم أو عشرين دينارا في كل واحد. وقال محمد بن مسلمة: يضم بعضها إلى بعض ويزكى الجميع كالزرع. وقال أبو حنيفة وأصحابه: المعدن كالركاز، فما وجد في المعدن من ذهب أو فضة بعد إخراج الخمس اعتبر كل واحد منهما، فمن حصل بيده ما تجب فيه الزكاة زكاه لتمام الحول إن أتى عليه حول وهو نصاب عنده، هذا إذا لم يكن عنده ذهب أو فضة وجبت فيه الزكاة. فإن كان عنده من ذلك ما تجب فيه الزكاة ضمه إلى ذلك وزكاه. وكذلك عندهم كل فائدة تضم في الحول إلى النصاب من جنسها وتزكى لحول الأصل، وهو قول الثوري. وذكر المزني عن الشافعي قال: وأما الذي أنا واقف فيه فما يخرج من المعادن. قال المزني: الاولى به على أصله أن يكون ما يخرج من المعدن فائدة يزكى بحوله بعد إخراجه. وقال الليث بن سعد: ما يخرج من المعادن من الذهب والفضة فهو بمنزلة الفائدة يستأنف به حولا، وهو قول الشافعي فيما حصله المزني من مذهبه، وقال به داود وأصحابه إذا حال عليها الحول عند مالك صحيح الملك لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" من استفاد مالا فلا زكاة عليه حتى يحول عليه الحول" أخرجه الترمذي والدارقطني. واحتجوا أيضا بما رواه عبد الرحمن بن أنعم عن أبى سعيد الخدري أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعطى قوما من المؤلفة قلوبهم ذهيبة «1» في تربتها، بعثها على رضى الله عنه من اليمن. قال الشافعي: والمؤلفة قلوبهم حقهم في الزكاة، فتبين بذلك أن المعادن سنتها سنة الزكاة. وحجة مالك حديث عن ربيعة بن أبى عبد الرحمن أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أقطع بلال بن الحارث المعادن القبلية «2» وهى من ناحية الفرع، «3» فتلك المعادن لا يؤخذ منها إلى
اليوم إلا الزكاة. وهذا
__________
(1). هي تصغير ذهب، وأدخل الهاء فيها لان الذهب يؤنث، والمؤنث الثلاثي إذا صغر ألحق في تصغيره الهاء نحو شمسية. وقيل: على نية القطعة منها فصغرها على لفظها.
(2). القبلية (بالتحريك): منسوبة إلى قبل موضع من ساحل البحر على خمسة أيام من المدينة. والفرع (بضم فسكون): قرية من نواحي الربذة عن يسار السقيا بينها وبين المدينة ثمانية برد على طريق مكة، وقيل أربع ليال، بها منبر ونخل ومياه كثيرة.
(3). القبلية (بالتحريك): منسوبة إلى قبل موضع من ساحل البحر على خمسة أيام من المدينة. والفرع (بضم فسكون): قرية من نواحي الربذة عن يسار السقيا بينها وبين المدينة ثمانية برد على طريق مكة، وقيل أربع ليال، بها منبر ونخل ومياه كثيرة.

حديث منقطع الاسناد لا يحتج بمثله أهل الحديث، ولكنه عمل يعمل به عندهم في المدينة. ورواه الدراوردي عن ربيعة عن الحارث بن بلال المزني عن أبيه. ذكره البزار، ورواه كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه أقطع بلال بن الحارث المعادن القبلية جلسيها وغوريها «1». وحيث يصلح للزرع من قدس «2» ولم يعطه حق مسلم، ذكره البزار أيضا، وكثير مجمع على ضعفه. هذا حكم ما أخرجته الأرض، وسيأتي في سورة" النحل" حكم ما أخرجه البحر إذ هو قسيم الأرض «3». ويأتي في" الأنبياء" معنى قوله عليه السلام:" العجماء جرحها جبار «4»" كل في موضعه إن شاء الله تعالى. السابعة- قوله تعالى: (وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ) تيمموا معناه تقصدوا، وستأتي الشواهد من أشعار العرب في أن التيمم القصد في" النساء «5»" إن شاء الله تعالى. ودلت الآية على أن المكاسب فيها طيب وخبيث. وروى النسائي عن أبى أمامة بن سهل ابن حنيف في الآية التي قال الله تعالى فيها:" وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ" قال: هو الجعرور ولون حبيق «6»، فنهى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يؤخذا في الصدقة. وروى الدارقطني عن أبى أمامة بن سهل بن حنيف عن أبيه قال: أمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بصدقة فجاء رجل من هذا السحل «7» بكبائس- قال سفيان: يعنى الشيص- فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" من جاء بهذا"؟! وكان لا يجئ أحد بشيء إلا نسب إلى الذي جاء به. فنزلت:" وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ". قال: ونهى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الجعرور ولون الحبيق أن يؤخذا في الصدقة- قال الزهري: لونين من
__________
(1). الجلس (بفتح فسكون): كل مرتفع من الأرض. والغور: ما انخفض منها.
(2). القدس (بضم القاف وسكون الدال): جبل معروف. وقيل: هو الموضع المرتفع الذي يصلح للزراعة.
(3). راجع ج 10 ص 85.
(4). راجع ج 11 ص 315.
(5). راجع ج 5 ص 231.
(6). الجعرور (بضم الجيم وسكون العين وراء مكررة): ضرب ردئ من التمر يحمل رطبا صغارا لا خير فيه. وحبيق (بضم الحاء المهملة وفتح الباء): نوع ردئ من التمر منسوب إلى ابن حبيق وهو اسم رجل.
(7). السحل (بضم السين وفتح الحاء مشددة): الرطب الذي لم يتم إدراكه وقوته.

تمر المدينة- وأخرجه الترمذي من حديث البراء وصححه، وسيأتي. وحكى الطبري والنحاس أن في قراءة عبد الله" ولا تأمموا" وهما لغتان. وقرا مسلم بن جندب" ولا تيمموا" بضم التاء وكسر الميم. وقرا ابن كثير" تيمموا" بتشديد التاء. وفى اللفظة لغات، منها" أممت الشيء" مخففة الميم الاولى و" أممته" بشدها، و" يممته وتيممته". وحكى أبو عمرو أن ابن مسعود قرأ" ولا تؤمموا" بهمزة بعد التاء المضمومة. الثامنة- قوله تعالى: (مِنْهُ تُنْفِقُونَ) قال الجرجاني في كتاب" نظم القرآن": قال فريق من الناس: إن الكلام تم في قوله تعالى" الْخَبِيثَ" ثم ابتدأ خبرا آخر في وصف الخبيث فقال:" مِنْهُ تُنْفِقُونَ" وأنتم لا تأخذونه إلا إذا أغمضتم أي تساهلتم، كأن هذا المعنى عتاب للناس وتقريع. والضمير في" مِنْهُ" عائد على الخبيث وهو الدون والرديء. قال الجرجاني: وقال فريق آخر: الكلام متصل إلى قوله" مِنْهُ"، فالضمير في" مِنْهُ" عائد على" ما كَسَبْتُمْ" ويجيء" تُنْفِقُونَ" كأنه في موضع نصب على الحال، وهو كقولك: أنا أخرج أجاهد في سبيل الله. التاسعة- قوله تعالى: (وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ) أي لستم بآخذيه في ديونكم وحقوقكم من الناس إلا أن تتساهلوا في ذلك وتتركوا من حقوقكم، وتكرهونه ولا ترضونه. أي فلا تفعلوا مع الله مالا ترضونه لأنفسكم، قال معناه البراء بن عازب وابن عباس والضحاك. وقال الحسن: معنى الآية: ولستم بآخذيه ولو وجدتموه في السوق يباع إلا أن يهضم لكم من ثمنه. وروى نحوه عن على رضى الله عنه. قال ابن عطية: وهذان القولان يشبهان كون الآية في الزكاة الواجبة. قال ابن العربي: لو كانت في الفرض لما قال" وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ" لان الرديء والمعيب لا يجوز أخذه في الفرض بحال، لا مع تقدير الإغماض ولا مع عدمه، وإنما يؤخذ مع عدم إغماض في النقل. وقال البراء بن عازب أيضا معناه:" وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ" لو أهدى لكم" إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ" أي تستحي من المهدى فتقبل منه ما لا حاجة لك به ولا قدر له في نفسه. قال ابن عطية: وهذا يشبه كون الآية في التطوع. وقال ابن زيد: ولستم بآخذي الحرام إلا أن تغمضوا في مكروهه.

العاشرة- قوله تعالى: (إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ) كذا قراءة الجمهور، من أغمض الرجل في أمر كذا إذا تساهل فيه ورضى ببعض حقه وتجاوز، ومن ذلك قول الطرماح:
لم يفتنا بالوتر قوم وللذ ... ل أناس يرضون بالإغماض
وقد يحتمل أن يكون منتزعا إما من تغميض العين، لان الذي يريد الصبر على مكروه يغمض عينيه- قال:
إلى كم وكم أشياء منك تريبني ... أغمض عنها لست عنها بذي عمى
وهذا كالاغضاء عند المكروه. وقد ذكر النقاش هذا المعنى في هذه الآية- وأشار إليه مكي- وإما من قول العرب: أغمض الرجل إذا أتى غامضا من الامر، كما تقول: أعمن أي أتى عمان، وأعرق أي أتى العراق، وأنجد وأغور أي أتى نجدا والغور الذي هو تهامة، أي فهو يطلب التأويل على أخذه. وقرا الزهري بفتح التاء وكسر الميم مخففا، وعنه أيضا." تغمضوا" بضم التاء وفتح الغين وكسر الميم وشدها. فالأولى على معنى تهضموا سومها من البائع منكم فيحطكم. والثانية، وهى قراءة قتادة فيما ذكر النحاس، أي تأخذوا بنقصان. وقال أبو عمرو الداني: معنى قراءتي «1» الزهري حتى تأخذوا بنقصان. وحكى مكي عن الحسن" إلا أن تغمضوا" مشددة الميم مفتوحة. وقرا قتادة أيضا" تغمضوا" بضم التاء وسكون الغين وفتح الميم مخففا. قال أبو عمرو الداني: معناه إلا أن يغمض لكم، وحكاه النحاس عن قتادة نفسه. وقال ابن جنى: معناها توجدوا قد غمضتم في الامر بتأولكم أو بتساهلكم وجريتم على غير السابق إلى النفوس. وهذا كما تقول: أحمدت الرجل وجدته محمودا، إلى غير ذلك من الأمثلة. قال ابن عطية: وقراءة الجمهور تخرج على التجاوز وعلى تغميض العين، لان أغمض بمنزلة غمض. وعلى أنها بمعنى حتى تأتوا غامضا من التأويل والنظر في أخذ ذلك، إما لكونه حراما على قول ابن زيد، وإما لكونه مهدى أو مأخوذا في دين على قول غيره.
__________
(1). في ب وج.

الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268)

وقال المهدوي: ومن قرأ" تُغْمِضُوا" فالمعنى تغمضون أعين بصائركم عن أخذه. قال الجوهري: وغمضت عن فولان إذا تساهلت عليه في بيع أو شراء وأغمضت، وقال تعالى:" وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ". يقال: أغمض لي فيما بعتني، كأنك تريد الزيادة منه لرداءته والحط من ثمنه. و" أن" في موضع نصب، والتقدير إلا بأن. الحادية عشرة- قوله تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) نبه سبحانه وتعالى على صفة الغنى، أي لا حاجة به إلى صدقاتكم، فمن تقرب وطلب مثوبة فليفعل ذلك بماله قدر وبال، فإنما يقدم لنفسه. و" حَمِيدٌ" معناه محمود في كل حال. وقد أتينا على معاني هذين الاسمين في" الكتاب الأسنى" والحمد لله. قال الزجاج في قوله:" وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ": أي لم يأمركم أن تصدقوا من عوز ولكنه بلا أخباركم فهو حميد على ذلك على جميع نعمه.

[سورة البقرة (2): آية 268]
الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (268)
فيه ثلاث مسائل: الاولى: قوله تعالى: (الشَّيْطانُ) تقدم معنى الشيطان واشتقاقه فلا معنى لإعادته «1». و" يَعِدُكُمُ" معناه يخوفكم" الْفَقْرَ" أي بالفقر لئلا تنفقوا. فهذه الآية متصلة بما قبل، وأن الشيطان له مدخل في التثبيط للإنسان عن الإنفاق في سبيل الله، وهو مع ذلك يأمر بالفحشاء وهى المعاصي والإنفاق فيها. وقيل: أي «2» بأن لا تتصدقوا فتعصوا وتتقاطعوا. وقرى" الفقر" بضم الفاء وهى لغة. قال الجوهري: والفقر لغة في الفقر، مثل الضعف والضعف. الثانية- قوله تعالى: (وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا) الوعد في كلام العرب إذا أطلق فهو في الخير، وإذا قيد بالموعود ما هو فقد يقدر بالخير وبالشر كالبشارة. فهذه الآية مما يقيد فيها الوعد بالمعنيين جميعا. قال ابن عباس: في هذه الآية اثنتان من الله تعالى واثنتان من الشيطان. وروى الترمذي عن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله، صلى الله
__________
(1). راجع المسألة العاشرة ج 1 ص 90.
(2). في ب.

يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269)

عليه وسلم:" إن للشيطان لمة «1» بابن آدم وللملك لمة فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله، ومن وجد الأخرى فليتعوذ بالله من الشيطان- ثم قرأ- الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ". قال: هذا حديث حسن صحيح «2». ويجوز في غير القرآن" ويأمركم الفحشاء" بحذف الباء، وأنشد سيبويه:
أمرتك الخير فافعل ما أمرت به ... فقد تركتك ذا مال وذا نشب
والمغفرة هي الستر على عباده في الدنيا والآخرة. والفضل هو الرزق في الدنيا والتوسعة والنعيم في الآخرة، وبكل قد وعد الله تعالى. الثالثة- ذكر النقاش أن بعض الناس تأنس بهذه الآية في أن الفقر أفضل من الغنى، لان الشيطان إنما يبعد العبد من الخير، وهو بتخويفه الفقر يبعد منه. قال ابن عطية: وليس في الآية حجة قاطعة بل المعارضة بها قوية. وروى أن في التوراة" عبدى أنفق من رزقي أبسط عليك فضلي فإن يدي مبسوطة على كل يد مبسوطة". وفى القرآن مصداقه وهو قوله:" وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ «3»". ذكره ابن عباس. (وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) تقدم معناه «4». والمراد هنا أنه سبحانه وتعالى يعطى من سعة ويعلم حيث يضع ذلك، ويعلم الغيب والشهادة. وهما اسمان من أسمائه ذكرناهما في جملة الأسماء في" الكتاب الأسنى" والحمد لله.

[سورة البقرة (2): آية 269]
يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (269)
__________ (1). اللمة (بفتح اللام): الهمة والخطرة تقع في القلب. أراد إلمام الملك أو الشيطان به والقرب منه، فما كان من خطوات الخير فهو من الملك، وما كان من خطرات الشر فهو من الشيطان. (عن نهاية ابن الأثير). [.....]
(2). كذا في الأصول. والذي في سنن الترمذي:" ... حسن غريب".
(3). راجع ج 14 ص 307.
(4). راجع المسألة الخامسة ج 2 ص 84

قوله تعالى: (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ) أي يعطيها لمن يشاء من عباده. وأختلف العلماء في الحكمة هنا، فقال السدى: هي النبوة. ابن عباس: هي المعرفة بالقرآن فقهه ونسخه ومحكمه ومتشابهه وغريبه ومقدمه ومؤخره. وقال قتادة ومجاهد: الحكمة هي الفقه في القرآن. وقال مجاهد: الإصابة في القول والفعل. وقال ابن زيد: الحكمة العقل في الدين. وقال مالك بن أنس: الحكمة المعرفة بدين الله والفقه فيه والاتباع له. وروى عنه ابن القاسم أنه قال: الحكمة التفكر في أمر الله والاتباع له. وقال أيضا: الحكمة طاعة الله والفقه في الدين والعمل به. وقال الربيع بن أنس: الحكمة الخشية. وقال إبراهيم النخعي: الحكمة الفهم في القرآن، وقاله زيد بن أسلم. وقال الحسن: الحكمة الورع. قلت: وهذه الأقوال كلها ما عدا قول السدى والربيع والحسن قريب بعضها من بعض، لان الحكمة مصدر من الأحكام وهو الإتقان في قول أو فعل، فكل ما ذكر فهو نوع من الحكمة التي هي الجنس، فكتاب الله حكمة، وسنة نبيه حكمة، وكل ما ذكر من التفضيل فهو حكمة. واصل الحكمة ما يمتنع به من السفه، فقيل للعلم حكمة، لأنه يمتنع به، وبه يعلم الامتناع من السفه وهو كل فعل قبيح، وكذا القرآن والعقل والفهم. وفى البخاري:" من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين" وقال هنا:" وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً" وكرر ذكر الحكمة ولم يضمرها اعتناء بها، وتنبيها على شرفها وفضلها حسب ما تقدم بيانه عند قوله تعالى:" فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا «1»". وذكر الدارمي أبو محمد في مسنده: حدثنا مروان بن محمد حدثنا رفدة الغساني قال أخبرنا ثابت بن عجلان الأنصاري قال: كان يقال: إن الله ليريد العذاب بأهل الأرض فإذا سمع تعليم المعلم الصبيان الحكمة صرف ذلك عنهم. قال مروان: يعنى بالحكمة القرآن. قوله تعالى: (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) يقال: إن من أعطى الحكمة والقرآن فقد أعطى أفضل ما أعطى من جمع علم كتب الأولين
__________
(1). راجع المسألة الثالثة ج 1 ص 416

وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (270)

من الصحف وغيرها، لأنه قال لأولئك:" وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا «1»". وسمي هذا خيرا كثيرا، لان هذا هو جوامع الكلم. وقال بعض الحكماء: من أعطى العلم والقرآن ينبغي أن يعرف نفسه، ولا يتواضع لأهل الدنيا لأجل دنياهم، فإنما أعطى أفضل ما أعطى أصحاب الدنيا، لان الله تعالى سمى الدنيا متاعا قليلا فقال:" قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ" «2» وسمي العلم والقرآن" خَيْراً كَثِيراً". وقرا الجمهور" وَمَنْ يُؤْتَ" على بناء الفعل للمفعول. وقرا الزهري ويعقوب" ومن يؤت" بكسر التاء على معنى ومن يؤت الله الحكمة، فالفاعل اسم الله عز وجل. و" من" مفعول أول مقدم، والحكمة مفعول ثان. والألباب: العقول، واحدها لب وقد تقدم «3».

[سورة البقرة (2): آية 270]
وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (270)
شرط وجوابه، وكانت النذور من سيرة العرب تكثر منها، فذكر الله تعالى النوعين، ما يفعله المرء متبرعا، وما يفعله بعد إلزامه لنفسه. وفى الآية معنى الوعد والوعيد، أي من كان خالص النية فهو مثاب، ومن أنفق رياء أو لمعنى آخر مما يكسبه المن والأذى ونحو ذلك فهو ظالم، يذهب فعله باطلا ولا يجد له ناصرا فيه. ومعنى" يَعْلَمُهُ" يحصيه، قاله مجاهد. ووحد الضمير وقد ذكر شيئين، فقال النحاس: التقدير (وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ) فإن الله يعلمها، (أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ) ثم حذف. ويجوز أن يكون التقدير: وما أنفقتم فإن الله يعلمه وتعود الهاء على" ما" كما أنشد سيبويه [لامرئ القيس «4»]:
فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها ... لما نسجتها من جنوب وشمال «5»
ويكون" أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ" معطوفا عليه. قال ابن عطية: ووحد الضمير في" يَعْلَمُهُ" وقد ذكر شيئين من حيث أراد ما ذكر أو نص.
__________
(1). راجع ج 10 ص 323.
(2). راجع ج 5 ص 281.
(3). راجع المسألة الرابعة عشرة ج 2 ص 412.
(4). الزيادة في ب.
(5). وتوضح والمقراة: موضعان، وهما عطف على" حومل" في البيت قبلة.

إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271)

قلت: وهذا حسن: فإن الضمير قد يراد به جميع المذكور وإن كثر. والنذر حقيقة العبارة عنه أن تقول: هو ما أوجبه المكلف على نفسه من العبادات مما لو لم يوجبه لم يلزمه، تقول: نذر الرجل كذا إذا التزم فعله، ينذر (بضم الذال) وينذر (بكسرها). وله أحكام يأتي بيانها في غير هذا الوضع إن شاء الله تعالى «1».

[سورة البقرة (2): آية 271]
إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271)
ذهب جمهور المفسرين إلى أن هذه الآية في صدقة التطوع، لان الإخفاء فيها أفضل من الإظهار، وكذلك سائر العبادات الإخفاء أفضل في تطوعها لانتفاء الرياء عنها، وليس كذلك الواجبات. قال الحسن: إظهار الزكاة أحسن، وإخفاء التطوع أفضل، لأنه أدل على أنه يراد الله عز وجل به وحده. قال ابن عباس: جعل الله صدقة السر في التطوع تفضل علانيتها يقال بسبعين ضعفا، وجعل صدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها يقال بخمسة وعشرين ضعفا. قال: وكذلك جميع الفرائض والنوافل في الأشياء كلها. قلت: مثل هذا لا يقال من جهة الرأى وإنما هو توقيف، وفى صحيح مسلم عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال:" أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة «2»" وذلك أن الفرائض لا يدخلها رياء والنوافل عرضة لذلك. وروى النسائي عن عقبة بن عامر أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:" إن الذي يجهر بالقرآن كالذي يجهر بالصدقة والذي يسر بالقرآن كالذي يسر بالصدقة". وفى الحديث:" صدقة السر تطفئ غضب الرب". قال ابن العربي:" وليس في تفضيل صدقة العلانية على السر، ولا تفضيل صدقة السر على العلانية حديث صحيح ولكنه الإجماع الثابت، فأما صدقة النفل فالقرآن ورد مصرحا
__________
(1). راجع ج 19 ص 125.
(2). عبارة مسلم كما في صحيحه" ... فإن خير صلاة المرء في بيته إلا الصلاة المكتوبة".

بأنها في السر أفضل منها في الجهر، بيد أن علماءنا قالوا: إن هذا على الغالب مخرجه، والتحقيق فيه أن الحال [في الصدقة «1»] تختلف بحال المعطى [لها «2»] والمعطى إياها والناس الشاهدين [لها «3»]. أما المعطى فله فيها فائدة إظهار السنة وثواب القدوة. قلت: هذا لمن قويت حاله وحسنت نيته وأمن على نفسه الرياء، وأما من ضعف عن هذه المرتبة فالسر له أفضل. وأما المعطى إياها فإن السر له أسلم من احتقار الناس له، أو نسبته إلى أنه أخذها مع الغنى عنها وترك التعفف، وأما حال الناس فالسر عنهم أفضل من العلانية لهم، من جهة أنهم ربما طعنوا على المعطى لها بالرياء وعلى الآخذ لها بالاستغناء، ولهم فيها تحريك القلوب إلى الصدقة، لكن هذا اليوم قليل". وقال يزيد بن أبى حبيب: إنما نزلت هذه الآية في الصدقة على اليهود والنصارى، فكان يأمر بقسم الزكاة في السر. قال ابن عطية: وهذا مردود، لا سيما عند السلف الصالح، فقد قال الطبري: أجمع الناس على أن إظهار الواجب أفضل. قلت: ذكر الكيا الطبري أن في هذه الآية دلالة على قول إخفاء الصدقات مطلقا أولى، وأنها حق الفقير وأنه يجوز لرب المال تفريقها بنفسه، على ما هو أحد قولي الشافعي. وعلى القول الآخر ذكروا أن المراد بالصدقات هاهنا التطوع دون الفرض الذي إظهاره أولى لئلا يلحقه تهمة، ولأجل ذلك قيل: صلاة النفل فرادى أفضل، والجماعة في الفرض أبعد عن التهمة. وقال المهدوي: المراد بالآية فرض الزكاة وما تطوع به، فكان الإخفاء أفضل في مدة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم ساءت ظنون الناس بعد ذلك، فاستحسن العلماء «4» إظهار الفرائض لئلا يظن بأحد المنع. قال ابن عطية: وهذا القول مخالف للآثار، ويشبه في زماننا أن يحسن التستر بصدقة الفرض، فقد كثر المانع لها وصار إخراجها عرضة للرياء. وقال ابن خويز منداد: وقد يجوز أن يراد بالآية الواجبات من الزكاة والتطوع، لأنه ذكر الإخفاء
__________
(1). الزيادة عن ابن العربي.
(2). الزيادة عن ابن العربي.
(3). الزيادة عن ابن العربي. [.....]
(4). في ب: الناس.

ومدحه والإظهار ومدحه، فيجوز أن يتوجه إليهما جميعا. وقال النقاش: إن هذه الآية نسخها قوله تعالى:" الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً" الآية. قوله تعالى: (فَنِعِمَّا هِيَ) ثناء على إبداء الصدقة، ثم حكم على أن الإخفاء خير من ذلك. ولذلك قال بعض الحكماء: إذا اصطنعت المعروف فاستره، وإذا اصطنع إليك فانشره. قال دعبل الخزاعي:
إذا انتقموا أعلنوا أمرهم ... وإن أنعموا أنعموا باكتتام
وقال سهل بن هارون:
خل إذا جئته يوما لتسأله ... أعطاك ما ملكت كفاه واعتذرا
يخفى صنائعه والله يظهرها ... إن الجميل إذا أخفيته ظهرا
وقال العباس بن عبد المطلب رضى الله عنه: لا يتم المعروف إلا بثلاث خصال: تعجيله وتصغيره وستره، فإذا أعجلته هنيته، وإذا صغرته عظمته، وإذا سترته أتممته. وقال بعض الشعراء فأحسن:
زاد معروفك عندي عظما ... أنه عندك مستور حقير
تتناساه كأن لم تأته ... وهو عند الناس مشهور خطير
واختلف القراء في قوله" فَنِعِمَّا هِيَ" فقرأ أبو عمرو ونافع في رواية ورش وعاصم في رواية حفص وابن كثير" فَنِعِمَّا هِيَ" بكسر النون والعين. وقرا أبو عمرو أيضا ونافع في غير رواية ورش وعاصم في رواية أبى بكر والمفضل" فنعما" بكسر النون وسكون العين. وقرا الأعمش وابن عامر وحمزة والكسائي" فنعما" بفتح النون وكسر العين، وكلهم سكن الميم. ويجوز في غير القرآن فنعم ما هي. قال النحاس: ولكنه في السواد متصل فلزم الإدغام. وحكى النحويون في" نعم" أربع لغات: نعم الرجل زيد، هذا الأصل. ونعم الرجل، بكسر النون لكسر العين. ونعم الرجل، بفتح النون وسكون العين، والأصل نعم حذفت الكسرة لأنها ثقيلة. ونعم الرجل، وهذا أفصح اللغات، والأصل فيها نعم. وهى تقع في كل مدح، فخففت وقلبت كسرة العين على النون وأسكنت العين، فمن قرأ" فَنِعِمَّا هِيَ" فله تقديران: أحدهما أن يكون جاء به على لغة من يقول نعم. والتقدير الآخر أن يكون على

اللغة الجيدة، فيكون الأصل نعم، ثم كسرت العين لالتقاء الساكنين. قال النحاس: فأما الذي حكى عن أبى عمرو ونافع من إسكان العين فمحال. حكى عن محمد بن يزيد أنه قال: أما إسكان العين والميم مشددة فلا يقدر أحد أن ينطق به، وإنما يروم الجمع بين ساكنين ويحرك ولا يأبه «1». وقال أبو على: من قرأ بسكون العين لم يستقم قوله، لأنه جمع بين ساكنين الأول منهما ليس بحرف مد ولين وإنما يجوز ذلك عند النحويين إذا كان الأول حرف مد، إذ المد يصير عوضا من الحركة، وهذا نحو دابة وضوال ونحوه. ولعل أبا عمرو أخفى الحركة واختلسها كأخذه بالإخفاء في" بارِئِكُمْ- ويَأْمُرُكُمْ" فظن السامع الإخفاء إسكانا للطف ذلك في السمع وخفائه. قال أبو على: وأما من قرأ" نعما" بفتح النون وكسر العين فإنما جاء بالكلمة على أصلها ومنه قول الشاعر:
ما أقلت قدماي «2» إنهم ... نعم الساعون في الأمر المبر
قال أبو على: و" ما" من قوله تعالى:" فَنِعِمَّا" في موضع نصب، وقوله" هِيَ" تفسير للفاعل المضمر قبل الذكر، والتقدير نعم شيئا إبداؤها، والإبداء هو المخصوص بالمدح إلا أن المضاف حذف وأقيم المضاف إليه مقامه. ويدلك على هذا قوله" فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ" أي الإخفاء خير. فكما أن الضمير هنا للاخفاء لا للصدقات فكذلك، أولا الفاعل هو الإبداء وهو الذي اتصل به الضمير، فحذف الإبداء وأقيم ضمير الصدقات مثله. (وَإِنْ تُخْفُوها) شرط، فلذلك حذفت النون. (وَتُؤْتُوهَا) عطف عليه. والجواب (فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ). (وَيُكَفِّرُ) اختلف القراء في قراءته، فقرأ أبو عمرو وابن كثير وعاصم في رواية أبى بكر وقتادة وابن أبى إسحاق" ونكفر" بالنون ورفع الراء. وقرا [نافع «3»] وحمزة والكسائي بالنون والجزم في الراء، وروى مثل ذلك أيضا عن عاصم. وروى الحسين بن على الجعفي عن الأعمش" يكفر" بنصب الراء. وقرا ابن عامر بالياء ورفع الراء، ورواه حفص عن عاصم، وكذلك روى عن الحسن، وروى عنه بالياء والجزم. وقرا ابن عباس" وتكفر" بالتاء وكسر الفاء وجزم الراء. وقرا
__________
(1). كذا في النحاس، والذي في نسخ الأصل: ولا يأتيه.
(2). ويروى: قدمي. بالإفراد راجع ج 4 خزانه ص 101.
(3). في الأصول: الأعمش، والصواب ما أثبتناه من البحر وابن عطية وغيرهما.

عكرمة" وتكفر" بالتاء وفتح الفاء وجزم الراء. وحكى المهدوي عن ابن هرمز أنه قرأ" وتكفر" بالتاء ورفع الراء. وحكى عن عكرمة وشهر بن حوشب أنهما قرءا بالتاء ونصب الراء. فهذه تسع قراءات أبينها" ونكفر" بالنون والرفع. هذا قول الخليل وسيبويه. قال النحاس: قال سيبويه: والرفع ها هنا الوجه وهو الجيد، لان الكلام الذي بعد الفاء يجرى مجراه في غير الجزاء. وأجاز الجزم بحمله على المعنى، لان المعنى وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء يكن خيرا لكم ونكفر عنكم. وقال أبو حاتم: قرأ الأعمش" يكفر" بالياء دون واو قبلها. قال النحاس: والذي حكاه أبو حاتم عن الأعمش بغير واو جزما يكون على البدل كأنه في موضع الفاء. والذي روى عن عاصم" وَيُكَفِّرُ" بالياء والرفع يكون معناه ويكفر الله، هذا قول أبى عبيد. وقال أبو حاتم: معناه يكفر الإعطاء. وقرا ابن عباس" وتكفر" يكون معناه وتكفر الصدقات. وبالجملة فما كان من هذه القراءات بالنون فهي نون العظمة، وما كان منها بالتاء فهي الصدقة فاعلمه، إلا ما روى عن عكرمة من فتح الفاء فإن التاء في تلك القراءة إنما هي للسيئات، وما كان منها بالياء فالله تعالى هو المكفر، والإعطاء في خفاء مكفر أيضا كما ذكرنا، وحكاه مكي. وأما رفع الراء فهو على وجهين: أحدهما أن يكون الفعل خبر ابتداء تقديره ونحن نكفر أو وهى تكفر، أعنى الصدقة، أو والله يكفر. والثاني القطع والاستئناف لا تكون الواو العاطفة للاشتراك لكن تعطف جملة كلام على جملة. وقد ذكرنا معنى قراءة الجزم. فأما نصب" ونكفر" فضعيف وهو على إضمار أن وجاز على بعد. قال المهدوي: وهو مشبه بالنصب في جواب الاستفهام، إذ الجزاء يجب به الشيء لوجوب غيره كالاستفهام. والجزم في الراء أفصح هذه القراء أت، لأنها تؤذن بدخول التكفير في الجزاء وكونه مشروطا إن وقع الإخفاء. وأما الرفع فليس فيه هذا المعنى. قلت: هذا خلاف ما اختاره الخليل وسيبويه. و" من" في قوله (مِنْ سَيِّئاتِكُمْ) للتبعيض المحض. وحكى الطبري عن فرقة أنها زائدة. قال ابن عطية: وذلك منهم خطأ. (وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) وعد ووعيد.

لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272)

[سورة البقرة (2): آية 272]
لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (272)
قوله تعالى: (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) فيه ثلاث مسائل: الاولى- قوله تعالى: (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ) هذا الكلام متصل بذكر الصدقات، فكأنه بين فيه جواز الصدقة على المشركين. روى سعيد بن جبير مرسلا عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سبب نزول هذه الآية أن المسلمين كانوا يتصدقون على فقراء أهل الذمة، فلما كثر فقراء المسلمين قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" لا تتصدقوا إلا على أهل دينكم". فنزلت هذه الآية مبيحة للصدقة على من ليس من دين الإسلام. وذكر النقاش أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أتى بصدقات فجاءه يهودي فقال: أعطني. فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" ليس لك من صدقة المسلمين شي". فذهب اليهودي غير بعيد فنزلت:" لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ" فدعاه «1» رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأعطاه، ثم نسخ الله ذلك بآية الصدقات. وروى ابن عباس أنه قال: كان ناس من الأنصار لهم قرابات من بنى قريظة والنضير، وكانوا لا يتصدقون عليهم رغبة منهم في أن يسلموا إذا احتاجوا، فنزلت الآية بسبب أولئك. وحكى بعض المفسرين أن أسماء ابنة أبى بكر الصديق أرادت أن تصل جدها أبا قحافة ثم امتنعت من ذلك لكونه كافرا فنزلت الآية في ذلك. وحكى الطبري أن مقصد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمنع الصدقة إنما كان ليسلموا ويدخلوا في الدين، فقال الله تعالى:" لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ". وقيل:" لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ" [ليس متصلا «2» [بما قبل، فيكون ظاهرا في الصدقات وصرفها إلى الكفار، بل يحتمل أن يكون معناه ابتداء كلام. الثانية- قال علماؤنا: هذه الصدقة التي أبيحت لهم حسب ما تضمنته هذه الآثار هي صدقة التطوع. وأما المفروضة فلا يجزئ دفعها لكافر، لقوله عليه السلام:" أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم واردها في فقرائكم". قال ابن المنذر: أجمع [كل «3»] من أحفظ عنه
__________
(1). في هـ: دعابة.
(2). في ج وهـ وب وى: متصلا. دليل على سقوط: ليس، أو غير متصل كباقي النسخ.
(3). في ج.

من أهل العلم أن الذمي لا يعطى من زكاة الأموال شيئا، ثم ذكر جماعة ممن نص على ذلك ولم يذكر خلافا. وقال المهدوي: رخص للمسلمين أن يعطوا المشركين من قراباتهم من صدقة الفريضة لهذه الآية. قال ابن عطية: وهذا مردود بالإجماع. والله أعلم. وقال أبو حنيفة: تصرف إليهم زكاة الفطر. ابن العربي: وهذا ضعيف لا أصل له. ودليلنا أنها صدقة طهرة واجبة فلا تصرف إلى الكافر كصدقة الماشية والعين، وقد قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" أغنوهم عن سؤال هذا اليوم" يعنى يوم الفطر. قلت: وذلك لتشاغلهم بالعيد وصلاة العيد وهذا لا يتحقق في المشركين. وقد يجوز صرفها إلى غير المسلم في قول من جعلها سنة، وهو أحد القولين عندنا، وهو قول أبى حنيفة على ما ذكرنا، نظرا إلى عموم الآية في البر وإطعام الطعام وإطلاق الصدقات. قال ابن عطية: وهذا الحكم متصور للمسلمين مع «1» أهل ذمتهم ومع المسترقين من الحربيين. قلت: وفى التنزيل" وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً «2»" والأسير في دار الإسلام لا يكون إلا مشركا. وقال تعالى:" لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ «3»". فظواهر هذه الآيات تقتضي جواز صرف الصدقات إليهم جملة، إلا أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خص منها الزكاة المفروضة، لقوله عليه السلام لمعاذ:" خذ الصدقة من أغنيائهم وردها على فقرائهم" واتفق العلماء علن ذلك على ما تقدم. فيدفع إليهم من صدقة التطوع إذا احتاجوا، والله أعلم. قال ابن العربي: فأما المسلم العاصي فلا خلاف أن صدقة الفطر تصرف إليه إلا إذا كان يترك أركان الإسلام من الصلاة والصيام فلا تدفع إليه الصدقة حتى يتوب. وسائر أهل المعاصي تصرف الصدقة إلى مرتكبيها لدخولهم في اسم المسلمين. وفى صحيح مسلم أن رجلا تصدق على غنى وسارق وزانية وتقبلت صدقته، على ما يأتي بيانه في آية الصدقات «4». الثالثة- قوله تعالى: (وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) أي يرشد من يشاء. وفى هذا رد على القدرية وطوائف من المعتزلة، كما تقدم.
__________
(1). في ابن عطية: متصور للمسلمين اليوم مع إلخ.
(2). راجع ج 19 ص 125.
(3). راجع ج 18 ص 58.
(4). راجع ج 8 ص 167.

لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273)

قوله تعالى: وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ) شرط وجوابه. والخير في هذه الآية المال، لأنه قد اقترن بذكر الإنفاق، فهذه القرينة تدل على أنه المال، ومتى لم تقترن بما يدل على أنه المال فلا يلزم أن يكون بمعنى المال، نحو قوله تعالى:" خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا «1»" وقوله:" مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ «2»". إلى غير ذلك. وهذا تحرز من قول عكرمة: كل خير في كتاب الله تعالى فهو المال. وحكى أن بعض العلماء كان يصنع كثيرا من المعروف ثم يحلف أنه ما فعل مع أحد خيرا، فقيل له في ذلك فيقول: إنما فعلت مع نفسي، ويتلو" وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ". ثم بين تعالى أن النفقة المعتد بقبولها إنما هي ما كان ابتغاء وجهه. و" ابْتِغاءَ" هو على المفعول له «3». وقيل: إنه شهادة من الله تعالى للصحابة رضى الله عنهم أنهم إنما ينفقون ابتغاء وجهه، فهذا خرج مخرج التفضيل والثناء عليهم. وعلى التأويل الأول هو اشتراط عليهم، ويتناول الاشتراط غيرهم من الامة. قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لسعد بن أبى وقاص:" إنك لن تنفق نفقة تبتغى بها وجه الله تعالى إلا أجرت بها حتى ما تجعل في في امرأتك «4»". قوله تعالى: (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ)" يُوَفَّ إِلَيْكُمْ" تأكيد وبيان لقوله:" وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ" وأن ثواب الإنفاق يوفى إلى المنفقين ولا يبخسون منه شيئا فيكون ذلك البخس ظلما لهم.

[سورة البقرة (2): آية 273]
لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273)
فيه عشر مسائل: الاولى- قوله تعالى: (لِلْفُقَراءِ) اللام متعلقة بقوله" وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ" وقيل: بمحذوف تقديره الإنفاق أو الصدقة للفقراء. قال السدى ومجاهد وغيرهما: المراد بهؤلاء
__________
(1). راجع ج 13 ص 21.
(2). راجع ج 20 ص 150.
(3). كما في السمين والبحر. وفى الأصول كلها: مفعول به. وليس بشيء. [.....]
(4). رواية البخاري: في فم امرأتك.

الفقراء فقراء المهاجرين من قريش وغيرهم، ثم تتناول الآية كل من دخل تحت صفة الفقراء غابر الدهر. وإنما خص فقراء المهاجرين بالذكر لأنه لم يكن هناك سواهم وهم أهل الصفة وكانوا نحوا من أربعمائة رجل، وذلك أنهم كانوا يقدمون فقراء على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما لهم أهل ولا مال فبنيت لهم صفة في مسجد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقيل لهم: أهل الصفة. قال أبو ذر: كنت من أهل الصفة وكنا إذا أمسينا حضرنا باب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيأمر كل رجل فينصرف برجل ويبقى من بقي من أهل الصفة عشرة أو أقل فيؤتى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعشائه ونتعشى معه. فإذا فرغنا قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" ناموا في المسجد". وخرج الترمذي عن البراء بن عازب" وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ" قال: نزلت فينا معشر الأنصار كنا أصحاب نخل، قال: فكان الرجل يأتي من نخله على قدر كثرته وقلته، وكان الرجل يأتي بالقنو والقنوين فيعلقه في المسجد، وكان أهل الصفة ليس لهم طعام، فكان أحدهم إذا جاع أتى القنو فيضربه بعصاه فيسقط من البسر والتمر فيأكل، وكان ناس ممن لا يرغب في الخير يأتي بالقنو فيه الشيص والحشف، وبالقنو قد انكسر فيعلقه في المسجد، فأنزل الله تعالى:" يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ". قال: ولو أن أحدكم أهدى إليه مثل ما أعطاه لم يأخذه إلا على إغماض وحياء. قال: فكنا بعد ذلك يأتي الرجل بصالح ما عنده. قال: هذا حديث حسن غريب صحيح. قال علماؤنا: وكانوا رضى الله عنهم في المسجد ضرورة، وأكلوا من الصدقة ضرورة، فلما فتح الله على المسلمين استغنوا عن تلك الحال وخرجوا ثم ملكوا وتأمروا. ثم بين الله سبحانه من أحوال أولئك الفقراء المهاجرين ما يوجب الحنو عليهم بقوله تعالى: (الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) والمعنى حبسوا ومنعوا. قال قتادة وابن زيد: معنى" أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ" حبسوا أنفسهم عن التصرف في معايشهم خوف العدو، ولهذا قال تعالى: (لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ) لكون البلاد كلها كفرا مطبقا.

وهذا في صدر الإسلام، فعلتهم «1» تمنع من الاكتساب بالجهاد، وإنكار الكفار عليهم إسلامهم يمنع من التصرف في التجارة فبقوا فقراء. وقيل: معنى" لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ" أي لما قد ألزموا أنفسهم من الجهاد. والأول أظهر. والله أعلم. الثانية- قوله تعالى: (يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ) أي أنهم من الانقباض وترك المسألة والتوكل على الله بحيث يظنهم الجاهل بهم أغنياء. وفية دليل على أن اسم الفقر يجوز أن يطلق على من له كسوة ذات قيمة ولا يمنع ذلك من إعطاء الزكاة إليه. وقد أمر الله تعالى بإعطاء هؤلاء القوم، وكانوا من المهاجرين الذين يقاتلون مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غير مرضى ولا عميان. والتعفف تفعل، وهو بناء مبالغة من عف عن الشيء إذا أمسك عنه وتنزه عن طلبه، وبهذا المعنى فسر قتادة وغيره. وفتح السين وكسرها في" يَحْسَبُهُمُ" لغتان. قال أبو على: والفتح أقيس، لان العين من الماضي مكسورة فبابها أن تأتى في المضارع مفتوحة. والقراءة بالكسر حسنة، لمجيء السمع به وإن كان شاذا عن القياس. و" من" في قوله" مِنَ التَّعَفُّفِ" لابتداء الغاية. وقيل لبيان الجنس. الثالثة- قوله تعالى: (تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ) فيه دليل على أن للسيما أثرا في اعتبار من يظهر عليه ذلك، حتى إذا رأينا ميتا في دار الإسلام وعليه زنار «2» وهو غير مختون لا يدفن في مقابر المسلمين، ويقدم ذلك على حكم الدار في قول أكثر العلماء، ومنه قوله تعالى:" وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ «3»". فدلت الآية على جواز صرف الصدقة إلى من له ثياب وكسوة وزي «4» في التجمل. واتفق العلماء على ذلك، وإن اختلفوا بعده في مقدار ما يأخذه إذا احتاج. فأبو حنيفة اعتبر مقدار ما تجب فيه الزكاة، والشافعي اعتبر قوت سنة، ومالك اعتبر أربعين درهما، والشافعي لا يصرف الزكاة إلى المكتسب. والسيما (مقصورة): العلامة، وقد تمد فيقال السيماء. وقد اختلف العلماء في تعيينها هنا، فقال مجاهد: هي الخشوع والتواضع. السدى: أثر الفاقة والحاجة في وجوههم وقلة
__________
(1). كذا في ج. راجع الطبري. وباقى الأصول: فقلتهم.
(2). الزنار (بضم الزاي وتشديد النون): ما يشده الذمي على وسطه.
(3). راجع ج 16 ص 251.
(4). في ج: زين.

النعمة. ابن زيد: رثاثة ثيابهم. وقال قوم وحكاه مكي: أثر السجود. ابن عطية: وهذا حسن، وذلك لأنهم كانوا متفرغين متوكلين لا شغل في الأغلب إلا الصلاة، فكان أثر السجود عليهم. قلت: وهذه السيما التي هي أثر السجود اشترك فيها جميع الصحابة رضوان الله عليهم بإخبار الله تعالى في آخر" الفتح" بقوله:" سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ «1»" فلا فرق بينهم وبين غيرهم، فلم يبق إلا أن تكون السيماء أثر الخصاصة والحاجة، أو يكون أثر السجود أكثر، فكانوا يعرفون بصفرة الوجوه من قيام الليل وصوم النهار. والله أعلم. وأما الخشوع فذلك محله القلب ويشترك فيه الغنى والفقير، فلم يبق إلا ما اخترناه، والموفق الاله. الرابعة- قوله تعالى: (لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً) مصدر في موضع الحال، أي ملحفين، يقال: ألحف وأحفى وألح في المسألة سواء، ويقال:
وليس للملحف مثل الرد «2»

واشتقاق الإلحاف من اللحاف، سمى بذلك لاشتماله على وجوه الطلب في المسألة كاشتمال اللحاف من التغطية، أي هذا السائل يعم الناس بسؤاله فيلحفهم ذلك، ومنه قول ابن أحمر:
فظل يحفهن بقفقفيه «3» ... ويلحفهن هفهافا ثخينا
يصف ذكر النعام يحضن بيضا بجناحيه ويجعل جناحه لها كاللحاف وهو رقيق مع ثخنه. وروى النسائي ومسلم عن أبى هريرة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:" ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان واللقمة واللقمتان إنما المسكين المتعفف اقرءوا إن شئتم" لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً". الخامسة- واختلف العلماء في معنى قول" لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً" على قولين، فقال قوم منهم الطبري والزجاج: إن المعنى لا يسألون البتة، وهذا على أنهم متعففون عن
__________
(1). راجع ج 16 ص 292.
(2). هذا عجز بيت لبشار بن برد وصدره كما في ديوانه واللسان:
الحر يلحى والعصا للعبد

(3). قفقفا الطائر: جناحاه.

المسألة عفة تامة، وعلى هذا جمهور المفسرين، ويكون التعفف صفة ثابتة لهم، أي لا يسألون الناس إلحاحا ولا غير إلحاح. وقال قوم: إن المراد نفى الإلحاف، أي إنهم يسألون غير إلحاف، وهذا هو السابق للفهم، أي يسألون غير ملحفين. وفى هذا تنبيه على سوء حالة من يسأل الناس إلحافا. روى الأئمة واللفظ لمسلم عن معاوية بن أبى سفيان قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" لا تلحفوا في المسألة فوالله لا يسألني أحد منكم شيئا فتخرج له مسألته منى شيئا وأنا له كاره فيبارك له فيما أعطيته". وفى الموطأ" عن زيد بن أسلم عن عطاء ابن يسار عن رجل من بنى أسد أنه قال: نزلت أنا وأهلي ببقيع الغرقد «1» فقال لي أهلي: أذهب إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاسأله لنا شيئا نأكله، وجعلوا يذكرون من حاجتهم، فذهبت إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فوجدت عنده رجلا يسأله ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول:" لا أجد ما أعطيك" فتولى الرجل عنه وهو مغضب وهو يقول: لعمري إنك لتعطي من شئت! فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" إنه يغضب على ألا أجد ما أعطيه من سأل منكم وله أوقية أو عدلها فقد سأل إلحافا «2»". قال الأسدي: فقلت للقحة «3» لنا خير من أوقية- قال مالك: والأوقية أربعون درهما- قال: فرجعت ولم أسأله، فقدم على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد ذلك بشعير وزبيب «4» فقسم لنا منه حتى أغنانا الله". قال ابن عبد البر: هكذا رواه مالك وتابعه هشام بن سعد وغيره، وهو حديث صحيح، وليس حكم الصحابي «5» إذا لم يسم كحكم من دونه إذا لم يسم عند العلماء، لارتفاع الجرحة عن جميعهم وثبوت العدالة لهم. وهذا الحديث يدل على أن السؤال مكروه لمن له أوقية من فضة، فمن سأل وله هذا الحد والعدد والقدر من الفضة أو ما يقوم مقامها ويكون عدلا منها فهو ملحف، وما علمت أحدا من أهل العلم إلا وهو يكره السؤال لمن له هذا المقدار من الفضة أو عدلها من الذهب على ظاهر هذا الحديث. وما جاءه من غير مسألة فجائز له أن يأكله
__________
(1). بقيع الغرقد: مقبرة مشهورة بالمدينة.
(2). الحديث كما في الطبعة الهندية. وفى الأصول: فقد ألحف.
(3). اللقحة (بفتح اللام وكسرها): الناقة ذات لبن القريبة العهد بالنتاج.
(4). في ب: وزيت.
(5). في الأصول:" الصاحب".

إن كان من غير الزكاة، وهذا مما لا أعلم فيه خلافا، فإن كان من الزكاة ففيه خلاف يأتي بيانه في آية الصدقات «1» إن شاء الله تعالى. السادسة- قال ابن عبد البر: من أحسن ما روى من أجوبة الفقهاء في معاني السؤال وكراهيته ومذهب أهل الورع فيه ما حكاه الأثرم عن أحمد بن حنبل وقد سئل عن المسألة متى تحل قال: إذا لم يكن عنده ما يغذيه ويعشيه على حديث سهل بن الحنظلية. قيل لابي عبد الله: فإن اضطر إلى المسألة؟ قال: هي مباحة له إذا اضطر. قيل له: فإن تعفف؟ قال: ذلك خير له. ثم قال: ما أظن أحدا يموت من الجوع! الله يأتيه برزقه. ثم ذكر حديث أبى سعيد الخدري" من استعف أعفه الله". وحديث أبى ذر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال له:" تعفف". قال أبو بكر: وسمعته يسأل عن الرجل لا يجد شيئا أيسأل الناس أم يأكل الميتة؟ فقال: أيأكل الميتة وهو يجد من يسأله، هذا شنيع. قال: وسمعته يسأله هل يسأل الرجل لغيره؟ قال لا، ولكن يعرض، كما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين جاءه قوم حفاة عراة مجتابي «2» النمار فقال:" تصدقوا" ولم يقل أعطوهم. قال أبو عمر: قد قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" اشفعوا تؤجروا". وفية إطلاق السؤال لغيره. والله أعلم. وقال:" ألا رجل يتصدق على هذا"؟ قال أبو بكر: قل له- يعنى أحمد بن حنبل- فالرجل يذكر الرجل فيقول: إنه محتاج؟ فقال: هذا تعريض وليس به بأس، إنما المسألة أن يقول أعطه. ثم قال: لا يعجبني أن يسأل المرء لنفسه فكيف لغيره؟ والتعريض هنا أحب إلى. قلت: قد روى أبو داود والنسائي وغيرهما أن الفراسى «3» قال لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أسأل يا رسول الله؟ قال:" لا وإن كنت سائلا لأبد فاسأل الصالحين". فأباح صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سؤال أهل الفضل والصلاح عند الحاجة إلى ذلك، وإن أوقع حاجته
__________
(1). راجع ج 8 ص 167. [.....]
(2). اجتاب فلان ثوبا إذا لبسه. والنمار (بكسر النون جمع نمرة) وهى كل شملة مخططة من مآزر الاعراب، كأنها أخذت من لون النمر لما فيها من السواد والبياض. أراد أنه جاء قوم لابسي أزر مخططة من صوف (عن نهاية ابن الأثير).
(3). هو من بنى فراس بن مالك بن كنانة (عن الاستيعاب).

بالله فهو أعلى. قال إبراهيم بن أدهم: سؤال الحاجات من الناس هي الحجاب بينك وبين الله تعالى، فأنزل حاجتك بمن يملك الضر والنفع، وليكن مفزعك إلى الله تعالى يكفيك الله ما سواه وتعيش مسرورا. السابعة- فإن جاءه شي من غير سؤال فله أن يقبله ولا يرده، إذ هو رزق رزقه الله. روى مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أرسل إلى عمر بن الخطاب بعطاء فرده، فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" لم رددته"؟ فقال: يا رسول الله، أليس أخبرتنا أن أحدنا خير له ألا يأخذ شيئا؟ فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" إنما ذاك عن المسألة فأما ما كان من غير مسألة فإنما هو رزق رزقكه الله". فقال عمر بن الخطاب: والذي نفسي بيده لا أسأل أحدا شيئا ولا يأتيني بشيء من غير مسألة إلا أخذته. وهذا نص. وخرج مسلم في صحيحه والنسائي في سننه وغيرهما عن ابن عمر قال سمعت عمر يقول: كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعطيني العطاء فأقول: أعطه أفقر إليه منى، حتى أعطاني مرة مالا فقلت: أعطه أفقر إليه منى، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" خذه وما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه وما لا فلا تتبعه نفسك". زاد النسائي- بعد قوله" خذه- فتموله أو تصدق به". وروى مسلم من حديث عبد الله ابن السعدي المالكي عن عمر فقال لي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" إذا أعطيت شيئا من غير أن تسأل فكل وتصدق". وهذا يصحح لك حديث مالك المرسل. قال الأثرم: سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يسأل عن قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" ما أتاك من غير مسألة ولا إشراف" أي الاشراف أراد؟ فقال: أن تستشرفه وتقول: لعله يبعث إلى بقلبك. قيل له: وإن لم يتعرض، قال نعم إنما هو بالقلب. قيل له: هذا شديد! قال: وإن كان شديدا فهو هكذا. قيل له: فإن كان الرجل لم يعودني أن يرسل إلى شيئا إلا أنه قد عرض بقلبي فقلت: عسى أن يبعث إلى. قال: هذا إشراف، فأما إذا جاءك من غير أن تحتسبه ولا خطر على قلبك فهذا الآن ليس فيه إشراف. قال أبو عمر: الاشراف في اللغة رفع الرأس إلى المطموع

الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)

عنده والمطموع فيه، وأن يهش الإنسان ويتعرض. وما قاله أحمد في تأويل الاشراف تضييق وتشديد وهو عندي بعيد، لان الله عز وجل تجاوز لهذه الامة عما حدثت به أنفسها ما لم ينطق به لسان أو تعمله جارحة. وأما ما اعتقده القلب من المعاصي ما خلا الكفر فليس بشيء حتى يعمل له، وخطرات النفس متجاوز عنها بإجماع. الثامنة- الإلحاح في المسألة والإلحاف فيها مع الغنى عنها حرام لا يحل. قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" من سأل الناس أموالهم تكثرا فإنما يسأل جمرا فليستقل أو ليستكثر" رواه أبو هريرة خرجه مسلم. وعن ابن عمر أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:" لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله وليس في وجهه مزعة «1» لحم" رواه مسلم أيضا. التاسعة- السائل إذا كان محتاجا فلا بأس أن يكرر المسألة ثلاثا إعذارا وإنذارا والأفضل تركه. فإن كان المسئول يعلم بذلك وهو قادر على ما سأله وجب عليه الإعطاء، وإن كان جاهلا به فيعطيه مخافة أن يكون صادقا في سؤاله فلا يفلح في رده. العاشرة- فإن كان محتاجا إلى ما يقيم به سنة كالتجمل بثوب يلبسه في العيد والجمعة فذكر ابن العربي:" سمعت بجامع الخليفة ببغداد رجلا يقول: هذا أخوكم يحضر الجمعة معكم وليس عنده ثياب يقيم بها سنة الجمعة. فلما كان في الجمعة الأخرى رأيت عليه ثيابا أخر، فقيل لي: كساه إياها أبو الطاهر البرسنى أخذ الثناء «2»".

[سورة البقرة (2): آية 274]
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)
فيه مسألة واحدة: روى عن ابن عباس وأبى ذر وأبى أمامة وأبى الدرداء وعبد الله بن بشر الغافقي والأوزاعي أنها نزلت في علف الخيل المربوطة في سبيل الله. وذكر ابن سعد في الطبقات قال: أخبرت عن محمد بن شعيب بن شابور قال أنبأنا سعيد بن سنان عن يزيد بن عبد الله بن عريب عن
__________
(1). المزعة (بضم الميم وإسكان الزاي) القطعة. قال القاضي عياض: قيل معناه يأتي يوم القيامة ذليلا ساقطا لأوجه له عند الله. وقيل: هو على ظاهره، فيحشر ووجهه عظم لا لحم عليه، عقوبة له وعلامة له بذنبه حين طلب وسأل بوجهه.
(2). في أحكام ابن العربي: رأيت عليه ثيابا جددا فقيل لي كساه إياها فلان لأخذ الثناء بها.

الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279)

أبيه عن جده عريب أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سئل عن قوله تعالى:" الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ" قال:" هم أصحاب الخيل". وبهذا الاسناد قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" المنفق على الخيل كباسط يده بالصدقة لا يقبضها وأبو إلها وأرواثها [عند الله «1»] يوم القيامة كذكي المسك". وروى عن ابن عباس أنه قال: نزلت في على بن أبى طالب رضى الله عنه، كانت معه أربعة دراهم فتصدق بدرهم ليلا وبدرهم نهارا وبدرهم سرا وبدرهم جهرا، ذكره عبد الرزاق قال: أخبرنا عبد الوهاب بن مجاهد عن أبيه عن ابن عباس. ابن جريج: نزلت في رجل فعل ذلك، ولم يسم عليا ولا غيره. وقال قتادة. هذه الآية نزلت في المنفقين من غير تبذير ولا تقتير. ومعنى" بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ" في الليل والنهار، ودخلت الفاء في قوله تعالى:" فَلَهُمْ" لان في الكلام معنى الجزاء. وقد تقدم. ولا يجوز زيد فمنطلق.

[سورة البقرة (2): الآيات 275 الى 279]
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ (279)
__________
(1). الزيادة عن كتاب الطبقات.

الآيات الثلاث «1» تضمنت أحكام الربا وجواز عقود المبايعات، والوعيد لمن استحل الربا وأصر على فعله. وفى ذلك ثمان وثلاثون مسألة: الاولى- قوله تعالى: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا) يأكلون يأخذون، فعبر عن الأخذ بالأكل، لان الأخذ إنما يراد للأكل. والربا في اللغة الزيادة مطلقا، يقال: ربا الشيء يربو إذا زاد، ومنه الحديث:" فلا والله ما أخذنا من لقمة إلا ربا من تحتها" يعنى الطعام الذي دعا فيه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالبركة، خرج الحديث مسلم رحمه الله. وقياس كتابته بالياء للكسرة «2» في أوله، وقد كتبوه في القرآن بالواو. ثم إن الشرع قد تصرف في هذا الإطلاق فقصره على بعض موارده، فمرة أطلقه على كسب الحرام، كما قال الله تعالى في اليهود:" وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ «3»". ولم يرد به الربا الشرعي الذي حكم بتحريمه علينا وإنما أراد المال الحرام، كما قال تعالى:" سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ «4»" يعنى به المال الحرام من الرشا، وما استحلوه من أموال الأميين حيث قالوا:" لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ «5»". وعلى هذا فيدخل فيه النهى عن كل مال حرام بأى وجه اكتسب. والربا الذي عليه عرف الشرع شيئان: تحريم النساء، والتفاضل في العقود «6» وفى المطعومات على ما نبينه. وغالبه ما كانت العرب تفعله، من قولها للغريم: أتقضى أم تربى؟ فكان الغريم يزيد في عدد المال ويصبر الطالب عليه. وهذا كله محرم باتفاق الامة. الثانية- أكثر البيوع الممنوعة إنما تجد منعها لمعنى زيادة إما في عين مال، وإما في منفعة لأحدهما من تأخير ونحوه. ومن البيوع ما ليس فيه معنى الزيادة، كبيع الثمرة قبل بدو صلاحها، وكالبيع ساعة النداء يوم الجمعة، فإن قيل لفاعلها، آكل الربا فتجوز وتشبيه. الثالثة- روى الأئمة واللفظ لمسلم عن أبى سعيد الخدري قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل يدا بيد فمن زاد أو استزاد فقد أربى الآخذ والمعطى فيه سواء".
__________
(1). كذا في كل الأصول، وقوله: ثمان وثلاثون مسألة، تضمن الآيات الخمس.
(2). يريد الإمالة.
(3). راجع ج 6 ص 182. وص 236.
(4). راجع ج 6 ص 182. وص 236.
(5). راجع ج 4 ص 115.
(6). في ح وه وج: النقود.

وفى حديث عبادة بن الصامت:" فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يد بيد". وروى أبو داود عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:" الذهب بالذهب تبرها وعينها والفضة بالفضة تبرها وعينها والبر بالبر مدى «1» بمدى والشعير بالشعير مدى بمدى والتمر بالتمر مدى بمدى والملح بالملح مدى بمدى فمن زاد أو ازداد فقد أربى ولا بأس يبيع الذهب بالفضة والفضة أكثرهما يدا بيد وأما نسيئة فلا ولا بأس ببيع البر بالشعير والشعير أكثرهما يدا بيد وأما نسيئة فلا". وأجمع العلماء على القول بمقتضى هذه السنة وعليها جماعة فقهاء المسلمين إلا في البر والشعير فإن مالكا جعلهما صنفا واحدا، فلا يجوز منهما اثنان بواحد، وهو قول الليث والأوزاعي ومعظم علماء المدينة والشام، وأضاف مالك إليهما السلت «2». وقال الليث: السلت والدخن والذرة صنف واحد، وقاله ابن وهب. قلت: وإذا ثبتت السنة فلا قول معها. وقال عليه السلام:" فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد". وقول:" البر بالبر والشعير بالشعير" دليل على أنهما نوعان مختلفان كمخالفة البر للتمر، ولان صفاتهما مختلفة وأسماؤهما مختلفة، ولا اعتبار بالمنبت والمحصد إذا لم يعتبره الشرع، بل فصل وبين، وهذا مذهب الشافعي وأبى حنيفة والثوري وأصحاب الحديث. الرابعة- كان معاوية بن أبى سفيان يذهب إلى أن النهى والتحريم إنما ورد من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الدينار المضروب والدرهم المضروب لا في التبر من الذهب والفضة بالمضروب، ولا في المصوغ بالمضروب. وقد قيل إن ذلك إنما كان منه في المصوغ خاصة، حتى وقع له مع عبادة ما خرجه مسلم وغيره، قال: غزونا وعلى الناس معاوية فغنمنا غنائم كثيرة، فكان مما غنمنا آنية من فضة فأمر معاوية رجلا ببيعها في أعطيات الناس
__________
(1). أي مكيال بمكيال. والمدى (بضم الميم وسكون الدال وبالياء) قال ابن الاعرابي: هو مكيال ضخم لأهل الشام واهل مصر، والجمع أمداء. وقال ابني برى: المدى مكيال لأهل الشام يقال له الجريب يسع خمسة وأربعين رطلا. وهو غير المد (بالميم المضمومة والياء المشددة). قال الجوهري: المد مكيال وهو رطل وثلث عند أهل الحجاز والشافعي، ورطلان عند أهل العراق وأبي حنيفة.
(2). السلت: ضرب من الشعير ليس له قشر.

فتنازع الناس في ذلك فبلغ عبادة بن الصامت ذلك فقام فقال: إنى سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينهى عن بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح إلا سواء بسواء عينا بعين من زاد أو ازداد فقد أربى، فرد الناس ما أخذوا، فبلغ ذلك معاوية فقام خطيبا فقال: ألا ما بال رجال يتحدثون عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحاديث قد كنا نشهده ونصحبه فلم نسمعها منه! فقام عبادة بن الصامت فأعاد القصة ثم قال: لنحدثن بما سمعنا من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإن كره معاوية- أو قال وإن رغم وما أبالي إلا أصحبه في جنده في ليلة سوداء. قال حماد «1» هذا أو نحوه. قال ابن عبد البر: وقد روى أن هذه القصة إنما كانت لابي الدرداء مع معاوية. ويحتمل أن يكون وقع ذلك لهما معه، ولكن الحديث في العرف محفوظ لعبادة، وهو الأصل الذي عول عليه العلماء في باب" الربا". ولم يختلفوا أن فعل معاوية في ذلك غير جائز، وغير نكير أن يكون معاوية خفى عليه ما قد علمه أبو الدرداء وعبادة فإنهما جليلان من فقهاء الصحابة وكبارهم، وقد خفى على أبى بكر وعمر ما وجد عند غيرهم ممن هو دونهم، فمعاوية أخرى. ويحتمل أن يكون مذهبه كمذهب ابن عباس، فقد كان وهو بحر في العلم لا يرى الدرهم بالدرهمين بأسا حتى صرفه عن ذلك أبو سعيد. وقصة معاوية هذه مع عبادة كانت في ولاية عمر. قال قبيصة بن ذؤيب: إن عبادة أنكر شيئا على معاوية فقال: لا أساكنك بأرض أنت بها ودخل المدينة. فقال له عمر: ما أقدمك؟ فأخبره. فقال: ارجع إلى مكانك، فقبح الله أرضا لست فيها ولا أمثالك! وكتب إلى معاوية" لا إمارة لك عليه". الخامسة- روى الأئمة واللفظ للدارقطني عن على رضى الله عنه قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما من كانت له حاجة بورق فليصرفها بذهب وإن كانت له حاجة بذهب فليصرفها بورق هاء وهاء «2»". قال العلماء فقوله
__________
(1). هو حماد بن زيد أحد رجال هذا الحديث. [.....]
(2). قال ابن الأثير:" هو أن يقول كل واحد من البيعين" ها" فيعطيه ما في يده، يعنى مقايضة في المجلس. وقيل معناه هاك وهات، أي خذ وأعط. قال الخطابي:" أصحاب الحديث رنه" ها وها" ساكنة الالف، والصواب مدها وفتحها، لان أصلها هاك، أي خذ فحذفت الكاف وعوضت منها المدة والهمزة، يقال للواحد هاء وللاثنين هاؤما وللجمع هاؤم. وغير الخطابي يجيز فيها السكون على حذف العوض وتنزله منزلة" ها" التي للتنبيه. وفيها لغات أخرى".

عليه السلام:" الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما" إشارة إلى جنس الأصل المضروب، بدليل قوله:" الفضة بالفضة والذهب بالذهب" الحديث. والفضة البيضاء والسوداء والذهب الأحمر والأصفر كل ذلك لا يجوز بيع بعضه ببعض إلا مثلا بمثل سواء بسواء على كل حال، على هذا جماعة أهل العلم على ما بينا. واختلفت الرواية عن مالك في الفلوس فألحقها بالدراهم من حيث كانت ثمنا للأشياء، ومنع من إلحاقها مرة من حيث إنها ليست ثمنا في كل بلد وإنما يختص بها بلد دون بلد. السادسة- لا اعتبار بما قد روى عن كثير من أصحاب مالك وبعضهم يرويه عن مالك في التاجر يحفزه الخروج وبه حاجة إلى دراهم مضروبة أو دنانير مضروبة، فيأتي دار الضرب بفضته أو ذهبه فيقول للضراب، خذ فضتي هذه أو ذهبي وخذ قدر عمل يدك وادفع إلى دنانير مضروبة في ذهبي أو دراهم مضروبة في فضتي هذه لأني محفوز للخروج وأخاف أن يفوتني من أخرج معه، أن ذلك جائز للضرورة، وأنه قد عمل به بعض الناس. وحكاه ابن العربي في قبسه عن مالك في غير التاجر، وإن مالكا خفف في ذلك، فيكون في الصورة قد باع فضته التي زنتها مائة وخمسة دراهم أجره بمائة وهذا محض الربا. والذي أوجب جواز ذلك أنه لو قال له: اضرب لي هذه وقاطعه على ذلك بأجرة، فلما ضربها قبضها منه وأعطاه أجرتها، فالذي فعل مالك أولا هو الذي يكون آخرا، ومالك إنما نظر إلى المال فركب عليه حكم الحال، وأباه سائر الفقهاء. قال ابن العربي: والحجة فيه لمالك بينة. قال أبو عمر رحمه الله: وهذا هو عين الربا الذي حرمه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله:" من زاد أو ازداد فقد أربى". وقد رد ابن وهب هذه المسألة على مالك وأنكرها. وزعم الأبهري أن ذلك من باب الرفق لطلب التجارة ولئلا يفوت السوق، وليس الربا إلا على من أراد أن يربى ممن يقصد إلى ذلك ويبتغيه. ونسى الأبهري أصله في قطع الذرائع، وقوله

فيمن باع ثوبا بنسيئة وهو لا نية له في شرائه ثم يجده في السوق يباع: إنه لا يجوز له ابتياعه منه بدون ما باعه به وإن لم يقصد إلى ذلك ولم يبتغه، ومثله كثير، ولو لم يكن الربا إلا على من قصده ما حرم إلا على الفقهاء. وقد قال عمر: لا يتجر في سوقنا إلا من فقه وإلا أكل الربا. وهذا بين لمن رزق الانصاف وألهم رشده. قلت: وقد بالغ مالك رحمه الله في منع الزيادة حتى جعل المتوهم كالمتحقق، فمنع دينارا ودرهما بدينار ودرهم سدا للذريعة وحسما للتوهمات، إذ لولا توهم الزيادة لما تبادلا. وقد علل منع ذلك بتعذر المماثلة عند التوزيع، فإنه يلزم منه ذهب وفضة بذهب. وأوضح من هذا منعه التفاضل المعنوي، وذلك أنه منع دينارا من الذهب العالي ودينارا من الذهب الدون في مقابلة العالي وألغى الدون، وهذا من دقيق نظره رحمه الله، فدل أن تلك الرواية عنه منكرة ولا تصح. والله أعلم. السابعة- قال الخطابي: التبر قطع الذهب والفضة قبل أن تضرب وتطبع دراهم أو دنانير، واحدتها تبرة. والعين: المضروب من الدراهم أو الدنانير. وقد حرم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يباع مثقال ذهب عين بمثقال وشئ من تبر غير مضروب. وكذلك حرم التفاوت بين المضروب من الفضة وغير المضروب منها، وذلك معنى قوله:" تبرها وعينها سواء". الثامنة- أجمع العلماء على أن التمر بالتمر ولا يجوز إلا مثلا بمثل. واختلفوا في بيع التمرة الواحدة بالتمرتين، والحبة الواحدة من القمح بحبتين، فمنعه الشافعي وأحمد وإسحاق والثوري، وهو قياس قول مالك وهو الصحيح، لان ما جرى الربا فيه بالتفاضل في كثيره دخل قليله في ذلك قياسا ونظرا. احتج من أجاز ذلك بأن مستهلك التمرة والتمرتين لا تجب عليه القيمة، قال: لأنه لا مكيل ولا موزون فجاز فيه التفاضل. التاسعة- اعلم رحمك الله أن مسائل هذا الباب كثيرة وفروعه منتشرة، والذي يربط لك ذلك أن تنظر إلى ما اعتبره كل واحد من العلماء في علة الربا، فقال أبو حنيفة:

علة ذلك كونه مكيلا أو موزونا جنسا، فكل ما يدخله الكيل أو الوزن عنده من جنس واحد، فإن بيع بعضه ببعض متفاضلا أو
نسيئا لا يجوز، فمنع بيع التراب بعضه ببعض متفاضلا، لأنه يدخله الكيل، وأجاز الخبز قرصا بقرصين، لأنه لم يدخل عنده في الكيل الذي هو أصله، فخرج من الجنس الذي يدخله الربا إلى ما عداه. وقال الشافعي: العلة كونه مطعوما جنسا. هذا قوله في الجديد، فلا يجوز عنده بيع الدقيق بالخبز ولا بيع الخبز بالخبز متفاضلا ولا نسيئا، وسواء أكان الخبز خميرا أو فطيرا. ولا يجوز عنده بيضة ببيضتين، ولا رمانة برمانتين، ولا بطيخة ببطيختين لا يدا بيد ولا نسيئة، لان ذلك كله طعام مأكول. وقال في القديم: كونه مكيلا أو موزونا. واختلفت عبارات أصحابنا المالكية في ذلك، وأحسن ما في ذلك كونه مقتاتا مدخرا للعيش غالبا جنسا، كالحنطة والشعير والتمر والملح المنصوص عليها، وما في معناها كالارز والذرة والدخن والسمسم، والقطاني كالفول والعدس واللوبياء والحمص، وكذلك اللحوم والألبان والخلول والزيوت، والثمار كالعنب والزبيب والزيتون، واختلف في التين، ويلحق بها العسل والسكر. فهذا كله يدخله الربا من جهة النساء. وجائز فيه التفاضل لقوله عليه السلام:" إذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد". ولا ربا في رطب الفواكه التي لا تبقى كالتفاح والبطيخ والرمان والكمثرى والقثاء والخيار والباذنجان وغير ذلك من الخضراوات. قال مالك: لا يجوز بيع البيض بالبيض متفاضلا، لأنه مما يدخر، ويجوز عنده مثلا بمثل. وقال محمد بن عبد الله بن عبد الحكم: جائز بيضة ببيضتين وأكثر، لأنه مما لا يدخر، وهو قول الأوزاعي. العاشرة- اختلف النحاة في لفظ" الربا" فقال البصريون: هو من ذوات الواو، لأنك تقول في تثنيته: ربوان، قاله سيبويه. وقال الكوفيون: يكتب بالياء، وتثنيته بالياء، لأجل الكسرة التي في أوله. قال الزجاج: ما رأيت خطأ أقبح من هذا ولا أشنع! لا يكفيهم الخطأ في الخط حتى يخطئوا في التثنية وهم يقرءون" وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ «1»" قال محمد بن يزيد: كتب" الرِّبا" في المصحف بالواو فرقا بينه وبين الزنا، وكان الربا أولى منه بالواو، لأنه من ربا يربو.
__________
(1). راجع ج 14 ص 36.

الحادية عشرة- قوله تعالى: (لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ) الجملة خبر الابتداء وهو" الَّذِينَ". والمعنى من قبورهم، قاله ابن عباس ومجاهد وابن جبير وقتادة والربيع والضحاك والسدي وابن زيد. وقال بعضهم: يجعل معه شيطان يخنقه. وقالوا كلهم: يبعث كالمجنون عقوبة له وتمقيتا عند جميع أهل المحشر. ويقوى هذا التأويل المجمع عليه أن في قراءة ابن مسعود" لا يقومون يوم القيامة إلا كما يقوم". قال ابن عطية: وأما ألفاظ الآية فكانت تحتمل تشبيه حال القائم بحرص وجشع إلى تجارة الدنيا «1» بقيام المجنون، لان الطمع والرغبة تستفزه حتى تضطرب أعضاؤه، وهذا كما تقول لمسرع في مشيه يخلط في هيئة حركاته إما من فزع أو غيره: قد جن هذا! وقد شبه الأعشى ناقته في نشاطها بالجنون في قوله:
وتصبح عن غب السرى وكأنما ... ألم بها من طائف الجن أولق «2»
وقال آخر:
لعمرك بى من حب أسماء أولق

لكن ما جاءت به قراءة ابن مسعود وتظاهرت به أقوال المفسرين يضعف هذا التأويل. و" يَتَخَبَّطُهُ" يتفعله من خبط يخبط، كما تقول: تملكه وتعبده. فجعل الله هذه العلامة لآكلة الربا، وذلك أنه أرباه في بطونهم فأثقلهم، فهم إذا خرجوا من قبورهم يقومون ويسقطون. ويقال: إنهم يبعثون يوم القيامة قد انتفخت بطونهم كالحبالى، وكلما قاموا سقطوا والناس يمشون عليهم. وقال بعض العلماء: إنما ذلك شعار لهم يعرفون به يوم القيامة ثم العذاب من وراء ذلك، كما أن الغال يجئ بما غل يوم القيامة بشهرة يشهر بها ثم العذاب من وراء ذلك. وقال تعالى:" يَأْكُلُونَ" والمراد يكسبون الربا ويفعلونه. وإنما خص الأكل بالذكر لأنه أقوى مقاصد الإنسان في المال، ولأنه دال على الجشع وهو أشد الحرص، يقال: رجل جشع بين الجشع وقوم جشعون، قاله في المجمل. فأقيم هذا البعض من توابع الكسب مقام الكسب كله، فاللباس والسكنى والادخار والإنفاق على العيال، داخل في قوله:" الَّذِينَ يَأْكُلُونَ".
__________
(1). في ابن عطية: تجارة الربا. الاولق: شبه الجنون.
(2). في ابن عطية: تجارة الربا. الاولق: شبه الجنون.

الثانية عشرة- في هذه الآية دليل على فساد إنكار من أنكر الصرع من جهة الجن، وزعم أنه من فعل الطبائع، وأن الشيطان لا يسلك في الإنسان ولا يكون منه مس، وقد مضى الرد عليهم فيما تقدم من هذا الكتاب. وقد روى النسائي عن أبى اليسر قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعو فيقول:" اللهم إنى أعوذ بك من التردي والهدم والغرق والحريق وأعوذ بك أن يتخبطني الشيطان عند الموت وأعوذ بك أن أموت في سبيلك مدبرا وأعوذ بك أن أموت لديغا". وروى من حديث محمد بن المثنى حدثنا أبو داود حدثنا همام عن قتادة عن أنس عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان يقول:" اللهم إنى أعوذ بك من الجنون والجذام والبرص وسيئ الاسقام". والمس: الجنون، يقال: مس الرجل وألس، فهو ممسوس ومألوس إذا كان مجنونا، وذلك علامة الربا في الآخرة. وروى في حديث الاسراء:" فانطلق بى جبريل فمررت برجال كثير كل رجل منهم بطنه مثل البيت الضخم متصدين على سابلة آل فرعون وآل فرعون يعرضون على النار بكرة وعشيا فيقبلون مثل الإبل المهيومة «1» يتخبطون الحجارة والشجر لا يسمعون ولا يعقلون فإذا أحس بهم أصحاب تلك البطون قاموا فتميل بهم بطونهم فيصرعون ثم يقوم أحدهم فيميل به بطنه فيصرع فلا يستطيعون براحا حتى يغشاهم آل فرعون فيطئونهم مقبلين ومدبرين فذلك عذابهم في البرزخ بين الدنيا والآخرة وآل فرعون يقولون اللهم لا تقم الساعة أبدا، فإن الله تعالى يقول:" وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ «2»"- قلت- يا جبريل من هؤلاء؟ قال:" هؤلاء الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ". والمس الجنون وكذلك الاولق والألس والرود «3». الثالثة عشرة- قوله تعالى: (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا) معناه عند جميع المتأولين في الكفار، ولهم قيل:" فَلَهُ ما سَلَفَ" ولا يقال ذلك لمؤمن عاص بل ينقض بيعه
__________
(1). المهيوم: المصاب بداء الهيام، وهو داء يصيب الإبل من ماء تشربه مستنقعا فتهيم في الأرض لا ترعى. وقيل: هو داء يصيبها فتعطش فلا تروى: وقيل: داء من شدة العطش.
(2). راجع ج 15 ص 318.
(3). كذا في الأصول وابن عطية ولم يبدلها وجه اللهم إلا ما ورد: إن الشيطان يريد ابن آدم بكل ريدة، أي بكل مطلب ومراد، والريدة اسم من الإرادة. النهاية.

ويرد فعله وإن كان جاهلا، فلذلك قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد". لكن قد يأخذ العصاة في الربا بطرف من وعيد هذه الآية. الرابعة عشرة- قوله تعالى: (إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا) أي إنما الزيادة عند حلول الأجل آخرا كمثل أصل الثمن في أول العقد، وذلك أن العرب كانت لا تعرف ربا إلا ذلك، فكانت إذا حل دينها قالت للغريم: إما أن تقضى وإما أن تربى، أي تزيد في الدين. فحرم الله سبحانه ذلك ورد عليهم قولهم بقوله الحق:" وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا" وأوضح أن الأجل إذا حل ولم يكن عنده ما يؤدى أنظر إلى الميسرة. وهذا الربا هو الذي نسخه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله يوم عرفة لما قال:" ألا إن كل ربا موضوع وإن أول ربا أضعه ربانا ربا عباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله". فبدأ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعمه وأخص الناس به. وهذا من سنن العدل للإمام أن يفيض العدل على نفسه وخاصته فيستفيض حينئذ في الناس. الخامسة عشرة قوله تعالى: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا) هذا من عموم القرآن، والألف واللام للجنس لا للعهد إذ لم يتقدم بيع مذكور يرجع إليه، كما قال تعالى:" وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ" ثم استثنى" إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ «1»". وإذا ثبت أن البيع عام فهو مخصص بما ذكرناه من الربا وغير ذلك مما نهى عنه ومنع العقد عليه، كالخمر والميتة وحبل الحبلة «2» وغير ذلك مما هو ثابت في السنة وإجماع الامة النهى عنه. ونظيره" فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ «3»" وسائر الظواهر التي تقتضي العمومات ويدخلها التخصيص، وهذا مذهب أكثر الفقهاء. وقال بعضهم: هو مجمل القرآن الذي فسر بالمحلل من البيع وبالمحرم فلا يمكن أن يستعمل في إحلال البيع وتحريمه إلا أن يقترن به بيان من سنة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإن دل على إباحة البيوع في الجملة دون التفصيل. وهذا فرق ما بين العموم والمجمل.
__________
(1). راجع ج 20 ص 178.
(2). الحبل (بالتحريك) مصدر سمى به المحمول كما سمى بالحمل، وإنما دخلت عليه التاء للاشعار بمعنى الأنوثة فيه، فالحبل الأول يراد به ما في بطون النوق من الحمل، والثاني حبل ما في بطون النوق، وإنما نهى عنه لمعنيين: أحدهما أنه غرر، وبيع شي لم يخلق بعد، وهو أن يبيع ما سوف يحمله الجنين الذي في بطن الناقة على تقدير أن تكون أنثى، فهو بيع نتاج الناتج. وقيل أراد بحبل الحبلة أن يبيعه إلى أجل ينتج فيه الحمل الذي في بطن الناقة، فهو أجل مجهول ولا يصح (عن نهاية ابن الأثير).
(3). راجع ج 8 ص 71

فالعموم يدل على إباحة البيوع في الجملة والتفصيل ما لم يخص بدليل والمجمل لا يدل على إباحتها في التفصيل حتى يقترن به بيان. والأول أصح. والله أعلم. السادسة عشرة- البيع في اللغة مصدر باع كذا بكذا، أي دفع عوضا وأخذ معوضا. وهو يقتضى بائعا وهو المالك أو من ينزل منزلته، ومبتاعا وهو الذي يبذل الثمن، ومبيعا وهو المثمون وهو الذي يبذل في مقابلته الثمن. وعلى هذا فأركان البيع أربعة: البائع والمبتاع والثمن والمثمن. ثم المعاوضة عند العرب تختلف بحسب اختلاف ما يضاف إليه، فإن كان أحد المعوضين في مقابلة الرقبة سمى بيعا، وإن كان في مقابلة منفعة رقبة فإن كانت منفعة بضع سمى نكاحا، وإن كانت منفعة غيرها سمى إجارة، وإن كان عينا بعين فهو بيع النقد وهو الصرف، وان كان بدين مؤجل فهو السلم، وسيأتي بيانه في آية الدين «1». وقد مضى حكم الصرف، ويأتي حكم الإجارة في" القصص «2»" وحكم المهر في النكاح في" النساء «3»" كل في موضعه إن شاء الله تعالى. السابعة عشرة- البيع قبول وإيجاب يقع باللفظ المستقبل والماضي، فالماضي فيه حقيقة والمستقبل كناية، ويقع بالصريح والكناية المفهوم منها نقل الملك. فسواء قال: بعتك هذه السلعة بعشرة فقال: اشتريتها، أو قال المشترى: اشتريتها وقال البائع: بعتكها، أو قال البائع: أنا أبيعك بعشرة فقال المشترى: أنا أشترى أو قد اشتريت، وكذلك لو قال: خذها بعشرة أو أعطيتكها أو دونكها أو بورك لك فيها بعشرة أو سلمتها إليك- وهما يريدان البيع- فذلك كله بيع لازم. ولو قال البائع: بعتك بعشرة ثم رجع قبل أن يقبل المشترى فقد قال «4»: ليس له أن يرجع حتى يسمع قبول المشترى أو رده، لأنه قد بذل ذلك من نفسه وأوجبه عليها، وقد قال ذلك له، لان العقد لم يتم عليه. ولو قال البائع: كنت لاعبا، فقد اختلفت الرواية عنه، فقال مرة: يلزمه البيع ولا يلتفت إلى قوله. وقال مرة: ينظر إلى قيمة السلعة.
__________
(1). راجع ص 376 من هذا الجزء.
(2). راجع ج 13 ص 72 فما بعد.
(3). راجع ج 5 ص 23 وص 99.
(4). قوله فقد قال، يعنى مالكا كما يأتي قوله: فقد اختلفت الرواية عنه إلخ. [.....]

فإن كان الثمن يشبه قيمتها فالبيع لازم، وإن كان متفاوتا كعبد بدرهم ودار بدينار، علم أنه لم يرد به البيع، وإنما كان هازلا فلم يلزمه. الثامنة عشرة- قوله تعالى: (وَحَرَّمَ الرِّبا) الالف واللام هنا للعهد، وهو ما كانت العرب تفعله كما بيناه، ثم تتناول ما حرمه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونهى عنه من البيع الذي يدخله الربا وما في معناه من البيوع المنهي عنها. التاسعة عشرة- عقد الربا مفسوخ لا يجوز بحال، لما رواه الأئمة واللفظ لمسلم عن أبى سعيد الخدري قال: جاء بلال بتمر برني «1» فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" من أين هذا"؟ فقال بلال: من تمر كان عندنا ردئ، فبعت منه صاعين بصاع لمطعم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند ذلك:" أوه «2» عين الربا لا تفعل ولكن إذا أردت أن تشترى التمر فبعه ببيع آخر ثم اشتر به" وفي رواية" هذا الربا فردوه ثم بيعوا تمرنا واشتروا لنا من هذا". قال علماؤنا: فقوله:" أوه عين الربا" أي هو الربا المحرم نفسه لا ما يشبهه. وقوله:" فردوه" يدل على وجوب فسخ صفقة الربا وأنها لا تصح بوجه، وهو قول الجمهور، خلافا لابي حنيفة حيث يقول: إن بيع الربا جائز بأصله من حيث هو بيع، ممنوع بوصفه من حيث هو ربا، فيسقط الربا ويصح البيع. ولو كان على ما ذكر لما فسخ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذه الصفقة، ولأمره برد الزيادة على الصاع ولصحح الصفقة في مقابلة الصاع. الموفية عشرين- كل ما كان من حرام بين ففسخ فعلى المبتاع رد السلعة بعينها. فإن تلفت بيده رد القيمة فيما له القيمة، وذلك كالعقار والعروض والحيوان، والمثل فيما له مثل من موزون أو مكيل من طعام أو عرض. قال مالك: يرد الحرام البين فات أو لم يفت، وما كان مما كره الناس رد إلا أن يفوت فيترك.
__________
(1). البرني (بفتح الموحدة وسكون الراء في آخره ياء مشددة): ضرب من التمر أحمر بصفرة كثير اللحاء (وهو ما كسا النواة) عذب الحلاوة.
(2). تراجع هامشه 3 ص 236 من هذا الجزء.

الحادية والعشرون- قوله تعالى: (فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ) قال جعفر بن محمد الصادق رحمهما الله: حرم الله الربا ليتقارض الناس. وعن ابن مسعود عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:" قرض مرتين يعدل صدقة مرة" أخرجه البزار، وقد تقدم هذا المعنى مستوفى. وقال بعض الناس: حرمه الله لأنه متلفة للأموال مهلكة للناس. وسقطت علامة التأنيث في قوله تعالى:" فَمَنْ جاءَهُ" لان تأنيث" الموعظة" غير حقيقي وهو بمعنى وعظ. وقرا الحسن" فمن جاءته" بإثبات العلامة. هذه الآية تلتها عائشة لما أخبرت بفعل زيد بن أرقم. روى الدارقطني عن العالية بنت أنفع قالت: خرجت أنا وام محبة إلى مكة فدخلنا على عائشة رضى الله عنها فسلمنا عليها، فقالت لنا: ممن أنتن؟ قلنا من أهل الكوفة، قالت: فكأنها أعرضت عنا، فقالت لها أم محبة: يا أم المؤمنين! كانت لي جارية وإني بعتها من زيد بن أرقم الأنصاري بثمانمائة درهم إلى عطائه وإنه أراد بيعها فابتعتها منه بستمائة درهم نقدا. قالت: فأقبلت علينا فقالت: بئسما شريت وما اشتريت! فأبلغي زيدا أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا أن يتوب. فقالت لها: أرأيت إن لم آخذ منه إلا رأس مالى؟ قالت:" فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ". العالية هي زوج أبى إسحاق الهمداني الكوفي السبيعي أم يونس بن أبى إسحاق. وهذا الحديث أخرجه مالك من رواية ابن وهب عنه في بيوع الآجال، فإن كان منها ما يؤدى إلى الوقوع في المحظور منع منه وإن كان ظاهره بيعا جائزا. وخالف مالكا في هذا الأصل جمهور الفقهاء وقالوا: الأحكام مبنية على الظاهر لا على الظنون. ودليلنا القول بسد الذرائع، فإن سلم وإلا استدللنا على صحته. وقد تقدم. وهذا الحديث نص، ولا تقول عائشة" أبلغي زيدا أنه قد أبطل جهاده إلا أن يتوب" إلا بتوقيف، إذ مثله لا يقال بالرأى فإن إبطال الأعمال لا يتوصل إلى معرفتها إلا بالوحي كما تقدم. وفى صحيح مسلم عن النعمان بن بشير قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول:" إن الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى

حول الحمى يوشك أن يوقع فيه ألا وإن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله محارمه «1»". وجه دلالته أنه منع من الاقدام على المتشابهات مخافة الوقوع في المحرمات وذلك سد للذريعة. وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" إن من الكبائر شتم الرجل والديه" قالوا: وكيف يشتم الرجل والديه؟ قال:" يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه". فجعل التعريض لسب الآباء كسب الآباء. ولعن صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اليهود إذا أكلوا ثمن ما نهوا عن أكله. وقال أبو بكر في كتابه: لا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة. ونهى ابن عباس عن دراهم بدراهم بينهما جريرة «2». واتفق العلماء على منع الجمع بين بيع وسلف، وعلى تحريم قليل الخمر وإن كان لا يسكر، وعلى تحريم الخلوة بالأجنبية وإن كان عنينا، وعلى تحريم النظر إلى وجه المرأة الشابة إلى غير ذلك مما يكثر ويعلم على القطع والثبات أن الشرع حكم فيها بالمنع، لأنها ذرائع المحرمات. والربا أحق ما حميت مراتعه وسدت طرائقه، ومن أباح هذه الأسباب فليبح حفر البئر ونصب الحبالات لهلاك المسلمين والمسلمات، وذلك لا يقوله أحد. وأيضا فقد اتفقنا على منع من باع بالعينة إذا عرف بذلك وكانت عادته، وهى في معنى هذا الباب. والله الموفق للصواب. الثانية والعشرون- روى أبو داود عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول:" إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم". في إسناده أبو عبد الرحمن الخراساني. ليس بمشهور «3». وفسر أبو عبيد الهروي العينة فقال: هي أن يبيع من رجل سلعة بثمن معلوم إلى أجل مسمى، ثم يشتريها منه بأقل من الثمن الذي باعها به. قال: فإن اشترى بحضرة طالب العينة سلعة من آخر بثمن معلوم وقبضها ثم باعها من طالب العينة بثمن أكثر مما اشتراه إلى أجل مسمى، ثم باعها المشترى من البائع الأول بالنقد بأقل من الثمن
__________
(1). الحديث أثبتناه كما في صحيح مسلم طبع الآستانة ص 50 ج 5. وفى ب وهـ وج: يوشك أن يواقعه.
(2). كذا في هـ وا وفي ح وب وج: حريره، والذي يبدو أن المعنى: دراهم بدراهم معها شي قد يكون فيه تفاضل، ولعل الأصل: بينهما جديدة. أي بينهما تفاضل لما بين الجديد والقديم منها من الفرق.
(3). في اعلى الهامش: في إسناده أبو عبد الرحمن الخراساني اسمه إسحاق بن أسيد نزيل مصر لا يحتج به، فيه أيضا عطاء الخراساني، وفية: فقال لهم لم يذكره الشيخ رضي الله عنه ليس بمشهور.

فهذه أيضا عينة، وهى أهون من الاولى، وهو جائز عند بعضهم. وسميت عينة لحضور «1» النقد لصاحب العينة، وذلك أن العين هو المال الحاضر والمشترى إنما يشتريها ليبيعها بعين حاضر يصل إليه من فوره. الثالثة والعشرون- قال علماؤنا: فمن باع سلعة بثمن إلى أجل ثم ابتاعها بثمن من جنس الثمن الذي باعها به، فلا يخلو أن يشتريها منه بنقد، أو إلى أجل دون الأجل الذي باعها إليه، أو إلى أبعد منه، بمثل الثمن أو بأقل منه أو بأكثر، فهذه ثلاث مسائل: وأما الاولى والثانية فإن كان بمثل الثمن أو أكثر جاز، ولا يجوز بأقل على مقتضى حديث عائشة، لأنه أعطى ستمائة ليأخذ ثمانمائة والسلعة لغو، وهذا هو الربا بعينه. وأما الثالثة إلى أبعد من الأجل، فإن كان اشتراها وحدها أو زيادة فيجوز بمثل الثمن أو أقل منه، ولا يجوز بأكثر، فإن اشترى بعضها فلا يجوز على كل حال لا بمثل الثمن ولا بأقل ولا بأكثر. ومسائل هذا الباب حصرها علماؤنا في سبع وعشرين مسألة، ومدارها على ما ذكرناه، فاعلم. الرابعة والعشرون- قوله تعالى: (فَلَهُ ما سَلَفَ) أي من أمر الربا لا تباعة عليه منه في الدنيا ولا في الآخرة، قاله السدى وغيره. وهذا حكم من الله تعالى لمن أسلم من كفار قريش وثقيف ومن كان يتجر هنالك. وسلف: معناه تقدم في الزمن وانقضى. الخامسة والعشرون- قوله تعالى: (وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ) فيه أربع تأويلات: أحدها أن الضمير عائد إلى الربا، بمعنى وأمر الربا إلى الله في إمرار تحريمه أو غير ذلك. والآخر أن يكون الضمير عائدا على" ما سَلَفَ" أي أمره إلى الله تعالى في العفو عنه وإسقاط التبعة فيه. والثالث أن يكون الضمير عائدا على ذى الربا، بمعنى أمره إلى الله في أن يثبته على الانتهاء أو يعيده «2» إلى المعصية في الربا. واختار هذا القول النحاس، قال: وهذا قول حسن بين، أي وأمره إلى الله في المستقبل إن شاء ثبته على التحريم وإن شاء أباحه. والرابع أن يعود الضمير على المنتهى، ولكن بمعنى التأنيس له وبسط أمله في الخير، كما تقول: وأمره إلى طاعة وخير، وكما تقول: وأمره في نمو وإقبال إلى الله تعالى وإلى طاعته.
__________
(1). في هـ وب وح: لحصول.
(2). كذا في ابن عطية وهـ وب وج، وفي ح وا: أمره إلى الله في أن يثيبه ... أو يعذبه على المعصية في الربا.

السادسة والعشرون- قوله تعالى: (وَمَنْ عادَ) يعنى إلى فعل الربا حتى يموت، قاله سفيان. وقال غيره: من عاد فقال إنما البيع مثل الربا فقد كفر. قال ابن عطية: إن قدرنا الآية في كافر فالخلود خلود تأبيد حقيقي، وإن لحظناها في مسلم عاص فهذا خلود مستعار على معنى المبالغة، كما تقول العرب: ملك خالد، عبارة عن دوام ما لا يبقى على التأبيد الحقيقي: السابعة والعشرون- قوله تعالى: (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا) يعنى في الدنيا أي يذهب بركته وإن كان كثيرا. روى ابن مسعود عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال:" إن الربا وإن كثر فعاقبته إلى قل". وقيل:" يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا" يعنى في الآخرة. وعن ابن عباس في قوله تعالى:" يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا" قال: لا يقبل منه صدقة ولا حجا ولا جهادا ولا صلة. والمحق: النقص والذهاب، ومنه محاق القمر وهو انتقاصه. (وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ) أي ينميها في الدنيا بالبركة ويكثر ثوابها بالتضعيف في الآخرة. وفى صحيح مسلم «1»:" إن صدقة أحدكم لتقع في يد الله فيربيها له كما يربى أحدكم فلوه أو فصيله حتى يجئ يوم القيامة وإن اللقمة لعلى قدر أحد". وقرا ابن الزبير" يمحق" بضم الياء وكسر الحاء مشددة" يربى" بفتح الراء وتشديد الباء، ورويت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كذلك. الثامنة والعشرون- قوله تعالى: (وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ) ووصف كفار بأثيم مبالغة، من حيث اختلف اللفظان. وقيل: لازالة الاشتراك في كفار، إذ قد يقع على الزارع الذي يستر الحب في الأرض: قاله ابن فورك. وقد تقدم القول في قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ). وخص الصلاة والزكاة بالذكر وقد تضمنها عمل الصالحات تشريفا لهما وتنبيها على قدرهما إذ هما رأس الأعمال، الصلاة في أعمال البدن، والزكاة في أعمال المال. التاسعة والعشرون- قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) ظاهره أنه أبطل من الربا ما لم يكن مقبوضا وإن كان معقودا قبل
__________
(1). كذا في ج، وفي سائر الأصول: في صحيح الحديث.

نزول آية التحريم ولا يتعقب بالفسخ ما كان مقبوضا. وقد قيل: إن الآية نزلت بسبب ثقيف، وكانوا عاهدوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أن مالهم من الربا على الناس فهو لهم، وما للناس عليهم فهو موضوع عنهم، فلما أن جاءت آجال رباهم بعثوا إلى مكة للاقتضاء، وكانت الديون لبنى عبد ة وهم بنو عمرو بن عمير من ثقيف، وكانت على بنى المغيرة المخزوميين. فقال بنو المغيرة: لا نعطى شيئا فإن الربا قد رفع ورفعوا أمرهم إلى عتاب بن أسيد، فكتب به إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ونزلت الآية فكتب بها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى عتاب، فعلمت بها ثقيف فكفت. هذا سبب الآية على اختصار مجموع ما روى ابن إسحاق وابن جريج والسدي وغيرهم. والمعنى اجعلوا بينكم وبين عذاب الله وقاية بترككم ما بقي لكم من الربا وصفحكم عنه. الموفية ثلاثين- قوله تعالى: (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) شرط محض في ثقيف على بابه، لأنه كان في أول دخولهم في الإسلام. وإذا قدرنا الآية فيمن قد تقرر إيمانه فهو شرط مجازى على جهة المبالغة، كما تقول لمن تريد إقامة «1» نفسه: إن كنت رجلا فافعل كذا. وحكى النقاش عن مقاتل بن سليمان أنه قال: إن" إِنْ" في هذه الآية بمعنى" إذ". قال ابن عطية: وهذا مردود لا يعرف في اللغة. وقال ابن فورك: يحتمل أن يريد" يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا" بمن قبل محمد عليه السلام من الأنبياء" ذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ" بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! إذ لا ينفع الأول إلا بهذا. وهذا مردود بما روى في سبب الآية. الحادية والثلاثون- قوله تعالى: (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) هذا وعيد إن لم يذروا الربا، والحرب داعية القتل. وروى ابن عباس أنه يقال يوم القيامة لآكل الربا: خذ سلاحك للحرب. وقال ابن عباس أيضا: من كان مقيما على الربا لا ينزع عنه فحق على إمام المسلمين أن يستثيبه، فإن نزع وإلا ضرب عنقه. وقال قتادة: أوعد الله أهل الربا بالقتل فجعلهم بهرجا «2» أينما ثقفوا «3». وقيل: المعنى إن لم تنتهوا فأنتم حرب لله ولرسوله، أي
__________
(1). أي إثارة نفسه.
(2). البهرج: الشيء المباح.
(3). ثقفه: أخذه أو ظفر به أو صادفه.

أعداء. وقال ابن خويز منداد: ولو أن أهل بلد اصطلحوا على الربا استحلالا كانوا مرتدين، والحكم فيهم كالحكم في أهل الردة، وإن لم يكن ذلك منهم استحلالا جاز للإمام محاربتهم، ألا ترى أن الله تعالى قد أذن في ذلك فقال:" فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ". وقرا أبو بكر عن عاصم" فآذنوا، على معنى فأعلموا غيركم أنكم على حربهم. الثانية والثلاثون- ذكر ابن بكير قال: جاء رجل إلى مالك بن أنس فقال: يا أبا عبد الله، إنى رأيت رجلا سكرانا يتعاقر يريد أن يأخذ القمر، فقلت: امرأتي طالق إن كان يدخل جوف ابن آدم أشر من الخمر. فقال: ارجع حتى أنظر في مسألتك. فأتاه من الغد فقال له: ارجع حتى أنظر في مسألتك فأتاه من الغد فقال له: امرأتك طالق، إنى تصفحت كتاب الله وسنة نبيه فلم أر شيئا أشر «1» من الربا، لان الله أذن فيه بالحرب. الثالثة والثلاثون- دلت هذه الآية على أن أكل الربا والعمل به من الكبائر، ولا خلاف في ذلك على نبينه. وروى عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال:" يأتي على الناس زمان لا يبقى أحد إلا أكل الربا ومن لم يأكل الربا أصابه غباره" وروى الدارقطني عن عبد الله ابن حنظلة «2» غسيل الملائكة أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:" لدرهم ربا أشد عند الله تعالى من ست وثلاثين زنية في الخطيئة" وروى عنه عليه السلام أنه قال:" الربا تسعة وتسعون بابا أدناها كإتيان الرجل بأمه" يعنى الزنا بأمه. وقال ابن مسعود آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهده ملعون على لسان محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وروى البخاري عن أبى جحيفة قال: نهى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ثمن الدم «3» وثمن الكلب وكسب البغي ولعن آكل الربا وموكله والواشمة والمستوشمة والمصور «4». وفى صحيح مسلم عن أبى هريرة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1). في ج وهـ وب: أشد.
(2). في الاستيعاب أن حنظلة الغسيل قتل يوم أحد شهيدا قتله أبو سفيان. كلن قد ألم بأهله في حين خروجه إلى أحد ثم هجم عليه من الخروج في النفير ما أنساه الغسل وأعجله عنه، فلما قتل شهيدا أخبر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن الملائكة غسلته.
(3). أي أجرة إلجامه، وأطلق عليه الثمن تجوزا. [.....]
(4). اعتمدنا الحديث كما في صحيح البخاري راجع العسقلاني ج 10 ص 220.

قال:" اجتنبوا السبع الموبقات ...- وفيها- واكل الربا". وفى مصنف أبى داود عن ابن مسعود قال: لعن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهده. الرابعة والثلاثون- قوله تعالى:" وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ" الآية. روى أبو داود عن سليمان بن عمرو عن أبيه قال سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول في حجة الوداع:" ألا إن كل ربا من ربا الجاهلية. موضوع فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ" وذكر الحديث. فردهم تعالى مع التوبة إلى رؤوس أموالهم وقال لهم:" لا تَظْلِمُونَ" في أخذ الربا" وَلا تُظْلَمُونَ" في أن يتمسك بشيء من رؤوس أموالكم فتذهب أموالكم. ويحتمل أن يكون" لا تَظْلِمُونَ" في مطل، لان مطل الغنى ظلم، فالمعنى أنه يكون القضاء مع وضع الربا، وهكذا سنة الصلح، وهذا أشبه شي بالصلح. ألا ترى أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما أشار إلى كعب بن مالك في دين ابن أبى حدرد بوضع الشطر فقال كعب: نعم، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للآخر:" قم فاقضه". فتلقى العلماء أمره بالقضاء سنة في المصالحات. وسيأتي في" النساء «1»" بيان الصلح وما يجوز منه وما لا يجوز، إن شاء الله تعالى. الخامسة والثلاثون- قوله تعالى:" وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ" تأكيد لإبطال ما لم يقبض منه واخذ رأس المال الذي لا ربا فيه. فاستدل بعض العلماء بذلك على أن كل ما طرأ على البيع قبل القبض مما يوجب تحريم العقد أبطل العقد، كما إذا اشترى مسلم صيدا ثم أحرم المشترى أو البائع قبل القبض بطل البيع، لأنه طرأ عليه قبل القبض ما أوجب تحريم العقد، كما أبطل الله تعالى ما لم يقبض، لأنه طرأ عليه ما أوجب تحريمه قبل القبض، ولو كان مقبوضا لم يؤثر. هذا مذهب أبى حنيفة، وهو قول لأصحاب الشافعي. ويستدل به على أن هلاك المبيع قبل القبض في يد البائع وسقوط القبض فيه يوجب بطلان العقد خلافا لبعض السلف، ويروى هذا الخلاف عن أحمد. وهذا إنما يتمشى على قول من يقول: إن العقد في الربا كان في الأصل منعقدا، وإنما بطل بالإسلام الطارئ قبل
__________
(1). راجع ج 5 ص 405، 385

القبض. وأما من منع انعقاد الربا في الأصل لم يكن هذا الكلام صحيحا، وذلك أن الربا كان محرما في الأديان، والذي فعلوه في الجاهلية كان عادة المشركين، وأن ما قبضوه منه كان بمثابة أموال وصلت إليهم بالغصب «1» والسلب فلا يتعرض له. فعلى هذا لا يصح الاستشهاد على ما ذكروه من المسائل. واشتمال شرائع الأنبياء قبلنا على تحريم الربا مشهور مذكور في كتاب الله تعالى، كما حكى عن اليهود في قوله تعالى:" وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ «2»". وذكر في قصة شعيب أن قومه أنكروا عليه وقالوا:" أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا «3»" فعلى هذا لا يستقيم الاستدلال به. نعم، يفهم من هذا أن العقود الواقعة في دار الحرب إذا ظهر عليها الامام لا يعترض عليها بالفسخ إن كانت معقودة على فساد. السادسة والثلاثون- ذهب بعض الغلاة من أرباب الورع إلى أن المال الحلال إذا خالطه حرام حتى لم يتميز ثم أخرج منه مقدار الحرام المختلط به لم يحل ولم يطب، لأنه يمكن أن يكون الذي أخرج هو الحلال والذي بقي هو الحرام. قال ابن العربي: وهذا غلو في الدين، فإن كل ما لم يتميز فالمقصود منه ماليته لا عينه، ولو تلف لقام المثل مقامه والاختلاط إتلاف لتمييزه، كما أن الإهلاك إتلاف لعينه، والمثل قائم مقام الذاهب، وهذا بين حسا بين معنى. والله أعلم. قلت: قال علماؤنا إن سبيل التوبة مما بيده من الأموال الحرام إن كانت من ربا فليردها على من أربى عليه، ومطلبه إن لم يكن حاضرا، فإن أيس من وجوده فليتصدق بذلك عنه. وإن أخذه بظلم فليفعل كذلك في أمر من ظلمه. فإن التبس عليه الامر ولم يدر كم الحرام من الحلال مما بيده، فإنه يتحرى قدر ما بيده مما يجب عليه رده، حتى لا يشك أن ما يبقى قد خلص له فيرده من ذلك الذي أزال عن يده إلى من عرف ممن ظلمه أو أربى عليه. فإن أيس من وجوده تصدق به عنه. فإن أحاطت المظالم بذمته وعلم أنه وجب عليه من ذلك ما لا يطيق أداءه أبدا لكثرته فتوبته أن يزيل ما بيده أجمع إما إلى المساكين وإما إلى ما فيه
__________
(1). في ا: بالهبة فلا يتعرض له، فلا معنى له، وإنما لا يتعرض له لان الإسلام يجب ما قبله. وفى ج: بالنهب.
(2). راجع ج 6 ص 12.
(3). راجع ج 9 ص 86 و87

صلاح المسلمين، حتى لا يبقى في يده إلا أقل ما يجزئه في الصلاة من اللباس وهو ما يستر العورة وهو من سرته إلى ركبتيه، وقوت يومه، لأنه الذي يجب له أن يأخذه من مال غيره إذا اضطر إليه، وإن كره ذلك من يأخذه منه. وفارق ها هنا المفلس في قول أكثر العلماء، لان المفلس لم يصر إليه أموال الناس باعتداء بل هم الذين صيروها إليه، فيترك له ما يواريه وما هو هيئة لباسه. وأبو عبيد وغيره يرى ألا يترك للمفلس اللباس إلا أقل ما يجزئه في الصلاة وهو ما يواريه من سرته إلى ركبته، ثم كلما وقع بيد هذا شي أخرجه عن يده ولم يمسك منه إلا ما ذكرنا، حتى يعلم هو ومن يعلم حاله أنه أدى ما عليه. السابعة والثلاثون- هذا الوعيد الذي وعد الله به في الربا من المحاربة، قد ورد عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مثله في المخابرة. وروى أبو داود قال: أخبرنا يحيى بن معين قال أخبرنا ابن رجاء «1» قال ابن خيثم حدثني عن أبى الزبير عن جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول:" من لم يذر المخابرة فليؤذن بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ". وهذا دليل على منع المخابرة وهى أخذ الأرض بنصف أو ثلث أو ربع، ويسمى المزارعة. وأجمع أصحاب مالك كلهم والشافعي وأبو حنيفة وأتباعهم وداود، على أنه لا يجوز دفع الأرض على الثلث والربع، ولا على جزء مما تخرج، لأنه مجهول، إلا أن الشافعي وأصحابه وأبا حنيفة قالوا بجواز كراء الأرض بالطعام إذا كان معلوما، لقوله عليه السلام:" فأما شي معلوم مضمون فلا بأس به" خرجه مسلم. وإليه ذهب محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، ومنعه مالك وأصحابه، لما رواه مسلم أيضا عن رافع بن خديج قال: كنا نحاقل بالأرض على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فنكريها بالثلث والربع والطعام المسمى، فجاءنا ذات يوم رجل من عمومتي فقال: نهانا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن أمر كان لنا نافعا، وطواعية الله ورسوله أنفع لنا، نهانا أن نحاقل بالأرض فنكتريها على الثلث والربع والطعام المسمى، وأمر رب الأرض أن يزرعها أو يزارعها «2». وكره كراءها وما سوى ذلك. قالوا:
__________
(1). كذا في ج، هـ. وهو الصواب كما في سنن أبو داود، وفى ا، ب، ج: أبو رجاء.
(2). كذا في ا: وهو ما نهى عنه، والذي في ب، ج، ح، هـ: يزرعها أو يزرعها. أي أمكن غيره من زرعها وهذا في معنى الحديث" من كانت له فليزرعها أو ليمنحها أخاه".

فلا يجوز كراء الأرض بشيء من الطعام مأكولا كان أو مشروبا على حال، لان ذلك في معنى بيع الطعام بالطعام نسيئا. وكذلك لا يجوز عندهم كراء الأرض بشيء مما يخرج منها وإن لم يكن طعاما مأكولا ولا مشروبا، سوى الخشب والقصب والحطب، لأنه عندهم في معنى المزابنة «1». هذا هو المحفوظ عن مالك وأصحابه. وقد ذكر ابن سحنون عن المغيرة بن عبد الرحمن المخزومي المدني أنه قال: لا بأس باكراء الأرض بطعام لا يخرج منها. وروى يحيى بن عمر عن المغيرة أن ذلك لا يجوز، كقول سائر أصحاب مالك. وذكر ابن حبيب، أن ابن كنانة كان يقول: لا تكرى الأرض بشيء إذا أعيد فيها نبت، ولا بأس أن تكرى بما سوى ذلك من جميع الأشياء مما يؤكل ومما لا يؤكل خرج منها أو لم يخرج منها، وبه قال يحيى بن يحيى، وقال: إنه من قول مالك. قال: وكان ابن نافع يقول: لا بأس أن تكرى الأرض بكل شي من طعام وغيره خرج منها أو لم يخرج، ما عدا الحنطة وأخواتها فإنها المحاقلة «2» المنهي عنها. وقال مالك في الموطأ: فأما الذي يعطى أرضه البيضاء بالثلث والربع مما يخرج منها فذلك مما يدخله الغرر، لان الزرع يقل مرة ويكثر أخرى، وربما هلك رأسا فيكون صاحب الأرض قد ترك كراء معلوما، وإنما مثل ذلك مثل رجل استأجر أجيرا لسفر بشيء معلوم، ثم قال الذي استأجر للأجير: هل لك أن أعطيك عشر ما أربح في سفري «3» هذا إجارة لك. فهذا لا يحل ولا ينبغي. قال مالك: ولا ينبغي لرجل أن يؤاجر نفسه ولا أرضه ولا سفينته ولا دابته إلا بشيء معلوم لا يزول. وبه يقول الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما. وقال أحمد بن حنبل والليث والثوري والأوزاعي والحسن بن حي وأبو يوسف ومحمد: لا بأس أن يعطى الرجل أرضه على جزء
__________
(1). المزابنة: كل شي من الجزاف الذي لا يعلم كيله ولا وزنه ولا عدده يتبع بشيء مسمى من الكيل أو الوزن أو العدد. وذلك أن يقول الرجل للرجل يكون له الطعام المصير الذي لا يعلم كيله من الحنطة أو التمر أو ما أشبه ذلك من الأطعمة. أو يكون للرجل السلعة من الخبط أو النوى أو القضب أو العصفر أو الكرسف أو الكتان أو ما أشبه ذلك من السلع لا يعلم كيل شي من ذلك ولا وزنه ولا عدده، فيقول الرجل لرب تلك السلعة: كل سلعتك هذه أومر من يكيلها أو زن من ذلك بوزن أو أعدد منها ما كان يعد فما نقص عن كيل كذا وكذا صاعا، لتسمية يسميها. أو وزن كذا وكذا رطلا أو عدد كذا وكذا فما ينقص من ذلك فعلى غرمه حتى أوفيك تلك التسمية، وما زاد على تلك التسمية فهو لي أضمن ما نقص من ذلك، على أن يكون لي ما زاد. وليس ذلك بيعا ولكنه المخاطرة، والغرر والقمار يدخل هذا. وقيل: المزابنة اسم لبيع التمر بالتمر كيلا، ورطب كل جنس بيابسه، ومجهول منه بمعلوم (عن الموطأ).
(2). المحاقلة: بيع الزرع قبل بدو صلاحه. وقيل: بيع الزرع في سنبله بالحنطة. وقيل: المزارعة على نصيب معلوم بالثلث أو الربع أو أقل من ذلك أو أكثر. وقيل اكتراء الأرض بالحنطة.
(3). في ج: سفرك.

مما تخرجه نحو الثلث والربع، وهو قول ابن عمر وطاوس. واحتجوا بقصة خيبر وأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عامل أهلها على شطر ما تخرجه أرضهم وثمارهم. قال أحمد: حديث رافع بن خديج في النهى عن كراء المزارع مضطرب الألفاظ ولا يصح، والقول بقصة خيبر أولى وهو حديث صحيح. وقد أجاز طائفة من التابعين ومن بعدهم أن يعطى الرجل سفينته ودابته، كما يعطى أرضه بجزء مما يرزقه الله في العلاج بها. وجعلوا أصلهم في ذلك القراض «1» المجمع عليه على ما يأتي بيانه في" المزمل" إن شاء الله تعالى عند قوله تعالى:" وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ «2»" وقال الشافعي في قول ابن عمر: كنا نخابر ولا نرى بذلك بأسا حتى أخبرنا رافع بن خديج أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عنها، أي كنا نكرى الأرض ببعض ما يخرج منها. قال: وفى ذلك نسخ لسنة خيبر. قلت: ومما يصحح قول الشافعي في النسخ ما رواه الأئمة واللفظ للدارقطني عن جابر أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن المحاقلة والمزابنة والمخابرة وعن الثنيا «3» إلا أن تعلم. صحيح. وروى أبو داود عن زيد بن ثابت قال: نهى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن المخابرة. قلت: وما المخابرة؟ قال: أن تأخذ الأرض بنصف أو ثلث أو أو ربع. الثامنة والثلاثون- في القراءات. قرأ الجمهور" ما بَقِيَ" بتحريك الياء، وسكنها الحسن، ومثله قول جرير:
هو الخليفة فارضوا ما رضى لكم ... ماضى العزيمة ما في حكمه جنف
وقال عمر بن أبى ربيعة:
كم قد ذكرتك لو أجزى بذكركم ... يا أشبه الناس كل الناس بالقمر
إنى لأجذل أن أمسى مقابله ... حبا لرؤية من أشبهت في الصور
__________
(1). القراض (بكسر القاف) عند المالكية هو ما يسمى بالمضاربة عند الحنفية، وهو إعطاء المقارض (بكسر الراء وهو رب المال) المقارض (بفتح الراء وهو العامل) مالا ليتجر به على أن يكون له جزء معلوم من الربح.
(2). راجع ج 19 ص 54.
(3). الثنيا: هي أن يستثنى في عقد البيع شي مجهول فيفسده. وقيل: هو أن يباع شي جزافا، فلا يجوز أن يستثنى منه شي قل أو كثر. وتكون" الثنايا" في المزارعة أن يستثنى بعد النصف أو الثلث كيل معلوم. (عن النهاية).

أصله" ما رضى" و" أن أمسى" فأسكنها وهو في الشعر كثير. ووجهه أنه شبه الياء بالألف فكما لا تصل الحركة إلى الالف فكذلك لا تصل هنا إلى الياء. ومن هذه اللغة أحب أن أدعوك، واشتهى أن أقضيك «1»، بإسكان الواو والياء. وقرا الحسن" ما بقي" بالألف، وهى لغة طيئ، يقولون للجارية: جاراه «2»، وللناصية: ناصاة، وقال الشاعر:
لعمرك لا أخشى التصعلك ما بقي ... على الأرض قيسي يسوق الأباعرا
وقرأ أبو السمال من بين جميع القراء" من الربو" بكسر الراء المشددة وضم الباء وسكون الواو. وقال أبو الفتح عثمان بن جنى: شذ هذا الحرف من أمرين، أحدهما الخروج من الكسر إلى الضم، والآخر وقوع الواو بعد الضم في آخر الاسم. وقال المهدوي. وجهها أنه فخم الالف فانتحى بها نحو الواو التي الالف منها، ولا ينبغي أن يحمل على غير هذا الوجه، إذ ليس في الكلام اسم آخره واو ساكنة قبلها ضمة. وأمال الكسائي وحمزة" الربا" لمكان الكسرة في الراء. الباقون بالتفخيم لفتحه الباء. وقرا أبو بكر عن عاصم وحمزة" فآذنوا" على معنى فآذنوا غيركم، فحذف المفعول. وقرا الباقون" فَأْذَنُوا" أي كونوا على إذن، من قولك: إنى على علم، حكاه أبو عبيد «3» عن الأصمعي. وحكى أهل اللغة أنه يقال: أذنت به إذنا، أي علمت به. وقال ابن عباس وغيره من المفسرين: معنى" فَأْذَنُوا" فاستيقنوا الحرب من الله تعالى، وهو بمعنى الاذن. ورجح أبو على وغيره قراءة المد قال: لأنهم إذا أمروا بإعلام غيرهم ممن لم ينته عن ذلك علموا هم لا محالة. قال: ففي إعلامهم علمهم وليس في علمهم إعلامهم. ورجح الطبري قراءة القصر، لأنها تختص بهم. وإنما أمروا على قراءة المد بإعلام غيرهم، وقرا جميع القراء" لا تَظْلِمُونَ" بفتح التاء" وَلا تُظْلَمُونَ" بضمها. وروى المفضل عن عام" لا تظلمون ولا تظلمون" بضم التاء في الاولى وفتحها في الثانية على العكس. وقال أبو على: تترجح قراءة الجماعة بأنها تناسب قوله:" وَإِنْ تُبْتُمْ" في إسناد الفعلين إلى الفاعل، فيجيء" تَظْلِمُونَ" بفتح التاء أشكل بما قبله.
__________
(1). في ج: أوصيك. [.....]
(2). في ج وب: جاراه، ناصاه.
(3). في ب: أبو عل.

وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280)

[سورة البقرة (2): آية 280]
وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280)
فيه تسع مسائل: الأول- قوله تعالى: (وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ) لما حكم عز وجل لأرباب الربا برءوس أموالهم عند الواجدين للمال، حكم في ذى العسرة بالنظرة إلى حال الميسرة، وذلك أن ثقيفا لما طلبوا أموالهم التي لهم على بنى المغيرة شكوا العسرة- يعنى بنى المغيرة- وقالوا: ليس لنا شي، وطلبوا الأجل إلى وقت ثمارهم، فنزلت هذه الآية" وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ". الثانية- قوله تعالى:" وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ" مع قوله" وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ" يدل على ثبوت المطالبة لصاحب الدين على المدين وجواز أخذ ماله بغير رضاه. ويدل على أن الغريم متى امتنع من أداء الدين مع الإمكان كان ظالما، فإن الله تعالى يقول:" فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ" فجعل له المطالبة برأس ماله. فإذا كان له حق المطالبة فعلى من عليه الدين لا محالة وجوب قضائه. الثالثة- قال المهدوي وقال بعض العلماء: هذه الآية ناسخة لما كان في الجاهلية من بيع من أعسر. وحكى مكي أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر به في صدر الإسلام. قال ابن عطية: فإن ثبت فعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهو نسخ وإلا فليس بنسخ. قال الطحاوي: كان الحر يباع في الدين أول الإسلام إذا لم يكن له مال يقضيه عن نفسه حتى نسخ الله ذلك فقال عز وجل:" وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ". واحتجوا بحديث رواه الدارقطني من حديث مسلم بن خالد الزنجي أخبرنا زيد بن أسلم عن ابن البيلماني «1» عن سرق قال: كان لرجل على مال- أو قال دين- فذهب بى إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلم يصب لي مالا فباعني منه، أو باعني له. أخرجه البزار بهذا الاسناد أطول منه. ومسلم بن خالد الزنجي وعبد الرحمن بن البيلماني لا يحتج بهما. وقال جماعة من أهل العلم
__________
(1). في الأصول إلا نسخة: ب:" عن ابن السلماني" وهو تحريف. راجع تهذيب التهذيب.

قوله تعالى:" فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ" عامة في جميع الناس، فكل من أعسر أنظر، وهذا قول أبى هريرة والحسن وعامة الفقهاء. قال النحاس: وأحسن ما قيل في هذه الآية قول عطاء والضحاك والربيع بن خيثم. قال: هي لكل معسر ينظر في الربا والدين كله. فهذا قول يجمع الأقوال، لأنه يجوز أن تكون ناسخة عامة نزلت في الربا ثم صار حكم غيره كحكمه. ولان القراءة بالرفع بمعنى وإن وقع ذو عسرة من الناس أجمعين. ولو كان في الربا خاصة لكان النصب الوجه، بمعنى وإن كان الذي عليه الربا ذا عسرة. وقال ابن عباس وشريح: ذلك في الربا خاصة، فأما الديون وسائر المعاملات فليس فيها نظرة بل يؤدى إلى أهلها أو يحبس فيه حتى يوفيه، وهو قول إبراهيم. واحتجوا بقول الله تعالى:" إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها" «1» الآية. قال ابن عطية: فكان هذا القول يترتب إذا لم يكن فقر مدقع، وأما مع العدم والفقر الصريح فالحكم هو النظرة ضرورة. الرابعة- من كثرت ديونه وطلب غرماؤه مالهم فللحاكم أن يخلعه عن كل ماله ويترك له ما كان من ضرورته. روى ابن نافع عن مالك أنه لا يترك له إلا ما يواريه. والمشهور أنه يترك له كسوته المعتادة ما لم يكن فيها فضل، ولا ينزع منه رداؤه إن كان ذلك مزريا به. وفى ترك كسوة زوجته وفى بيع كتبه إن كان عالما خلاف. ولا يترك له مسكن ولا خادم ولا ثوب جمعة ما لم تقل قيمتها، وعند هذا يحرم حبسه. والأصل في هذا قوله تعالى:" وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ". روى الأئمة واللفظ لمسلم عن أبى سعيد الخدري قال: أصيب رجل في عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ثمار ابتاعها فكثر دينه، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" تصدقوا عليه" فتصدق الناس عليه فلم يبلغ ذلك وفاء دينه. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لغرمائه:" خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك". وفى مصنف أبى داود: فلم يزد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غرماءه على أن خلع لهم ماله. وهذا نص، فلم يأمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بحبس الرجل، وهو معاذ بن جبل كما قال شريح، ولا بملازمته، خلافا لابي حنيفة فإنه قال: يلازم لإمكان أن يظهر له مال، ولا يكلف أن يكتسب لما ذكرنا. وبالله توفيقنا.
__________
(1). راجع ج 5 ص 255

الخامسة- ويحبس المفلس في قول مالك والشافعي وأبى حنيفة وغيرهم حتى يتبين عدمه. ولا يحبس عند مالك إن لم يتهم أنه غيب ماله ولم يتبين لدده. وكذلك لا يحبس إن صح عسره على ما ذكرنا. السادسة- فإن جمع مال المفلس ثم تلف قبل وصوله إلى أربابه وقبل البيع، فعلى المفلس ضمانه، ودين الغرماء ثابت في ذمته. فإن باع الحاكم ماله وقبض ثمنه ثم تلف الثمن قبل قبض الغرماء له، كان عليهم ضمانه وقد برئ المفلس منه. وقال محمد بن عبد الحكم: ضمانه من المفلس أبدا حتى يصل إلى الغرماء. السابعة- العسرة ضيق الحال من جهة عدم المال، ومنه جيش العسرة. والنظرة التأخير. والميسرة مصدر بمعنى اليسر. وارتفع" ذو" بكان التامة التي بمعنى وجد وحدث، هذا قول سيبويه وأبى على وغيرهما. وأنشد سيبويه: فدى لبنى ذهل بن شيبان ناقتي إذا كان يوم ذو كواكب أشهب «1» ويجوز النصب. وفى مصحف أبى بن كعب" وإن كان ذا عسرة" على معنى وإن كان المطلوب ذا عسرة. وقرا الأعمش" وإن كان معسرا فنظرة". قال أبو عمرو الداني عن أحمد بن موسى: وكذلك في مصحف أبى بن كعب. قال النحاس ومكي والنقاش: وعلى هذا يختص لفظ الآية بأهل الربا، وعلى من قرأ" ذو" فهي عامة في جميع من عليه دين، وقد تقدم. وحكى المهدوي أن في مصحف عثمان" فإن كان ذو عسرة"- بالفاء-. وروى المعتمر عن حجاج الوراق قال: في مصحف عثمان" وإن كان ذا عسرة" ذكره النحاس. وقراءة الجماعة" نظرة" بكسر الظاء. وقرا مجاهد وأبو رجاء والحسن" فنظرة" بسكون الظاء، وهى لغة تميمية وهم الذين يقولون: [في «2» [كرم زيد بمعنى كرم زيد، ويقولون كبد في كبد. وقرا نافع
__________
(1). البيت لمقاس العائذي، واسمه مسهر بن النعمان. أراد: وقع يوم أو حضر يوم ونحو ذلك مما يقتصر فيه على الفاعل. وأراد باليوم يوما من أيام الحرب، وصفه بالشدة فجعله كالليل تبدو فيه الكواكب، ونسبه إلى الشهبة إما لكثرة السلاح الصقيل فيه، وإما لكثرة النجوم. وذهل بن شيبان من بنى بكر بن وائل، وكان مقاس نازلا فيهم، وأصله من قريش من عائذة وهم حي منهم. (عن شرح الشواهد للشنتمري).
(2). عن ب.

وحده" ميسرة" بضم السين، والجمهور بفتحها. وحكى النحاس عن مجاهد وعطاء" فناظره- على الامر- إلى ميسرهي" بضم السين وكسر الراء وإثبات الياء في الإدراج. وقرى" فناظرة" قال أبو حاتم لا يجوز فناظرة، إنما ذلك في" النمل «1»" لأنها امرأة تكلمت بهذا لنفسها، من نظرت تنظر فهي ناظرة، وما في" البقرة" فمن التأخير، من قولك: أنظرتك بالدين، أي أخرتك به. ومنه قوله:" أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ «2»". وأجاز ذلك أبو إسحاق الزجاج وقال: هي من أسماء المصادر، كقوله تعالى:" لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ «3»". وكقوله تعالى:" تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ «4»" وك" خائِنَةَ الْأَعْيُنِ «5»" وغيره. الثامنة- قوله تعالى: (وَأَنْ تَصَدَّقُوا «6») ابتداء، وخبره (خَيْرٌ). ندب الله تعالى بهذه الألفاظ إلى الصدقة على المعسر وجعل ذلك خيرا من إنظاره، قاله السدى وابن زيد والضحاك. وقال الطبري: وقال آخرون: معنى الآية وأن تصدقوا على الغنى والفقير خير لكم. والصحيح الأول، وليس في الآية مدخل للغنى. التاسعة- روى أبو جعفر الطحاوي عن بريدة بن الخصيب قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" من أنظر معسرا كان له بكل يوم صدقة" ثم قلت: بكل يوم مثله صدقة، قال فقال:" بكل يوم صدقة ما لم يحل الدين فإذا أنظره بعد الحل فله بكل يوم مثله صدقة". وروى مسلم عن أبى مسعود قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" حوسب رجل ممن كان قبلكم فلم يوجد له من الخير شي إلا أنه كان يخالط الناس وكان موسرا فكان يأمر غلمانه أن يتجاوزوا عن المعسر قال قال الله عز وجل نحن أحق بذلك منه تجاوزوا عنه". وروى عن أبى قتادة أنه طلب غريما له فتوارى عنه ثم وجده فقال: إنى معسر. فقال: الله؟ قال: الله «7». قال: فإنى سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول:" من سره أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة فلينفس عن معسر أو يضع عنه"، وفى حديث أبى اليسر الطويل «8»- واسمه
__________
(1). راجع ج 13 ص 196.
(2). ج 10 ص 27.
(3). ج 17 ص 194
(4). ج 19 ص 108
(5). ج 15 ص 303.
(6). قراءة نافع الإدغام.
(7). قوله:" قال الله قال الله" قال النووي:" الأول بهمزة ممدودة على الاستفهام، والثاني بلا مد، والهاء فيهما مكسورة. قال القاضي: ورويناه بفتحهما معا وأكثر أهل العربية لا يجزون الكسر".
(8). الطويل: صفة للحديث. [.....]

وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281)

كعب بن عمروأنه سمع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول:" من أنظر معسرا أو وضع عنه أظله الله في ظله". ففي هذه الأحاديث من الترغيب ما هو منصوص فيها. وحديث أبى قتادة يدل على أن رب الدين إذا علم عسرة [غريمه «1»] أو ظنها حرمت عليه مطالبته، وإن لم تثبت عسرته عند الحاكم. وإنظار المعسر تأخيره إلى أن يوسر. والوضع عنه إسقاط الدين عن ذمته. وقد جمع المعنيين أبو اليسر لغريمه حيث محا عنه الصحيفة وقال له: إن وجدت قضاء فاقض وإلا فأنت في حل «2».

[سورة البقرة (2): آية 281]
وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (281)
قيل: إن هذه الآية نزلت قبل موت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بتسع ليال ثم لم ينزل بعدها شي، قاله ابن جريج. وقال ابن جبير ومقاتل: بسبع ليال. وروى بثلاث ليال. وروى أنها نزلت قبل موته بثلاث ساعات، وأنه عليه السلام قال:" اجعلوها بين آية الربا وآية الدين". وحكى مكي أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:" جاءني جبريل فقال اجعلها على رأس مائتين وثمانين آية". قلت: وحكى عن أبى بن كعب وابن عباس وقتادة أن آخر ما نزل:" لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ" إلى آخر الآية «3». والقول الأول أعرف وأكثر وأصح وأشهر. ورواه أبو صالح عن ابن عباس قال: آخر ما نزل من القرآن (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) فقال جبريل للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" يا محمد ضعها على رأس ثمانين ومائتين من البقرة". ذكره أبو بكر الأنباري في" كتاب الرد" له، وهو قول ابن عمر رضى الله عنه أنها آخر ما نزل، وأنه عليه السلام عاش بعدها أحدا وعشرين يوما، على ما يأتي بيانه في آخر سورة" إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ «4»" إن شاء تعالى. والآية وعظ لجميع
__________
(1). زيادة في هـ وج وب وط.
(2). راجع صحيح مسلم ج 2 ص 394 طبعه بولاق.
(3). راجع ج 8 ص 301.
(4). راجع ج 20 ص 229.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282)

الناس وأمر يخص كل إنسان. و" يَوْماً" منصوب على المفعول لا على الظرف." تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ" من نعته. وقرا أبو عمرو بفتح التاء وكسر الجيم، مثل" إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ «1»" واعتبارا بقراءة أبى" يوما تصيرون فيه إلى الله". والباقون بضم التاء وفتح الجيم، مثل" ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ «2»"." وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي «3»" واعتبارا بقراءة عبد الله" يوما تردون فيه إلى الله" وقرا الحسن" يرجعون" بالياء، على معنى يرجع جميع الناس. قال ابن جنى: كأن الله تعالى رفق بالمؤمنين على أن يواجههم بذكر الرجعة، إذ هي مما ينفطر لها القلوب فقال لهم:" وَاتَّقُوا يَوْماً" ثم رجع في ذكر الرجعة إلى الغيبة رفقا بهم. وجمهور العلماء على أن هذا اليوم المحذر منه هو يوم القيامة والحساب والتوفية. وقال قوم: هو يوم الموت. قال ابن عطية: والأول أصح بحكم الألفاظ في الآية. وفى قوله" إِلَى اللَّهِ" مضاف محذوف، تقديره إلى حكم الله وفصل قضائه." وَهُمْ" رد على معنى" كُلُّ" لا على اللفظ، إلا على قراءة الحسن" يرجعون" فقوله" وَهُمْ" رد على ضمير الجماعة في" يرجعون". وفى هذه الآية نص على أن الثواب والعقاب متعلق بكسب الأعمال، وهو رد على الجبرية، وقد تقدم.

[سورة البقرة (2): آية 282]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلاَّ تَرْتابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوها وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282)
__________
(1). راجع ج 20 ص 37.
(2). راجع ج 7 ص 6.
(3). راجع ج 10 ص 404

فيه اثنتان وخمسون مسألة: الاولى- قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ) الآية. قال سعيد بن المسيب «1»: بلغني أن أحدث القرآن بالعرش آية الدين. وقال ابن عباس: هذه الآية نزلت في السلم خاصة. معناه أن سلم أهل المدينة كان سبب الآية، ثم هي تتناول جميع المدائنات إجماعا. وقال ابن خويز منداد: إنها تضمنت ثلاثين حكما. وقد استدل بها بعض علمائنا على جواز التأجيل في القروض، على ما قال مالك، إذ لم يفصل بين القرض وسائر العقود في المدائنات. وخالف في ذلك الشافعية وقالوا: الآية ليس فيها جواز التأجيل في سائر الديون، وإنما فيها الامر بالإشهاد إذا كان دينا مؤجلا، ثم يعلم بدلالة أخرى جواز التأجيل في الدين وامتناعه. الثانية- قوله تعالى: (بِدَيْنٍ) تأكيد، مثل قوله" وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ «2»"." فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ «3»". وحقيقة الدين عبارة عن كل معاملة كان أحد العوضين فيها نقدا والآخر في الذمة نسيئة، فإن العين عند العرب ما كان حاضرا، والدين ما كان غائبا، قال الشاعر:
وعدتنا بدرهمينا طلاء ... وشواء معجلا غير دين
وقال آخر:
لترم بى المنايا حيث شاءت ... إذا لم ترم بى في الحفرتين
إذا ما أوقدوا حطبا ونارا ... فذاك الموت نقدا غير دين
وقد بين الله تعالى هذا المعنى بقوله الحق" إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى".
__________
(1). كذا في الطبري والأصول، إلا في ج: فسعيد بن جبير.
(2). ج 6 ص 3
(3). راجع ج 10 ص 25

الثالثة- قوله تعالى: (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) قال ابن المنذر: دل قول الله" إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى" على أن السلم إلى الأجل المجهول غير جائز، ودلت سنة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على مثل معنى كتاب الله تعالى. ثبت أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قدم المدينة وهم يستلفون في الثمار السنتين والثلاث، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" من أسلف في تمر فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم" رواه ابن عباس. أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما. وقال ابن عمر: كان أهل الجاهلية يتبايعون لحم الجزور إلى حبل الحبلة. وحبل الحبلة: أن تنتج الناقة ثم تحمل التي نتجت. فنهاهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ذلك. وأجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على أن السلم الجائز أن يسلم الرجل إلى صاحبه في طعام معلوم موصوف، من طعام أرض عامة لا يخطئ مثلها. بكيل معلوم، إلى أجل معلوم بدنانير أو دراهم معلومة، يدفع ممن ما أسلم فيه قبل أن يفترقا من مقامهما الذي تبايعا فيه، وسميا المكان الذي يقبض فيه الطعام. فإذا فعلا ذلك وكان جائز الامر كان سلما صحيحا لا أعلم أحدا من أهل العلم يبطله. قلت: وقال علماؤنا: إن السلم إلى الحصاد والجذاذ والنيروز والمهرجان جائز، إذ ذاك يختص بوقت وزمن معلوم. الرابعة- حد علماؤنا رحمة الله عليهم السلم فقالوا: هو بيع معلوم في الذمة محصور بالصفة بعين حاضرة أو ما هو في حكمها إلى أجل معلوم. فتقييده بمعلوم في الذمة يفيد التحرز من المجهول، ومن السلم في الأعيان المعينة، مثل الذي كانوا يستلفون في المدينة حين قدم عليهم النبي عليه السلام فإنهم كانوا يستلفون في ثمار نخيل بأعيانها، فنهاهم عن ذلك لما فيه من الغرر، إذ قد تخلف تلك الأشجار فلا تثمر شيئا. وقولهم" محصور بالصفة" تحرز عن المعلوم على الجملة دون التفصيل، كما لو أسلم في تمر أو ثياب أو حيتان ولم يبين نوعها ولا صفتها المعينة. وقولهم" بعين حاضرة" تحرز من الدين بالدين. وقولهم" أومأ هو في حكمها" تحرز من اليومين والثلاثة التي يجوز تأخير رأس مال السلم إليه، فإنه يجوز تأخيره عندنا ذلك القدر، بشرط

وبغير شرط لقرب ذلك، ولا يجوز اشتراطه عليها. ولم يجز الشافعي ولا الكوفي تأخير رأس مال السلم عن العقد والافتراق، ورأوا أنه كالصرف. ودليلنا أن البابين مختلفان بأخص أوصافهما، فإن الصرف بابه ضيق كثرت فيه الشروط بخلاف السلم فإن شوائب المعاملات عليه أكثر. والله أعلم. وقولهم" إلى أجل معلوم" تحرز من السلم الحال فإنه لا يجوز على المشهور وسيأتي. ووصف الأجل بالمعلوم تحرز من الأجل المجهول الذي كانوا في الجاهلية يسلمون إليه. الخامسة- السلم والسلف عبارتان عن معنى واحد وقد جاءا في الحديث، غير أن الاسم الخاص بهذا الباب" السلم" لان السلف يقال على القرض. والسلم بيع من البيوع الجائزة بالاتفاق، مستثنى من نهيه عليه السلام عن بيع ما ليس عندك. وأرخص في السلم، لان السلم لما كان بيع معلوم في الذمة كان بيع غائب تدعو إليه ضرورة كل واحد من المتابعين، فإن صاحب رأس المال محتاج إلى أن يشترى الثمرة، وصاحب الثمرة محتاج إلى ثمنها قبل إبانها لينفقه عليها، فظهر أن بيع السلم من المصالح الحاجية، وقد سماه الفقهاء بيع المحاويج، فإن جاز حالا بطلت هذه الحكمة وارتفعت هذه المصلحة، ولم يكن لاستثنائه من بيع ما ليس عندك فائدة. والله أعلم. السادسة- في شروط السلم المتفق عليها والمختلف فيها وهى تسعة: ستة في المسلم فيه، وثلاثة في رأس مال السلم. أما الستة التي في المسلم فيه فأن يكون في الذمة، وأن يكون موصوفا، وأن يكون مقدرا، وأن يكون مؤجلا، وأن يكون الأجل معلوما، وأن يكون موجودا عند محل الأجل. وأما الثلاثة التي في رأس مال السلم فأن يكون معلوم الجنس، مقدرا، نقدا. وهذه الشروط الثلاثة التي في رأس المال متفق عليها إلا النقد حسب ما تقدم. قال ابن العربي: وأما الشرط الأول وهو أن يكون في الذمة فلا إشكال في أن المقصود منه كونه في الذمة، لأنه مدائنه، ولولا ذلك لم يشرع دينا ولا قصد الناس إليه ربحا ورفقا. وعلى ذلك القول اتفق الناس. بيد أن مالكا قال: لا يجوز السلم في المعين «1» إلا بشرطين:
__________
(1). كذا في هـ وج، الذي في اوح: العين.

أحدهما أن يكون قرية مأمونة، والثاني أن يشرع في أخذه كاللبن من الشاة والرطب من النخلة، ولم يقل ذلك أحد سواه. وهاتان المسألتان صحيحتان في الدليل، لان التعيين امتنع في السلم مخافة المزابنة والغرر، لئلا يتعذر عند المحل. وإذا كان الموضع مأمونا لا يتعذر وجود ما فيه في الغالب جاز ذلك، إذ لا يتيقن ضمان العواقب على القطع في مسائل الفقه، ولا بد من احتمال الغرر اليسير، وذلك كثير في مسائل الفروع، تعدادها في كتب المسائل. وأما السلم في اللبن والرطب مع الشروع في أخذه فهي مسألة مدنية اجتمع عليها أهل المدينة، وهى مبنية على قاعدة المصلحة، لان المرء يحتاج إلى أخذ اللبن والرطب مياومة ويشق أن يأخذ كل يوم ابتداء، لان النقد قد لا يحضره ولان السعر قد يختلف عليه، وصاحب النخل واللبن محتاج إلى النقد، لان الذي عنده عروض لا يتصرف له. فلما اشتركا في الحاجة رخص لهما في هذه المعاملة قياسا على العرايا وغيرها من أصول الحاجات والمصالح. وأما الشرط الثاني وهو أن يكون موصوفا فمتفق عليه، وكذلك الشرط الثالث. والتقدير يكون من ثلاثة أوجه: الكيل، والوزن، والعدد، وذلك ينبني على العرف، وهو إما عرف الناس وإما عرف الشرع. وأما الشرط الرابع وهو أن يكون مؤجلا فاختلف فيه، فقال الشافعي: يجوز السلم الحال، ومنعه الأكثر من العلماء. قال ابن العربي: واضطربت المالكية في تقدير الأجل حتى ردوه إلى يوم، حتى قال بعض علمائنا: السلم الحال جائز. والصحيح أنه لا بد من الأجل فيه، لان المبيع على ضربين: معجل وهو العين، ومؤجل. فإن كان حالا ولم يكن عند المسلم إليه فهو من باب: بيع ما ليس عندك، فلا بد من الأجل حتى يخلص كل عقد على صفته وعلى شروطه، وتتنزل الأحكام الشرعية منازلها. وتحديده عند علمائنا مدة تختلف الأسواق في مثلها. وقول الله تعالى:" إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى" وقوله عليه السلام:" إلى أجل معلوم" يغنى عن قول كل قائل. قلت- الذي أجازه علماؤنا من السلم الحال ما تختلف فيه البلدان من الأسعار، فيجوز السلم فيما كان بينه وبينه يوم أو يومان أو ثلاثة. فأما في البلد الواحد فلا، لان سعره واحد،

والله أعلم. وأما الشرط الخامس وهو أن يكون الأجل معلوما فلا خلاف فيه بين الامة، لوصف الله تعالى ونبيه الأجل بذلك. وانفرد مالك دون الفقهاء بالأمصار بجواز البيع إلى الجذاذ والحصاد، لأنه رآه معلوما. وقد مضى القول في هذا عند قوله تعالى:" يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ «1»". وأما الشرط السادس وهو أن يكون موجودا عند المحل فلا خلاف فيه بين الامة أيضا، فإن انقطع المبيع عند محل الأجل بأمر من الله تعالى انفسخ العقد عند كافة العلماء. السابعة- ليس من شرط السلم أن يكون المسلم إليه مالكا للمسلم فيه خلافا لبعض السلف، لما رواه البخاري عن محمد بن المجالد قال: بعثني عبد الله بن شداد وأبو بردة إلى عبد الله بن أبى أوفى فقالا: سله هل كان أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسلفون في الحنطة؟ فقال عبد الله: كنا نسلف نبيط «2» أهل الشام في الحنطة والشعير والزيت في كيل معلوم إلى أجل معلوم. قلت: إلى من كان أصله عنده؟ قال: ما كنا نسألهم عن ذلك. ثم بعثاني إلى عبد الرحمن بن أبزى فسألته فقال: كان أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسلفون على عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم نسألهم ألهم حرث أم لا؟. وشرط أبو حنيفة وجود المسلم فيه من حين العقد إلى حين الأجل، مخافة أن يطلب المسلم فيه فلا يوجد فيكون ذلك غررا، وخالفه سائر الفقهاء وقالوا: المراعى وجوده عند الأجل. وشرط الكوفيون والثوري أن يذكر موضع القبض فيما له حمل ومئونة وقالوا: السلم فاسد إذا لم يذكر موضع القبض. وقال الأوزاعي: هو مكروه. وعندنا لو سكتوا عنه لم يفسد العقد، ويتعين موضع القبض، وبه قال أحمد وإسحاق وطائفة من أهل الحديث، لحديث ابن عباس فإنه ليس فيه ذكر المكان الذي يقبض فيه السلم، ولو كان من شروطه لبينه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما بين الكيل والوزن والأجل، ومثله ابن أبى أوفى.
__________
(1). راجع ج 2 ص 341.
(2). النبيط (بفتح النون وكسر الموحدة وآخره طاء مهملة) أهل الزراعة. وقيل: قوم ينزلون البطائح، وسموا به لاهتدائهم إلى استخراج المياه من الينابيع لكثرة معالجتهم الفلاحة. وقيل: نصارى الشام الذين عمروها. (عن القسطلاني).

الثامنة- روى أبو داود عن سعد (يعنى الطائي) عن عطية بن سعد عن أبى سعيد الخدري قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" من أسلف في شي فلا يصرفه إلى غيره". قال أبو محمد عبد الحق بن عطية: هو العوفى «1» ولا يحتج أحد بحديثه، وإن كان الأجلة قد رووا عنه. قال مالك: الامر عندنا فيمن أسلف في طعام بسعر معلوم إلى أجل مسمى فحل الأجل فلم يجد المبتاع عند البائع وفاء مما ابتاعه منه فأقاله، أنه لا ينبغي له أن يأخذ منه إلا ورقه أو ذهبه أو الثمن الذي دفع إليه بعينه، وأنه لا يشترى منه بذلك الثمن شيئا حتى يقبضه منه، وذلك أنه إذا أخذ غير الثمن الذي دفع إليه أو صرفه في سلعة غير الطعام الذي ابتاع منه فهو بيع الطعام قبل أن يستوفى. قال مالك: وقد نهى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن بيع الطعام قبل أن يستوفى. التاسعة- قوله تعالى: (فَاكْتُبُوهُ) يعنى الدين والأجل. ويقال: أمر بالكتابة ولكن المراد الكتابة والاشهاد، لان الكتابة بغير شهود لا تكون حجة. ويقال: أمرنا بالكتابة لكيلا ننسى. وروى أبو داود الطيالسي في مسنده عن حماد بن سلمة عن على بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قول الله عز وجل" إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ" إلى آخر الآية:" إن أول من جحد آدم عليه السلام إن الله أراه ذريته فرأى رجلا أزهر ساطعا نوره فقال يا رب من هذا قال هذا ابنك داود قال يا رب فما عمره قال ستون سنة قال يا رب زده في عمره فقال لا إلا أن تزيده من عمرك قال وما عمرى قال ألف سنة قال آدم فقد وهبت له أربعين سنة قال فكتب الله عليه كتابا وأشهد عليه ملائكته فلما حضرته الوفاة جاءته الملائكة قال إنه بقي من عمرى أربعون سنة، قالوا إنك قد وهبتها لابنك داود قال ما وهبت لاحد شيئا فأخرج الله تعالى الكتاب وشهد عليه ملائكته- في رواية: وأتم لداود مائة سنة ولآدم عمره ألف سنة". خرجه الترمذي أيضا. وفى قوله" فَاكْتُبُوهُ" إشارة ظاهرة إلى أنه يكتبه بجميع صفته المبينة له
__________
(1). العوفى: لقب عطية بن سعد. [.....]

المعربة عنه، للاختلاف المتوهم بين المتعاملين، المعرفة للحاكم ما يحكم به عند ارتفاعهما إليه. والله أعلم. العاشرة- ذهب بعض الناس إلى أن كتب الديون واجب على أربابها، فرض بهذه الآية، بيعا كان أو قرضا، لئلا يقع فيه نسيان أو جحود، وهو اختيار الطبري. وقال ابن جريج: من ادان فليكتب، ومن باع فليشهد. وقال الشعبي: كانوا يرون أن" قوله فَإِنْ أَمِنَ" ناسخ لأمره بالكتب. وحكى نحوه ابن جريج، وقاله ابن زيد، وروى عن أبى سعيد الخدري. وذهب الربيع إلى أن ذلك واجب بهذه الألفاظ، ثم خففه الله تعالى بقوله:" فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً". وقال الجمهور: الامر بالكتب ندب إلى حفظ الأموال وإزالة الريب، وإذا كان الغريم تقيا فما يضره الكتاب، وإن كان غير ذلك فالكتاب ثقاف «1» في دينه وحاجة صاحب الحق. قال بعضهم: إن أشهدت فحزم، وإن ائتمنت ففي حل وسعة. ابن عطية: وهذا هو القول الصحيح. ولا يترتب نسخ في هذا، لان الله تعالى ندب إلى الكتاب فيما للمرء أن يهبه ويتركه بإجماع، فندبه إنما هو على جهة الحيطة للناس. الحادية عشرة- قوله تعالى: (وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ) قال عطاء وغيره: واجب على الكاتب أن يكتب، وقال الشعبي، وذلك إذا لم يوجد كاتب سواه فواجب عليه أن يكتب. السدى: واجب مع الفراغ. وحذفت اللام من الأول وأثبتت في الثاني، لان الثاني غائب والأول للمخاطب. وقد ثبتت في المخاطب، ومنه قوله تعالى:" فلتفرحوا «2»" بالتاء. وتحذف في الغائب، ومنه: محمد تفد نفسك كل نفس إذا ما خفت من شي تبالا الثانية عشرة- قوله تعالى: (بِالْعَدْلِ) أي بالحق والمعدلة، أي لا يكتب لصاحب الحق أكثر مما قاله ولا أقل. وإنما قال" بَيْنَكُمْ" ولم يقل أحدكم، لأنه لما كان الذي له الدين يتهم في الكتابة الذي عليه الدين وكذلك بالعكس شرع الله سبحانه كاتبا غيرهما يكتب بالعدل لا يكون في قلبه ولا قلمه موادة «3» لأحدهما على الآخر. وقيل: إن الناس لما كانوا يتعاملون
__________
(1). ثقاف: فطنة وذكاء.
(2). راجع ج 8 ص 354.
(3). في هـ وج وا وط:" موادة".

حتى لا يشذ أحدهم عن المعاملة، وكان منهم من يكتب ومن لا يكتب، أمر الله سبحانه أن يكتب بينهم كاتب بالعدل. الثالثة عشرة- الباء في قوله تعالى" بِالْعَدْلِ" متعلقة بقوله:" وَلْيَكْتُبْ" وليست متعلقة ب" كاتِبٌ" لأنه كان يلزم ألا يكتب وثيقة إلا العدل في نفسه، وقد يكتبها الصبى والعبد والمتحوط «1» إذا أقاموا فقهها. أما المنتصبون «2» لكتبها فلا يجوز للولاة أن يتركوهم إلا عدولا مرضيين. قال مالك رحمه الله تعالى: لا يكتب الوثائق بين الناس إلا عارف بها عدل في نفسه مأمون، لقوله تعالى:" وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ". قلت: فالباء على هذا متعلقة ب" كاتِبٌ" أي ليكتب بينكم كاتب عدل، ف" بِالْعَدْلِ" في موضع الصفة. الرابعة عشرة- قوله تعالى: (وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ) نهى الله الكاتب عن الإباء. واختلف الناس في وجوب الكتابة على الكاتب والشهادة على الشاهد، فقال الطبري والربيع: واجب على الكاتب إذا أمر أن يكتب. وقال الحسن: ذلك واجب عليه في الموضع الذي لا يقدر على كاتب غيره، فيضر صاحب الدين إن امتنع، فإن كان كذلك فهو فريضة، وإن قدر على كاتب غيره فهو في سعة إذا قام به غيره. السدى: واجب عليه في حال فراغه، وقد تقدم. وحكى المهدوي عن الربيع والضحاك أن قوله" وَلا يَأْبَ" منسوخ بقوله" وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ". قلت: هذا يتمشى على قول من رأى أو ظن أنه قد كان وجب في الأول على كل من اختاره المتبايعان أن يكتب، وكان لا يجوز له أن يمتنع حتى نسخه قوله تعالى:" وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ" وهذا بعيد، فإنه لم يثبت وجوب ذلك على كل من أراده المتبايعان كائنا من
__________
(1). اضطربت الأصول في رسم هذه الكلمة، ففي ب:" والتخوط" وفي ح، هـ، ج:" والمسخوط" وفى ا،" والمسخوط" وفى ط: المسحود. وأيضا اضطرب رسمها في تفسير ابن عطية، ففي التيمورية:" والمستحوط" وفى ز" والمسخوطة" ولعل صوابها" والمتحوط".
(2). وردت هذه الجملة في الأصول وتفسير ابن عطية لابي حيان هكذا:" أما أن المنتصبين لكسبها لا يجوز ... إلخ" وهى بهذه الصورة غير واضحة.

كان. ولو كانت الكتابة واجبة ما صح الاستئجار بها، لان الإجارة على فعل الفروض باطلة، ولم يختلف العلماء في جواز أخذ الأجرة على كتب الوثيقة. ابن العربي: والصحيح أنه أمر إرشاد فلا يكتب حتى يأخذه حقه. وأبى يأبى شاذ، ولم يجئ إلا قلى يقلى وأبى يأبى وغسى «1» يغسى وجبى الخراج يجبى، وقد تقدم. الخامسة عشرة- قوله تعالى: (كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ) الكاف في" كَما" متعلقة بقوله" أَنْ يَكْتُبَ" المعنى كتبا كما علمه الله. ويحتمل أن تكون متعلقة بما في قوله" وَلا يَأْبَ" من المعنى، أي كما أنعم الله عليه بعلم الكتابة فلا يأب هو وليفضل كما أفضل الله عليه. ويحتمل أن يكون الكلام على هذا المعنى تاما عند قوله" أَنْ يَكْتُبَ" ثم يكون" كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ" ابتداء كلام، وتكون الكاف متعلقة بقوله" فَلْيَكْتُبْ". السادسة عشرة- قوله تعالى: (وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ) وهو المديون المطلوب يقر على نفسه بلسانه ليعلم ما عليه. والاملاء والإملال لغتان، أمل وأملى، فأمل لغة أهل الحجاز وبنى أسد، وتميم تقول: أمليت. وجاء القرآن باللغتين، قال عز وجل:" فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا «2»". والأصل أمللت، أبدل من اللام ياء لأنه أخف. فأمر الله تعالى الذي عليه الحق بالإملاء، لان الشهادة إنما تكون بسبب إقراره. وأمره تعالى بالتقوى فيما يمل، ونهى عن أن يبخس شيئا من الحق. والبخس النقص. ومن هذا المعنى قوله تعالى:" وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ «3»". السابعة عشرة- قوله تعالى: (فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً) قال بعض الناس: أي صغيرا. وهو خطأ فإن السفيه قد يكون كبيرا على ما يأتي بيانه." أَوْ ضَعِيفاً" أي كبيرا لا عقل له. (أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ) جعل الله الذي عليه الحق أربعة أصناف: مستقل بنفسه يمل، وثلاثة أصناف لا يملون وتقع نوازلهم في كل زمن، وكون الحق يترتب لهم في جهات سوى المعاملات كالمواريث إذا قسمت وغير ذلك، وهم السفيه والضعيف والذي لا يستطيع أن يمل. فالسفيه المهلهل الرأى في المال الذي لا يحسن الأخذ لنفسه ولا الإعطاء
__________
(1). غسى الليل أظلم. في ج وهـ: عشى يعشى، وفى اوج: عسى يعسى. والتصويب من اللسان.
(2). راجع ج 13 ص 3
(3). راجع ص 118 من هذا الجزء. (3- 25)

منها، مشبه بالثوب السفيه وهو الخفيف النسج. والبذي اللسان يسمى سفيها، لأنه لا تكاد تتفق البذاءة إلا في جهال الناس وأصحاب العقول الخفيفة. والعرب تطلق السفه على ضعف العقل تارة وعلى ضعف البدن أخرى، قال الشاعر:
نخاف أن تسفه أحلامنا ... ويجهل الدهر مع الحالم
وقال ذو الرمة:
مشين كما اهتزت رماح تسفهت ... أعاليها مر الرياح النواسم
أي استضعفها واستلانها فحركها. وقد قالوا: الضعف بضم الضاد في البدن وبفتحها في الرأى، وقيل: هما لغتان. والأول أصح، لما روى أبو داود عن أنس بن مالك أن رجلا على عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يبتاع وفى عقله ضعف فأتى أهله نبى الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالوا: يا نبى الله، احجر على فلان فإنه يبتاع وفى عقله ضعف. فدعاه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فنهاه عن البيع، فقال: يا رسول الله، إنى لا أصبر عن البيع ساعة. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" إن كنت غير تارك البيع فقل ها وها ولا خلابة «1»". وأخرجه أبو عيسى محمد بن عيسى السلمى الترمذي من حديث أنس وقال: هو صحيح، وقال: إن رجلا كان في عقله ضعف، وذكر الحديث. وذكره البخاري في التاريخ وقال فيه:" إذا بايعت فقل لا خلابة وأنت في كل سلعة ابتعتها بالخيار ثلاث ليال". وهذا الرجل هو حبان «2» بن منقذ بن عمرو الأنصاري والد يحيى وواسع ابني حبان: وقيل: وهو منقذ جد يحيى وواسع شيخي مالك ووالده حبان، أتى عليه مائة وثلاثون سنة، وكان شج في بعض مغازيه مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مأمومة «3» خبل منها عقله ولسانه: وروى الدارقطني قال: كان حبان بن منقذ رجلا ضعيفا ضرير البصر وكان قد سفع «4» في رأسه مأمومة، فجعل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ له الخيار فيما يشترى ثلاثة أيام، وكان قد ثقل لسانه، فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" بع وقل لا خلابة" فكنت
__________
(1). الخلابة: المخادعة. وقوله عليه السلام:" هاوها" تقدم الكلام عليه في ص 350 من هذا الجزء.
(2). حبان بالفتح.
(3). شجة آمة ومأمومة: بلغت أم الرأس.
(4). سفع فلان فلانا: لطمه وضربه.

أسمعه يقول: لا خذابة لا خذابة. أخرجه من حديث ابن عمرو. الخلابة: الخديعة، ومنه قولهم:" إذا لم تغلب فاخلب «1»". الثامنة عشرة- اختلف العلماء فيمن يخدع في البيوع لقلة خبرته وضعف عقله فهل يحجر عليه أولا، بالحجر عليه أحمد وإسحاق. وقال آخرون: لا يحجر عليه. والقولان في المذهب، والصحيح الأول، لهذه الآية، ولقوله في الحديث:" يا نبى الله أحجر على فلان". وإنما ترك الحجر عليه لقوله:" يا نبى الله إنى لا أصبر عن البيع". فأباح له البيع وجعله خاصا به، لان من يخدع في البيوع ينبغي أن يحجر عليه لا سيما إذا كان ذلك لخبل عقله. ومما يدل على الخصوصية ما رواه محمد بن إسحاق قال: حدثني محمد بن يحيى بن حبان قال: هو جدي منقذ بن عمرو وكان رجلا قد أصابته آمة في رأسه فكسرت لسانه ونازعته عقله، وكان لا يدع التجارة ولا يزال يغبن، فأتى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فذكر ذلك له، فقال:" إذا بعت فقل لا خلابة ثم أنت في كل سلعة تبتاعها بالخيار ثلاث ليال فإن رضيت فأمسك وإن سخطت فارددها على صاحبها". وقد كان عمر عمرا طويلا، عاش ثلاثين ومائة سنة، وكان في زمن عثمان بن عفان رضى الله عنه حين فشا الناس وكثروا، يبتاع البيع في السوق ويرجع به إلى أهله وقد غبن غبنا قبيحا، فيلومونه ويقولون له تبتاع؟ فيقول: أنا بالخيار، إن رضيت أخذت وإن سخطت رددت، قد كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جعلني بالخيار ثلاثا. فيرد السلعة على صاحبها من الغد وبعد الغد، فيقول: والله لا أقبلها، قد أخذت سلعتي وأعطيتني دراهم، قال فيقول: إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد جعلني بالخيار ثلاثا. فكان يمر الرجل من أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيقول للتاجر: ويحك! إنه قد صدق، إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد كان جعله بالخيار ثلاثا. أخرجه الدارقطني. وذكره أبو عمر في الاستيعاب وقال: ذكره البخاري في التاريخ عن عياش بن الوليد عن عبد الأعلى عن ابن إسحاق.
__________
(1). في لسان العرب:" من قاله بالضم فمعناه فاخدع. ومن قال بالكسر فمعناه فانتش قليلا شيئا يسيرا بعد شي، كأنه أخذ من مخلب الجارحة. قال ابن الأثير: معناه إذا أعياك الامر مغالبة فاطلبه مخادعة".

التاسعة عشرة- قوله تعالى: (أَوْ ضَعِيفاً) الضعيف هو المدخول العقل الناقص الفطرة «1» العاجز عن الاملاء، إما لعيه «2» أو لخرسه أو جهله بأداء الكلام، وهذا أيضا قد يكون وليه أبا أو وصيا. والذي لا يستطيع أن يمل هو الصغير، ووليه وصيه أو أبو هـ والغائب عن موضع الاشهاد، إما لمرض أو لغير ذلك من العذر. ووليه وكيله. وأما الأخرس فيسوغ أن يكون من الضعفاء، والاولى أنه ممن لا يستطيع. فهذه أصناف تتميز، وسيأتي في" النساء «3»" بيانها والكلام عليها إن شاء الله تعالى. الموفية عشرين- قوله تعالى: (فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ) ذهب الطبري إلى أن الضمير في" وَلِيُّهُ" عائد على" الْحَقُّ" وأسند في ذلك عن الربيع، وعن ابن عباس. وقيل: هو عائد على" الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ" وهو الصحيح. وما روى عن ابن عباس لا يصح. وكيف تشهد البينة على شي وتدخل مالا في ذمة السفيه بإملاء الذي له الدين! هذا شي ليس في الشريعة. إلا أن يريد قائله: إن الذي لا يستطيع أن يمل لمرض أو كبر سن لثقل لسانه عن الاملاء أو لخرس، وإذا كان كذلك فليس على المريض ومن ثقل لسانه عن الاملاء لخرس ولى عند أحد العلماء، مثل ما ثبت على الصبى والسفيه عند من يحجر عليه. فإذا كان كذلك فليمل صاحب الحق بالعدل ويسمع الذي عجز، فإذا كمل الاملاء أقر به. وهذا معنى لم تعن الآية إليه: ولا يصح هذا إلا فيمن لا يستطيع أن يمل لمرض ومن ذكر معه. الحادية والعشرون- لما قال الله تعالى: (وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ) دل ذلك على أنه مؤتمن فيما يورده ويصدره، فيقتضي ذلك قبول قول الراهن مع يمينه إذا اختلف هو والمرتهن في مقدار الدين والرهن قائم، فيقول الراهن رهنت بخمسين والمرتهن يدعى مائة، فالقول قول الراهن والرهن قائم، وهو مذهب أكثر الفقهاء: سفيان الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأى، واختاره ابن المنذر قال: لان المرتهن مدع للفضل، وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" البينة على المدعى واليمين على المدعى عليه". وقال مالك: القول قول المرتهن فيما بينه وبين قيمة الرهن ولا يصدق على أكثر من ذلك. فكأنه يرى أن الرهن ويمينه شاهد
__________
(1). كذا في هـ وج، والفطرة: الطبيعة والجبلة. وفى ج وا: الفطنة. [.....]
(2). كذا في هـ وج، في ح وا: لعته.
(3). راجع ج 5 ص 28

للمرتهن، وقوله تعالى" وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ" رد عليه. فإن الذي عليه الحق هو الراهن. وستأتي هذه المسألة. وإن قال قائل: إن الله تعالى جعل الرهن بدلا عن الشهادة والكتاب، والشهادة دالة على صدق المشهود له فيما بينه وبين قيمة الرهن، فإذا بلغ قيمته فلا وثيقة في الزيادة. قيل له: الرهن لا يدل على أن قيمته تجب أن تكون مقدار الدين، فإنه ربما رهن الشيء بالقليل والكثير. نعم لا ينقص الرهن غالبا عن مقدار الدين، فأما أن يطابقه فلا. وهذا القائل يقول: يصدق المرتهن مع اليمين في مقدار الدين إلى أن يساوى قيمة الرهن. وليس العرف على ذلك فربما نقص الدين عن الرهن وهو الغالب، فلا حاصل لقولهم هذا. الثانية والعشرون- وإذا ثبت أن المراد الولي ففيه دليل على أن إقراره جائز على يتيمه، لأنه إذا أملاه فقد نفذ قوله عليه فيما أملاه. الثالثة والعشرون- وتصرف السفيه «1» المحجور عليه دون إذن وليه فاسد إجماعا مفسوخ أبدا لا يوجب حكما ولا يؤثر شيئا. فإن تصرف سفيه ولا حجر عليه ففيه خلاف يأتي بيانه في" النساء" إن شاء الله تعالى. الرابعة والعشرون- قوله تعالى: (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ) الاستشهاد طلب الشهادة. واختلف الناس هل هي فرض أو ندب، والصحيح أنه ندب على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى. الخامسة والعشرون- قوله تعالى: (شَهِيدَيْنِ) رتب الله سبحانه الشهادة بحكمته في الحقوق المالية والبدنية والحدود وجعل في كل فن شهيدين إلا في الزنا، على ما يأتي بيانه في سورة" النساء" «2». وشهيد بناء مبالغة، وفى ذلك دلالة على من قد شهد وتكرر ذلك منه، فكأنه إشارة إلى العدالة. والله أعلم. السادسة والعشرون- قوله تعالى: (مِنْ رِجالِكُمْ) نص في رفض الكفار والصبيان والنساء، وأما العبيد فاللفظ يتناولهم. وقال مجاهد: المراد الأحرار، واختاره القاضي أبو إسحاق وأطنب فيه. وقد اختلف العلماء في شهادة العبيد، فقال شريح وعثمان البتي وأحمد وإسحاق
__________
(1). في ح وا: الصبى. والصواب ما أثبتناه من هـ وج.
(2). راجع ج 5 ص 39 وص 83

وأبو ثور: شهادة العبد جائزة إذا كان عدلا، وغلبوا لفظ الآية. وقال مالك وأبو حنيفة والشافعي وجمهور العلماء: لا تجوز شهادة العبد، وغلبوا نقص الرق، وأجازها الشعبي والنخعي في الشيء اليسير. والصحيح قول الجمهور، لان الله تعالى قال:" يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ" وساق الخطاب إلى قوله" مِنْ رِجالِكُمْ" فظاهر الخطاب يتناول الذين يتداينون، والعبيد لا يملكون ذلك دون إذن السادة. فإن قالوا: إن خصوص أول الآية لا يمنع التعلق بعموم آخرها. قيل لهم: هذا يخصه قوله تعالى:" وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا" على ما يأتي بيانه. وقوله" مِنْ رِجالِكُمْ" دليل على أن الأعمى من أهل الشهادة، لكن إذا علم يقينا، مثل ما روى عن ابن عباس قال: سئل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الشهادة فقال:" ترى هذه الشمس فاشهد على مثلها أو دع". وهذا يدل على اشتراط معاينة الشاهد لما يشهد به، لا من يشهد بالاستدلال الذي يجوز أن يخطئ. نعم يجوز له وطئ امرأته إذا عرف صوتها، لان الاقدام على الوطي جائز بغلبة الظن، فلو زفت إليه امرأة وقيل: هذه امرأتك وهو لا يعرفها جاز له وطؤها، ويحل له قبول هدية جاءته بقول الرسول. ولو أخبره مخبر عن زيد بإقرار أو بيع أو قذف أو غصب لما جاز له إقامة الشهادة على المخبر عنه، لان سبيل الشهادة اليقين، وفى غيرها يجوز استعمال غالب الظن، ولذلك قال الشافعي وابن أبى ليلى وأبو يوسف: إذا علمه قبل العمى جازت الشهادة بعد العمى، ويكون العمى الحائل بينه وبين المشهود عليه كالغيبة والموت في المشهود عليه. فهذا مذهب هؤلاء. والذي يمنع أداء الأعمى فيما تحمل بصيرا لا وجه له، وتصح شهادته بالنسب الذي يثبت بالخبر المستفيض، كما يخبر عما تواتر حكمه من الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ومن العلماء من قبل شهادة الأعمى فيما طريقه الصوت، لأنه رأى الاستدلال بذلك يترقى إلى حد اليقين، وراي أن اشتباه الأصوات كاشتباه الصور والألوان. وهذا ضعيف يلزم منه جواز الاعتماد على الصوت للبصير. قلت: مذهب مالك في شهادة الأعمى على الصوت جائزة في الطلاق وغيره إذا عرف الصوت. قال ابن قاسم: قلت لمالك: فالرجل يسمع جاره من وراء الحائط ولا يراه،

يسمعه يطلق امرأته فيشهد عليه وقد عرف الصوت؟ قال قال مالك: شهادته جائزة. وقال ذلك على بن أبى طالب والقاسم بن محمد وشريح الكندي والشعبي وعطاء بن أبى رباح ويحيى ابن سعيد وربيعة وإبراهيم النخعي ومالك والليث. السابعة والعشرون- قوله تعالى: (فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ) المعنى إن لم يأت الطالب برجلين فليأت برجل وامرأتين، هذا قول الجمهور." فَرَجُلٌ" رفع بالابتداء،" وَامْرَأَتانِ" عطف عليه والخبر محذوف. أي فرجل وامرأتان يقومان مقامهما. ويجوز النصب في غير القرآن، أي فاستشهدوا رجلا وامرأتين. وحكى سيبويه: إن خنجرا فخنجرا. وقال قوم: بل المعنى فإن ولم يكن رجلان، أي لم يوجدا فلا يجوز استشهاد المرأتين إلا مع عدم الرجال. قال ابن عطية: وهذا ضعيف، فلفظ الآية لا يعطيه، بل الظاهر منه قول الجمهور، أي إن لم يكن المستشهد رجلين، أي إن أغفل ذلك صاحب الحق أو قصده لعذر ما فليستشهد رجلا وامرأتين. فجعل تعالى شهادة المرأتين مع الرجل جائزة مع وجود الرجلين في هذه الآية، ولم يذكرها في غيرها، فأجيزت في الأموال خاصة في قول الجمهور، بشرط أن يكون معهما رجل. وإنما كان ذلك في الأموال دون غيرها، لان الأموال كثر الله أسباب توثيقها لكثرة جهات تحصيلها وعموم البلوى بها وتكررها، فجعل فيها التوثق تارة بالكتبة وتارة بالإشهاد وتارة بالرهن وتارة بالضمان، وأدخل في جميع ذلك شهادة النساء مع الرجال. ولا يتوهم عاقل أن قوله تعالى:" إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ" يشتمل على دين المهر مع البضع، وعلى الصلح على دم العمد، فإن تلك الشهادة ليست شهادة على الدين، بل هي شهادة على النكاح. وأجاز العلماء شهادتهن منفردات فيما لا يطلع عليه غيرهن للضرورة. وعلى مثل ذلك أجيزت شهادة الصبيان في الجراح فيما بينهم للضرورة. وقد اختلف العلماء في شهادة الصبيان في الجراح وهي: الثامنة والعشرون- فأجازها مالك ما لم يختلفوا ولم يفترقوا. ولا يجوز أقل من شهادة اثنين منهم على صغير لكبير ولكبير على صغير. وممن كان يقضى بشهادة الصبيان فيما
بينهم من الجراح عبد الله بن الزبير. وقال مالك: وهو الامر عندنا المجتمع عليه. ولم يجز الشافعي

وأبو حنيفة وأصحابه «1» شهادتهم، لقوله تعالى:" مِنْ رِجالِكُمْ" وقوله" مِمَّنْ تَرْضَوْنَ" وقوله" ذَوَيْ عَدْلٍ «2» مِنْكُمْ" وهذه الصفات ليست في الصبى. التاسعة والعشرون: لما جعل الله سبحانه شهادة امرأتين بدل شهادة رجل وجب أن يكون حكمهما حكمه، فكماله أن يحلف «3» مع الشاهد عندنا، وعند الشافعي كذلك، يجب أن يحلف مع شهادة امرأتين بمطلق هذه العوضية. وخالف في هذا أبو حنيفة وأصحابه فلم يروا اليمين مع الشاهد وقالوا: إن الله سبحانه قسم الشهادة وعددها، ولم يذكر الشاهد واليمين، فلا يجوز القضاء به، لأنه يكون قسما زائدا «4» على ما قسمه الله، وهذه زيادة على النص، وذلك نسخ. وممن قال بهذا القول الثوري والأوزاعي وعطاء والحكم بن عتيبة وطائفة. قال بعضهم: الحكم باليمين مع الشاهد منسوخ الملك بن مروان، وقال: الحكم: بالقرآن. وزعم عطاء أن أول من قضى به عبد القضاء باليمين والشاهد بدعة، وأول من حكم به معاوية. وهذا كله غلط وظن لا يغنى من الحق شيئا، وليس من نفى وجهل كمن أثبت وعلم! وليس في قول الله تعالى:" وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ" الآية، ما يرد به قضاء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في اليمين مع الشاهد، ولا أنه لا يتوصل إلى الحقوق ولا تستحق إلا بما ذكر فيها لأغير، فإن ذلك يبطل بنكول المطلوب ويمين الطالب، فإن ذلك يستحق به المال إجماعا وليس في كتاب الله تعالى، وهذا قاطع في الرد عليهم. قال مالك: فمن الحجة على من قال ذلك القول أن يقال له: أرأيت لو أن رجلا ادعى على رجل مالا أليس يحلف المطلوب ما ذلك الحق عليه؟ فإن حلف بطل ذلك الحق عنه، وإن نكل عن اليمين حلف صاحب الحق، أن حقه لحق، وثبت حقه على صاحبه. فهذا مما لا اختلاف فيه عند أحد من الناس ولا ببلد من البلدان، فبأي شي أخذ هذا وفى أي كتاب الله وجده؟ فمن أقر بهذا فليقر باليمين مع الشاهد. قال علماؤنا: ثم العجب مع شهرة الأحاديث وصحتها بدعوا من عمل بها حتى نقضوا حكمه واستقصروا رأيه «5»، مع أنه قد عمل بذلك الخلفاء الاربعة وأبى بن كعب ومعاوية وشريح وعمر بن عبد العزيز- وكتب به إلى عماله-
__________
(1). في هـ: أصحابهم.
(2). راجع ج 18 ص 157.
(3). في ط: اليمين.
(4). في ح وهـ وج: قسما ثالثا.
(5). في ط وج وهـ: علمه.

وإياس بن معاوية وأبو سلمة بن عبد الرحمن وأبو الزناد وربيعة، ولذلك قال مالك: وإنه ليكفي من ذلك ما مضى من عمل السنة، أترى هؤلاء تنقض أحكامهم، ويحكم ببدعتهم! هذا إغفال شديد، ونظر غير سديد. روى الأئمة عن ابن عباس عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قضى باليمين مع الشاهد. قال عمرو بن دينار: في الأموال خاصة، رواه سيف بن سليمان عن قيس بن سعد بن دينار عن ابن عباس. قال أبو عمر: هذا أصح إسناد لهذا الحديث، وهو حديث لا مطعن لاحد في إسناده، ولا خلاف بين أهل المعرفة بالحديث في أن رجال ثقات. قال يحيى القطان: سيف بن سليمان ثبت، ما رأيت أحفظ منه. وقال النسائي: هذا إسناد جيد، سيف ثقة، وقيس ثقة. وقد خرج مسلم حديث ابن عباس هذا. قال أبو بكر البزار: سيف بن سليمان وقيس بن سعد ثقتان، ومن بعدهما يستغنى عن ذكرهما لشهرتهما في الثقة والعدالة. ولم يأت عن أحد من الصحابة أنه أنكر اليمين مع الشاهد، بل جاء عنهم القول به، وعليه جمهور أهل العلم بالمدينة. واختلف فيه عن عروة بن الزبير وابن شهاب، فقال معمر: سألت الزهري «1» عن اليمين مع الشاهد فقال: هذا شي أحدثه الناس، لأبد من شاهدين. وقد روى عنه أنه أول ما ولى القضاء حكم بشاهد ويمين، وبه قال مالك وأصحابه والشافعي وأتباعه وأحمد وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور وداود بن على وجماعة أهل الأثر، وهو الذي لا يجوز عندي خلافه، لتواتر الآثار به عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعمل أهل المدينة قرنا بعد قرن. وقال مالك: يقضى باليمين مع الشاهد في كل البلدان، ولم يحتج في موطئة لمسألة غيرها. ولم يختلف عنه في القضاء باليمين مع الشاهد ولا عن أحد من أصحابه بالمدينة ومصر وغيرهما، ولا يعرف المالكيون في كل بلد غير ذلك من مذهبهم إلا عندنا بالأندلس، فإن يحيى [بن يحيى «2»] زعم أنه لم ير الليث يفتي به ولا يذهب إليه. وخالف يحيى مالكا في ذلك مع مخالفته السنة والعمل بدار الهجرة. ثم اليمين مع الشاهد زيادة حكم على لسان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كنهيه عن نكاح المرأة على عمتها وعلى خالتها مع قول الله تعالى:" وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ «3»". وكنهيه عن
__________
(1). في هـ: الزبير.
(2). في ج وهـ وط.
(3). على قراءة نافع، راجع ج 5 ص 124

أكل لحوم الحمر الأهلية، وكل ذى ناب من السباع مع قوله:" قُلْ لا أَجِدُ «1»". وكالمسح على الخفين، والقرآن إنما ورد بغسل الرجلين أو مسحهما، ومثل هذا كثير. ولو جاز أن يقال: إن القرآن نسخ حكم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ باليمين مع الشاهد، لجاز أن يقال: إن القرآن في قوله عز وجل:" وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا" وفى قوله:" إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ «2»" ناسخ لنهيه عن المزابنة وبيع الغرر وبيع ما لم يخلق، إلى سائر ما نهى عنه في البيوع، وهذا لا يسوغ لاحد، لان السنة مبينة للكتاب. فإن قيل: إن ما ورد من الحديث قضية في عين فلا عموم. قلنا: بل ذلك عبارة عن تقعيد هذه القاعدة، فكأنه قال: أوجب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الحكم باليمين مع الشاهد. ومما يشهد لهذا التأويل ما رواه أبو داود في حديث ابن عباس أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قضى بشاهد ويمين في الحقوق، ومن جهة القياس والنظر أنا وجدنا اليمين أقوى من المرأتين، لأنهما لا مدخل لهما في اللعان واليمين تدخل في اللعان. وإذا صحت السنة فالقول بها يجب، ولا تحتاج السنة إلى ما يتابعها «3»، لان من خالفها محجوج بها. وبالله التوفيق. الموفية ثلاثين- وإذا تقرر وثبت الحكم باليمين مع الشاهد، فقال القاضي أبو محمد عبد الوهاب: ذلك في الأموال وما يتعلق بها دون حقوق الأبدان، للإجماع على ذلك من كل قائل باليمين مع الشاهد. قال: لان حقوق الأموال أخفض من حقوق الأبدان، بدليل «4» قبول شهادة النساء فيها. وقد اختلف قول مالك في جراح العمد، هل يجب القود فيها بالشاهد واليمين؟ فيه روايتان: إحداهما أنه يجب به التخيير بين القود والديه. والأخرى أنه لا يجب به شي، لأنه من حقوق الأبدان. قال: وهو الصحيح. قال مالك في الموطأ: وإنما يكون ذلك في الأموال خاصة، وقال عمرو بن دينار. وقال المازري «5»: يقبل في المال المحض من غير خلاف، ولا يقبل في النكاح والطلاق المحضين من غير خلاف. وإن كان مضمون الشهادة
__________
(1). راجع ج 7 ص 115.
(2). راجع ج 5 ص 151. [.....]
(3). في ط وهـ: من يتابعها.
(4). في هـ وط: بدلالة.
(5). المارزي: أبو عبد الله محمد بن على بن عمر بن محمد التميمي الفقيه المالكي، توفى سنة ست وثلاثين وخمسمائة والمازري بفتح الميم وبعدها ألف ثم زاي مفتوحة وقد كسرت أيضا ثم راء، هذه النسبة إلى" مازر" وهى بليدة بجزيرة صقلية. (عن أبن خلكان).

ما ليس بمال، ولكنه يؤدى إلى المال، كالشهادة بالوصية والنكاح بعد الموت، حتى لا يطلب من ثبوتها إلا المال إلى غير ذلك، ففي قبوله اختلاف، فمن راعى المال قبله كما يقبله في المال، ومن راعى الحال لم بقبلة. وقال المهدوي: شهادة النساء في الحدود غير جائزة في قول عامة الفقهاء، وكذلك في النكاح والطلاق في قول أكثر العلماء، وهو مذهب مالك والشافعي وغيرهما، وإنما يشهدن في الأموال. وكل مالا يشهدن فيه فلا يشهدن على شهادة غيرهن فيه، كان معهن رجل أولم يكن، ولا ينقلن شهادة إلا مع رجل نقلن «1» عن رجل وامرأة. ويقضى باثنتين منهن في كل مالا يحضره غيرهن كالولادة والاستهلال ونحو ذلك. هذا كله مذهب مالك، وفى بعضه اختلاف. الحادية والثلاثون- قوله تعالى: (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ) في موضع رفع على الصفة لرجل وامرأتين. قال ابن بكير وغيره: هذه مخاطبة للحكام. ابن عطية: وهذا غير نبيل، وإنما الخطاب لجميع الناس، لكن المتلبس بهذه القضية إنما هم الحكام، وهذا كثير في كتاب الله يعم الخطاب فيما يتلبس به البعض. الثانية والثلاثون- لما قال والله تعالى:" مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ" دل على أن في الشهود من لا يرضى، فيجيء من ذلك أن الناس ليسوا محمولين على العدالة حتى تثبت لهم، وذلك معنى زائد على الإسلام، وهذا قول الجمهور. وقال أبو حنيفة: كل مسلم ظاهر الإسلام مع السلامة من فسق ظاهر فهو عدل وإن كان مجهول الحال. وقال شريح وعثمان البتي وأبو ثور: هم عدول المسلمين وإن كانوا عبيدا. قلت- فعمموا الحكم، ويلزم منه قبول قبول شهادة البدوي على القروي إذا كان عدلا مرضيا وبه قال الشافعي ومن وافقه، وهو من رجالنا واهل ديننا. وكونه بدويا ككونه من بلد آخر والعمومات في القرآن الدالة على قبول شهادة العدول تسوى بين البدوي والقروي، قال الله تعالى" مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ" وقال تعالى:" وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ «2»" ف" مِنْكُمْ" خطاب للمسلمين. وهذا يقتضى قطعا أن يكون معنى العدالة زائدا على الإسلام ضرورة، لان الصفة زائدة
__________
(1). في هـ: يقلن.
(2). راجع ج 18 ص 157

على الموصوف، وكذلك" مِمَّنْ تَرْضَوْنَ" مثله، خلاف ما قال أبو حنيفة، ثم لا يعلم كونه مرضيا حتى يختبر حاله، فيلزمه ألا يكتفي بظاهر الإسلام. وذهب أحمد بن حنبل ومالك في رواية ابن وهب عنه إلى رد شهادة البدوي على القروي لحديث أبى هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال:" لا تجوز شهادة بدوي على صاحب قرية". والصحيح جواز شهادته إذا كان عدلا مرضيا، على ما يأتي في" النساء «1»" و" براءة «2»" إن شاء الله تعالى. وليس في حديث أبى هريرة فرق بين القروي في الحضر أو السفر، ومتى كان في السفر فلا خلاف في [قبوله «3»]. قال علماؤنا: العدالة هي الاعتدال في الأحوال الدينية، وذلك يتم بأن يكون مجتنبا للكبائر محافظا على مروءته وعلى ترك الصغائر، ظاهر الأمانة غير مغفل. وقيل: صفاء السريرة واستقامة السيرة في ظن المعدل، والمعنى متقارب. الثالثة والثلاثون- لما كانت الشهادة ولاية عظيمة ومرتبة منيفة، وهى قبول قول الغير على الغير، شرط تعالى فيها الرضا والعدالة. فمن حكم الشاهد أن تكون له شمائل ينفرد بها وفضائل يتحلى بها حتى تكون له مزية على غيره، توجب له تلك المزية رتبة الاختصاص بقبول قوله، ويحكم بشغل ذمة المطلوب بشهادته. وهذا أدل دليل على جواز الاجتهاد والاستدلال بالأمارات والعلامات عند علمائنا على ما خفى من المعاني والأحكام. وسيأتي لهذا في سورة" يوسف «4»" زيادة بيان إن شاء الله تعالى. وفية ما يدل على تفويض الامر إلى اجتهاد الحكام، فربما تفرس في الشاهد غفلة أو ريبة فيرد شهادته لذلك. الرابعة والثلاثون- قال أبو حنيفة: يكتفى بظاهر الإسلام في الأموال دون الحدود. وهذه مناقضة تسقط كلامه وتفسد عليه مرامه، لأننا نقول: حق من الحقوق. فلا يكتفى في الشهادة عليه بظاهر الدين كالحدود، قاله ابن العربي. الخامسة والثلاثين- وإذ قد شرط الله تعالى الرضا والعدالة في المداينة كما بينا فاشتراطها في النكاح أولى، خلافا لابي حنيفة حيث قال: أن النكاح ينعقد بشهادة فاسقين. فنفى
__________
(1). راجع ج 5 ص 412.
(2). راجع ج 8 ص 232.
(3). كذا في ط. وفى باقى الأصول: فلا خلاف في قوله.
(4). راجع ح 9 ص 173 فما بعد وص 245.

الاحتياط المأمور به في الأموال عن النكاح، وهو أولى لما يتعلق به من الحل والحرمة والحد والنسب. قلت: قول أبى حنيفة في هذا الباب ضعيف جدا، لشرط الله تعالى الرضا والعدالة، وليس يعلم كونه مرضيا بمجرد الإسلام، وإنما يعلم بالنظر في أحوال حسب ما تقدم. ولا يغتر بظاهر قوله: أنا مسلم. فربما انطوى على ما يوجب رد شهادته، مثل قوله تعالى:" وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ" إلى قوله" وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ «1»". وقال:" وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ" الآية «2». السادسة والثلاثون- قوله تعالى: (أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما) قال أبو عبيد: معنى تضل تنسى. والضلال عن الشهادة إنما هو نسيان جزء منها وذكر جزء، ويبقى المرء حيران بين ذلك ضالا. ومن نسى الشهادة جملة فليس يقال: ضل فيها. وقرا حمزة" إن" بكسر الهمزة على معنى الجزاء، والفاء في قوله" فَتُذَكِّرَ" جوابه، وموضع الشرط وجوابه رفع على الصفة للمرأتين والرجل، وارتفع" فَتُذَكِّرَ" على الاستئناف، كما ارتفع قوله" وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ «3»" هذا قول سيبويه. ومن فتح" أن" فهي مفعول له والعامل [فيها «4»] محذوف. وانتصب" فَتُذَكِّرَ" على قراءة الجماعة عطفا على الفعل المنصوب بأن. قال النحاس: ويجوز" تضل" بفتح التاء والضاد، ويجوز تضل بكسر التاء وفتح الضاد. فمن قال:" تضل" جاء به على لغة من قال: ضللت تضل. وعلى هذا تقول تضل فتكسر التاء لتدل على أن الماضي فعلت. وقرا الجحدري وعيسى ابن عمر" أن تضل" بضم التاء وفتح الضاد بمعنى تنسى، وهكذا حكى عنهما أبو عمرو الداني. وحكى النقاش عن الجحدري ضم التاء وكسر الضاد بمعنى أن تضل الشهادة. تقول: أضللت الفرس والبعير إذا تلفا لك وذهبا فلم تجدهما. السابعة والثلاثون- قوله تعالى: (فَتُذَكِّرَ) خفف الذال والكاف ابن كثير وأبو عمرو، وعليه فيكون المعنى أن تردها ذكرا في الشهادة، لان شهادة المرأة نصف شهادة، فإذا شهدتا صار مجموعهما كشهادة ذكر «5»، قال سفيان بن عيينة وأبو عمرو بن العلاء. وفية
__________
(1). راجع ص 14 من هذا الجزء.
(2). راجع ج 18 ص 124.
(3). راجع ج 6 ص 302.
(4). كذا في ط وج.
(5). في ج: رجل. [.....]

بعد، إذ لا يحصل في مقابلة الضلال الذي معناه النسيان إلا الذكر، وهو معنى قراءة الجماعة" فَتُذَكِّرَ" بالتشديد، أي تنبهها إذا غفلت ونسيت. قلت: واليها ترجع قراءة أبى عمرو، أي إن تنس إحداهما فتذكرها الأخرى، يقال: تذكرت الشيء وأذكرته غيرى وذكرته بمعنى، قاله في الصحاح. الثامنة والثلاثون- قوله تعالى: (وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا) قال الحسن: جمعت هذه الآية أمرين، وهما ألا تأبى إذا دعيت إلى تحصيل الشهادة، ولا إذا دعيت إلى أدائها، وقاله ابن عباس. وقال قتادة والربيع وابن عباس: أي لتحملها وإثباتها في الكتاب. وقال مجاهد: معنى الآية إذا دعيت إلى أداء شهادة وقد حصلت عندك. وأسند النقاش إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه فسر الآية بهذا، قال مجاهد: فأما إذا دعيت لتشهد أولا فإن شئت فاذهب وإن شئت فلا، وقال أبو مجلز وعطاء وإبراهيم وابن جبير والسدي وابن زيد وغيرهم «1». وعليه فلا يجب على الشهود الحضور عند المتعاقدين، وإنما على المتداينين أن يحضرا عند الشهود، فإذا حضراهم وسألاهم إثبات شهادتهم في الكتاب فهذه الحالة التي يجوز أن تراد بقوله تعالى:" وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا" لإثبات الشهادة فإذا ثبتت شهادتهم ثم دعوا لإقامتها عند الحاكم فهذا الدعاء هو بحضورهما عند الحاكم «2»، على ما يأتي. وقال «3» ابن عطية: والآية كما قال الحسن جمعت أمرين على جهة الندب، فالمسلمون مندوبون إلى معونة إخوانهم، فإذا كانت الفسحة لكثرة الشهود والأمن من تعطيل الحق «4» فالمدعو مندوب، وله أن يتخلف لأدنى عذر، وإن تخلف لغير «5» عذر فلا إثم عليه ولا ثواب له. وإذا كانت الضرورة وخيف تعطل الحق أدنى خوف قوى الندب وقرب من الوجوب، وإذا علم أن الحق يذهب ويتلف بتأخر الشاهد عن الشهادة فواجب عليه القيام بها، لا سيما إن كانت محصلة وكان الدعاء إلى أدائها، فإن هذا الظرف آكد، لأنها قلادة في العنق وأمانة تقتضي الأداء. قلت: وقد يستلوح من هذه الآية دليل على أن جائزا للإمام أن يقيم للناس شهودا ويجعل لهم من بيت المال كفايتهم، فلا يكون لهم شغل إلا تحمل حقوق الناس حفظا لها، وإن لم
__________
(1). في ب: وعطية فلا يجب إلخ.
(2). في ب: الحكم.
(3). في ط وب: قاله أبن عطية.
(4). في هـ: الحقوق.
(5). في ط: العذر.

يكن ذلك ضاعت الحقوق وبطلت. فيكون المعنى ولا يأب الشهداء إذا أخذوا حقوقهم أن يجيبوا. والله أعلم. فإن قيل: هذه شهادة بالأجرة، قلنا: إنما هي شهادة خالصة من قوم استوفوا حقوقهم من بيت المال، وذلك كأرزاق القضاة والولاة وجميع المصالح التي تعن «1» للمسلمين وهذا من جملتها. والله أعلم. وقد قال تعالى:" وَالْعامِلِينَ عَلَيْها «2»" ففرض لهم. التاسعة والثلاثون- لما قال تعالى:" وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا" دل على أن الشاهد هو الذي يمشى إلى الحاكم، وهذا أمر بنى عليه الشرع وعمل به في كل زمان وفهمته كل أمة، ومن أمثالهم:" في بيته يؤتى الحكم". الموفية أربعين- وإذا ثبت هذا فالعبد خارج عن جملة الشهداء، وهو يخص عموم قوله:" مِنْ رِجالِكُمْ" لأنه لا يمكنه أن يجيب، ولا يصح له أن يأتي، لأنه لا استقلال له بنفسه، وإنما يتصرف بإذن غيره، فانحط عن منصب الشهادة كما انحط عن منزل الولاية. نعم! وكما انحط عن فرض الجمعة والجهاد والحج، على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى. الحادية والأربعون- قال علماؤنا: هذا في حال الدعاء إلى الشهادة. فأما من كانت عنده شهادة لرجل لم يعلمها مستحقها الذي ينتفع بها، فقال قوم: أداؤها ندب لقوله تعالى:" وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا" ففرض الله الأداء عند الدعاء، فإذا لم يدع كان ندبا، لقوله عليه السلام:" خير الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها" رواه الأئمة. والصحيح أن أداءها فرض وان لم يسألها إذا خاف على الحق ضياعه أو فوته، أو بطلاق أو عتق على من أقام على تصرفه على الاستمتاع بالزوجة واستخدام العبد إلى غير ذلك، فيجب على من تحمل شيئا من ذلك أداء تلك الشهادة، ولا يقف أداؤها على أن تسأل منه فيضيع الحق، وقد قال تعالى:" وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ «3»" وقال:" إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ «4»". وفى الصحيح عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" انصر أخاك ظالما أو مظلوما". فقد تعين عليه نصره بأداء الشهادة التي له عنده إحياء لحقه الذي أماته الإنكار.
__________
(1). في ج: تعين المسلمين.
(2). راجع ج 8 ص 178.
(3). راجع ج 18 ص 159.
(4). راجع ج 16 ص 122

الثانية والأربعون- لا إشكال في أن من وجبت عليه شهادة على أحد الأوجه التي ذكرناها فلم يؤدها أنها جرحة في الشاهد والشهادة، ولا فرق في هذا بين حقوق الله تعالى وحقوق الآدميين وهذا قول ابن القاسم وغيره. وذهب بعضهم إلى أن تلك الشهادة إن كانت بحق من حقوق الآدميين كان ذلك جرحة في تلك الشهادة نفسها خاصة، فلا يصلح له أداؤها بعد ذلك. والصحيح الأول، لان الذي يوجب جرحته إنما هو فسقه بامتناعه من القيام بما وجب عليه من غير عذر، والفسق يسلب أهلية الشهادة مطلقا، وهذا واضح. الثالثة والأربعين- لا تعارض بين قوله عليه السلام:" خير الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها" وبين قوله عليه السلام في حديث عمران بن حصين:" إن خيركم قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم- ثم قال عمران: فلا أدرى أقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد قرنه مرتين أو ثلاثا- ثم يكون بعدهم قوم يشهدون ولا يستشهدون ويخونون ولا يؤتمنون وينذرون ولا يوفون ويظهر فيهم السمن «1»" أخرجهما الصحيحان. وهذا الحديث محمول على ثلاثة أوجه: أحدها أن يراد به شاهد الزور، فإنه يشهد بما لم يستشهد، أي بما لم يتحمله ولا حمله. وذكر أبو بكر بن أبى شيبة أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه خطب بباب الجابية فقال: إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قام فينا كمقامي فيكم ثم قال:" يا أيها الناس اتقوا الله في أصحابي ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يفشو الكذب وشهادة الزور". الوجه الثاني أن يراد به الذي يحمله الشره على تنفيذ ما يشهد به، فيبادر بالشهادة قبل أن يسألها، فهذه شهادة مردودة، فإن ذلك يدل على هوى غالب على الشاهد. الثالث ما قاله إبراهيم النخعي راوي «2» طرق بعض هذا الحديث: كانوا ينهوننا ونحن غلمان عن العهد والشهادات. الرابعة والأربعون- قوله تعالى: (وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ)" تَسْئَمُوا" معناه تملوا. قال الأخفش: يقال سئمت أسأم سأما وسآمة وسآما [وسأمة «3»] وسأما، كما قال الشاعر:
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ... ثمانين حولا لا أبا لك يسأم
__________
(1). هذه رواية مسلم.
(2). في ب وج وهـ وط: بأثر طرق.
(3). في وج واللسان.

" أَنْ تَكْتُبُوهُ" في موضع نصب بالفعل." صَغِيراً أَوْ كَبِيراً" حالان من الضمير في" تَكْتُبُوهُ" وقدم الصغير اهتماما به. وهذا النهى عن السآمة إنما جاء لتردد المداينة عندهم فخيف عليهم أن يملوا الكتب، ويقول أحدهم: هذا قليل لا أحتاج إلى كتبه، فأكد تعالى التحضيض «1» في القليل والكثير. قال علماؤنا: إلا ما كان من قيراط ونحوه لنزارته وعدم تشوف النفس إليه إقرارا وإنكارا. الخامسة والأربعين- قوله تعالى: (ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ) معناه أعدل، يعنى أن يكتب القليل والكثير ويشهد عليه. (وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ) أي أصح وأحفظ. (وَأَدْنى ) معناه أقرب. و(تَرْتابُوا) تشكوا. السادسة والأربعون- قوله تعالى: و" وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ" دليل على أن الشاهد إذا رأى الكتاب ولم يذكر الشهادة لا يؤديها لما دخل عليه من الريبة فيها، ولا يؤدى الإما يعلم، لكنه يقول: هذا خطى ولا أذكر الآن ما كتبت فيه. قال ابن المنذر: أكثر من يحفظ عنه من أهل العلم يمنع أن يشهد الشاهد على خطه إذا لم يذكر الشهادة. واحتج مالك على جواز ذلك بقوله تعالى:" وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا «2»". وقال بعض العلماء: لما نسب الله تعالى الكتابة إلى العدالة وسعه أن يشهد على خطه وإن لم يتذكر. ذكر ابن المبارك عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه في الرجل يشهد على شهادة فينساها قال: لا بأس أن يشهد إن وجد علامته في الصك أو خط يده. قال ابن المبارك: استحسنت هذا جدا. وفيما جاءت به الاخبار عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه حكم في أشياء غير واحدة بالدلائل والشواهد، وعن الرسل من قبله ما يدل على صحة هذا المذهب. والله أعلم. وسيأتي لهذا مزيد بيان في" الأحقاف «3»" إن شاء الله تعالى. السابعة والأربعون- قوله تعالى: (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً «4» حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ)" أن" في موضع نصب استثناء ليس من الأول، قال الأخفش [أبو سعيد «5»]: أي إلا أن تقع تجارة، فكان بمعنى وقع وحدث. وقال غيره:" تُدِيرُونَها" الخبر. وقرا عاصم وحده" تِجارَةً"
__________
(1). كذا في ج وهـ، وفي ب وأ وح وط: التحصين.
(2). راجع ج 9 ص 244. [.....]
(3). راجع ج 16 ص 181 فما بعد.
(4). قراءة نافع.
(5). من ب.

على خبر كان واسمها مضمر فيها." حاضِرَةً" نعت لتجارة، والتقدير إلا أن تكون التجارة تجارة، أو إلا أن تكون المبايعة تجارة، هكذا قدره مكي وأبو على الفارسي، وقد تقدم نظائره والاستشهاد عليه. ولما علم الله تعالى مشقة الكتاب عليهم نص على ترك ذلك ورفع الجناح فيه في كل مبايعة بنقد، وذلك في الأغلب إنما هو في قليل كالمطعوم ونحو لا في كثير كالاملاك ونحوها. وقال السدى والضحاك: هذا فيما كان يدا بيد. الثامنة والأربعون- قوله تعالى: (تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ) يقتضى التقابض والبينونة بالمقبوض. ولما كانت الرباع والأرض وكثير من الحيوان لا يقبل البينونة ولا يغاب عليه، حسن الكتب فيما ولحقت في ذلك مبايعة الدين، فكان الكتاب توثقا لما عسى أن يطرأ من اختلاف الأحوال وتغير القلوب. فأما إذا تفاصلا في المعاملة وتقابضا وبان كل واحد منهما بما ابتاعه من صاحبه، فيقل في العادة خوف التنازع إلا بأسباب غامضة. ونبه الشرع على هذه المصالح في حالتي النسيئة والنقد وما يغاب عليه وما لا يغاب، بالكتاب والشهادة والرهن. قال الشافعي: البيوع ثلاثة: بيع بكتاب وشهود، وبيع برهان، وبيع بأمانة، وقرا هذه الآية. وكان ابن عمر إذا باع بنقد أشهد، وإذا باع بنسيئة كتب. التاسعة والأربعون- قوله تعالى: (وَأَشْهِدُوا) قال الطبري: معناه واشهدوا على صغيره ذلك وكبيره. واختلف الناس هل ذلك على الواجب أو الندب، فقال أبو موسى الأشعري وابن عمر والضحاك وسعيد بن المسيب وجابر بن زيد ومجاهد وداود بن على وابنه وأبو بكر: وهو على الواجب، ومن أشدهم في ذلك عطاء قال: أشهد إذا بعت وإذا اشتريت بدرهم أو نصف درهم أو ثلث درهم أو أقل من ذلك، فإن الله عز وجل يقول: (وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ). وعن إبراهيم قال: أشهدوا إذا بعت وإذا اشتريت ولو دستجة «1» بقل. وممن كان يذهب إلى هذا ويرجحه الطبري، وقال: لا يحل لمسلم إذا باع وإذا اشترى إلا أن يشهد، وإلا كان مخالفا كتاب الله عز وجل، وكذا إن كان إلى أجل فعليه أن يكتب ويشهد إن
__________
(1). الدستجة: الحزمة.

وجد كاتبا. وذهب الشعبي والحسن إلى أن ذلك على الندب والإرشاد ولا على الحتم. ويحكى أن هذا قول مالك والشافعي وأصحاب الرأى. وزعم ابن العربي أن هذا القول الكافة، قال: وهو الصحيح. ولم يحك عن أحد ممن قال بالوجوب إلا الضحاك. قال وقد باع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكتب. وقال: نسخته كتابه:" بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. هذا ما اشترى العداء بن خالد بن هوذة من محمد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، اشترى منه عبد ا- أو أمة- لا داء «1» ولا غائلة ولا خبثة بيع المسلم المسلم". وقد باع ولم يشهد، واشترى ورهن درعه عند يهودي ولم يشهد. ولو كان الاشهاد أمرا واجبا لوجب مع الرهن لخوف المنازعة. قلت: قد ذكرنا الوجوب عن غير الضحاك. وحديث العداء هذا أخرجه الدارقطني وأبو داود. وكان إسلامه بعد الفتح وحنين، وهو القائل: قاتلنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم حنين فلم يظهرنا الله ولم ينصرنا، ثم أسلم فحسن إسلامه. ذكره عمر، وذكر حديثه هذا، وقال في آخره:" قال الأصمعي: سألت سعيد بن أبى عروبة عن الغائلة فقال: الإباق والسرقة والزنا، وسألته عن الخبثة فقال: بيع أهل عهد المسلمين". وقال الامام أبو محمد بن عطية: والوجوب في ذلك قلق، أما في الدقائق «2» فصعب شاق، وأما ما كثر فربما يقصد التاجر الاستئلاف بترك الاشهاد، وقد يكون عادة في بعض البلاد، وقد يستحى من العالم والرجل الكبير الموقر فلا يشهد عليه، فيدخل ذلك كله في الائتمان يبقى الامر بالإشهاد ندبا، لما فيه من المصلحة في الأغلب ما لم يقع عذر يمنع منه كما ذكرنا. وحكى المهدوي والنحاس ومكي عن قوم أنهم قالوا:" وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ" منسوخ بقوله:" فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً". وأسنده النحاس عن أبى سعيد الخدري، وأنه تلا" يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ" إلى قوله" فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ"، قال: نسخت هذه الآية ما قبلها. قال النحاس: وهذا قول الحسن والحكم وعبد الرحمن بن زيد. قال الطبري: وهذا لا معنى له، لان هذا حكم غير
__________
(1). الداء: ما دلس فيه من عيب يخفى أو علة باطنة لا ترى. والشك من الراوي كما في الاستيعاب. وفية:" بيع المسلم لمسلم". كما في هـ وج وب وا، وفى ح:" بيع المسلم للمسلم".
(2). كذا في ط وهـ وح وب وابن عطية. وفى أوح: والوثائق.

الأول وأنما هذا حكم من لم يجد كاتبا قال الله عز وجل:" وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً- أي فلم يطالبه برهن- فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ". قال: ولو جاز أن يكون هذا ناسخا للأول لجاز أن يكون يقول عز وجل:" وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ «1»" الآية ناسخا لقوله عز وجل:" يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ" الآية ولجاز أن يكون قوله عز وجل:" فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ" ناسخا لقوله عز وجل:" فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ" قال بعض العلماء: إن قوله تعالى" فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً" لم يتبين تأخر نزوله عن صدر الآية المشتملة على الامر بالإشهاد، بل وردا معا. ولا يجوز أن يرد الناسخ والمنسوخ معا جميعا في حالة واحدة. قال: وقد روى عن ابن عباس أنه لما قيل له: إن آية الدين منسوخة قال: لا والله إن آية الدين محكمة ليس فيها نسخ قال: والاشهاد إنما جعل للطمأنينة، وذلك أن الله تعالى جعل لتوثيق الدين طرقا، منها الرهن، ومنها الاشهاد. ولا خلاف بين علماء الأمصار أن الرهن مشروع بطريق الندب لا بطريق الواجب. فيعلم من ذلك مثله في الاشهاد. وما زال الناس يتبايعون حضرا وسفرا وبرا وبحرا وسهلا وجبلا من غير إشهاد مع علم الناس بذلك من غير نكير، ولو وجب الاشهاد ما تركوا النكير على تاركه. قلت: هذا كله استدلال حسن، وأحسن منه ما جاء من صريح السنة في ترك الاشهاد، وهو ما خرجه الدارقطني عن طارق بن عبد الله المحاربي قال:" أقبلنا في ركب من الربذة وجنوب الربذة «2» حتى نزلنا قريبا من المدينة ومعنا ظعينة لنا. فبينا نحن قعود إذ أتانا رجل عليه ثوبان أبيضان فسلم فرددنا عليه، فقال: من أين [أقبل «3»] القوم؟ فقلنا: من الربذة وجنوب الربذة. قال: ومعنا جمل أحمر، فقال: تبيعوني جملكم هذا؟ فقلنا نعم. قال بكم؟ قلنا: بكذا وكذا صاعا من تمر. قال: فما استوضعنا شيئا وقال: قد أخذته، ثم أخذ برأس الجمل حتى
__________
(1). راجع ج 5 ص 104 وص 80 وص 314 وص 327.
(2). الربذة (بالتحريك): من قرى المدينة على ثلاثة أميال قريبة من ذات عرق على طريق الحجاز إذا رحلت من فيد تريد مكة، وبهذا الموضع قبر أبى ذر الغفاري رضى الله عنه، وكان قد خرج إليها مغاضبا لعثمان بن عفان رضى الله عنه فأقام بها إلى أن مات سنة 23 هـ (عن معجم البلدان لياقوت).
(3). من الدارقطني.

دخل المدينة فتوارى عنا، فتلاومنا بيننا وقلنا: أعطيتم جملكم من لا تعرفونه! فقالت الظعينة: لا تلاوموا فقد رأيت وجه رجل ما كان ليخفركم، ما رأيت وجه رجل أشبه بالقمر ليلة البدر من وجهه. فلما كان العشاء «1» أتانا رجل فقال: السلام عليكم، أنا رسول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إليكم، وإنه أمركم أن تأكلوا من هذا حتى تشبعوا، وتكتالوا حتى تستوفوا. قال: فأكلنا حتى شبعنا، واكتلنا حتى استوفينا". وذكر الحديث الزهري عن عمارة بن خزيمة أن عمه حدثه وهو من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابتاع فرسا من أعرابي، الحديث. وفية: فطفق الاعرابي يقول: هلم شاهدا يشهد أنى بعتك- قال خزيمة بن ثابت: أنا أشهد أنك قد بعته. فأقبل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على خزيمة فقال:" بم تشهد"؟ فقال: بتصديقك يا رسول الله. قال: فجعل رسول الله صلى الله عليه سلم شهادة خزيمة بشهادة رجلين. أخرجه النسائي وغيره. الموفية خمسين- قوله تعالى: (وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ) فيه ثلاثة أقوال: الأول «2»- لا يكتب الكاتب ما لم يمل عليه، ولا يزيد الشاهد في شهادته ولا ينقض منها. قاله الحسن وقتادة وطاوس وابن زيد وغيرهم. وروى عن ابن عباس ومجاهد وعطاء أن المعنى لا يمتنع الكاتب أن يكتب ولا الشاهد أن يشهد." وَلا يُضَارَّ" على هذين القولين أصله يضارر بكسر الراء، ثم وقع الإدغام، وفتحت الراء في الجزم لخفة الفتحة. قال النحاس: ورأيت أبا إسحاق يميل إلى هذا القول، قال: لان بعده" وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ" فالأولى أن تكون، من شهد بغير الحق أو حرف في الكتابة أن يقال له: فاسق، فهو أولى بهذا ممن سأل شاهدا أن يشهد وهو مشغول. وقرا عمر بن الخطاب وابن عباس وابن أبى إسحاق يضارر بكسر الراء الاولى. وقال مجاهد والضحكاك وطاوس والسدي وروى عن ابن عباس: معنى الآية" وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ" بأن يدعى الشاهد إلى الشهادة والكاتب إلى الكتب وهما مشغولان، فإذا اعتذرا بعذرهما أخرجهما «3» وآذاهما، وقال: خلفتما أمر الله، ونحو هذا من القول
__________
(1). كذا في الدارقطني، وفى الأصول جميعا: العشى.
(2). الثاني قول ابن عباس والثالث قول مجاهد والضحاك.
(3). في ج وب وط: خرج.

وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)

فيضربها. واصل" يُضَارَّ" على هذا يضارر بفتح الراء، وكذا قرأ ابن مسعود" يضارر" بفتح الراء الاولى، فنهى الله سبحانه عن هذا، لأنه لو أطلقه لكان فيه شغل لهما عن أمر دينهما ومعاشهما. ولفظ المضارة، إذ هو من اثنين، يقتضى هده المعاني. والكاتب والشهيد على القولين الأولين رفع بفعلهما، وعلى القول الثالث رفع على المفعول الذي لم يسم فاعله. الحادية والخمسون- قوله تعلى: (إِنْ تَفْعَلُوا) يعنى المضارة، (فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ) أي معصية، عن سفيان الثوري. فالكاتب والشاهد يعصيان بالزيادة أو النقصان، وذلك من الكذب المؤذي في الأموال والأبدان، وفية إبطال الحق. وكذلك إذايتهما إذا كانا مشغولين معصية وخورج عن الصواب من حيث المخالفة لأمر الله. قوله" بِكُمْ" تقديره فسوق حال بكم. الثانية والخمسون- قوله تعالى: (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) وعد من الله تعالى بأن من أتقاه علمه، أي يجعل في قلبه نورا يفهم به ما يلقى إليه، وقد يجعل الله في قلبه ابتداء فرقانا، أي فيصلا يفصل به بين الحق والباطل، ومنه قوله تعالى:" يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً «1»". والله أعلم.

[سورة البقرة (2): آية 283]
وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)
فيه أربع «2» وعشرون مسألة: لما ذكر الله تعالى الندب إلى الاشهاد والكتب لمصلحة حفظ الأموال والأديان «3»، عقب ذلك بذكر حال الاعذار المانعة من الكتب، وجعل لها الرهن، ونص من
__________
(1). راجع ج 7 ص 396.
(2). اعتمدنا أربع لما في هـ وا وج عند تمام الحادية والعشرين قوله: تعرضت هنا ثلاث مسائل تتمة أربع وعشرين. [.....]
(3). كذا في الأصول وابن عطية. والأديان: الطاعات، وعدم أداء الحقوق فسوق عن أمر الله. ولعله: الأبدان، راجع تفسير قوله تعالى:" فُسُوقٌ بِكُمْ".

أحوال العذر على السفر الذي هو غالب الاعذار، لا سيما في ذلك الوقت لكثرة الغزو، ويدخل في ذلك بالمعنى كل عذر. فرب وقت يتعذر فيه الكاتب في الحضر كأوقات أشغال الناس وبالليل، وأيضا فالخوف على خراب ذمة الغريم عذر يوجب طلب الرهن. وقد رهن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ درعه عند يهودي طلب منه سلف الشعير فقال: إنما يريد محمد أن يذهب بمالي. فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" كذب إنى لأمين في الأرض أمين في السماء ولو ائتمنني لأديت اذهبوا إليه بدرعي) فمات ودرعه مرهونة صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، على ما يأتي بيانه آنفا. الثانية- قال جمهور «1» من العلماء: الرهن في السفر بنص التنزيل، وفى الحضر ثابت بسنة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا صحيح. وقد بينا جوازه في الحضر من الآية بالمعنى، إذا قد تترتب الاعذار في الحضر، ولم يرو عن أحد منعه في الحضر سوى مجاهد والضحاك وداود، متمسكين بالآية. ولا حجة فيها، لان هذا الكلام وإن كان خرج مخرج الشرط فالمراد به غالب الأحوال. وليس كون الرهن في الآية في السفر مما يحظر في غيره. وفى الصحيحين وغيرهما عن عائشة أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اشترى من يهودي طعاما إلى أجل ورهنه درعا له من حديد. وأخرجه النسائي من حديث ابن عباس قال: توفى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعا من شعير لأهله. الثالثة- قوله تعالى: (وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً) قرأ الجمهور" كاتِباً" بمعنى رجل يكتب. وقرا ابن عباس وأبى ومجاهد والضحاك وعكرمة وأبو العالية" ولم تجدوا كتابا". قال أبو بكر الأنباري: فسره مجاهد فقال: معناه فإن لم تجدوا مدادا يعنى في الاسفار. وروى عن ابن عباس" كتابا". قال النحاس: هذه القراءة شاذة والعامة على خلافها. وقلما يخرج شي عن قراءة العامة إلا وفية مطعن، ونسق الكلام على كاتب، قال الله عز وجل قبل هذا:" وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ" وكتاب يقتضى جماعة. قال ابن عطية: كتابا يحسن من حيث
__________
(1). في ب: الجمهور من العلماء، وفى ج: جمهور العلماء.

لكل نازلة كاتب، فقيل للجماعة: ولم تجدوا كتابا. وحكى المهدوي عن أبى العالية أنه قرأ" كتبا" وهذا جمع كتاب من حيث النوازل مختلفة. وأما قراءة أبى وابن عباس" كتابا" فقال النحاس ومكي: وهو جمع كاتب كقائم وقيام. مكي: المعنى وإن عدمت الدواة والقلم والصحيفة. ونفى وجود الكاتب يكون بعدم أي آلة اتفق، ونفى الكاتب أيضا يقضى نفى الكتاب، فالقراءتان حسنتان إلا من جهة خط المصحف. الرابعة- قوله تعالى: (فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ) وقرا أبو عمرو وابن كثير" فرهن" بضم الراء والهاء، وروى عنهما تخفيف الهاء. وقال الطبري: تأول قوم أن" رهنا" بضم الراء والهاء جمع رهان، فهو جمع جمع، وحكاه الزجاج عن الفراء. وقال المهدوي:" فَرِهانٌ" ابتداء والخبر محذوف. والمعنى فرهان مقبوضة يكفى من ذلك. قال النحاس: وقرا عاصم بن أبى النجود" فرهن" بإسكان الهاء، ويروى عن أهل مكة. والباب في هذا" رهان"، كما يقال: بغل وبغال، وكبش وكباش، ورهن سبيله أن يكون جمع رهان، مثل كتاب وكتب. وقيل: هو جمع رهن، مثل سقف وسقف، وحلق وحلق، وفرش وفرش، ونشر ونشر «1»، وشبهه." ورهن" بإسكان الهاء سبيله أن تكون الضمة حذفت لثقلها. وقيل: هو جمع رهن، مثل سهم حشر أي دقيق، وسهام حشر. والأول أولى، لان الأول ليس بنعت وهذا نعت. وقال أبو على الفارسي: وتكسير" رهن" على أقل العدد لم أعلمه جاء، فلو جاء كان قياسه أفعلا ككلب وأكلب، وكأنهم استغنوا بالقليل عن الكثير، كما استغنى ببناء الكثير عن بناء القليل في قولهم: ثلاثة شسوع، وقد استغنى ببناء القليل عن الكثير في رسن وأرسان، فرهن يجمع على بناءين وهما فعل وفعال. الأخفش: فعل على قبيح وهو قليل شاذ، قال: وقد يكون" رهن" جمعا للرهان، كأنه يجمع رهن على رهان، ثم يجمع رهان على رهن، مثل فراش وفرش.
__________
(1). في ج: نشر ونشر وبه قرأ نافع" نشرا بين يدي رحمته" أو بشر وبشر: لان السين غير منقوطة. وفى ا: نسر بالنون ومهملة، وفى هـ: بسرا بالباء. والله أعلم.

الخامسة- معنى الرهن: احتباس العين وثيقة بالحق ليستوفي الحق من ثمنها أو من ثمن منافعها عند تعذر أخذه من الغريم، وهكذا حده العلماء، وهو في كلام العرب بمعنى الدوام والاستمرار. وقال ابن سيده: ورهنه أي أدامه، ومن رهن بمعنى دام قول الشاعر:
الخبز واللحم لهم راهن ... وقهوة راووقها ساكب
قال الجوهري: ورهن الشيء رهنا أي دام. وأرهنت له لهم الطعام والشراب أدمته لهم، وهو طعام راهن. والراهن: الثابت، والراهن: المهزول من الإبل والناس، قال:
إما ترى جسمي خلا قد رهن ... هزلا وما مجد الرجال في السمن
قال ابن عطية: ويقال في معنى الرهن الذي هو الوثيقة من الرهن: أرهنت إرهانا، حكاه بعضهم. وقال أبو على: أرهنت في المغالاة، وأما في القرض والبيع فرهنت. وقال أبو زيد: أرهنت في السلعة إرهانا: غاليت بها، وهو في الغلاء خاصة. قال:
عيدية أرهنت فيها الدنانير

يصف ناقة. والعيد بطن من مهرة «1» وابل مهرة موصوفة بالنجابة. وقال الزجاج: يقال في الرهن: رهنت وأرهنت، وقال ابن الاعرابي والأخفش. قال عبد الله بن همام السلولي:
فلما خشيت أظافيرهم ... نجوت وأرهنتهم مالكا
قال ثعلب: الرواة كلهم على أرهنتهم، على أنه يجوز رهنته وأرهنته، إلا الأصمعي فإنه رواه وأرهنهم، على أنه عطف بفعل مستقبل على فعل ماض، وشبهه بقولهم: قمت وأصك وجهه، وهو مذهب حسن، لان الواو واو الحال، فجعل أصك حالا للفعل الأول على معنى قمت صاكا وجهه، أي تركته مقيما عندهم، لأنه لا يقال: أرهنت الشيء، وإنما يقال: رهنته. وتقول: رهنت لساني بكذا، ولا يقال فيه: أرهنت. وقال ابن السكيت: أرهنت فيها بمعنى أسلفت. والمرتهن: الذي يأخذ الرهن. والشيء مرهون ورهين، والأنثى رهينة. وراهنت فلانا على كذا مراهنة: خاطرته. وأرهنت به ولدي إرهانا: أخطرتهم به خطرا. والرهينة واحدة
__________
(1). هو مهرة بن حيدان أبو قبيلة وهم حي عظيم. وصدر البيت: يطوى ابن سلمى بها من راكب بعدا

الرهائن، كله عن الجوهري. ابن عطية: ويقال بلا خلاف في البيع والقرض: رهنت رهنا، ثم سمى بهذا المصدر الشيء المدفوع تقول: رهنت رهنا، كما تقول رهنت ثوبا. السادسة- قال أبو على: ولما كان الرهن بمعنى الثبوت، والدوام فمن ثم بطل الرهن عند الفقهاء إذا خرج من يد المرتهن إلى الراهن بوجه من الوجوه، لأنه فارق ما جعل [باختيار المرتهن «1»] له. قلت- هذا هو المعتمد عندنا في أن الرهن متى رجع إلى الراهن باختيار المرتهن بطل الرهن، وقاله أبو حنيفة، غير أنه قال: إن رجع بعارية أو وديعة لم يبطل. وقال الشافعي: إن رجوعه إلى يد الراهن مطلقا لا يبطل حكم القبض المتقدم، ودليلنا" فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ"، فإذا خرج عن يد القابض لم يصدق ذلك اللفظ عليه لغة، فلا يصدق عليه حكما، وهذا واضح. السابعة- إذا رهنه قولا ولم يقبضه فعلا لم يوجب ذلك، حكما، لقوله تعالى:" فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ" قال الشافعي: لم يجعل الله الحكم إلا برهن موصوف بالقبض، فإذا عدمت الصفة وجب أن يعدم الحكم، وهذا ظاهر جدا. وقالت المالكية: يلزم الرهن بالعقد ويجبر الراهن على دفع الرهن ليحوزه المرتهن، لقوله تعالى:" أَوْفُوا بِالْعُقُودِ «2»" وهذا عقد، وقوله" بِالْعَهْدِ «3»" وهذا عهد. وقوله عليه السلام:" المؤمنون عند شروطهم" وهذا شرط، فالقبض عندنا شرط في كمال فائدته. وعندهما شرط في لزومه وصحته. الثامنة- قوله تعالى: (مَقْبُوضَةٌ) يقتضى بينونة المرتهن بالرهن. وأجمع الناس على صحة قبض المرتهن، وكذلك على قبض وكيله. واختلفوا في قبض عدل يوضع الرهن على يديه «4»، فقال مالك وجميع أصحابه وجمهور العلماء: قبض العدل قبض. وقال ابن أبى ليلى وقتادة والحكم وعطاء: ليس بقبض، ولا يكون مقبوضا إلا إذا كان عند المرتهن، ورأوا ذلك تعبدا. وقول الجمهور أصح من جهة المعنى، لأنه إذا صار عند العدل صار مقبوضا لغة وحقيقة، لان العدل نائب عن صاحب الحق وبمنزلة الوكيل، وهذا ظاهر. التاسعة- ولو وضع الرهن على يدي عدل فضاع لم يضمن المرتهن ولا الموضوع على يده، لان المرتهن لم يكن في يده شي يضمنه. والموضوع على يده أمين والأمين غير ضامن.
__________
(1). الزيادة في ج
(2). راجع ج 6 ص 31.
(3). راجع ج 10 ص 296
(4). كذا في هـ، وفي غيرها: يده.

العاشرة- لما قال تعالى:" مَقْبُوضَةٌ" قال علماؤنا: فيه ما يقتضى بظاهره ومطلقه جواز رهن المشاع «1». خلافا لابي حنيفة وأصحابه، لا يجوز عندهم أن يرهنه ثلث دار ولا نصفا من عبد ولا سيف، ثم قالوا: إذا كان لرجلين على رجل مال هما فيه شريكان فرهنهما بذلك أرضا فهو جائز إذا قبضاها. قال ابن المنذر: وهذا إجازة رهن المشاع، لان كل واحد منهما مرتهن نصف دار «2». قال ابن المنذر: رهن المشاع جائز كما يجوز بيعه. الحادية عشرة- ورهن ما في الذمة جائز عند علمائنا، لأنه مقبوض خلافا لمن منع ذلك، ومثاله رجلان تعاملا لأحدهما على الآخر دين فرهنه دينه الذي عليه. قال ابن خويز منداد: وكل عرض جاز بيعه جاز رهنه، ولهذه العلة جوزنا رهن ما في الذمة، لان بيعه جائز، ولأنه مال تقع الوثيقة به فجاز أن يكون رهنا، قياسا على سلعة موجودة. وقال من منع ذلك: لأنه لا يتحقق إقباضه والقبض شرط في لزوم الرهن، لأنه لا بد أن يستوفى الحق منه عند المحل، ويكون الاستيفاء من ماليته لا من عينه ولا يتصور ذلك في الدين. الثانية عشرة- روى البخاري عن أبى هريرة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهونا ولبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مرهونا وعلى الذي يركب ويشرب النفقة". وأخرجه أبو داود وقال بدل" يشرب" في الموضعين:" يحلب". قال الخطابي: هذا كلام مبهم ليس في نفس اللفظ بيان من يركب ويحلب، هل الراهن أو المرتهن أو العدل الموضوع على يده الرهن؟. قلت: قد جاء ذلك مبينا مفسرا في حديثين، وبسببهما اختلف العلماء في ذلك، فروى الدارقطني من حديث أبى هريرة ذكر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:" إذا كانت الدابة مرهونة فعلى المرتهن علفها ولبن الدر يشرب وعلى الذي يشرب نفقته". أخرجه عن أحمد بن على بن العلاء حدثنا زياد بن أيوب حدثنا هشيم حدثنا زكريا عن الشعبي عن أبى هريرة. وهو قول أحمد وإسحاق: أن المرتهن ينتفع من الرهن بالحلب والركوب بقدر النفقة. وقال أبو ثور: إذا كان الراهن ينفق عليه لم ينتفع به المرتهن. وإن كان الراهن لا ينفق عليه وتركه
__________
(1). في هـ: المتاع.
(2). كذا في الأصول، ينبغي: نصف أرض.

في يد المرتهن فأنفق عليه فله ركوبه واستخدام العبد. وقال الأوزاعي والليث. الحديث الثاني خرجه الدارقطني أيضا، وفى إسناده مقال ويأتي بيانه- من حديث إسماعيل بن عياش عن ابن أبى ذئب عن الزهري عن المقبري «1» عن أبى هريرة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" لا يغلق الرهن «2» ولصاحبه غنمه وعليه غرمه". وهو قول الشافعي والشعبي وابن سيرين. وهو قول مالك وأصحابه. قال الشافعي: منفعة الرهن للراهن، ونفقته عليه، والمرتهن لا ينتفع بشيء من الرهن خلا الاحفاظ للوثيقة. قال الخطابي: وهو أولى الأقوال وأصحها، بدليل قوله عليه السلام:" لا يغلق الرهن من صاحبه الذي رهنه [له غنمه وعليه غرمه ]". [قال الخطابي: وقوله:" من صاحبه أي لصاحبه «3»" [. والعرب تضع" من" موضع اللام، كقولهم:
أمن أم أوفى دمنة لم تكلم

قلت: قد جاء صريحا" لصاحبه" فلا حاجة للتأويل. وقال الطحاوي: كان ذلك وقت كون الربا مباحا، ولم ينه عن قرض جر منفعة، ولا عن أخذ الشيء بالشيء وإن كانا غير متساويين، ثم حرم الربا بعد ذلك. وقد أجمعت الامة على أن الامة المرهونة «4» لا يجوز للراهن أن يطأها، فكذلك لا يجوز له خدمتها. وقد قال الشعبي: لا ينتفع من الرهن بشيء. فهذا الشعبي روى الحديث وأفتى بخلافه، ولا يجوز عنده ذلك إلا وهو منسوخ. وقال ابن عبد البر وقد أجمعوا أن لبن الرهن وظهره للراهن. ولا يخلو من أن يكون احتلاب المرتهن له بإذن الراهن أو بغير إذنه، فإن كان بغير إذنه ففي حديث ابن عمر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" لا يحتلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه" ما يرده ويقضى بنسخه. وإن كان بإذنه ففي الأصول المجتمع عليها في تحريم المجهول والغرر وبيع ما ليس عندك وبيع ما لم يخلق، ما يرده أيضا، فإن ذلك كان قبل نزول تحريم الربا. والله أعلم.
__________
(1). كذا في كل الأصول، والصواب كما في الدارقطني: عن الزهري عن سعيد بن المسيب. وستأتي قريبا.
(2). غلق الرهن: من فعل الجاهلية أن الراهن إذا لم يؤد ما عليه في الوقت المعين ملك المرتهن الرهن فأبطله الإسلام. (عن النهاية).
(3). الزيادة من ج وح وهـ وط. هذه رواية غير المتقدمة للدارقطني.
(4). في هـ وج وح وط: الرهن. [.....]

وقال ابن خويز منداد: ولو شرط المرتهن الانتفاع بالرهن فلذلك حالتان: إن كان من قرض لم يجز، وإن كان من بيع أو إجارة جاز، لأنه يصير بائعا «1» للسلعة بالثمن المذكور ومنافع الرهن مدة «2» معلومة فكأنه بيع وإجارة، وأما في القرض فلانه يصير قرضا جر منفعة، ولان موضوع القرض أن يكون قربة، فإذا دخله نفع صار زيادة في الجنس وذلك ربا. الثالثة عشرة- لا يجوز غلق الرهن، وهو أن يشترط المرتهن أنه له بحقه إن لم يأته به عند أجله. وكان هذا من فعل الجاهلية فأبطله النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله:" لا يغلق الرهن" هكذا قيدناه برفع القاف على الخبر، أي ليس يغلق الرهن. تقول: أغلقت الباب فهو مغلق. وغلق الرهن في يد مرتهنة إذا لم يفتك «3»، قال الشاعر:
إجارتنا من يجتمع يتفرق ... ومن يك رهنا للحوادث يغلق
وقال زهير:
وفارقتك برهن لا فكاك له ... يوم الوداع فأمسى الرهن قد غلقا
الرابعة عشرة- روى الدارقطني من حديث سفيان بن عيينة عن زياد بن سعد عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبى هريرة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:" لا يغلق الرهن له غنمه وعليه غرمه". زياد بن سعد أحد الحفاظ الثقات، وهذا إسناد حسن. وأخرجه مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب مرسلا أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:" لا يغلق الرهن". قال أبو عمر: وهكذا رواه كل من روى الموطأ عن مالك فيما علمت، إلا معن بن عيسى فإنه وصله، ومعن ثقة، إلا أنى أخشى أن يكون الخطأ فيه من على بن عبد الحميد الغضائري عن مجاهد بن موسى عن معن بن عيسى. وزاد فيه أبو عبد الله عمروس «4» عن الأبهري بإسناده:" له غنمه وعليه غرمه". وهذه اللفظة قد اختلف الرواة في رفعها، فرفعها ابن أبى ذئب ومعمر وغيرهما. ورواه ابن وهب وقال: قال يونس قال ابن شهاب: وكان سعيد بن المسيب يقول: الرهن ممن رهنه، له غنمه وعليه غرمه، فأخبر ابن شهاب أن هذا من قول سعيد لا عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. إلا أن معمرا ذكره عن
__________
(1). في هـ: تابعا.
(2). في ج:" ومنافع المرهون معلومة".
(3). في ج: ينفك.
(4). في ط: ابن عمروس والتصحيح من التمهيد.

ابن شهاب مرفوعا، ومعمر أثبت الناس في ابن شهاب. وتابعه على رفعه يحيى بن أبى أنيسة ويحيى ليس بالقوى. واصل هذا الحديث عند أهل العلم بالنقل مرسل، وإن كان قد وصل من جهات كثيرة فإنهم يعللونها. وهو مع هذا حديث لا يرفعه أحد منهم وإن اختلفوا في تأويله ومعناه. ورواه الدارقطني أيضا عن إسماعيل بن عياش عن ابن أبى ذئب عن الزهري عن سعيد عن أبى هريرة مرفوعا. قال أبو عمر: لم يسمعه إسماعيل من ابن أبى ذئب وإنما سمعه من عباد بن كثير عن ابن أبى ذئب، وعباد عندهم ضعيف لا يحتج به. وإسماعيل عندهم أيضا غير مقبول الحديث إذا حدث عن غير أهل بلده، فإذا حدث عن الشاميين فحديثه مستقيم، وإذا حدث عن المدنيين وغيرهم ففي حديثه خطأ كثير واضطراب. الخامسة عشرة- نماء الرهن داخل معه إن كان لا يتميز كالسمن، أو كان نسلا كالولادة والنتاج، وفى معناه فسيل النخل، وما عدا ذلك من غلة وثمرة ولبن وصوف فلا يدخل فيه إلا أن يشترطه. والفرق بينهما أن الأولاد تبع في الزكاة للامهات، وليس كذلك الأصواف والألبان وثمر الأشجار، لأنها ليست تبعا للامهات في الزكاة ولا هي في صورها ولا في معناها ولا تقوم معها، فلها حكم نفسها لا حكم الأصل خلاف الولد والنتاج. والله أعلم بصواب ذلك. السادسة عشرة- ورهن من أحاط الدين بماله جائز ما لم يفلس، ويكون المرتهن أحق بالرهن من الغرماء، قاله مالك وجماعة من الناس. وروى عن مالك خلاف هذا- وقاله عبد العزيز بن أبى سلمة- أن الغرماء يدخلون معه في ذلك وليس بشيء، لان من لم يحجر عليه فتصرفاته صحيحة في كل أحواله من بيع وشراء، والغرماء عاملوه على أنه يبيع ويشترى ويقضى، لم يختلف قول مالك في هذا الباب، فكذلك الرهن. والله أعلم. السابعة عشرة- قوله تعالى: (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) الآية. شرط ربط به وصية الذي عليه الحق بالأداء وترك المطل. يعنى إن كان الذي عليه الحق أمينا عند صاحب الحق وثقه فليؤد له ما عليه ائتمن. وقوله (فَلْيُؤَدِّ) من الأداء مهموز، [وهو جواب الشرط «1» [ويجوز تخفيف همزه فتقلب الهمزة واوا ولا تقلب ألفا ولا تجعل بين بين، لان الالف لا يكون
__________
(1). من ط.

ما قبلها إلا مفتوحا. وهو أمر معناه الوجوب، بقرينة الإجماع على وجوب أداء الديون، وثبوت حكم الحاكم به وجبره الغرماء عليه، وبقرينة الأحاديث الصحاح في تحريم مال الغير. الثامنة عشرة- قوله تعالى: (أَمانَتَهُ) الأمانة مصدر سمى به الشيء الذي في الذمة، وأضافها إلى الذي عليه الدين من حيث لها إليه نسبة، كما قال تعالى:" وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ «1»". التاسعة عشرة- قوله تعالى: (وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ) أي في ألا يكتم من الحق شيئا. وقوله: (وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ) تفسير لقوله:" ولا يضارر" بكسر العين. نهى الشاهد عن أن يضر بكتمان الشهادة، وهو نهى على الوجوب بعدة قرائن منها الوعيد. وموضع النهى هو حيث يخاف الشاهد ضياع حق. وقال ابن عباس: على الشاهد أن يشهد حيثما استشهد، ويخبر حيثما استخبر، قال: ولا تقل أخبر بها عند الأمير بل أخبره بها لعله يرجع ويرعوى. وقرا أبو عبد الرحمن ولا يكتموا" بالياء، جعله نهيا للغائب. الموفية عشرين- إذا كان على الحق شهود تعين عليهم أداؤها على الكفاية، فإن أداها اثنان واجتزأ الحاكم بهما سقط الفرض عن الباقين، وإن لم يجتزأ بها تعين المشي إليه حتى يقع الإثبات. وهذا يعلم بدعاء صاحبها، فإذا قال له: أحى حقي بأداء ما عندك لي من الشهادة تعين ذلك عليه. الحادية والعشرون- قوله تعالى: (وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) خص القلب بالذكر إذ الكتم من أفعاله، وإذ هو المضغة التي بصلاحها يصلح الجسد كله كما قال عليه السلام، فعبر بالبعض عن الجملة، وقد تقدم. [في أول السورة «2» [وقال الكيا: لما عزم على ألا يؤديها وترك أداءها باللسان رجع المأثم إلى الوجهين جميعا. فقوله:" آثِمٌ قَلْبُهُ" مجاز، وهو آكد من الحقيقة في الدلالة على الوعيد، وهو من بديع البيان ولطيف الاعراب عن المعاني. يقال: إثم القلب سبب مسخه، والله تعالى إذا مسخ قلبا جعله منافقا وطبع عليه، نعوذ بالله منه [وقد تقدم في أول السورة «3»]. و" قَلْبُهُ" رفع ب" آثِمٌ" و" آثِمٌ" خبر
__________
(1). راجع ج 5 ص 27.
(2). الزيادة من ج وط. راجع ج 1 ص 188.
(3). من ط.

" إِنْ"، وإن شئت رفعت آثما بالابتداء، و" قَلْبُهُ" فاعل يسد مسد الخبر والجملة خبر إن. وإن شئت رفعت آثما على أنه خبر الابتداء تنوي به التأخير. وإن شئت كان" قَلْبُهُ" بدلا من" آثِمٌ" بدل البعض من الكل. وإن شئت كان بدلا من المضمر الذي في" آثِمٌ". وتعرضت هنا ثلاث مسائل تتمة أربع وعشرين. الاولى- اعلم أن الذي أمر الله تعالى به من الشهادة والكتابة لمراعاة صلاح ذات البين ونفى التنازع المؤدى إلى فساد ذات البين، لئلا يسول له الشيطان جحود الحق وتجاوز ما حد له الشرع، أو ترك الاقتصار على المقدار «1» المستحق، ولأجله حرم الشرع البياعات المجهولة التي اعتيادها يؤدى إلى الاختلاف وفساد ذات البين وإيقاع التضاغن والتباين. فمن ذلك ما حرمه الله من الميسر والقمار وشرب الخمر بقوله تعالى:" إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ «2»" الآية. فمن تأدب بأدب الله في أوامره وزواجره حاز صلاح الدنيا والدين، قال الله تعالى:" وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ «3»" الآية. الثانية- روى البخاري عن أبى هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:" من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله". وروى النسائي عن ميمونة زوج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنها استدانت، فقيل: يا أم المؤمنين، تستدينين وليس عندك وفاء؟ قالت: إنى سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: (من أخذ دينا وهو يريد أن يؤديه أعانه الله عليه). وروى الطحاوي وأبو جعفر الطبري والحارث بن أبى أسامة في مسنده عن عقبة بن عامر أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:" لا تخيفوا الأنفس بعد أمنها" قالوا: يا رسول الله، وما ذاك؟ قال:" الدين". وروى البخاري عن أنس عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في دعاء ذكره:" اللهم أنى أعوذ بك من الهم والحزن والعجز والكسل والجبن والبخل وضلع الدين وغلبة الرجال". قال العلماء: ضلع الدين هو الذي لا يجد دائنه من حيث يؤديه. وهو مأخوذ من قول العرب: حمل مضلع أي ثقيل، ودابة مضلع لا تقوى على الحمل، قال صاحب العين. وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
__________
(1). في ط: المال.
(2). راجع ج 6 ص 285.
(3). راجع ج 5 ص 270

" الدين شين الدين". وروى عنه أنه قال:" الدين هم بالليل ومذلة بالنهار". قال علماؤنا: وإنما كان شينا ومذلة لما فيه من شغل القلب والبال والهم اللازم في قضائه، والتذلل للغريم عند لقائه، وتحمل منته بالتأخير إلى حين أوانه. وربما يعد من نفسه القضاء فيخلف، أو يحدث الغريم بسببه فيكذب، أو يحلف له فيحنث، إلى غير ذلك. ولهذا كان عليه السلام يتعوذ من المأثم والمغرم، وهو الدين. فقيل له: يا رسول الله، ما أكثر ما تتعوذ من المغرم؟ فقال:" إن الرجل إذا غرم حدث فكذب ووعد فأخلف". وأيضا فربما قد مات ولم يقض الدين فيرتهن به، كما قال عليه السلام:" نسمة المؤمن مرتهنة في قبره بدينه حتى يقضى عنه". وكل هذه الأسباب مشاين في الدين تذهب جماله وتنقص كماله. والله أعلم. الثالثة- لما أمر الله تعالى بالكتب والاشهاد واخذ الرهان كان ذلك نصا قاطعا على مراعاة حفظ الأموال وتنميتها، وردا على الجهلة المتصوفة ورعاعها الذين لا يرون ذلك، فيخرجون عن جميع أموالهم ولا يتركون كفاية لأنفسهم وعيالهم، ثم إذا احتاج وافتقر عياله فهو إما أن يتعرض لمنن الاخوان أو لصدقاتهم، أو أن يأخذ من أرباب الدنيا وظلمتهم، وهذا الفعل مذموم منهى عنه. قال أبو الفرج الجوزي: ولست أعجب من المتزهدين الذين فعلوا هذا مع قلة علمهم، إنما أتعجب من أقوام لهم علم وعقل كيف حثوا على هذا، وأمروا به مع مضادته للشرع والعقل. فذكر المحاسبي في هذا كلاما كثيرا، وشيده أبو حامد الطوسي ونصره. والحارث «1» عندي أعذر من أبى حامد، لان أبا حامد كان أفقه، غير أن دخوله في التصوف أوجب عليه نصرة ما دخل فيه. قال المحاسبي في كلام طويل له: ولقد بلغني أنه لما توفى عبد الرحمن بن عوف قال ناس من أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنما نخاف على عبد الرحمن فيما ترك. فقال كعب «2»: سبحان الله! وما تخافون على عبد الرحمن؟ كسب طيبا وأنفق طيبا وترك طيبا. فبلغ ذلك أبا ذر فخرج مغضبا يريد كعبا، فمر بلحي «3» بعير فأخذه بيده، ثم أنطلق يطلب كعبا، فقيل لكعب: إن أبا ذر يطلبك. فخرج هاربا حتى
__________
(1). هو أبو عهد الله الحارث بن أسد الزاهد المحاسبي، وسمي المحاسبي لكثرة محاسبته لنفسه. (عن أنساب السمعاني).
(2). أراد كعب الأحبار بدليل قوله له: يا ابن اليهودية، وهذا غير صحيح على ما يأتي في ص 418 ومما تمسك به بعض الملاحدة الاباحيين.
(3). اللحى: عظم الحنك وهو الذي عليه الأسنان. [.....]

دخل على عثمان يستغيث به وأخبره الخبر. فأقبل أبو ذر يقص الأثر في طلب كعب حتى انتهى إلى دار عثمان، فلما دخل قام كعب فجلس خلف عثمان هاربا من أبى ذر، فقال له أبو ذر: يا ابن اليهودية، تزعم ألا بأس بما تركه عبد الرحمن! لقد خرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوما فقال:" الأكثرون هم الأقلون يوم القيامة إلا من قال «1» هكذا وهكذا". قال المحاسبي: فهذا عبد الرحمن مع فضله يوقف في عرصة [يوم «2»] القيامة بسبب ما كسبه من حلال، للتعفف وصنائع المعروف فيمنع السعي إلى الجنة مع الفقراء وصار يحبو في آثارهم حبوا، إلى غير ذلك من كلامه «3». ذكره أبو حامد وشيده وقواه بحديث ثعلبة، وأنه أعطى المال فمنع الزكاة. قال أبو حامد: فمن راقب أحوال الأنبياء والأولياء وأقوالهم لم يشك في أن فقد المال أفضل من وجوده، وإن صرف إلى الخيرات، إذ أقل ما فيه اشتغال الهمة بإصلاحه عن ذكر الله. فينبغي للمريد أن يخرج عن ماله حتى لا يبقى له إلا قدر ضرورته، فما بقي له درهم يلتفت إليه قلبه فهو محجوب عن الله تعالى. قال الجوزي: وهذا كله خلاف الشرع والعقل، وسوء فهم المراد بالمال، وقد شرفه الله وعظم قدره وأمر بحفظه، إذ جعله قواما للآدمي وما جعل قواما للآدمي الشريف فهو شريف، فقال تعالى:" وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً «4»". ونهى عز وجل أن يسلم المال إلى غير رشيد فقال:" فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ". ونهى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن إضاعة المال، قال لسعد:" إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس. وقال:" ما نفعني مال كمال أبى بكر". وقال لعمرو بن العاص:" نعم المال الصالح للرجل الصالح". ودعا لأنس، وكان في آخر دعائه:" اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيه". وقال كعب «5»: يا رسول الله، إن من توبتي أن أنخلع من مالى صدقة إلى الله وإلى رسوله. فقال:" أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك". قال الجوزي: هذه الأحاديث مخرجة في الصحاح، وهى على خلاف
__________
(1). أي الأمن صرف المال على الناس في وجوه البر والصدقة. قال أبن الأثير:" العرب تجعل القول عبارة عن جميع الافعال وتطلقه على الكلام واللسان، فتقول: قال بيده أي أخذ، قال برجله أي مشى، وقال بثوبه أي رفعه. وكل ذلك على المجاز والاتساع".
(2). من ج.
(3). في ج: كلامهم.
(4). راجع ج 5 ص 27.
(5). هو أبن مالك أحد الثلاثة الذين خلفوا راجع ج 8 ص 286. فيه: إن من توبة الله على إلخ.

ما تعتقده المتصوفة من أن إكثار المال حجاب وعقوبة، وأن حبسه ينافي التوكل، ولا ينكر أنه يخاف من فتنته، وأن خلقا كثيرا اجتنبوه لخوف ذلك، وأن جمعه من وجهه ليعز «1»، وأن سلامة القلب من الافتتان به تقل، واشتغال القلب مع وجوده بذكر الآخرة يندر، فلهذا خيف فتنته. فأما كسب المال فإن من اقتصر على كسب البلغة من حلها فذلك أمر لأبد منه وأما من قصد جمعه والاستكثار منه من الحلال نظر في مقصوده، فإن قصد نفس المفاخرة والمباهاة فبئس المقصود، وإن قصد إعفاف نفسه وعائلته، وادخر لحوادث زمانه وزمانهم، وقصد التوسعة على الاخوان وإغناء الفقراء وفعل المصالح أثيب على قصده، وكان جمعه بهذه النية أفضل من كثير من الطاعات. وقد كانت نيات خلق كثير من الصحابة في جمع المال سليمة لحسن مقاصدهم بجمعه، فحرصوا عليه وسألوا زيادته. ولما أقطع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الزبير حضر «2» فرسه أجرى الفرس حتى قام ثم رمى سوطه، فقال:" أعطوه حيث بلغ سوطه". وكان سعد بن عبادة يقول في دعائه: اللهم وسع على. وقال إخوة يوسف:" وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ «3»". وقال شعيب لموسى:" فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ «4»". وإن أيوب لما عوفي نثر عليه «5» رجل من جراد من ذهب، فأخذ يحثى في ثوبه ويستكثر منه، فقيل له: أما شبعت؟ فقال: يا رب فقير يشبع من فضلك؟. وهذا أمر مركوز في الطباع. وأما كلام المحاسبي فخطأ يدل على الجهل بالعلم، وما ذكره من حديث كعب وأبى ذر فمحال، من وضع الجهال وخفيت عدم صحته عنه للحوقه بالقوم. وقد روى بعض هذا وإن كان طريقه لا يثبت، لان في سنده ابن لهيعة وهو مطعون فيه. قال يحيى: لا يحتج بحديثه. والصحيح في التاريخ أن أبا ذر توفى سنة خمس وعشرين، وعبد الرحمن بن عوف توفى سنة اثنتين وثلاثين، فقد عاش بعد أبى ذر سبع سنين. ثم لفظ ما ذكروه من حديثهم يدل على أن حديثهم موضوع، ثم كيف تقول الصحابة: إنا نخاف على عبد الرحمن! أو ليس الإجماع منعقدا على إباحة [جمع «6»] المال من حله، فما وجه الخوف مع الإباحة؟ أو يأذن الشرع في شي ثم يعاقب
__________
(1). كذا في ى وب وا، وفى ج وح: يغر.
(2). الحضر بضم فسكون) والإحضار: ارتفاع الفرس في عدوه.
(3). راجع ج 9 ص 223.
(4). راجع 13 ث 267.
(5). الرجل (بكسر فسكون): القطعة العظيمة من الجراد.
(6). من ب وج وهـ.

لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284)

عليه؟ هذا قلة فهم وفقه. ثم أينكر أبو ذر على عبد الرحمن، وعبد الرحمن خير من أبى ذر بما لا يتقارب؟ ثم تعلقه بعبد الرحمن وحده دليل على أنه لم [يسبر «1»] سير الصحابة، فإنه قد خلف طلحة ثلاثمائة بهار في كل بهار ثلاثة قناطير. والبهار الحمل. وكان مال الزبير خمسين ألفا ومائتي ألف. وخلف ابن مسعود تسعين ألفا. وأكثر الصحابة كسبوا الأموال وخلفوها ولم ينكر أحد منهم على أحد. وأما قوله:" إن عبد الرحمن يحبو حبوا يوم القيامة" فهذا دليل على أنه ما عرف الحديث، وأعوذ بالله أن يحبو عبد الرحمن في القيامة، أفترى من سبق وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة ومن أهل بدر والشورى يحبو؟ ثم الحديث يرويه عمارة ابن زاذان، وقال البخاري: ربما اضطرب حديثه. وقال أحمد: يروى عن أنس أحاديث مناكير، وقال أبو حاتم الرازي: لا يحتج به. وقال الدارقطني: ضعيف. وقوله:" ترك المال الحلال أفضل من جمعه" ليس كذلك، ومتى صح القصد فجمعه أفضل بلا خلاف عند العلماء. وكان سعيد بن المسيب يقول: لا خير فيمن لا يطلب المال، يقضى به دينه ويصون به عرضه، فإن مات تركه ميراثا لمن بعده. وخلف ابن المسيب أربعمائة دينار، وخلف سفيان الثوري مائتين، وكان يقول: المال في هذا الزمان سلاح. وما زال السلف يمدحون المال ويجمعونه للنوائب وإعانة الفقراء، وإنما تحاماه قوم منهم إيثارا للتشاغل بالعبادات، وجمع الهم فقنعوا باليسير. فلو قال هذا القائل: إن التقليل منه أولى قرب الامر ولكنه زاحم به مرتبة الإثم. قلت: ومما يدل على حفظ الأموال ومراعاتها إباحة القتال دونها وعليها، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" من قتل دون ماله فهو شهيد". وسيأتي بيانه في" المائدة «2»" إن شاء الله تعالى.

[سورة البقرة (2): آية 284]
لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284)
__________
(1). في ج، وب، وا. وفى غيرها: لم يسر سير. وهو خطأ.
(2). راجع ج 6 ص 156

قوله تعالى: (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) تقدم معناه. قوله تعالى: (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ) فيه مسألتان: الاولى- اختلف الناس في معنى قوله تعالى:" وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ" على أقوال خمسة: الأول- أنها منسوخة، قاله ابن عباس وابن مسعود وعائشة وأبو هريرة والشعبي وعطاء ومحمد بن سيرين ومحمد بن كعب وموسى بن عبيدة وجماعة من الصحابة والتابعين، وأنه بقي هذا التكليف حولا حتى أنزل الله الفرج بقوله:" لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها". [وهو قول ابن مسعود وعائشة وعطاء ومحمد بن سيرين ومحمد بن كعب وغيرهم «1» [وفى صحيح مسلم عن ابن عباس قال: لما نزلت" وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ" قال: دخل قلوبهم منها شي لم يدخل قلوبهم من شي، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" قولوا سمعنا وأطعنا وسلمنا" قال: فألقى الله الايمان في قلوبهم فأنزل الله تعالى:" لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا
" [قال:" قد فعلت «2»"] ربنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا [قال:" قد فعلت «3»"] رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا [فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ «4»] [قال:" قد فعلت «5»"]: في رواية فلما فعلوا ذلك نسخها الله ثم أنزل تعالى:" لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها" وسيأتي. الثاني- قال ابن عباس وعكرمة والشعبي ومجاهد: إنها محكمة مخصوصة، وهى في معنى الشهادة التي نهى عن كتمها، ثم أعلم في هذه الآية أن الكاتم لها المخفي ما في نفسه محاسب. الثالث- أن الآية فيما يطرأ على النفوس من الشك واليقين، وقال مجاهد أيضا. الرابع- أنها محكمة عامة غير منسوخة، والله محاسب خلقه على ما عملوا من عمل وعلى ما لم يعملوه مما ثبت في نفوسهم وأضمروه ونووه وأرادوه، فيغفر للمؤمنين ويأخذ به أهل الكفر والنفاق، ذكره الطبري عن قوم، وأدخل عن ابن عباس ما يشبه هذا. روى عن على
__________
(1). الزيادة عن ج وب وط. [.....]
(2). الزيادة من صحيح مسلم.
(3). الزيادة من صحيح مسلم.
(4). هذا الجزء من الآية موجود في الأصول دون صحيح مسلم.
(5). الزيادة من صحيح مسلم.

بن أبى طلحة عن ابن عباس أنه قال: لم تنسخ، ولكن إذا جمع الله الخلائق يقول:" إنى أخبركم بما أكننتم في أنفسكم" فأما المؤمنون فيخبرهم ثم يغفر لهم، وأما أهل الشك والريب فيخبرهم بما أخفوه من التكذيب، فذلك قوله:" يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ «1» مَنْ يَشاءُ" وهو قوله عز وجل:" وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ «2»" من الشك والنفاق. وقال الضحاك: يعلمه الله يوم القيامة بما كان يسره ليعلم أنه لم يخف عليه. وفى الخبر:" إن الله تعالى يقول يوم القيامة هذا يوم تبلى فيه السرائر وتخرج الضمائر وأن كتابي لم يكتبوا إلا ما ظهر من أعمالكم وأنا المطلع على ما لم يطلعوا عليه ولم يخبروه ولا كتبوه فأنا أخبركم بذلك وأحاسبكم عليه فأغفر لمن أشاء وأعذب من أشاء" فيغفر للمؤمنين ويعذب الكافرين، وهذا أصح ما في الباب، يدل عليه حديث النجوى على ما يأتي بيانه، [لا يقال «3»]: فقد ثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" إن الله تجاوز لامتي عما حدثت به أنفسها ما لم يتكلموا أو يعملوا به". فإنا نقول: ذلك محمول على أحكام الدنيا، مثل الطلاق والعتاق والبيع التي لا يلزمه حكمها ما لم يتكلم به، والذي ذكر في الآية فيما يؤاخذ العبد به بينه وبين الله تعالى في الآخرة. وقال الحسن: الآية محكمة ليست بمنسوخة. قال الطبري: وقال آخرون نحو هذا المعنى الذي ذكر عن ابن عباس، إلا أنهم قالوا: إن العذاب الذي يكون جزاء لما خطر في النفوس وصحبه الفكر إنما هو بمصائب الدنيا وآلامها وسائر مكارهها. ثم أسند عن عائشة نحو هذا المعنى، وهو (القول الخامس): ورجح الطبري أن الآية محكمة غير منسوخة: قال ابن عطية: وهذا هو الصواب، وذلك أن قوله تعالى:" وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ" معناه مما هو في وسعكم وتحت كسبكم، وذلك استصحاب المعتقد والفكر، فلما كان اللفظ مما يمكن أن تدخل فيه الخواطر أشفق الصحابة والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فبين الله لهم ما أراد بالآية الأخرى، وخصصها ونص على حكمه أنه لا يكلف نفسا إلا وسعها، والخواطر ليست هي ولا دفعها في الوسع، بل هي أمر غالب وليست مما يكتسب، فكان في هذا البيان فرجهم وكشف كربهم، وباقى «4» الآية محكمة لا نسخ فيها: ومما يدفع أمر النسخ أن الآية خبر والاخبار لا يدخلها النسخ، فإن ذهب ذاهب إلى تقدير النسخ فإنما يترتب له في الحكم الذي لحق الصحابة حين فزعوا من الآية، وذلك أن قول النبي صلى الله
__________
(1). قراءة نافع كما يأتي.
(2). راجع ص 99 من هذا الجزء.
(3). هذه الزيادة من ج وهـ وا.
(4). في ب وهـ وج وط وابن عطية: وتأتى الآية. وله وجه.

عليه وسلم لهم:" قولوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا" يجئ منه الامر بأن يثبتوا «1» على هذا ويلتزموه وينتظروا لطف الله في الغفران. فإذا قرر هذا الحكم فصحيح وقوع النسخ فيه، وتشبه الآية حينئذ قوله تعالى:" إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ «2»" فهذا لفظه الخبر ولكن معناه التزموا هذا وأثبتوا «3» عليه واصبروا بحسبه، ثم نسخ بعد ذلك. وأجمع الناس فيما علمت على أن هذه الآية في الجهاد منسوخة بصبر المائة للمائتين. قال ابن عطية: وهذه الآية في" البقرة" أشبه شي بها. وقيل: في الكلام إضمار وتقييد، تقديره يحاسبكم به الله إن شاء، وعلى هذا فلا نسخ. وقال النحاس: ومن أحسن ما قيل في الآية وأشبه بالظاهر قول ابن عباس: إنها عامة، ثم أدخل حديث ابن عمر في النجوى، أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما، واللفظ لمسلم قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول" يدنى المؤمن [يوم القيامة «4»] من ربه عز وجل حتى يضع عليه كنفه فيقرره بذنوبه فيقول هل تعرف فيقول [أي «5»] رب أعرف قال فإنى قد سترتها عليك في الدنيا وإني أغفرها لك اليوم فيعطى صحيفة حسناته وأما الكفار والمنافقون فينادى بهم على رءوس الخلائق هؤلاء الذين كذبوا على الله". وقد قيل: إنها نزلت في الذين يتولون الكافرين من المؤمنين، أي وإن تعلنوا ما في أنفسكم أيها المؤمنون من ولاية الكفار أو تسروها يحاسبكم به الله، قاله الواقدي ومقاتل. واستدلوا بقوله تعالى في (آل عمران)" قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ
- من ولاية الكفار- يَعْلَمْهُ اللَّهُ" يدل عليه ما قبله من قوله:" لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ «6»". قلت: وهذا فيه بعد، لان سياق الآية لا يقتضيه، وإنما ذلك بين في" آل عمران" والله أعلم. وقد قال سفيان بن عيينة: بلغني أن الأنبياء عليهم السلام كانوا يأتون قومهم بهذه الآية" لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ". قوله تعالى: (فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي" فيغفر- ويعذب" بالجزم عطف على الجواب. وقرا ابن عامر وعاصم بالرفع
__________
(1). في ب وط: ويبنوا وفي عطية: يمسوا.
(2). ارجع ج 8 ص 44.
(3). كذا في ابن عطية. وفى ب وج وهـ: وابنوا.
(4). الزيادة من صحيح مسلم.
(5). الزيادة من صحيح مسلم.
(6). راجع ج 4 ص 57. [.....]

آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)

فيهما على القطع، أي فهو يغفر ويعذب. وروى عن ابن عباس والأعرج وأبى العالية وعاصم الجحدري بالنصب فيهما على إضمار" أن". وحقيقته أنه عطف على المعنى، كما في قوله تعالى:" فَيُضاعِفَهُ لَهُ" وقد تقدم «1». والعطف على اللفظ أجود للمشاكلة، كما قال الشاعر:
ومتى مائع منك كلاما ... يتكلم فيجبك بعقل
قال النحاس: وروى عن طلحة بن مصرف" يحاسبكم به الله يغفر" بغير فاء على البدل. ابن عطية: وبها قرأ الجعفي وخلاد. وروى أنها كذلك في مصحف ابن مسعود. قال ابن جنى: هي على البدل من" يُحاسِبْكُمْ" وهي تفسير المحاسبة، وهذا كقول الشاعر:
رويدا بنى شيبان بعض وعيدكم ... تلاقوا غدا خيلي على سفوان
تلاقوا جيادا لا تحيد عن الوغى ... إذا ما غدت في المأزق المتداني
فهذا على البدل. وكرر الشاعر الفعل، لان الفائدة فيما يليه من القول. قال النحاس: وأجود من الجزم لو كان بلا فاء الرفع، يكون في موضع الحال، كما قال الشاعر:
متى تأته تعشو إلى ضوء ناره ... تجد خير نار عندها خير موقد

[سورة البقرة (2): الآيات 285 الى 286]
آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (286)
__________
(1). راجع ص 237 من هذا الجزء.

فيه إحدى عشرة مسألة: الاولى- قوله تعالى: (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ). [روى عن الحسن ومجاهد والضحاك: أن هذه الآية كانت في قصة المعراج، وهكذا روى في بعض الروايات عن ابن عباس، وقال بعضهم: جميع القرآن نزل به جبريل عليه السلام على محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا هذه الآية فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هو الذي سمع ليلة المعراج، وقال بعضهم: لم يكن ذلك في قصة المعراج، لان ليلة المعراج كانت بمكة وهذه السورة كلها مدنية، فأما من قال: إنها كانت ليلة المعراج قال: لما صعد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبلغ في السموات في مكان مرتفع ومعه جبريل حتى جاوز سدرة المنتهى فقال له جبريل: إنى لم أجاوز هذا الموضع ولم يؤمر بالمجاوزة أحد هذا الموضع غيرك فجاوز النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى بلغ الموضع الذي شاء الله، فأشار إليه جبريل بأن سلم على ربك، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: التحيات لله والصلوات والطيبات. قال الله تعالى: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، فأراد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يكون لامته حظ في السلام فقال: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فقال جبريل واهل السموات كلهم: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبد هـ ورسوله. قال الله تعالى:" آمَنَ الرَّسُولُ" على معنى الشكر أي صدق الرسول" بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ" فأراد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يشارك أمته في الكرامة والفضيلة فقال:" وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ" يعنى يقولون آمنا بجميع الرسل ولا نكفر بأحد منهم ولا نفرق بينهم كما فرقت اليهود والنصارى، فقال له ربه كيف قبولهم بآي الذي أنزلتها؟ وهو قوله:" إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ" فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ" يعنى المرجع. فقال الله تعالى عند ذلك" لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها" يعنى طاقتها ويقال: إلا دون طاقتها." لَها ما كَسَبَتْ" من الخير" وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ" من الشر، فقال جبريل عند ذلك: سل تعطه، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا" يعنى إن جهلنا" أَوْ أَخْطَأْنا" يعنى إن تعمدنا، ويقال: إن عملنا بالنسيان

والخطأ. فقال له جبريل: قد أعطيت ذلك قد رفع عن أمتك الخطأ والنسيان. فسل شيئا آخر فقال:" رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً" يعنى ثقلا" كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا" وهو أنه حرم عليهم الطيبات بظلمهم، وكانوا إذا أذنبوا بالليل وجدوا ذلك مكتوبا على بابهم، وكانت الصلوات عليهم خمسين، فخفف الله عن هذه الامة وحط عنهم بعد ما فرض خمسين صلاة. ثم قال:" رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ" يقول: لا تثقلنا من العمل ما لا نطيق فتعذبنا، ويقال: ما تشق علينا، لأنهم لو أمروا بخمسين صلاة لكانوا يطيقون ذلك ولكنه يشق عليهم ولا يطيقون الإدامة عليه" وَاعْفُ عَنَّا" من ذلك كله" وَاغْفِرْ لَنا" وتجاوز عنا، ويقال:" وَاعْفُ عَنَّا" من المسخ" وَاغْفِرْ لَنا" من الخسف" وَارْحَمْنا" من القذف، لان الأمم الماضية بعضهم أصابهم المسخ وبعضهم أصابهم الخسف وبعضهم القذف ثم قال:" أَنْتَ مَوْلانا" يعنى ولينا وحافظنا" فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ" فاستجيبت دعوته. وروى عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال:" نصرت بالرعب مسيرة شهر" ويقال إن الغزاة: إذا خرجوا من ديارهم بالنية الخالصة وضربوا بالطبل وقع الرعب والهيبة في قلوب الكفار مسيرة شهر في شهر، علموا بخروجهم أو لم يعلموا، ثم إن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما رجع أوحى الله هذه الآيات، ليعلم أمته بذلك. ولهذه الآية تفسير آخر، قال الزجاج: لما ذكر الله تعالى في هذه السورة فرض الصلاة والزكاة وبين أحكام الحج وحكم الحيض والطلاق والإيلاء وأقاصيص الأنبياء وبين حكم الربا، ذكر تعظيمه سبحانه بقوله سبحانه وتعالى:" لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ" ثم ذكر تصديق نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم ذكر تصديق المؤمنين بجميع ذلك فقال:" آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ" أي صدق الرسول بجميع هذه الأشياء التي جرى ذكرها وكذلك المؤمنون كلهم صدقوا بالله وملائكته وكتبه ورسله
«1» [.
__________
(1). هذه الزيادة لا توجد في الأصول إلا في نسخة ب يوجد جزء منها، وفى نخ ط توج كلها وعليها اعتمدناها وهى كما يرى شاذة في مضمونها أول الكلام إذ المجمع عليه سلفا وخلفا أن القرآن نزل به الروح الأمين جميعا على نبينا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ" وهذا هو المتواتر وكون هذه الآية تلقاها تبينا صلوات الله عليه ليلة المعراج يجانب ما تواتر، ويكون أشد مجافاة إذا علمت أن الاسراء كان في الخامسة بعد البعث، وقيل: بسنة قبل الهجرة والبقرة مدنية بالإجماع. وقد وردت أحاديث في صحيح مسلم، ومسندي أحمد وابن مردويه تؤيد ما ذكره القرطبي بيد أن التواتر يجعل تلك الروايات على ضرب من التأويل متى صحت سندا ومتنا. مصححه.

وقيل سبب نزولها الآية التي قبلها وهى:" لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" فإنه لما أنزل هذا على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأتوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم بركوا على الركب فقالوا: أي رسول الله، كلفنا من. الأعمال ما نطيق: الصلاة والصيام والجهاد [والصدقة «1»]، وقد أنزل الله عليك هذه الآية ولا نطيقها. قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم سَمِعْنا وَعَصَيْنا بل قولوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ" فقالوا: سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ. فلما اقترأها القوم ذلت بها ألسنتهم فأنزل الله في إثرها:" آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ". فلما فعلوا ذلك نسخها الله، فأنزل الله عز وجل:" لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ" «2»" رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا" قال:" نعم"" رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا" قال:" نعم"" رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ" قال:" نعم"" وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ" قال:" نعم". أخرجه مسلم عن أبى هريرة. قال علماؤنا: قوله في الرواية الاولى «3»" قد فعلت" وهنا قال:" نعم" دليل على نقل الحديث بالمعنى، وقد تقدم. ولما تقرر الامر على أن قالوا: سمعنا وأطعنا، مدحهم الله وأثنى عليهم في هذه الآية، ورفع المشقة في أمر الخواطر عنهم، وهذه ثمرة الطاعة والانقطاع إلى الله تعالى، كما جرى لبنى إسرائيل ضد ذلك من ذمهم وتحميلهم المشقات من الذلة والمسكنة والانجلاء إذ قالوا: سمعنا وعصينا، وهذه ثمرة العصيان والتمرد على الله تعالى، أعاذنا الله من نقمه بمنه وكرمه. وفى الحديث أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قيل له: إن بيت ثابت بن قيس بن شماس
__________
(1). من صحيح مسلم.
(2). في الأصول بعد قوله:" مَا اكْتَسَبَتْ" قال: نعم. وليست في صحيح مسلم.
(3). ص 421

يزهر كل ليلة بمصابيح. قال:" فلعله يقرأ سورة البقرة" فسئل ثابت قال: قرأت من سورة البقر" آمَنَ الرَّسُولُ" نزلت حين شق على أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما توعدهم الله تعالى به من محاسبتهم على ما أخفته نفوسهم، فشكوا ذلك إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال:" فلعلكم تقولون سَمِعْنا وَعَصَيْنا كما قالت بنو إسرائيل" قالوا: بل سَمِعْنا وَأَطَعْنا، فأنزل الله تعالى ثناء عليهم:" آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ" فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" وحق لهم أن يؤمنوا". الثانية- قوله تعالى: (آمَنَ)
أي صدق، وقد تقدم. والذي أنزل هو القرآن. وقرا ابن مسعود" وآمن المؤمنون كل آمن بالله" على اللفظ، ويجوز في غير القرآن" آمنوا" على المعنى. وقرا نافع وابن كثير وعاصم في رواية أبى بكر وابن عامر (وَكُتُبِهِ) على الجمع. وقرءوا في" التحريم «1»" كتابه، على التوحيد. وقرا أبو عمرو هنا وفى" التحريم"" وَكُتُبِهِ" على الجمع. وقرا حمزة والكسائي" وكتابه" على التوحيد فيهما. فمن جمع أراد جمع كتاب، ومن أفرد أراد المصدر الذي يجمع كل مكتوب كان نزوله من عند الله. ويجوز في قراءة من وحد أن يراد به الجمع، يكون الكتاب اسما للجنس فتستوي القراءتان، قال الله تعالى:" فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ «2»". قرأت الجماعة" وَرُسُلِهِ" بضم السين، وكذلك" أَرْسَلْنا ورُسُلُكُمْ ورُسُلِكَ"، إلا أبا عمرو فروى عنه تخفيف" رسلنا ورسلكم"، وروى عنه في" رسلك" التثقيل والتخفيف. قال أبو على: من قرأ" رسلك" بالتثقيل فذلك أصل الكلمة، ومن خفف فكما يخفف في الآحاد، مثل عنق وطنب. وإذا خفف في الآحاد فذلك أحرى في الجمع الذي هو أثقل، وقال معناه مكي. وقرا جمهور الناس" لا نُفَرِّقُ" بالنون، والمعنى يقولون لا نفرق، فحذف القول، وحذف القول كثير، قال الله تعالى:" وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ. سَلامٌ عَلَيْكُمْ «3»" أي يقولون سلام عليكم. وقال:" وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا «4»" أي يقولون
__________
(1). ج 18 ص 204.
(2). راجع ص 30 من هذا الجزء.
(3). راجع ج 9 ص 310.
(4). راجع ج 4 ص 313

ربنا، وما كان مثله. وقرأ سعيد بن جبير ويحيى بن يعمر وأبو زرعة بن عمرو بن جرير ويعقوب" لا يفرق" بالياء، وهذا على لفظ كل. قال هارون: وهى في حرف ابن مسعود" لا يفرقون". وقال" بَيْنَ أَحَدٍ" على الافراد ولم يقل آحاد، لان الأحد يتناول الواحد والجميع، كما قال تعالى:" فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ «1»" ف" حاجِزِينَ" صفة لاحد، لان معناه الجمع. وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" ما أحلت الغنائم لاحد سود الرؤوس غيركم" وقال رؤبة:
إذا أمور الناس دينت دينكا ... لا يرهبون أحدا من دونكا
ومعنى هذه الآية: أن المؤمنين ليسوا كاليهود والنصارى في أنهم يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض. الثالثة- قوله تعالى: (وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا) فيه حذف، أي سمعنا سماع قابلين «2». وقيل: سمع بمعنى قبل، كما يقال: سمع الله لمن حمده، فلا يكون فيه حذف. وعلى الجملة فهذا القول يقتضى المدح لقائله. والطاعة قبول الامر. وقوله (غُفْرانَكَ) مصدر كالكفران والخسران، والعامل فيه فعل مقدر، تقديره: اغفر غفرانك، قال الزجاج. وغيره: نطلب أو أسأل غفرانك. (وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) إقرار بالبعث والوقوف بين يدي الله تعالى. وروى أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما نزلت عليه هذه الآية قال له جبريل:" إن الله قد أحل الثناء عليك وعلى أمتك فسل تعطه" فسأل إلى آخر السورة. الرابعة- قوله تعالى: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) التكليف هو الامر بما يشق عليه. وتكلفت الامر تجشمته، حكاه الجوهري. والوسع: الطاقة والجدة. وهذا خبر جزم. نص الله تعالى على أنه لا «3» يكلف العباد من وقت نزول الآية عبادة من أعمال القلب أو الجوارح إلا وهى في وسع المكلف وفى مقتضى إدراكه وبنيته، وبهذا انكشفت الكربة عن المسلمين في تأولهم أمر الخواطر. وفى معنى هذه الآية ما حكاه أبو هريرة رضى الله عنه قال: ما وددت أن أحدا ولدتني أمه إلا جعفر بن أبى طالب، فإنى تبعته يوما وأنا جائع فلما بلغ
__________
(1). راجع ج 18 ص 276.
(2). في ط: قائلين.
(3). كذا في ابن عطية وهى عبارة. وفى الأصول: لم.

منزله لم يجد فيه سوى نحى سمن قد بقي فيه أثارة فشقه بين أيدينا، فجعلنا نلعق ما فيه من السمن والرب «1» وهو يقول:
ما كلف الله نفسا فوق طاقتها ... ولا تجود يد إلا بما تجد
الخامسة اختلف الناس في جواز تكليف ما لا يطاق في الأحكام التي هي في الدنيا، بعد اتفاقهم على أنه ليس واقعا في الشرع، وأن هذه الآية أذنت بعدمه، قال أبو الحسن الأشعري وجماعة من المتكلمين: تكليف ما لا يطاق جائز عقلا، ولا يخرم ذلك شيئا من عقائد الشرع، ويكون ذلك أمارة على تعذيب المكلف وقطعا به، وينظر إلى هذا تكليف المصور أن يعقد شعيرة. واختلف القائلون بجوازه هل وقع في رسالة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أولا؟ فقالت فرقة: وقع في نازلة أبى لهب، لأنه كلفه بالايمان بجملة الشريعة، ومن جملتها أنه لا يؤمن، لأنه حكم عليه بتب اليدين وصلي النار، وذلك مؤذن بأنه لا يؤمن، فقد كلفه بأن يؤمن بأنه لا يؤمن. وقالت فرقة: لم يقع قط. وقد حكى الإجماع على ذلك. وقوله تعالى:" سَيَصْلى ناراً «2»" معناه إن وافى، حكاه ابن عطية." ويُكَلِّفُ" يتعدى إلى مفعولين أحدهما محذوف، تقديره عبادة أو شيئا. فالله سبحانه بلطفه وإنعامه علينا وإن كان قد كلفنا بما يشق ويثقل كثبوت الواحد للعشرة، وهجرة الإنسان وخروجه من وطنه ومفارقة أهله ووطنه وعادته، لكنه لم يكلفنا بالمشقات المثقلة ولا بالأمور المولمة، كما كلف من قبلنا بقتل أنفسهم وقرض موضع البول من ثيابهم وجلودهم، بل سهل ورفق ووضع عنا الإصر والاغلال التي وضعها على من كان قبلنا. فلله الحمد والمنة، والفضل والنعمة. السادسة- قوله تعالى: (لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) يريد من الحسنات والسيئات. قاله السدى. وجماعة المفسرين لا خلاف بينهم في ذلك، قال ابن عطية. وهو مثل قوله:" وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى "" ولا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها «3»". والخواطر ونحوها ليست من كسب الإنسان. وجاءت العبارة في الحسنات ب" لها" من حيث هي مما
__________
(1). الرب (بالضم): دبس التمر إذا طبخ.
(2). راجع ج 20 ص 234. [.....]
(3). راجع ج 7 ص 156

يفرح المرء بكسبه ويسر بها، فتضاف إلى ملكه. وجاءت في السيئات ب" عليها" من حيث هي أثقال وأوزار ومتحملات صعبة، وهذا كما تقول: لي مال وعلى دين. وكرر فعل الكسب فخالف بين التصريف حسنا لنمط الكلام، كما قال:" فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً «1»". قال ابن عطية: ويظهر لي في هذا أن الحسنات هي مما تكتسب دون تكلف، إذ كاسبها على جادة أمر الله تعالى ورسم شرعه، والسيئات تكتسب ببناء المبالغة، إذا كاسبها يتكلف في أمرها خرق حجاب نهى الله تعالى ويتخطاه إليها، فيحسن في الآية مجيء التصريفين إحرازا، لهذا المعنى. السابعة- في هذه الآية دليل على صحة إطلاق أئمتنا على أفعال العباد كسبا واكتسابا، ولذلك لم يطلقوا على ذلك لا خلق ولا خالق، خلافا لمن أطلق ذلك من مجترئة المبتدعة. ومن أطلق من أئمتنا ذلك على العبد، وأنه فاعل فبالمجاز المحض. وقال المهدوي وغيره: وقيل معنى الآية لا يؤاخذ أحد بذنب أحد. قال ابن عطية: وهذا صحيح في نفسه ولكن من غير هذه الآية. الثامنة- قال الكيا الطبري: قوله تعالى:" لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ" يستدل به على أن من قتل غيره بمثقل أو بخنق أو تغريق فعليه ضمانه قصاصا أو دية، خلافا لمن جعل ديته على العاقلة «2»، وذلك يخالف الظاهر، ويدل على أن سقوط القصاص عن الأب لا يقتضى سقوطه عن شريكه. ويدل على وجوب الحد على العاقلة «3» إذا مكنت مجنونا من نفسها. وقال القاضي أبو بكر بن العربي:" ذكر علماؤنا هذه الآية في أن القود واجب على شريك الأب خلافا لابي حنيفة، وعلى شريك الخاطئ خلافا للشافعي وأبى حنيفة، لان كل واحد منهما قد اكتسب القتل. وقالوا: إن اشتراك من لا يجب عليه القصاص مع من يجب عليه القصاص لا يكون شبهة في درء ما يدرأ بالشبهة". التاسعة- قوله تعالى: (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا) المعنى: أعف عن إثم ما يقع منا على هذين الوجهين أو أحدهما، كقوله عليه السلام:" رفع عن أمتي الخطأ والنسيان
__________
(1). راجع ج 20 ص 12.
(2). العاقلة أولا لقبيلة، وثانيا المرأة.
(3). العاقلة أولا لقبيلة، وثانيا المرأة.

وما استكرهوا عليه" أي إثم ذلك. وهذا لم يختلف فيه أن الإثم مرفوع، وإنما اختلف فيما يتعلق على ذلك من الأحكام، هل ذلك مرفوع لا يلزم منه شي أو يلزم أحكام ذلك كله؟ اختلف فيه. والصحيح أن ذلك يختلف بحسب الوقائع، فقسم لا يسقط باتفاق كالغرامات والديات والصلوات المفروضات. وقسم يسقط باتفاق كالقصاص والنطق بكلمة الكفر. وقسم ثالث يختلف فيه كمن أكل ناسيا في رمضان أو حنث ساهيا، وما كان مثله مما يقع خطأ ونسيانا، ويعرف ذلك في الفروع. العاشرة- قوله تعالى: (رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً) أي ثقلا. قال مالك والربيع: الإصر الامر الغليظ الصعب. وقال سعيد بن جبير: الإصر شدة العمل. وما غلظ على بنى إسرائيل من البول ونحوه. قال الضحاك: كانوا يحملون أمورا شدادا، وهذا نحو قول مالك والربيع، ومنه قول النابغة:
يا مانع الضيم أن يغشى سراتهم ... والحامل الإصر عنهم بعد ما عرفوا «1»
عطاء: الإصر المسخ قردة وخنازير، وقاله ابن زيد أيضا. وعنه أيضا أنه الذنب الذي ليس فيه توبة ولا كفارة. والإصر في اللغة العهد، ومنه قوله تعالى:" وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي «2»". والإصر: الضيق والذنب والثقل. والإصار: الحبل الذي تربط به الأحمال ونحوها، يقال: أصر يأصر إصرا حبسه. والإصر (بكسر الهمزة) من ذلك قال الجوهري: والموضع ماصر وماصر والجمع مآصر، والعامة تقول معاصر. قال ابن خويز منداد: ويمكن أن يستدل بهذا الظاهر في كل عبادة ادعى الخصم تثقيلها، فهو نحو قوله تعالى:" وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ «3»"، وكقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" الدين يسر فيسروا ولا تعسروا". اللهم شق على من شق على أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قلت: ونحوه قال الكيا الطبري قال: يحتج به في نفى الحرج والضيق المنافي ظاهره للحنيفية السمحة، وهذا بين.
__________
(1). كذا في جميع الأصول، إلا ط كما في شعراء النصرانية: غرفوا.
(2). راجع ج 4 ص 421.
(3). راجع ج 12 ص 99

الحادية عشر- قوله تعالى: (وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ) قال قتادة: معناه لا تشدد علينا كما سددت على الذين من قبلنا. الضحاك: لا تحملنا من الأعمال مالا نطيق، وقال نحوه ابن زيد. ابن جريج: لا تمسخنا قردة ولا خنازير. وقال سلام بن سابور: الذي لا طاقة لنا به: الغلمة «1»، وحكاه النقاش عن مجاهد وعطاء. وروى أن أبا الدرداء كان يقول في دعائه: وأعوذ بك من غلمة ليس لها عدة. وقال السدى: هو التغليظ والاغلال التي كانت على بنى إسرائيل. قوله تعالى: (وَاعْفُ عَنَّا) أي عن ذنوبنا. عفوت عن ذنبه إذا تركته ولم تعاقبه. (وَاغْفِرْ لَنا) أي أستر على ذنوبنا. والغفر: الستر. (وَارْحَمْنا) أي تفضل برحمة مبتدئا روى عن معاذ بن جبل أنه كان إذا فرغ من قراءة هذه السورة قال: آمين. قال اين عطية: هذا يظن به أنه رواه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإن كان ذلك فكمال، وإن كان بقياس على سورة الحمد من حيث هنالك دعاء فحسن. وقال على ابن أبى طالب: ما أظن أن أحد عقل وأدرك الإسلام ينام حتى يقرأهما. قلت: قد مسلم في هذا المعنى عن ابى مسعود الأنصاري قال قال رسول الله صلى الله علية وسلم:" من قرأ هاتين الآيتين من آخر سورة" البقرة" في ليلة كفتاء". قيل: من قيام الليل، كما روى عن اين عمر قال: سمعت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول:" أنزل الله على آيتين من كنوز الجنة ختم بهما سورة البقرة كتبهما الرحمن بيده قبل أن يخلق الخلق بألف عام من قرأهما بعد العشاء مرتين أجزأتاه من قيام الليل" آمَنَ الرَّسُولُ" إلى آخر البقرة". وقيل: كفتاه من شر الشيطان فلا يكون له سلطان. وأسند أبو عمرو الداني عن حذيفة بت اليمان قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" إن الله جل وعز كتب كتابا قبل أن يخلق السموات والأرض بألفي عام فأنزل منه هذه الثلاث آيات
__________
(1). الغلمة: (بضم الغين المعجمة): هياجان شهوة النكاح وغلم يعلم من باب تعب أشتد شيقه.

التي ختم بهن البقرة من قرأهن في بيته لم يقرب الشيطان بيته ثلاث ليال". وروى أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:" أوتيت هذه الآيات من آخر سورة البقرة من كنز تحت العشر لم يؤتهن نبى قبلي". وهذا صحيح. قد تقدم في الفاتحة نزول الملك بها مع الفاتحة. والحمد لله. مصححه أبو إسحاق إبراهيم أطفيش تم الجزء الثالث من تفسير القرطبي يتلوه إن شاء الله تعالى الجزء الرابع وأوله: سورة آل عمران

بعون الله وجميل توفيقه قد تم طبع الجزء الثالث من كتاب" الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي

الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2)

الجزء الرابع

[سورة آل عمران ]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة آل عمران (3): الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2)
فيه خمس مسائل الاولى- قوله: (الم. اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) هذه السورة مدنية بإجماع. وحكى النقاش أن اسمها في التوراة طيبة، وقرا الحسن وعمرو بن عبيد وعاصم بن أبى النجود وأبو جعفر الرؤاسي «1»" الم. الله" بقطع ألف الوصل، على تقدير الوقف على" الم" كما يقدرون الوقف على أسماء الاعداد في نحو واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة، وهم واصلون. قال الأخفش سعيد: ويجوز" الم الله" بكسر الميم لالتقاء الساكنين. قال الزجاج: هذا خطأ، ولا تقوله العرب لثقله. قال النحاس: القراءة [الاولى ] «2» قراءة العامة، وقد تكلم فيها النحويون القدماء، فمذهب سيبويه أن الميم فتحت لالتقاء الساكنين، واختاروا لها الفتح لئلا يجمع بين كسرة وياء وكسرة قبلها. وقال الكسائي: حروف التهجي إذا لقيتها ألف وصل فحذفت ألف الوصل حركتها بحركة الالف فقلت: الم الله، وألم اذكر، وألم اقتربت. وقال الفراء: الأصل" الم الله" كما قرأ الرؤاسى فألقيت حركة الهمزة على الميم. وقرا عمر بن الخطاب" الحي القيام". وقال خارجة: في مصحف عبد الله" الحي القيم". وقد تقدم ما للعلماء [من آراء] «3» في الحروف التي في أوائل السور في أول" البقرة" «4». ومن حيث جاء في هذه السورة:" اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ" جملة قائمة بنفسها فتتصور تلك الأقوال كلها.
__________
(1). في القاموس وشرحه (مادة رأس):" وبنو رؤاس (بالضم): حي من عامر بن صعصعة، قال الأزهري: وكان أبو عمر الزاهد يقول في أبى جعفر الرؤاسى أحد القراء والمحدثين أنه الرواسي، بفتح الراء وبالواو من غير همز، منسوب إلى رواس قبيلة من سليم، وكان ينكر أن يقول الرؤاسى بالهمزة كما يقوله المحدثون وغيرهم. قلت: ويعنى بأبى جعفر هذا محمد بن سادة الرواسي، ذكر ثعلب أنه أول من وضع نحو الكوفيين، وله تصانيف".
(2). التكملة عن إعراب القرآن للنحاس.
(3). زيادة يقتضيها السياق.
(4). راجع ج 1 ص 154

الثانية روى الكسائي أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه صلى العشاء فاستفتح" آل عمران" فقرأ" الم. الله لا إله إلا هو الحي القيام" فقرأ في الركعة الاولى بمائة آية، وفي الثانية بالمائة الباقية. قال علماؤنا: ولا يقرأ سورة في ركعتين، فإن فعل أجزأه. وقال مالك في المجموعة: لا بأس به، وما هو بالشأن. قلت: الصحيح جواز ذلك. وقد قرأ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالأعراف في المغرب فرقها في ركعتين، خرجه النسائي أيضا، وصححه أبو محمد عبد الحق، وسيأتي. الثالثة- هذه السورة ورد في فضلها آثار وأخبار، فمن ذلك ما جاء أنها أمان من الحيات، وكنز للصعلوك، وأنها تحاج عن قارئها في الآخرة، ويكتب لمن قرأ آخرها في ليلة كقيام ليلة، إلى غير ذلك. ذكر الدارمي أبو محمد في مسنده حدثنا أبو عبيد القاسم بن سلام قال حدثني عبيد الله الأشجعي قال: حدثني مسعر قال حدثني جابر «1»، قبل أن يقع فيما وقع فيه، عن الشعبي قال قال عبد الله: نعم كنز الصعلوك سورة" آل عمران" يقوم بها في آخر الليل. حدثنا محمد بن سعيد حدثنا عبد السلام عن الجريري «2» عن أبى السليل «3» قال: أصاب رجل دما قال: فأوى إلى وادي مجنة: واد لا يمشى فيه أحد إلا أصابته حية، وعلى شفير الوادي راهبان، فلما أمسى قال أحدهما لصاحبه: هلك والله الرجل! قال: فافتتح سورة" آل عمران" قالا: فقرأ سورة طيبة لعله سينجو. قال: فأصبح سليما. وأسند عن مكحول قال: من قرأ سورة" آل عمران" يوم الجمعة صلت عليه الملائكة إلى الليل. وأسند عن عثمان بن عفان قال: من قرأ آخر سورة" آل عمران" في ليلة كتب له قيام ليلة. في طريقه ابن لهيعة. وخرج مسلم عن النواس بن سمعان الكلابي قال: سمعت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: يؤتى
__________
(1). هو جابر بن يزيد بن الحارث الجعفي. توفى سنة 128 هـ. قال ابن سعد: كان يدلس وكان ضعيفا جدا في رأيه وروايته. وقال العجلى: كان ضعيفا يغلو في التشيع. وقال أبو بدر: كان جابر يهيج به مرة في السنة مرة فيهذى ويخلط في الكلام. فلعل ما حكى عنه كان في ذلك الوقت. وقال الأشجعي مبينا ما وقع فيه بأنه ما كان من تغير عقله. (عن تهذيب التهذيب).
(2). الجريري: بضم الجيم وفتح الراء الاولى وكسر الثانية وسكون ياء بينهما، وهو سعيد بن إياس، ينسب إلى جرير بن عباد. (عن تهذيب التهذيب). [.....]
(3). أبو السليل (بفتح المهملة وكسر اللام) هو ضريب (بالتصغير) بن نقير، ويقال نفير، ويقال نفيل. (عن تهذيب التهذيب)

بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به تقدمه سورة البقرة وآل عمران- وضرب لهما رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثلاثة أمثال ما نسيتهن بعد، قال:- كأنهما غمامتان أو ظلتان سوداوان بينهما شرق «1»، أو كأنهما حزقان «2» من طير صواف تحاجان عن صاحبهما. وخرج أيضا عن أبي أمامة الباهلي قال سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول:" اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه اقرءوا الزهراوين البقرة وسورة آل عمران فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو كأنهما غيايتان أو كأنهما فرقان من طير صواف تحاجان عن أصحابهما اقرءوا سورة البقرة فإن أخذها بركة وتركها حسرة ولا يستطيعها البطلة". قال معاوية «3»: وبلغني أن البطلة السحرة. الرابعة- للعلماء في تسمية" البقرة وآل عمران" بالزهراوين ثلاثة أقوال: الأول- أنهما النيرتان، مأخوذ من الزهر والزهرة، فإما لهدايتهما قارئهما بما يزهر له من أنوارهما، أي من معانيهما. وإما لما يترتب على قراءتهما من النور التام يوم القيامة، وهو القول الثاني. الثالث- سميتا بذلك لأنهما اشتركتا فيما تضمنه اسم الله الأعظم، كما ذكره أبو داود وغيره عن أسماء بنت يزيد أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:" إن اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ «4» والتي في آل عمران اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ" أخرجه ابن ماجة أيضا. والغمام: السحاب الملتف، وهو الغياية إذا كانت قريبا من الرأس، وهى الظلة أيضا. والمعنى: أن قارئهما في ظل ثوابهما، كما جاء" الرجل في ظل صدقته" «5» وقوله:" تحاجان" أي يخلق الله من يجادل عنه بثوابهما ملائكة كما جاء في بعض الحديث:" إن من قرأ" شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الآية خلق الله سبعين ملكا يستغفرون له إلى يوم القيامة". وقوله:" بينهما شرق قيد بسكون الراء وفتحها،
__________
(1). الشرق: الضوء. وسكون الراء فيه أشهر من فتحها.
(2). في الأصول:" فرقان" بالفاء. والتصويب عن صحيح مسلم. والفرق: القطعة. والحزق والحزيقة: الجماعة من كل شي.
(3). هو معاوية بن سلام أحد رجال سند هذا الحديث.
(4). راجع ج 2 ص 190.
(5). كذا في نسخة: ج وهو الصحيح، وكشف الخلفاء ج، 1 ص 424. وفى الأصول الأخرى: إن المؤمن (.)

نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (4)

وهو تنبيه على الضياء، لأنه لما قال:" سوداوان" قد يتوهم أنهما مظلمتان، فنفى ذلك بقوله:" بينهما شرق" ويعنى بكونهما سوداوان أي من كثافتهما التي بسببها حالتا بين من تحتهما وبين حرارة الشمس وشدة اللهب والله أعلم. الخامسة- صدر هذه السورة نزل بسبب وفد نجران فيما ذكر محمد بن إسحاق عن محمد ابن جعفر بن الزبير، وكانوا نصارى وفدوا على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمدينة في ستين راكبا، فيهم من أشرافهم أربعة عشر رجلا، في الاربعة عشر ثلاثة نفر إليهم يرجع أمرهم: العاقب «1» أمير القوم وذو آرائهم واسمه عبد المسيح، والسيد ثمالهم «2» وصاحب مجتمعهم واسمه الأيهم، وأبو حارثة بن علقمة أحد بكر بن وائل أسقفهم وعالمهم، فدخلوا على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أثر صلاة العصر، عليهم ثياب الحبرات «3» جبب وارديه فقال أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما رأينا وفدا مثلهم جمالا وجلالة. وحانت صلاتهم فقاموا فصلوا في مسجد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى المشرق. فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" دعوهم". ثم أقاموا بها أياما يناظرون رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في عيسى ويزعمون أنه ابن الله، إلى غير ذلك من أقوال شنيعة مضطربة، ورسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يرد عليهم بالبراهين الساطعة وهم لا يبصرون ونزل فيهم صدر هذه السورة إلى نيف وثمانين آية، إلى أن آل أمرهم إلى أن دعاهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى المباهلة «4»، حسب ما هو مذكور في سيرة ابن إسحاق «5» وغيره.

[سورة آل عمران (3): الآيات 3 الى 4]
نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (4)
__________
(1). السيد والعاقب هما من رؤسائهم وأصحاب مراتبهم، والعاقب يتلو السيد.
(2). الثمال (بالكسر). الملجأ والغياث والمطعم في الشدة.
(3). الحبرات (بكسر الحاء وفتح الباء جمع حيرة): ضرب من الثياب اليمانية.
(4). في الأصول: الابتهال، والصواب ما أثبت، باهل القوم بعضهم بعضا وتباهلوا وتبهلوا: تلاعنوا. والمباهلة: أن يجتمع القوم إذا اختلفوا في شي فيقولوا: لعنة الله على الظالم منا.
(5). راجع سيرة ابن هشام ص 401 طبع أور با

قوله تعالى: (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ) يعني القرآن (بِالْحَقِّ) أي بالصدق، وقيل: بالحجة الغالبة. والقرآن نزل نجوما: شيئا بعد شي، فلذلك قال" نزل" والتنزيل مرة بعد مرة. والتوراة والإنجيل نزلا دفعة واحدة فلذلك قال" أنزل" والباء في قول" بالحق" في موضع الحال من الكتاب، والباء متعلقة بمحذوف التقدير آتيا بالحق ولا تتعلق ب" نزل"، لأنه قد تعدى إلى مفعولين أحدهما بحرف جر، ولا يتعدى إلى ثالث. و" مصدقا" حال مؤكدة غير منتقلة، لأنه لا يمكن أن يكون غير مصدق، أي غير موافق، هذا قول الجمهور. وقدر فيه بعضهم الانتقال، على معنى أنه مصدق لنفسه ومصدق لغيره. قوله تعالى: (لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) يعنى من الكتب المنزلة، والتوراة معناها الضياء والنور، مشتقة من ورى الزند ووري لغتان إذا خرجت ناره. واصلها تورية على وزن تفعلة، التاء زائدة وتحركت الياء وقبلها فتحة فقلبت ألفا ويجوز أن تكون تفعلة فتنقل الراء من الكسر إلى الفتح كما قالوا في جارية: جاراه، وفى ناصية ناصاة «1»، كلاهما عن الفراء. وقال الخليل: أصلها فوعلة، فالأصل وورية، قلبت الواو الاولى تاء كما قلبت في تولج «2»، والأصل وولج فوعل من ولجت، وقلبت الياء ألفا لحركتها وانفتاح ما قبلها. وبناء فوعلة أكثر من تفعلة. وقيل: التوراة مأخوذة من التورية، وهى التعريض بالشيء والكتمان لغيره، فكأن أكثر التوراة معاريض وتلويحات من غير تصريح وإيضاح، هذا قول المؤرج. والجمهور على القول الأول لقوله تعالى:" وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ" «3» يعنى التوراة. والإنجيل إفعيل من النجل وهو الأصل، ويجمع على أناجيل وتوراة على توار، فالانجيل أصل لعلوم وحكم. ويقال: لعن الله ناجليه، يعنى والديه، إذ كانا أصله. وقيل: هو من نجلت الشيء إذا استخرجته، فالانجيل مستخرج به علوم وحكم، ومنه سمي الولد والنسل نجلا لخروجه، كما قال:
إلى معشر لم يورث اللؤم جدهم ... أصاغرهم وكل فحل لهم نجل
__________
(1). هي لهجة طائية، يقولون في مثل جارية جاراه، وناصية ناصاة وكاسية كاساة.
(2). التولج: كناس الظبى أو الوحش الذي يلج فيه.
(3). راجع ج 11 ص 295 [.....]

والنجل الماء الذي يخرج من النز. واستنجلت الأرض، وبها نجال إذا خرج منها الماء، فسمى الإنجيل به، لان الله تعالى أخرج به دارسا من الحق عافيا. وقيل: هو من النجل في العين (بالتحريك) وهو سعتها، وطعنة نجلاء، أي واسعة، قال:
ربما ضربة بسيف صقيل ... بين بصرى وطعنة نجلاء
فسمي الإنجيل بذلك، لأنه أصل أخرجه لهم ووسعه عليهم ونورا وضياء. وقيل: التناجل التنازع، وسمي إنجيلا لتنازع الناس فيه. وحكى شمر عن بعضهم: الإنجيل كل كتاب مكتوب وافر السطور. وقيل: نحل عمل وصنع، قال:
وأنجل في ذاك الصنيع كما نجل

أي أعمل وأصنع. وقيل: التوراة والإنجيل من اللغة السريانية. وقيل: الإنجيل بالسريانية إنكليون «1»، حكاه الثعلبي. قال الجوهري: الإنجيل كتاب عيسى عليه السلام يذكر ويؤنث، فمن أنث أراد الصحيفة، ومن ذكر أراد الكتاب. قال غيره: وقد يسمى القرآن إنجيلا أيضا، كما روى في قصة مناجاة موسى عليه السلام أنه قال:" يا رب أرى في الألواح أقواما أناجيلهم في صدورهم فاجعلهم أمتي". فقال الله تعالى له:" تلك أمة أحمد" صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإنما أراد بالاناجيل القرآن. وقرا الحسن:" والإنجيل" بفتح الهمزة، والباقون بالكسر مثل الإكليل، لغتان. ويحتمل [أن سمع ] «2» أن يكون مما عربته العرب من الأسماء الاعجمية، ولا مثال له في كلامها. قوله تعالى: (مِنْ قَبْلُ) يعني القرآن (هُدىً لِلنَّاسِ) قال ابن فورك «3»: التقدير هدى للناس المتقين، دليله في البقرة" هُدىً لِلْمُتَّقِينَ" فرد هذا العام إلى ذلك الخاص. و" هدى" في موضع نصب على الحال. و(الْفُرْقانَ) القرآن. وقد تقدم.
__________
(1). في بعض كتب اللغة: إنجيل لفظ يوناني.
(2). الزيادة من نسخة: ب.
(3). ابن فورك (بضم الفاء وسكون الواو وفتح الراء) هو أبو بكر بن محمد بن الحسن بن فورك، المتكلم الأصولي الأديب النحوي الواعظ الأصبهاني، توفي سنة ست وأربعمائة. (عن ابن خلكان)

إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (5)

[سورة آل عمران (3): آية 5]
إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (5)
هذا خبر عن علمه تعالى بالأشياء على التفصيل، ومثله في القرآن كثير. فهو العالم بما كان وما يكون وما لا يكون، فكيف يكون عيسى إلها أو ابن إله وهو تخفى عليه الأشياء!.

[سورة آل عمران (3): آية 6]
هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6)
فيه مسألتان: الاولى- قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ) أخبر تعالى عن تصويره للبشر في أرحام الأمهات واصل الرحم من الرحمة، لأنها مما يتراحم به. واشتقاق الصورة من صاره إلى كذا إذا أماله، فالصورة مائلة إلى شبه وهيئة. وهذه الآية تعظيم لله تعالى، وفى ضمنها الرد على نصارى نجران، وأن عيسى من المصورين، وذلك مما لا ينكره عاقل. وأشار تعالى إلى شرح التصوير في سورة" الحج" «1» و" المؤمنون". وكذلك شرحه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث ابن مسعود، على ما يأتي هناك [بيانه ] «2» إن شاء الله تعالى. وفيها الرد على الطبائعيين أيضا إذ يجعلونها فاعلة مستبدة. وقد مضى الرد عليهم في آية التوحيد «3» وفى مسند ابن سنجر- واسمه محمد بن سنجر- حديث" إن الله تعالى يخلق عظام الجنين وغضاريفه «4» من منى الرجل وشحمه ولحمه من مني المرأة". وفى هذا أدل دليل على أن الولد يكون من ماء الرجل والمرأة، وهو صريح [في ] «5» قول تعالى:" يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى " «6». وفى صحيح مسلم من حديث ثوبان وفية: أن اليهودي قال للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وجئت أسألك عن شي لا يعلمه أحد من أهل الأرض إلا نبى أو رجل أو رجلان. قال:" ينفعك إن حدثتك"؟.
__________
(1). راجع ج 12 ص 6 فما بعد وص 109 فما بعد.
(2). الزيادة من نسخة: ب.
(3). راجع ج 2 ص 201.
(4). الغضاريف: جمع غضروف (بضم الغين) وهو كل عظم وخص يؤكل، وهو مارن الأنف، ونغض الكتف؟ (العظم الرقيق على طرفها)، ورءوس الأضلاع، ورهابة الصدر (عظيم في الصدر مشرف على البطن)، وداخل قوف الاذن.
(5). الزيادة في: ج.
(6). راجع ج 16 ص 340

هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7)

قال: أسمع بأذنى، قال: جئتك أسألك عن الولد. فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" ماء الرجل أبيض وماء المرأة أصفر فإذا اجتمعا فعلا مني الرجل مني المرأة اذكرا بإذن الله تعالى وإذا علا منى المرأة منى الرجل أنثى بإذن الله" الحديث «1». وسيأتي بيانه آخر" الشورى" «2» إن شاء الله تعالى. الثانية- قوله تعالى: (كَيْفَ يَشاءُ) يعنى من حسن وقبح وسواد وبياض وطول وقصر وسلامة وعاهة، إلى غير ذلك من الشقاء والسعادة. وذكر عن إبراهيم بن أدهم أن القراء اجتمعوا إليه ليسمعوا ما عنده من الأحاديث، فقال لهم: إنى مشغول عنكم بأربعة أشياء، فلا أتفرغ لرواية الحديث. فقيل له: وما ذاك الشغل؟ قال: أحدها أنى أتفكر في يوم الميثاق حيث قال:" هؤلاء في الجنة ولا أبالي وهؤلاء في النار ولا أبالي". فلا أدري من أي الفريقين كنت في ذلك الوقت والثاني حيث صورت في الرحم فقال الملك الذي هو موكل على الأرحام:" يا رب شقي هو أم سعيد" فلا أدرى كيف كان الجواب في ذلك الوقت. والثالث حين يقبض ملك الموت روحي فيقول:" يا رب مع الكفر أم مع الايمان) فلا أدرى كيف يخرج الجواب. والرابع حيث يقول:" وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ" «3» فلا أدرى في أي الفريقين أكون. ثم قال تعالى: (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي لا خالق ولا مصور [سواه ] «4»، وذلك دليل على وحدانيته، فكيف يكون عيسى إلها مصورا وهو مصور. (الْعَزِيزُ) الذي لا يغالب. (الْحَكِيمُ) ذو الحكمة أو المحكم، وهذا أخص بما ذكر من التصوير.

[سورة آل عمران (3): آية 7]
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (7)
__________
(1). راجع الحديث في صحيح مسلم ج 1 ص 99 طبع بولاق.
(2). راجع ج 16 ص 48 فما بعد.
(3). راجع ج 150 ص 46.
(4). زيادة لأبد منها.

فيه تسع مسائل: الاولى- خرج مسلم عن عائشة رضى الله عنها قالت: تلا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ" قالت: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سماهم الله فاحذروهم". وعن أبى غالب قال: كنت أمشى مع أبى أمامة وهو على حمار له، حتى إذا انتهى إلى درج مسجد دمشق فإذا رءوس منصوبة، فقال: ما هذه الرؤوس؟ قيل: هذه رءوس خوارج يجاء بهم من العراق فقال أبو أمامة: كلاب النار كلاب النار كلاب النار! شر قتلى تحت ظل السماء، طوبى لمن قتلهم وقتلوه- يقولها ثلاثا- ثم بكى. فقلت: ما يبكيك يا أبا أمامة؟ قال: رحمة لهم، إنهم كانوا من أهل الإسلام فخرجوا منه، ثم قرأ" هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ ..." إلى آخر الآيات. ثم قرأ" وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ" «1». فقلت: يا أبا أمامة، هم هؤلاء؟ قال نعم. قلت: أشيء تقوله برأيك أم شي سمعته من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فقال: إنى إذا لجرى إنى إذا لجرى! بل سمعته من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غير مرة ولا مرتين ولا ثلاث ولا أربع ولا خمس ولا ست ولا سبع، ووضع إصبعيه في أذنيه، قال: وإلا فصمتا- قالها ثلاثا- ثم قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول:" تفرقت بنو إسرائيل على إحدى وسبعين فرقة واحدة في الجنة وسائرهم في النار ولتزيدن عليهم هذه الامة واحدة واحدة في الجنة وسائرهم في النار". الثانية- اختلف العلماء في المحكمات والمتشابهات على أقوال عديدة، فقال جابر بن عبد الله، وهو مقتضى قول الشعبي وسفيان الثوري وغيرهما: المحكمات من آي القرآن ما عرف تأويله وفهم معناه وتفسيره والمتشابه ما لم يكن لاحد إلى علمه سبيل مما استأثر الله تعالى بعلمه
__________
(1). راجع هذا الجزء ص 166 [.....]

دون خلقه، قال بعضهم: وذلك مثل وقت قيام الساعة، وخروج يأجوج ومأجوج والدجال وعيسى، ونحو الحروف المقطعة في أوائل السور. قلت: هذا أحسن ما قيل في المتشابه. وقد قدمنا في أوائل سورة البقرة عن الربيع بن خيثم أن الله تعالى أنزل هذا القرآن فاستأثر منه بعلم ما شاء، الحديث. وقال أبو عثمان: المحكم فاتحة الكتاب التي لا تجزئ الصلاة إلا بها. وقال محمد بن الفضل: سورة الإخلاص، لأنه ليس فيها إلا التوحيد فقط. و[قد] قيل: القرآن كله محكم: لقوله تعالى:" كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ «1»". وقيل: كله متشابه، لقوله:" كِتاباً مُتَشابِهاً" «2». قلت: وليس هذا من معنى الآية في شي، فإن قوله تعالى:" كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ" أي في النظم والرصف وأنه حق من عند الله. ومعنى" كتابا متشابها، أي يشبه بعضه بعضا ويصدق بعضه بعضا. وليس المراد بقوله:" آياتٌ مُحْكَماتٌ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ" هذا المعنى، وإنما المتشابه في هذه الآية من باب الاحتمال والاشتباه، من قوله:" إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا" «3» أي التبس علينا، أي يحتمل أنواعا. كثيرة من البقر. والمراد بالمحكم ما في مقابلة هذا، وهو ما لا التباس فيه ولا يحتمل إلا وجها واحدا. وقيل: إن المتشابه ما يحتمل وجوها، ثم إذا ردت الوجوه إلى وجه واحد وأبطل الباقي صار المتشابه محكما. فالمحكم أبدا أصل ترد إليه الفروع، والمتشابه هو الفرع. وقال ابن عباس: المحكمات هو قوله في سورة الانعام" قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ" «4» إلى ثلاث آيات، وقوله في بني إسرائيل:" وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً" «5»". قال ابن عطية: وهذا عندي مثال أعطاه في المحكمات. وقال ابن عباس أيضا: المحكمات ناسخه وحرامه وفرائضه وما يؤمن به ويعمل به، والمتشابهات المنسوخات ومقدمه ومؤخره وأمثاله وأقسامه وما يؤمن به ولا يعمل به. وقال ابن مسعود وغيره: المحكمات الناسخات، والمتشابهات المنسوخات" وقاله قتادة والربيع والضحاك. وقال محمد بن جعفر بن الزبير: المحكمات هي التي فيها حجة الرب
__________
(1). راجع ج 9 ص 2.
(2). راجع ج 15 ص 148.
(3). راجع ج 1 ص 451.
(4). راجع ج 7 ص 130 فما بعد.
(5). راجع ج 10 ص 248

وعصمة العباد ودفع الخصوم والباطل، ليس لها تصريف ولا تحريف عما وضعن عليه. والمتشابهات لهن تصريف وتحريف وتأويل، ابتلى الله فيهن العباد، وقاله مجاهد وابن إسحاق. قال ابن عطية: وهذا أحسن الأقوال في هذه الآية. قال النحاس: أحسن ما قيل في المحكمات، والمتشابهات أن المحكمات ما كان قائما بنفسه لا يحتاج أن يرجع فيه إلى غيره، نحو" لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ" «1»" وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ" «2». والمتشابهات نحو" إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً" «3» يرجع فيه إلى قوله جل وعلا:" وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ" وإلى قوله عز وجل:" إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ" «4». قلت: ما قاله النحاس يبين ما اختاره ابن عطية، وهو الجاري على وضع اللسان، وذلك أن المحكم اسم مفعول من أحكم، والأحكام الإتقان، ولا شك في أن ما كان واضح المعنى لا إشكال فيه ولا تردد، إنما يكون كذلك لوضوح مفردات كلماته وإتقان تركيبها، ومتى اختل أحد الأمرين جاء التشابه والاشكال. والله أعلم. وقال ابن خويز منداد: للمشابه وجوه، والذي يتعلق به الحكم ما اختلف فيه العلماء أي الآيتين نسخت الأخرى، كقول على وابن عباس في الحامل المتوفى عنها زوجها تعتد أقصى الأجلين. فكان عمر وزيد بن ثابت وابن مسعود وغيرهم يقولون (وضع الحمل) ويقولون: سورة النساء «5» القصرى نسخت أربعة أشهر وعشرا. وكان على وابن عباس يقولان لم تنسخ. وكاختلافهم في الوصية للوارث هل نسخت أم لم تنسخ. وكتعارض الآيتين أيهما أولى أن تقدم إذا لم يعرف النسخ ولم توجد شرائطه، كقوله تعالى:" وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ" «6» يقتضى الجمع بين الأقارب من ملك اليمين، وقوله تعالى:" وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ" «7» يمنع ذلك. ومنه أيضا تعارض الاخبار عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتعارض الأقيسة، فذلك المتشابه. وليس من المتشابه أن تقرأ الآية بقراءتين ويكون الاسم «8» محتملا أو مجملا يحتاج إلى تفسير لان الواجب منه قدر ما يتناوله الاسم أو جميعه. والقراءتان كالآيتين يجب العمل بموجبهما جميعا، كما قرئ:
__________
(1). راجع ج 20 ص 246.
(2). راجع ج 11 ص 123.
(3). راجع ج 15 ص 267.
(4). راجع ج 5 ص 245.
(5). هي سورة الطلاق. ومراده منها" وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ" آية 4.
(6). راجع ج 5 ص 116 و124.
(7). راجع ج 5 ص 116 و124.
(8). في نسخة: ب، الامر.

" وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ" بالفتح والكسر، على ما يأتي بيانه" في المائدة" «1» إن شاء الله تعالى. الثالثة روى البخاري «2» عن سعيد بن جبير قال قال رجل «3» لابن عباس: إنى أجد في القرآن أشياء تختلف على. قال: ما هو؟ قال:" فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ" «4»" وقال:" وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ" «5» وقال:" وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً" «6» وقال:" وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ" «7» فقد كتموا في هذه الآية. وفي النازعات" أَمِ السَّماءُ بَناها" ... إلى قوله" دَحاها" «8» فذكر خلق السماء قبل خلق الأرض، ثم قال:" أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ ... إلى: طائِعِينَ" «9» فذكر في هذا خلق الأرض قبل خلق السماء. وقال:" وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً" «10»." وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً" «11»." وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً" «12» فكأنه كان ثم مضى. فقال ابن عباس:" فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ" في النفخة الاولى، ثم ينفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله، فلا أنساب بينهم عند ذلك ولا يتساءلون، ثم في النفخة الآخرة أقبل بعضهم على بعض يتساءلون. وأما قول:" ما كُنَّا مُشْرِكِينَ" ولا يكتمون الله حديثا" فإن الله يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم، وقال المشركون: تعالوا نقول: لم نكن مشركين، فختم الله على أفواههم فتنطق جوارحهم بأعمالهم، فعند ذلك عرف أن الله لا يكتم حديثا، وعنده يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين. وخلق الله الأرض في يومين، ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات في يومين، ثم دحا الأرض أي بسطها فأخرج منها الماء والمرعى، وخلق فيها الجبال والأشجار والإكام وما بينها في يومين آخرين، فذلك قوله:" وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها". فخلقت الأرض وما فيها في أربعة أيام، وخلقت السماء في يومين. وقوله:" وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً" يعنى نفسه «13»
__________
(1). راجع ج 6 ص 80. [.....]
(2). الحديث في البخاري في كتاب التفسير (سورة السجدة). وبين ما في البخاري وما في الأصول اختلاف في بعض الكلمات.
(3). هو نافع ابن الأزرق الذي صار بعد ذلك رأس الازارقة من الخوارج (القسطلاني).
(4). راجع ج 12 ص 151.
(5). راجع ج 15 ص 81.
(6). راجع ج 5 ص 198.
(7). راجع ج 6 ص 401.
(8). راجع ج 19 ص 201 فما بعد.
(9). راجع ج 15 ص 342.
(10). سورة النساء
(11) سورة النساء
(12) سورة النساء
(13) عبارة البخاري (سمى نفسه).

ذلك، أي لم يزل ولا يزال كذلك، فإن الله لم يرد شيئا إلا أصاب به الذي أراد. ويحك! فلا يختلف عليك القرآن، فإن كلا من عند الله) الرابعة- قوله تعالى:" (وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ)" لم تصرف" أخر" لأنها عدلت عن الالف واللام، لان أصلها أن تكون صفة بالألف واللام كالكبر والصغر، فلما عدلت عن مجرى الالف واللام منعت الصرف. أبو عبيد: لم يصرفوها لان واحدها لا ينصرف في معرفة ولا نكرة. وأنكر ذلك المبرد وقال: يجب على هذا ألا ينصرف غضاب وعطاش. الكسائي: لم تنصرف لأنها صفة. وأنكره المبرد أيضا وقال: إن لبدا وحطما صفتان وهما منصرفان. سيبويه: لا يجوز أن تكون أخر معدولة عن الالف واللام، لأنها لو كانت معدولة عن الالف واللام لكان معرفة، ألا ترى أن سحر «1» معرفة في جميع الأقاويل لما كانت معدولة [عن السحر]، وأمس في قول من قال: ذهب أمس معدولا عن الأمس، فلو كان أخر معدولا أيضا عن الالف واللام لكان معرفة، وقد وصفه الله تعالى بالنكرة. الخامسة- قوله تعالى: (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ) الذين رفع بالابتداء، والخبر" فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ". والزيغ الميل، ومنه زاغت الشمس، وزاغت الأبصار. ويقال: زاغ يزيغ زيغا إذا ترك القصد، ومنه قوله تعالى:" فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ" «2». وهذه الآية تعم كل طائفة من كافر وزنديق وجاهل وصاحب بدعة، وإن كانت الإشارة بها في ذلك الوقت إلى نصارى نجران. وقال قتادة في تفسير قوله تعالى:" فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ": إن لم يكونوا الحرورية «3» وأنواع الخوارج فلا أدري من هم. قلت: قد مر هذا التفسير عن أبى أمامة مرفوعا، وحسبك. السادسة- قوله تعالى: (فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ) قال شيخنا أبو العباس رحمة الله عليه: متبعو المتشابه لا يخلو أن يتبعوه ويجمعوه طلبا للتشكيك
__________
(1). أي إذا أردت به سحر ليلتك. فإن نكرته صرفته.
(2). راجع ج 18 ص 82. [.....]
(3). راجع الهامشة 2 ج 2 ص 251

في القرآن وإضلال العوام، كما فعلته الزنادقة والقرامطة «1» الطاعنون في القرآن، أو طلبا لاعتقاد ظواهر المتشابه، كما فعلته المجسمة الذين جمعوا ما في الكتاب والسنة مما ظاهره الجسمية حتى اعتقدوا أن البارئ تعالى جسم مجسم وصورة مصورة ذات وجه وعين وئد وجنب ورجل وإصبع، تعالى الله عن ذلك، أو يتبعوه على جهة إبداء تأويلاتها وإيضاح معانيها، أو كما فعل صبيغ «2» حين أكثر على عمر فيه السؤال. فهذه أربعة أقسام: الأول- لا شك في كفرهم، وأن حكم الله فيهم القتل من غير استتابة. الثاني- [الصحيح ] «3» القول بتكفيرهم، إذ لا فرق بينهم وبين عباد الأصنام والصور، ويستتابون فإن تابوا وإلا قتلوا كما يفعل بمن ارتد. الثالث- اختلفوا في جواز ذلك بناء على الخلاف في جواز تأويلها. وقد عرف، أن مذهب السلف ترك التعرض لتأويلها مع قطعهم باستحالة ظواهرها، فيقولون أمروها كما جاءت. وذهب بعضهم إلى إبداء تأويلاتها وحملها على ما يصح حمله في اللسان عليها من غير قطع بتعيين مجمل منها. الرابع- الحكم فيه الأدب البليغ، كما فعله عمر بصبيغ. وقال أبو بكر الأنباري: وقد كان الأئمة من السلف يعاقبون من يسأل عن تفسير الحروف المشكلات في القرآن، لان السائل إن كان يبغى بسؤاله تخليد البدعة وإثارة الفتنة فهو حقيق بالنكير وأعظم التعزير، وإن لم يكن ذلك مقصده فقد استحق العتب بما اجترم من الذنب، إذ أوجد للمنافقين الملحدين في ذلك الوقت سبيلا إلى أن يقصدوا ضعفة المسلمين بالتشكيك والتضليل في تحريف القرآن عن مناهج التنزيل وحقائق التأويل. فمن ذلك ما حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي أنبأنا سليمان بن حرب عن حماد بن زيد عن يزيد بن حازم عن سليمان بن يسار أن صبيغ بن عسل
__________
(1). القرامطة: فرقة من الزنادقة الملاحدة أتباع الفلاسفة من الفرس الذين يعتقدون نبوة زرادشت ومزدك وماني، وكانوا يبيحون المحترمات. ( (راجع عقد الجمان للعيني؟ في حوادث سن
(2). (278) صبيغ (وزان أمير) بن شريك بن المنذر بن قطن بن قشع بن عسل (بكسر العين) بن عمرو بن يربوع التميمي، وقد ينسب إلى جده الأعلى فيقال: صبيغ بن عمل. راجع القاموس وشرحة مادة" صبغ وعسل".
(3). الزيادة من نسخ: ب، ز، د.

قدم المدينة فجعل يسأل عن متشابه القرآن وعن أشياء، فبلغ ذلك عمر رضى الله عنه فبعث إليه عمر فأحضره وقد أعد له عراجين من عراجين النخل. فلما حضر قال له عمر: من أنت؟ قال: أنا عبد الله صبيغ. فقال عمر رضى الله عنه: وأنا عبد الله عمر، ثم قام إليه فضرب رأسه بعرجون فشجه، ثم تابع ضربه حتى سال دمه على وجهه، فقال: حسبك يا أمير المؤمنين فقد والله ذهب ما كنت أجد في رأسي. وقد اختلفت الروايات في أدبه، وسيأتي ذكرها في" الذاريات". ثم إن الله تعالى ألهمه التوبة وقذفها في قلبه فتاب وحسنت توبته. ومعنى" ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ" طلب الشبهات واللبس على المؤمنين حتى يفسدوا ذات بينهم، ويردوا الناس إلى زيغهم. وقال أبو إسحاق الزجاج: معنى" ابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ" أنهم طلبوا تأويل بعثهم وإحيائهم، فأعلم الله عز وجل أن تأويل ذلك ووقته لا يعلمه إلا الله. قال: والدليل على ذلك قوله تعالى:" هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ- أي يوم يرون ما يوعدون من البعث والنشور والعذاب- يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ- أي تركوه- لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ" «1» أي قد رأينا تأويل ما أنبأتنا به الرسل. قال: فالوقف على قوله تعالى:" وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ" أي لا يعلم أحد متى البعث إلا الله. السابعة- قوله تعالى: (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ) يقال: إن جماعة من اليهود منهم حيي بن أخطب دخلوا على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقالوا: بلغنا أنه نزل عليك" الم"، فإن كنت صادقا في مقالتك فإن ملك أمتك يكون إحدى وسبعين سنة، لان الالف في حساب الجمل واحد، واللام ثلاثون، والميم أربعون، فنزل" وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ". والتأويل يكون بمعنى التفسير، كقولك: تأويل هذه الكلمة على كذا. ويكون بمعنى ما يؤول الامر إليه. واشتقاقه من آل الامر إلى كذا يؤول إليه، أي صار. وأولته تأويلا أي صيرته. وقد حده بعض الفقهاء فقالوا: هو إبداء احتمال في اللفظ مقصود بدليل خارج عنه. فالتفسير بيان اللفظ، كقوله" لا رَيْبَ فِيهِ" أي لا شك. وأصله من الفسر وهو البيان، يقال: فسرت
__________
(1). راجع ج 7 ص 217.

الشيء (مخففا) أفسره (بالكسر) فسرا. والتأويل بيان المعنى، كقوله لا شك فيه عند المؤمنين. أو لأنه حق في نفسه فلا يقبل ذاته الشك وإنما الشك وصف الشاك. وكقول ابن عباس في الجد أبا، لأنه تأول قول الله عز وجل:" يا بَنِي آدَمَ". الثامنة- قوله تعالى: (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) اختلف العلماء في" وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ" هل هو ابتداء كلام مقطوع مما قبله، أو هو معطوف على ما قبله فتكون الواو للجمع. فالذي عليه الأكثر أنه مقطوع مما قبله، وأن الكلام تم عند قوله" إِلَّا اللَّهُ" هذا قول ابن عمر وابن عباس وعائشة وعروة بن الزبير وعمر بن عبد العزيز وغيرهم، وهو مذهب الكسائي والأخفش والفراء وأبى عبيد [وغيرهم ] «1». قال أبو نهيك الأسدي: إنكم تصلون هذه الآية وإنها مقطوعة. وما انتهى علم الراسخين إلا إلى قولهم" آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا". وقال مثل هذا عمر بن عبد العزيز، وحكى الطبري نحوه عن يونس عن أشهب عن مالك بن أنس. و" يَقُولُونَ" على هذا خبر" الرَّاسِخُونَ". قال الخطابي: وقد جعل الله تعالى آيات كتابه الذي أمرنا بالايمان به والتصديق بما فيه قسمين: محكما ومتشابها، فقال عز من قائل:" هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ" ... إلى قوله:" كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا" فاعلم أن المتشابه من الكتاب قد استأثر الله بعلمه، فلا يعلم تأويله أحد غيره، ثم أثنى الله عز وجل على الراسخين في العلم بأنهم يقولون آمنا به. ولولا صحة الايمان منهم لم يستحقوا الثناء عليه. ومذهب أكثر العلماء أن الوقف التام في هذه الآية إنما هو عند قوله تعالى:" وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ" وأن ما بعده استئناف كلام آخر، وهو قوله" وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ". وروى ذلك عن ابن مسعود وأبى بن كعب وابن عباس وعائشة. وإنما روى عن مجاهد أنه نسق" الرَّاسِخُونَ" على ما قبله وزعم أنهم يعلمونه. واحتج له بعض أهل اللغة فقال: معناه والراسخون في العلم يعلمونه قائلين آمنا، وزعم أن موضع" يَقُولُونَ" نصب على الحال. وعامة أهل اللغة ينكرونه ويستبعدونه، لان العرب لا تضمر الفعل والمفعول معا، ولا تذكر حالا إلا مع ظهور الفعل، فإذا لم يظهر فعل فلا يكون حال، ولو جاز ذلك لجاز
__________
(1). الزيادة من نسخة: ج.

أن يقال: عبد الله راكبا، بمعنى أقبل عبد الله راكبا، وإنما يجوز ذلك مع ذكر الفعل كقوله: عبد الله يتكلم يصلح بين الناس، فكان" يصلح" حالا له، كقول الشاعر أنشدنيه أبو عمر قال أنشدنا أبو العباس ثعلب:
أرسلت فيها قطما لكالكا «1» ... يقصر يمشى ويطول باركا
أي يقصر ماشيا، فكان قول عامة العلماء مع مساعدة مذاهب النحويين له أولى من قول مجاهد وحده، وأيضا فإنه لا يجوز أن ينفى الله سبحانه شيئا عن الخلق ويثبته لنفسه ثم يكون له في ذلك شريك. ألا ترى قوله عز وجل:" قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ" «2» وقوله:" لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ «3»" وقوله:" كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ" «4»، فكان هذا كله مما استأثر الله سبحانه بعلمه لا يشركه فيه غيره. وكذلك قوله تبارك وتعالى:" وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ". ولو كانت الواو في قوله:" وَالرَّاسِخُونَ" «5» للنسق لم يكن لقوله:" كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا" فائدة. والله أعلم. قلت: ما حكاه الخطابي من أنه لم يقل بقول مجاهد غيره فقد روى عن ابن عباس أن الراسخين معطوف على اسم الله عز وجل، وأنهم داخلون في علم المتشابه، وأنهم مع علمهم به يقولون آمنا به، وقاله الربيع ومحمد بن جعفر بن الزبير والقاسم بن محمد وغيرهم. و" يَقُولُونَ" على هذا التأويل نصب على الحال من الراسخين، كما قال:
الريح تبكى شجوها ... والبرق يلمع في الغمامه
وهذا البيت يحتمل المعنيين، فيجوز أن يكون" والبرق" مبتدأ، والخبر" يلمع" على التأويل الأول، فيكون مقطوعا مما قبله. ويجوز أن يكون معطوفا على الريح، و" يلمع" في موضع الحال على التأويل الثاني أي لامعا. واحتج قائلو هذه المقالة أيضا بأن الله سبحانه مدحهم
__________
(1). في الأصول:" أرسلت فيها رجلا" والتصويب عن اللسان وشرح القاموس. والقطم: الغضبان، وفحل قطم وقطم وقطيم: صئول. والقطم أيضا: المشتهى اللحم وغيره. واللكالك (بضم اللام الاولى وكسر الثانية): الجمل الضخم المرمي باللحم. قال أبو على الفارسي:" يقصر إذا مشى لانخفاض بطنه وضخمة وتقاربه من الأرض، فإذا برك رأيته طويلا لارتفاع سنامه، فهو باركا أطول منه قائما". (اللسان مادة لكك).
(2). راجع ج 13 ص 225.
(3). راجع ج 7 ص 335.
(4). راجع ج 13 ص 322.
(5). في الأصول:" والراسخون معا للنسق".

بالرسوخ في العلم، فكيف يمدحهم وهم جهال! وقد قال ابن عباس: أنا ممن يعلم تأويله. وقرأ مجاهد هذه الآية وقال: أنا ممن يعلم تأويله، حكاه عنه إمام الحرمين أبو المعالي. قلت- وقد رد بعض العلماء هذا القول إلى القول الأول فقال: وتقدير تمام الكلام" عند الله" أن معناه وما يعلم تأويله إلا الله يعني تأويل المتشابهات، والراسخون في العلم يعلمون بعضه قائلين آمنا به كل من عند ربنا بما نصب من الدلائل في المحكم ومكن من رده إليه. فإذا علموا تأويل بعضه ولم يعلموا البعض قالوا آمنا بالجميع كل من عند ربنا، وما لم يحط به علمنا من الخفايا مما في شرعه الصالح فعلمه عند ربنا فإن قال قائل: قد أشكل على الراسخين بعض تفسيره حتى قال ابن عباس: لا أدرى ما الأواه ولا ما غسلين) قيل له: هذا لا يلزم، لان ابن عباس قد علم بعد ذلك ففسر ما وقف عليه. وجواب أقطع من هذا وهو أنه سبحانه لم يقل وكل راسخ فيجب هذا فإذا لم يعلمه أحد علمه الأخر. ورجح ابن فورك أن الراسخين يعلمون التأويل وأطنب في ذلك، وفى قوله عليه السلام لابن عباس:" اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل" ما يبين لك ذلك، أي علمه معاني كتابك. والوقف على هذا يكون عند قوله" وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ". قال شيخنا أبو العباس أحمد بن عمر: وهو الصحيح، فإن تسميتهم راسخين يقتضى أنهم يعلمون أكثر من المحكم الذي يستوي في علمه جميع من يفهم كلام العرب. وفى أي شي هو رسوخهم إذا لم يعلموا إلا ما يعلم الجميع. لكن المتشابه يتنوع، فمنه ما لا يعلم البتة كأمر الروح والساعة مما استأثر الله بغيبه، وهذا لا يتعاطى علمه أحد لا ابن عباس ولا غيره. فمن قال من العلماء الحداق بأن الراسخين لا يعلمون علم المتشابه فإنما أراد هذا النوع، وأما ما يمكن حمله على وجوه في اللغة ومناح في كلام العرب فيتأول ويعلم تأويله المستقيم، ويزال ما فيه مما عسى أن يتعلق من تأويل غير مستقيم، كقوله في عيسى:" وَرُوحٌ مِنْهُ" «1» إلى غير ذلك فلا يسمى أحد راسخا إلا بأن يعلم من هذا النوع كثيرا بحسب ما قدر له. وأما من يقول: إن المتشابه هو المنسوخ فيستقيم على قوله إدخال الراسخين في علم التأويل، لكن تخصيصه المتشابهات بهذا النوع غير صحيح.
__________
(1). راجع ج 6 ص 21

رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)

والرسوخ: الثبوت في الشيء، وكل ثابت راسخ. وأصله في الأجرام أن يرسخ الجبل والشجر في الأرض، قال الشاعر:
لقد رسخت في الصدر مني مودة ... لليلى أبت آياتها أن تغيرا
ورسخ الايمان في قلب فلان يرسخ رسوخا. وحكى بعضهم: رسخ الغدير: نضب ماؤه، حكاه ابن فارس فهو من الأضداد. ورسخ ورضخ ورصن ورسب كله ثبت فيه. وسيل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الراسخين في العلم فقال:" هو من برت يمينه وصدق لسانه واستقام قلبه". فإن قيل: كيف كان في القرآن متشابه والله يقول:" وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ" «1» فكيف لم يجعله كله واضحا؟ قيل له: الحكمة في ذلك- والله أعلم- أن يظهر فضل العلماء، لأنه لو كان كله واضحا لم يظهر فضل بعضهم على بعض. وهكذا يفعل من يصنف تصنيفا يجعل بعضه واضحا وبعضه مشكلا، ويترك للجثوة «2» موضعا، لان ما هان وجوده قل بهاؤه. والله أعلم. التاسعة- قوله تعالى: (كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) فيه ضمير عائد على كتاب الله تعالى محكمه ومتشابهه، والتقدير: كله من عند ربنا. وحذف الضمير لدلالة" كل" عليه، إذ هي لفظة تقتضي الإضافة. ثم قال: (وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) أي ما يقول هذا ويؤمن ويقف حيث وقف ويدع اتباع المتشابه إلا ذو لب، وهو العقل. ولب كل شي خالصه، فلذلك قيل للعقل لب. و" أُولُوا" جمع ذو.

[سورة آل عمران (3): آية 8]
رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)
فيه مسألتان: الاولى- قوله تعالى: (رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا) في الكلام حذف تقديره يقولون. وهذا حكاية عن الراسخين. ويجوز أن يكون المعنى قل يا محمد، ويقال: إزاغة القلب فساد
__________
(1). راجع ج 10 ص 108.
(2). كذا وردت هذه الكلمة في أكثر الأصول، وفى بعضها وردت بهذا الرسم من غير إعجام، ومعناها: الجماعة. [.....]

وميل عن الدين، أفكانوا يخافون وقد هدوا أن ينقلهم الله إلى الفساد؟ فالجواب أن يكونوا سألوا إذ هداهم الله ألا يبتليهم بما يثقل عليهم من الأعمال فيعجزوا عنه، نحو" وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ «1»". قال ابن كيسان: سألوا ألا يزيغوا فيزيغ الله قلوبهم، نحو" فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ" «2» أي ثبتنا على هدايتك إذ هديتنا وألا نزيغ فنستحق أن تزيغ قلوبنا. وقيل: هو منقطع مما قبل، وذلك أنه تعالى لما ذكر أهل الزيغ عقب ذلك بأن علم عباده الدعاء إليه في ألا يكونوا من الطائفة الذميمة التي ذكرت وهى واهل الزيغ. وفى الموطأ عن أبى عبد الله الصنابحى أنه قال: قدمت المدينة في خلافة أبى بكر الصديق فصليت وراءه المغرب، فقرأ في الركعتين الأوليين بأم القرآن وسورة من قصار المفصل، ثم قام في الثالثة، فدنوت منه حتى إن ثيابي لتكاد تمس ثيابه، فسمعته يقرأ بأم القرآن وهذه الآية" رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا" الآية. قال العلماء: قراءته بهذه الآية ضرب من القنوت والدعاء لما كان فيه من أمر أهل الردة. والقنوت جائز في المغرب عند جماعة من أهل العلم، وفى كل صلاة أيضا إذا دهم المسلمين أمر عظيم يفزعهم ويخافون منه على أنفسهم. وروى الترمذي من حديث شهر بن حوشب قال: قلت لام سلمة: يا أم المؤمنين، ما كان أكثر دعاء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا كان عندك؟ قالت: كان أكثر دعائه" يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك". فقلت: يا رسول الله، ما أكثر دعاءك يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك! قال:" يا أم سلمة إنه ليس آدمي إلا وقلبه بين إصبعين من أصابع الله فمن شاء أقام ومن شاء أزاغ". فتلا معاذ «3»" رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا". قال: حديث حسن. وهذه الآية حجة على المعتزلة في قولهم: إن الله لا يضل العباد «4». ولو لم تكن الازاغة من قبله لما جاز أن يدعي في دفع ما لا يجوز عليه فعله. وقرا أبو واقد الجراح" لا تُزِغْ قُلُوبَنا" بإسناد الفعل إلى القلوب، وهذه رغبة إلى الله تعالى. ومعنى الآية على القراءتين ألا يكون منك خلق الزيغ فيها فتزيغ.
__________
(1). راجع ج 5 ص 270.
(2). راجع ج 16 ص 82.
(3). هو أحد رجال سند هذا الحديث.
(4). يعنى قولهم إن العباد هم الخالقون لأفعالهم.

رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9)

الثانية- قوله تعالى: (وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً) أي من عندك ومن قبلك تفضلا لا عن سبب منا ولا عمل. وفى هذا استسلام وتطارح. وفى" لدن" أربع لغات: لدن بفتح اللام وضم الدال وجزم النون، وهى أفصحها، وبفتح اللام وضم الدال وحذف النون، وبضم اللام وجزم الدال وفتح النون، وبفتح اللام وسكون الدال وفتح النون. ولعل جهال المتصوفة وزنادقة الباطنية يتشبثون بهذه الآية وأمثالها فيقولون: العلم ما وهبه الله ابتداء من غير كسب، والنظر في الكتب والأوراق حجاب. وهذا مردود على ما يأتي بيانه في هذا الموضع. ومعنى الآية: هب لنا نعيما صادرا عن الرحمة، لان الرحمة راجعة إلى صفة الذات فلا يتصور فيها الهبة. يقال: وهب يهب والأصل. يوهب بكسر الهاء. ومن قال: الأصل يوهب بفتح الهاء فقد أخطأ لأنه لو كان كما قال لم تحذف الواو كما لم تحذف في يوجل، وإنما حذفت الواو لوقوعها بين ياء وكسرة ثم فتح بعد حذفها لان فيه حرفا من حروف الحلق.

[سورة آل عمران (3): آية 9]
رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (9)
أي باعثهم ومحييهم بعد تفرقهم، وفى هذا إقرار بالبعث ليوم القيامة. قال الزجاج: هذا هو التأويل الذي علمه الراسخون وأقروا به، وخالف الذين اتبعوا ما تشابه عليهم من أمر البعث حتى أنكروه. والريب الشك، وقد تقدمت محامله في البقرة «1». والميعاد مفعال من الوعد.

[سورة آل عمران (3): آية 10]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10)
معناه بين، أي لن تدفع عنهم أموالهم ولا أولادهم من عذاب الله شيئا. وقرأ السلمى «2»" لن يغنى" بالياء لتقدم الفعل ودخول الحائل بين الاسم والفعل. وقرا الحسن" يغنى" بالياء وسكون الياء الآخرة للتخفيف، كقول الشاعر:
__________
(1). راجع ج 1 ص 159.
(2). السلمى (بضم السين) هو أبو عبد الرحمن محمد بن الحسين الصوفي الأزدي. (عن تذكرة الحفاظ وأنساب السمعاني).

كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (11)

كفى باليأس من أسماء كافي ... وليس لسقمها إذ طال شافي
وكان حقه أن يقول كافيا، فأرسل الياء. وأنشد الفراء في مثله:
كان أيديهن بالقاع الفرق ... أيدي جوار يتعاطين الورق
القرق والقرقة لغتان «1» في القاع. و" من" في قوله" مِنَ اللَّهِ" بمعنى عند، قاله أبو عبيدة. (أُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ) والوقود اسم للحطب، وقد تقدم في" البقرة" «2». وقرأ الحسن ومجاهد وطلحة بن مصرف" وقود" بضم الواو على حذف مضاف تقديره حطب وقود النار. ويجوز في العربية إذا ضم الواو أن تقول أقود مثل أقتت. والوقود بضم الواو المصدر، وقدت النار تقد إذا اشتعلت. وخرج ابن المبارك من حديث العباس بن عبد المطلب قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" يظهر هذا الدين حتى يجاوز البحار وحتى تخاض البحار بالخيل في سبيل الله تبارك وتعالى ثم يأتي أقوام يقرءون القرآن فإذا قرءوه قالوا من أقرأ منا من أعلم منا؟ ثم التفت إلى أصحابه فقال: هل ترون في أولئكم من خير"؟ قالوا لا. قال:" أولئك منكم وأولئك من هذه الامة وأولئك هم وقود النار".

[سورة آل عمران (3): آية 11]
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (11)
الدأب العادة والشأن. ودأب الرجل في عمله يدأب دأبا ودءوبا إذا جد واجتهد، وأدأبته أنا. وأدأب بعيره إذا جهده في السير. والدائبان الليل والنهار. قال أبو حاتم: وسمعت يعقوب يذكر" كدأب" بفتح الهمزة، وقال لي وأنا غليم: على أي شي يجوز" كدأب"؟ فقلت له: أظنه من دئب يدأب دأبا. فقبل ذلك منى وتعجب من جودة تقديري على صغرى، ولا أدرى أيقال أم لا. قال النحاس:" وهذا القول خطأ، لا يقال
__________
(1). كذا في الأصول. والذي في لسان العرب وغيره من معجمات اللغة أنه القرق (بفتح القاف وكسر الراء) والقرق (بفتح القاف والراء) والقرق (بكسر القاف وسكون الراء). والقاع القرق: الطيب الذي لا حجارة فيه.
(2). راجع ج 1 ص 235

البتة دئب، وإنما يقال: دأب يدأب دءوبا و[دأبا] «1»، هكذا حكى النحويون، منهم الفراء حكاه في كتاب المصادر، كما قال امرؤ القيس:
كدأبك من أم الحويرث قبلها ... وجارتها أم الرباب بمأسل «2»
فأما الدأب فإنه يجوز، كما يقال: شعر وشعر ونهر ونهر، لان فيه حرفا من" حروف الحلق". واختلفوا في الكاف، فقيل: هي في موضع رفع تقديره دأبهم كدأب آل فرعون، أي صنيع الكفار معك كصنيع آل فرعون مع موسى. وزعم الفراء أن المعنى: كفرت العرب ككفر آل فرعون. قال النحاس: لا يجوز أن تكون الكاف متعلقة بكفروا، لان كفروا داخلة في الصلة. وقيل: هي متعلقة ب" فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ"، أي أخذهم أخذا كما أخذا آل فرعون. وقيل: هي متعلقة بقوله" لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ ..." أي لم تغن عنهم كما لم تغن الأموال والأولاد عن آل فرعون. وهذا جواب لمن تخلف عن الجهاد وقال: شغلتنا أموالنا وأهلونا. ويصح أن يعمل فيه فعل مقدر من لفظ الوقود، ويكون التشبيه في نفس الاحتراق. ويؤيد هذا المعنى". وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ. النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ" «3». والقول الأول أرجح، واختاره غير واحد من العلماء. قال ابن عرفة:" كدأب آل فرعون" أي كعادة آل فرعون. يقول: اعتاد هؤلاء الكفرة الإلحاد والإعنات للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما اعتاد آل فرعون من إعنات الأنبياء، وقال معناه الأزهري. فأما قوله في سورة (الأنفال)" كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ" «4» فالمعنى جوزي هؤلاء بالقتل والأسر كما جوزي آل فرعون بالغرق والهلاك. قوله تعالى: (بِآياتِنا) يحتمل أن يريد الآيات المتلوة، ويحتمل أن يريد الآيات المنصوبة للدلالة على الوحدانية. (فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ).
__________
(1). زيادة عن إعراب القرآن للنحاس.
(2). أم الحويرث: هي" هر" أم الحارث بن حصين ابن ضمضم الكلابي، وكان امرؤ القيس يشبب بها في أشعاره. وام الرباب من كلب أيضا. ومأسل: موضع. يقول: لقيت من وقوفك على هذه الديار وتذكرك أهلها كما لقيت من أم الحويرث وجارتها. (عن شرح المعلقات).
(3). راجع ج 15 ص 318.
(4). راجع ج 8 ص 29.

قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12)

[سورة آل عمران (3): آية 12]
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ (12)
يعني اليهود، قال محمد بن إسحاق: لما أصاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قريشا ببدر وقدم المدينة جمع اليهود فقال:" يا معشر اليهود احذروا من الله مثل ما نزل بقريش يوم بدر قبل أن ينزل بكم ما نزل بهم فقد عرفتم أنى نبى مرسل تجدون ذلك في كتابكم وعهد الله إليكم"، فقالوا: يا محمد، لا يغرنك أنك قتلت أقواما أغمارا «1» لا علم لهم بالحرب فأصبت فيهم فرصة! والله لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس. فأنزل الله تعالى:" قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ" بالتاء يعنى اليهود: أي تهزمون" وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ" في الآخرة. فهذه رواية عكرمة وسعيد بن جبير عن ابن عباس. وفى رواية أبى صالح عنه أن اليهود لما فرحوا بما أصاب المسلمين يوم أحد نزلت. فالمعنى على هذا" سيغلبون" بالياء، يعني قريشا،" ويحشرون" بالياء فيهما، وهى قراءة نافع. قوله تعالى: (وَبِئْسَ الْمِهادُ) يعنى جهنم، هذا ظاهر الآية. وقال مجاهد: المعنى بئس ما مهدوا لأنفسهم، فكأن المعنى: بئس فعلهم الذي أداهم إلى جهنم.

[سورة آل عمران (3): آية 13]
قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (13)
قوله تعالى: (قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ) أي علامة. وقال" كانَ" ولم يقل" كانت" لان" آية" تأنيثها غير حقيقي. وقيل: ردها إلى البيان، أي قد كان لكم بيان، فذهب إلى المعنى وترك اللفظ، كقول امرئ القيس:
__________
(1). الأغمار: جمع غمر (بضم) وهو الجاهل الغر الذي لم يجرب الأمور.

برهرهة رودة رخصة كخرعوبة البانة المنفطر «1» ولم يقل المنفطرة، لأنه ذهب إلى القضيب. وقال الفراء: ذكره لأنه فرق بينهما بالصفة، فلما حالت الصفة بين الاسم والفعل ذكر الفعل. وقد مضى هذا المعنى في البقرة في قوله تعالى:" كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ" «2». (فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا) يعنى المسلمين والمشركين يوم بدر (فِئَةٌ) قرأ الجمهور (فِئَةٌ) بالرفع، بمعنى إحداهما فئة. وقرا الحسن ومجاهد" فئة" بالخفض" وَأُخْرى كافِرَةٌ" على البدل. وقرا ابن أبى عبلة بالنصب فيهما. قال أحمد بن يحيى: ويجوز النصب على الحال، أي التقتا مختلفتين مؤمنة وكافرة. قال الزجاج: النصب بمعنى أعنى. وسميت الجماعة من الناس فئة لأنها يفاء إليها، أي يرجع إليها في وقت الشدة. وقال الزجاج: الفئة الفرقة، مأخوذة من فأوت رأسه بالسيف- ويقال: فأيته- إذا فلقته «3». ولا خلاف أن الإشارة بهاتين الفئتين هي إلى يوم بدر. واختلف من المخاطب بها، فقيل: يحتمل أن يخاطب بها المؤمنون، ويحتمل أن يخاطب بها جميع الكفار، ويحتمل أن يخاطب بها يهود المدينة، وبكل احتمال منها قد قال قوم. وفائدة الخطاب للمؤمنين تثبيت النفوس وتشجيعها حتى يقدموا على مثليهم وأمثالهم كما قد وقع. قوله تعالى: (يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ) قال أبو على: الرؤية في هذه الآية رؤية عين، ولذلك تعدت إلى مفعول واحد. قال مكي والمهدوي: يدل عليه" رَأْيَ الْعَيْنِ". وقرا نافع" ترونهم" بالتاء والباقون بالياء «4»." مِثْلَيْهِمْ" نصب على الحال من الهاء والميم في" ترونهم". والجمهور من الناس على أن الفاعل بترون هم المؤمنون، والضمير المتصل هو للكفار. وأنكر أبو عمرو أن يقرأ
__________
(1). البرهرهة: الرقيقة الجلد، أو هي الملساء المترجرجة. والرؤدة والرءودة: الشابة الحسنة الشريعة الشباب مع حسن غذا .. والرخصة: اللينة الخلق. والخرعوبة: القضيب الغضى اللدن. والبانة: واحد شجر البان، والمنفطر: المتشقق. يقال قد انفطر العود إذا انشق وأخرج ورقه. (عن شرح الديوان). [.....]
(2). راجع ج 2 ص 257، وص 268.
(3). الذي في نسخ: اوب وج: قلعته، والمثبت ما في المعاجم.
(4). الذي في تفسير النيسابوري:" تروتهم بتاء الخطاب أبو جعفر ونافع وسهل ويعقوب الباقون بالياء".

" ترونهم" بالتاء، قال: ولو كان كذلك لكان مثليكم. قال النحاس" وذا لا يلزم، ولكن يجوز أن يكون مثلي أصحابكم. قال مكي:" ترونهم" بالتاء جرى على الخطاب في" لكم" فيحسن أن يكون الخطاب للمسلمين، والهاء والميم للمشركين. وقد كان يلزم من قرأ بالتاء أن يقرأ مثليكم بالكاف، وذلك لا يجوز لمخالفة الخط، ولكن جرى الكلام على الخروج من الخطاب إلى الغيبة، كقوله تعالى:" حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ" «1»، وقوله تعالى:" وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ" «2» فخاطب ثم قال:" فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ" فرجع إلى الغيبة. فالهاء والميم في" مِثْلَيْهِمْ" يحتمل أن يكون للمشركين، أي ترون أيها المسلمون المشركين مثلي ما هم عليه من العدد، وهو بعيد في المعنى، لان الله تعالى لم يكثر المشركين في أعين المسلمين بل أعلمنا أنه قللهم في أعين المؤمنين، فيكون المعنى ترون أيها المؤمنون المشركين مثليكم في العدد وقد كانوا ثلاثة أمثالهم، فقلل الله المشركين في أعين المسلمين فأراهم إياهم مثلي عدتهم لتقوى أنفسهم ويقع التجاسر، وقد كانوا أعلموا أن المائة منهم تغلب المائتين من الكفار، وقلل المسلمين في أعين المشركين ليجترءوا عليهم فينفذ حكم الله فيهم. ويحتمل أن يكون الضمير في" مِثْلَيْهِمْ" للمسلمين، أي ترون أيها المسلمون المسلمين مثلي ما أنتم عليه من العدد، أي ترون أنفسكم مثلي عددكم، فعل الله ذلك بهم لتقوى أنفسهم على لقاء المشركين. والتأويل الأول أولى، يدل عليه قوله تعالى:" إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلًا" «3» وقوله:" وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا" وروي عن ابن مسعود أنه قال: قلت لرجل إلى جنبي: أتراهم سبعين؟ قال: أظنهم مائة فلما أخذنا الأسارى أخبرونا أنهم كانوا ألفا. وحكى الطبري عن قوم أنهم قالوا: بل كثر الله عدد المؤمنين في عيون الكافرين حتى كانوا عندهم ضعفين. وضعف الطبري هذا القول. قال ابن عطية: وكذلك هو مردود من جهات. بل قلل الله المشركين في أعين المؤمنين كما تقدم. وعلى هذا التأويل كان يكون" ترون" للكافرين، أي ترون أيها الكافرون المؤمنين مثليهم، ويحتمل مثليكم، على ما تقدم. وزعم الفراء أن المعنى
__________
(1). راجع ج 8 ص 324.
(2). راجع ج 16 ص 35.
(3). راجع ج 8 ص 22

زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)

ترونهم مثليهم ثلاثة أمثالهم. وهو بعيد غير معروف في اللغة. قال الزجاج: وهذا باب الغلط، فيه غلط في جميع المقاييس، لأنا إنما نعقل مثل الشيء مساويا له، ونعقل مثله ما يساويه مرتين. قال ابن كيسان: وقد بين الفراء قوله بأن قال: كما تقول وعندك عبد: احتاج إلى مثله، فأنت محتاج إليه وإلى مثله. وتقول: احتاج إلى مثليه، فأنت محتاج إلى ثلاثة. والمعنى على خلاف ما قال، واللغة. والذي أوقع الفراء في هذا أن المشركين كانوا ثلاثة أمثال المؤمنين يوم بدر، فتوهم أنه لا يجوز أن يكونوا يرونهم إلا على عدتهم، وهذا بعيد وليس المعنى عليه. وإنما أراهم الله على غير عدتهم لجهتين: إحداهما أنه رأى الصلاح في ذلك، لان المؤمنين تقوى قلوبهم بذلك. والأخرى أنه آية للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وسيأتي ذكر وقعة «1» بدر إن شاء الله تعالى. وأما قراءة الياء فقال ابن كيسان: الهاء والميم في" يَرَوْنَهُمْ" عائدة على" وَأُخْرى كافِرَةٌ" والهاء والميم في" مِثْلَيْهِمْ" عائدة على" فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ" وهذا من الإضمار الذي يدل عليه سياق الكلام، وهو قوله:" يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ". فدل ذلك على أن الكافرين كانوا مثلي المسلمين في رأى العين وثلاثة أمثالهم في العدد. قال: والرؤية هنا لليهود. وقال مكي: الرؤية للفئة المقاتلة في سبيل الله، والمرئية الفئة الكافرة، أي ترى الفئة المقاتلة في سبيل الله الفئة الكافرة مثلي الفئة المؤمنة، وقد كانت الفئة الكافرة ثلاثة أمثال المؤمنة فقللهم الله في أعينهم على ما تقدم. والخطاب في" لَكُمْ" لليهود. وقرا ابن عباس وطلحة" ترونهم" بضم التاء، والسلمى بالتاء المضمومة على ما لم يسم فاعله. (وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ) تقدم معناه والحمد لله.

[سورة آل عمران (3): آية 14]
زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)
__________
(1). في ص 190 فما بعد من هذا الجزء.

فيه إحدى عشرة مسألة: الاولى- قوله تعالى: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ) زين من التزيين. واختلف الناس من المزين، فقالت فرقة: الله زين ذلك، وهو ظاهر قول عمر بن الخطاب رضى الله عنه، ذكره البخاري. وفى التنزيل:" إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً «1» لَها"، ولما قال عمر: ألان يا رب حين زينتها لنا! نزلت:" قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ" وقالت فرقة: المزين هو الشيطان، وهو ظاهر قول الحسن، فإنه قال: من زينها؟ ما أحد أشد لها ذما من خالقها. فتزيين الله تعالى إنما هو بالإيجاد والتهيئة للانتفاع وإنشاء الجبلة على الميل إلى هذه الأشياء. وتزيين الشيطان إنما هو بالوسوسة والخد يعه وتحسين أخذها من غير وجوهها. والآية على كلا الوجهين ابتداء وعظ لجميع الناس، وفى ضمن ذلك توبيخ لمعاصري محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من اليهود وغيرهم. وقرا الجمهور" زين" على بناء الفعل للمفعول، ورفع" حب". وقرا الضحاك ومجاهد" زين" على بناء الفعل للفاعل، ونصب" حب" وحركت الهاء من" الشهوات" فرقا بين الاسم والنعت. والشهوات جمع شهوة وهى معروفة. ورجل شهوان «2» للشيء، وشئ شهي أي مشتهى. واتباع الشهوات مرد وطاعتها مهلكة. وفي صحيح مسلم: (حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات" رواه أنس عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وفائدة هذا التمثيل أن الجنة لا تنال إلا بقطع مفاوز المكاره وبالصبر عليها. وأن النار لا ينجى منها إلا بترك الشهوات وفطام النفس عنها. وقد روى عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال:" طريق الجنة حزن «3» بربوة وطريق النار سهل بسهوة"، وهو معنى قوله" حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات". أي طريق الجنة صعبة المسلك فيه أعلى ما يكون من الروابي، وطريق النار سهل لا غلظ فيه ولا وعورة، وهو معنى قوله" سهل بسهوة" وهو بالسين المهملة.
__________
(1). راجع ج 10 ص 353.
(2). هذه عبارة الصحاح الذي يعتمد عليه المؤلف كثيرا. وفى الأصول:" الشهوان للشيء".
(3). الحزن (بفتح فسكون): المكان الغليظ الخشن. والربوة (بالضم والفتح): ما ارتفع من الأرض والسهوة: الأرض اللينة التربة.

الثانية- قوله تعالى: (مِنَ النِّساءِ) بدأ بهن لكثرة تشوف النفوس إليهن، لأنهن حبائل الشيطان وفتنة الرجال. قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" ما تركت بعدي فتنة أشد على الرجال من النساء" أخرجه البخاري ومسلم. ففتنة النساء أشد من جميع الأشياء. ويقال: في النساء فتنتان، وفى الأولاد فتنة واحدة. فأما اللتان في النساء فإحداهما أن تؤدى إلى قطع الرحم، لان المرأة تأمر زوجها بقطعه عن الأمهات والأخوات. والثانية يبتلى بجمع المال من الحلال والحرام. وأما البنون فإن الفتنة فيهم واحدة، وهو ما ابتلي بجمع المال لأجلهم. وروى عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لا تسكنوا نساءكم الغرف ولا تعلموهن الكتاب". حذرهم رسول الله «1» صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لان في إسكانهن الغرف تطلعا إلى الرجال، وليس في ذلك تحصين لهن ولا ستر، لأنهن قد يشرفن على الرجال فتحدث الفتنة والبلاء، ولأنهن قد خلقن من الرجل، فهمتها في الرجل والرجل خلق فيه الشهوة وجعلت سكنا له، فغير مأمون كل واحد منهما على صاحبه. وفى تعلمهن الكتاب هذا المعنى من الفتنة وأشد. وفى كتاب الشهاب عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" أعروا النساء يلزمن الحجال". فعلى الإنسان إذا لم يصبر في هذه الأزمان أن يبحث عن ذات الدين ليسلم له الدين، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" عليك بذات الدين تربت «2» يداك" أخرجه مسلم عن أبي هريرة. وفى سنن ابن ماجة أن عبد الله بن عمر قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" لا تزوجوا النساء لحسنهن؟ فعسى حسنهن أن يرديهن ولا تزوجوهن لأموالهن فعسى أموالهن أن تطغيهن ولكن تزوجوهن، على الدين ولأمة سوداء خرماء «3» ذات دين أفضل". الثالثة- قوله تعالى: (وَالْبَنِينَ) عطف على ما قبله. وواحد من البنين ابن. قال الله تعالى مخبرا عن نوح:" إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي «4»". وتقول في التصغير" بني" كما قال لقمان. وفي الخبر أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال للأشعث بن قيس:" هل لك من ابنة حمزة من
__________
(1). الزيادة في د:.
(2). ترب الرجل: افتقر، آي لصق بالتراب، وأترب إذا استغنى. وهذه الكلمة جارية على ألسنة العرب، لا يريدون بها الدعاء على المخاطب، وإنما يريدون الحث والتحريض.
(3). خرماء: مقطوعة بعض الأنف ومثقوبة الاذن.
(4). راجع ج 9 ص 45. [.....]

ولد"؟ قال: نعم، لي منها غلام ولوددت أن لي به جفنة من طعام أطعمها من بقي من بني جبلة. فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" لئن قلت؟ بذلك إنهم لثمرة القلوب وقره الأعين وإنهم مع ذلك لمجبنة «1» مبخلة محزنة". الرابعة- قوله تعالى: (وَالْقَناطِيرِ.) القناطير جمع قنطار، كما قال تعالى:" وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً" «2» وهو العقدة الكبيرة من المال، وقيل: هو اسم للمعيار الذي يوزن به، كما هو الرطل والربع. ويقال لما بلغ ذلك الوزن: هذا قنطار، أي يعدل القنطار. والعرب تقول: قنطر الرجل إذا بلغ ماله أن يوزن بالقنطار. وقال الزجاج: القنطار مأخوذ من عقد الشيء وإحكامه، تقول العرب: قنطرت الشيء إذا أحكمته، ومنه سميت القنطرة لأحكامها. قال طرفة:
كقنطرة الرومي أقسم ربها ... لتكتنفن حتى تشاد بقرمد «3»
والقنطرة المعقودة، فكأن القنطار عقد مال. واختلف العلماء في تحرير حده كم هو على أقوال عديدة، فروى أبي بن كعب عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال:" القنطار ألف أوقية ومائتا أوقية"، وقال بذلك معاذ بن جبل وعبد الله بن عمر وأبو هريرة وجماعة من العلماء. قال ابن عطية:" وهو أصح الأقوال، لكن القنطار على هذا يختلف باختلاف البلاد في قدر الأوقية". وقيل: اثنا عشر ألف أوقية، أسنده البستي في مسنده الصحيح عن أبى هريرة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:" القنطار اثنا عشر ألف أوقية الأوقية خير مما بين السماء والأرض". وقال بهذا القول أبو هريرة أيضا. وفى مسند أبى محمد الدارمي عن أبى سعيد الخدري قال:" من قرأ في ليلة عشر آيات كتب من الذاكرين، ومن قرأ بمائة آية كتب من القانتين، ومن قرأ بخمسمائة آية إلى الالف أصبح وله قنطار من الأجر" قيل:
__________
(1). أي أن الأبناء يجعلون آباءهم يجبنون خوفا من الموت فيصيب أبناءهم اليتم وآلامه، ويجعلونهم يبخلون فلا يتفقون فيما ينبغي أن ينفق فيه إيثارا لهم بالمال ويجعلونهم يحزنون عليهم إن أصابهم مرض ونحوه.
(2). راجع ج 5 ص 99.
(3). القرمد الأجر والحجارة.

وما القنطار؟ قال:" ملء مسك ثور ذهبا". موقوف، وقال به أبو نضرة العبدى. وذكر ابن سيده أنه هكذا بالسريانية. وقال النقاش عن ابن الكلبي أنه هكذا بلغة الروم. وقال ابن عباس والضحاك والحسن: ألف ومائتا مثقال من الفضة، ورفعه الحسن. وعن ابن عباس: اثنا عشر ألف درهم من الفضة، ومن الذهب ألف دينار دية الرجل المسلم، وروي عن الحسن والضحاك. وقال سعيد بن المسيب: ثمانون ألفا. قتادة: مائة رطل من الذهب أو ثمانون ألف درهم من الفضة. وقال أبو حمزة الثمالي «1»: القنطار بإفريقية والأندلس ثمانية آلاف مثقال من ذهب أو فضة. السدي: أربعة آلاف مثقال. مجاهد: سبعون ألف مثقال، وروي عن ابن عمر. وحكى مكي قولا أن القنطار أربعون أوقية من ذهب أو فضة، وقاله ابن سيده في المحكم، وقال: القنطار بربر ألف مثقال. وقال الربيع ابن أنس: القنطار المال الكثير بعضه على بعض، وهذا هو المعروف عند العرب، ومنه قوله:" وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً" أي مالا كثيرا. ومنه الحديث:" إن صفوان بن أمية قنطر في الجاهلية وقنطر أبوه" أي صار له قنطار من المال. وعن الحكم هو ما بين السماء والأرض. واختلفوا في معنى" الْمُقَنْطَرَةِ" فقال الطبري وغيره: معناه المضعفة، وكان القناطير ثلاثة والمقنطرة تسع. وروى عن الفراء أنه قال: القناطير جمع القنطار، والمقنطرة جمع الجمع، فيكون تسع قناطير. السدي: المقنطرة المضروبة حتى صارت دنانير أو دراهم. مكي: المقنطرة المكملة، وحكاه الهروي، كما يقال: بدر مبدرة، وآلاف مؤلفة. وقال بعضهم. ولهذا سمى البناء القنطرة لتكاثف البناء بعضه على بعض. ابن كيسان والفراء: لا تكون المقنطرة أقل من تسع قناطير. وقيل: المقنطرة إشارة إلى حضور المال وكونه عتيدا. وفى صحيح البستي عن عبد الله بن عمر عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين ومن قام بمائة آية كتب من القانتين ومن قام بألف آية كتب من المقنطرين.
__________
(1). الثمالي (بضم المثلثة وتخفيف الميم ولام): نسبة إلى ثمالة بطن من الأزد

الخامسة- قوله تعالى: (مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ) الذهب، مؤنثة «1»، يقال: هي الذهب الحسنة جمعها ذهاب «2» وذهوب. ويجوز أن يكون جمع ذهبة، ويجمع على الا ذهاب. وذهب فلان مذهبا حسنا. والذهب: مكيال لأهل اليمن. ورجل ذهب إذا رأى معدن الذهب فدهش. والفضة معروفة، وجمعها فضض. فالذهب مأخوذة من الذهاب، والفضة مأخوذة من انفض الشيء تفرق، ومنه فضضت القوم فانفضوا، أي فرقتهم فتفرقوا. وهذا الاشتقاق يشعر بزوالهما وعدم ثبوتهما كما هو مشاهد في الوجود. ومن أحسن ما قيل في هذا المعنى قول بعضهم:
النار آخر دينار نطقت به ... والهم آخر هذا الدرهم الجاري
والمرء بينهما إن كان ذا ورع ... معذب القلب بين الهم والنار
السادسة- قوله تعالى (وَالْخَيْلِ) الخيل مؤنثة. قال ابن كيسان: حدثت عن أبى عبيدة أنه قال: واحد الخيل خائل، مثل طائر وطير، وضائن وضين، وسمي الفرس بذلك لأنه يختال في مشيه. وقال غيره: هو اسم جمع لا واحد له من لفظه واحد فرس كالقوم والرهط والنساء والإبل ونحوها. وفى الخبر من حديث على عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" إن الله خلق الفرس من الريح ولذلك جعلها تطير بلا جناح". وهب بن منبه: خلقها من ريح الجنوب. قال وهب: فليس تسبيحة ولا تكبيرة ولا تهليلة يكبرها صاحبها إلا وهو يسمعها فيجيبه بمثلها. وسيأتي لذكر الخيل ووصفها في سورة" الأنفال" «3» ما فيه كفاية إن شاء الله تعالى. وفى الخبر:" إن الله عرض على آدم جميع الدواب، فقيل له: اختر منها واحدا فاختار الفرس، فقيل له: اخترت عزك، فصار اسمه الخير من هذا الوجه. وسميت خيلا لأنها موسومة بالعز فمن ركبه اعتز بنحلة الله له ويختال به على أعداء الله تعالى. وسمي فرسا
__________
(1). هذا رأى المؤلف، وقد ذكره شارخ القاموس (في مادة ذهب). والمشهور أن الذهب يذكر ويؤنث كما في معجمات اللغة.
(2). في الأصول: والذي في معجمات اللغة أن الذهب يجمع على إذهاب وذهوب وذهبان (بكسر أوله) كبرق وبرقان وذهبان (بضم أوله) كحمل وحملان. فلعل ما في الأصول محرف عن" ذهبان".
(3). راجع ج 8 ص 35.

لأنه يفترس مسافات الجو افتراس الأسد وثبانا، ويقطعها كالالتهام بيديه على شي خبطا وتناولا، وسمي عربيا لأنه جئ به من بعد آدم لإسماعيل جزاء عن رفع قواعد البيت، وإسماعيل عربي، فصار له نحلة من الله تعالى فسمي عربيا. وفى الحديث عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" لا يدخل الشيطان دارا فيها فرس عتيق". وإنما سمي عتيقا لأنه قد تخلص من الهجانة «1». وقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" خير الخيل الأدهم الأقرح «2» الأرثم [ثم الأقرح «3» المحجل ] طلق اليمين فإن لم يكن أدهم فكميت على هذه الشية". أخرجه الترمذي عن أبى قتادة. وفى مسند الدارمي عنه أن رجلا قال: يا رسول الله، إنى أريد أن أشتري فرسا [فأيها «4» أشترى ]؟ قال:" اشتر أدهم أرثم محجلا «5» طلق اليمين أو من الكميت على هذه الشية تغنم وتسلم. وروى النسائي عن أنس قال: لم يكن أحب إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد النساء من الخيل. وروى الأئمة عن أبى هريرة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:" الخيل ثلاثة لرجل أجر ولرجل ستر ولرجل وزر ... (الحديث بطوله، شهرته أغنت عن ذكره. وسيأتي ذكر أحكام الخيل في" الأنفال" «6» و" النحل" بما فيه كفاية إن شاء الله تعالى. السابعة- قوله تعالى (الْمُسَوَّمَةِ) يعني الراعية في المروج والمسارح، قاله سعيد ابن جبير. يقال: سامت الدابة والشاة إذا سرحت تسوم سوما فهي سائمة. وأسمتها أنا إذا تركتها لذلك فهي مسامة. وسومتها تسويما فهي مسومة. وفي سنن ابن ماجة عن على قال: نهى
__________
(1). الهجين الذي ولدته برذونة من حصان عربي.
(2). الأقرح: ما في جبهته قرحة، وهى بياض يسير في وجه الفرس دون الغرة. والأرثم، أبيض الأنف والشفة العليا. والمحجل: أن تكون قوائمه الأربع بيضا يبلغ منها ثلث الوظيف (مستدق الذراع والساق أو ما فوق الرسغ إلى الساق) أو نصفه أو ثلثيه بعد أن يتجاوز الأرساغ ولا يبلغ الركبتين والعرقوبين. وطلق اليمين: لا تحجيل فيها. والكميت: ما لونه بين السواد والحمرة. والشية: كل لون يخالف معظم لون الفرس وغيره.
(3). زيادة عن سنن الترمذي.
(4). زيادة عن مسند الدارمي.
(5). في مسند الدارمي والأصول:" محجل".
(6). راجع ج 8 ص 36 وج 10 ص 73

رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن السوم «1» قبل طلوع الشمس، وعن ذبح ذوات الدر) السوم هنا في معنى الرعي. وقال الله عز وجل" فِيهِ تُسِيمُونَ" «2» قال الأخطل:
مثل ابن بزعة «3» أو كآخر مثله ... أولى لك «4» ابن مسيمة الأجمال
أراد ابن راعية الإبل. والسوام: كل بهيمة ترعى، وقيل: المعدة للجهاد، قاله ابن زيد. مجاهد: المسومة المطهمة الحسان. وقال عكرمة: سومها الحسن، واختاره النحاس، من قولهم: رجل وسيم. وروي عن ابن عباس أنه قال: المسومة المعلمة بشيات الخيل في وجوهها، من السيما وهي العلامة. وهذا مذهب الكسائي وأبى عبيدة. قلت: كل ما ذكر يحتمله اللفظ، فتكون راعية معدة حسانا معلمة لتعرف من غيرها. قال أبو زيد: أصل ذلك أن تجعل عليها صوفة أو علامة تخالف سائر جسدها لتبين من غيرها في المرعى. وحكى ابن فارس اللغوي في مجمله: المسومة المرسلة وعليها ركبانها. وقال المؤرج «5»: المسومة المكوية. المبرد: المعروفة في البلدان. ابن كيسان: البلق. وكلها متقارب من السيما. قال النابغة:
وضمر كالقداح مسومات ... عليها معشر أشباه جن
الثامنة قوله تعالى: (وَالْأَنْعامِ) قال ابن كيسان: إذا قلت نعم لم تكن إلا للإبل، فإذا قلت أنعام وقعت للإبل وكل ما يرعى. قال الفراء: هو مذكر ولا يؤنث، يقولون
__________
(1). في حاشية السندي على سنن ابن ماجة واللسان (مادة سوم) عند الكلام عن هذا الحديث:" السوم: أن يساوم بسلعته" ونهى عن ذلك في ذلك لأنه وقت يذكر الله فيه فلا يشتغل بغيره. ويحتمل أن المراد بالسوم الرعي، لأنها إذا رعت الرعي قبل شروق الشمس وهو عليه ند أصابها منه داء قتلها، وذلك معروف عند أهل المال من العرب". [.....]
(2). راجع ج 10 ص 82.
(3). كذا في ديوانه. ورواية الأغاني (ج 8 ص 319 طبع دار الكتب المصرية):" كابن البزيعة ...". والذي في الأصول:" ظل ابن زرعة ...". ويعنى بابن بزعة: شداد بن المنذر أخا حصين الذهلي. وقوله" كآخر مثله" يعنى حوشب بن رويم.
(4). أولى لك: ويل لك، فهي كلمة تقال في مقام التهديد والوعيد. وقال الأصمعي: معناه قاربه ما يهلكه، أي نزل به.
(5). المورج (كمحدث): أبو فيد عمرو بن الحارث السدوسي النحوي البصري، أحد ائمة اللغة. والأدب

هذا نعم وارد، ويجمع أنعاما. قال الهروي: والنعم يذكر ويؤنث، والانعام المواشي من الإبل والبقر والغنم، إذا قيل: النعم فهو الإبل خاصة. وقال حسان:
وكانت لا يزال بها أنيس ... خلال مروجها نعم وشاء
وفي سنن ابن ماجة عن عروة البارقي يرفعه قال:" الإبل عز لأهلها والغنم بركة والخير معقود في نواصي الخيل إلى يوم القيامة". وفية عن ابن عمر قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" الشاة من دواب الجنة". وفية عن أبى هريرة قال: أمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأغنياء باتخاذ الغنم، والفقراء باتخاذ الدجاج. وقال: عند اتخاذ الأغنياء الدجاج يأذن الله تعالى بهلاك القرى. وفية عن أم هاني أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لها:" اتخذي غنما فان فيها بركة". أخرجه عن أبى بكر بن أبى شيبة عن وكيع عن هشام بن عروة عن أبيه عن أم هانئ، إسناد صحيح. التاسعة- قوله تعالى: (وَالْحَرْثِ) الحرث هنا اسم لكل ما يحرث، وهو مصدر سمي به، تقول: حرث الرجل حرثا إذا أثار الأرض لمعنى الفلاحة، فيقع اسم الحراثة على زرع الحبوب وعلى الجنات وعلى غير ذلك من نوع الفلاحة. وفى الحديث:" أحرث لدنياك كأنك تعيش أبدا". يقال حرثت واحترثت. وفى حديث عبد الله" احرثوا هذا القرآن" أي فتشوه. قال ابن الاعرابي: الحرث التفتيش، وفي الحديث:" أصدق الأسماء الحارث" لان الحارث هو الكاسب، واحتراث المال كسبه، والمحراث مسعر النار والحراث مجرى الوتر في القوس، والجمع احرثه، وأحرث الرجل ناقته أهزلها. وفى حديث معاوية: ما فعلت نواضحكم «1»؟ قالوا: حرثناها يوم بدر. قال أبو عبيد: يعنون هزلناها، يقال: حرثت الدابة وأحرثتها، لغتان. وفى صحيح البخاري عن أبي أمامة الباهلي قال وقد رأى سكة «2»
__________
(1). النواضح من الإبل التي يستقى عليها، واحدها ناصح. والخطاب للأنصار: وقد قعدوا عن تلقيه لما حج، وأراد معاوية بذكر نواضجهم تقريعا لهم وتعريضا، لأنهم كانوا أهل زرع وحرث وسقى، بما أسكته، فهم يريدون بقولهم" هزلناها يوم بدر" التعريض بقتل أشياخه يوم بدر. (النهاية).
(2). السكة (بكسر السين وتشديد الكاف المفتوحة): الحديدة التي تحرث بها الأرض.

وشيئا من آلة الحرث فقال سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول:" لا يدخل هذا بيت قوم إلا دخله الذل". قيل: إن الذل هنا ما يلزم أهل الشغل بالحرث من حقوق الأرض التي يطالبهم بها الأئمة والسلاطين. وقال المهلب: معنى قول في هذا الحديث والله أعلم الحض على معالى الأحوال وطلب الرزق من أشرف الصناعات، وذلك لما خشي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أمته من الاشتغال بالحرث وتضييع ركوب الخيل والجهاد في سبيل الله، لأنهم إن اشتغلوا بالحرث غلبتهم الأمم الراكبة للخيل المتعيشة من مكاسبها، فحضهم على التعيش من الجهاد لا من الخلود «1» إلى عمارة الأرض ولزوم المهنة. ألا ترى أن عمر قال: تمعددوا «2» واخشوشنوا واقطعوا «3» الركب وثبوا على الخيل وثبا لا تغلبنكم عليها رعاة الإبل. فأمرهم بملازمة الخيل، ورياضة أبدانهم بالوثوب عليها. وفي الصحيحين عن أنس بن مالك قال: قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" ما من مسلم غرس غرسا أو زرع زرعا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة". قال العلماء: ذكر الله تعالى أربعة أصناف من المال، كل نوع من المال يتمول به صنف من الناس، أما الذهب والفضة فيتمول بها التجار، وأما الخيل المسومة فيتمول بها الملوك، وأما الانعام فيتمول بها أهل البوادي، وأما الحرث فيتمول بها أهل الرساتيق «4». فتكون فتنة كل صنف في النوع الذي يتمول، فأما النساء والبنون ففتنة للجميع. العاشرة- قوله تعالى:" ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا" أي ما يتمتع به فيها ثم يذهب ولا يبقى. وهذا منه تزهيد في الدنيا وترغيب في الآخرة. روى ابن ماجة وغيره عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:" إنما الدنيا متاع وليس من متاع الدنيا شي أفضل من المرأة الصالحة". وفى الحديث:" ازهد في الدنيا يحبك الله" أي في متاعها من الجاه والمال الزائد على الضروري. قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" ليس لابن آدم حق في سوى هذه
__________
(1). اللغة الفصحى" من الإخلاد".
(2). يقال: تمعدد الغلام إذا شب وغلظ. وقيل: أراد تشبهوا بعيش معد بن عدنان وكانوا أهل غلظ وقشف، أي كونوا مثلهم ودعوا التنعم وزي العجم.
(3). في مسند الامام أحمد بن حنبل:" وألقوا الركب" جمع ركاب: هي الرواحل من الإبل، أو جمع ركوب وهى كل ما يركب من دابة.
(4). الرساتيق: السواد والقرى واحدها رستاق، وفى ز: البساتين.

قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15)

الخصال بيت يسكنه وثوب يواري عورته وجلف «1» الخبز والماء" أخرجه الترمذي من حديث المقدام بن معد يكرب. وسيل سهل بن عبد الله: بم يسهل على العبد ترك الدنيا وكل الشهوات؟ قال: بتشاغله بما أمر به. الحادية عشرة- قوله تعالى: (وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) ابتداء وخبر. والمآب المرجع، آب يؤوب إيابا إذا رجع، قال امرؤ القيس:
وقد طوفت في الآفاق حتى ... رضيت من الغنيمة بالإياب
وقال آخر:
وكل ذى غيبة يؤوب ... وغائب الموت لا يؤوب
وأصل مآب مأوب، قلبت حركة الواو إلى الهمزة وأبدل من الواو ألف، مثل مقال. ومعنى الآية تقليل الدنيا وتحقيرها والترغيب في حسن المرجع إلى الله تعالى في الآخرة.

[سورة آل عمران (3): آية 15]
قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (15)
منتهى الاستفهام عند قوله:" مِنْ ذلِكُمْ"،" لِلَّذِينَ اتَّقَوْا" خبر مقدم، و" جَنَّاتٌ" رفع بالابتداء. وقيل: منتهاه" عِنْدَ رَبِّهِمْ"، و" جَنَّاتٌ" على هذا رفع بابتداء مضمر تقديره ذلك جنات. ويجوز على هذا التأويل" جَنَّاتٌ" بالخفض بدلا من" بِخَيْرٍ" ولا يجوز ذلك على الأول. قال ابن عطية: وهذه الآية والتي قبلها نظير قوله عليه السلام:" تنكح المرأة لأربع لمالها وحسبها وجمالها ودينها فاظفر بذات الدين تربت «2» يداك" خرجه مسلم وغيره. فقوله" فاظفر بذات الدين" مثال لهذه الآية. وما قبل مثال للأولى. فذكر تعالى هذه تسلية عن الدنيا وتقوية لنفوس تاركيها. وقد تقدم في البقرة معاني «3» ألفاظ هذه الآية.
__________
(1). الجلف (بكسر فسكون): الخبز وحده لا أدم معه، وقيل: هو الخبر الغليظ اليابس.
(2). راجع هامشه 1 ص 29 من هذا الجزء.
(3). راجع ج 1 ص 238 فما بعد.

الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (17)

والرضوان مصدر من الرضا، وهو أنه إذا دخل أهل الجنة الجنة يقول الله تعالى لهم" تريدون شيئا أزيدكم"؟ فيقولون: يا ربنا وأى شي أفضل من هذا؟ فيقول:" رضاي فلا أسخط عليكم بعده أبدا" خرجه مسلم. وفى قوله تعالى:" وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ" وعد ووعيد.

[سورة آل عمران (3): الآيات 16 الى 17]
الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ (17)
" الَّذِينَ" بدل من قوله" لِلَّذِينَ اتَّقَوْا" وإن شئت كان رفعا أي هم الذين، أو نصبا على المدح. (رَبَّنا) أي يا ربنا. (إِنَّنا آمَنَّا) أي صدقنا. (فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا) دعاء بالمغفرة. (وَقِنا عَذابَ النَّارِ) تقدم في «1» البقرة. (الصَّابِرِينَ) يعنى عن المعاصي والشهوات، وقيل: على الطاعات. (وَالصَّادِقِينَ) أي في الافعال والأقوال (وَالْقانِتِينَ) الطائعين. (وَالْمُنْفِقِينَ) يعنى في سبيل الله. وقد تقدم في «2» البقرة هذه المعاني على الكمال. ففسر تعالى في هذه الآية أحوال المتقين الموعودين بالجنات. واختلف في معنى قوله تعالى:" وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ" فقال أنس بن مالك: هم السائلون المغفرة. قتادة: المصلون. قلت: ولا تناقض، فإنهم يصلون ويستغفرون. وخص السحر بالذكر لأنه مظان القبول ووقت إجابة الدعاء. قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في تفسير قوله تعالى مخبرا عن يعقوب عليه السلام لبنيه:" سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي" «3»:" إنه أخر ذلك إلى السحر" خرجه الترمذي وسيأتي. وسأل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جبريل" أي الليل أسمع"؟ فقال:" لا أدري غير أن العرش يهتز عند السحر". يقال سحر وسحر، بفتح الحاء وسكونها، وقال الزجاج: السحر من حين يدبر الليل إلى أن يطلع الفجر الثاني، وقال ابن زيد: السحر هو سدس الليل الأخر.
__________
(1). راجع المسألة الثانية ج 2 ص 433. [.....]
(2). راجع ج 1 ص 178، 179، 33 2، 371، وراجع المسألة الخامسة ج 3 ص 213.
(3). راجع ج 9 ص 262.

قلت: أصح من هذا ما روى الأئمة عن أبى هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:" ينزل الله عز وجل إلى سماء الدنيا كل ليلة حين يمضى ثلث الليل الأول فيقول أنا الملك أنا الملك من ذا الذي يدعوني فأستجيب له من ذا الذي يسألني فأعطيه من ذا الذي يستغفرني فاغفر له فلا يزال كذلك حتى يطلع الفجر" في رواية" حتى ينفجر الصبح" لفظ مسلم. وقد اختلف في تأويله، وأولى ما قيل فيه ما جاء في كتاب النسائي مفسرا عن أبى هريرة وأبي سعيد رضى الله عنهما قالا قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" إن الله عز وجل يمهل حتى يمضى شطر الليل الأول ثم يأمر مناديا فيقول هل من داع يستجاب له هل من مستغفر يغفر له هل من سائل يعطى". صححه أبو محمد عبد الحق، وهو يرفع الاشكال ويوضح كل احتمال، وأن الأول من باب حذف المضاف، أي ينزل ملك ربنا فيقول. وقد روى" ينزل" بضم الياء، وهو يبين ما ذكرنا، وبالله توفيقنا. وقد أتينا على ذكره في" الكتاب الأسنى؟ في شرح أسماء الله الحسنى وصفاته العلى". مسألة- الاستغفار مندوب إليه، وقد أثنى الله تعالى على المستغفرين في هذه الآية وغيرها فقال:" وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ" «1». وقال أنس بن مالك: أمرنا أن نستغفر بالسحر سبعين استغفاره. وقال سفيان الثوري: بلغني أنه إذا كان أول الليل نادى مناد ليقم القانتون فيقومون كذلك يصلون إلى السحر، فإذا كان عند السحر نادى مناد: أين المستغفرون «2» فيستغفر أولئك، ويقوم آخرون فيصلون فيلحقون بهم. فإذا طلع الفجر نادى مناد: ألا ليقم الغافلون فيقومون من فرشهم كالموتى نشروا من قبورهم. وروي عن أنس سمعت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول:" إن الله يقول إني لاهم بعذاب أهل الأرض فإذا نظرت إلى عمار بيوتي وإلى المتحابين في وإلى المتهجدين والمستغفرين بالأسحار صرفت عنهم العذاب بهم". قال مكحول: إذا كان في أمة خمسة عشر رجلا يستغفرون الله كل يوم خمسا وعشرين مرة لم يؤاخذ الله تلك الامة بعذاب العامة. ذكره أبو نعيم في كتاب الحلية له. وقال نافع: كان ابن عمر يحيى «3» الليل ثم
__________
(1). راجع ج 17 ص 37.
(2). في نسخ الأصول: المستغفرين، عدا: ح، فمنها التصويب.
(3). في ا: يقوم.

شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)

يقول: يا نافع أسحرنا؟ فأقول لا. فيعاود الصلاة ثم يسأل، فإذا قلت نعم فهو يستغفر. وروى إبراهيم بن حاطب عن أبيه قال: سمعت رجلا في السحر في ناحية المسجد يقول: يا رب، أمرتني فأطعتك، وهذا سحر فأغفر لي. فنظرت فإذا [هو] «1» ابن مسعود. قلت: فهذا كله يدل على أنه استغفار باللسان مع حضور القلب. لا ما قال ابن زيد أن المراد بالمستغفرين الذين يصلون صلاة الصبح في جماعة. والله أعلم. وقال لقمان لابنه: يا بنى لا يكن الديك أكيس منك، ينادى بالأسحار وأنت نائم". والمختار من لفظ الاستغفار ما رواه البخاري عن شداد بن أوس، وليس له في الجامع غيره، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:" سيد الاستغفار أن تقول اللهم أنت ربى لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك على وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت- قال- ومن قالها من النهار موقنا بها فمات من يومه قبل أن يمسي فهو من أهل الجنة ومن قالها من الليل وهو موقن بها فمات من ليله قبل أن يصبح فهو من أهل الجنة". وروى أبو محمد عبد الغنى بن سعيد من حديث ابن لهيعة عن أبى صخر عن أبى معاوية عن سعيد بن جبير عن أبى الصهباء البكري عن على بن أبى طالب رضى الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخذ بيد على بن أبي طالب رضى الله عنه ثم قال:" ألا أعلمك كلمات تقولهن لو كانت ذنوبك كمدب النمل- أو كمدب الذر- لغفرها الله لك على أنه مغفور لك: اللهم لا إله إلا أنت سبحانك عملت سوءا وظلمت نفسي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت".

[سورة آل عمران (3): آية 18]
شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)
فيه أربع مسائل الاولى- قال سعيد بن جبير: كان حول الكعبة ثلاثمائة وستون صنما، فلما نزلت هذه الآية خررن سجدا. وقال الكلبي: لما ظهر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمدينة قدم عليه
__________
(1). في نسخة: ز.

حبران من أحبار أهل الشام، فلما أبصرا المدينة قال أحدهما لصاحبه: ما أشبه هذه المدينة بصفة مدينة النبي الذي يخرج في آخر الزمان!. فلما دخلا على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عرفاه بالصفة والنعت، فقالا له: أنت محمد؟ قال (نعم). قالا: وأنت أحمد؟ قال: (نعم). قالا: نسألك عن شهادة، فإن أنت أخبرتنا بها آمنا بك وصدقناك. فقال لهما رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (سلاني). فقالا: أخبرنا عن أعظم «1» شهادة في كتاب الله. فأنزل الله تعالى على نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ" فأسلم الرجلان وصدقا برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقد قيل: إن المراد بأولى العلم الأنبياء عليهم السلام. وقال ابن كيسان: المهاجرون والأنصار. مقاتل: مؤمنوا أهل الكتاب. السدى والكلبي: المؤمنون كلهم، وهو الأظهر لأنه عام. الثانية- في هذه الآية دليل على فضل العلم وشرف العلماء وفضلهم، فإنه لو كان أحد أشرف من العلماء لقرنهم الله باسمه واسم ملائكته كما قرن اسم العلماء. وقال في شرف العلم لنبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً" «2» فلو كان شي أشرف من العلم لأمر الله تعالى نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يسأله المزيد منه كما أمر أن يستزيده من العلم. وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إن العلماء ورثة الأنبياء). وقال: (العلماء أمناء الله على خلقه). وهذا شرف للعلماء عظيم، ومحل لهم في الدين خطير. وخرج أبو محمد عبد الغني الحافظ من حديث بركة ابن نشيط- وهو عنكل بن حكارك وتفسيره بركة بن نشيط- وكان حافظا، حدثنا عمر ابن المؤمل حدثنا محمد بن أبى الخصيب حدثنا عنكل حدثنا محمد بن إسحاق حدثنا شريك عن أبى إسحاق عن البراء قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (العلماء ورثة الأنبياء يحبهم أهل السماء ويستغفر لهم الحيتان في البحر إذا ماتوا إلى يوم القيامة). وفى هذا الباب [حديث ] عن أبي الدرداء خرجه أبو داود. الثالثة- روى غالب القطان قال: أتيت الكوفة في تارة فنزلت قريبا من الأعمش فكنت اختلف إليه. فلما كان ليلة أردت أن أنحدر إلى البصرة قام فتهجد من الليل فقرأ بهذه الآية:" شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ"
__________
(1). في ا: الأعظم.
(2). راجع ج 11 ص 25.

قال الأعمش: وأنا أشهد بما شهد الله به، وأستودع الله هذه الشهادة، وهي لي [عند الله ] «1» وديعة، وأن الدين عند الله الإسلام- قالها مرارا- فغدوت إليه وودعته ثم قلت: إنى سمعتك تقرأ هذه الآية فما بلغك فيها؟ أنا عندك منذ سنة لم تحدثني به. قال: والله لا حدثتك به سنة. قال: فأقمت وكتبت على بابه ذلك اليوم، فلما مضت السنة قلت: يا أبا محمد قد مضت السنة. قال: حدثني أبو وائل، عن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يجاء بصاحبها يوم القيامة فيقول الله تعالى عبدى عهد إلى وأنا أحق من وفى أدخلوا عبدى الجنة (. قال أبو الفرج الجوزي: غالب القطان هو غالب بن خطاف القطان «2»، يروى عن الأعمش حديث (شَهِدَ اللَّهُ) وهو حديث معضل «3». قال ابن عدي الضعف على حديثه بين. وقال أحمد بن حنبل: غالب بن خطاف القطان ثقة ثقة. وقال ابن معين: ثقة. وقال أبو حاتم: صدوق صالح. قلت: يكفيك من عدالته وثقته أن خرج له البخاري ومسلم في كتابيهما، وحسبك. وروى من حديث أنس عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: (من قرأ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ عند منامه خلق الله له سبعين ألف ملك يستغفرون له إلى يوم القيامة (. ويقال من أقر بهذه الشهادة عن عقد من قلبه فقد قام بالعدل. وروى عن سعيد بن جبير أنه قال: كان حول الكعبة ثلاثمائة وستون صنما لكل حي من أحياء «4» العرب صنم أو صنمان. فلما نزلت هذه الآية أصبحت الأصنام قد خرت ساجدة لله. الرابعة- قوله تعالى:" شَهِدَ اللَّهُ" أي بين وأعلم، كما يقال: شهد فلان عند القاضي إذا بين وأعلم لمن الحق، أو على من هو. قال الزجاج: الشاهد هو الذي يعلم الشيء ويبينه، فقد دلنا الله تعالى على وحدانيته بما خلق وبين. وقال أبو عبيدة:" شَهِدَ اللَّهُ" بمعنى قضى الله، أي أعلم. وقال ابن عطية: وهذا مردود من جهات. وقرا الكسائي بفتح" أن" في قوله
__________
(1). الزيادة في نسخ ب، ز، ج.
(2). بضم الخاء، وقيل بفتحها.
(3). المعضل: ما سقط من إسناده اثنان فصاعدا.
(4). في أ.

إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19)

" أنه لا إله إلا هو" وقوله" أن الدين". قال المبرد: التقدير: أن الدين عند الله الإسلام بأنه لا إله إلا هو، ثم حذفت الباء كما قال: أمرتك الخير. أي بالخير. قال الكسائي: أنصبهما جميعا، بمعنى شهد الله أنه كذا، وأن الدين عند الله. قال ابن كيسان:" أن" الثانية بدل من الاولى، لان الإسلام تفسير المعنى الذي هو التوحيد. وقرا ابن عباس فيما حكى الكسائي" شهد الله إنه" بالكسر" أن الدين" بالفتح. والتقدير: شهد الله أن الدين الإسلام، ثم ابتدأ فقال: إنه لا إله إلا هو. وقرا أبو المهلب وكان قارئا- شهداء الله بالنصب على الحال، وعنه" شَهِدَ اللَّهُ". وروى شعبة عن عاصم عن زر عن أبي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان يقرأ «1»" أن الدين عند الله الحنيفية «2» لا اليهودية ولا النصرانية ولا المجوسية". قال أبو بكر الأنباري: ولا يخفى على ذي تمييز أن هذا الكلام من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على جهة التفسير، أدخله بعض من نقل الحديث في القرآن. و" قائِماً" نصب على الحال المؤكدة من اسمه تعالى في قوله" شَهِدَ اللَّهُ" أو من قوله" إِلَّا هُوَ". وقال الفراء: هو نصب على القطع، كان أصله القائم، فلما قطعت الالف واللام نصب كقوله:" وَلَهُ الدِّينُ واصِباً" «3». وفي قراءة عبد الله" القائم بالقسط" على النعت، والقسط العدل. (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) كرر لان الاولى حلت محل الدعوى، والشهادة الثانية حلت محل الحكم. وقال جعفر الصادق: الاولى وصف وتوحيد، والثانية رسم وتعليم، يعني قولوا لا إله إلا الله العزيز الحكيم.

[سورة آل عمران (3): آية 19]
إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (19)
قوله تعالى: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ) الدين في هذه الآية الطاعة والملة، والإسلام بمعنى الايمان والطاعات، قال أبو العالية، وعليه جمهور المتكلمين. والأصل في مسمى الايمان
__________
(1). في ح: يقول.
(2). في ح: للحنيفية. [.....]
(3). راجع ج 10 ص 114.

والإسلام التغاير، لحديث جبريل «1». وقد يكون بمعنى المرادفة. فيسمى كل واحد منهما باسم الأخر، كما في حديث وفد عبد القيس «2» وأنه أمرهم بالايمان [بالله ] «3» وحده وقال: (هل تدرون ما الايمان)؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: (شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وأن تؤدوا خمسا من المغنم) الحديث. وكذلك قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الايمان بضع وسبعون بابا فأدناها إماطة الأذى وأرفعها قول لا إله إلا الله) أخرجه الترمذي. وزاد مسلم (والحياء شعبة من الايمان). ويكون أيضا بمعنى التداخل وهو أن يطلق أحدهما ويراد به مسماه في الأصل ومسمى الآخر، كما في هذه الآية إذ قد دخل فيها التصديق والأعمال، ومنه قول عليه السلام: (الايمان معرفة بالقلب وقول باللسان وعمل بالأركان). أخرجه ابن ماجة، وقد تقدم. والحقيقة هو الأول وضعا وشرعا، وما عداه من باب التوسع والله أعلم. قوله تعالى: (وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) الآية. أخبر تعالى عن اختلاف أهل الكتاب أنه كان على علم منهم بالحقائق، وأنه كان بغيا وطلبا للدنيا. قال ابن عمر وغيره. وفى الكلام تقديم وتأخير، والمعنى: وما اختلف الذين أوتوا الكتاب بغيا بينهم إلا من بعد ما جاءهم العلم، قاله الأخفش. قال محمد بن جعفر بن الزبير: المراد بهذه الآية النصارى، وهي توبيخ لنصارى نجران. وقال الربيع بن أنس: المراد بها اليهود. ولفظ الذين أوتوا الكتاب يعم اليهود والنصارى، أي" وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ" يعني في نبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ" يعني بيان صفته ونبوته في كتبهم. وقيل:؟ أي وما اختلف الذين أوتوا الإنجيل «4» في أمر عيسى وفرقوا فيه القول إلا من بعد ما جاءهم العلم بأن الله إله واحد، وأن عيسى عبد الله ورسوله. و" بَغْياً" نصب على المفعول من أجله، أو على الحال من (الَّذِينَ). والله تعالى أعلم.
__________
(1). راجع هذا الحديث في صحيحي البخاري ومسلم في كتاب الايمان الجزء الأول.
(2). هو عبد القيس بن أقصى بن دعمي، أبو قبيلة، كانوا ينزلون البحرين وكان قدومهم عام الفتح وعلى رأسهم عبد الله بن عوف الأشجع. (راجع كتاب الطبقات الكبير ج أقسم ثان ص 54 طبع أوربا، وشرح القسطلاني ج 1 ص 193 طبع بولاق).
(3). في ب، وز، وا، ود.
(4). في أ، ود: الكتاب.

فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20)

[سورة آل عمران (3): آية 20]
فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (20)
قوله تعالى: (فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ) أي جادلوك بالأقاويل المزورة والمغالطات، فأسند أمرك إلى ما كلفت من الايمان والتبليغ وعلى الله نصرك. وقوله" وَجْهِيَ" بمعنى ذاتي، ومنه الحديث (سجد وجهى للذي خلقه وصوره). وقيل: الوجه هنا بمعنى القصد، كما تقول: خرج فلان في وجه كذا. وقد تقدم هذا المعنى في البقرة مستوفى «1»، والأول أولى. وعبر بالوجه عن سائر الذات إذ هو أشرف أعضاء الشخص وأجمعها للحواس. وقال:
أسلمت وجهي لمن أسلمت ... له المزن تحمل عذبا زلالا
وقد قال حذاق المتكلمين في قوله تعالى:" وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ" «2»: إنها عبارة عن الذات وقيل: العمل الذي يقصد به وجهه. وقوله:" وَمَنِ اتَّبَعَنِ"" مَنِ" في محل رفع عطفا على التاء في قوله" أَسْلَمْتُ" أي ومن اتبعن أسلم أيضا، وجاز العطف على الضمير المرفوع من غير تأكيد للفصل بينهما. وأثبت نافع وأبا عمرو ويعقوب ياء" اتَّبَعَنِ" على الأصل، وحذف الآخرون اتباعا للمصحف إذ وقعت فيه بغير ياء. وقال الشاعر:
ليس تخفى يسارتى قدر يوم ... ولقد تخف شيمتي إعسارى
قوله تعالى: (وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) يعنى اليهود والنصارى" وَالْأُمِّيِّينَ" الذين لا كتاب لهم وهم مشركو العرب." أَأَسْلَمْتُمْ" استفهام معناه التقرير وفي ضمنه الامر، أي أسلموا، كذا قال الطبري وغيره. وقال الزجاج:" أَأَسْلَمْتُمْ" تهديد. وهذا حسن لان المعنى أأسلمتم أم لا. وجاءت العبارة في قوله" فَقَدِ اهْتَدَوْا" بالماضي مبالغة في الاخبار بوقوع الهدى لهم
__________
(1). راجع ج 2 ص 75.
(2). راجع ج 17 ص 165.

إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (22)

وتحصيله. و" الْبَلاغُ" مصدر بلغ بتخفيف عين الفعل، أي إنما عليك أن تبلغ. وقيل: إنه مما نسخ بالجهاد. وقال ابن عطية: وهذا يحتاج إلى معرفة تاريخ نزولها، وأما على ظاهر نزول هذه الآيات في وفد نجران فإنما المعنى فإنما عليك أن تبلغ ما أنزل إليك بما فيه من قتال وغيره.

[سورة آل عمران (3): الآيات 21 الى 22]
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (21) أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (22)
فيه ست مسائل الاولى- قوله تعالى:" إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ" قال أبو العباس المبرد: كان ناس من بني إسرائيل جاءهم النبيون يدعونهم إلى الله عز وجل فقتلوهم، فقام أناس من بعدهم من المؤمنين فأمروهم «1» بالإسلام فقتلوهم، ففيهم نزلت هذه الآية. وكذلك قال معقل بن أبي مسكين: كانت الأنبياء صلوات الله عليهم تجئ إلى بنى إسرائيل بغير كتاب فيقتلونهم، فيقوم قوم ممن اتبعهم فيأمرون بالقسط، أي بالعدل، فيقتلون. وقد روى عن ابن مسعود قال قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (بئس القوم قوم يقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس، بئس القوم قوم لا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر، بئس القوم قوم يمشى المؤمن بينهم بالتقية" وروى أبو عبيدة بن الجراح أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيا من أول النهار في ساعة واحدة فقام مائة رجل واثنا عشر رجلا من عباد بني إسرائيل فأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر فقتلوا جميعا في آخر النهار من ذلك اليوم وهو الذين ذكرهم الله في هذه الآية (. ذكره المهدوي وغيره. وروى شعبة عن أبي إسحاق عن أبي عبيدة عن عبد الله قال: كانت بنو إسرائيل تقتل في اليوم سبعين نبيا ثم تقوم سوق بقلهم من آخر.
__________
(1). في ز: يأمرونهم.

النهار. فإن قال قائل: الذين وعظوا بهذا لم يقتلوا نبيا. فالجواب عن هذا أنهم رضوا فعل من قتل فكانوا بمنزلته، وأيضا فإنهم قاتلوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه وهموا بقتلهم، قال الله عز وجل:" وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ" «1»: الثانية- دلت هذه الآية على أن الامر بالمعروف والنهى عن المنكر كان واجبا في الأمم المتقدمة، وهو فائدة الرسالة وخلافة النبوة. قال الحسن قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (من أمر بالمعروف أو نهى عن المنكر فهو خليفة الله في أرضه وخليفة رسوله وخليفة كتابه). وعن درة بنت أبى لهب قالت: جاء رجل إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو على المنبر فقال: من خير الناس يا رسول الله؟ قال: (آمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر وأتقاهم لله وأوصلهم لرحمه). وفي التنزيل:" الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ" ثم قال:" وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ" «2». فجعل تعالى الامر بالمعروف والنهي عن المنكر فرقا بين المؤمنين والمنافقين، فدل على أن أخص أوصاف المؤمن الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، ورأسها الدعاء إلى الإسلام والقتال عليه. ثم إن الامر بالمعروف لا يليق بكل أحد، وإنما يقوم به السلطان إذ كانت إقامة الحدود إليه، والتعزيز إلى رأيه، والحبس والإطلاق له، والنفي والتغريب، فينصب في كل بلدة رجلا صالحا قويا عالما أمينا ويأمره بذلك، ويمضي الحدود على وجهها من غير زيادة. قال الله تعالى:" الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ" «3». الثالثة- وليس من شرط الناهي أن يكون عدلا عند أهل السنة، خلافا للمبتدعة حيث تقول: لا يغيره إلا عدل. وهذا ساقط، فإن العدالة محصورة في القليل من الخلق، والامر بالمعروف والنهي عن المنكر عام في جميع الناس. فإن تشبثوا بقوله تعالى:" أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ" «4» وقوله:" كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ" «5» ونحوه، قيل لهم: إنما وقع الذم ها هنا على ارتكاب ما نهي عنه لا على نهيه عن المنكر. ولا شك
__________
(1). راجع ج 7 ص 397.
(2). راجع ج 8 ص 199 وص 202.
(3). راجع ج 12 ص 72.
(4). راجع ج 1 ص 364.
(5). ج 18 ص 81.

في أن النهي عنه ممن يأتيه أقبح ممن لا يأتيه، ولذلك يدور في جهنم كما يدور الحمار بالرحى، كما بيناه في البقرة عند قوله تعالى:" أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ" «1». الرابعة- أجمع المسلمون فيما ذكر ابن عبد البر أن المنكر واجب تغييره على كل من قدر عليه، وأنه إذا لم يلحقه بتغييره إلا اللوم الذي لا يتعدى إلى الأذى فإن ذلك لا يجب أن يمنعه من تغييره، فإن لم يقدر فبلسانه، فإن لم يقدر فيقلبه ليس عليه أكثر من ذلك. وإذا أنكر بقلبه فقد أدى ما عليه إذا لم يستطع سوى ذلك. قال: والأحاديث عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في تأكيد الامر بالمعروف والنهى عن المنكر كثيرة جدا ولكنها مقيدة بالاستطاعة. قال الحسن: إنما يكلم مؤمن يرجى أو جاهل يعلم، فأما من وضع سيفه أو سوطه فقال: اتقني اتقني فما لك وله. وقال ابن مسعود: بحسب المرء إذا رأى منكرا لا يستطيع تغييره أن يعلم الله من قلبه أنه له كاره. وروى ابن لهيعة عن الأعرج عن أبي هريرة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لا يحل لمؤمن أن يذل نفسه). قالوا: يا رسول الله وما إذلاله نفسه؟ قال: (يتعرض من البلاء لما لا يقوم له). قلت: وخرجه ابن ماجة عن علي بن زيد بن جدعان عن الحسن بن جندب عن حذيفة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكلاهما قد تكلم فيه. وروي عن بعض الصحابة أنه قال: إن الرجل إذا رأى منكرا لا يستطيع النكير عليه فليقل ثلاث مرات" اللهم إن هذا منكر" فإذا قال ذلك فقد فعل ما عليه، وزعم ابن العربي أن من رجا زواله وخاف على نفسه من تغييره الضرب أو القتل جاز له عند أكثر العلماء الاقتحام عند هذا الغرر «2»، وإن لم يرج زواله فأي فائدة عنده. قال: والذي عندي أن النية إذا خلصت فليقتحم كيف ما كان ولا يبالي. قلت: هذا خلاف ما ذكره أبو عمر من الإجماع. وهذه الآية تدل على جواز الامر بالمعروف والنهي عن المنكر مع خوف القتل. وقال تعالى:" وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ" «3». وهذا إشارة إلى الاذاية.
__________
(1). راجع ج 1 ص 265. [.....]
(2). الغرر: الخطر. المصباح.
(3). راجع ج 14 ص 68.

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)

الخامسة- روى الأئمة عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: (من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الايمان). قال العلماء: الامر بالمعروف باليد على الأمراء، وباللسان على العلماء، وبالقلب على الضعفاء، يعني عوام الناس. فالمنكر إذا أمكنت إزالته باللسان للناهي فليفعله، وإن لم يمكنه إلا بالعقوبة أو بالقتل فليفعل، فإن زال بدون القتل لم يجز القتل، وهذا تلقي من قول الله تعالى:" فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِي ءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ" «1». وعليه بنى العلماء أنه إذا دفع الصائل «2» على النفس أو على المال عن نفسه أو عن ماله أو نفس غيره فله ذلك ولا شي عليه. ولو رأى زيد عمرا وقد قصد مال بكر فيجب عليه أن يدفعه عنه إذا لم يكن صاحب المال قادرا عليه ولا راضيا به، حتى لقد قال العلماء: لو فرضنا «3» [قودا]. وقيل: كل بلدة يكون فيها أربعة فأهلها معصومون من البلاء: إمام عادل لا يظلم، وعالم على سبيل الهدى، ومشايخ يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويحرضون على طلب العلم والقرآن، ونساؤهم مستورات لا يتبرجن تبرج الجاهلية الاولى. السادسة- روى أنس بن مالك قال: قيل يا رسول الله، متى نترك الامر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ قال: (إذا ظهر فيكم ما ظهر في الأمم قبلكم). قلنا: يا رسول الله وما ظهر في الأمم قبلنا؟ قال: (الملك في صغاركم والفاحشة في كباركم والعلم في رذالتكم). قال زيد: تفسير معنى قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (والعلم في رذالتكم) إذا كان العلم في الفساق. خرجه ابن ماجة. وسيأتي لهذا الباب مزيد بيان في" المائدة" «4» وغيرها إن شاء الله تعالى. وتقدم معنى" فَبَشِّرْهُمْ" و" حَبِطَتْ" في البقرة «5» فلا معنى للإعادة.

[سورة آل عمران (3): آية 23]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)
__________
(1). راجع ج 16 ص 319.
(2). في ذ: القاتل.
(3). بياض في أكثر الأصول. الزيادة من دوب: يعنى: لو فرضنا أن دفع الجاني أدى موته فأخذ فيه بالقود فلا عليه لأنه ناج عند الله. والله أعلم.
(4). راجع ج 6 ص 253.
(5). راجع ج 1 ص 238 وج 3 ص 48.

فيه ثلاث مسائل الاولى- قال ابن عباس: هذه الآية نزلت بسبب أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دخل بيت المدراس على جماعة من يهود فدعاهم إلى الله. فقال له نعيم بن عمرو والحارث بن زيد: على أي دين أنت يا محمد؟ فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إني على ملة إبراهيم). فقالا: فإن إبراهيم كان يهوديا. فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (فهلموا إلى التوراة فهي بيننا وبينكم). فأبيا عليه فنزلت الآية. وذكر النقاش أنها نزلت لان جماعة من اليهود أنكروا نبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال لهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (هلموا إلى التوراة ففيها صفتي) فأبوا. وقرا الجمهور" لِيَحْكُمَ" وقرا أبو جعفر يزيد بن القعقاع" ليحكم" بضم الياء. والقراءة الاولى أحسن، لقوله تعالى:" هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ". الثانية- في هذه الآية دليل على وجوب ارتفاع المدعو إلى الحاكم لأنه دعي إلى كتاب الله، فإن لم يفعل كان مخالفا يتعين عليه الزجر بالأدب على قدر المخالف والمخالف. وهذا الحكم جار عندنا بالأندلس وبلاد المغرب وليس بالديار المصرية. وهذا الحكم الذي ذكرناه مبين في التنزيل في سورة" النور" في قوله تعالى:" وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ"- إلى قوله-" بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ" «1». وأسند الزهري عن الحسن أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (من دعاه خصمه إلى حاكم من حكام المسلمين فلم يجب فهو ظالم ولا حق له). قال ابن العربي: وهذا حديث باطل. أما قوله" فهو ظالم" فكلام صحيح. وأما قوله" فلا حق له" فلا يصح، ويحتمل أن يريد أنه على غير الحق. قال ابن خويز منداد المالكي: واجب على كل من دعي إلى مجلس الحاكم أن يحيب ما لم يعلم أن الحاكم فاسق، أو يعلم عداوة «2» من المدعى والمدعى عليه. الثالثة- وفيها دليل على أن شرائع من قبلنا شريعة لنا إلا ما علمنا نسخه، وأنه يجب علينا الحكم بشرائع الأنبياء قبلنا، على ما يأتي بيانه. وإنما لا نقرأ التوراة ولا نعمل
__________
(1). راجع ج 12 ص 293 فيما بعد.
(2). في الأصول: عداوة بين المدعى والمدعى عليه، والتصويب من ز.

ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24)

بما فيها لان من هي في يده غير أمين عليها وقد غيرها وبدلها، ولو علمنا أن شيئا منها لم يتغير ولم يتبدل جاز لنا قراءته. ونحو ذلك روي عن عمر حيث قال لكعب: إن كنت تعلم أنها التوراة التي أنزلها الله على موسى بن عمران فاقرأها. وكان عليه السلام عالما بما لم يغير منها فلذلك دعاهم إليها وإلى الحكم بها. وسيأتي بيان هذا في" المائدة" «1» والاخبار الواردة في ذلك إن شاء الله تعالى. وقد قيل: إن هذه الآية نزلت في ذلك. والله أعلم.

[سورة آل عمران (3): آية 24]
ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (24)
إشارة إلى التولي والاعراض، واغترار منهم في قولهم:" نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ" «2» إلى غير ذلك من أقوالهم. وقد مضى الكلام في معنى قولهم:" لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ" في البقرة «3».

[سورة آل عمران (3): آية 25]
فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (25)
خطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأمته على جهة التوقيف والتعجب، أي فكيف يكون حالهم أو كيف يصنعون إذا حشروا يوم القيامة واضمحلت عنهم تلك الزخارف التي ادعوها في الدنيا، وجوزوا بما اكتسبوه من كفرهم واجترائهم «4» وقبيح أعمالهم. واللام في قوله" لِيَوْمٍ" بمعنى" في"، قاله الكسائي، وقال البصريون: المعنى لحساب يوم، الطبري: لما يحدث في يوم.

[سورة آل عمران (3): آية 26]
قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)
__________
(1). راجع ج 6 ص 212.
(2). راجع ج 6 ص 120.
(3). راجع ج 2 ص 10.
(4). في د: اجترمهم.

قال علي رضي الله عنه قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لما أراد الله تعالى أن ينزل فاتحة الكتاب وآية الكرسي وشَهِدَ اللَّهُ وقُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ إلى قوله بِغَيْرِ حِسابٍ تعلقن بالعرش وليس بينهن وبين الله حجاب وقلن يا رب تهبط بنا دار الذنوب وإلى من يعصيك فقال الله تعالى وعزتي وجلالي لا يقرأكن عبد عقب كل صلاة مكتوبة إلا أسكنته حظيرة القدس على ما كان منه، وإلا نظرت إليه بعيني المكنونة في كل يوم سبعين نظرة، وإلا قضيت له في كل يوم سبعين حاجة أدناها المغفرة، وإلا أعدته من كل عدو ونصرته عليه ولا يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت (. وقال معاذ بن جبل: احتبست عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوما فلم أصل معه الجمعة فقال:) يا معاذ ما منعك من صلاة الجمعة (؟ قلت: يا رسول الله، كان ليوحنا بن بارئا اليهودي على أوقية من تبر وكان على بابي يرصدني فأشفقت أن يحبسني دونك. قال: (أتحب يا معاذ أن يقضى الله دينك)؟ قلت نعم. قال: (قل كل يوم قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ- إلى قوله- بِغَيْرِ حِسابٍ رحمان الدنيا والآخرة ورحيمهما تعطي منهما من تشاء وتمنع منهما من تشاء اقض عني ديني فلو كان عليك ملء الأرض ذهبا لأداه الله عنك (. خرجه أبو نعيم الحافظ، أيضا عن عطاء الخراساني أن معاذ بن جبل قال: علمني رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آيات من القرآن- أو كلمات- ما في الأرض مسلم يدعو بهن وهو مكروب أو غارم أو ذو دين إلا قضى الله عنه وفرج همه، احتبست عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فذكره. غريب من حديث عطاء أرسله عن معاذ. وقال ابن عباس وأنس بن مالك: لما. افتتح رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مكة ووعد أمته ملك فارس والروم قال المنافقون واليهود: هيهات هيهات! من أين لمحمد ملك فارس والروم! هم أعز وأمنع من ذلك، ألم يكف محمدا مكة والمدينة حتى طمع في ملك فارس والروم، فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقيل: نزلت دامغة لباطل نصارى أهل نجران في قولهم: إن عيسى هو الله، وذلك أن هذه الأوصاف تبين لكل صحيح الفطرة أن عيسى ليس في شي منها. قال ابن إسحاق: أعلم الله عز وجل في هذه الآية بعنادهم وكفرهم، وإن عيسى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإن كان الله تعالى

أعطاه آيات تدل على نبوته من إحياء الموتى وغير ذلك فإن الله عز وجل هو المنفرد بهذه الأشياء، من قوله:" تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ". وقوله:" تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ" فلو كان عيسى إلها كان هذا إليه، فكان في ذلك اعتبار وآية بينة «1». قوله تعالى:" قُلِ اللَّهُمَّ" اختلف النحويون في تركيب لفظة" اللَّهُمَّ" بعد إجماعهم أنها مضمومة الهاء مشددة الميم المفتوحة، وأنها منادى، وقد جاءت مخففة الميم في قول الأعشى:
كدعوة من أبي رباح ... يسمعها اللهم «2» الكبار
قال الخليل وسيبويه وجميع البصريين: إن أصل اللهم يا الله، فلما استعملت الكلمة دون حرف النداء الذي هو" يا" جعلوا بدله هذه الميم المشددة، فجاءوا بحرفين وهما الميمان عوضا من حرفين وهما الياء والألف، والضمة في الهاء هي ضمة الاسم المنادى المفرد. وذهب الفراء والكوفيون إلى أن الأصل في اللهم يا الله أمنا بخير، فحذف وخلط الكلمتين، وإن الضمة التي في الهاء هي الضمة التي كانت في أمنا لما حذفت الهمزة انتقلت الحركة. قال النحاس: هذا عند البصريين من الخطإ العظيم، والقول في هذا ما قال الخليل وسيبويه. قال الزجاج: محال أن يترك الضم الذي هو دليل على النداء المفرد، وأن يجعل في اسم الله ضمه أم، هذا إلحاد في اسم الله تعالى. قال ابن عطية: وهذا غلو من الزجاج، وزعم أنه ما سمع قط يا الله أم، ولا تقول العرب يا اللهم. وقال الكوفيون: إنه قد يدخل حرف النداء على" اللهم" وأنشدوا على ذلك قول الراجز:
غفرت أو عذبت يا اللهما

أخر:
وما عليك أن تقولي كلما ... سبحت أو هللت يا اللهم ما «3»
اردد علينا شيخنا مسلّما ... فإننا من خيره لن نعدما
__________
(1). في ب ود: اعتبارا به بينة. [.....]
(2). هكذا نسخ الأصل ومعاني القرآن للفراء، وفى اللسان: لاهم الكبار، بتخفيف الميم.
(3). في اللسان: يا اللهما، وما في الأصول ومعاني القرآن ج 1 ص 203 والخزانة ج 1 ص 358 هو ما أثبتناه.

آخر:
إني إذا ما حدث ألما ... أقول يا اللهم يا اللهما
قالوا: فلو كان الميم عوضا من حرف النداء لما اجتمعا. قال الزجاج: وهذا شاذ ولا يعرف قائله، ولا يترك له ما كان في كتاب الله وفي جميع ديوان العرب، وقد ورد مثله في قوله «1»:
هما نفثا في فيّ من فمويهما ... ما على النابح العاوي أشد رجام
قال الكوفيون: وإنما تزاد الميم مخففة في فم وابنم، وأما ميم مشددة فلا تزاد. وقال بعض النحويين: ما قاله الكوفيون خطأ، لأنه لو كان كما قالوا كان يجب أن يقال:" اللهم" ويقتصر عليه لأنه معه دعاء. وأيضا فقد تقول: أنت اللهم الرزاق. فلو كان كما ادعوا لكنت قد فصلت بجملتين بين الابتداء والخبر. قال النضر بن شميل: من قال اللهم فقد دعا الله تعالى بجميع أسمائه كلها. وقال الحسن: اللهم تجمع الدعاء. قوله تعالى: (مالِكَ الْمُلْكِ) قال قتادة: بلغني أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سأل الله عز وجل أن يعطي أمته ملك فارس فأنزل الله هذه الآية. وقال مقاتل: سأل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يجعل الله له ملك فارس والروم في أمته، فعلمه الله تعالى بأن يدعو بهذا الدعاء. وقد تقدم معناه. و" مالِكَ" منصوب عند سيبويه على أنه نداء ثان، ومثله قوله تعالى:" قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ" «2» ولا يجوز عنده أن يوصف اللهم لأنه قد ضمت إليه الميم. وخالفه محمد بن يزيد وإبراهيم بن السري «3» الزجاج فقالا:" مالِكَ" في الاعراب صفة لاسم الله تعالى، وكذلك" فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ
". قال أبو علي، هو مذهب
__________
(1). القائل هو الفرزدق. وصف شاعرين من قومه نزع في الشعر إليها. وأراد بالنابح العاوي من هجاه، وجعل الهجاء كالمراجمة لجعله المهاجى كالكلب النابح، والرجام المراجمة. كذا عن شرح الشواهد. والرجام الحجارة.
(2). راجع ج 15 ص 265.
(3). في الأصول، والزجاج بالواو وليس بشيء. لان الزجاج هو إبراهيم بن السرى بن سهل أبو إسحاق الزجاج.

أبي العباس المبرد، وما قاله سيبويه أصوب وأبين، وذلك أنه ليس في الأسماء الموصوفة شي على حد" اللهم" لأنه اسم مفرد ضم إليه صوت، والأصوات لا توصف، نحو غاق وما أشبهه. وكان حكم الاسم المفرد ألا يوصف وإن كانوا قد وصفوه في مواضع. فلما ضم هنا ما لا يوصف إلى ما كان قياسه ألا يوصف صار بمنزلة صوت ضم إلى صوت، نحو حيهل فلم يوصف. و" الْمُلْكِ" هنا النبوة، عن مجاهد. وقيل، الغلبة. وقيل: المال والعبيد. الزجاج: المعنى مالك العباد وما ملكوا. وقيل: المعنى مالك الدنيا والآخرة. ومعنى (تُؤْتِي الْمُلْكَ) أي «1» أي الايمان والإسلام. (مَنْ تَشاءُ) أي من تشاء أن تؤتيه إياه، وكذلك ما بعده، ولا بد فيه من تقدير الحذف، أي وتنزع الملك ممن تشاء أن تنزعه منه، ثم حذف هذا، وأنشد سيبويه:
ألا هل لهذا الدهر من متعلل ... على الناس مهما شاء بالناس يفعل «2»
قال الزجاج: مهما شاء أن يفعل بالناس يفعل. وقوله: (تُعِزُّ مَنْ تَشاءُ) يقال: عز إذا علا وقهر وغلب، ومنه،" وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ" «3»." (وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ)" ذل يذل ذلا [إذا غلب وعلا وقهر «4»]. قال طرفة:
بطيء عن الجلى سريع إلى الخنا ... ذليل بإجماع الرجال ملهد «5»
(بِيَدِكَ الْخَيْرُ) أي بيدك الخير والشر فحذف، كما قال:" سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ" «6». وقيل: خص الخير لأنه موضع دعاء ورغبة في فضله. قال النقاش: بيدك الخير، أي النصر والغنيمة. وقال أهل الإشارات: كان أبو جهل يملك المال الكثير، ووقع في الرس «7» يوم بدر، والفقراء صهيب وبلال وخباب لم يكن لهم مال، وكان ملكهم الايمان،" قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ" تقيم الرسول يتيم أبي طالب على رأس الرس حتى ينادي أبدانا قد انقلبت
__________
(1). في ز: توتى الايمان.
(2). البيت للأسود بن يعفر النهشلي. يقول: إن هذا الدهر يذهب ببهجة الإنسان وشبابه، ويتعلل في فعله ذلك تعلل المتجني على غيره (عن شرح الشواهد).
(3). راجع ج 15 ص 174.
(4). من ب ود.
(5). الجلى: الامر العظيم الذي يدعى له ذوو الرأى. والخنى: الفساد والفحش في المنطق. والذليل: المقصور، وهو ضد العزيز وأجماع. جمع جمع، وهو ظهر الكف إذا جمعت أصابعك. وضممتها. والملهد: المضروب، وهو المدفع. (عن شرح المعلقات).
(6). راجع ج 10 ص 160.
(7). الرس: البئر المطوية بالحجارة

تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27)

إلى القليب: يا عتبة، يا شيبة تعز من تشاء وتذل من تشاء. أي «1» صهيب، أي بلال، لا تعتقدوا أنا منعناكم من «2» الدنيا ببغضكم. بيدك الخير ما منعكم من عجز" إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" إنعام الحق عام يتولى من يشاء.

[سورة آل عمران (3): آية 27]
تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (27)
قال ابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة والسدي في معنى قوله" تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ" الآية، أي تدخل ما نقص من أحدهما في الأخر، حتى يصير النهار خمس عشرة ساعة وهو أطول ما يكون، والليل تسع ساعات وهو أقصر ما يكون. وكذا (تُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) وهو قول الكلبي، وروي عن ابن مسعود. وتحتمل ألفاظ الآية أن يدخل فيها تعاقب الليل والنهار، كأن زوال أحدهما ولوج في الأخر. واختلف المفسرون في معنى قوله تعالى: (وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) فقال الحسن: معناه تخرج المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن، وروى نحوه عن سلمان الفارسي. وروى معمر عن الزهري أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دخل على نسائه فإذا بامرأة حسنة الهيئة قال: (من هذه)؟ قلن إحدى خالاتك. قال: (ومن هي)؟ قلن: هي خالدة بنت الأسود بن عبد يغوث. فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (سبحان الذي يخرج الحي من الميت). وكانت امرأة صالحة وكان أبوها كافرا. فالمراد على هذا القول موت قلب الكافر وحياة قلب المؤمن، فالموت والحياة مستعاران «3». وذهب كثير من العلماء إلى أن الحياة والموت في الآية حقيقتان، فقال كرمة: هي إخراج الدجاجة وهي حية من البيضة وهي ميتة، وإخراج البيضة وهي ميتة من الدجاجة وهي حية. وقال ابن مسعود: هي النطفة تخرج من الرجل وهي ميتة وهو حي، ويخرج الرجل منها حيا وهي ميتة. وقال عكرمة والسدي: هي الحبة تخرج من السنبلة والسنبلة تخرج من الحبة، والنواة من النخلة والنخلة
__________
(1). في ز: صهيبا وبلالا.
(2). في ز: صنعناكم الدنيا، وفى د: إنما منعناكم. [.....]
(3). في د، ب: يستعاران.

لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28)

تخرج من النواة، والحياة في النخلة والسنبلة تشبيه. قال: (وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) أي بغير تضييق ولا تقتير، كما تقول: فلان يعطي بغير حساب، كأنه لا يحسب ما يعطي.

[سورة آل عمران (3): آية 28]
لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28)
فيه مسألتان: الاولى- قال ابن عباس: نهى الله المؤمنين أن يلاطفوا الكفار فيتخذوهم أولياء، ومثله" لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ «1» دُونِكُمْ" وهناك يأتي بيان هذا المعنى. (فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ) أي فليس من حزب الله ولا من أوليائه في شي، مثل" وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ" «2». وحكى سيبويه" هو مني فرسخين" أي من أصحابي ومعي. ثم استثنى وهى: الثانية- فقال: (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) قال معاذ بن جبل ومجاهد: كانت التقية في جدة الإسلام قبل قوة المسلمين، فأما اليوم فقد أعز الله الإسلام أن يتقوا من عدوهم. قال ابن عباس: هو أن يتكلم بلسانه وقلبه مطمئن بالايمان، ولا يقتل ولا يأتي مأثما. وقال الحسن: التقية جائزة للإنسان إلى يوم القيامة، ولا تقية في القتل. وقرا جابر بن زيد ومجاهد والضحاك:" إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً" وقيل: إن المؤمن إذا كان قائما بين الكفار فله أن يداريهم «3» باللسان إذا كان خائفا على نفسه وقلبه مطمئن بالايمان والتقية لا تحل إلا مع خوف القتل أو القطع أو الإيذاء العظيم. ومن أكره على الكفر فالصحيح أن له أن يتصلب ولا يجيب «4» إلى التلفظ بكلمة الكفر، بل يجوز له ذلك على ما يأتي بيانه في" النحل" «5» إن شاء الله تعالى. وأمال حمزة والكسائي" تقاة"، وفخم الباقون، واصل" تُقاةً" وقية على وزن فعلة، مثل
__________
(1). راجع ص 178 من هذا الجز.
(2). راجع ج 8 ص 246.
(3). في ز: أن يداهنهم.
(4). في ب وز: ولا يجب التلفظ.
(5). راجع ج 10 ص 180.==

6.   الجامع لأحكام القرآن = تفسير القرطبي
المؤلف : أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي شمس الدين القرطبي (المتوفى : 671هـ)

قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29)

تؤدة وتهمة، قلبت الواو تاء والياء ألفا. وروى الضحاك ابن عباس أن هذه الآية نزلت في عبادة بن الصامت الأنصاري وكان بدريا تقيا وكان له حلف من اليهود، فلما خرج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم الأحزاب قال عبادة: يا نبي الله، إن معي خمسمائة رجل من اليهود، وقد رأيت أن يخرجوا معي فاستظهر بهم على العدو. فأنزل الله تعالى:" لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ" الآية. وقيل: إنها نزلت في عمار بن ياسر حين تكلم ببعض ما أراد منه المشركون، على ما يأتي بيانه في [النحل ]. قوله تعالى: (وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ) قال الزجاج: أي ويحذركم الله إياه. ثم استغنوا عن ذلك بذا وصار المستعمل، قال تعالى:" تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ" «1» فمعناه تعلم ما عندي وما في حقيقتي ولا أعلم ما عندك ولا ما في حقيقتك. وقال غيره: المعنى ويحذركم الله عقابه، مثل" وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ". وقال:" تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي" أي مغيبي، فجعلت النفس في موضع الإضمار لأنه فيها يكون. (وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ) أي وإلى جزاء الله المصير. وفية إقرار بالبعث.

[سورة آل عمران (3): آية 29]
قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29)
قوله تعالى: قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29). فهو العالم بخفيات الصدور وما اشتملت عليه، وبما في السموات والأرض وما احتوت عليه، علام الغيوب لا يعزب عنه مثقال ذرة ولا يغيب عنه شي، سبحانه لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة.
__________
(1). راجع ج 6 ص 376.

يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30)

[سورة آل عمران (3): آية 30]
يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (30)
" يَوْمَ" منصوب متصل بقوله:" وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ"." يَوْمَ تَجِدُ". وقيل: هو متصل بقوله:" وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ."" يَوْمَ تَجِدُ". وقيل: هو متصل بقوله:" وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يَوْمَ تَجِدُ" ويجوز أن يكون منقطعا على إضمار اذكر، ومثله قوله:" إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ. يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ" «1» [إبراهيم: 47، 48] و" مُحْضَراً" حال من الضمير المحذوف من صلة" ما" تقديره يوم تجد كل نفس، ما عملته من خير محضرا. هذا على أن يكون" تَجِدُ" من وجدان الضالة. و" ما" من قوله" وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ" عطف على" ما" الاولى. و" تَوَدُّ" في موضع الحال من" ما" الثانية. وإن جعلت" تَجِدُ" بمعنى تعلم كان" مُحْضَراً" المفعول الثاني، وكذلك تكون" تَوَدُّ" في موضع المفعول الثاني، تقديره يوم تجد كل نفس جزاء ما عملت محضرا. ويجوز أن تكون" ما" الثانية رفعا بالابتداء، و" تَوَدُّ" في موضع رفع على أنه خبر الابتداء، ولا يصح أن تكون" ما" بمعنى الجزاء، لان" تَوَدُّ" مرفوع، ولو كان ماضيا لجاز أن يكون جزاء، وكان يكون معنى الكلام: وما عملت من سوء ودت لو أن «2» بينها وبينه أمدا بعيدا، أي كما بين المشرق والمغرب. ولا يكون المستقبل إذا جعلت" ما" للشرط إلا مجزوما، إلا أن تحمله على تقدير حذف الفاء، على تقدير: وما عملت من سوء فهي تود. أبو علي: هو قياس قول الفراء عندي، لأنه قال في قوله تعالى:" وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ" «3» [الانعام: 121]: إنه على حذف الفاء. والأمد: الغاية، وجمعه آماد. ويقال: استولى على الأمد، أي غلب سابقا. قال النابغة:
إلا لمثلك أو من أنت سابقه ... سبق الجواد إذا استولى على الأمد
والأمد: الغضب. يقال: أمد أمدا، إذا غضب [غضبا] «4».

[سورة آل عمران (3): آية 31]
قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31)
الحب: المحبة، وكذلك الحب بالكسر. والحب أيضا الحبيب، مثل الخدن والخدين، يقال أحبه فهو محب، وحبه يحبه (بالكسر) فهو محبوب. قال الجوهري: وهذا شاد، لأنه
__________
(1). راجع ج 9 ص 382.
(2). في د: لو كان.
(3). راجع ج 7 ص 77.
(4). الزيادة من دوفى ب: أي غضب.

لا يأتي في المضاعف يفعل بالكسر. قال أبو الفتح: والأصل فيه حبب كظرف، فأسكنت الباء وأدغمت في الثانية. قال ابن الدهان سعيد: في حب لغتان: حب وأحب، وأصل" حب" في هذا البناء حبب كظرف، يدل على ذلك قولهم: حببت، وأكثر ما ورد فعيل من فعل. قال أبو الفتح: والدلالة على أحب قوله تعالى:" يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ" [المائدة: 54] بضم الياء. و" فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ" [آل عمران: 31] و" حب" يرد على فعل لقولهم حبيب. وعلى فعل كقولهم محبوب: ولم يرد اسم الفاعل من حب المتعدي، فلا يقال: أنا حاب. ولم يرد اسم المفعول من أفعل إلا قليلا، كقوله:
مني بمنزلة المحب المكرم «1»

وحكى أبو زيد: حببته أحبه. وأنشد:
فو الله لولا تمره ما حببته ... ولا كان أدنى من عويف وهاشم
وأنشد:
لعمرك إنني وطلاب مصر ... لكالمزداد مما حب بعدا
وحكى الأصمعي فتح حرف المضارعة مع الباء وحدها. والحب الخابية، فارسي معرب، والجمع حباب وحببه، حكاه الجوهري. والآية نزلت في وفد نجران إذ زعموا أن ما ادعوه في عيسى حب لله عز وجل، قاله محمد بن جعفر بن الزبير. وقال الحسن وابن جريج: نزلت في قوم من أهل الكتاب قالوا: نحن الذين نحب ربنا. وروي أن المسلمين قالوا: يا رسول الله، والله إنا لنحب ربنا فأنزل الله عز وجل:" قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي". قال ابن عرفة: المحبة عند العرب إرادة «2» الشيء على قصد له. وقال الأزهري: محبة العبد لله ورسول طاعته لهما واتباعه أمرهما، قال الله تعالى:" قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي". ومحبة الله للعباد إنعامه عليهم بالغفران، قال الله تعالى:" فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ" [آل عمران: 32] أي لا يغفر لهم. وقال سهل بن عبد الله: علامة حب الله حب القرآن، وعلامة حب
__________
(1). هذا عجز بيت لعنترة في معلقته وصدر:
ولقد نزلت فلا تظنى غيره.
(2). في ب ود: إرادتها.

قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32)

القرآن حب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعلامة حب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حب السنة، وعلامة حب الله وحب القرآن وحب النبي وحب السنة حب الآخرة، وعلامة حب الآخرة أن يجب نفسه، وعلامة حب نفسه أن يبغض الدنيا، وعلامة بغض الدنيا ألا يأخذ منها إلا الزاد والبلغة. وروى أبو الدرداء عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله تعالى:" قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ" قال: (على البر والتقوى والتواضع وذلة النفس) خرجه أبو عبد الله الترمذي. وروي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: (من أراد أن يحبه الله فعليه بصدق الحديث وأداء الأمانة وألا يؤذي جاره). وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إن الله إذا أحب عبدا دعا جبريل فقال إني أحب فلانا فأحبه قال فيحبه جبريل ثم ينادي في السماء فيقول إن الله يجب فلانا فأحبوه فيحبه أهل السماء- قال- ثم يوضع له القبول في الأرض، وإذا أبغض عبدا دعا جبريل فيقول إني أبغض فلانا فأبغضه قال فيبغضه جبريل ثم ينادي في أهل السماء أن الله يبغض فلانا فأبغضوه- قال- فيبغضونه ثم توضع له البغضاء في الأرض (. وسيأتي لهذا مزيد بيان في آخر سورة" مريم" «1» إن شاء الله تعالى. وقرا أبو رجاء العطاردي (فاتبعوني) «2» بفتح الباء، (وَيَغْفِرْ لَكُمْ) عطف على" يُحْبِبْكُمُ". وروى محبوب عن أبي عمرو بن العلاء أنه أدغم الراء من" يَغْفِرْ" في اللام من" لَكُمْ". قال النحاس: لا يجيز الخليل وسيبويه إدغام الراء في اللام، وأبو عمرو أجل من أن يغلط في مثل هذا، ولعله كان يخفى الحركة كما يفعل في أشياء كثيرة.

[سورة آل عمران (3): آية 32]
قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (32)
قوله تعالى: (قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ) يأتي بيانه في" النساء" «3»." فَإِنْ تَوَلَّوْا" شرط، إلا أنه ماض لا يعرب. والتقدير فإن تولوا على كفرهم واعرضوا عن طاعة الله ورسوله (فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ) أي لا يرضى فعلهم ولا يغفر لهم كما تقدم.
__________
(1). راجع ج 1 1. ص 160. [.....]
(2). كذا في الأصول، راجع البحر ج 3 ص 431، في الشواذ ص 20: يحببكم بفتح الياء.
(3). راجع ج 5 ص 258.

إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33)

وقال" فَإِنَّ اللَّهَ" ولم يقل" فإنه" لان العرب إذا عظمت الشيء أعادت ذكره، وأنشد سيبويه:
لا أرى الموت يسبق الموت شي ... نغص الموت ذا الغني والفقيرا «1»

[سورة آل عمران (3): آية 33]
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (33)
قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً) اصطفى اختار، وقد تقدم في البقرة «2». وتقدم فيها اشتقاق آدم «3» وكنيته، والتقدير إن الله اصطفى دينهم وهو دين الإسلام، فحذف المضاف. وقال الزجاج: اختارهم للنبوة على عالمي زمانهم." وَنُوحاً" قيل إنه مشتق من ناح ينوح، وهو اسم أعجمي إلا أنه انصرف لأنه على ثلاثة أحرف، وهو شيخ المرسلين، وأول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض بعد آدم عليه السلام بتحريم البنات والأخوات والعمات والخالات وسائر القرابات، ومن قال: إن إدريس كان قبله من المؤرخين فقد وهم على ما يأتي بيانه في" الأعراف" «4» إن شاء الله تعالى. قوله تعالى: (وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ) تقدم في البقرة معنى الآل وعلى ما يطلق مستوفى «5». وفي البخاري عن ابن عباس قال: آلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ المؤمنون من آل إبراهيم وآل عمران وآل ياسين وآل محمد، يقول الله تعالى:" إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ" [آل عمران: 68] وقيل: آل إبراهيم إسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، وأن محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من آل إبراهيم. وقيل: آل إبراهيم نفسه، وكذا آل عمران، ومنه قوله تعالى:" وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ" [البقرة: 248] «6». وفي الحديث: (لقد أعطي مزمارا من مزامير آل داود)، وقال الشاعر:
__________
(1). البيت لسواده بن عدى. وقيل: لامية بن أبى الصلت. (عن شرح الشواهد).
(2). راجع ج 2 ص 133.
(3). راجع ج 1 ص 279.
(4). راجع ج 7 ص 232.
(5). راجع ج 1 ص 381.
(6). راجع ج 3 ص 247.

ولا تبك «1» ميتا بعد ميت أحبه ... علي وعباس وآل أبي بكر
وقال آخر:
يلاقي من تذكر آل ليلى ... كما يلقى السليم من العداد «2»
أراد من تذكر ليلى نفسها. وقيل: آل عمران آل إبراهيم، كما قال:" ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ" [آل عمران: 3 4 [. وقيل: المراد عيسى، لان أمه ابنة عمران. وقيل: نفسه كما ذكرنا. قال مقاتل: هو عمران أبو موسى وهارون، وهو عمران بن يصهر بن فاهاث بن لاوى بن يعقوب وقال الكلبي: هو عمران أبو مريم، وهو من ولد سليمان عليه السلام. وحكى السهيلي: عمران ابن ماتان، وامرأته حنة (بالنون). وخص هؤلاء بالذكر من بين الأنبياء لان الأنبياء والرسل بقضهم وقضيضهم من نسلهم. ولم ينصرف عمران لان في آخره ألفا ونونا زائدتين. ومعنى قوله:" عَلَى الْعالَمِينَ" أي على عالمي زمانهم، في قول أهل التفسير. وقال الترمذي الحكيم أبو عبد الله محمد بن علي: جميع الخلق كلهم. وقيل" عَلَى الْعالَمِينَ": على جميع الخلق كلهم إلى يوم الصور، وذلك أن هؤلاء رسل وأنبياء فهم صفوة الخلق، فأما محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقد جازت «3» مرتبته الاصطفاء لأنه حبيب ورحمة. قال الله تعالى:" وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ" [الأنبياء: 107] «4» فالرسل خلقوا للرحمة، ومحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خلق بنفسه رحمة، فلذلك صار أمانا للخلق، لما بعثه الله أمن الخلق العذاب إلى نفخة الصور. وسائر الأنبياء لم يحلوا هذا المحل، ولذلك قال عليه السلام: (أنا رحمة مهداة) يخبر أنه بنفسه رحمة للخلق من الله. وقوله (مهداة) أي هدية من الله للخلق. ويقال: اختار آدم بخمسة أشياء: أولها أنه خلقه بيده في أحسن صورة بقدرته، والثاني أنه علمه الأسماء كلها، والثالث أمر الملائكة بان يسجدوا له، والرابع أسكنه الجنة، والخامس جعله أبا البشر. واختار نوحا بخمسة
__________
(1). في الأصول:" وَلا تَنْسَ" والتصويب من تفسير ابن عطية، والبيت لاراكة بن عبد الله الثقفي في رثاء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أي أحبه على وعباس وأبو بكر، ويريد جميع المؤمنين (ابن عطية) والذين يروى: أجنه: أي ستره في التراب.
(2). العداد: اهتياج وجع اللديغ، وذلك إذا تمت له سنة مذ يوم لدغ هاج به الألم. وقيل: عداد السليم أن تعد له سبعة أيام فإن مضت رجوا له البرء، وما لم تمض قيل: هو في عداده.
(3). في ب ود: حازت.
(4). راجع ج 11 ص 350.

ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36)

أشياء: أولها أنه جعله أبا البشر، لان الناس كلهم غرقوا وصار ذريته هم الباقين، والثاني أنه أطال عمره، ويقال: طوبى لمن طال عمره وحسن عمله، والثالث أنه استجاب دعاءه على الكافرين والمؤمنين، والرابع أنه حمله على السفينة، والخامس أنه كان أول من نسخ الشرائع، وكان قبل ذلك لم يحرم تزويج الخالات والعمات. واختار إبراهيم بخمسة أشياء: أولها أنه جعله أبا الأنبياء، لأنه روى أنه خرج من صلبه ألف «1» نبي من زمانه إلى زمن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والثاني أنه اتخذه خليلا، والثالث أنه أنجاه من النار، والرابع أنه جعله إماما للناس، والخامس أنه ابتلاه بالكلمات فوفقه حتى أتمهن. ثم قال:" وَآلَ عِمْرانَ" فإن كان عمران أبا موسى وهارون فإنما اختارهما على العالمين حيث بعث على قومه المن والسلوى وذلك لم يكن لاحد من الأنبياء في العالم. وإن كان أبا مريم فإنه اصطفى له مريم بولادة عيسى بغير أب ولم يكن ذلك لاحد في العالم. والله أعلم.

[سورة آل عمران (3): آية 34]
ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34)
قوله تعالى: ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) تقدم في البقرة معنى الذرية واشتقاقها «2». وهي نصب على الحال، قال الأخفش. أي في حال كون بعضهم من بعض، أي ذرية بعضها من ولد بعض. الكوفيون: على القطع. الزجاج: بدل، أي اصطفى ذرية بعضها من بعض، ومعنى بعضها من بعض، يعني في التناصر في الدين، كما قال:" الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ" [التوبة: 67] «3» يعني في الضلالة، قال الحسن وقتادة. وقيل: في الاجتباء والاصطفاء والنبوة. وقيل: المراد به التناسل، وهذا أضعفها.

[سورة آل عمران (3): الآيات 35 الى 36]
إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (36)
__________
(1). في هذا نظر لان الأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا كما ورد في الخبز، أكثرهم من ذريته عليه السلام.
(2). راجع ج 2 ص 107. [.....]
(3). راجع ج 8 ص 199.

فيه ثمان مسائل: الاولى- قوله تعالى: (إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ) قال أبو عبيدة:" إِذْ" زائدة. وقال محمد بن يزيد: التقدير أذكر إذ. وقال الزجاج: المعنى واصطفى آل عمران إذ قالت امرأة عمران. وهي حنة (بالحاء المهملة والنون) بنت فاقود بن قنبل أم مريم جدة عيسى عليه السلام، وليس باسم عربي ولا يعرف في العربية حنة اسم امرأة. وفي العربية أبو حنة البدري، ويقال فيه: أبو حبة (بالباء بواحدة) وهو أصح، واسمه عامر، ودير حنة بالشام، ودير آخر «1» أيضا يقال له كذلك، قال أبو نواس:
يا دير حنة من ذات الاكيراح «2» ... من يصح عنك فإني لست بالصاحي
وحبة في العرب كثير، منهم أبو حبة الأنصاري، وأبو السنابل بن بعكك المذكور في حديث سبيعة «3» حبة، ولا يعرف خنة بالخاء المعجمة «4» إلا بنت يحيى بن أكثم القاضي، وهي أم «5» محمد بن نصر، ولا يعرف جنة (بالجيم) إلا أبو جنة، وهو خال ذي الرمة الشاعر. كل هذا من كتاب ابن ماكولا. الثانية- قوله تعالى: (رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً) تقدم معنى النذر «6»، وأنه لا يلزم العبد إلا بأن يلزمه نفسه. ويقال: إنها لما حملت قالت: لئن نجاني الله ووضعت
__________
(1). هو" دير حنة" بالحيرة من بناء نوح (راجع مسالك الأبصار ج 1 ص 312 طبعه دار الكتب المصرية).
(2). الاكيراح (بالضم ثم الفتح وياء ساكنة وراء وألف وحاء): مواضع تخرج إليها النصارى في أعيادهم. (عن القاموس). وفى مسالك الأبصار: (أنها قباب صغار يسكنها رهبان يقال الواحد منها الكرح).
(3). هي سبيعة بنت الحارث الأسلمية، كانت زوجة لسعد بن خولة فمات عنها بمكة فقال لها أبو السنابل حبة: إن أحلك أربعة أشهر وعشر، وقد كانت وضعت بعد وفاة زوجها بليال، قيل خمس وعشرون ليلة، وقيل أقل من ذلك، فلما قال لها أبو السنابل ذلك أتت ألى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبرته فقال لها: (قد حللت فانكحي من شئت). روى عنها فقهاء أهل المدينة وفقهاء أهل الكوفة من التابعين حديثها هذا. وذكر ابن سعد أن أبا السنابل بن بعكك قد كان فيمن خطئها. وذكر ابن البرقي أنه تزوجها وأولدها ابنه سينابل. (راجع الاستيعاب وتهذيب التهذيب وابن سعد).
(4). وفي المشتبه للذهبي: بالخاء المعجمة ونون.
(5). الذي في المشتبه:" زوجة محمد".
(6). راجع ج 3 ص 330.

ما في بطني لجعلته محررا. ومعنى" لَكَ" أي لعبادتك." مُحَرَّراً" نصب على الحال وقيل: نعت لمفعول محذوف، أي إني نذرت لك ما في بطني غلاما محررا، والأول أولى من جهة التفسير وسياق الكلام والاعراب: أما الاعراب فإن إقامة النعت مقام المنعوت لا يجوز في مواضع، ويجوز على المجاز في أخرى، وأما التفسير فقيل إن سبب قول امرأة عمران هذا أنها كانت كبيرة لا تلد، وكانوا أهل بيت من الله بمكان، وأنها كانت تحت شجرة فبصرت بطائر يزق فرخا فتحركت نفسها لذلك، ودعت ربها أن يهب لها ولدا، ونذرت إن ولدت أن تجعل ولدها «1» محررا: أي عتيقا خالصا لله تعالى، خادما للكنيسة حبيسا عليها، مفرغا لعبادة الله تعالى. وكان ذلك جائزا في شريعتهم، وكان على أولادهم أن يطيعوهم. فلما وضعت مريم قالت:" رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى " يعني أن الأنثى لا تصلح لخدمة الكنيسة. قيل لما يصيبها من الحيض والأذى. وقيل: لا تصلح لمخالطة الرجال. وكانت ترجو أن يكون ذكرا «2» فلذلك حررت. الثالثة- قال ابن العربي:" لا خلاف أن امرأة عمران لا يتطرق إلى حملها نذر لكونها حرة، فلو كانت امرأته أمة فلا خلاف أن المرء لا يصح له نذر في ولده وكيفما تصرفت حاله، فإنه إن كان الناذر عبدا فلم يتقرر له قول في ذلك، وإن كان حرا فلا يصح أن يكون مملوكا له، وكذلك المرأة مثله، فأي وجه للنذر فيه؟ وإنما معناه- والله أعلم- أن المرء إنما يريد ولده للانس به والاستنصار والتسلي، فطلبت هذه المرأة الولد أنسا به وسكونا إليه، فلما من الله تعالى عليها به نذرت أن حظها من الانس به متروك فيه، وهو على خدمة الله تعالى موقوف، وهذا نذر الأحرار من الأبرار. وأرادت به محررا من جهتي، محررا من رق الدنيا وأشغالها، وقد قال رجل من الصوفية لامه: يا أمه: ذريني لله أتعبد له وأتعلم العلم، فقالت نعم. فسار حتى تبصر ثم عاد إليها فدق الباب، فقالت من؟ فقال لها: ابنك فلان، قالت: قد تركناك لله ولا نعود فيك. الرابعة- قوله تعالى: (مُحَرَّراً) مأخوذ من الحرية التي هي ضد العبودية، من هذا تحرير الكتاب، وهو تخليصه من الاضطراب والفساد. وروى خصيف عن عكرمة ومجاهد:
__________
(1). في ب: ما ولدته.
(2). في ب ود: غلاما.

أن المحرر الخالص لله عز وجل لا يشوبه شي من أمر الدنيا. وهذا معروف في اللغة أن يقال لكل ما خلص: حر، ومحرر بمعناه، قال ذو الرمة:
والقرط في حرة الذفرى معلقة ... تباعد الحبل منه فهو يضطرب «1»
وطين حر لا رمل فيه، وباتت فلانة بليلة حرة إذا لم يصل إليها زوجها أول ليلة، فإن تمكن منها فهي بليلة شيباء. الخامسة قوله تعالى: (فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى ) قال ابن عباس: إنما قالت هذا لأنه لم يكن يقبل في النذر إلا الذكور، فقبل الله مريم. و" أُنْثى " حال، وإن شئت بدل. فقيل: إنها ربتها حتى ترعرعت وحينئذ أرسلتها، رواه أشهب عن مالك: وقيل: لفتها في خرقتها وأرسلت بها إلى المسجد، فوفت بنذرها وتبرأت منها. ولعل الحجاب لم يكن عندهم كما كان في صدر الإسلام، ففي البخاري ومسلم أن امرأة سوداء كانت تقم المسجد على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فماتت. الحديث. السادسة- قوله تعالى: (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ) هو على قراءة من قرأ" وضعت" بضم التاء من جملة كلامها، فالكلام متصل. وهى قراءة أبي بكر وابن عامر، وفيها معنى التسليم لله والخضوع والتنزيه له [أن يخفى «2» عليه شي ]، ولم تقله على طريق الاخبار لان علم الله في كل شي قد تقرر في نفس المؤمن، وإنما قالته على طريق التعظيم والتنزيه لله تعالى. وعلى قراءة الجمهور هو من كلام الله عز وجل قدم، وتقديره أن يكون مؤخرا بعد" وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ" [آل عمران: 36] والله أعلم بما وضعت، قال المهدوي. وقال مكي: هو إعلام من الله تعالى لنا على طريق التثبيت فقال: والله أعلم بما وضعت أم مريم قالته أو لم تقله. ويقوي ذلك أنه لو كان من كلام أم مريم لكان وجه الكلام: وأنت أعلم بما وضعت، لأنها نادته في أول الكلام في قولها: رب إني وضعتها أنثى. وروي عن ابن عباس" بما وضعت" بكسر التاء، أي قيل لها هذا.
__________
(1). الذفر يان: ما بين يمين العنق ويساره، وتباعد الحبل منه، أي تباعد حبل العنق من القرط لأنها طويلة العنق ليست بوقصاء، ومعلقة، أي مكان تعليقه.
(2). الزيادة من ب ود.

السابعة- قوله تعالى: (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى ) استدل به بعض الشافعية على أن المطاوعة في نهار رمضان لزوجها على الوطي لا تساويه في وجوب الكفارة عليها، ابن العربي، وهذه منه غفلة، فإن هذا خبر عن شرع من قبلنا وهم لا يقولون به، وهذه الصالحة إنما قصدت بكلامها ما تشهد له به بينة حالها ومقطع كلامها، فإنها نذرت خدمة المسجد في ولدها، فلما رأته أنثى لا تصلح وأنها عورة اعتذرت إلى ربها من وجودها لها «1» على خلاف ما قصدته فيها. ولم ينصرف" مَرْيَمَ" لأنه مؤنث معرفة، وهو أيضا أعجمي، قال النحاس. والله تعالى أعلم. الثامنة- قوله تعالى: (وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ) يعنى خادم الرب في لغتهم. (وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ) يعني مريم. (وَذُرِّيَّتَها) يعني عيسى. وهذا يدل على أن الذرية قد تقع على الولد خاصة. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ما من مولود يولد إلا نخسه الشيطان فيستهل صارخا من نخسة [الشيطان ] «2» إلا ابن مريم وأمه) ثم قال أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم:" وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ". قال علماؤنا: فأفاد هذا الحديث أن الله تعالى استجاب دعاء أم مريم، فإن الشيطان ينخس جميع ولد آدم حتى الأنبياء والأولياء إلا مريم وابنها. قال قتادة: كل مولود يطعن الشيطان في جنبه حين يولد غير عيسى وأمه جعل بينهما حجاب فأصابت الطعنة الحجاب ولم ينفذ لها منه شي، قال علماؤنا: وإن لم يكن كذلك بطلت الخصوصية بهما، ولا يلزم من هذا أن نخس الشيطان يلزم منه إضلال الممسوس وإغواؤه فإن ذلك ظن فاسد، فكم تعرض الشيطان للأنبياء والأولياء بأنواع الإفساد والإغواء ومع ذلك فعصمهم «3» الله مما يرومه الشيطان، كما قال تعالى:" إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ" [الحجر: 42] «4». هذا مع أن كل واحد من بني آدم قد وكل به قرينه من الشياطين، كما قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فمريم وابنها وإن عصما من نخسه فلم يعصما من ملازمته لهما ومقارنته. والله أعلم.
__________
(1). في ب: له، وفى ز: من وجود مالها.
(2). زيادة من صحيح مسلم.
(3). كذا في ب ود بالفاء. [.....]
(4). راجع ج 10 ص 28.

فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37) هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38)

[سورة آل عمران (3): الآيات 37 الى 38]
فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (37) هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ (38)
قوله تعالى: (فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ) المعنى: سلك بها طريق السعداء، عن ابن عباس. وقال قوم: معنى التقبل التكفل في التربية والقيام بشأنها. وقال الحسن: معنى التقبل أنه ما عذبها ساعة قط من ليل ولا نهار. (وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً) يعني سوى خلقها من غير زيادة ولا نقصان، فكانت تنبت في اليوم ما ينبت المولود في عام واحد. والقبول والنبات مصدران على غير المصدر، والأصل تقبلا وإنباتا. قال الشاعر:
أكفرا بعد رد الموت عنى ... وبعد عطائك المائة الرتاعا
أراد بعد إعطائك، لكن لما قال" أَنْبَتَها" دل على نبت، كما قال امرؤ القيس:
فصرنا إلى الحسنى ورق كلامنا ... ورضت فذلت صعبة أي إذلال
وإنما مصدر ذلت ذل، ولكنه رده على معنى أذللت، وكذلك كل ما يرد عليك في هذا الباب. فمعنى تقبل وقبل واحد، فالمعنى فقبلها ربها بقبول حسن. ونظيره قول رؤبة:
وقد تطويت انطواء الحضب «1»

[الأفعى ] «2» لان معنى تطويت وانطويت واحد، ومثله قول القطامي:
وخير الأمر ما استقبلت منه ... وليس بأن تتبعه اتباعا
لان تتبعت واتبعت واحد. وفي قراءة ابن مسعود" وأنزل الملائكة تنزيلا" «3» لان معنى نزل وأنزل واحد. وقال المفضل: معناه وأنبتها فنبتت نباتا حسنا. ومراعاة المعنى أولى
__________
(1). الحضب (بفتح الحاء وكسرها وسكون الضاد).
(2). الزيادة في نسخ: ج، ب، د.
(3). راجع ج 13 ص 24.

كما ذكرنا. والأصل في القبول الضم، لأنه مصدر مثل الدخول والخروج، والفتح جاء في حروف قليلة، مثل الولوع والوزوع، هذه الثلاثة لا غير، قال أبو عمرو الكسائي والأئمة. وأجاز الزجاج" بقبول" بضم القاف على الأصل. قوله تعالى (وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا) أي صمها إليه. أبو عبيدة: ضمن القيام بها. وقرأ الكوفيون" وَكَفَّلَها" بالتشديد، فهو يتعدى إلى مفعولين، والتقدير وكفلها ربها زكريا، أي ألزمه كفالتها وقدر ذلك عليه ويسره له. وفي مصحف أبي" وَكَفَّلَها" والهمزة كالتشديد في التعدي، وأيضا فإن قبله" فَتَقَبَّلَها"،" وَأَنْبَتَها" فأخبر تعالى عن نفسه بما فعل بها، فجاء" كَفَّلَها" بالتشديد على ذلك. وخففه الباقون على إسناد الفعل إلى زكريا. فأخبر الله تعالى أنه هو الذي تولى كفالتها والقيام بها، بدلالة قوله:" أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ" [آل عمران: 44]. قال مكي: وهو الاختيار، لان التشديد يرجع إلى التخفيف، لان الله تعالى إذا كفلها زكريا كفلها بأمر الله، ولان زكريا إذا كفلها فعن مشيئة الله وقدرته، فعلى ذلك فالقراءتان متداخلتان. وروى عمرو بن موسى عن عبد الله بن كثير وأبي عبد الله المزني" وكفلها" بكسر الفاء. قال الأخفش: يقال كفل يكفل وكفل يكفل ولم اسمع كفل، وقد ذكرت. وقرا مجاهد" فتقبلها" بإسكان اللام على المسألة والطلب." ربها" بالنصب نداء مضاف." وأنبتها" بإسكان التاء" وكفلها" بإسكان اللام" زكرياء" بالمد والنصب. وقرا حفص وحمزة والكسائي" زَكَرِيَّا" بغير مد ولا همز، ومده الباقون وهمزوه. وقال الفراء: أهل الحجاز يمدون" ز كرياء" ويقصرونه، واهل نجد يحذفون منه الالف ويصرفونه فيقولون: زكرى. قال الأخفش: فيه أربع لغات: المد والقصر، وزكري بتشديد الياء والصرف، وزكر ورأيت زكريا. قال أبو حاتم: زكري بلا صرف لأنه أعجمي وهذا غلط، لان ما كان فيه" يا" مثل هذا انصرف مثل كرسي ويحيى، ولم ينصرف زكرياء في المد والقصر لان فيه ألف تأنيث والعجمة والتعريف.

قوله تعالى: (كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً) إلى قوله: (إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ). فيه أربع مسائل: الاولى- قوله تعالى: (كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ) المحراب في اللغة أكرم موضع في المجلس. وسيأتي له مزيد بيان في سورة" مريم" «1». وجاء في الخبر: إنها كانت في غرفة كان زكريا يصعد إليها بسلم. قال وضاح اليمن «2»:
ربة محراب إذا جئتها ... لم ألقها حتى ارتقى سلما
أي ربة غرفة. روى أبو صالح عن ابن عباس قال: حملت امرأة عمران بعد ما أسنت فنذرت ما في بطنها محررا فقال لها عمران: ويحك! ما صنعت؟ أرأيت إن كانت أنثى؟ فاغتما لذلك جميعا. فهلك عمران وحنة حامل فولدت أنثى فتقبلها الله بقبول حسن، وكان لا يحرر إلا الغلمان فتساهم عليها الأحبار بالأقلام التي يكتبون بها الوحي، على ما يأتي. فكفلها زكريا واخذ لها موضعا فلما أسنت جعل لها محرابا لا يرتقي إليه إلا بسلم، واستأجر لها ظئرا وكان يغلق عليها بابا، وكان لا يدخل عليها إلا زكريا حتى كبرت، فكانت إذا حاضت أخرجها إلى منزله فتكون عند خالتها وكانت خالتها امرأة زكريا في قول الكلبي. قال مقاتل: كانت أختها امرأة زكريا. وكانت إذا طهرت من حيضتها واغتسلت ردها إلى المحراب. وقال بعضهم: كانت لا تحيض وكانت مطهرة من الحيض. وكان زكريا إذا دخل عليها يجد عندها فاكهة الشتاء في القيظ وفاكهة القيظ في الشتاء فقال: يا مريم أنى لك هذا؟ فقالت: هو من عند الله. فعند ذلك طمع زكريا في الولد وقال: إن الذي يأتيها بهذا قادر أن يرزقني ولدا. ومعنى" أَنَّى" من أين، قاله أبو عبيدة. قال النحاس: وهذا
__________
(1). راجع ج 11 ص 84.
(2). في الأصول:" قال عدى بن زيد" والتصويب عن الأغاني ولسان العرب وشرح القاموس. وهذا البيت من قصيدة لوضاح اليمن أولها:
يا ابنة الواحد جودي فما ... إن تصرمينى فبما أو لما
وفي د: لم أدن. مراجع ترجمته في الأغاني ج 6 ص 240- 209 طبع دار الكتب المصرية

فيه تساهل، لان" أين" سؤال عن المواضع و" أنى" سؤال عن المذاهب والجهات. والمعنى من أي المذاهب ومن أي الجهات لك هذا. وقد فرق الكميت بينهما فقال:
أنى ومن أين آبك الطرب ... من حيث لا صبوة ولا ريب.
و" كُلَّما" منصوب ب" وَجَدَ"، أي كل دخلة. (إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) قيل: هو من قول مريم، ويجوز أن يكون مستأنفا، فكان ذلك سبب دعاء زكريا وسؤاله الولد. الثانية- قوله تعالى (هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ) هنالك في موضع نصب، لأنه ظرف يستعمل للزمان والمكان وأصله للمكان. وقال المفضل بن سلمة:" هُنالِكَ" في الزمان و" هناك" في المكان، وقد يجعل هذا مكان هذا. (هَبْ لِي) أعطني. (مِنْ لَدُنْكَ) من عندك. (ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً) أي نسلا صالحا. والذرية تكون واحدة وتكون جمعا ذكرا وأنثى، وهو هنا واحد. يدل عليه قوله." فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا" [مريم: 5] «1» ولم يقل أولياء، وإنما أنث" طَيِّبَةً" لتأنيث لفظ الذرية، كقوله:
أبوك خليفة ولدته أخرى ... وأنت خليفة ذاك الكمال
فأنث ولدته لتأنيث لفظ الخليفة. وروي من حديث أنس قال: قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أي رجل مات وترك ذرية طيبة أجرى الله مثل أجر عملهم ولم ينقص من أجورهم شيئا). وقد مضى في" البقرة" اشتقاق الذرية «2». (طَيِّبَةً) أي صالحة مباركة. (إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ) أي قابله، ومنه «3»: سمع الله لمن حمده. الثالثة- دلت هذه الآية على طلب الولد، وهي سنة المرسلين والصديقين، قال الله تعالى:" وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً" [الرعد: 38] «4». وفي صحيح مسلم عن سعد بن أبي وقاص قال: أراد عثمان أن يتبتل فنهاه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولو أجاز له ذلك لاختصينا. وخرج ابن ماجة عن عائشة قالت قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (النكاح من سنتي فمن لم يعمل بسنتي فليس مني وتزوجوا فإني مكاثر بكم الأمم ومن كان
__________
(1). راجع ج 11 ص 77.
(2). راجع المسألة التاسعة عشرة ج 2 ص 107.
(3). في ب: ومنه قوله.
(4). راجع ج 9 ص 327.

ذا طول فلينكح ومن لم يجد فعليه بالصوم فإنه له وجاء «1». وفي هذا رد على بعض جهال المتصوفة حيث قال: الذي يطلب الولد أحمق، وما عرف أنه [هو] «2» الغبي الأخرق، قال الله تعالى مخبرا عن إبراهيم الخليل:" وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ" [الشعراء: 84] وقال:" وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ «3» أَعْيُنٍ" [الفرقان: 74]. وقد ترجم البخاري على هذا" باب طلب الولد". وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لابي طلحة حين مات ابنه: (أعرستم الليلة)؟ قال: نعم. قال: (بارك الله لكما في غابر ليلتكما). قال فحملت. في البخاري: قال سفيان فقال رجل من الأنصار: فرأيت تسعة أولاد كلهم قد قرءوا القرآن. وترجم أيضا" باب الدعاء بكثرة الولد مع البركة" وساق حديث أنس بن مالك قال: قالت أم سليم: يا رسول الله، خادمك أنس أدع الله له. فقال: (اللهم أكثر مال وولده وبارك له فيما أعطيته). وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (اللهم اغفر لابي سلمة وارفع درجته في المهديين واخلفه في عقبه في الغابرين). خرجه البخاري ومسلم. وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (تزوجوا الولود الودود فإني مكاثر بكم الأمم). أخرجه أبو داود. والاخبار في هذا المعنى كثيرة تحت على طلب الولد وتندب إليه، لما يرجوه الإنسان من نفعه في حياته وبعد موته. قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إذا مات أحدكم انقطع عمله إلا من ثلاث) فذكر (أو ولد صالح يدعو له). ولو لم يكن إلا هذا الحديث لكان فيه كفاية. الرابعة- فإذا ثبت هذا فالواجب على الإنسان أن يتضرع إلى خالقه في هداية ولده وزوجه بالتوفيق لهما والهداية والصلاح والعفاف والرعاية، وأن يكونا معينين له على دينه ودنياه حتى تعظم منفعته بهما في أولاه وأخراه، ألا ترى قول زكريا:" وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا" [مريم: 4] «4» وقال:" ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً". وقال:" هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ" [الفرقان: 74]. ودعا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأنس فقال: (اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيه). خرجه البخاري ومسلم، وحسبك.
__________
(1). الوجاء: أن ترض عروق أنثيا الفحل رضا يذهب شهوة النكاح وهو شبيه بالخصاء. أراد أن الصوم يقطع شهوة النكاح كما يقطعها الوجاء.
(2). كذا في ب، ود.
(3). راجع ج 13 ص 112 وص 82.
(4). راجع ج 11 ص 81. [.....]

فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39)

[سورة آل عمران (3): آية 39]
فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39)
قوله تعالى: (فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ) قرأ حمزة والكسائي" فناداه" بالألف على التذكير، ويميلانها لان أصلها الياء، ولأنها رابعة. وبالألف قراءة ابن عباس وابن مسعود، وهو اختيار أبي عبيد. وروي عن جرير عن مغيرة عن إبراهيم قال: كان عبد الله يذكر الملائكة في [كل ] «1» القرآن. قال أبو عبيد: نراه اختار ذلك خلافا على المشركين لأنهم قالوا: الملائكة بنات الله. قال النحاس: هذا احتجاج لا يحصل منه شي، لان العرب تقول: قالت الرجال، وقال الرجال، وكذا النساء، وكيف يحتج عليهم بالقرآن، ولو جاز أن يحتج عليهم بالقرآن بهذا لجاز أن يحتجوا بقوله تعالى:" وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ" ولكن الحجة عليهم في قوله عز وجل:" أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ" [الزخرف: 19] «2» أي فلم يشاهدوا، فكيف يقولون إنهم إناث فقد علم أن هذا ظن وهوى. وأما" فناداه" فهو جائز على تذكير الجمع،" ونادته" على تأنيث الجماعة. قال مكي: والملائكة ممن يعقل في التكسير فجرى في التأنيث مجرى ما لا يعقل، تقول: هي الرجال، وهي الجذوع، وهي الجمال، وقالت الاعراب. ويقوي ذلك قوله:" وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ" وقد ذكر في موضع آخر فقال:" وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ" [الانعام: 93] «3» وهذا إجماع. وقال تعالى:" وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ" [الرعد: 23] «4» فتأنيث هذا الجمع وتذكيره حسنان. وقال السدي: ناداه جبريل وحده، وكذا في قراءة ابن مسعود. وفي التنزيل" يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ" «5» يعني جبريل، والروح الوحي. وجائز في العربية أن يخبر عن الواحد بلفظ الجمع. وجاء في التنزيل" الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ" [آل عمران: 173] «6» يعني نعيم بن مسعود، على ما يأتي. وقيل: ناداه جميع الملائكة، وهو الأظهر. أي جاء النداء من قبلهم.
__________
(1). زيادة عن إعراب القرآن للنحاس.
(2). راجع ج 16 ص 73.
(3). راجع ج 7 ص 39.
(4). راجع ج 9 ص 312.
(5). راجع ج 10 ص 67.
(6). راجع ص 279 من هذا الجزء.

قوله تعالى: (وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ)" وَهُوَ قائِمٌ" ابتداء وخبر" يُصَلِّي" في موضع رفع، وإن شئت كان نصبا على الحال من المضمر." أَنَّ اللَّهَ" أي بأن الله. وقرا حمزة والكسائي «1»" إن" أي قالت إن الله، فالنداء بمعنى القول." يُبَشِّرُكَ" بالتشديد قراءة أهل المدينة. وقرا حمزة" يبشرك" مخففا، وكذلك حميد بن القيس المكي إلا أنه كسر الشين وضم الياء وخفف الباء. قال الأخفش: هي ثلاث لغات بمعنى واحد. دليل الاولى هي قراءة الجماعة أن ما في القرآن من هذا من فعل ماض أو أمر فهو بالتثقيل، كقوله تعالى:" فَبَشِّرْ عِبادِ" [الزمر: 17] «2»" فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ" [يس: 11]" فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ" [هود: 71] «3»" قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ" [الحجر: 55] «4». وأما الثانية وهي قراءة عبد الله بن مسعود فهي من بشر «5» يبشر وهي لغة تهامة، ومنه قول الشاعر:
بشرت عيالي إذ رأيت صحيفة ... أتتك من الحجاج يتلى كتابها
وقال آخر «6»:
وإذا رأيت الباهشين» إلى الندى ... غبرا أكفهم بقاع ممحل
فأعنهم وابشر بما بشروا به ... وإذا هم نزلوا بضنك فأنزل
وأما الثالثة فهي من أبشر يبشر إبشارا قال:
يا أم عمرو أبشري بالبشرى ... موت ذريع وجراد عظلى «8»
قوله تعالى: (بِيَحْيى ) كان اسمه في الكتاب الأول حيا، وكان اسم سارة زوجة إبراهيم عليه السلام يساره، وتفسيره بالعربية لا تلد، فلما بشرت بإسحاق قيل لها: سارة، سماها
__________
(1). كذا في الأصل وإعراب القرآن للنحاس، والذي في البحر وغرائب القرآن للنيسابوري وابن عطية: وقرا ابن عامر وحمزة إن الله" بكسر الهمزة، وقرا الباقون بفتح الهمزة.
(2). راجع ج 15 ص 243 وص 11 وص 112. وفى أكثر الأصول:" عبادي" بالياء وهو رسم ورش في مصاحب المغرب.
(3). راجع ج 9 ص 69.
(4). راجع ج 10 ص 35.
(5). كذا في الأصول والبغوي. والذي في البحر وابن عطية:" وفى قراءة عبد الله بن مسعود يبشرك بضم الياء وتخفيف الشين المكسورة من أبشر، وهكذا قرأ في كل القرآن".
(6). هو عطية بن زيد، وقال ابن برى هو لعبد القيس بن خفاف البرجمي. (عن اللسان).
(7). قال أب عبيد: يقال للإنسان إذا نظر إلى شي فأعجبه واشتهاه فتناوله وأسرع نحوه وفرح به: بهش إليه.
(8). جراد عاظلة وعظلى: لا تبرح. في اللسان:" أراد أن يقول: يا أم عامر فلم يستقيم له البيت فقال يا أم عمرو، وام عامر كنية الضج: ومن كلامهم للضبع: أبشري بجراد عظلى، وكم رجال قتلى". [.....]

بذلك جبريل عليه السلام. فقالت: يا إبراهيم لم نقص من اسمي حرف؟ فقال إبراهيم ذلك لجبريل عليهما السلام. فقال: (إن ذلك الحرف زيد في اسم ابن لها من أفضل الأنبياء اسمه حيي وسمي بيحيى). ذكره النقاش. وقال قتادة: سمي بيحيى لان الله تعالى أحياه بالايمان والنبوة. وقال بعضهم: سمي بذلك لان الله تعالى أحيا به الناس بالهدى. وقال مقاتل: اشتق اسمه من اسم الله تعالى حي فسمي يحيى. وقيل: لأنه أحيا به رحم أمه. (مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ) يعني عيسى في قول أكثر المفسرين. وسمي عيسى كلمة لأنه كان بكلمة الله تعالى التي هي" كُنْ" فكان من غير أب. وقرا أبو السمال العدوي" بِكَلِمَةٍ" مكسورة الكاف ساكنة اللام في جميع القرآن، وهي لغة فصيحة مثل كتف وفخذ. وقيل: سمي كلمة لان الناس يهتدون به كما يهتدون بكلام الله تعالى. وقال أبو عبيد: معنى" بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ" بكتاب من الله. قال: والعرب تقول أنشدني كلمة أي قصيدة، كما روي أن الحويدرة «1» ذكر لحسان فقال: لعن الله كلمته، يعني قصيدته. وقيل غير هذا من الأقوال. والقول الأول أشهر وعليه من العلماء الأكثر. و" بِيَحْيى " أول من آمن بعيسى عليهما السلام وصدقه، وكان يحيى أكبر من عيسى بثلاث سنين ويقال بستة أشهر. وكانا ابني خالة، فلما سمع زكريا شهادته قام إلى عيسى فضمه إليه وهو في خرقه. وذكر الطبري أن مريم لما حملت بعيسى حملت أيضا أختها بيحيى، فجاءت أختها زائرة فقالت: يا مريم أشعرت أني حملت؟ فقالت لها مريم: أشعرت أنت أني حملت؟ فقالت لها: وإني لأجد ما في بطني يسجد لما في بطنك. وذلك أنه روي أنها أحست جنينها يخر برأسه إلى ناحية بطن مريم. قال السدي: فذلك قول" مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ". و" مُصَدِّقاً" نصب على الحال. و(سَيِّداً) السيد: الذي يسود قومه وينتهي إلى قوله، وأصله سيود يقال: فلان أسود من
__________
(1). الحويدرة تصغير الحادرة وهو لقب غلب عليه، واسمه قطبة بن محصن بن جرول. ويعنى حسان بن ثابت رضى الله عنه قصيدته التي مطلعها: بكرت سمية غدونا فتمتعي وغدت غدو مفارق لم يربع. (راجع المفضليات ص 48 طبع أوروبا وكتاب الأغاني ج 3 ص 270 طبع دار الكتب المصرية (.) (

فلان، أفعل من السيارة، ففيه دلالة على جواز تسمية الإنسان سيدا كما يجوز أن يسمى عزيزا أو كريما. وكذلك روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال لبني قريظة: (قوموا إلى سيدكم). وفي البخاري ومسلم أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال في الحسن: (إن ابني هذا سيد ولعل الله يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين) وكذلك كان، فإنه لما قتل علي رضي الله عنه بايعه أكثر من أربعين ألفا وكثير ممن تخلف عن أبيه وممن نكث بيعته، فبقي نحو سبعة أشهر خليفة بالعراق وما وراءها من خراسان، ثم سار إلى معاوية في أهل الحجاز والعراق وسار إليه معاوية في أهل الشام، فلما تراءى الجمعان بموضع يقال له" مسكن" من أرض السواد بناحية الأنبار كره الحسن القتال لعلمه أن إحدى الطائفتين لا تغلب حتى تهلك أكثر الأخرى فيهلك المسلمون، فسلم الامر إلى معاوية على شروط شرطها عليه، منها أن يكون الامر له من بعد معاوية، فالتزم كل ذلك معاوية فصدق قول عليه السلام: (إن ابني هذا سيد) ولا أسود ممن سوده الله تعالى ورسوله. قال قتادة في قوله تعالى" وَسَيِّداً" قال: في العلم والعبادة. ابن جبير والضحاك: في العلم والتقى. مجاهد: السيد الكريم. ابن زيد: الذي لا يغلبه الغضب. وقال الزجاج: السيد الذي يفوق أقرانه في كل شي من الخير. وهذا جامع. وقال الكسائي: السيد من المعز المسن. وفي الحديث (ثني من الضأن خير من السيد المعز). قال:
سواء عليه شاة عام دنت له ... ليذبحها للضيف أم شاة سيد
(وَحَصُوراً) أصله من الحصر وهو الحبس. حصرني الشيء واحصرني إذا حبسني. قال ابن ميادة:
وما هجر ليلى أن تكون تباعدت ... عليك ولا أن أحصرتك شغول
وناقة حصور: ضيقة الإحليل. والحصور الذي لا يأتي النساء كأنه محجم عنهن، كما يقال: رجل حصور وحصير إذا حبس رفده ولم يخرج ما يخرجه الندامى. يقال: شرب القوم فحصر عليهم فلان، أي بخل، عن أبي عمرو. قال الأخطل:

وشارب مربح بالكأس نادمني ... لا بالحصور ولا فيها بسوار «1»
وفي التنزيل" وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً" [الاسراء: 8] «2» أي محبسا. والحصير الملك لأنه محجوب. وقال لبيد:
وقماقم «3» غلب الرقاب كأنهم ... جن لدى باب الحصير قيام
فيحيى عليه السلام حصور، فعول بمعنى مفعول لا يأتي النساء، كأنه ممنوع مما يكون في الرجال، عن ابن مسعود وغيره. وفعول بمعنى مفعول كثير في اللغة، من ذلك حلوب بمعنى محلوبة، قال الشاعر:
فيها اثنتان وأربعون حلوبة ... سودا كخافية الغراب الأسحم «4»
وقال ابن مسعود أيضا وابن عباس وابن جبير وقتادة وعطاء وأبو الشعثاء والحسن والسدي وابن زيد: هو الذي يكف عن النساء ولا يقربهن مع القدرة. وهذا أصح [الأقوال لو] «5» جهين: أحدهما أنه مدح وثناء عليه، والثناء إنما يكون عن الفعل المكتسب دون الجبلة في الغالب. الثاني أن فعولا في اللغة من صيغ الفاعلين، كما قال «6»:
ضروب بنصل السيف سوق سمانها ... إذا عدموا زادا فإنك عاقر
فالمعنى أنه يحصر نفسه عن الشهوات. ولعل هذا كان شرعه، فأما شرعنا فالنكاح، كما تقدم. وقيل: الحصور العنين الذي لا ذكر له يتأتى له به النكاح ولا ينزل، عن ابن عباس أيضا وسعيد ابن المسيب والضحاك. وروى أبو صالح عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: (كل ابن آدم يلقى الله بذنب قد أذنبه يعذبه عليه إن شاء أو يرحمه إلا يحيى
__________
(1). سوار: معربد وثاب. وقد روى" سآر" بوزن سعار، أي أنه لا يسير في الإناء سورا بل يشتفه كله.
(2). راجع ج 10 ص 224.
(3). القماقم من الرجال: السيد الكثير الخير الواسع الفضل. والقماقم العدد الكثير.
(4). البيت لعنترة العبسي في معلقته. والخوافي: أواخر ريش الجناح مما يلي الظهر.
(5). كذا في د. قلت: هذا هو اللائق بالعصمة النبوية.
(6). البيت لابي طالب بن عبد المطلب. مدح رجلا بالكرم فيقول: يضرب بسيفه سوق السمان من الإبل للأضياف إذا عدموا الزاد ولم يظفروا بجواد لشدة الزمان وكلبه، وكانوا إذا أرادوا نحر الناقة ضربوا ساقها بالسيف فخرت ثم تحروها. (عن شرح الشواهد).

قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40)

ابن زكريا فإنه كان سَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (- ثم أهوى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيده إلى قذاة «1» من الأرض فأخذها وقال:) كان ذكره [هكذا] «2» مثل هذه القذاة (. وقيل: معناه الحابس نفسه عن معاصي الله عز وجل." وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ" قال الزجاج: الصالح الذي يؤدي لله ما افترض عليه، وإلى الناس حقوقهم.

[سورة آل عمران (3): آية 40]
قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (40)
قيل: الرب هنا جبريل، أي قال لجبريل: رب- أي يا سيدي- أنى يكون لي غلام؟ يعني ولدا، وهذا قول الكلبي. وقال بعضهم: قوله" رَبِّ" يعني الله تعالى." أَنَّى" بمعنى كيف، وهو في موضع نصب على الظرف. وفي معنى هذا الاستفهام وجهان: أحدهما أنه سأل هل يكون له الولد وهو وامرأته على حاليهما أو يردان إلى حال من يلد؟. الثاني سأل هل يرزق الولد من امرأته العاقر أو من غيرها. وقيل: المعنى بأي منزلة استوجب هذا وأنا وامرأتي على هذه الحال، على وجه التواضع. ويروى أنه كان بين دعائه والوقت الذي بشر فيه أربعون سنة، وكان يوم بشر ابن تسعين سنة وامرأته قريبة السن منه. وقال ابن عباس والضحاك: كان يوم بشر ابن عشرين ومائة سنة وكانت امرأته بنت ثمان وتسعين سنة، فذلك قوله" وَامْرَأَتِي عاقِرٌ" أي عقيم لا تلد. يقال: رجل عاقر وامرأة عاقر بينة العقر. وقد عقرت وعقر (بضم القاف فيهما) تعقر عقرا صارت عاقرا، مثل حسنت تحسن حسنا، عن أبي زيد. وعقاره أيضا. وأسماء الفاعلين من فعل فعيلة، يقال: عظمت فهي عظيمة، وظرفت فهي ظريفة. وإنما قيل عاقر لأنه يراد به ذات عقر على النسب، ولو كان على الفعل لقال: عقرت فهي عقيرة كأن بها عقرا، أي كبرا من السن يمنعها من الولد. والعاقر: العظيم من الرمل لا ينبت شيئا. والعقر أيضا مهر المرأة إذا وطئت على شبهة. وبيضة العقر: زعموا هي بيضة الديك، لأنه يبيض في عمره بيضة واحدة إلى الطول. وعقر النار أيضا.
__________
(1). القذاة: ما يقع في العين والماء والشراب من تراب أو تبن أو وسخ أو غير ذلك.
(2). من د.

قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (41)

وسطها ومعظمها. وعقر الحوض: مؤخره حيث تقف الإبل إذا وردت، يقال: عقر وعقر مثل عسر وعسر، والجمع الاعقار فهو لفظ مشترك. والكاف في قوله" كَذلِكَ" في موضع نصب، أي يفعل الله ما يشاء مثل ذلك. والغلام مشتق من الغلمة وهو شدة طلب النكاح. واغتلم الفحل غلمة هاج من شهوة الضراب. وقالت ليلى الأخيلية:
شفاها من الداء العضال الذي بها ... غلام إذا هز القناة سقاها
والغلام الطار الشارب. وهو بين الغلومة والغلومية، والجمع الغلمة والغلمان. ويقال: إن الغيلم الشاب والجارية أيضا. والغيلم: ذكر السلحفاة. والغيلم: موضع. واغتلم البحر: هاج وتلاطمت أمواجه.

[سورة آل عمران (3): آية 41]
قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (41)
فيه ثلاث مسائل:
قوله تعالى: قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً" جعل" هنا بمعنى صير لتعديه إلى مفعولين. و" لي" في موضع المفعول الثاني. ولما بشر بالولد ولم يبعد عنده هذا في قدرة الله تعالى طلب آية- أي علامة- يعرف بها صحة هذا الامر وكونه من عند الله تعالى، فعاقبه الله تعالى بأن أصابه السكوت عن كلام الناس لسؤال الآية بعد مشافهة الملائكة إياه، قاله أكثر المفسرين. قالوا: وكذلك إن لم يكن من مرض خرس أو نحوه ففيه على كل حال عقاب ما. قال ابن زيد: إن زكريا عليه السلام لما حملت زوجه منه بيحيى أصبح لا يستطيع أن يكلم أحدا، وهو مع ذلك يقرأ التوراة ويذكر الله تعالى، فإذا أراد مقاولة أحد لم يطقه. الثانية- قوله تعالى: (إِلَّا رَمْزاً) الرمز في اللغة الإيماء بالشفتين، وقد يستعمل في الإيماء بالحاجبين والعينين واليدين، وأصله الحركة. وقيل: طلب، تلك الآية زيادة طمأنينة. المعنى: تمم النعمة بأن تجعل لي آية، وتكون تلك الآية زيادة نعمة وكرامة، فقيل له:" آيَتُكَ

أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ
" أي تمنع من الكلام ثلاث ليال، دليل هذا القول قوله تعالى بعد بشري الملائكة له." وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً" [مريم: 9] «1» أي أوجدتك بقدرتي فكذلك أوجد لك الولد. واختار هذا القول النحاس وقال: قول قتادة إن زكريا عوقب بترك الكلام قول مرغوب عنه، لان الله عز وجل لم يخبرنا أنه أذنب ولا أنه نهاه عن هذا، والقول فيه أن المعنى اجعل لي علامة تدل على كون الولد، إذ كان ذلك مغيبا عني. و" رَمْزاً" نصب على الاستثناء المنقطع، قال الأخفش. وقال الكسائي: رمز يرمز ويرمز. وقرى" إلا رمزا" بفتح الميم و" رمزا" بضمها وضم الراء، الواحدة رمزة. الثالثة- في هذه الآية دليل على أن الإشارة تنزل منزلة الكلام وذلك موجود في كثير من السنة، وآكد الإشارات ما حكم به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أمر السوداء حين قال لها: (أين الله)؟ فأشارت برأسها إلى السماء فقال: (أعتقها فإنها مؤمنة). فأجاز الإسلام بالإشارة الذي هو أصل الديانة الذي يحرز الدم والمال وتستحق به الجنة وينجى به من النار، وحكم بإيمانها كما يحكم بنطق من يقول ذلك، فيجب أن تكون الإشارة عاملة في سائر الديانة، وهو قول عامة الفقهاء. وروى ابن القاسم عن مالك أن الأخرس إذا أشار بالطلاق إنه يلزمه. وقال الشافعي في الرجل يمرض فيختل لسانه فهو كالأخرس في الرجعة والطلاق. وقال أبو حنيفة: ذلك جائز إذا كانت إشارته تعرف، وإن شك فيها فهي باطل، وليس ذلك بقياس وإنما هو استحسان. والقياس في هذا كله أنه باطل، لأنه لا يتكلم ولا تعقل إشارته. قال أبو الحسن بن بطال: وإنما حمل أبا حنيفة. على قول هذا أنه لم يعلم السنن التي جاءت بجواز الإشارات في أحكام مختلفة في «2» الديانة. ولعل البخاري حاول بترجمته" باب الإشارة في الطلاق والأمور" الرد عليه. وقال عطاء: أراد بقوله" أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ" صوم ثلاثة أيام. وكانوا إذا صاموا لا يتكلمون إلا رمزا. وهذا فيه بعد. والله أعلم. الرابعة- قال بعض من يجيز نسخ القرآن بالسنة: إن زكريا عليه السلام منع الكلام وهو قادر عليه، وإنه منسوخ بقوله عليه السلام: (لا صمت يوما إلى الليل) «3». وأكثر
__________
(1). راجع ج 11 ص 84.
(2). في د: من الديانة.
(3). وفى البحر وابن عطية" لا صمت يوم". ورواية أبى داود" ولا صمات يوم إلى الليل" راجع الحديث في اللسان مادة صمت.

وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42)

العلماء على أنه ليس بمنسوخ، وأن زكريا إنما منع الكلام بآفة «1» دخلت عليه منعته إياه، وتلك الآفة «2» عدم القدرة على الكلام مع الصحة، كذلك قال المفسرون. وذهب كثير من العلماء إلى أنه (لا صمت يوما إلى الليل) إنما معناه عن ذكر الله، وأما عن الهذر وما لا فائدة فيه، فالصمت عن ذلك حسن. قوله تعالى: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ) أمره بألا يترك الذكر في نفسه مع اعتقال لسانه، على القول الأول. وقد مضى في البقرة «3» معنى الذكر. وقال محمد ابن كعب القرظي: لو رخص لاحد في ترك الذكر لرخص لزكريا بقول الله عز وجل" أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً" ولرخص للرجل يكون في الحرب بقول الله عز وجل:" إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً" [الأنفال: 45] «4». وذكره الطبري." وسبح" أي صل، سميت الصلاة سبحة لما فيها من تنزيه الله تعالى عن السوء. و" العشي" جمع عشية. وقيل: هو واحد. وذلك من حين تزول الشمس إلى أن تغيب، عن مجاهد. وفي الموطأ عن القاسم بن محمد قال: ما أدركت الناس إلا وهم يصلون الظهر بعشي." وَالْإِبْكارِ" من طلوع الفجر إلى وقت الضحى.

[سورة آل عمران (3): آية 42]
وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (42)
قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ) أي اختارك، وقد تقدم «5». (وَطَهَّرَكِ) أي من الكفر، عن مجاهد والحسن. الزجاج: من سائر الأدناس من الحيض والنفاس وغيرهما، واصطفاك لولادة عيسى (عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ) يعني عالمي زمانها، عن الحسن وابن جريج وغيرهما. وقيل:" عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ" أجمع إلى يوم الصور، وهو الصحيح على ما نبينه، وهو قول الزجاج وغيره. وكرر الاصطفاء لان معنى الأول الاصطفاء لعبادته، ومعنى الثاني لولادة عيسى. وروى مسلم عن أبى موسى قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (كمل
__________
(1). في د: بآية، وتلك الآية.
(2). راجع ج 1 ص 331. [.....]
(3). راجع ج 8 ص 32.
(4). راجع ج 8 ص 32.
(5). راجع ج 2 ص 133.

من الرجال كثير ولم يكمل من النساء غير مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام (. قال علماؤنا رحمة الله عليهم: الكمال هو التناهى والتمام، ويقال في ماضيه" كمل" بفتح الميم وضمها، ويكمل في مضارعة بالضم، وكمال كل شي بحسبه. والكمال المطلق إنما هو لله تعالى خاصة. ولا شك أن أكمل نوع الإنسان الأنبياء ثم يليهم الأولياء من الصديقين والشهداء والصالحين. وإذا تقرر هذا فقد قيل: إن الكمال المذكور في الحديث يعني به النبوة فيلزم عليه أن تكون مريم عليها السلام وآسية نبيتين، وقد قيل بذلك. والصحيح أن مريم نبية، لان الله تعالى أوحى إليها بواسطة الملك كما أوحى إلى سائر النبيين حسب ما تقدم ويأتي بيانه أيضا في" مريم" «1». وأما آسية فلم يرد ما يدل على نبوتها دلالة واضحة بل على صديقيتها وفضلها، على ما يأتي بيانه في" التحريم" «2». وروي من طرق صحيحة أنه عليه السلام قال فيما رواه عنه أبو هريرة: (خير نساء العالمين أربع مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد). ومن حديث ابن عباس عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أفضل نساء أهل الجنة خديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد ومريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون (. وفي طريق آخر عنه:) سيدة نساء أهل الجنة بعد مريم فاطمة وخديجة (. فظاهر القرآن والأحاديث يقتضي أن مريم أفضل من جميع نساء العالم من حواء إلى آخر امرأة تقوم عليها الساعة، فإن الملائكة قد بلغتها الوحي عن الله عز وجل بالتكليف والاخبار والبشارة كما بلغت سائر الأنبياء، فهي إذا نبية والنبي أفضل من الولي فهي أفضل من كل النساء: الأولين والآخرين مطلقا. ثم بعدها في الفضيلة فاطمة ثم خديجة ثم آسية. وكذلك رواه موسى بن عقبة عن كريب عن ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (سيدة نساء العالمين مريم ثم فاطمة ثم خديجة ثم آسية). وهذا حديث حسن يرفع الاشكال. وقد خص الله مريم بما لم يؤته أحدا من النساء، وذلك أن روج القدس كلمها وظهر لها ونفخ في درعها ودنا منها للنفخة، فليس هذا لاحد من النساء. وصدقت بكلمات
__________
(1). راجع ج 11 ص 9.
(2). راجع ج 18 ص 203.

يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)

ربها ولم تسأل آية عند ما بشرت كما سأل زكريا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الآية، ولذلك سماها الله في تنزيله صديقة فقال:" وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ" [المائدة: 75] «1». وقال:" وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ" [التحريم: 12] «2» فشهد لها بالصديقية وشهد لها بالتصديق لكلمات البشرى وشهد لها بالقنوت. وإنما بشر زكريا بغلام فلحظ إلى كبر سنه وعقامة رحم امرأته فقال: أنى يكون لي غلام وامرأتي عاقر، فسأل آية، وبشرت مريم بالغلام فلحظت أنها بكر ولم يمسسها بشر فقيل لها:" كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ" [مريم: 21] «3» فاقتصرت على ذلك، وصدقت بكلمات ربها ولم تسأل آية ممن يعلم كنة هذا الامر، ومن لامرأة في جميع نساء العالمين من بنات آدم ما لها من هذه المناقب!. ولذلك روي أنها سبقت السابقين مع الرسل إلى الجنة، جاء في الخبر عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لو أقسمت لبررت لا يدخل الجنة قبل سابقي أمتي إلا بضعة عشر رجلا منهم إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وموسى وعيسى ومريم ابنة عمران (. وقد كان يحق على من انتحل علم الظاهر واستدل بالأشياء الظاهرة على الأشياء الباطنة أن يعرف قول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر) وقوله حيث يقول: (لواء الحمد يوم القيامة بيدي ومفاتيح الكرم بيدي وأنا أول خطيب وأول شفيع وأول مبشر وأول وأول). فلم ينل هذا السؤدد في الدنيا على الرسل إلا لأمر عظيم في الباطن. وكذلك شأن مريم لم تنل شهادة الله في التنزيل بالصديقية والتصديق بالكلمات إلا لمرتبة قريبة دانية. ومن قال لم تكن نبية قال: إن رؤيتها للملك كما رئي جبريل عليه السلام في صفة دحية الكلبي حين سؤاله عن الإسلام والايمان ولم تكن الصحابة بذلك أنبياء والأول أظهر وعليه الأكثر. والله أعلم.

[سورة آل عمران (3): آية 43]
يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)
أي أطيلي القيام في الصلاة، عن مجاهد. قتادة: أديمي الطاعة. وقد تقدم القول في القنوت «4». قال الأوزاعي: لما قالت لها الملائكة ذلك قامت في الصلاة حتى ورمت
__________
(1). راجع ج 6 ص 250.
(2). راجع ج 18 ص 203.
(3). راجع ج 11 ص 91.
(4). راجع ج 2 ص 86 وج 2 ص 213.

ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44)

قدماها وسألت دما وقيحا عليها السلام. (وَاسْجُدِي وَارْكَعِي) قدم السجود ها هنا على الركوع لان الواو لا توجب الترتيب، وقد تقدم الخلاف في هذا في البقرة عند قول تعالى:" إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ" [البقرة: 158] «1». فإذا قلت: قام زيد وعمرو جاز أن يكون عمرو قام قبل زيد، فعلى هذا يكون المعنى واركعي واسجدي. وقيل: كان شرعهم السجود قبل الركوع. (مَعَ الرَّاكِعِينَ) قيل: معناه افعلي كفعلهم وإن لم تصلي معهم. وقيل: المراد به صلاة الجماعة. وقد تقدم في البقرة «2».

[سورة آل عمران (3): آية 44]
ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44)
فيه أربع مسائل: الاولى- قوله تعالى: (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ) أي الذي ذكرنا من حديث زكريا ويحيى ومريم عليهم السلام من أخبار الغيب. (نُوحِيهِ إِلَيْكَ) فيه دلالة على نبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حيث أخبر عن قصة زكريا ومريم ولم يكن قرأ الكتب، وأخبر عن ذلك وصدقه أهل الكتاب بذلك، فذلك قوله تعالى:" نُوحِيهِ إِلَيْكَ" فرة الكناية إلى" ذلك" فلذلك. والإيحاء هنا الإرسال إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. والوحي يكون إلهاما وإيماء وغير ذلك. وأصله في اللغة إعلام في خفاء، ولذلك صار الإلهام يسمى وحيا، ومنه" وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ" [المائدة: 111] «3» وقوله:" وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ" [النحل: 68] «4» وقيل: معنى" أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ" أمرتهم، يقال: وحى وأوحى، ورمى وأرمى، بمعناه. قال العجاج:
أوحى لها القرار فاستقرت

أي أمر الأرض بالقرار. وفي الحديث: (الوحي الوحي) وهو السرعة، والفعل منه توحيت توحيا. قال ابن فارس: الوحي الإشارة والكتابة والرسالة، وكل ما ألقيته إلى غيرك
__________
(1). راجع ج 2 ص 344.
(2). راجع المسألة الخامسة وما بعدها ج 1 ص 344.
(3). راجع ج 6 ص 363.
(4). راجع ج 10 ص 133.

حتى يعلمه وحي كيف كان. والوحي: السريع. والوحى: الصوت، ويقال: استوحيناهم أي استصرخناهم. قال:
أوحيت ميمونا لها «1» والأزراق

الثانية- قوله تعالى (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ) أي وما كنت يا محمد لديهم، أي بحضرتهم وعندهم (إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ) جمع قلم، من قلمه إذا قطعه. قيل: قداحهم وسهامهم. وقيل: أقلامهم التي كانوا يكتبون بها التوراة، وهو أجود، لان الأزلام قد نهى الله عنها فقال" ذلِكُمْ فِسْقٌ" [المائدة: 3] «2». إلا أنه يجوز أن يكونوا فعلوا ذلك على غير الجهة التي كانت عليها الجاهلية تفعلها. (أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ) أي يحضنها، فقال زكريا: أنا أحق بها، خالتها عندي. وكانت عنده أشيع بنت فاقود أخت حنة بنت فاقود أم مريم. وقال بنو إسرائيل: نحن أحق بها، بنت عالمنا. فاقترعوا عليها وجاء كل واحد بقلمه، واتفقوا أن يجعلوا الأقلام في الماء الجاري فمن وقف قلمه ولم يجره الماء فهو حاضنها. قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (فجرت الأقلام وعال قلم زكريا). وكانت آية له، لأنه نبي تجري الآيات على يديه. وقيل غير هذا. و" أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ" ابتداء وخبر في موضع نصب بالفعل المضمر الذي دل عليه الكلام، التقدير: ينظرون أيهم يكفل مريم. ولا يعمل الفعل في لفظ" أي" لأنها استفهام. الثالثة- استدل بعض علمائنا بهذه الآية على إثبات القرعة، وهي أصل في شرعنا لكل من أراد العدل في القسمة، وهي سنة عند جمهور الفقهاء في المستويين في الحجة ليعدل بينهم وتطمئن قلوبهم وترتفع الظنة عمن يتولى قسمتهم، ولا يفضل أحد منهم على صاحبه إذا كان المقسوم من جنس واحد اتباعا للكتاب والسنة. ورد العمل بالقرعة أبو حنيفة وأصحابه، وردوا الأحاديث الواردة فيها، وزعموا أنها لا معنى لها وأنها تشبه الأزلام التي نهى الله عنها. وحكى ابن المنذر عن أبي حنيفة أنه جوزها وقال: القرعة في القياس لا تستقيم، ولكنا تركنا القياس في ذلك وأخذنا بالآثار والسنة. قال أبو عبيد: وقد عمل بالقرعة ثلاثة من الأنبياء: يونس وزكريا ونبينا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال ابن المنذر. واستعمال القرعة
__________
(1). في نسخة: د، لهم. [.....]
(2). راجع ج 6 ص 60.

كالإجماع من أهل العلم فيما يقسم بين الشركاء، فلا معنى لقول من ردها. وقد ترجم البخاري في آخر كتاب الشهادات (باب القرعة في المشكلات وقول الله عز وجل" إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ" وساق حديث النعمان بن بشير: (مثل القائم على حدود الله والمدهن «1» فيها مثل قوم استهموا على سفينة ...) الحديث. وسيأتي في" الأنفال"»
إن شاء الله تعالى، وفي سورة" الزخرف" «3» أيضا بحول الله سبحانه، وحديث أم العلاء، وأن عثمان بن مظعون طار لهم سهمه في السكنى حين اقترعت الأنصار سكنى المهاجرين، الحديث، وحديث عائشة قالت: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها، وذكر الحديث. وقد اختلفت الرواية عن مالك في ذلك، فقال مرة: يقرع للحديث. وقال مرة: يسافر بأوفقهن له في السفر. وحديث أبي هريرة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا). والأحاديث في هذا المعنى كثيرة. وكيفية القرعة مذكورة في كتب الفقه والخلاف. واحتج أبو حنيفة بأن قال: إن القرعة في شأن زكريا وأزواج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانت مما لو تراضوا عليه دون قرعة لجاز. قال ابن العربي:" وهذا ضعيف، لان القرعة إنما فائدتها استخراج الحكم الخفي عند التشاح «4»، فأما ما يخرجه التراضي [فيه ] «5» فباب آخر، ولا يصح لاحد أن يقول: إن القرعة تجري مع موضع التراضي، فإنها لا تكون أبدا مع التراضي" وإنما تكون فيما يتشاح الناس فيه ويضن به. وصفه القرعة عند الشافعي ومن قال بها: أن تقطع رقاع صغار مستوية فيكتب في كل رقعة اسم ذي السهم ثم تجعل في بنادق طين مستوية لا تفاوت فيها ثم تجفف قليلا ثم تلقى في ثوب رجل لم يحضر ذلك ويغطى عليها ثوبه ثم يدخل يده ويخرج، فإذا أخرج اسم رجل أعطي الجزء الذي أقرع عليه.
__________
(1). كذا في نسخ الأصل، وهو لفظ البخاري عن النعمان في" كتاب المظالم". وروايته. في" كتاب الشهادات":" ... مثل المدهن في حدود الله والواقع فيها مثل ...". والمدهن الذي يرائي.
(2). راجع ج 7 ص 392.
(3). راجع ج 16 ص 86.
(4). تشاح الخصمان: أراد كل أن يكون هو الغالب.
(5). زيادة عن أحكام القرآن لابن العربي.

إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46)

الرابعة- ودلت الآية أيضا على أن الخالة أحق بالحضانة من سائر القرابات ما عدا الجدة، وقد قضى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ابنة حمزة- واسمها أمة الله- لجعفر وكانت عنده خالتها، وقال: (إنما الخالة بمنزلة الام) وقد تقدمت في البقرة هذه المسألة «1». وخرج أبو داود عن علي قال: خرج زيد بن حارثة إلى مكة فقدم بابنة حمزة فقال جعفر: أنا آخذها أنا أحق بها ابنة عمي وخالتها عندي، وإنما الخالة أم. فقال علي: أنا أحق بها ابنة عمي وعندي ابنة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهي أحق بها. وقال زيد: أنا أحق بها، أنا خرجت إليها وسافرت وقدمت بها، فخرج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فذكر حديثا قال: (وأما الجارية فأقضي بها لجعفر تكون مع خالتها وإنما الخالة أم). وذكر ابن أبي خيثمة أن زيد بن حارثة كان وصي حمزة، فتكون الحالة على هذا أحق من الوصي ويكون ابن العم إذا كان زوجا غير قاطع بالخالة في الحضانة وإن لم يكن محرما لها.

[سورة آل عمران (3): الآيات 45 الى 46]
إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46)
دليل على نبوتها كما تقدم. و" إِذْ"" متعلقة ب" يَخْتَصِمُونَ". ويجوز أن تكون متعلقة بقوله:" وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ". (بِكَلِمَةٍ مِنْهُ) وقرا أبو السمان" بِكَلِمَةٍ مِنْهُ"، وقد تقدم. (اسْمُهُ الْمَسِيحُ) ولم يقل اسمها لان معنى كلمة معنى ولد. والمسيح لقب لعيسى ومعناه الصديق، قاله إبراهيم النخعي. وهو فيما يقال معرب وأصله الشين وهو مشترك. وقال ابن فارس: والمسيح العرق، والمسيح الصديق، والمسيح الدرهم الأطلس «2» لا نقش فيه والمسح الجماع، يقال مسحها «3». والأمسح: المكان الأملس. والمسحاء المرأة الرسحاء التي لا است لها. وبفلان مسحة من جمال. والمسائح قسي جياد، واحدتها مسيحة. قال:
__________
(1). راجع ج 3 ص 164.
(2). كذا في بعض النسخ والمصباح، وفى اللسان: الطلس: المحو، والطلس كتاب قد محي ولم ينعم محوه، ثم قال: والأطلس الثوب الخلق. وفى ز: الدرهم الأملس لا نقش عليه.
(3). الظاهر أن هنا سقطا كأن الأصل: يقال مسحها إذا جامعها.

لها مسائح زور في مراكضها ... لين وليس بها وهن ولا رقق «1»
واختلف في المسيح ابن مريم مما ذا أخذ، فقيل: لأنه مسح الأرض، أي ذهب فيها فلم يستكن بكن. وروي عن ابن عباس أنه كان لا يمسح ذا عاهة إلا برئ، فكأنه سمي مسيحا لذلك، فهو على هذا فعيل بمعنى فاعل. وقيل: لأنه ممسوح بدهن البركة، كانت الأنبياء تمسح به، طيب الرائحة، فإذا مسح به علم أنه نبي. وقيل: لأنه كان ممسوح الأخمصين. وقيل: لان الجمال مسحه، أي أصابه وظهر عليه. وقيل: إنما سمي بذلك لأنه مسح بالطهر «2» من الذنوب. وقال أبو الهيثم: المسيح ضد المسيخ، يقال: مسحه الله أي خلقه خلقا حسنا مباركا، ومسخه أي خلقه خلقا ملعونا قبيحا. وقال ابن الاعرابي: المسيح الصديق، والمسيخ الأعور، وبه سمي الدجال. وقال أبو عبيد: المسيح أصله بالعبرانية مشيحا بالشين فعرب كما عرب موشى بموسى. وأما الدجال فسمي مسيحا «3» لأنه ممسوح إحدى العينين. وقد قيل في الدجال مسيح بكسر الميم وشد السين. وبعضهم يقول كذلك بالخاء المنقوطة. وبعضهم يقول مسيخ بفتح الميم وبالخاء والتخفيف، والأول أشهر. وعليه الأكثر. سمي به لأنه يسيح في الأرض أي يطوفها ويدخل جميع بلدانها إلا مكة والمدينة وبئت المقدس، فهو فعيل بمعنى فاعل، فالدجال يمسح الأرض محنة، وابن مريم يمسحها منحة. وعلى أنه ممسوح العين فعيل بمعنى مفعول. وقال الشاعر:
إن المسيح يقتل المسيحا

وفي صحيح مسلم عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ليس من بلد إلا سيطؤه الدجال إلا مكة والمدينة) الحديث. ووقع في حديث عبد الله بن عمرو (إلا الكعبة وبيت المقدس) ذكره أبو جعفر الطبري. وزاد أبو جعفر الطحاوي (ومسجد الطور)، رواه من حديث جنادة بن أبي أمية عن بعض أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وفي حديث أبي بكر بن أبي شيبة عن سمرة بن جندب عن النبي
__________
(1). زور: جمع زوراء وهى المائلة. والوهن الضعف، والرقق: ضعف العظام.
(2). في ز: التطهر في ب ود: التطهير.
(3). في ز، د: مسيخا- بالمعجمة- وأنه ممسوخ إحدى العينين.

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وأنه سيظهر على الأرض كلها إلا الحرم وبئت المقدس وأنه يحصر المؤمنين في بيت المقدس). وذكر الحديث. وفي صحيح مسلم: (فبينا هو كذلك إذ بعث الله المسيح ابن، مريم فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين «1» واضعا كفيه على أجنحة ملكين إذا طأطأ رأسه قطر وإذا رفعه تحدر منه جمان «2» كاللؤلؤ فلا يحل لكافر يجد ريح نفسه إلا مات، ونفسه ينتهي حيث ينتهي طرفه فيطلبه حتى يدركه بباب لد فيقتله ( «3» الحديث «4» بطوله. وقد قيل: إن المسيح اسم لعيسى غير مشتق سماه الله به. فعلى هذا يكون عيسى بدلا من المسيح من البدل الذي هو هو. وعيسى اسم أعجمي فلذلك لم ينصرف وإن جعلته عربيا لم ينصرف في معرفة ولا نكرة، لان فيه ألف. تأنيث. ويكون مشتقا من عاسه يعوسه إذا ساسة وقام عليه. (وَجِيهاً) أي شريفا ذا جاه وقدر، وانتصب على الحال، قاله الأخفش. (وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) عند الله تعالى وهو معطوف على" وَجِيهاً" أي ومقربا، قاله الأخفش. وجمع وجيه وجهاء ووجهاء. (وَيُكَلِّمُ النَّاسَ) عطف على" وَجِيهاً" قاله الأخفش أيضا. و(الْمَهْدِ) مضجع الصبي في رضاعه. ومهدت الامر هيأته ووطأته. وفي التنزيل" فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ" [الروم: 44] «5». وامتهد الشيء ارتفع كما يمتهد سنام البعير. (وَكَهْلًا) الكهل بين حال الغلومة وحال الشيخوخة. وامرأة كهلة. واكتهلت الروضة إذا عمها النور. يقول: يكلم الناس في المهد آية، ويكلمهم كهلا بالوحي والرسالة. وقال أبو العباس: كلمهم في المهد حين برأ أمه فقال:" إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ" [مريم: 30] «6» الآية. وأما كلامه وهو كهل فإذا أنزل الله تعالى [من السماء] «7» أنزله على صورة ابن ثلاث وثلاثين سنة وهو الكهل فيقول لهم:" إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ" كما قال في المهد. فهاتان آيتان وحجتان. قال المهدوي: وفائدة الآية أنه أعلمهم أن عيسى عليه السلام يكلمهم في المهد ويعيش إلى أن يكلمهم كهلا، إذ كانت العادة أن من تكلم في المهد لم يعش.
__________
(1). قوله: مهرودتين، أي في شقتين أو حلتين. وقيل: الثوب المهرود الذي يصبغ بالورس ثم بالزعفران.
(2). الجمان (بضم الجيم وتخفيف الميم): حبات من الفضة تصنع على هيئة اللؤلؤ الكبار. [.....]
(3). لد (بضم اللام وتشديد الدال): قرية في فلسطين قريبة من بيت المقدس.
(4). راجع صحيح مسلم ج 2 ص 376 طبع بولاق.
(5). راجع القرطبي ج 14 ص 44.
(6). راجع ج 11 ص 102.
(7). الزيادة عن البحر لابي حيان.

قال الزجاج:" وَكَهْلًا" بمعنى ويكلم الناس كهلا. وقال الفراء والأخفش: هو معطوف على" وَجِيهاً". وقيل: المعنى ويكلم الناس صغيرا وكهلا. وروى ابن جريح عن مجاهد قال: الكهل الحليم. قال النحاس: هذا لا يعرف في اللغة، وإنما الكهل عند أهل اللغة من ناهز الأربعين. وقال بعضهم: يقال له حدث إلى ست عشرة سنة. ثم شاب إلى اثنتين وثلاثين. ثم يكتهل في ثلاث وثلاثين، قاله الأخفش. (وَمِنَ الصَّالِحِينَ) عطف على" وَجِيهاً" أي وهو من العباد الصالحين. ذكر أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عبد الله بن إدريس عن حصين عن هلال بن يساف. قال: لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة: عيسى وصاحب يوسف وصاحب جريج، كذا قال:" وصاحب يوسف". وهو في صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة عيسى ابن مريم وصاحب جريج وصاحب الجبار وبينا صبي يرضع من أمه) وذكر الحديث، بطوله «1». وقد جاء من حديث صهيب في قصة الأخدود (أن امرأة جئ بها لتلقى في النار على إيمانها ومعها صبي). في غير كتاب مسلم (يرضع فتقاعست أن تقع فيها فقال الغلام يا أمه اصبري فإنك على الحق). وقال الضحاك: تكلم في المهد ستة: شاهد يوسف وصبي ماشطة امرأة فرعون وعيسى ويحيى وصاحب جريج وصاحب الجبار. ولم يذكر الأخدود، فأسقط صاحب لاخدود وبه يكون المتكلمون سبعة. ولا معارضة بين هذا وبين قوله عليه السلام: (لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة) بالحصر فإنه أخبر بما كان في علمه مما أوحى إليه في تلك الحال، ثم بعد هذا أعلمه الله تعالى بما شاء من ذلك فأخبر به. قلت: أما صاحب يوسف فيأتي الكلام فيه، وأما صاحب جريج وصاحب الجبار وصاحب الأخدود ففي صحيح مسلم. وستأتي قصة الأخدود في سورة" البروج" «2» إن شاء الله تعالى. وأما صبي ماشطة [امرأة] فرعون، فذكر البيهقي عن ابن عباس قال قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لما أسري بي سرت في رائحة طيبة فقلت ما هذه الرائحة قالوا ماشطة
__________
(1). راجع صحيح مسلم ج 2 ص 276 طبع بولاق راجع ج 19.
(2). راجع ج 19 ص 284.

قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47)

ابنة فرعون وأولادها سقط مشطها من يديها فقالت: بسم الله فقالت ابنة فرعون: أبي؟ قالت: ربي وربك ورب أبيك. قالت: أو لك رب غير أبي؟ قالت: نعم ربي وربك ورب أبيك الله- قال- فدعاها فرعون فقال: ألك رب غيري؟ قالت: نعم ربي وربك الله- قال- فأمر بنقرة من نحاس فأحميت ثم أمر بها لتلقى فيها قالت: إن لي إليك حاجة قال: ما هي؟ قالت: تجمع عظامي وعظام ولدي في موضع واحد قال: ذاك لك لما لك علينا من الحق. فأمر «1» بهم فألقوا واحدا بعد واحد حتى بلغ رضيعا فيهم فقال قعي يا أمه ولا تقاعسي فإنا على الحق- قال- وتكلم أربعة وهم صغار: هذا وشاهد يوسف وصاحب جريج وعيسى ابن مريم.

[سورة آل عمران (3): آية 47]
قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47)
قوله تعالى: (قالَتْ رَبِّ) أي يا سيدي. تخاطب جبريل عليه السلام، لأنه لما تمثل لها قال لها: إنما أنا رسول ربك ليهب لك غلاما زكيا. فلما سمعت ذلك من قوله استفهمت عن طريق الولد فقالت: أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر؟ أي بنكاح. [في سورتها] «2»" وَلَمْ أَكُ «3» بَغِيًّا" [مريم: 20] ذكرت هذا تأكيدا، لان قولها" لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ" يشمل الحرام والحلال. تقول: العادة الجارية التي أجراها الله في خلقه أن الولد لا يكون إلا عن نكاح أو سفاح. وقيل: ما استبعدت من قدرة الله تعالى شيئا، ولكن أرادت كيف يكون هذا الولد: أمن قبل زوج في المستقبل أم يحلقه الله ابتداء؟ فروي أن جبريل عليه السلام حين قال لها:" كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ"" قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ" [مريم: 9]. نفخ في جيب درعها وكمها، قاله ابن جريج. قال ابن عباس: أخذ جبريل ردن «4» قميصها بإصبعه فنفخ فيه فحملت من ساعتها بعيسى. وقيل غير ذلك على ما يأتي بيانه في سورتها إن شاء الله تعالى. وقال بعضهم: وقع نفخ جبريل في رحمها فعلقت
__________
(1). يبدو هنا سقط في كل الأصول، فقوله: واحدا بعد واحد من قصة أصحاب الأخدود لأصله له بما قبله. راجع ج 19 ص 286.
(2). الزيادة في نخ: ب. ود. أي في سورة مريم" وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا".
(3). راجع ج 11 ص 91.
(4). الردن (بالضم) أصل أصل الكم.

وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49)

بذلك. وقال بعضهم: لا يجوز أن يكون الخلق من نفخ جبريل لأنه يصير الولد بعضه من الملائكة وبعضه من الانس، ولكن سبب ذلك أن الله تعالى لما خلق آدم واخذ الميثاق من ذريته فجعل بعض الماء في أصلاب الإباء وبعضه في أرحام الأمهات فإذا اجتمع الماءان صارا ولدا، وأن الله تعالى جعل الماءين جميعا في مريم بعضه في رحمها وبعضه في صلبها، فنفخ فيه جبريل لتهيج شهوتها، لان المرأة ما لم تهج شهوتها لا تحبل، فلما هاجت شهوتها بنفخ جبريل وقع الماء الذي كان في صلبها في رحمها فاختلط الماءان فعلقت بذلك، فذلك قوله تعالى:" إِذا قَضى أَمْراً" يعني إذا أراد أن يخلق خلقا" فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ". وقد تقدم في" البقرة" القول فيه مستوفى «1».

[سورة آل عمران (3): الآيات 48 الى 49]
وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49)
قوله تعالى: (وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) قال ابن جريج: الكتاب الكتابة والخط. وقيل: هو كتاب غير التوراة والإنجيل علمه الله عيسى عليه السلام. (وَرَسُولًا) أي ونجعله رسولا. أو يكلمهم رسولا. وقيل: هو معطوف على قوله" وَجِيهاً". وقال الأخفش: وإن شئت جعلت الواو في قوله" وَرَسُولًا" مقحمة والرسول حالا للهاء، تقديره ويعلمه الكتاب رسولا. وفي حديث أبي ذر الطويل (وأول أنبياء بني إسرائيل موسى وآخرهم عيسى عليه السلام). (أنى أخلق لكم) أي أصور وأقدر لكم. من الطين كهيئة الطير) قرأ الأعرج وأبو جعفر" كهية" بالتشديد. الباقون بالهمز.
__________
(1). راجع ج 1 ص 87.

والطير يذكر ويؤنث. (فَأَنْفُخُ فِيهِ) أي في الواحد منه أو منها أو في الطين فيكون طائرا. وطائر وطير مثل تاجر وتجر. قال وهب: كان يطير ما دام الناس ينظرون إليه فإذا غاب عن أعينهم سقط ميتا ليتميز فعل الخلق من فعل الله تعالى. وقيل: لم يخلق غير الخفاش لأنه أكمل الطير خلقا ليكون أبلغ في القدرة لان لها ثديا وأسنانا وأذنا، وهي تحيض وتطهر وتلد. ويقال: إنما طلبوا خلق خفاش لأنه أعجب من سائر الخلق، ومن عجائبه أنه لحم ودم يطير بغير ريش ويلد كما يلد الحيوان ولا يبيض كما يبيض سائر الطيور، فيكون له الضرع يخرج منه اللبن، ولا يبصر في ضوء النهار ولا في ظلمة الليل، وإنما يرى في ساعتين: بعد غروب الشمس ساعة وبعد طلوع الفجر ساعة قبل أن يسفر جدا، ويضحك كما يضحك الإنسان، ويحيض كما تحيض المرأة. ويقال: إن سؤالهم كان له على وجه التعنت فقالوا: أخلق لنا خفاشا واجعل فيه روحا إن كنت صادقا في مقالتك، فأخذ طينا وجعل منه خفاشا ثم نفخ فيه فإذا هو يطير بين السماء والأرض، وكان تسوية الطين والنفخ من عيسى والخلق من الله، كما أن النفخ من جبريل والخلق من الله. وقوله تعالى: (وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ) الأكمه: الذي يولد أعمى، عن ابن عباس. وكذا قال أبو عبيدة قال: هو الذي يولد أعمى، وأنشد لرؤبة:
فارتد ارتداد الأكمه

وقال ابن فارس: الكمه العمى يولد به الإنسان وقد يعرض. قال سويد:
كمهت عيناه حتى ابيضتا

مجاهد: هو الذي يبصر بالنهار ولا يبصر بالليل. عكرمة: هو الأعمش، ولكنه في اللغة العمى، يقال كمه يكمه كمها وكمهتها أنا إذا أعميتها. والبرص معروف وهو بياض يعتري الجلد، والأبرص القمر، وسام أبرص معروف، ويجمع على الابارص. وخص هذان بالذكر لأنهما عياءان. وكان الغالب على زمن عيسى عليه السلام الطب فأراهم الله المعجزة من جنس ذلك (وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ) قيل: أحيا أربعة أنفس: العاذر: وكان صديقا له، وابن العجوز

وابنة العاشر وسام بن نوح، فالله أعلم. فأما العاذر فإنه كان قد توفى قبل ذلك بأيام فدعا الله فقام بإذن الله وودكه يقطر فعاش وولد له، وأما ابن العجوز فإنه مر به يحمل على سريره فدعا الله فقام ولبس ثيابه وحمل السرير على عنقه ورجع إلى أهله. وأما بنت العاشر فكان أتى عليها ليلة فدعا الله فعاشت بعد ذلك وولد لها، فلما رأوا ذلك قالوا: إنك تحيي من كان موته قريبا فلعلهم لم يموتوا فأصابتهم سكتة فأحى لنا سام بن نوح. فقال لهم: دلوني على قبره، فخرج وخرج القوم معه حتى انتهى إلى قبره فدعا الله فخرج من قبره وقد شاب رأسه. فقال له عيسى: كيف شاب رأسك ولم يكن في زمانكم شيب؟ فقال: يا روح الله، إنك دعوتني فسمعت صوتا يقول: أجب روح الله، فظننت أن القيامة قد قامت، فمن هول ذلك شاب رأسي. فسأله عن النزع فقال: يا روح الله إن مرارة النزع لم تذهب عن حنجرتي، وقد كان من وقت موته أكثر من أربعة آلاف سنة، فقال للقوم: صدقوه فإنه نبي، فآمن به بعضهم وكذبه بعضهم وقالوا: هذا سحر. وروي من حديث إسماعيل ابن عياش قال: حدثني محمد بن طلحة عن رجل أن عيسى ابن مريم كان إذا أراد أن يحيي الموتى صلى ركعتين يقرأ في الاولى:" تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ" [الملك: 1]. وفي الثانية" تنزيل السجدة" فإذا فرغ حمد الله وأثنى عليه ثم دعا بسبعة أسماء: يا قديم يا خفي يا دائم يا فرد يا وتر يا أحد يا صمد، ذكره البيهقي وقال: ليس إسناده بالقوي «1». قوله تعالى: (وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي بالذي تأكلونه وما تدخرون. وذلك أنهم لما أحيا لهم الموتى طلبوا منه آية أخرى وقالوا: أخبرنا بما نأكل في بيوتنا وما ندخر للغد، فأخبرهم فقال: يا فلان أنت أكلت كذا وكذا، وأنت أكلت كذا وكذا وادخرت كذا وكذا، فذلك قوله" وَأُنَبِّئُكُمْ" الآية. وقرا مجاهد والزهري والسختياني" وَما تَدَّخِرُونَ" بالذال المعجمة مخففا. وقال سعيد بن جبير وغيره: كان يخبر الصبيان في الكتاب بما يدخرون حتى منعهم آباؤهم من الجلوس معه. قتادة: أخبرهم بما أكلوه من المائدة وما ادخروه منها خفية.
__________
(1). هذا الحديث لا يصح لان السورتين من القرآن ولا يجوز أن يكون من شي من القرآن من الكتب السابقة.

وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (51)

[سورة آل عمران (3): الآيات 50 الى 51]
وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (51)
قوله تعالى: وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (51) (وَمُصَدِّقاً) عطف على قوله:" وَرَسُولًا". وقيل: المعنى وجئتكم مصدقا. (لِما بَيْنَ يَدَيَّ) لما قبلي. (وَلِأُحِلَّ لَكُمْ) فيه حذف، أي ولا حل لكم جئتكم. (بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) يعني من الأطعمة. قيل: إنما أحل لهم عيسى عليه السلام ما حرم عليهم بذنوبهم ولم يكن في التوراة، نحو أكل الشحوم وكل ذى ظفر. وقيل: إنما أحل لهم أشياء حرمتها عليهم الأحبار ولم تكن في التوراة محرمة عليهم. قال أبو عبيدة: يجوز أن يكون" بَعْضَ" بمعنى كل، وأنشد لبيد:
ترّاك أمكنة إذا لم أرضها ... أو يرتبط بعض النفوس حمامها
وهذا القول غلط عند أهل النظر من أهل اللغة، لان البعض والجزء لا يكونان بمعنى الكل في هذا الموضع، لان عيسى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما أحل لهم أشياء مما حرمها عليهم موسى من أكل الشحوم وغيرها ولم يحل لهم القتل ولا السرقة ولا فاحشة. والدليل على هذا أنه «1» روي عن قتادة أنه قال: جاءهم عيسى بألين مما جاء به موسى صلى الله عليهما وعلى نبينا، لان موسى جاءهم بتحريم الإبل وأشياء من الشحوم فجاءهم عيسى بتحليل بعضها. وقرا النخعي" بعض الذي حرم عليكم" مثل كرم، أي صار حراما. وقد يوضع البعض بمعنى الكل إذا انضمت إليه قرينة تدل عليه، كما قال الشاعر «2»:
أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا ... حنانيك بعض الشر أهون من بعض
يريد بعض الشر أهون من كله. (وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) إنما وحد وهي آيات «3» لأنها جنس واحد في الدلالة على رسالته.
__________
(1). في د: ما روى. [.....]
(2). هو طرفة بن العبد، خاطب به عمرو بن هند الملك، وكنيته أبو منذر حين أمر بقتله.
(3). في د: آياته.

فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52)

[سورة آل عمران (3): آية 52]
فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52)
قوله تعالى: (فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ) أي من بني إسرائيل. وأحس معناه علم ووجد قاله الزجاج. وقال أبو عبيدة: معنى" أحس" عرف، واصل ذلك وجود الشيء بالحاسة. والاحساس: العلم بالشيء، قال الله تعالى:" هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ" [مريم: 98] «1» والحس القتل، قال الله تعالى:" إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ" [آل عمران: 152] «2». ومنه الحديث في الجراد (إذا حسه البرد). (مِنْهُمُ الْكُفْرَ) أي الكفر بالله. وقيل: سمع منهم كلمة الكفر. وقال الفراء: أرادوا قتله. (قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ) استنصر عليهم. قال السدي والثوري وغيرهما: المعنى مع الله، فإلى بمعنى مع، كقوله تعالى:" وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ" [النساء: 2] «3» أي مع. والله أعلم. وقال الحسن: المعنى من أنصاري في السبيل إلى الله، لأنه دعاهم إلى الله عز وجل. وقيل: المعنى من يضم نصرته إلى نصرة الله عز وجل. فإلى على هذين القولين على بابها، وهو الجيد. وطلب النصرة ليحتمي بها من قومه ويظهر الدعوة، عن الحسن ومجاهد. وهذه سنة الله في أنبيائه وأوليائه. وقد قال لوط:" لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ" [هود: 80] «4» أي عشيرة وأصحاب ينصرونني." قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ" أي أنصار نبيه ودينه. والحواريون أصحاب عيسى عليه السلام، وكانوا اثنى عشر رجلا، قاله الكلبي وأبو روق. واختلف في تسميتهم بذلك، فقال ابن عباس: سموا بذلك لبياض ثيابهم، وكانوا صيادين. ابن أبي نجيح وابن أرطاة: كانوا قصارين فسموا بذلك لتبييضهم الثياب. قال عطاء: أسلمت مريم عيسى إلى أعمال شتى، وآخر ما دفعته إلى الحواريين وكانوا قصارين وصباغين، فأراد معلم عيسى السفر، فقال لعيسى: عندي ثياب كثيرة مختلفة الألوان وقد علمتك الصبغة فأصبغها. فطبخ عيسى حبا»
واحدا وادخله جميع الثياب وقال: كوني: بإذن الله على ما أريد منك. فقدم الحواري والثياب كلها في الحب فلما رآها قال: قد أفسدتها،
__________
(1). راجع ج 11 ص 162.
(2). راجع ج 4 ص 235.
(3). راجع ج 5 ص 10.
(4). راجع ج 9 ص 78.
(5). الحب بالضم: الخابية.

رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53)

فأخرج عيسى ثوبا أحمر وأصفر وأخضر إلى غير ذلك مما كان على كل ثوب مكتوب عليه صبغة، فعجب الحواري، وعلم أن ذلك من الله ودعا الناس إليه فآمنوا به، فهم الحواريون. قتادة والضحاك: سموا بذلك لأنهم كانوا خاصة الأنبياء. يريدان لنقاء «1» قلوبهم. وقيل. كانوا ملوكا، وذلك أن الملك صنع طعاما فدعا الناس إليه فكان عيسى على قصعة فكانت لا تنقص، فقال الملك له: من أنت؟ قال: عيسى ابن مريم. قال: إني أترك ملكي هذا واتبعك. فانطلق بمن اتبعه معه، فهم الحواريون، قاله ابن عون. واصل الحور في اللغة البياض، وحورت الثياب بيضتها، والحواري من الطعام ما حور، أي بيض، وأحور ابيض والجفنة المحورة: المبيضة بالسنام، والحواري أيضا الناصر، قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لكل نبي حواري وحواريي الزبير). والحواريات: النساء لبياضهن، وقال:
فقل للحواريات يبكين غيرنا ... ولا تبكنا إلا الكلاب النوابح

[سورة آل عمران (3): آية 53]
رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53)
قوله تعالى: (رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ) أي يقولون ربنا آمنا. (بِما أَنْزَلْتَ) يعني في كتابك وما أظهرته من حكمك. (وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ) يعني عيسى. (فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) يعني أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عن ابن عباس. والمعنى أثبت أسماءنا مع أسمائهم واجعلنا من جملتهم. وقيل: المعنى فاكتبنا مع الذين شهدوا لأنبيائك بالصدق.

[سورة آل عمران (3): آية 54]
وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (54)
قوله تعالى: (وَمَكَرُوا) يعني كفار بني إسرائيل الذين أحس منهم الكفر، أي قتله «2». وذلك أن عيسى عليه السلام لما أخرجه قومه وأمه من بين أظهرهم عاد إليهم مع الحواريين وصاح فيهم بالدعوة فهموا بقتله وتواطئوا على الفتك به، فذلك مكرهم. ومكر الله: استدراجه لعباده من حيث لا يعلمون، عن الفراء وغيره. قال ابن عباس: كلما أحدثوا خطيئة جددنا لهم نعمة. وقال الزجاج: مكر الله مجازاتهم على مكرهم، فسمي الجزاء باسم الابتداء، كقوله:
__________
(1). في ز: لصفاء.
(2). في ز: بقتله.

إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55)

" اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ" [البقرة: 15] «1»،" وَهُوَ خادِعُهُمْ
" [النساء: 142] «2». وقد تقدم في البقرة. واصل المكر في اللغة الاحتيال والخداع. والمكر: خدالة «3» الساق. وامرأة ممكورة الساقين. والمكر: ضرب من الثياب. ويقال: بل هو المغرة، حكاه ابن فارس. وقيل:" مَكَرَ اللَّهُ" إلقاء شبه عيسى على غيره ورفع عيسى إليه، وذلك أن اليهود لما اجتمعوا على قتل عيسى دخل البيت هاربا منهم فرفعه جبريل من الكوة إلى السماء، فقال ملكهم لرجل منهم خبيث يقال له يهوذا: ادخل عليه فاقتله، فدخل الخوخة فلم يجد هناك عيسى وألقى الله عليه شبه عيسى، فلما خرج رأوه على شبه عيسى فأخذوه وقتلوه وصلبوه. ثم قالوا: وجهه يشبه وجه عيسى، وبدنه يشبه بدن صاحبنا، فإن كان هذا صاحبنا فأين عيسى! وإن كان هذا عيسى فأين صاحبنا! فوقع بينهم قتال فقتل بعضهم بعضا، فذلك قوله تعالى:" وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ". وقيل غير هذا على ما يأتي. (وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) اسم فاعل من مكر يمكر مكرا. وقد عده بعض العلماء في أسماء الله تعالى فيقول إذا دعا به: يا خير الماكرين أمكر لي. وكان عليه السلام يقول في دعائه: (اللهم أمكر لي ولا تمكر علي). وقد ذكرناه في الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى. والله أعلم.

[سورة آل عمران (3): آية 55]
إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55)
قوله تعالى (إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) العامل في" إِذْ" مكروا، أو فعل مضمر. وقال جماعة من أهل المعاني منهم الضحاك والفراء في قوله تعالى:" إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ" على التقديم والتأخير، لان الواو لا توجب الرتبة. والمعنى: إنى رافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا ومتوفيك بعد أن تنزل من السماء، كقوله:" وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى" [طه: 129] «4»، والتقدير ولولا كلمة سبقت من ربك وأجل مسمى لكان لزاما. قال الشاعر:
__________
(1). راجع ج 1 ص 201.
(2). راجع ج 5 ص 421.
(3). في اللسان: حسن خدالة الساقين أي امتلئوها واستدارتها.
(4). راجع ج 11 ص 260.

ألا يا نخلة من ذات عرق ... عليك ورحمة الله السلام
أي عليك السلام ورحمة الله. وقال الحسن وابن جريح: معنى متوفيك قابضك ورافعك إلى السماء من غير موت، مثل توفيت مالي من فلان أي قبضته. وقال وهب بن منبه: توفى الله عيسى عليه السلام ثلاث ساعات من نهار ثم رفعه إلى السماء. وهذا فيه بعد، فإنه صح في الاخبار عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نزوله وقتله الدجال على ما بيناه في كتاب التذكرة، وفي هذا الكتاب حسب ما تقدم، ويأتي. وقال ابن زيد: متوفيك قابضك، ومتوفيك ورافعك واحد ولم يمت بعد. وروى ابن طلحة عن ابن عباس معنى متوفيك مميتك. الربيع ابن أنس: وهي وفاة نوم، قال الله تعالى:" وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ" [الانعام: 60] «1» أي ينيمكم لان النوم أخو الموت، كما قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما سئل: أفي الجنة نوم؟ قال: (لا، النوم أخو الموت، والجنة لا موت فيها). أخرجه الدارقطني. والصحيح أن الله تعالى رفعه إلى السماء من غير وفاة ولا نوم كما قال الحسن وابن زيد، وهو اختيار الطبري، وهو الصحيح عن ابن عباس، وقاله الضحاك. قال الضحاك: كانت القصة لما أرادوا قتل عيسى اجتمع الحواريون في غرفة وهم اثنا عشر رجلا فدخل عليهم المسيح من مشكاة الغرفة، فأخبر إبليس جمع اليهود فركب منهم أربعة آلاف رجل فأخذوا باب الغرفة. فقال المسيح للحواريين: أيكم يخرج ويقتل ويكون معي في الجنة؟ فقال رجل: أنا يا نبي الله، فألقى إليه مدرعة «2» من صوف وعمامة من صوف وناوله عكازه وألقى عليه شبه عيسى، فخرج على اليهود فقتلوه وصلبوه. وأما المسيح فكساه الله الريش وألبسه النور وقطع عنه لذة المطعم والمشرب فطار مع الملائكة. وذكر أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن المنهال عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: لما أراد الله تبارك وتعالى أن يرفع عيسى إلى السماء خرج على أصحابه وهم اثنا عشر رجلا من عين في البيت ورأسه يقطر ماء فقال لهم: أما إن منكم من سيكفر بي اثنتي عشرة مرة بعد أن آمن بي، ثم قال: أيكم يلقى عليه شبهي فيقتل مكاني ويكون معي
__________ (1). راجع ج 7 ص 5. [.....]
(2). المدرعة (بالكسر): الدراعة وهى ثوب من كتان؟.

في درجتي؟ فقام شاب من أحدثهم فقال أنا. فقال عيسى: اجلس، ثم أعاد عليهم فقام الشاب فقال أنا. فقال عيسى: اجلس. ثم أعاد عليهم فقام الشاب فقال أنا. فقال نعم أنت ذاك. فألقى الله عليه شبه عيسى عليه السلام. قال: ورفع الله تعالى عيسى من روزنة «1» كانت في البيت إلى السماء. قال: وجاء الطلب من اليهود فأخذوا الشبيه فقتلوه ثم صلبوه، وكفر به بعضهم اثنتي عشرة مرة بعد أن آمن به، فتفرقوا ثلاث فرق: قالت فرقة: كان فينا الله ما شاء ثم صعد إلى السماء، وهؤلاء اليعقوبية. وقالت فرقة: كان فينا ابن الله ما شاء الله ثم رفعه الله إليه، وهؤلاء النسطورية. وقالت فرقة: كان فينا عبد الله ورسوله ما شاء الله ثم رفعه إليه، وهؤلاء المسلمون. فتظاهرت الكافرتان على المسلمة فقتلوها، فلم يزل الإسلام طامسا حتى بعث الله محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقتلوا، فأنزل الله تعالى:" فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا" [الصف: 14] «2» أي آمن آباؤهم في زمن عيسى" عَلى عَدُوِّهِمْ" بإظهار دينهم على دين الكفار" فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ". وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (والله لينزلن ابن مريم حكما عادلا فليكسرن الصليب وليقتلن الخنزير وليضعن الجزية ولتتركن القلاص «3» فلا يسعى عليها ولتذهبن الشحناء والتباغض والتحاسد وليدعون إلى المال فلا يقبله أحد (. وعنه أيضا عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:) والذي نفسي بيده ليهلن ابن مريم بفج الروحاء «4» حاجا أو معتمرا أو ليثنينهما) ولا ينزل بشرع مبتدإ فينسخ به شريعتنا بل ينزل مجددا لما درس منها متبعا. كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم). وفي رواية: (فأمكم منكم). قال ابن أبي ذئب: تدري ما أمكم منكم؟. قلت: تخبرني. قال: فأمكم بكتاب ربكم تبارك وتعالى وسنة نبيكم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقد زدنا هذا الباب بيانا في كتاب (التذكرة) والحمد لله. و" مُتَوَفِّيكَ" أصله متوفيك حذفت الضمة استثقالا،
__________
(1). الروزنة: الكوة.
(2). راجع ج 18 ص 90.
(3). القلاص (بالكسر): جمع قلوص وهى الناقة الشابة.
(4). فج الروحاء: طريق بين مكة والمدينة، كان طريق رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى بدر وإلى مكة عام الفتح وعام الحج. (عن معجم ياقوت).

فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (56) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57) ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58) إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60)

وهو خبر إن." وَرافِعُكَ" عطف عليه، وكذا" مُطَهِّرُكَ" وكذا" وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ". ويجوز" وَجاعِلُ «1» الَّذِينَ" وهو الأصل. وقيل: إن الوقف التام عند قوله:" وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا". قال النحاس: وهو قول حسن." وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ" يا محمد" فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا" أي بالحجة وإقامة البرهان. وقيل بالعز والغلبة. وقال الضحاك ومحمد ابن أبان: المراد الحواريون. والله تعالى أعلم.

[سورة آل عمران (3): الآيات 56 الى 58]
فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (56) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57) ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58)
قوله تعالى: (فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) يعني بالقتل والصلب والسبي والجزية، وفي الآخرة بالنار. (ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ)" ذلِكَ" في موضع رفع بالابتداء وخبره" نَتْلُوهُ". ويجوز: الامر ذلك، على إضمار المبتدإ.

[سورة آل عمران (3): الآيات 59 الى 60]
إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60)
قوله تعالى: (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ) دليل على صحة القياس. والتشبيه واقع على أن عيسى خلق من غير أب كآدم، لا على أنه خلق من تراب. والشيء قد يشبه بالشيء وإن كان بينهما فرق كبير بعد أن يجتمعا في وصف واحد، فان آدم خلق من تراب ولم يخلق عيسى من تراب فكان بينهما فرق من هذه الجهة، ولكن شبه ما بينهما أنهما خلقهما من غير أب، ولان أصل خلقتهما كان من تراب لان آدم لم يخلق من نفس التراب،
__________
(1). كذا في بعض الأصول وكتاب إعراب القرآن للنحاس. وفى ز: وجعل.

فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61)

ولكنه جعل التراب طينا ثم جعله صلصالا ثم خلقه منه، فكذلك عيسى حوله من حال إلى حال، ثم جعله بشرا من غير أب. ونزلت هذه الآية بسبب وفد نجران حين أنكروا على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قوله: (إن عيسى عبد الله وكلمته) فقالوا: أرنا عبدا خلق من غير أب، فقال لهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (آدم من كان أبوه أعجبتم من عيسى ليس له أب؟ فآدم عليه السلام ليس له أب ولا أم). فذلك قوله تعالي:" وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ" أي في عيسى" إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ" في آدم" وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً" [الفرقان: 33] «1». وروي أنه عليه السلام لما دعاهم إلى الإسلام قالوا: قد كنا مسلمين قبلك. فقال: (كذبتم يمنعكم من الإسلام ثلاث: قولكم اتخذ الله ولدا، وأكلكم الخنزير، وسجودكم للصليب). فقالوا: من أبو عيسى؟ فأنزل الله تعالى:" إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ" إلى قوله:" فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ" [آل عمران: 61]. فدعاهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال يعضهم لبعض: إن فعلتم اضطرم الوادي عليكم نارا. فقالوا: أما تعرض علينا سوى هذا؟ فقال: (الإسلام أو الجزية أو الحرب) فأقروا بالجزية على ما يأتي. وتم الكلام عند قوله" آدَمَ". ثم قال:" خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ" أي فكان؟. والمستقبل يكون في موضع الماضي إذا عرف المعنى. قال الفراء: (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) مرفوع بإضمار هو. أبو عبيدة: هو استئناف كلام وخبره في قوله" مِنْ رَبِّكَ". وقيل هو فاعل، أي جاءك الحق." (فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ)" الخطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمراد أمته، لأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يكن شاكا في أمر عيسى عليه السلام.

[سورة آل عمران (3): آية 61]
فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ (61)
__________
(1). راجع ج 13 ص 28.

فيه ثلاث مسائل: الاولى- قوله تعالى. (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ) أي جادلك وخاصمك يا محمد" فِيهِ"، أي في عيسى (مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) بأنه عبد الله ورسوله. (فَقُلْ تَعالَوْا) أي اقبلوا. وضع لمن له جلالة ورفعة ثم صار في الاستعمال لكل داع إلى الإقبال، وسيأتي له مزيد بيان في" الانعام" «1». (نَدْعُ) في موضع جزم. (أَبْناءَنا) دليل على أن أبناء البنات يسمون أبناء، وذلك أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جاء بالحسن والحسين وفاطمة تمشي خلقه وعلى خلفها وهو يقول لهم: (إن أنا دعوت فأمنوا). (ثُمَّ نَبْتَهِلْ) أي نتضرع في الدعاء، عن ابن عباس. أبو عبيدة والكسائي: نلتعن. واصل الابتهال الاجتهاد في الدعاء باللعن وغيره. قال لبيد:
في كهول سادة من قومه ... نظر الدهر إليهم فابتهل
أي اجتهد في إهلاكهم. يقال: بهله الله أي لعنه. والبهل: اللعن. والبهل الماء القليل. وأبهلته إذا خليته وإرادته. وبهلته أيضا. وحكى أبو عبيدة: بهله الله يبهله بهلة أي لعنه. قال ابن عباس: هم أهل نجران: السيد والعاقب وابن الحارث رؤساؤهم. (فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ). الثانية- هذه الآية من أعلام نبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأنه دعاهم إلى المباهلة فأبوا منها ورضوا بالجزية بعد أن أعلمهم كبيرهم العاقب أنهم إن باهلوه اضطرم عليهم الوادي نارا فإن محمدا نبي مرسل، ولقد تعلمون أنه جاءكم بالفصل في أمر عيسى، فتركوا المباهلة وانصرفوا إلى بلادهم على أن يؤدوا في كل عام ألف حلة في صفر وألف حلة في رجب فصالحهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ذلك بدلا من الإسلام. الثالثة- قال كثير من العلماء: إن قوله عليه السلام في الحسن والحسين لما باهل" نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ" وقوله في الحسن: (إن ابني هذا سيد) مخصوص بالحسن والحسين أن يسميا ابني النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دون غيرهما، لقوله عليه السلام: (كل سبب ونسب
__________
(1). راجع 7 ص 130.

إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62)

ينقطع يوم القيامة إلا نسبي وسببي) ولهذا قال بعض أصحاب الشافعي فيمن أوصى لولد فلان ولم يكن له ولد لصلبه وله ولد ابن وولد ابنة: إن الوصية لولد الابن دون ولد الابنة، وهو قول الشافعي. وسيأتي لهذا مزيد بيان في" الانعام «1» والزخرف" إن شاء الله تعالى.

[سورة آل عمران (3): الآيات 62 الى 63]
إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63)
قوله تعالى: (إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ) الإشارة في قوله" إِنَّ هذا" إلى القرآن وما فيه من الأقاصيص، سميت قصصا لان المعاني تتتابع فيها، فهو من قولهم: فلان يقص أثر فلان، أي يتبعه. (وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ)" مِنْ" زائدة للتوكيد، والمعنى وما إله إلا الله (الْعَزِيزُ) أي الذي لا يغلب. (الْحَكِيمُ) ذو الحكمة. وقد تقدم مثله والحمد لله.

[سورة آل عمران (3): آية 64]
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)
فيه ثلاث مسائل: الاولى- قوله تعالى: (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ) الخطاب في قول الحسن وابن زيد والسدي لأهل نجران. وفي قول قتادة وابن جريج وغيرهما ليهود المدينة، خوطبوا بذلك لأنهم جعلوا أحبارهم في الطاعة لهم كالأرباب. وقيل: هو لليهود والنصارى جميعا. وفي كتاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى هرقل بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ- من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم سلام عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى [أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام ] «2» أسلم تسلم
__________ (1). راجع ج 7 ص 32 وج 16 ص 77 فما بعد.
(2). زيادة عن صحيح مسلم.

[وأسلم ] «1» يؤتك الله أجرك مرتين وإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين «2»، ويا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ- إلى قوله:" فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ". لفظ مسلم. والسواء العدل والنصفة، قاله قتادة. وقال زهير:
أروني خطة لا ضيم فيها ... يسوي بيننا فيها السواء
الفراء: ويقال في معنى العدل سوى وسوى، فإذا فتحت السين مددت وإذا كسرت أو ضممت قصرت، كقوله تعالى:" مَكاناً سُوىً" [طه: 58]. قال: وفي قراءة عبد الله" إلى كلمة عدل بيننا وبينكم" وقرا قعنب «3»" كلمة" بإسكان اللام، ألقى حركة اللام على الكاف، كما يقال كبد. فالمعنى أجيبوا إلى ما دعيتم إليه، وهو الكلمة العادلة المستقيمة التي ليس فيها ميل عن الحق، وقد فسرها بقوله تعالى:" أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ" فموضع" أن" خفض على البدل من" كَلِمَةٍ"، أو رفع على إضمار مبتدإ، التقدير هي أن لا نعبد إلا الله. أو تكون مفسرة لا موضع لها، ويجوز مع ذلك في" نَعْبُدَ" وما عطف عليه الرفع والجزم: فالجزم على أن تكون" أن" مفسرة بمعنى أي، كما قال عز وجل:" أَنِ امْشُوا" [ص: 6] وتكون" لا" جازمة. هذا مذهب سيبويه. ويجوز على هذا أن ترفع" نَعْبُدُ" وما بعده يكون خبرا. ويجوز الرفع بمعنى أنه لا نعبد، ومثله" أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً" [طه: 89] «4». وقال الكسائي والفراء:" وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ" بالجزم على التوهم أنه ليس في أول الكلام أن. الثانية- قوله تعالى: (وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ) أي لا نتبعه في تحليل شي أو تحريمه إلا فيما حلله الله تعالى. وهو نظير قوله تعالى:" اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ" [التوبة: 31] «5» معناه أنهم أنزلوهم منزلة ربهم في قبول تحريمهم وتحليلهم لما لم يحرمه الله ولم يحله الله. وهذا يدل على بطلان القول بالاستحسان المجرد الذي لا يستند إلى دليل شرعي، قال الكيا الطبري: مثل استحسانات أبي حنيفة في التقديرات التي قدرها دون مستندات بينة. وفية رد على الروافض الذين يقولون: يجب قبول [قول ] الامام دون إبانة
__________
(1). زيادة عن صحيح مسلم.
(2). الأريسيين: الأكارون والفلاحون والخدم، والخول، كل ذلك وارد في معنى هذه الكلمة.
(3). هو أبو السمان العدوى.
(4). راجع ج 11 ص 236. [.....]
(5). راجع ج 8 ص 119.

يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65)

مستند شرعي، وإنه يحل ما حرمه الله من غير أن يبين مستندا من الشريعة. وأرباب جمع رب. و" دُونِ" هنا بمعنى غير. الثالثة- قوله تعالى (فَإِنْ تَوَلَّوْا) أي أعرضوا عما دعوا إليه. (فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) أي متصفون بدين الإسلام منقادون لاحكامه معترفون بما لله عليه علينا في ذلك من المنن والانعام، غير متخذين أحدا ربا لا عيسى ولا عزيرا ولا الملائكة، لأنهم بشر مثلنا محدث كحدثنا، ولا نقبل من الرهبان شيئا بتحريمهم علينا ما لم يحرمه الله علينا، فنكون قد اتخذناهم أربابا. وقال عكرمة: معنى يَتَّخِذَ" يسجد. وقد تقدم أن السجود كان إلى زمن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم نهى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معاذا لما أراد أن يسجد، كما مضى في البقرة «1» بيانه. وروى أنس بن مالك قال: قلنا يا رسول الله، أينحني بعضنا لبعض؟ قال (لا) قلنا: أيعانق بعضنا بعضا؟ قال (لا ولكن تصافحوا) أخرجه ابن ماجة في سننه. وسيأتي لهذا المعنى زيادة ببان في سورة" يوسف" «2» [إن «3» شاء الله ]، وفي" الواقعة" «4» مس القرآن أو بعضه على غير طهارة إن شاء الله تعالى.

[سورة آل عمران (3): آية 65]
يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (65)
قوله تعالى: (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ) الأصل" لما" فحذفت الالف فرقا بين الاستفهام والخبر. وهذه الآية نزلت بسبب دعوى كل فريق من اليهود والنصارى أن إبراهيم كان على دينه، فأكذبهم الله تعالى بأن اليهودية والنصرانية إنما كانتا من بعده، فذلك قوله:" وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ". قال الزجاج: هذه الآية أبين حجة على اليهود والنصارى، إذ التوراة والإنجيل أنزلا من بعده وليس فيهما «5» اسم لواحد من الأديان، واسم الإسلام في كل كتاب. ويقال: كان بين إبراهيم وموسى ألف سنة، وبين موسى وعيسى أيضا ألف سنة. (أَفَلا تَعْقِلُونَ) دحوض حجتكم وبطلان قولكم. والله أعلم.
__________
(1). راجع ج 1 ص 293.
(2). راجع ج 9 ص 265.
(3). الزيادة من نسخ: ز، ب.
(4). إيراد هذه الجملة هنا غير واضح المناسبة.
(5). في الأصول: فيها والمثبت في: د.

هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66)

[سورة آل عمران (3): آية 66]
ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (66)
فيه مسألتان: الاولى- قوله تعالى: (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ) يعني في أمر محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأنهم كانوا يعلمونه فيما يجدون من نعته في كتابهم فحاجوا فيه بالباطل. (فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) يعني دعواهم في إبراهيم أنه كان يهوديا أو نصرانيا. والأصل في" ها أَنْتُمْ" أأنتم فأبذل من الهمزة الاولى هاء لأنها أختها، عن أبي عمرو بن العلاء والأخفش. قال النحاس: وهذا قول حسن. وقرا قنبل عن ابن كثير" هأنتم" مثل هعنتم. والأحسن منه أن يكون الهاء بدلا من همزة فيكون أصله أأنتم. ويجوز أن تكون ها للتنبيه دخلت على" أنتم" وحذفت الالف لكثرة الاستعمال. وفي" هؤُلاءِ" لغتان المد والقصر ومن العرب من يقصرها. وأنشد أبو حاتم:
لعمرك إنا والأحاليف هاؤلا ... لفي محنة أظفارها لم تقلم
وهؤلاء هاهنا في موضع النداء يعني يا هؤلاء. ويجوز هؤلاء خبر أنتم، على أن يكون أولاء بمعنى الذين وما بعده صلة له. ويجوز أن يكون خبر" أَنْتُمْ" حاججتم. وقد تقدم هذا في" البقرة" «1» والحمد لله. الثانية- في الآية دليل على المنع من الجدال لمن لا علم له، والحظر على من لا تحقيق عنده فقال عز وجل:" ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ". وقد ورد الامر بالجدال لمن علم وأيقن فقال تعالى:" وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ" [النحل: 125] «2». وروي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه أتاه رجل أنكر ولده فقال: يا رسول الله، إن امرأتي ولدت غلاما أسود. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (هل لك من إبل)؟ قال نعم. قال:
__________
(1). راجع ج 1 ص 284، ج 2 ص 20.
(2). راجع ج 10 ص 200.

مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67)

(ما ألوانها)؟ قال: حمر: (هل فيها من أورق) «1»؟ قال نعم. قال: (فمن أين ذلك)؟ قال: لعل عرقا نزعه. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وهذا الغلام لعل عرقا نزعه). وهذا حقيقة الجدال ونهاية في تبيين الاستدلال من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

[سورة آل عمران (3): آية 67]
ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67)
نزهه تعالى من دعاويهم الكاذبة، وبين أنه كان على الحنيفية الإسلامية ولم يكن مشركا. والحنيف: الذي يوحد ويحج ويضحي ويختتن ويستقبل القبلة. وقد مضى في" البقرة" اشتقاقه «2». والمسلم في اللغة: المتذلل لأمر الله تعالى المنطاع له. وقد تقدم في" البقرة" معنى الإسلام»
مستوفى والحمد لله.

[سورة آل عمران (3): آية 68]
إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68)
وقال ابن عباس: قال رؤساء اليهود: والله يا محمد لقد علمت أنا أولى الناس بدين إبراهيم منك ومن غيرك، فإنه كان يهوديا وما بك إلا الحسد، فأنزل الله تعالى هذه الآية. (أَوْلَى) معناه أحق، قيل: بالمعونة والنصرة. وقيل بالحجة. (لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ) على ملته وسنته. (وَهذَا النَّبِيُّ) أفرد ذكره تعظيما له، كما قال" فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ" [الرحمن: 68] «4» وقد تقدم في" البقرة" هذا المعنى مستوفى. و" هذَا" في موضع رفع عطف على الذين، و" النَّبِيُّ" نعت لهذا أو عطف بيان، ولو نصب لكان جائزا في الكلام عطفا على الهاء في" اتَّبَعُوهُ". وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ أي ناصرهم. وعن ابن مسعود أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
__________
(1). الأورق: الذي لونه بين السواد والغبرة.
(2). راجع ج 2 ص 139.
(3). راجع ج 2 ص 134.
(4). راجع ج 17 ص 185.

وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (69)

(إن لكل نبي ولاة من النبيين وإن ولي منهم أبي وخليل ربي- ثم قرأ- إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي).

[سورة آل عمران (3): آية 69]
وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (69)
نزلت في معاذ بن جبل وحذيفة بن اليمن وعمار بن ياسر حين دعاهم اليهود من بني النضير وقريظة وبني قينقاع إلى دينهم. وهذه الآية نظير قوله تعالى:" وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً" [البقرة: 109] «1». و" مِنْ" على هذا القول للتبعيض. وقيل: جميع أهل الكتاب، فتكون" مِنْ" لبيان الجنس. ومعنى" لَوْ يُضِلُّونَكُمْ" أي يكسبونكم المعصية بالرجوع عن دين الإسلام والمخالفة له. وقال ابن جريج:" يُضِلُّونَكُمْ" أي يهلكونكم، ومنه قول الأخطل:
كنت القذى في موج أكدر مزبد ... قذف الأتي «2» به فضلّ ضلالا
أي هلك هلاكا. (وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) نفي وإيجاب. (وَما يَشْعُرُونَ) أي يفطنون «3» أنهم لا يصلون إلى إضلال المؤمنين. وقيل:" وَما يَشْعُرُونَ" أي لا يعلمون بصحة الإسلام وواجب عليهم أن يعلموا، لان البراهين ظاهرة والحجج باهرة، والله أعلم.

[سورة آل عمران (3): آية 70]
يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70)
أي بصحة الآيات التي عندكم في كتبكم، عن قتادة والسدي. وقيل: المعنى وأنتم تشهدون بمثلها من آيات «4» الأنبياء التي أنتم مقرون بها.

[سورة آل عمران (3): آية 71]
يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71)
__________
(1). راجع ج 2 ص 70.
(2). الأتي. كل سبع يأتي من حيث لا تعلم. [.....]
(3). ف ج: يقطعون.
(4). في ز: من الآيات البينات التي إلخ.

وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72)

اللبس الخلط، وقد تقدم في البقرة «1». ومعنى هذه الآية والتي قبلها معنى ذلك «2». (وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ)" ويجوز" تكتموا" على جواب الاستفهام. (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) جملة في موضع الحال.

[سورة آل عمران (3): آية 72]
وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72)
نزلت في كعب بن الأشرف ومالك بن الصف وغيرهما، قالوا للسفلة من قومهم: آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار، يعني أوله. وسمي وجها لأنه أحسنه، وأول ما يواجه منه أوله. قال الشاعر:
وتضيء في وجه النهار منيرة ... كجمانة البحري سل نظامها «3»
وقال آخر:
من كان مسرورا بمقتل مالك ... فليأت نسوتنا بوجه نهار
وهو منصوب على الظرف، وكذلك" آخِرَهُ". ومذهب قتادة أنهم فعلوا ذلك ليشككوا المسلمين. والطائفة: الجماعة، من طاف يطوف، وقد يستعمل للواحد على معنى نفس طائفة. ومعنى الآية أن اليهود قال بعضهم لبعض: أظهروا الايمان بمحمد في أول النهار ثم أكفروا به آخره، فإنكم إذا فعلتم ذلك ظهر لمن يتبعه ارتياب في دينه فيرجعون عن دينه إلى دينكم، ويقولون إن أهل الكتاب أعلم به منا. وقيل: المعنى آمنوا بصلاته في أول النهار إلى بيت المقدس فإنه الحق، واكفروا بصلاته آخر النهار إلى الكعبة لعلهم يرجعون إلى قبلتكم، عن ابن عباس وغيره. وقال مقاتل: معناه أنهم جاءوا محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أول النهار ورجحوا من عنده فقالوا للسفلة: هو حق فاتبعوه، ثم قالوا: حتى ننظر في التوراة ثم رجعوا في آخر النهار فقالوا: قد نظرنا في التوراة فليس هو به. يقولون إنه ليس بحق، وإنما أرادوا أن يلبسوا على السفلة وأن يشككوا فيه.
__________
(1). راجع ج 1 ص 340.
(2). في ج: معنى تلك.
(3). البيت للبيد. والجمانة: حبة تحمل من الفضة كالذرة، والذي في اللسان والتاج: وتضى في وجه الظلام.

وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73)

[سورة آل عمران (3): آية 73]
وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (73)
قوله تعالى: (وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ) هذا نهي، وهو من كلام اليهود بعضهم لبعض، أي قال ذلك الرؤساء للسفلة. وقال السدي: من قول يهود خيبر ليهود المدينة. وهذه الآية أشكل ما في السورة. فروي عن الحسن ومجاهد أن معنى الآية وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ، ولا تؤمنوا أن يحاجوكم عند ربكم لأنهم لا حجة لهم فإنكم أصح منهم دينا. و" أن" و" يُحاجُّوكُمْ" في موضع خفض، أي بأن يحاجوكم أي باحتجاجهم، أي لا تصدقوهم في ذلك فإنهم لا حجة لهم. (أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ) من التوراة والمن والسلوى وفرق البحر وغيرها من الآيات والفضائل. فيكون" أَنْ يُؤْتى " مؤخرا بعد" أَوْ يُحاجُّوكُمْ"، وقوله" إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ" اعتراض بين كلامين. وقال الأخفش: المعنى وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ ولا تؤمنوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ولا تصدقوا أن يحاجوكم، يذهب إلى أنه معطوف. وقيل: المعنى ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، فالمد على الاستفهام أيضا تأكيد للإنكار الذي قالوه أنه لا يؤتى أحد مثل ما أوتوه، لان علماء اليهود قالت لهم: لا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، أي لا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، فالكلام على نسقه. و" أن" في موضع رفع على قول من رفع في قولك أزيد ضربته، والخبر محذوف تقديره أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم تصدقون أو تقرون، أي إيتاء موجود مصدق أو مقربة، أي لا تصدقون بذلك. ويجوز أن تكون" أن" في موضع نصب على إضمار فعل، كما جاز في قولك أزيدا ضربته، وهذا أقوى في العربية لان الاستفهام بالفعل أولى، والتقدير أتقرون أن يؤتى، أو أتشيعون ذلك، أو أتذكرون ذلك ونحوه. وبالمد قرأ ابن كثير وابن محيصن وحميد. وقال أبو حاتم:" آن" معناه" ألان"، فحذفت لام الجر استخفافا وأبدلت مدة، كقراءة من

قرأ" آن كان ذا مال" [القلم: 14] «1» أي ألان. وقوله" أَوْ يُحاجُّوكُمْ" على هذه القراءة رجوع إلى خطاب المؤمنين، أو تكون" أَوْ" بمعنى" أن" لأنهما حرفا شك وجزاء يوضع أحدهما موضع الأخر «2». وتقدير الآية: وأن يحاجوكم عند ربكم يا معشر المؤمنين، فقل: يا محمد إن الهدى هدى الله ونحن عليه. ومن قرأ بترك المد قال: إن النفي الأول دل على إنكارهم في قولهم ولا تؤمنوا. فالمعنى أن علماء اليهود قالت لهم: لا تصدقوا بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، أي لا إيمان لهم ولا حجة، فعطف على المعنى من العلم والحكمة والكتاب والحجة والمن والسلوى وفلق البحر وغيرها من الفضائل والكرامات، أي إنها لا تكون إلا فيكم فلا تؤمنوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا من تبع دينكم. فالكلام فيه تقديم وتأخير على هذه القراءة واللام زائدة. ومن استثنى ليس من الأول، وإلا لم يجز الكلام. ودخلت" أَحَدٌ" لان أول الكلام نفي، فدخلت في صلة" إِنَّ" لأنه مفعول الفعل المنفي، فأن في موضع نصب لعدم الخافض. وقال الخليل: (إِنَّ) في موضع خفض بالخافض المحذوف. وقيل: إن اللام ليست بزائدة، و" تُؤْمِنُوا" محمول على تقروا. وقال ابن جريج: المعنى ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم كراهية أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم. وقيل: المعنى لا تخبروا بما في كتابكم من صفة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا لمن تبع دينكم لئلا يكون طريقا إلى عبدة الأوثان إلى تصديقه. وقال الفراء: يجوز أن يكون قد انقطع كلام اليهود عند قول عز وجل" إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ" ثم قال لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ". أي إن البيان الحق هو بيان الله عز وجل" أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ" بين ألا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، و" لا" مقدرة بعد" إِنَّ" أي لئلا يؤتى، كقوله" يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا" [النساء: 176] «3» أي لئلا تضلوا، فلذلك صلح دخول" أَحَدٌ" في الكلام. و" أَوْ" بمعنى" حتى" و" إلا أن"، كما قال امرؤ القيس:
فقلت له لا تبك عينك إنما ... نحاول ملكا أو نموت فنعذرا
وقال آخر «4»:
وكنت إذا غمزت قناة قوم ... كسرت كعوبها أو تستقيما
__________
(1). راجع ج 18 ص 236.
(2). في الأصول: إحداهما موضع الأخرى.
(3). راجع ج 6 ص 28.
(4). هو زياد الأعجم.

ومثله قولهم: لا نلتقي أو تقوم الساعة، بمعنى" حتى" أو" إلى أن"، وكذلك مذهب الكسائي. وهي عند الأخفش عاطفة على"" وَلا تُؤْمِنُوا" وقد تقدم. أي لا إيمان لهم ولا حجة، فعطف على المعنى. ويحتمل أن تكون الآية كلها خطابا للمؤمنين من الله تعالى على جهة التثبيت لقلوبهم والتشحيذ لبصائرهم، لئلا يشكوا عند تلبيس اليهود وتزويرهم في دينهم. والمعنى أوتيتم من الفضل والدين، ولا تصدقوا أن يحاجكم في دينكم عند ربكم من خالفكم أيقدر على ذلك، فإن الهدى هدى الله وإن الفضل بيد الله. قال الضحاك: إن اليهود قالوا إنا نحاج عند ربنا من خالفنا في ديننا، فبين الله تعالى أنهم هم المدحضون المعذبون وأن المؤمنين هم الغالبون. ومحاجتهم خصومتهم يوم القيامة. ففي الخبر عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إن اليهود والنصارى يحاجونا عند ربنا فيقولون أعطيتنا أجرا واحدا وأعطيتهم أجرين فيقول هل ظلمتكم من حقوقكم شيئا قالوا «1» لا قال فإن ذلك فضلي أوتيه من أشاء (. قال علماؤنا: فلو علموا أن ذلك من فضل الله لم يحاجونا عند ربنا، فأعلم الله نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنهم يحاجونكم يوم القيامة عند ربكم، ثم قال: قل لهم [ألان ] «2»" إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ". وقرا ابن كثير" آن يؤتى" بالمد على الاستفهام، كما قال الأعشى:
أأن رأت رجلا أغشى أضرّ به ... ريب المنون ودهر متبل خبل «3»
وقرأ الباقون بغير مد على الخبر. وقرأ سعيد بن جبير" إن يؤتى" بكسر الهمزة، على معنى النفي، ويكون من كلام الله تعالى كما قال الفراء. والمعنى: قل يا محمد إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ إن يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ يعني اليهود- بالباطل فيقولون نحن أفضل منكم. ونصب" أَوْ يُحاجُّوكُمْ" يعني بإضمار" أن" و" أو" تضمر بعدها" أن" إذا كانت بمعنى" حتى" و" إلا أن". وقرا الحسن" أن يؤتي" بكسر التاء وياء مفتوحة، على معنى أن يؤتي أحد أحدا مثل ما أوتيتم، فحذف المفعول.
__________
(1). في د: فيقولون.
(2). من ب، د.
(3). متبل: مسقم، وخبل: ملتو على أهله لا يرون فيه سرورا.

يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74)

قوله تعالى: (قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ) فيه قولان: أحدهما: أن الهدى إلى الخير والدلالة إلى الله عز وجل بيد الله جل ثناؤه يؤتيه أنبياءه، فلا تنكروا «1» أن يؤتى أحد سواكم مثل ما أوتيتم، فإن أنكروا ذلك فقل لهم:" إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ". والقول الآخر: قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ الذي آتاه المؤمنين من التصديق بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا غيره. وقال بعض أهل الإشارات في هذه الآية: لا تعاشروا إلا من يوافقكم على أحوالكم وطريقتكم فإن من لا يوافقكم لا يرافقكم. والله أعلم.

[سورة آل عمران (3): آية 74]
يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74)
أي بنبوته وهدايته، عن الحسن ومجاهد وغيرهما. ابن جريج: بالإسلام والقرآن" مَنْ يَشاءُ". قال أبو عثمان: أجمل القول ليبقى معه رجاء الراجي وخوف الخائف، (والله ذو الفضل العظيم).

[سورة آل عمران (3): آية 75]
وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)
فيه ثمان مسائل: الاولى- قوله تعالى: (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ) مثل عبد الله بن سلام. (وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ) وهو فنحاص بن عازوراء اليهودي، أودعه رجل دينارا فخانه. وقيل: كعب بن الأشرف وأصحابه. وقرأ ابن وثاب والأشهب العقيلي" من إن تيمنه" على لغة من قرأ" نستعين" وهي لغة بكر وتميم. وفي حرف عبد الله" مالك لا تيمنا على يوسف" والباقون بالألف. وقرا نافع والكسائي" يؤدهي" بياء في الإدراج. قال أبو عبيد: واتفق أبو عمرو والأعمش وعاصم وحمزة في رواية أبي بكر
__________
(1). هذا نهى، وفي ح، ود: فلا تنكرون. على الخبر.

على وقف الهاء، فقرءوا" يؤده إليك". قال النحاس: بإسكان الهاء لا يجوز إلا في الشعر عند بعض النحويين، وبعضهم لا يجيزه البتة ويرى أنه غلط ممن قرأ به، وإنه توهم أن الجزم يقع على الهاء، وأبو عمرو أجل من أن يجوز عليه مثل هذا. والصحيح عنه أنه كان يكسر الهاء، وهي قراءة يزيد بن القعقاع. وقال الفراء: مذهب بعض العرب يجزمون الهاء إذا تحرك ما قبلها، يقولون: ضربته ضربا شديدا، كما يسكنون ميم أنتم وقمتم واصلها الرفع، كما قال الشاعر:
لما رأى ألا دعه ولا شبع ... مال إلى أرطاة حقف «1» فاضطجع
وقيل: إنما جاز إسكان الهاء في هذا الموضع لأنها وقعت في موضع الجزم وهي الياء الذاهبة. وقرأ أبو المنذر سلام والزهري" يؤده" بضم الهاء بغير واو. وقرأ قتادة وحميد ومجاهد" يؤدهو" بواو في الإدراج، اختير لها الواو لان الواو من الشفة والهاء بعيدة المخرج. قال سيبويه: الواو في المذكر بمنزلة الالف في المؤنث ويبدل منها ياء لان الياء أخف إذا كان قبلها كسرة أو ياء، وتحذف الياء وتبقى الكسرة لان الياء قد كانت تحذف والفعل مرفوع فأثبتت بحالها. الثانية- أخبر تعالى أن في أهل الكتاب الخائن والأمين، والمؤمنون لا يميزون ذلك، فينبغي اجتناب جميعهم. وخص أهل الكتاب بالذكر وإن كان المؤمنون كذلك، لان الخيانة فيهم أكثر، فخرج الكلام على الغالب. والله أعلم. وقد مضى تفسير القنطار. وأما الدينار فأربعة وعشرون قيراطا والقيراط ثلاث حبات من وسط الشعير، فمجموعه اثنتان وسبعون حبة، وهو مجمع عليه. ومن حفظ الكثير وأداه فالقليل أولى، ومن خان في اليسير أو منعه فذلك في الكثير أكثر. وهذا أدل دليل على القول بمفهوم الخطاب. وفية بين العلماء خلاف [كثير] «2» مذكور في أصول الفقه. وذكر تعالى قسمين: من يؤدي ومن لا يؤدى إلا بالملازمة عليه، وقد يكون من الناس من لا يؤدي وإن دمت عليه قائما. فذكر تعالى القسمين لأنه الغالب
__________ (1). الأرطاة: واحدة الأرطى وهو شجر من شجر الرمل. والحقف بالكسر (: ما أعوج من الرمل. [.....]
(2). من د.

والمعتاد والثالث نادر، فخرج الكلام على الغالب. وقرأ طلحة بن مصرف وأبو عبد الرحمن السلمي وغيرهما" دمت" بكسر الدال وهما لغتان، والكسر لغة أزد السراة، من" دمت تدام" مثل خفت تخاف. وحكى الأخفش دمت تدوم، شاذا. الثالثة- استدل أبو حنيفة على مذهبه في ملازمة الغريم بقوله تعالى:" إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً" وأباه سائر العلماء، وقد تقدم في البقرة «1». وقد استدل بعض البغداديين [من علمائنا] «2» على حبس المديان بقوله تعالى:" وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً" فإذا كان له ملازمته ومنعه من التصرف، جاز حبسه. وقيل: إن معنى" إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً" أي بوجهك فيهابك ويستحي منك، فان الحياء في العينين، ألا ترى إلى قول ابن عباس رضي الله عنه: لا تطلبوا من الأعمى حاجة فإن الحياء في العينين. وإذا طلبت من أخيك حاجة فانظر إليه بوجهك حتى يستحي فيقضيها. ويقال:" قائِماً" أي ملازما له، فإن أنظرته أنكرك. وقيل: أراد بالقيام إدامة المطالبة لا عين القيام. والدينار أصله دنار فعوضت من إحدى النونين ياء طلبا للتخفيف لكثرة استعماله. يدل عليه أنه يجمع دنانير ويصغر دنينير. الرابعة- الأمانة عظيمة القدر في الدين، ومن عظم قدرها أنها تقوم هي والرحم على جنبتي «3» الصراط، كما في صحيح مسلم. فلا يمكن من الجواز إلا من حفظهما. وروى مسلم عن حذيفة قال حدثنا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن رفع الأمانة، قال: (ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه) الحديث. وقد تقدم بكماله أول البقرة «4». وروى ابن ماجة حدثنا محمد ابن المصفى حدثنا محمد بن حرب عن سعيد بن سنان عن أبي الزاهرية عن أبي شجرة كثير ابن مرة عن ابن عمر أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (إن الله عز وجل إذا أراد أن يهلك عبدا نزع منه الحياء فإذا نزع منه الحياء لم تلقه إلا مقيتا ممقتا فإذا لم تلقه إلا مقيتا ممقتا نزعت منه الأمانة فإذا نزعت منه الأمانة لم تلقه إلا خائنا مخونا فإذا لم تلقه إلا خائنا مخونا نزعت منه
__________
(1). راجع ج 3 ص 371.
(2). نخ: ب.
(3). جنبة الوادي (بفتح النون): جانب وناحية. والجنبة (بسكون النون): الناحية، يقال: نزل فلان جنبة أي ناحية.
(4). راجع ج 1 ص 188، وصحيح مسلم ج 1 ص 51 طبع بولاق.

الرحمة فإذا نزعت منه الرحمة لم تلقه إلا رجيما ملعنا فإذا لم تلقه إلا رجيما ملعنا نزعت منه ربقة الإسلام (. وقد مضى في البقرة معنى قوله عليه السلام:) أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا نحن من خانك (. والله أعلم. الخامسة ليس في هذه الآية تعديل لأهل الكتاب ولا لبعضهم خلافا لمن ذهب إلى ذلك، لان فساق المسلمين يوجد فيهم من يؤدي الأمانة ويؤمن على المال الكثير ولا يكونون بذلك عدولا. فطريق العدالة والشهادة ليس يجزئ فيه أداء الأمانة في المال من جهة المعاملة والوديعة، ألا ترى قولهم:" لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ" [آل عمران: 75] فكيف يعدل من يعتقد استباحة أموالنا وحريمنا بغير حرج عليه، ولو كان ذلك كافيا في تعديلهم لسمعت شهادتهم على المسلمين. السادسة- قوله تعالى: (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا) يعنى اليهود (لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) قيل: إن اليهود كانوا إذا بايعوا المسلمين يقولون: ليس علينا في الأميين سبيل- أي حرج في ظلمهم- لمخالفتهم إيانا. وادعوا أن ذلك في كتابهم، فأكذبهم الله عز وجل ورد عليهم فقال:" بَلى " أي بلى عليهم سبيل العذاب بكذبهم واستحلالهم أموال العرب. قال أبو إسحاق الزجاج: وتم الكلام. ثم قال:" مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى " [آل عمران: 76]. ويقال: إن اليهود كانوا قد استدانوا من الاعراب أموالا فلما أسلم أرباب الحقوق قالت اليهود: ليس لكم علينا شي، لأنكم تركتم دينكم فسقط عنا دينكم. وادعوا أنه حكم التوراة فقال الله تعالى:" بَلى " ردا لقولهم" لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ". أي ليس كما تقولون، ثم استأنف فقال:" مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى " الشرك فليس من الكاذبين بل يحبه الله ورسوله. السابعة- قال رجل لابن عباس: إنا نصيب في العمد من أموال أهل الذمة الدجاجة والشاة ونقول: ليس علينا في ذلك بأس. فقال له: هذا كما قال أهل الكتاب" لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ" إنهم إذا أدوا الجزية لم تحل لكم أموالهم إلا عن طيب

بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76)

أنفسهم، ذكره عبد الرازق عن معمر عن أبي إسحاق الهمداني عن صعصعة أن رجلا قال لابن عباس، فذكره. الثانية- قوله تعالى: (وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) يدل على أن الكافر لا يجعل أهلا لقبول شهادته، لان الله تعالى وصفه بأنه كذاب. وفية رد عل الكفرة الذين يحرمون ويحللون غير تحريم الله وتحليله ويجعلون ذلك من الشرع. قال ابن العربي: ومن هذا يخرج الرد على من يحكم بالاستحسان من غير دليل، ولست أعلم أحدا من أهل القبلة قاله. وفي الخبر: لما نزلت هذه الآية قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ما شي كان في الجاهلية إلا وهو تحت قدمي إلا الأمانة فإنها مؤداة إلى البر والفاجر).

[سورة آل عمران (3): آية 76]
بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76)
" مَنْ" رفع بالابتداء وهو شرط. و" أَوْفى " في موضع جزم. و" اتَّقى " معطوف عليه، أي واتقى الله ولم يكذب ولم يستحل ما حرم عليه. (فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) أي يحب أولئك. وقد تقدم معنى حب الله لأوليائه. والهاء في قوله" بِعَهْدِهِ" راجعة إلى الله عز وجل. وقد جرى ذكره في قوله" وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ" ويجوز أن تعود على الموفى ومتقي الكفر والخيانة ونقض العهد. والعهد مصدر يضاف إلى الفاعل والمفعول.

[سورة آل عمران (3): آية 77]
إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (77)
فيه مسألتان: الاولى- روى الأئمة عن الأشعث بن قيس قال: كان بيني وبين رجل من اليهود أرض فجحدني فقدمته إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال لي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (هل

وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78)

لك بينة (؟ قلت لا، قال لليهودي:) احلف) قلت: إذا يحلف فيذهب بمالي، فأنزل الله تعالى:" إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا" إلى آخر الآية. وروى الأئمة أيضا عن أبي أمامة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة). فقال له رجل: وإن كان شيئا يسيرا يا رسول الله؟ قال: (وإن كان قضيبا من أراك) «1». وقد مضى في البقرة معنى" لا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ «2»". الثانية- ودلت هذه الآية والأحاديث أن حكم الحاكم لا يحل المال في الباطن بقضاء الظاهر إذا علم المحكوم له بطلانه، وقد روى الأئمة عن أم سلمة قالت قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إنكم تختصمون إلي وإنما أنا بشر ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض وإنما أقضى بينكم على نحو مما أسمع منكم فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما اقطع له قطعة من النار يأتي بها يوم القيامة. وهذا لا خلاف فيه بين الأئمة، «3» وإنما ناقض أبو حنيفة وغلا وقال: إن حكم الحاكم المبني على الشهادة الباطلة يحل الفرج لمن كان محرما عليه، كما تقدم في البقرة «4». وزعم أنه لو شهد شاهدا زور على رجل بطلاق زوجته وحكم الحاكم بشهادتهما فإن فرجها يحل لمتزوجها ممن يعلم أن القضية باطل. وقد شنع عليه بإعراضه عن هذا الحديث الصحيح الصريح، وبأنه صان الأموال ولم ير استباحتها بالأحكام الفاسدة، ولم يصن الفروج عن ذلك، والفروج أحق أن يحتاط لها وتصان. وسيأتي بطلان قوله في آية اللعان «5» إن شاء الله تعالى.

[سورة آل عمران (3): آية 78]
وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78)
__________
(1). الأراك شجر من الحمض يستاك بقضبانه، الواحدة أراكه.
(2). ج 2 ص 234.
(3). في د: بين الامة.
(4). راجع المسألة الثالثة ج 2 ص 338.
(5). راجع ج 12 ص 182.

مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79)

يعني طائفة من اليهود. (يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ) وقرا أبو جعفر وشيبة" يَلْوُونَ" على التكثير. إذا أماله، ومنه والمعنى يحرفون الكلم ويعدلون به عن القصد. واصل اللي الميل. لوى بيده، ولوى برأسه قوله تعالى:" لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ" [النساء: 46] «1» أي عنادا عن الحق وميلا عنه إلى غيره. ومعنى" ولا تلوون على أحد" [آل عمران: 153] «2» أي لا تعرجون عليه، يقال لوى عليه إذا عرج وأقام. واللي المطل. لواه بدينه يلويه ليا وليانا مطله. قال:
قد كنت داينت بها حسانا ... مخافة الإفلاس والليانا

يحسن بيع الأصل والعيانا

وقال ذو الرمة:
تريدين «3» ليّاني وأنت مليّة ... وأحسن يا ذات الوشاح التقاضيا
وفي الحديث (لي الواحد يحل عرضه وعقوبته). وألسنة جمع لسان في لغة من ذكر، ومن أنث قال ألسن.

[سورة آل عمران (3): آية 79]
ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79)
" ما كانَ" معناه ما ينبغي، كما قال:" وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً" [النساء: 92] و" ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ" [مريم: 35] «4». و" ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا" [النور: 16]»
يعني ما ينبغي. والبشر يقع للواحد والجمع لأنه بمنزلة المصدر، والمراد به هنا عيسى في قول الضحاك والسدي. والكتاب: القرآن. والحكم: العلم والفهم. وقيل أيضا: الأحكام. أي إن الله لا يصطفي لنبوته الكذبة، ولو فعل ذلك بشر لسلبه الله آيات النبوة وعلاماتها. ونصب" ثُمَّ يَقُولَ" على الاشتراك بين" أَنْ يُؤْتِيَهُ" وبين" يَقُولَ" أي لا يجتمع لنبي إتيان النبوة وقوله:" كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ". (وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ) أي ولكن جائز أن يكون النبي يقول لهم
__________ (1). ج 5 ص 239 وص 243 من هذا الجزء.
(2). ج 5 ص 239 وص 243 من هذا الجزء.
(3). في ديوانه:" تعليلين".
(4). راجع ج 11 ص 107. [.....]
(5). راجع ج 12 ص 197

كونوا ربانيين؟. وهذه الآية قيل إنها نزلت في نصارى نجران. وكذلك روي أن السورة كلها إلى قوله" وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ" [آل عمران: 121] كان سبب نزولها نصارى نجران ولكن مزج معهم اليهود، لأنهم فعلوا من الجحد والعناد فعلهم. والربانيون واحدهم رباني منسوب إلى الرب. والرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره، وكأنه يقتدي بالرب سبحانه في تيسير «1» الأمور، روي معناه عن ابن عباس. قال بعضهم: كان في الأصل ربي فأدخلت الالف والنون للمبالغة، كما يقال للعظيم اللحية: لحياني ولعظيم الجمة جماني ولغليظ الرقبة رقباني. وقال المبرد: الربانيون أرباب العلم، واحدهم ربان، من قولهم: ربه يربه فهو ربان إذا دبره وأصلحه، فمعناه على هذا يدبرون أمور الناس ويصلحونها. والألف والنون للمبالغة كما قالوا ريان وعطشان، ثم ضمت إليها ياء النسبة كما قيل: لحياني ورقباني وجماني. قال الشاعر:
لو كنت مرتهنا في الجو «2» أنزلني ... منه الحديث ورباني أحباري
فمعنى الرباني العالم بدين الرب الذي يعمل بعلمه، لأنه إذا لم يعمل بعلمه فليس بعالم. وقد تقدم هذا المعنى في البقرة: وقال أبو رزين: الرباني هو العالم الحكيم. وروى شعبة عن عاصم عن زر عن عبد الله بن مسعود" وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ" قال: حكماء علماء. ابن جبير: حكماء أتقياء. وقال الضحاك: لا ينبغي لاحد أن يدع حفظ القرآن جهده فإن الله تعالى يقول:" وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ". وقال ابن زيد: الربانيون الولاة، والأحبار العلماء. وقال مجاهد: الربانيون فوق الأحبار. قال النحاس: وهو قول حسن، لان الأحبار هم العلماء. والرباني الذي يجمع إلى العلم البصر بالسياسة، مأخوذ من قول العرب: رب أمر الناس يربه إذا أصلحه وقام به، فهو راب ورباني على التكثير. قال أبو عبيدة: سمعت عالما يقول: الرباني العالم بالحلال والحرام والامر والنهي، العارف بأنباء الامة وما كان وما يكون. وقال محمد بن الحنفية يوم مات أبن عباس: اليوم مات رباني هذه الامة. وروي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: (ما من مؤمن ذكر ولا أنثى حر ولا مملوك إلا ولله عز وجل
__________
(1). في د: جميع، وفى ز: تفسير.
(2). في: زوا: في الحق.

وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80)

عليه حق أن يتعلم من القرآن ويتفقه في دينه- ثم تلا هذه الآية- ولكن كونوا ربانيين (الآية. رواه ابن عباس. قوله تعالى:) بما كنتم تعلمون تاب وبما كنتم تدرسون) قرأه أبو عمرو وأهل المدينة بالتخفيف من العلم. واختار هذه القراءة أبو حاتم. قال أبو عمرو: وتصديقها" تَدْرُسُونَ" ولم يقل" تدرسون" بالتشديد من التدريس. وقرا ابن عامر وأهل الكوفة" تعلمون" بالتشديد من التعليم، واختارها أبو عبيد. قال: لأنها تجمع المعنيين" تعلمون، وتدرسون". قال مكي: التشديد أبلغ، لان كل معلم عالم بمعنى يعلم وليس كل من علم شيئا معلما، فالتشديد يدل على العلم والتعليم، والتخفيف إنما يدل على العلم فقط، فالتعليم أبلغ وأمدح وغيره أبلغ في الذم. احتج من رجح قراءة التخفيف بقول ابن مسعود" كونوا ربانيين" قال: حكماء علماء، فيبعد أن يقال كونوا فقهاء حكماء علماء بتعليمكم. قال الحسن، كونوا حكماء علماء بعلمكم. وقرا أبو حيوة" تدرسون" من أدرس يدرس. وقرا مجاهد" تعلمون" بفتح التاء وتشديد اللام، أي تتعلمون.

[سورة آل عمران (3): آية 80]
وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80)
قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة بالنصب عطفا على" أَنْ يُؤْتِيَهُ". ويقويه أن اليهود قالت للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أتريد أن نتخذك يا محمد ربا؟ فقال الله تعالى:" ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ- إلى قوله: وَلا يَأْمُرَكُمْ". وفية ضمير البشر، أي ولا يأمركم البشر يعني عيسى وعزيرا. وقرا والباقون بالرفع على الاستئناف والقطع من الكلام الأول، وفية ضمير اسم الله عز وجل، أي ولا يأمركم الله أن تتخذوا. ويقوي هذه القراءة أن في مصحف عبد الله" ولن يأمركم" فهذا يدل على الاستئناف، والضمير أيضا لله عز وجل، ذكره مكي، وقاله سيبويه والزجاج. وقال ابن جريح وجماعة: ولا يأمركم محمد

وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81)

عليه السلام. وهذه قراءة أبي عمرو والكسائي وأهل الحرمين. (أَنْ تَتَّخِذُوا) أي بأن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا. وهذا موجود في النصارى يعظمون الأنبياء والملائكة حتى يجعلوهم لهم أربابا. (أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) على طريق الإنكار والتعجب، فحرم الله تعالى على الأنبياء أن يتخذوا الناس عبادا يتألهون لهم ولكن ألزم الخلق حرمتهم. وقد ثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: (لا يقولن أحدكم عبدي وأمتي وليقل فتاي وفتأتي ولا يقل أحدكم ربي وليقل سيدي). وفي التنزيل" اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ" [يوسف: 42]. وهناك «1» يأتي بيان هذا [المعنى ] «2» إن شاء الله تعالى.

[سورة آل عمران (3): آية 81]
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81)
قيل: أخذ الله تعالى ميثاق الأنبياء أن يصدق بعضهم بعضا ويأمر بعضهم بالايمان بعضا، فذلك معنى النصرة بالتصديق. وهذا قول سعيد بن جبير وقتادة وطاوس والسدي والحسن، وهو ظاهر الآية. قال طاوس: أخذ الله ميثاق الأول من الأنبياء أن يؤمن بما جاء به الأخر. وقرا ابن مسعود" وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ" [آل عمران: 187]. قال الكسائي: يجوز أن يكون" وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ" بمعنى وإذ أخذ الله ميثاق الذين مع النبيين. وقال البصريون: إذا أخذ الله ميثاق النبيين فقد أخذ ميثاق الذين معهم، لأنهم قد اتبعوهم وصدقوهم. و" ما" في قوله" لَما" بمعنى الذي. قال سيبويه: سألت الخليل ابن أحمد عن قوله عز وجل:" وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ" فقال: لَما بمعنى الذي. قال النحاس: التقدير على قول الخليل للذي آتيتكموه، ثم حذف
__________
(1). راجع ج 9 ص 105.
(2). الزيادة من د، ب.

الهاء لطول الاسم. و" الذي" رفع بالابتداء وخبره" مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ". و" مِنْ" لبيان الجنس. وهذا كقول القائل: لزيد أفضل منك، وهو قول الأخفش أنها لام الابتداء. قال المهدوي: وقوله" ثُمَّ جاءَكُمْ" وما بعده جملة معطوفة على الصلة، والعائد منها على الموصول محذوف، والتقدير ثم جاءكم رسول مصدق به. قوله تعالى (ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ) الرسول هنا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قول علي وابن عباس رضي الله عنهما. واللفظ وإن كان نكرة فالإشارة إلى معين، كقوله تعالى:" وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً" إلى قوله:" وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ" [النحل: 113- 112] «1». فأخذ الله ميثاق النبيين أجمعين أن يؤمنوا بمحمد عليه السلام وينصروه إن أدركوه، وأمرهم أن يأخذوا بذلك الميثاق على أممهم. واللام من قوله" لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ" جواب القسم الذي هو أخذ الميثاق، إذ هو بمنزلة الاستحلاف. وهو كما تقول في الكلام: أخذت ميثاقك لتفعلن كذا، كأنك قلت استحلفك، وفصل بين القسم وجوابه بحرف الجر الذي هو" لما" في قراءة ابن كثير على ما يأتي. ومن فتحها جعلها متلقية للقسم الذي هو أخذ الميثاق. واللام في" لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ" جواب قسم محذوف، أي والله لتؤمنن به. وقال المبرد والكسائي والزجاج:" ما" شرط دخلت عليها لام التحقيق كما تدخل على إن، ومعناه [لمهما] «2» آتيتكم، فموضع" لَما" نصب، وموضع" آتَيْتُكُمْ" جزم، و" ثُمَّ جاءَكُمْ" معطوف عليه،" (لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ)" اللام في قوله"" لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ" جواب الجزاء، كقوله تعالى:" وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ" [الاسراء: 86] «3» ونحوه. وقال الكسائي: لتؤمنن به معتمد القسم فهو متصل بالكلام الأول، وجواب الجزاء قوله" فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ" [آل عمران: 82]. ولا يحتاج على هذا الوجه إلى تقدير عائد. وقرا أهل الكوفة" لَما آتَيْتُكُمْ" بكسر اللام، وهي أيضا بمعنى الذي وهي متعلقة بأخذ، أي أخذ الله ميثاقهم لأجل الذي آتاهم من كتاب وحكمة ثم إن جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به من بعد الميثاق، لان أخذ الميثاق في معنى الاستحلاف كما تقدم. قال النحاس: ولابي عبيدة في هذا قول حسن. قال: المعنى وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب
__________
(1). راجع ج 10 ص 194.
(2). كذا في ب، ود. وفى السمين: التقدر والله لأي شي أتيتكم من كذا وكذا لتؤمن به.
(3). راجع ج 10 ص 325.

فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82)

لتؤمنن به لما آتيتكم من ذكر التوراة. وقيل: في الكلام حذف، والمعنى وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لتعلمن الناس لما جاءكم من كتاب وحكمة، ولتأخذن على الناس أن يؤمنوا. ودل على هذا الحذف" وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي". وقيل: إن اللام في قوله" لما" في قراءة من كسرها بمعنى بعد، يعني بعد ما آتيتكم من كتاب وحكمة، كما قال النابغة:
توهمت آيات لها فعرفتها ... لستة أعوام وذا العام سابع
أي بعد ستة أعوام. وقرا سعيد بن خبير" لما" بالتشديد، ومعناه حين آتيتكم. واحتمل أن يكون أصلها التخفيف فزيدت" من" على مذهب من يرى زيادتها في الواجب فصارت لمن ما، وقلبت النون ميما للادغام فاجتمعت ثلاث ميمات فحذفت الاولى منهن استخفافا. وقرا أهل المدينة" آتيناكم" على التعظيم. والباقون" آتَيْتُكُمْ" على لفظ الواحد. ثم كل الأنبياء لم يؤتوا الكتاب وإنما أوتي البعض، ولكن الغلبة للذين أوتوا الكتاب. والمراد أخذ ميثاق جميع الأنبياء فمن لم يؤت الكتاب فهو في حكم من أوتي الكتاب لأنه أوتي الحكم والنبوة. وأيضا من لم يؤت الكتاب أمر بأن يأخذ بكتاب من قبله فدخل تحت صفة من أوتي الكتاب. قوله تعالى: (أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ)
" أَقْرَرْتُمْ" من الإقرار، والإصر والإصر لغتان، وهو العهد. والإصر في اللغة الثقل، فسمي العهد إصرا لأنه منع وتشديد. (قالَ فَاشْهَدُوا) أي اعلموا، عن ابن عباس. الزجاج: بينوا لان الشاهد هو الذي يصحح دعوى المدعى. وقيل: المعنى اشهدوا أنتم على أنفسكم وعلى أتباعكم. (وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) عليكم وعليهم. وقال سعيد بن المسيب: قال الله عز وجل للملائكة فاشهدوا عليهم، فتكون كناية عن غير مذكور.

[سورة آل عمران (3): آية 82]
فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (82)
" فَمَنْ" شرط. فمن تولى من أمم الأنبياء عن الايمان بعد أخذ الميثاق (فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) أي الخارجون عن الايمان. والفاسق الخارج. وقد تقدم «1».
__________
(1). راجع 1 ص 244.

أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83) قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84)

[سورة آل عمران (3): الآيات 83 الى 84]
أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83) قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84)
قوله تعالى: (أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ) قال الكلبي: إن كعب بن الأشرف وأصحابه اختصموا مع النصارى إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالوا: أينا أحق بدين إبراهيم؟ فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (كلا الفريقين برئ من دينه). فقالوا: ما نرضى بقضائك ولا نأخذ بدينك، فنزل" أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ" يعني يطلبون. ونصبت" غير" بيبغون، أي يبغون غير دين الله. وقرا أبو عمرو وحده" يَبْغُونَ" بالياء على الخبر" وإليه ترجعون" بالتاء على المخاطبة. قال: لان الأول خاص والثاني عام ففرق بينهما لافتراقهما في المعنى. وقرا حفص وغيره" يبغون، ويرجعون" بالياء فيهما، لقوله:" فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ". وقرا الباقون بالتاء فيهما على الخطاب، لقوله" لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ". والله أعلم. قوله تعالى: (وَلَهُ أَسْلَمَ) أي استسلم وانقاد وخضع وذل، وكل مخلوق فهو منقاد مستسلم، لأنه مجبول على ما لا يقدر أن يخرج عنه. قال قتادة: أسلم المؤمن طوعا والكافر عند موته كرها ولا ينفعه ذلك، لقوله:" فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا" [المؤمن: 85] «1». قال مجاهد: إسلام الكافر كرها بسجوده لغير الله وسجود ظله لله،" أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ" [النحل: 48] «2»." وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ" [الرعد: 15] «3». وقيل: المعنى أن الله خلق الخلق على ما أراد منهم، فمنهم الحسن والقبيح والطويل والقصير والصحيح والمريض وكلهم منقادون اضطرارا، فالصحيح منقاد طائع محب لذلك، والمريض منقاد خاضع وإن كان كارها. والطوع الانقياد
__________
(1). راجع ج 15 ص 336.
(2). راجع ج 10 ص 111.
(3). راجع ج 9 ص 301.

وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)

والاتباع بسهولة. والكره ما كان بمشقة وإباء من النفس. و(طَوْعاً وَكَرْهاً) مصدران في موضع الحال، أي طائعين ومكرهين. وروى أنس بن مالك قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله عز وجل:" وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً" قال: (الملائكة أطاعوه في السماء والأنصار وعبد القيس في الأرض). وقال عليه السلام: (لا تسبوا أصحابي فإن أصحابي أسلموا من خوف الله وأسلم الناس من خوف السيف (. وقال عكرمة:" طَوْعاً" من أسلم من غير محاجة" وَكَرْهاً" من اضطرته الحجة إلى التوحيد. يدل عليه قوله عز وجل:" وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ" [الزخرف: 87] «1»" وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ" [العنكبوت: 63] «2». قال الحسن: هو عموم معناه الخصوص. وعنه:" أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ" وتم الكلام. ثم قال:" وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً". قال: والكاره المنافق لا ينفعه عمله. و" طَوْعاً وَكَرْهاً" مصدران في موضع الحال. عن مجاهد عن ابن عباس قال: إذا استصعبت دابة أحدكم أو كانت شموسا «3» فليقرأ في أذنها هذه الآية:" أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً" إلى آخر الآية.

[سورة آل عمران (3): آية 85]
وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (85)
" غَيْرَ" مفعول بيبتغ،" دِيناً" منصوب على التفسير، ويجوز أن ينتصب دينا بيبتغ، وينتصب" غَيْرَ" على أنه حال من الدين. قال مجاهد والسدي: نزلت هذه الآية في الحارث ابن سويد أخو الحلاس بن سويد، وكان من الأنصار، ارتد عن الإسلام هو واثنا عشر معه ولحقوا بمكة كفارا، فنزلت هذه الآية، ثم أرسل إلى أخيه يطلب التوبة. وروي ذلك عن ابن عباس وغيره. قال ابن عباس: وأسلم بعد نزول الآيات. (وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ)
__________
(1). راجع ج 16 ص 123.
(2). راجع ج 13 ص 361. [.....]
(3). شمست الدابة: شردت وجمحت ومنعت ظهرها.

كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86)

قال هشام: أي وهو خاسر في الآخرة من الخاسرين، ولولا هذا لفرقت بين الصلة والموصول. وقال المازني: الالف واللام مثلها في الرجل. وقد تقدم هذا في البقرة «1» عند قوله:" وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ" [البقرة: 130].

[سورة آل عمران (3): آية 86]
كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86)
قال ابن عباس: إن رجلا من الأنصار أسلم ثم ارتد ولحق بالشرك ثم ندم، فأرسل إلى قومه: سلوا لي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هل لي من توبة؟ فجاء قومه إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالوا: هل له من توبة؟ فنزلت" كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ" إلى قوله:" غَفُورٌ رَحِيمٌ" [آل عمران: 89] فأرسل إليه فأسلم. أخرجه النسائي. وفي رواية: أن رجلا من الأنصار ارتد فلحق بالمشركين، فأنزل الله" كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا" إلى قوله:" إِلَّا الَّذِينَ تابُوا" [آل عمران: 89] فبعث بها قومه إليه، فلما قرئت عليه قال: والله ما كذبني قومي على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا أكذبت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الله، والله عز وجل أصدق الثلاثة، فرجع تائبا، فقبل منه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتركه. وقال الحسن: نزلت في اليهود لأنهم كانوا يبشرون بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويستفتحون على الذين كفروا، فلما بعث عاندوا وكفروا، فأنزل الله عز وجل:" أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ" [آل عمران: 87]. ثم قيل:" كَيْفَ" لفظة استفهام ومعناه الجحد، أي لا يهدي الله. ونظيره قوله:" كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ" [التوبة: 7] «2» أي لا يكون لهم عهد، وقال الشاعر:
كيف نومي على الفراش ولما ... يشمل القوم غارة شعواء
أي لا نوم لي. (وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) يقال: ظاهر الآية أن من كفر بعد إسلامه لا يهديه الله ومن كان ظالما، لا يهديه الله، وقد رأينا كثيرا من المرتدين قد أسلموا
__________
(1). راجع ج 2 ص 133.
(2). راجع ج 8 ص 77.

أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87)

وهداهم الله، وكثيرا من الظالمين تابوا عن الظلم. قيل له: معناه لا يهديهم الله ما داموا مقيمين على كفرهم وظلمهم ولا يقبلون على الإسلام، فأما إذا أسلموا وتابوا فقد وفقهم الله لذلك. والله تعالى أعلم.

[سورة آل عمران (3): الآيات 87 الى 89]
أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89)
أي إن داموا على كفرهم. وقد تقدم معنى لعنة الله والناس في" البقرة" «1» فلا معنى لإعادته. (وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) أي لا يؤخرون ولا يوجلون. ثم استثنى التائبين فقال: (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) هو الحارث بن سويد كما تقدم. ويدخل في الآية بالمعنى كل من راجع الإسلام وأخلص.

[سورة آل عمران (3): آية 90]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90)
قال قتادة وعطاء الخراساني والحسن: نزلت في اليهود كفروا بعيسى والإنجيل، ثم ازدادوا كفرا بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والقرآن. وقال أبوا العالية: نزلت في اليهود والنصارى كفروا بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد إيمانهم بنعته وصفته" ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً" بإقامتهم على كفرهم. وقيل:" ازْدادُوا كُفْراً" بالذنوب التي اكتسبوها. وهذا اختيار الطبري، وهي عنده في اليهود. (لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ) مشكل لقوله:" وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ" [الشورى: 25] «2» (فقيل: المعنى لن تقبل توبتهم عند الموت. قال النحاس: وهذا قول حسن، كما قال عز وجل:" وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ" [النساء: 18] «3» وروي عن الحسن وقتادة وعطاء. وقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إن الله
__________
(1). راجع ج 2 ص 188.
(2). راجع ج 16 ص 25.
(3). راجع ج 5 ص 90.

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (91)

يقبل توبة العبد ما لم يغرغر «1». (وسيأتي في" النساء" بيان هذا المعنى. وقيل:" لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ" التي كانوا عليها قبل أن يكفروا، لان الكفر قد أحبطها. وقيل:" لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ" إذا تابوا من كفرهم إلى كفر آخر، وإنما تقبل توبتهم إذا تابوا إلى الإسلام. وقال قطرب. هذه الآية نزلت في قوم من أهل مكة قالوا: نتربص بمحمد ريب المنون، فإن بدا لنا الرجعة رجعنا إلى قومنا. فأنزل الله تعالى:" إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ" أي لن تقبل. توبتهم وهم مقيمون على الكفر، فسماها توبة غير مقبولة، لأنه لم يصح من القوم عزم، والله عز وجل يقبل التوبة كلها إذا صح العزم.

[سورة آل عمران (3): آية 91]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْ ءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (91)
الملء (بالكسر) مقدار ما يملأ الشيء، والملء (بالفتح) مصدر ملأت الشيء، ويقال: أعطني ملأه وملائه وثلاثة إملائه. والواو في" لَوِ افْتَدى بِهِ" قيل: هي مقحمة زائدة، المعنى: فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا لو افتدى به. وقال أهل النظر من النحويين: لا يجوز أن تكون الواو مقحمة لأنها تدل على معنى. ومعنى الآية: فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا تبرعا ولو افتدى به. و" ذَهَباً" نصب على التفسير في قول الفراء. قال المفضل: شرط التفسير أن يكون الكلام تاما وهو مبهم، كقولك عندي عشرون، فالعدد معلوم والمعدود مبهم، فإذا قلت درهما فسرت. وإنما نصب التمييز لأنه ليس له ما يخفضه ولا ما يرفعه، وكان النصب أخف الحركات فجعل لكل ما لا عامل فيه. وقال الكسائي: نصب على إضمار من، أي من ذهب، كقوله:" أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً" [المائدة: 95] «2» أي من صيام. وفي البخاري ومسلم عن قتادة عن أنس بن مالك أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (يجاء بالكافر
__________
(1). أي ما لم تبلغ حلقومه، فيكون بمنزلة الشيء يتغرغر به المريض، راجع ج 5 ص 92.
(2). راجع ج 6 ص 316.

لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)

يوم القيامة فيقال له أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهبا أكنت تفتدي به فيقول نعم فيقال له قد كنت سئلت ما هو أيسر من ذلك (. لفظ البخاري. وقال مسلم بدل (قد كنت، كذبت، قد سئلت).

[سورة آل عمران (3): آية 92]
لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)
فيه مسألتان: الاولى- روى الأئمة واللفظ للنسائي عن أنس قال: لما نزلت هذه الآية:" لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ" قال أبو طلحة: إن ربنا ليسألنا من أموالنا فأشهدك يا رسول الله أني جعلت أرضي لله. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (اجعلها في قرابتك في حسان ابن ثابت وأبي بن كعب). وفي الموطأ" وكانت أحب أمواله إليه بئر حاء «1»، وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب". وذكر الحديث. ففي هذه الآية دليل على استعمال ظاهر الخطاب وعمومه، فإن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين لم يفهموا من فحوى الخطاب حين نزلت الآية غير ذلك. ألا ترى أبا طلحة حين سمع" لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا" الآية، لم يحتج أن يقف حتى يرد البيان الذي يريد الله أن ينفق منه عباده بآية أخرى أو سنة مبينة لذلك فإنهم يحبون أشياء كثيرة. وكذلك فعل زيد ابن حارثة، عمد مما يحب إلى فرس يقال له (سبل) وقال: اللهم إنك تعلم أنه ليس لي مال أحب إلي من فرسي هذه، فجاء بها [إلى ] «2» النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: هذا في سبيل الله. فقال لأسامة بن زيد (اقبضه). فكأن زيدا وجد من ذلك في نفسه. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إن الله قد قبلها منك). ذكره أسد بن موسى. وأعتق ابن عمر نافعا مولاه، وكان أعطاه فيه عبد الله بن جعفر ألف دينار. قالت صفية بنت أبي عبيد: أظنه تأول قول الله عز وجل:" لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ". وروى شبل عن «3» أبي نجيح
__________
(1). بئر حاء: مال وموضع كان لابي طلحة بالمدينة.
(2). من د، وز.
(3). في د: أبن أبى نجيح.

عن مجاهد قال: كتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري أن يبتاع له جارية من سبي جلولاء «1» يوم فتح مدائن كسرى، فقال «2» سعد بن أبي وقاص: فدعا بها عمر فأعجبته، فقال إن الله عز وجل يقول:" لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ" فأعتقها عمر رضي الله عنه. وروي عن الثوري أنه بلغه أن أم ولد الربيع بن خيثم قالت: كان إذا جاءه السائل يقول لي: يا فلانة أعطي السائل سكرا، فإن الربيع يحب السكر. قال سفيان: يتأول قوله عز وجل:" لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ". وروي عن عمر بن عبد العزيز أنه كان يشتري أعدالا من سكر ويتصدق بها. فقيل له: هلا تصدقت بقيمتها؟ فقال: لان السكر أحب إلي فأردت أن أنفق مما أحب. وقال الحسن: إنكم لن تنالوا ما تحبون إلا بترك ما تشتهون، ولا تدركوا «3» ما تأملون إلا بالصبر على ما تكرهون. الثانية- واختلفوا في تأويل" الْبِرَّ" فقيل الجنة، عن ابن مسعود وابن عباس وعطاء ومجاهد وعمرو بن ميمون والسدي. والتقدير لن تنالوا ثواب البر حتى تنفقوا مما تحبون. والنوال العطاء، من قولك نولته تنويلا أعطيته. ونالني من فلان معروف ينالني، أو وصل إلي. فالمعنى لن تصلوا إلى الجنة وتعطوها حتى تنفقوا مما تحبون. وقيل: البر العمل الصالح. وفي الحديث الصحيح: (عليكم بالصدق فإنه يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة). وقد مضى في البقرة «4». قال عطية العوفي: يعني الطاعة. عطاء: لن تنالوا شرف الدين والتقوى حتى تتصدقوا وأنتم أصحاء أشحاء تأملون العيش وتخشون الفقر. وعن الحسن،" حَتَّى تُنْفِقُوا" هي الزكاة المفروضة. مجاهد والكلبي: هي منسوخة، نسختها آية الزكاة. وقيل: المعنى حتى تنفقوا مما تحبون في سبيل الخير من صدقة أو غيرها من الطاعات، وهذا جامع. وروى النسائي عن صعصعة بن معاوية قال: لقيت أبا ذر قال: قلت حدثني قال: نعم. قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ما من عبد مسلم ينفق من كل ماه زوجين في سبيل الله إلا استقبلته حجبة الجنة كلهم يدعوه إلى ما عنده (. قلت: وكيف ذلك؟ قال: إن كانت إبلا فبعيرين،
__________
(1). جلولاء: قرية قرب خانقين- بالعراق- على سبعة فراسخ منها كانت للمسلمين بها وقعة على الفرس.
(2). في ب: في قتال سعد.
(3). في: ا، وب، وز تدركون. [.....]
(4). راجع ج 2 ص 243.

كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93) فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94)

وإن كانت بقرا فبقرتين. وقال أبو بكر الوراق: دلهم بهذه الآية على الفتوة «1». أي لن تنالوا بري بكم إلا ببركم بإخوانكم والإنفاق عليهم من أموالكم وجاهكم، فإذا فعلتم ذلك نالكم بري وعطفي. قال مجاهد: وهو مثل قوله:" وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً" [الإنسان: 8] «2» (وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) أي وإذا علم جازى عليه.

[سورة آل عمران (3): الآيات 93 الى 94]
كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاَّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (93) فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94)
فيه أربع مسائل: الاولى- قوله تعالى: (حِلًّا)" حِلًّا" أي حلالا، ثم استثنى فقال: (إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ) وهو يعقوب عليه السلام. في الترمذي عن ابن عباس أن اليهود قالوا للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أخبرنا، ما حرم إسرائيل عل نفسه؟ قال: (كان يسكن البدو فاشتكى عرق «3» النسا فلم يجد شيئا يلائمه إلا لحوم الإبل وألبانها فلذلك حرمها). قالوا: صدقت. وذكر الحديث. ويقال: [إنه ]»
نذر إن برأ «5» منه ليتركن أحب الطعام والشراب إليه، وكان أحب الطعام والشراب إليه لحوم الإبل وألبانها. وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي: أقبل يعقوب عليه السلام من حران يريد بيت المقدس حين هرب من أخيه عيصو، وكان رجلا بطشا قويا، فلقيه ملك فظن يعقوب أنه لص فعالجه أن يصرعه، فغمز الملك فخذ يعقوب عليه السلام، ثم صعد الملك إلى السماء ويعقوب ينظر إليه فهاج عليه «6» عرق النسا، ولقي من
__________
(1). الفتوة: يعبر بها عن مكارم الأخلاق.
(2). راجع ج 19 ص 125.
(3). النسا (بالفتح مقصور): عرق يخرج من الورك فيستبطن الفخذ.
(4). كذا في ب ود.
(5). برأ من المرض (بالفتح) لغة أهل الحجاز. وسائر العرب يقولون: برئت (بالكسر).
(6). في ب ود: به.

ذلك بلاء شديدا، فكان لا ينام الليل من الوجع ويبيت وله زقاء «1» أي صياح، فحلف يعقوب عليه السلام إن شفاه الله عز وجل ألا يأكل عرقا، ولا يأكل طعاما فيه عرق فحرمها على نفسه، فجعل بنوه يتبعون بعد ذلك العروق فيخرجونها من اللحم. وكان سبب غمز الملك ليعقوب «2» أنه كان نذر إن وهب الله له اثني عشر ولدا وأتى بيت المقدس صحيحا أن يذبح آخرهم «3». فكان ذلك للمخرج من نذره، عن الضحاك. الثانية- واختلف هل كان التحريم من يعقوب باجتهاد منه أو بإذن من الله تعالى؟ والصحيح الأول، لان الله تعالى أضاف التحريم إليه بقوله تعالى:" إِلَّا ما حَرَّمَ" وأن النبي إذا أداه اجتهاده إلى شي كان دينا يلزمنا اتباعه لتقرير الله سبحانه إياه على ذلك. وكما يوحى إليه ويلزم اتباعه، كذلك يؤذن له ويجتهد، ويتعين موجب اجتهاده إذا قدر عليه، ولولا تقدم الاذن له في تحريم ذلك ما تسور «4» على التحليل والتحريم. وقد حرم نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العسل على الرواية الصحيحة، أو خادمه مارية فلم يقر الله تحريمه ونزل:" لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ" [التحريم: 1] على ما يأتي بيانه في" التحريم" «5». قال الكيا الطبري: فيمكن أن يقال: مطلق قوله تعالى:" لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ" يقتضي ألا يختص بمارية، وقد رأى الشافعي أن وجوب الكفارة في ذلك غير معقول المعنى، فجعلها مخصوصا بموضع النص، وأبو حنيفة رأى ذلك أصلا في تحريم كل مباح وأجراه مجرى اليمين. الثالثة- قوله تعالى: (قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) قال ابن عباس: لما أصاب يعقوب عليه السلام عرق النسا وصف الأطباء له أن يجتنب لحوم الإبل فحرمها على نفسه. فقالت اليهود: إنما نحرم على أنفسنا لحوم الإبل، لان يعقوب حرمها وأنزل الله تحريمها في التوراة، فأنزل الله هذه الآية. قال الضحاك: فكذبهم الله ورد عليهم فقال: يا محمد" قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ" فلم يأتوا. فقال عز وجل: (فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)
قال الزجاج: في هذه الآية
__________
(1). في ز وا: رغاء، والتصحيح من ب، ود وح وهـ وج.
(2). في ب ود، وفى الأصول الأخرى: غمز الملك فخذه.
(3). في د: أحدهم.
(4). تسور: هجم.
(5). راجع ج 18 ص 177.

قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95)

أعظم دلالة لنبوة محمد نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أخبرهم أنه ليس في كتابهم، وأمرهم أن يأتوا بالتوراة فأبوا، يعني عرفوا أنه قال ذلك بالوحي. وقال عطية العوفي: إنما كان ذلك حراما عليهم بتحريم يعقوب ذلك عليهم. وذلك أن إسرائيل قال حين أصابه عرق النسا: والله لئن عافاني الله منه لا يأكله لي ولد، ولم يكن ذلك محرما عليهم. وقال الكلبي: لم يحرمه الله عز وجل في التوراة عليهم وإنما حرمه بعد التوراة بظلمهم وكفرهم، وكانت بنو إسرائيل إذا أصابوا ذنبا عظيما حرم الله تعالى عليهم طعاما طيبا، أو صب عليهم رجزا وهو الموت، فذلك قوله تعالى:" فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ" [النساء: 160] «1» الآية. وقوله:" وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ" الآية- إلى قوله:" ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ"" وَإِنَّا لَصادِقُونَ" [الانعام: 146] «2». الرابعة- ترجم ابن ماجة في سننه" دواء عرق النسا" حدثنا هشام بن عمار وراشد ابن سعيد الرملي قالا حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا هشام بن حسان حدثنا أنس بن سيرين أنه سمع أنس بن مالك يقول: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: (شفاء عرق النسا ألية شاة [أعرابية] «3» تذاب ثم تجزأ ثلاثة أجزاء ثم يشرب على الريق في كل يوم جزء). وأخرجه الثعلبي في تفسيره أيضا من حديث أنس بن مالك قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في عرق النسا: (تؤخذ ألية كبش عربي لا صغير ولا كبير فتقطع صغارا فتخرج إهالته «4» فتقسم ثلاثة أقسام في كل يوم على ريق النفس ثلثا) قال أنس: فوصفته لأكثر من مائة فبرأ بإذن الله تعالى. شعبة: حدثني شيخ في زمن الحجاج بن يوسف في عرق النسا: أقسم لك بالله الأعلى لئن لم تنته لاكوينك بنار أو لاحلقنك بموسى. قال شعبة: قد جربته، تقوله، وتمسح على ذلك الموضع.

[سورة آل عمران (3): آية 95]
قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95)
__________
(1). راجع ج 6 ص 12.
(2). راجع ج 7 ص 127. [.....]
(3). زيادة عن سنن ابن ماجة.
(4). الإهالة (بالكسر): الشحم المذاب، أو كل ما اؤتدم به من الادهان.

إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)

أي قل يا محمد صدق الله. إنه لم يكن ذلك في التوراة محرما. (فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) أمر باتباع دينه. (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) رد عليهم في دعواهم الباطل كما تقدم.

[سورة آل عمران (3): الآيات 96 الى 97]
إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (96) فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (97)
فيه خمس مسائل: الاولى- ثبت في صحيح مسلم عن أبي ذر قال: سألت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن أول مسجد وضع في الأرض قال: (المسجد الحرام). قلت: ثم أي؟ قال: (المسجد الأقصى). قلت: كم بينهما؟ قال: (أربعون عاما ثم الأرض لك مسجد فحيثما أدركتك الصلاة فصل). قال مجاهد وقتادة: لم يوضع قبله بيت. قال علي رضي الله عنه: كان قبل البيت بيوت كثيرة، والمعنى أنه أول بيت وضع للعبادة. وعن مجاهد قال: تفاخر المسلمون واليهود فقالت اليهود: بيت المقدس أفضل وأعظم من الكعبة، لأنه مهاجر «1» الأنبياء وفي الأرض المقدسة. وقال المسلمون: بل الكعبة أفضل، فأنزل الله هذه الآية. وقد مضى في البقرة «2» بنيان البيت وأول من بناه. قال مجاهد: خلق الله موضع هذا البيت قبل أن يخلق شيئا من الأرض بألفي سنة، وأن قواعده لفي الأرض السابعة السفلى. وأما المسجد الأقصى فبناه سليمان عليه السلام، كما خرجه النسائي بإسناد صحيح من حديث عبد الله بن عمرو. وعن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أن سليمان بن داود عليه السلام لما بنى بيت المقدس سأل الله خلالا ثلاثة [سأل الله عز وجل ] «3» حكما يصادف حكمه فأوتيه، وسأل الله عز وجل ملكا
__________
(1). المهاجر (بفتح الجيم): موضع المهاجرة.
(2). راجع ج 2 ص 120.
(3). زيادة عن سنن النسائي.

لا ينبغي لاحد من بعده فأوتيه، وسأل الله عز وجل حين فرغ من بناء المسجد ألا يأتيه أحد لا ينهزه «1» إلا الصلاة فيه أن يخرجه من خطيئته كيوم ولدته أمه فأوتيه (. فجاء إشكال بين الحديثين، لان بين إبراهيم وسليمان آمادا طويلة. قال أهل التواريخ: أكثر من ألف سنة. فقيل: إن إبراهيم وسليمان عليهما السلام إنما جددا ما كان أسسه غيرهما. وقد روي أن أول من بنى البيت آدم عليه السلام كما تقدم. فيجوز أن يكون غيره من ولده وضع بيت المقدس من بعده بأربعين عاما، ويجوز أن تكون الملائكة أيضا بنته بعد بنائها البيت بإذن الله، وكل محتمل. والله أعلم. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أمر الله تعالى الملائكة ببناء بيت في الأرض وأن يطوفوا به، وكان هذا قبل خلق آدم، ثم إن آدم بنى منه ما بنى وطاف به، ثم الأنبياء بعده، ثم استتم بناءه إبراهيم عليه السلام. الثانية- قوله تعالى: (لَلَّذِي بِبَكَّةَ) خبر" إِنَّ" واللام توكيد. و" بِبَكَّةَ" موضع البيت، ومكة سائر البلد، عن مالك بن أنس. وقال محمد بن شهاب: بكة المسجد، ومكة الحرم كله، تدخل فيه البيوت. قال مجاهد: بكة هي مكة. فالميم على هذا مبدلة من الباء، كما قالوا: طين لازب ولازم. وقاله الضحاك والمؤرج. ثم قيل: بكة مشتقة من البك وهو الازدحام. تباك القوم ازدحموا. وسميت بكة لازدحام الناس في موضع طوافهم. والبك دق العنق. وقيل: سميت بذلك لأنها كانت تدق رقاب الجبابرة إذا ألحدوا فيها بظلم. قال عبد الله بن الزبير: لم يقصدها جبار قط بسوء إلا وقصه «2» الله عز وجل. وأما مكة فقيل: إنها سميت بذلك [لقلة «3» مائها وقيل: سميت بذلك ] لأنها تمك المخ من العظم مما ينال قاصدها من المشقة من قولهم: مككت العظم إذا أخرجت ما فيه. ومك الفصيل ضرع أمه وامتكه إذا امتص كل ما فيه من اللبن وشربه، قال الشاعر:
مكت فلم تبق في أجوافها دررا

وقيل: سميت بذلك لأنها تمك من ظلم فيها، أي تهلكه وتنقصه. وقيل: سميت بذلك لان الناس كانوا يمكون ويضحكون فيها، من قوله:" وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً"
__________
(1). النهز: الدفع.
(2). الوقص: الكسر والدق.
(3). الزيادة في د.

[الأنفال: 35] «1» أي تصفيقا وتصفيرا. وهذا لا يوجبه التصريف، لان" مكة" ثنائي مضاعف و" مُكاءً" ثلاثي معتل. الثالثة- قوله تعالى: (مُبارَكاً) جعله مباركا لتضاعف العمل فيه، فالبركة كثرة الخير، ونصب على الحال من المضمر في" وُضِعَ" أو بالظرف من" بِبَكَّةَ" المعنى: الذي استقر" بِبَكَّةَ مُبارَكاً" ويجوز في غير القرآن" مبارك"، على أن يكون خبرا ثانيا، أو على البدل من الذي، أو على إضمار مبتدأ. (وَهُدىً لِلْعالَمِينَ) عطف عليه، ويكون بمعنى وهو هدى للعالمين. ويجوز في غير القرآن" مبارك" بالخفض يكون نعتا للبيت. الرابعة- قوله تعالى: (فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ) رفع بالابتداء أو بالصفة. وقرا أهل مكة وابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير" آية بينة" على التوحيد، يعني مقام إبراهيم وحده. قالوا: أثر قدميه في المقام آية بينة. وفسر مجاهد مقام إبراهيم بالحرم كله، فذهب إلى أن من آياته الصفا والمروة والركن والمقام. والباقون بالجمع. أرادوا مقام إبراهيم والحجر الأسود والحطيم وزمزم والمشاعر كلها. قال: أبو جعر النحاس: من قرأ" آياتٌ بَيِّناتٌ" فقراءته أبين، لان الصفا والمروة من الآيات، ومنها أن الطائر لا يعلو البيت صحيحا، ومنها أن الجارح «2» يطلب الصيد فإذا دخل الحرم تركه، ومنها أن الغيث إذا كان ناحية الركن اليماني كان الخصب باليمن، وإذا كان بناحية الشامي كان الخصب بالشام، وإذ عم البيت كان الخصب في جميع البلدان، ومنها أن الجمار على ما يزاد عليها ترى «3» على قدر واحد. والمقام من قولهم: قمت مقاما، وهو الموضع الذي يقام فيه. والمقام من قولك: أقمت مقاما. وقد مضى هذا في البقرة «4»، ومضى الخلاف أيضا في المقام والصحيح منه. وارتفع المقام على الابتداء والخبر محذوف، والتقدير منها مقام إبراهيم، قاله الأخفش. وحكى عن محمد بن يزيد أنه قال:" مَقامُ" بدل من" آياتٌ". وفية قول ثالث بمعنى هي مقام إبراهيم. وقول الأخفش معروف في كلام العرب. كما قال زهير:
__________
(1). راجع ج 7 ص 400.
(2). في د: أن الحاج يتبع، والصواب ما أثبتناه من ز، وب.
(3). في ز: على ما يراد منها ترمى.
(4). راجع ج 2 ص 112.

لها متاع وأعوان غدون به ... قتب «1» وغرب إذا ما أفرغ انسحقا
أي مضى وبعد سيلانه. وقول أبي العباس: إن مقاما بمعنى مقامات، لأنه مصدر. قال الله تعالى:" خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ" [البقرة: 7] «2». وقال الشاعر:
إن العيون التي في طرفها مرض «3»

أي في أطرافها. ويقوي هذا الحديث المروي (الحج [كله ] «4» مقام إبراهيم). الخامسة- قوله تعالى: (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) قال قتادة: ذلك أيضا من آيات الحرم. قال النحاس: وهو قول حسن، لان الناس كانوا يتخطفون من حواليه، ولا يصل إليه جبار، وقد وصل إلى بيت المقدس وخرب، ولم يوصل إلى الحرم. قال الله تعالى:" أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ" [الفيل: 1] «5». وقال بعض أهل المعاني: صورة الآية خبر ومعناها أمر، تقديرها ومن دخله فأمنوه، كقوله:" فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ" [البقرة: 197] «6» أي لا ترفثوا ولا تفسقوا ولا تجادلوا. ولهذا المعنى قال الامام السابق النعمان بن ثابت: من اقترف ذنبا واستوجب به حدا ثم لجأ إلى الحرم عصمه، [لقوله تعالى: [" وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً"، فأوجب الله سبحانه الأمن لمن دخله. وروي ذلك عن جماعة من السلف منهم ابن عباس وغيره من الناس. قال ابن العربي:" وكل من قال هذا فقد وهم من جهتين: إحداهما أنه لم يفهم من الآية أنها خبر عما مضى، ولم يقصد بها إثبات حكم مستقبل، الثاني أنه لم يعلم أن ذلك الأمن قد ذهب وأن القتل والقتال قد وقع بعد ذلك فيها، وخبر الله لا يقع بخلاف مخبره، فدل ذلك على أنه كان في الماضي هذا. وقد ناقض أبو حنيفة فقال، إذا لجأ إلى الحرم لا يطعم ولا يسقى ولا يعامل ولا يكلم حتى يخرج، فاضطراره «7» إلى الخروج ليس يصح معه أمن. وروي عنه أنه قال: يقع القصاص في الاطراف في الحرم ولا أمن أيضا مع هذا".
__________
(1). قوله: لها متاع، أي لهذه الناقة التي يستقى عليها. والقتب (بالكسر): جميع أداة السانية من أعلاقها وحبالها. والسانية: ما يسقى عليه الزرع والحيوان من بعير وغيره. والغرب: الدلو العظيمة.
(2). راجع ج 1 ص 185. [.....]
(3). البيت لجرير، والذي في الديوان: في طرفها حور.
(4). في دوز وهـ. هذا من قول سعيد ابن جبير كما في تفسير ابن كثير وفية توجيه ج 3 ص 191.
(5). ج 20 ص 187.
(6). ج 2 ص 407.
(7). في دوز: فاضطره، وفى الأصول الأخرى: فاضطروه، والتصحيح من ابن العربي.

والجمهور من العلماء على أن الحدود تقام في الحرم، وقد أمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقتل ابن خطل «1» وهو متعلق بأستار الكعبة قلت: وروى الثوري عن منصور عن مجاهد عن ابن عباس: من أصاب حدا [في الحرم ] «2» أقيم عليه فيه، وإن أصابه في الحل ولجا إلى الحرم لم يكلم ولم يبايع حتى يخرج من الحرم فيقام عليه الحد، وهو قول الشعبي. فهذه حجة الكوفيين، وقد فهم ابن عباس ذلك من معنى الآية، وهو حبر الامة وعالمها. والصحيح أنه قصد بذلك تعديد النعم على كل من كان بها جاهلا ولها منكرا من العرب، كما قال تعالى:" أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ" [العنكبوت: 67] «3» فكانوا في الجاهلية من دخله ولجا إليه أمن من الغارة والقتل، على ما يأتي بيانه في" المائدة"»
إن شاء الله تعالى. قال قتادة: ومن دخله في الجاهلية كان آمنا. وهذا حسن. وروي أن بعض الملحدة قال لبعض العلماء: أليس في القرآن" وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً" فقد دخلناه وفعلنا كذا وكذا فلم يأمن من كان فيه! قال له: الست من العرب! ما الذي يريد القائل من دخل داري كان «5» آمنا؟ أليس أن يقول لمن أطاعه: كف عنه فقد أمنته وكففت عنه؟ قال: بلى. قال: فكذلك قوله" وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً". وقال يحيى بن جعدة: معنى" وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً" يعني من النار. قلت: وهذا ليس على عمومه، لان في صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري حديث الشفاعة الطويل (فو الذي نفسي بيده ما منكم من أحد بأشد مناشدة لله في استقصاء الحق من المؤمنين لله يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار يقولون ربنا كانوا يصومون معنا ويصلون ويحجون فيقال لهم أخرجوا من عرفتم) الحديث. وإنما يكون آمنا من النار من دخله لقضاء النسك معظما له عارفا بحقه متقربا إلى الله تعالى. قال جعفر الصادق: من دخله على الصفاء
__________
(1). ابن خطل (بالتحريك) هو عبد الله بن خطل. رجل من بنى تيم بن غالب، وإنما أمر بقتله لأنه كان مسلما فبعثه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مصدقا وبعث معه رجلا من الأنصار وكان معه مولى يخدمه مسلما فنزل منزلا وأمر المولى أن يذبح له تيسا فيصنع له طعاما فنام، فاستيقظ ولم يصنع له شيئا فعدا عليه فقتله ثم ارتد. راجع الطبري وابن هشام.
(2). من دوز.
(3). راجع ج 13 ص 363.
(4). راجع ج 6 ص 325.
(5). في د: فهو آمن.

كما دخله الأنبياء والأولياء كان آمنا من عذابه. وهذا معنى قوله عليه السلام: (من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة). قال الحسن: الحج المبرور هو أن يرجع زاهدا في الدنيا راغبا في الآخرة. وأنشد:
يا كعبة الله دعوة اللاجي ... دعوة مستشعر ومحتاج
ودّع أحبابه ومسكنه ... فجاء ما بين خائف راجي «1»
إن يقبل الله سعيه كرما ... نجا، وإلا فليس بالناجي
وأنت ممن ترجى شفاعته ... فاعطف على وافد بن حجاج
وقيل: المعنى ومن دخله عام عمرة القضاء مع محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان آمنا. دليله قوله تعالى:" لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ" [الفتح: 27] «2». وقد قيل: إن" مَنْ" ها هنا لمن لا يعقل، والآية في أمان الصيد، وهو شاذ، وفي التنزيل:" فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ" [النور: 45] «3» الآية. قوله تعالى: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) فيه تسع مسائل: الاولى- قوله تعالى: (وَلِلَّهِ) اللام في قوله" وَلِلَّهِ" لام الإيجاب والإلزام، ثم أكده بقوله تعالى: (عَلَى) التي هي من أوكد ألفاظ الوجوب عند العرب، فإذا قال العربي: لفلان على كذا، فقد وكده وأوجبه. فذكر الله تعالى الحج [بأبلغ ] «4» ألفاظ الوجوب تأكيدا لحقه وتعظيما لحرمته. ولا خلاف في فريضته «5»، وهو أحد قواعد الإسلام، وليس يجب إلا مرة في العمر. وقال بعض الناس: يجب في كل خمسة أعوام [مرة] «6»، ورووا في ذلك حديثا أسندوه إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والحديث باطل لا يصح، والإجماع صاد في وجوههم. قلت: وذكر عبد الرزاق قال: حدثنا سفيان [الثوري ] «7» عن العلاء بن المسيب عن أبيه عن أبي سعيد الخدري أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:" يقول الرب عز وجل إن عبدا أوسعت عليه في الرزق فلم يعد إلي في كل أربعة أعوام لمحروم) مشهور من حديث العلاء بن المسيب بن رافع الكاهلي الكوفي من أولاد المحدثين، روى عنه غير واحد، منهم من قال: في كل خمسة أعوام،
__________
(1). في د: ما بين خائفة والراجي.
(2). راجع ج 16 ص 289.
(3). راجع ج 12 ص 291.
(4). في د وب وز وه. وفي أ: بأوك. [.....]
(5). في د وب: فرضيته.
(6). في ب ود.
(7). في د.

ومنهم من قال: عن العلاء عن يونس بن خباب «1» عن أبي سعيد، في غير ذلك من الاختلاف. وأنكرت الملحدة الحج، فقالت: إن فيه تجريد الثياب وذلك يخالف الحياء، والسعي وهو يناقض الوقار، ورمي الجمار لغير مرمى وذلك يضاد العقل، فصاروا إلى أن هذه الافعال كلها باطلة، إذ لم يعرفوا لها حكمة ولا علة، وجهلوا أنه ليس من شرط المولى مع العبد، أن يفهم المقصود بجميع ما يأمره به، ولا أن يطلع على فائدة تكليفه، وإنما يتعين عليه الامتثال، ويلزمه الانقياد من غير طلب فائدة ولا سؤال عن مقصود. ولهذا المعنى كان عليه السلام يقول في تلبيته: (لبيك حقا حقا تعبدا ورقا لبيك إله الحق). وروى الأئمة عن أبي هريرة قال: خطبنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: (أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا). فقال رجل: كل عام يا رسول الله؟ فسكت، حتى قالها ثلاثا، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم) ثم قال: ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شي فدعوه) لفظ مسلم. فبين هذا الحديث أن الخطاب إذا توجه على المكلفين بفرض أنه يكفي منه فعل مرة ولا يقتضي التكرار، خلافا للأستاذ أبي إسحاق الاسفراييني وغيره. وثبت أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال له أصحابه: يا رسول الله، أحجنا لعامنا هذا أم للأبد؟ فقال: (لا بل للأبد). وهذا نص في الرد على من قال: يجب في كل خمس سنين مرة. وقد كان الحج معلوما عند العرب مشهورا لديهم، وكان مما يرغب فيه لاسواقها وتبررها «2» وتحنفها، فلما جاء الإسلام خوطبوا بما علموا وألزموا بما عرفوا. وقد حج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل حج الفرض، وقد وقف بعرفة ولم يغير من شرع إبراهيم ما غيروا، حين كانت قريش تقف بالمشعر الحرام ويقولون: نحن أهل الحرم فلا نخرج منه، ونحن الحمس «3». حسب ما تقدم بيانه في" البقرة" «4». قلت: من أغرب ما رأيته أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حج قبل الهجرة مرتين وأن الفرض سقط عنه بذلك، لأنه قد أجاب نداء إبراهيم حين قيل له:" وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ"
__________
(1). في أ: ابن حبان، والتصويب من دو ز وب.
(2). التبرر: الطاعة، وفى أ: نجيعها: طلب الكلا. في د: تحنفها.
(3). الحمس جمع الأحمس، وهم قريش ومن ولدت قريش وكنانة وجديلة قيس، سموا حمسا لأنهم تحمّسوا في دينهم، أي تشددوا.
(4). راجع ج 2 ص 345.

[الحج: 27] «1». قال الكيا الطبري: وهذا بعيد، فإنه إذا ورد في شرعه:" وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ" فلا بد من وجوبه عليه بحكم الخطاب في شرعه. ولين قيل: إنما خاطب من لم يحج، كان تحكما وتخصيصا لا دليل عليه، ويلزم عليه ألا يجب بهذا الخطاب على من حج على دين إبراهيم، وهذا في غاية البعد. الثانية- ودل الكتاب والسنة على أن الحج على التراخي لا على الفور، وهو تحصيل مذهب مالك فيما ذكر ابن خويز منداد، وهو قول الشافعي ومحمد بن الحسن وأبي يوسف في رواية عنه. وذهب بعض البغداديين من المتأخرين من المالكيين إلى أنه على الفور، ولا يجوز تأخيره مع القدرة عليه، وهو قول داود. والصحيح الأول، لان الله تعالى قال في سورة الحج:" وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا" [الحج: 27] وسورة الحج مكية «2». وقال تعالى:" وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ" الآية. وهذه السورة نزلت عام أحد بالمدينة سنة ثلاث من الهجرة ولم يحج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى سنة عشر. أما السنة فحديث ضمام بن ثعلبة السعدي من بني سعد بن بكر قدم على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسأله عن الإسلام فذكر الشهادة والصلاة والزكاة والصيام والحج. رواه ابن عباس وأبو هريرة وأنس، وفيها كلها ذكر الحج، وأنه كان مفروضا، وحديث أنس أحسنها سياقا وأتمها. واختلف في وقت قدومه، فقيل: سنة خمس. وقيل: سنة سبع. وقيل: سنة تسع، ذكره ابن هشام عن أبي عبيدة الواقدي عام الخندق بعد انصراف الأحزاب. قال ابن عبد البر: ومن الدليل على أن الحج على التراخي إجماع العلماء على ترك تفسيق القادر على الحج إذا أخره العام والعامين ونحوهما، وأنه إذا حج من بعد أعوام من حين استطاعته فقد أدى الحج الواجب عليه في وقته، وليس هو عند الجميع كمن فاتته الصلاة حتى خرج وقتها فقضاها بعد خروج وقتها، ولا كمن فاته صيام رمضان لمرض أو سفر فقضاه. ولا كمن أفسد حجه فقضاه، فلما أجمعوا على أنه لا يقال لمن حج بعد أعوام من وقت استطاعته: أنت قاض لما وجب عليك، علمنا أن وقت الحج موسع فيه وأنه على التراخي لا على الفور. قال أبو عمر: كل من قال بالتراخي لا يحد في ذلك حدا، إلا ما روي عن سحنون وقد سئل عن الرجل
__________
(1). راجع ج 12 ص 37.
(2). والصحيح أن سورة الحج مدنية بدليل آية الجهاد، سيأتي في ج 12 من هذا التفسير.

يجد ما يحج به فيؤخر ذلك إلى سنين كثيرة مع قدرته على ذلك هل يفسق بتأخيره الحج وترد شهادته؟ قال: لا وإن مضى من عمره ستون سنة، فإذا زاد على الستين فسق وردت شهادته. وهذا توقيف وحد، والحدود في الشرع لا تؤخذ إلا عمن له أن يشرع. قلت: وحكاه ابن خويز منداد عن ابن القاسم. قال ابن القاسم وغيره: إن أخره ستين سنة لم يخرج «1»، وإن أخره بعد الستين حرج، لان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين وقل من يتجاوزها) فكأنه في هذا العشر قد يتضايق عليه الخطاب. قال أبو عمر: وقد احتج بعض الناس [كسحنون ] «2» بقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (معترك أمتي بين الستين إلى السبعين وقل من يجاوز ذلك). ولا حجة فيه، لأنه كلام خرج على الأغلب من أعمار أمته لو صح الحديث. وفية دليل على التوسعة إلى السبعين لأنه من الأغلب أيضا، ولا ينبغي أن يقطع بتفسيق من صحت عدالته وأمانته بمثل هذا من التأويل الضعيف. وبالله التوفيق. الثالثة- أجمع العلماء على أن الخطاب بقوله تعالى: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) عام في جميعهم مسترسل على جملتهم. قال ابن العربي:" وإن كان الناس قد اختلفوا في مطلق العمومات بيد أنهم اتفقوا على حمل هذه الآية على جميع الناس ذكرهم وأنثاهم، خلا الصغير فإنه خارج بالإجماع عن أصول التكليف، وكذلك العبد لم يدخل فيه، لأنه أخرجه عن مطلق العموم قوله تعالى [في «3» التمام ]:" مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا" والعبد غير مستطيع، لان السيد يمنعه لحقوقه عن هذه العبادة. وقد قدم الله سبحانه حق السيد على حقه رفقا بالعباد ومصلحة لهم. ولا خلاف فيه بين الامة ولا بين الأئمة، فلا نهرف «4» بما لا نعرف، ولا دليل عليه إلا الإجماع. قال ابن المنذر: أجمع عامة أهل العلم إلا من شذ منهم ممن لا يعد خلافا، على أن الصبي إذا حج في حال صغره، والعبد إذا حج في حال رقه، ثم بلغ الصبي وعتق العبد إن عليهما حجة الإسلام إذا وجدا إليها سبيلا. وقال أبو عمر: خالف داود جماعة فقهاء الأمصار وأئمة الأثر في المملوك وأنه عنده مخاطب بالحج، وهو عند جمهور العلماء خارج من الخطاب العام في قوله تعالى:
__________
(1). حرج (من باب علم): أثم.
(2). في دوب.
(3). في دوب.
(4). الهرف: شبه الهذيان من الإعجاب بالشيء. في دوب: لا يهرف، بالبناء للمجهول.

" وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا" بدليل عدم التصرف، وأنه ليس له أن يحج بغير إذن سيده، كما خرج من خطاب الجمعة وهو قوله تعالى:" يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ" [الجمعة: 9] «1» الآية- عند عامة العلماء إلا من شذ. وكما خرج من خطاب إيجاب الشهادة، قال الله تعالى:" وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا" [البقرة: 282] «2» فلم يدخل في ذلك العبد. وكما جاز خروج الصبي من قوله:" وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ" وهو من الناس بدليل رفع القلم عنه. وخرجت المرأة من قوله:" يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ" وهي ممن شمله اسم الايمان، وكذلك خروج العبد من الخطاب المذكور. وهو قول فقهاء الحجاز والعراق والشام والمغرب، ومثلهم لا يجوز عليهم تحريف تأويل الكتاب. فإن قيل: إذا كان حاضر المسجد الحرام وأذن له سيده فلم لا يلزمه الحج؟ قيل له: هذا سؤال على الإجماع وربما لا يعلل ذلك، ولكن إذا ثبت هذا الحكم على الإجماع استدللنا به على أنه لا يعتد بحجه في حال الرق عن حجة الإسلام، وقد روي عن ابن عباس عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: (أيما صبي حج ثم أدرك فعليه أن يحج حجة أخرى وأيما أعرابي حج ثم هاجر فعليه أن يحج حجة أخرى وأيما عبد حج ثم أعتق فعليه أن يحج حجة أخرى (. قال ابن العربي." وقد تساهل بعض علمائنا فقال: إنما لم يثبت الحج على العبد وإن أذن له السيد لأنه كان كافرا في الأصل ولم يكن حج الكافر معتدا به، فلما ضرب عليه الرق ضربا مؤبدا لم يخاطب بالحج، وهذا فاسد من ثلاثة أوجه فأعلموه: أحدها- أن الكفار عندنا مخاطبون بفروع الشريعة، ولا خلاف فيه في قول مالك. الثاني: أن سائر العبادات تلزمه من صلاة وصوم مع كونه رقيقا، ولو فعلها في حال كفره لم يعتد بها، فوجب أن يكون الحج مثلها. الثالث- أن الكفر قد ارتفع بالإسلام فوجب ارتفاع حكمه. فتبين أن المعتمد ما ذكرناه من تقدم حقوق السيد (. والله الموفق. الرابعة- قوله تعالى:) مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا (" مَنْ" في موضع خفض على بدل البعض من الكل، هذا قول أكثر النحويين. وأجاز الكسائي أن يكون" من" في موضع رفع بحج، التقدير أن يحج البيت من. وقيل هي شرط. و" استطاع" في موضع جزم، والجواب
__________
(1). راجع ج 18 ص 97. [.....]
(2). راجع ج 3 ص 398.

محذوف، أي من استطاع إليه سبيلا فعليه الحج. روى الدارقطني عن ابن عباس قال: قيل يا رسول الله الحج كل عام؟ قال: (لا بل حجة)؟ قيل: فما السبيل، قال: (الزاد والراحلة). ورواه عن أنس وابن مسعود وابن عمر وجابر وعائشة وعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) قال فسئل عن ذلك فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أن تجد ظهر بعير). وأخرج حديث ابن عمر أيضا ابن ماجة في سننه، وأبو عيسى الترمذي في جامعه وقال:" حديث حسن، والعمل عليه عند أهل العلم أن الرجل إذا ملك زادا وراحلة وجب عليه الحج. وإبراهيم «1» بن يزيد هو الخوزي المكي، وقد تكلم فيه بعض أهل الحديث من قبل حفظه. وأخرجاه عن وكيع والدارقطني عن سفيان بن سعيد قالوا: حدثنا إبراهيم بن يزيد عن محمد بن عباد عن ابن عمر قال: قام رجل إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله، ما يوجب الحج؟. قال: (الزاد والراحلة) قال: يا رسول الله، فما الحاج؟ قال: (الشعث التفل) «2». وقام آخر فقال: يا رسول الله وما الحج؟ قال: (العج والثج). قال وكيع: يعني بالعج العجيج بالتلبية والثج نحر البدن، لفظ ابن ماجة. وممن قال إن الزاد والراحلة شرط في وجوب الحج: عمر بن الخطاب وابنه عبد الله وعبد الله بن عباس والحسن البصري وسعيد بن جبير وعطاء ومجاهد. وإليه ذهب الشافعي والثوري وأبو حنيفة وأصحابه وأحمد وإسحاق وعبد العزيز بن أبي سلمة وابن حبيب، وذكر عبدوس «3» مثله عن سحنون. قال الشافعي: الاستطاعة وجهان: أحدهما: أن يكون مستطيعا ببدنه واجدا من ماله ما يبلغه الحج. والثاني: أن يكون معضوبا «4» في بدنه لا يثبت على مركبه وهو قادر على من يطيعه إذا أمره أن يحج عنه بأجرة وبغير أجرة، على ما يأتي بيانه. أما المستطيع ببدنه فإنه يلزمه فرض الحج بالكتاب بقوله عز وجل:" مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا". وأما المستطيع بالمال فقد لزمه فرض الحج بالسنة بحديث الخثعمية على ما يأتي. وأما المستطيع بنفسه وهو القوي الذي لا تلحقه مشقة غير محتملة
__________
(1). هو أحد رجال سند حديث ابن عمر.
(2). الشعث: متلبد الشعر. والتفل: الذي قد ترك استعمال الطيب.
(3). في ب:" ابن عبدوس".
(4). المعضوب: الزمن الذي لا حراك به.

في الركوب على الراحلة، فإن هذا إذا ملك الزاد والراحلة لزمه فرض الحج بنفسه، وإن عدم الزاد والراحلة أو أحدهما سقط عنه فرض الحج، فإن كان قادرا على المشي مطيقا له ووجد الزاد أو قدر على كسب الزاد في طريقه بصنعة مثل الخرز والحجامة أو نحوهما فالمستحب له أن يحج ماشيا رجلا كان أو امرأة. قال الشافعي: والرجل أقل عذرا من المرأة لأنه أقوى. وهذا عندهم على طريق الاستحباب لا على طريق الإيجاب، فأما إن قدر على الزاد بمسألة الناس في الطريق كرهت له أن يحج لأنه يصير كلا على الناس. وقال مالك بن أنس رحمه الله: إذا قدر على المشي ووجد الزاد فعليه فرض الحج، وإن لم يجد الراحلة وقدر على المشي نظر، فإن كان مالكا للزاد وجب عليه فرض الحج، وإن لم يكن مالكا للزاد ولكنه يقدر على كسب حاجته منه في الطريق نظر أيضا، فإن كان من أهل المروءات ممن لا يكتسب بنفسه لا يجب عليه، وإن كان ممن يكتسب كفايته بتجارة أو صناعة لزمه فرض الحج، وهكذا إن كانت عادته مسألة الناس لزمه فرض الحج. وكذلك أوجب مالك على المطيق المشي الحج، وإن لم يكن معه زاد وراحلة. وهو قول عبد الله بن الزبير والشعبي وعكرمة. وقال الضحاك: إن كان شابا قويا صحيحا ليس له مال فعليه أن يؤجر نفسه بأكله أو عقبه «1» حتى يقضي حجه. فقال له مقاتل: كلف الله الناس أن يمشوا إلى البيت؟ فقال: لو أن لأحدهم ميراثا بمكة أكان تاركه؟! بل ينطلق إليه ولو حبوا، كذلك يجب عليه الحج. واحتج هؤلاء بقوله عز وجل:" وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا" «2» أي مشاة. قالوا: ولان الحج من عبادات الأبدان من فرائض الأعيان، فوجب ألا يكون الزاد من شروط وجوبها ولا الراحلة كالصلاة والصيام. قالوا: ولو صح حديث الخوزي الزاد والراحلة لحملناه على عموم الناس والغالب منهم في الأقطار البعيدة. وخروج مطلق الكلام على غالب الأحوال كثير في الشريعة وفي كلام العرب وأشعارها. وقد روى ابن وهب وابن القاسم وأشهب عن مالك أنه سئل عن هذه الآية فقال: الناس في ذلك
__________
(1). كذا في جميع الأصل ولعل المراد الولد ينتفع بأجر عمله. فليتأمل. وفى البحر لابي حبان:" ... بأكله حتى ...".
(2). راجع ج 12 ص 37.

على قدر طاقتهم ويسرهم وجلدهم. قال أشهب لمالك: أهو الزاد والراحلة؟. قال: لا والله، ما ذاك إلا على قدر طاقة الناس، وقد يجد الزاد والراحلة ولا يقدر على السير، وآخر يقدر أن يمشي على رجليه. إذا وجدت الاستطاعة وتوجه فرض الحج يعرض ما يمنع منه كالغريم يمنعه عن الخروج حتى يؤدى الدين، ولا خلاف في ذلك. أو يكون له عيال يجب عليه نفقتهم فلا يلزمه الحج حتى يكون لهم نفقتهم مدة غيبته لذهابه ورجوعه، لان هذا الإنفاق فرض على الفور، والحج فرض على التراخي، فكان تقديم العيال أولى. وقد قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت). وكذلك الأبوان يخاف الضيعة عليهما وعدم العوض في التلطف بهما، فلا سبيل له إلى الحج، فإن منعاه لأجل الشوق والوحشة فلا يلتفت إليه. والمرأة يمنعها زوجها، وقيل لا يمنعها. والصحيح المنع، لا سيما إذا قلنا إن الحج لا يلزم على الفور. والبحر لا يمنع الوجوب إذا كان غالبه السلامة- كما تقدم بيانه في البقرة «1»- ويعلم من نفسه أنه لا يميد «2». فإن كان الغالب عليه العطب أو الميد حتى يعطل الصلاة فلا. وإن كان لا يجد موضعا لسجوده لكثرة الراكب وضيق المكان فقد قال مالك: إذا لم يستطع الركوع والسجود إلا على ظهر أخيه فلا يركبه. ثم قال: أيركب حيث لا يصلي! ويل لمن ترك الصلاة! ويسقط الحج إذا كان في الطريق عدو يطلب الأنفس أو يطلب من الأموال ما لم يتحدد بحد مخصوص أو يتحدد بقدر مجحف. وفي سقوطه بغير المجحف خلاف. وقال الشافعي: لا يعطى حبة ويسقط فرض الحج. ويجب على المتسول إذا كانت تلك عادته وغلب على ظنه أنه يجد من يعطيه. وقيل لا يجب، على ما تقدم من مراعاة الاستطاعة. إذا زالت الموانع ولم يكن عنده من الناض «3» ما يحج به وعنده عروض فيلزمه أن يبيع من عروضه للحج ما يباع عليه في الدين. وسيل ابن القاسم عن الرجل تكون له القربة
__________
(1). راجع ج 2 ص 195.
(2). المائد: الذي يركب البحر فتعثي نفسه من نتن ماء البحر حتى يدار به ويكاد يغشى عليه.
(3). الناض: الدراهم والدنانير.

ليس له غيرها، أيبيعها في حجة الإسلام ويترك ولده ولا شي لهم يعيشون به؟. قال: نعم، ذلك عليه ويترك ولده في الصدقة. والصحيح القول الأول، لقوله عليه السلام: (كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت) وهو قول الشافعي. والظاهر من مذهبه أنه لا يلزم الحج إلا من له ما يكفيه من النفقة ذاهبا وراجعا- قال في الاملاء- وإن لم يكن له أهل وعيال. وقال بعضهم: لا يعتبر الرجوع لأنه ليس عليه كبير مشقة في تركه القيام ببلده، لأنه لا أهل له فيه ولا عيال وكل البلاد له وطن. والأول أصوب، لان الإنسان يستوحش لفراق وطنه كما يستوحش لفراق سكنه. ألا ترى أن البكر إذا زنا جلد وغرب عن بلده سواء كان له أهل أو لم يكن. قال الشافعي في الام: إذا كان له مسكن وخادم وله نفقة أهله بقدر غيبته يلزمه الحج. وظاهر هذا أنه اعتبر أن يكون مال الحج فاضلا عن الخادم والمسكن، لأنه قدمه على نفقة أهله، فكأنه قال بعد هذا كله. وقال أصحابه: يلزمه أن يبيع المسكن والخادم ويكتري مسكنا وخادما لأهله، فإن كان له بضاعة يتجر بها وربحها قدر كفايته وكفاية عياله على الدوام، ومتى أنفق من أصل البضاعة اختل عليه ربحها ولم يكن فيه قدر كفايته، فهل يلزمه الحج من أصل البضاعة أم لا؟ قولان: الأول للجمهور وهو الصحيح المشهور، لأنه لا خلاف في أنه لو كان له عقار تكفيه غلته لزمه أن يبيع أصل العقار في الحج، فكذلك البضاعة. وقال ابن شريح: لا يلزمه ذلك ويبقي البضاعة ولا يحج من أصلها، لان الحج إنما يجب عليه في الفاضل من كفايته. فهذا الكلام في الاستطاعة بالبدن والمال. السابعة- المريض والمعضوب، والعضب القطع، ومنه سمي السيف عضبا، وكان من انتهى إلى ألا يقدر أن يستمسك على الراحلة ولا يثبت عليها بمنزلة من قطعت أعضاؤه، إذ لا يقدر على شي. وقد اختلف العلماء في حكمهما بعد إجماعهم أنه لا يلزمهما المسير إلى الحج، لان الحج إنما فرضه على المستطيع إجماعا، والمريض والمعضوب لا استطاعة لهما. فقال مالك: إذا كان معضوبا سقط عنه فرض الحج أصلا، سواء كان قادرا على من يحج عنه بالمال أو بغير المال لا يلزمه فرض الحج. ولو وجب عليه الحج ثم عضب وزمن سقط عنه فرض الحج،

ولا يجوز أن يحج عنه في حال حياته بحال، بل إن أوصى أن يحج عنه بعد موته حج عنه من الثلث، وكان تطوعا، واحتج بقوله تعالى:" وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى " [النجم: 39] «1» فأخبر أنه ليس له إلا ما سعى. فمن قال: إنه له سعي غيره فقد خالف ظاهر الآية. وبقوله تعالى:" وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ" وهذا غير مستطيع، لان الحج هو قصد المكلف البيت بنفسه ولأنها عبادة لا تدخلها النيابة مع العجز عنها كالصلاة. وروى محمد بن المنكدر عن جابر قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إن الله عز وجل ليدخل بالحجة الواحدة ثلاثة الجنة الميت والحاج عنه والمنفذ ذلك). خرجه الطبراني أبو القاسم سليمان بن أحمد قال حدثنا عمرو «2» بن حصين السدوسي قال حدثنا أبو معشر عن محمد بن المنكدر، فذكره. قلت: أبو معشر اسمه نجيح وهو ضعيف عندهم. وقال الشافعي: في المريض الزمن والمعضوب والشيخ الكبير يكون قادرا على من يطيعه إذا أمره بالحج عنه فهو مستطيع استطاعة ما. وهو على وجهين: أحدهما أن يكون قادرا على مال يستأجر به من يحج عنه فإنه يلزمه فرض الحج، وهذا قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه، روي عنه أنه قال لشيخ كبير لم يحج: جهز رجلا يحج عنك. وإلى هذا ذهب الثوري وأبو حنيفة وأصحابه وابن المبارك وأحمد وإسحاق. والثاني أن يكون قادرا على من يبذل له الطاعة والنيابة فيحج عنه، فهذا أيضا يلزمه الحج [عنه ]»
عند الشافعي وأحمد وابن راهويه، وقال أبو حنيفة: لا يلزم الحج ببذل الطاعة بحال. استدل الشافعي بما رواه ابن عباس أن امرأة من خثعم سألت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالت: يا رسول الله، إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يثبت على الراحلة، أفأحج عنه قال: (نعم). وذلك في حجة الوداع. في رواية: لا يستطيع أن
يستوي على ظهر بعيره. فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فحجي عنه أرأيت لو كان على أبيك دين أكنت قاضيته (؟ قالت: نعم. قال:) فدين الله أحق أن يقضى (. فأوجب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الحج بطاعة ابنته إياه وبذلها من نفسها له بأن تحج عنه، فإذا وجب ذلك
__________
(1). راجع ج 17 ص 114.
(2). في ب: عمر بن حفص.
(3). في د.

بطاعة البنت له كان بأن يجب عليه بقدرته على المال الذي يستأجر به أولى. فأما إن بذل له المال دون الطاعة فالصحيح أنه لا يلزمه قبوله والحج به عن نفسه ولا يصير ببذل المال له مستطيعا. وقال علماؤنا: حديث الخثعمية ليس مقصوده الإيجاب وإنما مقصوده الحث على بر الوالدين والنظر في مصالحهما دنيا؟ ودينا وجلب المنفعة إليهما جبلة وشرعا، فلما رأى من المرأة انفعالا وطواعية ظاهرة ورغبة صادقة في برها بأبيها وحرصا على إيصال الخير والثواب إليه، وتأسفت أن تفوته بركة الحج أجابها إلى ذلك. كما قال للأخرى التي قالت: إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت أفأحج عنها؟ قال: (حجي عنها أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته)؟ قالت: نعم. ففي هذا ما يدل على أنه من باب التطوعات وإيصال البر والخيرات للأموات، ألا ترى أنه قد شبه فعل الحج بالدين. وبالإجماع لو مات ميت وعليه دين لم يجب على وليه قضاؤه من ماله، فإن تطوع بذلك تأدى الدين عنه. ومن الدليل على أن الحج في هذا الحديث ليس بفرض على أبيها ما صرحت به هذه المرأة بقولها" لا يستطيع" ومن لا يستطيع لا يجب عليه. وهذا تصريح بنفي الوجوب ومنع الفريضة، فلا يجوز ما انتفى في أول الحديث قطعا أن يثبت في آخره ظنا، يحققه قوله: (فدين الله أحق أن يقضى) فإنه ليس على ظاهره إجماعا، فإن دين العبد أولى بالقضاء، وبه يبدأ إجماعا لفقر الأدمي واستغناء الله تعالى، قاله ابن العربي. وذكر أبو عمر بن عبد البر أن حديث الخثعمية عند مالك وأصحابه مخصوص بها. وقال آخرون: فيه اضطراب. وقال ابن وهب وأبو مصعب: هو في حق الولد خاصة. وقال ابن حبيب: جاءت الرخصة في الحج عن الكبير الذي لا منهض له ولم يحج وعمن مات ولم يحج، أن يحج عنه ولده وإن لم يوص به ويجزئه إن شاء الله تعالى. فهذا الكلام على المعضوب وشبهه. وحديث الخثعمية أخرجه الأئمة، وهو يرد على الحسن قوله: إنه لا يجوز حج المرأة عن الرجل. الثامنة وأجمع العلماء على أنه إذا لم يكن للمكلف قوت يتزوده في الطريق لم يلزمه الحج. وإن وهب له أجنبي مالا يحج به لم يلزمه قبوله إجماعا، لما يلحقه من المنة في ذلك. فلو كان رجل وهب لأبيه مالا فقد قال الشافعي: يلزمه قبوله، لان ابن الرجل من كسبه ولا منة عليه

في ذلك. وقال مالك وأبو حنيفة: لا يلزمه قبوله، لان فيه سقوط حرمة الأبوة، إذ يقال: قد جزاه وقد وفاه. والله أعلم. التاسعة- قوله تعالى: (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) قال ابن عباس وغيره: المعنى ومن كفر بفرض الحج ولم يره واجبا. وقال الحسن البصري وغيره: إن من ترك الحج وهو قادر عليه فهو كافر. وروى الترمذي عن الحارث عن علي قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (من ملك زادا وراحلة تبلغه إلى بيت الله ولم يحج فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا وذلك أن الله يقول في كتابه ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا (. قال أبو عيسى:) هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وفي إسناده مقال، وهلال بن عبد الله مجهول، والحارث يضعف (. وروي نحوه عن أبي أمامة وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما. وعن عبد خير بن يزيد «1» عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال في خطبته:) يا أيها الناس إن الله فرض عليكم الحج على من استطاع إليه سبيلا ومن لم يفعل فليمت على أي حال شاء إن شاء يهوديا أو نصرانيا أو مجوسيا إلا أن يكون به عذر من مرض أو سلطان جائر ألا نصيب له في شفاعتي ولا ورود حوضي (. وقال ابن عباس قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:) من كان عنده مال يبلغه الحج فلم يحج أو عنده مال تحل فيه الزكاة فلم يزكه سأل عند الموت الرجعة (. فقيل يا ابن عباس إنا كنا نرى هذا للكافرين. فقال: أنا أقرأ عليكم به قرآنا:" يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ. وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ" [المنافقون
: 10- 9] «2». قال الحسن بن صالح في تفسيره: فأزكي وأحج. وعن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن رجلا سأله عن الآية فقال: (من حج لا يرجو ثوابا أو جلس لا يخاف عقابا فقد كفر به). وروى قتادة عن الحسن قال قال عمر رضي الله عنه: لقد هممت أن أبعث رجالا إلى الأمصار فينظرون إلى من كان له مال ولم يحج فيضربون عليه الجزية، فذلك قوله تعالى:" وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ".
__________
(1). كذا في ب وج ود. وهو الخيواني الهمداني، وفي ح وا وز، عبد الله بن جبير ولا يصح لان عبد خير هو الذي يروى عن على كما في ابن سعد ج 6 ص 154. [.....]
(2). راجع ج 18 ص 129.

قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99)

قلت: هذا خرج مخرج التغليظ، ولهذا قال علماؤنا: تضمنت الآية أن من مات ولم يحج وهو قادر فالوعيد يتوجه عليه، ولا يجزئ أن يحج عنه غيره، لان حج الغير لو أسقط عنه الفرض لسقط عنه الوعيد. والله أعلم. وقال سعيد بن جبير: لو مات جار لي وله ميسرة ولم يحج لم أصل عليه.

[سورة آل عمران (3): الآيات 98 الى 99]
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99)
قوله تعالى: (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) أي تصرفون عن دين الله (مَنْ آمَنَ). وقرا الحسن" تصدون" بضم التاء وكسر الصاد وهما لغتان: صد وأصد، مثل صل اللحم واصل إذا أنتن، وخم وأخم أيضا إذا تغير. (تَبْغُونَها عِوَجاً) تطلبون لها، فحذف اللام، مثل" وَإِذا كالُوهُمْ" [المطففين: 3] «1». يقال: بغيت له كذا أي طلبته. وأبغيته كذا أي أعنته. والعوج: الميل والزيغ (بكسر العين) في الدين والقول والعمل وما خرج عن طريق الاستواء. و(بالفتح) في الحائط والجدار وكل شخص قائم، عن أبي عبيدة وغيره. ومعنى قوله تعالى:" يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ «2» لَهُ" [طه: 108] أي لا يقدرون أن يعوجوا عن «3» دعائه. وعاج بالمكان وعوج أقام ووقف. والعائج الواقف، قال الشاعر:
هل أنتم عائجون بنا لعنا «4» ... نرى العرصات «5» أو أثر الخيام
والرجل الأعوج: السيئ الخلق، وهو بن العوج. والعوج من الخيل التي في أرجلها تحنيب «6». والأعوجية من الخيل تنسب إلى فرس كان في الجاهلية سابقا. ويقال: فرس محنب إذا كان بعيد ما بين الرجلين بغير فحج، وهو مدح. ويقال: الحنب اعوجاج في الساقين. قال الخليل التحنيب يوصف في الشدة، وليس ذلك باعوجاج.
__________
(1). راج ج 19 ص 248.
(2). راجع ج 11 ص 246.
(3). في ح وا: لا يقدرون بألا يعوجوا عن مكانه.
(4). لعنا: لغة في لعل.
(5). العرصة: كل بقعة بين الدرر ليس فيها بناء. وعرصة الدار: وسطها.
(6). التحنيف: احد يدأب في وظيفى الفرس أيضا.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100)

قوله تعالى: (وَأَنْتُمْ شُهَداءُ) أي عقلاء. وقيل: شهداء أن في التوراة مكتوبا أن دين الله الذي لا يقبل غيره الإسلام، إذ فيه «1» نعت محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

[سورة آل عمران (3): آية 100]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ (100)
نزلت في يهودي أراد تجديد الفتنة بين الأوس والخزرج بعد انقطاعها بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فجلس بينهم وأنشدهم شعرا قاله أحد الحيين في حربهم. فقال الحي الآخر: قد قال شاعرنا في يوم كذا وكذا، فكأنهم دخلهم من ذلك شي، فقالوا: تعالوا نرد الحرب جذعاء كما كانت. فنادى هؤلاء: يا آل أوس. ونادى هؤلاء. يا آل خزرج، فاجتمعوا وأخذوا السلاح واصطفوا للقتال فنزلت هذه الآية، فجاء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى وقف بين الصفين فقرأها ورفع صوته، فلما سمعوا صوته انصتوا له وجعلوا يستمعون، فلما فرغ ألقوا السلاح وعانق بعضهم بعضا وجعلوا يبكون، عن عكرمة وابن زيد وابن عباس. والذي فعل ذلك شاس بن قيس اليهودي، دس على الأوس والخزرج من يذكرهم ما كان بينهم من الحروب، وأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أتاهم وذكرهم، فعرف القوم أنها نزعة من الشيطان، وكيد من عدوهم، فألقوا السلاح من أيديهم وبكوا وعانق بعضهم بعضا، ثم انصرفوا مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سامعين مطيعين، فأنزل الله عز وجل (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)
يعنى الأوس والخزرج. (إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) يعنى شاسا وأصحابه. (يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ) قال جابر بن عبد الله: ما كان طالع أكره إلينا من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأومأ إلينا بيده فكففنا وأصلح الله تعالى ما بيننا، فما كان شخص أحب إلينا من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فما رأيت يوما أقبح ولا أوحش أولا وأحسن آخرا من ذلك اليوم.

[سورة آل عمران (3): آية 101]
وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (101)
__________
(1). في د وب: وأن فيه.

قاله تعالى على جهة التعجب «1»، أي (وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ) يعني القرآن. (وَفِيكُمْ رَسُولُهُ) محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال ابن عباس: كان بين الأوس والخزرج قتال وشر في الجاهلية، فذكروا ما كان بينهم فثار بعضهم على بعض بالسيوف، فأتى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فذكر ذلك له فذهب إليهم، فنزلت هذه الآية" وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ- إلى قوله تعالى: فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها" ويدخل في هذه الآية من لم ير النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لان ما فيهم من سنته يقوم مقام رؤيته. قال الزجاج: يجوز أن يكون هذا الخطاب لأصحاب محمد خاصة، لان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان فيهم وهم يشاهدونه. ويجوز أن يكون هذا الخطاب لجميع الامة، لان آثاره وعلاماته والقرآن الذي أوتى فينا مكان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فينا وإن لم نشاهده. وقال قتادة: في هذه الآية علمان ببنان؟: كتاب الله ونبي الله، فأما نبي الله فقد مضى، وأما كتاب الله فقد أبقاه بين أظهرهم رحمة منه ونعمة، فيه حلاله وحرامه، وطاعته ومعصيته. (وَكَيْفَ) في موضع نصب، وفتحت الفاء عند الخليل وسيبويه لالتقاء الساكنين، واختير لها الفتح لان ما قبل الفاء ياء فثقل أن يجمعوا بين ياء وكسرة. قوله تعالى: (وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ) أي يمتنع ويتمسك بدينه وطاعته. (فَقَدْ هُدِيَ) وفق وأرشد (إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ). ابن جريج" يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ" يؤمن به. وقيل: المعنى ومن يعتصم بالله أي يتمسك بحبل الله، وهو القرآن. يقال: اعصم به واعتصم، وتمسك واستمسك إذا امتنع به من غيره. واعتصمت فلانا هيأت له ما يعتصم به. وكل متمسك بشيء معصم ومعتصم. وكل مانع شيئا فهو عاصم، قال الفرزدق:
أنا ابن العاصمين بني تميم ... إذا ما أعظم الحدثان نابا
قال النابغة:
يظل من خوفه الملاح معتصما ... بالخيزرانة بعد الأين والنجد «2»
__________
(1). كذا في ب وز وح. أي التعجب والإنكار كما في الكشاف.
(2). الخيزرانة: السكان، وهو ذنب السفينة. والابن: الفترة والإعياء، والنجد (بالتحريك): العرق من عمل أو كرب أو غيره.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)

وقال آخر «1»:
فأشرط فيها نفسه وهو معصم ... وألقى بأسباب له وتوكلا
وعصمه الطعام: منع الجوع منه، تقول العرب: عص [- م فلانا] «2» الطعام أي منعه من الجوع، فكنوا السويق بأبي عاصم لذلك. قال أحمد بن يحيى: العرب تسمي الخبز عاصما وجابرا، وأنشد:
فلا تلوميني ولومي جابرا ... فجابر كلفني الهواجرا
ويسمونه عامرا. وأنشد:
أبو مالك يعتادني بالظهائر ... يجيء فيلقى رحله عند عامر
أبو مالك كنية الجوع.

[سورة آل عمران (3): آية 102]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)
فيه مسألة واحدة: روى البخاري «3» عن مرة عن عبد الله قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (حق تقاته أن يطاع فلا يعصى وأن يذكر فلا ينسى وأن يشكر فلا يكفر. وقال ابن عباس: هو ألا يعصى طرفة عين. وذكر المفسرون أنه لما نزلت هذه الآية قالوا: يا رسول الله، من يقوى على هذا؟ وشق عليهم فأنزل الله عز وجل:" فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ" [التغابن: 16] «4» فنسخت هذه الآية، عن قتادة والربيع وابن زيد. قال مقاتل: وليس في آل عمران من المنسوخ شي إلا هذه الآية. وقيل: إن قوله" فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ" بيان لهذه الآية. والمعنى: فاتقوا الله حق تقاته ما استطعتم، وهذا أصوب «5»، لان النسخ إنما يكون عند عدم الجمع والجمع ممكن فهو أولى. وقد روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: قول الله عز وجل" يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ" لم تنسخ، ولكن" حَقَّ تُقاتِهِ" أن يجاهد في [سبيل ] «6»
الله حق
__________
(1). هو أوس بن حجر. وفى الديوان: فأشرط فيه رأسه ... وألقى بأسبات ...
(2). من د. وفى ج: عصمه.
(3). في ز، وح: النحاس، عن مرة عن يحيى عن عبد الله.
(4). راجع ج 18 ص 144. [.....]
(5). في ز: هذا ضرب أصوب.
(6). في د.

وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)

جهاده، ولا تأخذكم في الله لومة لائم، وتقوموا بالقسط ولو على أنفسكم وأبنائكم. قال «1» النحاس: وكلما ذكر في الآية واجب على المسلمين أن يستعملوه ولا يقع فيه نسخ. وقد مضى في البقرة معنى قوله تعالى: (وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ «2».

[سورة آل عمران (3): آية 103]
وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)
فيه مسألتان: الاولى- قوله تعالى: (وَاعْتَصِمُوا) العصمة المنعة، ومنه يقال للبدرقة: عصمة. والبذرقة: الخفارة للقافلة، وذلك بأن يرسل معها من يحميها ممن يؤذيها. قال ابن خالويه: البدرقة ليست بعربية وإنما هي كلمة فارسية عربتها العرب، يقال: بعث السلطان بذرقه مع القافلة. والحبل لفظ مشترك، وأصله في اللغة السبب الذي يوصل به إلى البغية والحاجة. والحبل: حبل العاتق «3». والحبل: مستطيل من الرمل، ومنه الحديث «4»: والله ما تركت من حبل إلا وقفت عليه، فهل لي من حج، والحبل الرسن. والحبل العهد، قال الأعشى:
وإذا تجوزها حبال قبيلة ... أخذت من الأخرى إليك حبالها
يريد الأمان. والحبل الداهية، قال كثير «5»:
فلا تعجلي يا عز أن تتفهمي ... بنصح أتى الواشون أم بحبول
__________
(1). في د: قاله.
(2). راجع ج 2 ص 134.
(3). حبل العاتق وصل ما بين العاتق والمنكب.
(4). حديث عروة بن مضرص: أتيتك من جبلي طئ.
(5). في الأصول:" لبيد". والتصويد عن اللسان وشرح القاموس مادة" حبل".

والحبالة «1»: حبالة الصائد. وكلها ليس مرادا في الآية إلا الذي بمعنى العهد، عن ابن عباس. وقال ابن مسعود: حبل الله القرآن. ورواه علي وأبو سعيد الخدري عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعن مجاهد وقتادة مثل ذلك. وأبو معاوية عن الهجري «2» عن أبي الأحوص عن عبد الله قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إن هذا القرآن هو حبل الله). وروى تقي بن مخلد حدثنا يحيى بن عبد الحميد حدثنا هشيم عن العوام بن حوشب عن الشعبي عن عبد الله بن مسعود" وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا" قال: الجماعة، روي عنه و[عن غيره ] «3» من وجوه، والمعنى كله متقارب متداخل، فإن «4» الله تعالى يأمر بالألفة وينهى عن الفرقة فإن الفرقة هلكة والجماعة نجاة. ورحم الله ابن المبارك حيث قال:
إن الجماعة حبل الله فاعتصموا ... منه بعروته الوثقى لمن دانا
الثانية- قوله تعالى:" (وَلا تَفَرَّقُوا)" [يعني في دينكم ] «5» كما افترقت اليهود والنصارى في أديانهم، عن ابن مسعود وغيره. ويجوز أن يكون معناه ولا تفرقوا متابعين للهوى والأغراض المختلفة، وكونوا في دين الله إخوانا، فيكون ذلك منعا لهم عن التقاطع والتدابر، ودل عليه ما بعده وهو قوله تعالى:" وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً". وليس فيه دليل على تحريم الاختلاف في الفروع، فإن ذلك ليس اختلافا إذ الاختلاف ما يتعذر معه الائتلاف والجمع، وأما حكم مسائل الاجتهاد فإن الاختلاف فيها بسبب «6» استخراج الفرائض ودقائق معاني الشرع، وما زالت الصحابة يختلفون في أحكام الحوادث، وهم مع ذلك متآلفون «7». وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (اختلاف أمتي رحمة) وإنما منع الله اختلافا هو سبب الفساد. روى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (تفرقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة أو اثنتين وسبعين فرقة والنصارى مثل ذلك وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة (. قال الترمذي: هذا حديث صحيح. وأخرجه أيضا عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه سلم:) ليأتين على أمتي ما أتى
__________
(1). في ج: حبال، والتصويب من د، واللسان وغيره.
(2). الهجري: بهاء وجيم مفتوحتين، نسبة إلى هجر. وهو إبراهيم بن مسلم العبدي. (عن تهذيب التهذيب).
(3). الزيادة في ب.
(4). ود: فإن كتاب الله.
(5). الزيادة في د.
(6). في د: سبب لاستخراج.
(7). في د: متواصلون. [.....]

على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل حتى لو كان منهم من يأتي أمه علانية لكان من أمتي من يصنع ذلك وإن بني إسرائيل تفرقت اثنتين وسبعين ملة وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة كلهم في النار إلا ملة واحدة) قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: (ما أنا عليه وأصحابي). أخرجه من حديث عبد الله بن زياد الإفريقي، عن عبد الله بن يزيد عن ابن عمر، وقال: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. قال أبو عمر: وعبد الله الإفريقي ثقة وثقه قومه وأثنوا عليه، وضعفه آخرون. وأخرجه أبو داود في سننه من حديث معاوية بن أبي سفيان عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (قال ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على اثنتين وسبعين ملة وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة وهي الجماعة وإنه سيخرج من أمتي أقوام تجارى بهم تلك الاهواء كما يتجارى الكلب «1» بصاحبه لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله (. وفي سنن ابن ماجة عن أنس ابن مالك قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:) من فارق الدنيا على الإخلاص لله وحده وعبادته لا شريك له وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة مات والله عنه راض (. قال أنس: وهو دين الله الذي جاءت به الرسل وبلغوه عن ربهم قبل هرج الأحاديث واختلاف الاهواء، وتصديق ذلك في كتاب الله في آخر ما نزل، يقول الله:" فَإِنْ تابُوا" [التوبة: 11] قال: خلعوا الأوثان وعبادتها" وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ" «2»، وقال في آية أخرى:" فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ"»
. أخرجه عن نصر بن علي الجهضمي عن أبي أحمد عن أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أنس. قال أبو الفرج الجوزي: فإن قيل هذه الفرق معروفة، فالجواب أنا نعرف الافتراق وأصول الفرق وأن كل طائفة من الفرق انقسمت إلى فرق، وإن لم نحط بأسماء تلك الفرق ومذاهبها، فقد ظهر لنا من أصول الفرق الحرورية والقدرية والجهمية والمرجئة والرافضة والجبرية. وقال بعض أهل العلم: أصل الفرق الضالة هذه الفرق الست، وقد انقسمت كل فرقة منها اثنتي عشرة فرقة، فصارت اثنتين وسبعين فرقة.
__________
(1). الكلب (بالتحريك): داء يعرض للإنسان من عض الكلب الكلب فيصبه شبه الجنون، فلا يعض أحدا إلا كلب، وتعرض له أعراض رديئة، ويمتنع من شرب الماء حتى يموت عطشاء.
(2). راجع ج 8 ص 74 وص 80.
(3). راجع ج 8 ص 74 وص 80.

انقسمت الحرورية اثنتي عشرة «1» فرقة، فأولهم الازرقية- قالوا: لا نعلم أحدا مؤمنا، وكفروا أهل القبلة إلا من دان بقولهم. والإباضية- قالوا: من أخذ بقولنا فهو مؤمن، ومن أعرض عنه فهو منافق «2». والثعلبية- قالوا: إن الله عز وجل لم يقض ولم يقدر. والخازمية- قالوا: لا ندري ما الايمان، والخلق كلهم معذورون. والخلفية- زعموا أن من ترك الجهاد من ذكر أو أنثى كفر. والكوزية «3»- قالوا: ليس لاحد أن يمس أحدا، لأنه لا يعرف الطاهر من النجس ولا أن يؤاكله حتى يتوب ويغتسل. والكنزية- قالوا: لا يسع أحدا أن يعطي ماله أحدا، لأنه ربما لم يكن مستحقا بل يكنزه في الأرض حتى يظهر أهل الحق. والشمراخية- قالوا: لا بأس بمس النساء الأجانب لأنهن «4» رياحين. والاخنسية- قالوا: لا يلحق الميت بعد موته خير ولا شر. والحكمية- قالوا: من حاكم إلى مخلوق فهو كافر. والمعتزلة «5»- قالوا: اشتبه علينا أمر علي ومعاوية فنحن نتبرأ من الفريقين. والميمونية- قالوا: لا إمام إلا برضا أهل محبتنا. وانقسمت القدرية اثنتي عشرة فرقة: الاحمرية- وهي التي زعمت أن في شرط العدل من الله أن يملك عباده أمورهم، ويحول بينهم وبين معاصيهم. والثنوية- وهي التي زعمت أن الخير من الله والشر من الشيطان. والمعتزلة «6»- وهم الذين قالوا بخلق القرآن وجحدوا [صفات ] «7» الربوبية. والكيسانية وهم الذين قالوا: لا ندري هذه الافعال من الله أو من العباد، ولا نعلم أثياب؟ الناس بعد أو يعاقبون. والشيطانية- قالوا: إن الله تعالى لم يخلق الشيطان. والشريكية- قالوا: إن السيئات كلها مقدرة إلا الكفر. والوهمية- قالوا: ليس لأفعال الخلق وكلامهم ذات، ولا للحسنة والسيئة ذات. والزبرية «8»- قالوا: كل كتاب نزل من عند الله فالعمل به حق، ناسخا كان أو منسوخا. والمسعدية «9»- زعموا
__________
(1). لم نعثر في المظان لذكر بعض من الفرق الأتية.
(2). الإباضية يقولون: من دان لله بما بلغ إليه من الإسلام وعم به، فهو ناج ما لم يهدم ركنا من الدين أو يرتطم في التخطئة، وليسوا حرورية.
(3). في ج وا:" الكروية" براء وواو وفى ز: الكدرية.
(4). في الأصول: لأنهم.
(5). كذا في الأصل في الأصول: كلها وليس في غير القدرية معتزلة.
(6). كذا في الأصل في الأصول: كلها وليس في غير القدرية معتزلة.
(7). الزيادة في: ز.
(8). في ب ودو و: الزبوندية.
(9). في د وب ور: المتبرئة.

أن من عصى ثم تاب لم تقبل توبته والناكثية- زعموا أن من نكث بيعة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلا إثم عليه والقاسطية- تبعوا إبراهيم بن النظام في قوله: من زعم أن الله شي فهو كافر «1». وانقسمت الجهمية اثنتي عشرة فرقة: المعطلة- زعموا أن كل ما يقع عليه وهم الإنسان فهو مخلوق. وإن من أدعى أن الله يرى فهو كافر. والمريسية قالوا: أكثر صفات الله تعالى مخلوقة. والملتزقة- جعلوا الباري سبحانه في كل مكان. والواردية- قالوا لا يدخل النار من عرف ربه، ومن دخلها لم يخرج منها أبدا والزنادقة «2»- قالوا: ليس لاحد أن يثبت لنفسه ربا، لان الإثبات لا يكون إلا بعد إدراك الحواس، وما لا يدرك لا يثبت. والحرقية- زعموا أن الكافر تحرقه النار مرة واحدة ثم يبقى محترقا أبدا لا يجد حر النار. والمخلوقية- زعموا أن القرآن مخلوق. والفانية- زعموا أن الجنة والنار يفنيان، ومنهم من قال لم يخلقا. والعبدية «3»- جحدوا الرسل وقالوا إنما هم حكماء. والواقفية- قالوا: لا نقول إن القرآن مخلوق ولا غير مخلوق. والقبرية- ينكرون عذاب القبر والشفاعة. واللفظية- قالوا لفظنا بالقرآن مخلوق. وانقسمت المرجئة اثنتي عشرة فرقة: التاركية- قالوا ليس لله عز وجل على خلقه فريضة سوى الايمان به، فمن آمن به فليفعل ما شاء. والسائبية- قالوا: إن الله تعالى سيب خلقه ليفعلوا ما شاءوا. والراجئة- قالوا: لا يسمى الطائع طائعا ولا العاصي عاصيا، لأنا لا ندري ما له عند الله تعالى. والسالبية «4»- قالوا: الطاعة ليست من الايمان. والبهيشية «5»- قالوا: الايمان علم ومن لا يعلم الحق من الباطل والحلال من الحرام فهو كافر. والعملية- قالوا: الايمان عمل. والمنقوصية- قالوا: الايمان لا يزيد ولا ينقص. والمستثنية- قالوا: الاستثناء من الايمان. والمشبهة- قالوا: بصر كبصر وئد كيد «6». والحشوية- قالوا «7»: حكم الأحاديث كلها واحد، فعندهم أن تارك النفل كتارك الفرض. والظاهرية- الذين نفوا القياس. والبدعية- أول من ابتدع هذه الأحداث في هذه الامة.
__________
(1). في أ: ليس بكافر.
(2). في ب، و، د:" الزيارتة". [.....]
(3). في ب، د، و:" العيرية".
(4). في د: الشاكية.
(5). في ب، و، ز" البيهسية" وفى د:" البيسمية؟".
(6). كذا في الأصول، وفية سقط واضح لعله: قالوا لله بصر.
(7). في ب: جعلوا.

وانقسمت الرافضة اثنتي عشرة فرقة: العلوية- قالوا: إن الرسالة كانت إلى علي وأن جبريل أخطأ. والأمرية- قالوا: إن عليا شريك محمد في أمره. والشيعة- قالوا: إن عليا رضي الله عنه وصي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ووليه من بعده، وإن الامة كفرت بمبايعة غيره. والإسحاقية- قالوا: إن النبوة متصلة إلى يوم القيامة، وكل من يعلم علم أهل البيت فهو نبي. والناووسية- قالوا: علي أفضل الامة، فمن فضل غيره عليه فقد كفر. والإمامية- قالوا: لا يمكن أن تكون الدنيا بغير إمام من ولد الحسين، وإن الامام يعلمه جبريل عليه السلام، فإذا مات بدل غيره مكانه. والزيدية- قالوا: ولد الحسين كلهم أئمة في الصلوات، فمتى وجد منهم أحد لم تجز الصلاة خلف غيرهم، برهم وفاجرهم. والعباسية- زعموا أن العباس كان أولى بالخلافة من غيره. والتناسخية- قالوا: الأرواح تتناسخ، فمن كان محسنا خرجت روحه فدخلت في خلق يسعد بعيشه. والرجعية- زعموا أن عليا وأصحابه يرجعون إلى الدنيا، وينتقمون من أعدائهم. واللاعنة «1»- يلعنون عثمان وطلحة والزبير ومعاوية وأبا موسى وعائشة وغيرهم والمتربصة- تشبهوا بزي النساك ونصبوا في كل عصر رجلا ينسبون إليه الامر، يزعمون أنه مهدي هذه الامة، فإذا مات نصبوا آخر. ثم انقسمت الجبرية اثنتي عشرة فرقة: فمنهم المضطرية «2»- قالوا: لا فعل للآدمي، بل الله يفعل الكل. والافعالية- قالوا: لنا أفعال ولكن لا استطاعة لنا فيها، وإنما نحن كالبهائم نقاد بالحبل. والمفروغية- قالوا: كل الأشياء قد خلقت، والآن لا يخلق شي. والنجارية- زعمت أن الله تعالى يعذب الناس على فعله لا على فعلهم. والمنانية- قالوا: عليك بما يخطر بقلبك، فافعل ما توسمت منه الخير. والكسبية- قالوا: لا يكتسب العبد ثوابا ولا عقابا. والسابقية- قالوا: من شاء فليعمل ومن شاء [ف]- لا يعمل «3»، فإن السعيد لا تضره ذنوبه والشقي لا ينفعه بره. والحبية- قالوا: من شرب كأس محبة الله تعالى سقطت عنه عبادة الأركان. والخوفية- قالوا: من أحب الله تعالى لم يسعه أن يخافه، لان الحبيب لا يخاف حبيبه. والفكرية «4»- قالوا: من أزداد علما أسقط عنه بقدر ذلك من العبادة.
__________ (1). في د: اللاعنية.
(2). كذا في، وفى الأصول الأخرى المضطربة.
(3). كذا في د، وفى غيرها من الأصول: من شاء فليفعل ومن شاء لم يفعل.
(4). في ب، هـ، د، و، وفي ز، ح، أ: الفكرية، وفى ج: النكرية. وفى د: أسقط. وفى سائر الأصول سقط.

والخشبية «1»- قالوا: الدنيا بين العباد سواء، لا تفاضل بينهم فيما ورثهم أبوهم آدم. والمنية «2»- قالوا: منا الفعل ولنا الاستطاعة. وسيأتي بيان الفرقة التي زادت في هذه الامة في آخر سورة" الانعام" «3» إن شاء الله تعالى. وقال ابن عباس لسماك الحنفي: يا حنفي، الجماعة الجماعة!! فإنما هلكت الأمم الخالية لتفرقها، أما سمعت الله عز وجل يقول:" وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إن الله يرضى لكم ثلاثا ويكره لكم ثلاثا يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا «4» ويكره لكم ثلاثا قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال (. فأوجب تعالى علينا التمسك بكتابه وسنة نبيه والرجوع إليهما عند الاختلاف، وأمرنا بالاجتماع على الاعتصام بالكتاب والسنة اعتقادا وعملا، وذلك سبب اتفاق الكلمة وانتظام الشتات الذي يتم به مصالح الدنيا والدين، والسلامة من الاختلاف، وأمر بالاجتماع ونهى عن الافتراق الذي حصل لأهل الكتابين. هذا معنى الآية على التمام، وفيها دليل على صحة الإجماع حسبما هو مذكور في موضعه من أصول الفقه والله أعلم. قوله تعالى: وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها (. أمر تعالى بتذكر نعمه وأعظمها الإسلام واتباع نبيه محمد عليه السلام، فإن به زالت العداوة والفرقة وكانت المحبة والألفة. والمراد الأوس والخزرج، والآية تعم. ومعنى" فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً" أي صرتم بنعمة الإسلام إخوانا في الدين. وكل ما في القرآن" فَأَصْبَحْتُمْ" معناه صرتم، كقوله تعالى:" إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً" [الملك: 30] «5» أي صار غائرا. والاخوان جمع أخ، وسمي أخا لأنه يتوخى مذهب أخيه، أي يقصده. وشفا كل شي حرفه، وكذلك شفيره ومنه قوله تعالى:" عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ" [التوبة: 109] «6». قال الراجز:
نحن حفرنا للحجيج سجله «7» ... نابتة فوق شفاها بقلة
__________
(1). في ج وز:" الحشية" بالحاء المهملة، وفى ب الخشبية. وفى ا:" الحيشية" بالياء المثناة من تحت والشين. وفى د: الحسبية.
(2). في ب وهـ ود وز:" المعبة" بالعين.
(3). راجع: ج 7 ص 141.
(4). سقط من النسخ:" وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم".
(5). راجع ج 18 ص 222. [.....]
(6). راجع ج 8 ص 264.
(7). السجلة: الدلو الضخمة المملوءة ماء. والمراد هنا البئر. (.)

وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)

وأشفى على الشيء أشرف عليه، ومنه أشفى المريض على الموت. وما بقي منه إلا شفا أي قليل قال ابن السكيت: يقال للرجل عند موته وللقمر عند إمحاقه وللشمس عند غروبها: ما بقي منه إلا شفا أي قليل. قال العجاج:
ومربإ عال لمن تشرفا ... أشرفته بلا شفى أو بشفى
قوله" بلا شفى" أي غابت الشمس." أو بشفى" وقد بقيت منها بقية. وهو من ذوات الياء، وفية لغة أنه من الواو. وقال النحاس: الأصل في شفا شفو، ولهذا يكتب بالألف ولا يمال. وقال الأخفش: لما لم تجز فيه الإمالة عرف أنه من الواو، ولان الإمالة بين الياء، وتثنيته شفوان. قال المهدوي: وهذا تمثيل يراد به خروجهم من الكفر إلى الايمان.

[سورة آل عمران (3): آية 104]
وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)
قد مضى القول في الامر بالمعروف والنهي عن المنكر في هذه السورة «1». و" من" في قوله" مِنْكُمْ" للتبعيض، ومعناه أن الأمرين يجب أن يكونوا علماء وليس كل الناس علماء. وقيل: لبيان الجنس، والمعنى لتكونوا كلكم كذلك. قلت: القول الأول أصح، فإنه يدل على أن الامر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض على الكفاية، وقد عينهم الله تعالى بقوله:" الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ" [الحج: 41] «2» الآية. وليس كل الناس مكنوا. وقرأ ابن الزبير:" ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويستعينون الله على ما أصابهم" قال أبو بكر الأنباري: وهذه الزيادة تفسير من ابن الزبير، وكلام من كلامه غلط فيه بعض الناقلين «3» فألحقه بألفاظ القرآن، يدل على صحة ما أصف الحديث الذي حدثنيه أبي حدثنا [حسن ] «4» بن عرفة حدثنا وكيع عن أبي عاصم عن أبي عون»
عن صبيح قال: سمعت عثمان بن عفان يقرأ" ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويستعينون الله على ما أصابهم" فما يشك عاقل في أن عثمان لا يعتقد «6»
__________
(1). راجع ص 46.
(2). راجع ج 12 ص 72.
(3). في هـ: الغافلين.
(4). في ب، د، هـ وفيها: أبي عوف.
(5). في ب، د، هـ وفيها: أبي عوف.
(6). في ب، د، هـ: لا يعتد.

وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107)

هذه الزيادة من القرآن، إذ لم يكتبها في مصحفه الذي هو إمام المسلمين، وإنما ذكرها واعظا بها ومؤكدا ما تقدمها من كلام رب العالمين جل وعلا.

[سورة آل عمران (3): آية 105]
وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (105)
يعني اليهود والنصارى في قول جمهور المفسرين. وقال بعضهم: هم المبتدعة من هذه الامة. وقال أبو أمامة: هم الحرورية، وتلا الآية. وقال جابر بن عبد الله: (" كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ" اليهود والنصارى." جاءهم" مذكر على الجمع، وجاءتهم على الجماعة.

[سورة آل عمران (3): الآيات 106 الى 107]
يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (107)
فيه ثلاث مسائل: الاولى- قوله تعالى: (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) يعني يوم القيامة حين يبعثون من قبورهم تكون وجوه المؤمنين مبيضة ووجوه الكافرين مسودة. ويقال: إن ذلك عند قراءة الكتاب، إذ قرأ المؤمن كتابه فرأى في كتابه حسناته استبشر وأبيض وجهه، وإذا قرأ الكافر والمنافق كتابه فرأى فيه سيئاته اسود وجهه. ويقال: إن ذلك عند الميزان إذا رجحت حسناته أبيض وجهه، وإذا رجحت سيئاته اسود وجهه. ويقال: ذلك عند قوله تعالى:" وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ" [يس: 59] «1». ويقال: إذا كان يوم القيامة يؤمر كل فريق بأن يجتمع إلى معبوده، فإذا انتهوا إليه حزنوا واسودت وجوههم، فيبقى المؤمنون وأهل الكتاب والمنافقون، فيقول الله تعالى للمؤمنين:" من ربكم"؟ فيقولون: ربنا الله عز وجل فيقول لهم:" أتعرفونه إذا رأيتموه". فيقولون: سبحانه! إذا اعترف عرفناه «2». فيرونه كما شاء الله.
__________
(1). راجع ج 15 ص 46.
(2). هذه عبارة ابن الأثير، أي إذا وصف نفسه بصفة تحققه بها عرفناه في ب: إذا عرفناه، وفى هـ: إذا عرفناه. وفى د: إذا رأيناه عرفناه.

فيخر المؤمنون سجدا لله تعالى، فتصير وجوههم مثل الثلج بياضا، ويبقى المنافقون وأهل الكتاب لا يقدرون على السجود فيحزنوا وتسود وجوههم، وذلك قوله تعالى:" يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ". ويجوز" تبيض وتسود" بكسر التائين، لأنك تقول: ابيضت، فتكسر التاء كما تكسر الالف، وهي لغة تميم وبها قرأ يحيى بن وثاب. وقرا الزهري" يوم تبياض وتسواد" ويجوز كسر التاء أيضا، ويجوز" يوم يبيض وجوه" بالياء على تذكير الجمع، ويجوز" أجوه" مثل" أقتت". وابيضاض الوجوه إشراقها بالنعيم. واسودادها هو ما يرهقها من العذاب الأليم. واختلفوا في التعيين، فقال ابن عباس: تبيض وجوه أهل السنة وتسود وجوه أهل البدعة. قلت: وقول ابن عباس هذا رواه مالك بن سليمان الهروي أخو غسان عن مالك بن أنس عن نافع عن ابن عمر قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قول الله تعالى" يوم تبيض وجوه وتسود وجوه" قال: (يعني تبيض وجوه أهل السنة وتسود وجوه أهل البدعة) ذكره أبو بكر «1» أحمد بن علي بن ثابت الخطيب. وقال فيه: منكر من حديث مالك. قال عطاء: تبيض وجوه المهاجرين والأنصار، وتسود وجوه بني قريظة والنضير. وقال أبي بن كعب: الذين اسودت وجوههم هم الكفار، وقيل لهم: أكفرتم بعد إيمانكم لاقراركم حين أخرجتم من ظهر آدم كالذر. هذا اختيار الطبري. الحسن: الآية في المنافقين. قتادة هي في المرتدين. عكرمة: هم «2» قوم من أهل الكتاب كانوا مصدقين بأنبيائهم مصدقين بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل أن يبعث فلما بعث عليه السلام كفروا به، فذلك قوله:" أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ" وهو اختيار الزجاج. مالك بن أنس: هي في أهل الاهواء. أبو أمامة الباهلي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هي في الحرورية. وفي خبر آخر أنه عليه السلام قال:" هي في القدرية". روى الترمذي عن أبي غالب قال: رأى أبو أمامة رءوسا منصوبة على باب دمشق «3»، فقال
__________
(1). كذا في دوب وهو في ز: أبو بكر محمد.
(2). في هـ ود: هؤلاء قوم.
(3). في صحيح الترمذي:" على درج مسجد دمشق"، في د وهـ: على برج دمشق.

أبو أمامة: كلاب النار شر قتلى تحت أديم السماء، خير قتلى من قتلوه- ثم قرأ-" يوم تبيض وجوه وتسود وجوه" إلى آخر الآية. قلت لابي أمامة: أنت سمعته من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: لو لم أسمعه من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا مرة أو مرتين أو ثلاثا- حتى عد سبعا- ما حدثتكموه. قال: هذا حديث حسن. وفي صحيح البخاري عن سهل بن سعد قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إني فرطكم «1» على الحوض من مر علي شرب ومن شرب لم يظمأ أبدا ليردن علي أقوام أعرفهم ويعرفوني ثم يحال بيني وبينهم (. قال أبو حازم «2»: فسمعني النعمان بن أبي عياش فقال: أهكذا سمعت من سهل بن سعد؟ فقلت نعم. فقال: أشهد على أبي سعيد الخدري لسمعته وهو يزيد فيها: (فأقول إنهم مني فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول سحقا سحقا لمن غير بعدي (. وعن أبي هريرة أنه كان يحدث أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:) يرد على الحوض يوم القيامة رهط من أصحابي فيجلون عن الحوض فأقول يا رب أصحابي فيقول إنك لا علم لك بما أحدثوا بعدك إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى (. والأحاديث في هذا المعنى كثيرة. فمن بدل أو غير أو ابتدع في دين الله مالا يرضاه الله ولم يأذن به الله فهو من المطرودين عن الحوض المبتعدين منه المسودي الوجوه، وأشدهم طردا وإبعادا من خالف جماعة المسلمين وفارق سبيلهم، كالخوارج على اختلاف فرقها، والروافض على تباين ضلالها، والمعتزلة على أصناف أهوائها، فهؤلاء كلهم مبدلون ومبتدعون، وكذلك الظلمة المسرفون في الجور والظلم وطمس الحق وقتل أهله وإذلالهم، والمعلنون بالكبائر المستخفون بالمعاصي، وجماعة أهل الزيغ والاهواء والبدع، كل يخاف، عليهم أن يكونوا عنوا بالآية، والحبر كما بينا، ولا يخلد في النار إلا كافر جاحد ليس في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان. وقد قال ابن القاسم: وقد يكون من غير أهل الاهواء من هو شر من أهل الاهواء. وكان يقول: تمام الإخلاص تجنب المعاصي.
__________
(1). الفرط (بفتحتين): الذي يتقدم الواردين ليصلح لهم الحياض. [.....]
(2). أبو حازم هو سلمة بن دينار، أحد رجال سند هذا الحديث.

تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ (108) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109)

الثالثة- قوله تعالى: (فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ) في الكلام حذف، أي فيقال لهم (أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ) يعني يوم الميثاق حين قالوا بلى. ويقال: هذا لليهود وكانوا مؤمنين بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل أن يبعث فلما بعث كفروا به. وقال أبو العالية: هذا للمنافقين، يقال «1»: أكفرتم في السر «2» بعد إقراركم في العلانية. وأجمع أهل العربية على أنه لا بد من الفاء في جواب" أما" لان المعنى في قولك:" أما زيد فمنطلق، مهما يكن من شي فزيد منطلق". وقوله تعالى: (وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ) هؤلاء أهل طاعة الله عز وجل والوفاء بعهده. (فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) أي في جنته ودار كرامته خالدون باقون. جعلنا الله منهم وجنبنا طرق البدع والضلالات، ووفقنا لطريق الذين آمنوا وعملوا الصالحات. آمين.

[سورة آل عمران (3): الآيات 108 الى 109]
تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ (108) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109)
قوله تعالى: (تِلْكَ آياتُ اللَّهِ) ابتداء وخبر، يعني القرآن. (نَتْلُوها عَلَيْكَ) يعني ننزل عليك جبريل فيقرؤها عليك. (بِالْحَقِّ) أي بالصدق. وقال الزجاج:" تِلْكَ آياتُ اللَّهِ" المذكورة حجج الله ودلائله. وقيل:" تِلْكَ" بمعنى هذه ولكنها لما انقضت صارت كأنها بعدت فقيل" تلك" ويجوز أن تكون" آياتُ اللَّهِ" بدلا من" تلك" ولا تكون نعتا، لان المبهم لا ينعت بالمضاف. (وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ) يعني أنه لا يعذبهم بغير ذنب. (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) قال المهدوي: وجه اتصال هذا بما قبله أنه لما ذكر أحوال المؤمنين والكافرين وأنه لا يريد ظلما للعالمين، وصله بذكر اتساع قدرته وغناه عن الظلم لكون ما في السموات وما في الأرض [في قبضته، وقيل: هو ابتداء كلام، بين لعباده أن جميع ما في السموات وما في الأرض ] «3» له حتى يسألوه ويعبدوه ولا يعبدوا غيره.
__________
(1). في د وب وهـ: يقول.
(2). في د وهـ وب: مع.
(3). الزيادة من نسخ: د.

كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110)

[سورة آل عمران (3): آية 110]
كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ (110)
فيه ثلاث مسائل: الاولى- روى الترمذي عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أنه سمع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول في قوله تعالى:" كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ" قال: (أنتم تتمون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها عند الله). وقال: هذا حديث حسن. وقال أبو هريرة: نحن خير الناس للناس نسوقهم بالسلاسل إلى الإسلام. وقال ابن عباس: هم الذين هاجروا من مكة إلى المدينة وشهدوا بدرا والحديبية. وقال عمر بن الخطاب: من فعل فعلهم كان مثلهم. وقيل: هم أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يعني الصالحين منهم وأهل الفضل. وهم الشهداء على الناس يوم القيامة، كما تقدم في البقرة «1». وقال مجاهد:" كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ" على الشرائط المذكورة في الآية. وقيل: معناه [كنتم ] «2» في اللوح المحفوظ. وقيل: كنتم مذ آمنتم خير أمة. وقيل: جاء ذلك لتقدم البشارة بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأمته. فالمعنى كنتم عند من تقدمكم من أهل الكتب خير أمة. وقال الأخفش: يريد أهل أمة، أي خير أهل دين، وأنشد:
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة ... وهل يأثمن ذو أمة وهو طائع «3»
وقيل: هي كان التامة، والمعنى خلقتم ووجدتم خير أمة." فخير أمة" حال. وقيل: كان زائدة، والمعنى أنتم خير أمة. وأنشد سيبويه:
وجيران لنا كانوا كرام «4»
__________
(1). راجع ج 2 ص 154.
(2). الزيادة في دوب.
(3). البيت النابغة الذبياني. أمة بالضم. والكسر: ذو أمة: ذو دين واستقامة، والامة: النعمة.
(4). هذا عجز بيت الفرزدق. وصدره:
فكيف إذا رأيت ديار قوم

ومثله قوله تعالى:" كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ «1» صَبِيًّا" [مريم: 29]. وقوله:" وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ" [الأعراف: 2 ( [86). وقال في موضع آخر:" وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ" «2». وروى سفيان عن ميسرة الأشجعي عن أبي حازم عن أبي هريرة" كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ" قال: تجرون الناس بالسلاسل إلى الإسلام. قال النحاس: والتقدير على هذا كنتم للناس خير أمة. وعلى قول مجاهد: كنتم خير أمة إذ كنتم تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر. وقيل: إنما صارت أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خير أمة لان المسلمين منهم أكثر، والامر بالمعروف والنهي عن المنكر فيهم أفشى. فقيل: هذا لأصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (خير الناس قرني) أي الذين بعثت فيهم. الثانية- وإذا ثبت بنص التنزيل أن هذه الامة خير الأمم، فقد روى الأئمة من حديث عمران بن حصين عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: (خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم). [الحديث ] «3» وهذا يدل على أن أول هذه الامة أفضل ممن بعدهم، وإلى هذا ذهب معظم العلماء، وأن من صحب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورآه ولو مرة في عمره أفضل ممن يأتي بعده، وأن فضيلة الصحبة لا يعدلها عمل. وذهب أبو عمر بن عبد البر إلى أنه قد يكون فيمن يأتي بعد الصحابة أفضل ممن كان في جملة الصحابة، وإن قول عليه السلام: (خير الناس قرني) ليس على عمومه بدليل ما يجمع القرن من الفاضل والمفضول. وقد جمع قرنه جماعة من المنافقين المظهرين للايمان وأهل الكبائر الذين أقام عليهم أو على بعضهم الخدود، وقال لهم: ما تقولون في السارق والشارب والزاني. وقال مواجهة لمن هو في قرنه: (لا تسبوا أصحابي). وقال لخالد ابن الوليد في عمار: (لا تسب من هو خير منك) وروى أبو أمامة أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (طوبى لمن رآني وآمن بي وطوبى سبع مرات لمن لم يرني وآمن بي). وفي مسند أبي داود الطيالسي عن محمد بن أبي حميد عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر. قال: كنت جالسا عند رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: (أتدرون أي الخلق أفضل إيمانا) قلنا
__________
(1). راجع ج 11 ص 101.
(2). راجع ج 2 ص 249، وص 394.
(3). الزيادة من هـ ود وب، في د وب: من كل من يأتي.

الملائكة. قال: (وحق لهم بل غيرهم) قلنا الأنبياء. قال: (وحق لهم بل غيرهم) ثم قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أفضل الخلق إيمانا قوم في أصلاب الرجال يؤمنون بي ولم يروني يجدون ورقا فيعملون بما فيها فهم أفضل الخلق إيمانا (. وروى صالح بن جبير عن أبي جمعة قال: قلنا يا رسول الله، هل أحد خير منا؟ قال:) نعم قوم يجيئون من بعدكم فيجدون كتابا بين لوحين فيؤمنون بما فيه ويؤمنون بي ولم يروني (. وقال أبو عمر: وأبو جمعة له صحبة واسمه حبيب بن سباع، وصالح بن جبير من ثقات التابعين. وروى أبو ثعلبة الخشني عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: (إن أمامكم أياما الصابر فيها على دينه كالقابض على الجمر للعامل فيها أجر خمسين رجلا يعمل مثله عمله) قيل: يا رسول الله، منهم؟ قال: (بل منكم). قال أبو عمر: وهذه اللفظة" بل منكم" قد سكت عنها بعض المحدثين فلم يذكرها. وقال عمر بن الخطاب في تأويل قوله:" كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ" قال: من فعل مثل فعلكم كان مثلكم. ولا تعارض بين الأحاديث، لان الأول على الخصوص، والله الموفق. وقد قيل في توجيه أحاديث هذا الباب: إن قرنه إنما فضل لأنهم كانوا غرباء في إيمانهم لكثرة الكفار وصبرهم على أذاهم وتمسكهم بدينهم، وإن أواخر هذه الامة إذا أقاموا الدين وتمسكوا به وصبروا على طاعة ربهم في حين ظهور الشر والفسق والهرج والمعاصي والكبائر كانوا عند ذلك أيضا غرباء، وزكت أعمالهم في ذلك الوقت كما زكت أعمال أوائلهم، [ومما] «1» يشهد لهذا قوله عليه السلام: (بدأ الإسلام غريبا وسيعود كما بدأ فطوبى للغرباء). ويشهد له أيضا حديث أبي ثعلبة، ويشهد له أيضا قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أمتي كالمطر لا يدري أوله خير أم آخره). ذكره أبو داود الطيالسي وأبو عيسى الترمذي، ورواه هشام بن عبيد الله الرازي عن مالك عن الزهري عن أنس قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مثل أمتي مثل المطر لا يدري أوله خير أم آخره). ذكره الدارقطني في مسند حديث مالك. قال أبو عمر: هشام بن عبيد الله ثقة لا يختلفون في ذلك. وروي أن عمر ابن عبد العزيز لما ولي الخلافة كتب إلى سالم بن عبد الله أن اكتب إلي بسيرة عمر بن الخطاب
__________
(1). في د وب وهـ.

لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (111)

لأعمل بها، فكتب إليه سالم: إن عملت بسيرة عمر، فأنت أفضل من عمر لان زمانك ليس كزمان عمر، ولا رجالك كرجال عمر. قال: وكتب إلى فقهاء زمانه، فكلهم كتب إليه بمثل قول سالم. وقد عارض بعض الجلة من العلماء قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (خير الناس قرني) بقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (خير الناس من طال عمره وحسن عمله وشر الناس من طال عمره وساء عمله). قال أبو عمر: فهذه الأحاديث تقتضي مع تواتر طرقها وحسنها التسوية بين أول هذه الامة وآخرها. والمعنى في ذلك ما تقدم ذكره من الايمان والعمل الصالح في الزمان الفاسد الذي يرفع فيه من أهل العلم والدين، ويكثر فيه الفسق والهرج، ويذل المؤمن ويعز الفاجر ويعود الدين غريبا كما بدا غريبا ويكون القائم فيه كالقابض على الجمر، فيستوي حينئذ أول هذه الامة بآخرها في فضل العمل إلا أهل بدر والحديبية، ومن تدبر آثار هذا الباب بأن له الصواب «1»، والله يؤتي فضله من يشاء. الثالثة- قوله تعالى: (تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) مدح لهذه الامة ما أقاموا ذلك واتصفوا به. فإذا تركوا التغيير وتواطئوا على المنكر زال عنهم اسم المدح ولحقهم اسم الذم، وكان ذلك سببا لهلاكهم. وقد تقدم الكلام في الامر بالمعروف والنهي عن المنكر في أول السورة «2». قوله تعالى: (وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) أخبر أن إيمان أهل الكتاب بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خير لهم، وأخبر أن منهم مؤمنا وفاسقا، وأن الفاسق أكثر.

[سورة آل عمران (3): آية 111]
لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (111)
قوله تعالى: (لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً) يعنى كذبهم وتحريفهم وبهتهم، لا أنه تكون لهم الغلبة، عن الحسن وقتادة. فالاستثناء متصل، والمعنى لن يضروكم إلا ضرا يسيرا، فوقع الأذى موقع المصدر. فالآية وعد من الله لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وللمؤمنين، إن أهل الكتاب لا يغلبونهم وأنهم منصورون عليهم لا ينالهم منهم اصطلام «3» إلا إيذاء بالبهت
__________
(1). في د وب: الكتاب.
(2). راجع ص 46 من هذا الجزء. [.....]
(3). الاصطلام: الاستئصال.

ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (112) لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115)

والتحريف، وأما العاقبة فتكون للمؤمنين. وقيل: هو منقطع، والمعنى لن يضروكم البتة، لكن يؤذونكم بما يسمعونكم. قال مقاتل: إن رءوس اليهود: كعب وعدي والنعمان وأبو رافع وأبو ياسر وكنانة وابن صوريا عمدوا إلى مؤمنيهم: عبد الله بن سلام وأصحابه فآذوهم لاسلامهم، فأنزل الله تعالى:" لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً" يعني باللسان، وتم الكلام. ثم قال: (وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ) يعني منهزمين، وتم الكلام." ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ" مستأنف، فلذلك ثبتت فيه النون. وفي هذه الآية معجزة للنبي عليه السلام، لان من قاتله من اليهود ولاه دبره.

[سورة آل عمران (3): الآيات 112 الى 115]
ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (112) لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115)
قوله تعالى: (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ) يعنى اليهود. (أَيْنَما ثُقِفُوا) أي وجدوا ولقوا، وتم الكلام. وقد مضى في البقرة معنى ضرب الذلة عليهم «1». (إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ) استثناء منقطع ليس من الأول. أي لكنهم يعتصمون بحبل من الله. (وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ) يعني الذمة التي لهم. والناس: محمد والمؤمنون يؤدون إليهم الخراج فيؤمنونهم. وفي الكلام
__________
(1). راجع ج 1 ص 43.

اختصار، والمعنى: إلا أن يعتصموا بحبل من الله، فحذف، قاله الفراء. (وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ) أي رجعوا. وقيل احتملوا. وأصله في اللغة أنه لزمهم، وقد مضى في البقرة «1»
. ثم أخبر لم فعل ذلك بهم. فقال: (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ) وقد مضى في البقرة مستوفى «2». ثم أخبر فقال: لَيْسُوا سَواءً) وتم الكلام. والمعنى: ليس أهل الكتاب وأمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سواء، عن ابن مسعود. وقيل: المعنى ليس المؤمنون والكافرون من أهل الكتاب سواء. وذكر أبو خيثمة زهير بن حرب حدثنا هاشم بن القاسم حدثنا شيبان عن عاصم عن زر عن ابن مسعود قال: أخر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [ليلة] «3» صلاة العشاء ثم خرج إلى المسجد فإذا الناس ينتظرون الصلاة فقال: (إنه ليس من أهل الأديان أحد يذكر الله تعالى في هذه الساعة غيركم) قال: وأنزلت هذه الآية" لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ- إلى قوله: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ" وروى ابن وهب مثله. وقال ابن عباس: قول الله عز وجل" مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ" من آمن مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقال ابن إسحاق عن ابن عباس لما أسلم عبد الله بن سلام، وثعلبة بن سعية «4»، وأسيد «5» بن سعية، وأسيد بن عبيد، ومن أسلم من يهود، فآمنوا وصدقوا ورغبوا في الإسلام ورسخوا «6» فيه، قالت أحبار يهود وأهل الكفر منهم: ما آمن بمحمد ولا تبعه إلا شرارنا، ولو كانوا من خيارنا ما تركوا دين آبائهم وذهبوا إلى غيره، فأنزل الله عز وجل في ذلك من قولهم:" لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ. إلى قوله:" وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ". وقال الأخفش: التقدير من أهل الكتاب ذو أمة، أي ذو طريقة حسنة. وأنشد:
وهل يأتمن ذو أمة وهو طائع
__________
(1). راجع ج 1 ص 150 وص 430.
(2). راجع ج 1 ص 431.
(3). الزيادة في د.
(4). سعية: بالسين والعين المهملتين وياء باثنتين.
(5). في الاستيعاب في ترجمة أسيد هذا:" رواء يونس ابن بكير عن ابن إسحاق (أسيد) بفتح الهمزة وكسر السين، وكذلك قال الواقدي. وفى رواية إبراهيم ابن سعد عن ابن إسحاق (أسيد) بالضم. والفتح عندهم أصح".
(6). في د وب: نتجوا فيه.

وقيل: في الكلام حذف، والتقدير من أهل الكتاب أمة قائمة وأخرى غير قائمة، فترك الأخرى اكتفاء بالأولى، كقول أبي ذؤيب:
عصاني «1» إليها القلب إني لأمره ... مطيع فما أدري أرشد طلابها
أراد: أرشد أم غي، فحذف. قال الفراء:" أُمَّةٌ"" رفع ب" سَواءً، والتقدير: ليس يستوي أمة من أهل الكتاب قائمة يتلون آيات الله وأمة كافرة. قال النحاس: هذا قول خطأ من جهات: إحداها أنه يرفع" أُمَّةٌ" ب" سَواءً" فلا يعود على اسم ليس بشيء، ويرفع بما ليس جاريا على الفعل ويضمر ما لا يحتاج إليه، لأنه قد تقدم ذكر الكافر فليس لإضمار هذا وجه. وقال أبو عبيدة: هذا مثل قولهم: أكلوني البراغيث، وذهبوا أصحابك. قال النحاس: وهذا غلط، لأنه قد تقدم ذكرهم، وأكلوني البراغيث لم يتقدم لهم ذكر. و(آناءَ اللَّيْلِ) ساعاته. واحدها إنى وأنى وإني، وهو منصوب على الظرف. و(يَسْجُدُونَ) يصلون، عن الفراء والزجاج، لان التلاوة لا تكون في الركوع والسجود. نظيره قوله:" وَلَهُ يَسْجُدُونَ" «2» أي يصلون. وفي الفرقان:" وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ" [الفرقان: 60] «3» وفي النجم" فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا" [النجم: 62] «4». وقيل: يراد به السجود المعروف خاصة. وسبب النزول يرده، وأن المراد صلاة العتمة كما ذكرنا عن ابن مسعود، فعبده الأوثان ناموا حيث جن عليهم الليل، والموحدون قيام بين يدي الله تعالى في صلاة العشاء يتلون آيات الله، ألا ترى لما ذكر قيامهم قال" وَهُمْ يَسْجُدُونَ" أي مع القيام أيضا. الثوري: هي الصلاة بين العشاءين. وقيل: هي في قيام الليل. وعن رجل من بني شيبة كان يدرس الكتب قال: إنا نجد كلاما من كلام الرب عز وجل: أيحسب راعي إبل أو راعي غنم إذا جنه الليل انخذل «5» كمن هو قائم وساجد أناء الليل. (يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) يعني يقرون بالله ويصدقون بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) قيل: هو عموم. وقيل: يراد به الامر بأتباع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) والنهي عن المنكر النهي عن مخالفته. (وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) التي يعملونها مبادرين غير متثاقلين
__________
(1). في الأصول: عصيت إليها القلب إنى لأمرها والتصويب عن ديوان أبى ذؤيب. يقول: عصاني القلب وذهب إليها فأنا اتبع ما يأمرني به.
(2). راجع ج 7 ص 356.
(3). راجع ج 13 ص 64.
(4). راجع ج 17 ص 121.
(5). انخذل: انفرد.

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (116)

لمعرفتهم بقدر ثوابهم. وقيل: يبادرون «1» بالعمل قبل الفوت. (وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ) أي مع الصالحين، وهم أصحاب محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الجنة. (وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ) قرأ الأعمش وابن وثاب وحمزة والكسائي وحفص وخلف بالياء فيهما، إخبارا عن الامة القائمة، وهي قراءة ابن عباس واختيار أبى عبيد. وقرا الباقون بالتاء فيهما على الخطاب، لقوله تعالى:" كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ" [آل عمران: 110]. وهي اختيار أبي حاتم، وكان أبو عمرو يرى القراءتين جميعا الياء والتاء. ومعنى الآية: وما تفعلوا من خير فإن تجحدوا ثوابه بل يشكر لكم وتجازون عليه.

[سورة آل عمران (3): آية 116]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (116)
قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) اسم إن، والخبر (لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً). قال مقاتل: لما ذكر تعالى مؤمني أهل الكتاب ذكر كفارهم وهو قوله:" إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا". وقال الكلبي: جعل هذا ابتداء فقال: إن الذين كفروا لن تغني عنهم كثرة أموالهم ولا كثرة أولادهم من عذاب الله شيئا. وخص الأولاد لأنهم أقرب أنسابهم إليهم. (وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ) ابتداء وخبر، وكذا و(هُمْ فِيها خالِدُونَ). وقد تقدم جميع هذا.

[سورة آل عمران (3): آية 117]
مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117)
قوله تعالى:َثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ)

" تصلح أن تكون مصدرية، وتصلح أن تكون بمعنى الذي والعائد محذوف، أي مثل ما ينفقونه. ومعنى"مَثَلِ رِيحٍ
" كمثل مهب «2» ريح. قال ابن عباس: والصر البرد الشديد. قيل: أصله من الصرير
__________
(1). في ب: مبادرين. [.....]
(2). في ب ود وهـ: مهلك ريح.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118)

الذي هو الصوت، فهو صوت الريح الشديدة. الزجاج: هو صوت لهب النار التي كانت في تلك الريح. وقد تقدم هذا المعنى في البقرة «1». وفي الحديث: إنه نهى عن الجراد الذي قتله الصر «2». ومعنى الآية: مثل نفقة الكافرين في بطلانها وذهابها وعدم منفعتها كمثل زرع أصابه ريح باردة أو نار فأحرقته وأهلكته، فلم ينتفع أصحابه بشيء بعد ما كانوا يرجون فائدته «3» ونفعه. قال الله تعالى:َ- ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ)
بذلكَ- لكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)
بالكفر والمعصية ومنع حق الله تعالى. وقيل: ظلموا أنفسهم بأن زرعوا في غير وقت الزراعة أو في غير موضعها فأدبهم الله تعالى، لوضعهم الشيء في غير موضعه، حكاه المهدوي.

[سورة آل عمران (3): آية 118]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118)
فيه ست مسائل: الاولى- أكد الله تعالى الزجر عن الركون إلى الكفار. وهو متصل بما سبق من قوله:" إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ" [آل عمران: 100]. والبطانة مصدر، يسمى به الواحد والجمع. وبطانة الرجل خاصته الذين يستبطنون أمره، وأصله من البطن الذي هو خلاف الظهر. وبطن فلان بفلان يبطن بطونا وبطانة إذا كان خاصا به. قال الشاعر:
أولئك خلصائي «4» نعم وبطانتي ... وهم عيبتي من دون كل قريب
الثانية- نهى الله عز وجل المؤمنين بهذه الآية أن يتخذوا من الكفار واليهود وأهل الاهواء دخلاء وولجاء، يفاوضونهم في الآراء، ويسندون إليهم أمورهم. ويقال: كل من كان على خلاف مذهبك ودينك فلا ينبغي لك أن تحادثه، قال الشاعر:
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه ... فكل «5» قرين بالمقارن يقتدي
__________
(1). راجع ج 3 ص 319.
(2). الصر في هذا الحديث: البرد.
(3). في ب وهـ ود: عائدته.
(4). ف هـ: خلصاني، عيبتي: خاصتي وموضع سرى.
(5). في د: فكم من قرين، وفى هـ: فإن القرين.

وفي سنن أبي داود عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل). وروي عن ابن مسعود أنه قال: اعتبروا الناس بإخوانهم. ثم بين تعالى المعنى الذي لأجله نهى عن المواصلة فقال: (لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا) يقول فسادا. يعني لا يتركون الجهد في فسادكم، يعني أنهم وإن لم يقاتلوكم في الظاهر فإنهم لا يتركون الجهد في المكر والخديعة، على ما يأتي بيانه. وروي «1» عن أبي أمامة عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قول الله تعالى:" يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا" قال: (هم الخوارج). وروى أن أبا موسى الأشعري استكتب ذميا فكتب إليه عمر يعنفه وتلا عليه هذه الآية. وقدم أبو موسى الأشعري على عمر رضي الله عنهما بحساب فرفعه إلى عمر فأعجبه، وجاء عمر كتاب فقال لابي موسى: أين كاتبك يقرأ هذا الكتاب على الناس؟ فقال: إنه لا يدخل المسجد. فقال لم! أجنب هو؟ قال: إنه نصراني، فانتهره وقال: لا تدنهم وقد أقصاهم الله، ولا تكرمهم وقد أهانهم الله، ولا تأمنهم وقد خونهم الله. وعن عمر رضي الله عنه قال: لا تستعملوا أهل الكتاب فإنهم يستحلون الرشا، «2» واستعينوا على أموركم وعلى رعيتكم بالذين يخشون الله تعالى. وقيل لعمر رضي الله عنه: إن هاهنا رجلا من نصارى الحيرة لا أحد أكتب منه ولا أخط بقلم أفلا يكتب عنك؟ فقال: لا آخذ «3» بطانة من دون المؤمنين. فلا يجوز استكتاب أهل الذمة، ولا غير ذلك من تصرفاتهم في البيع والشراء والاستنابة إليهم. قلت: وقد انقلبت الأحوال في هذه الأزمان باتخاذ أهل الكتاب كتبة وأمناء وتسودوا بذلك عند الجهلة الأغبياء من الولاة والأمراء. روى البخاري عن أبي سعيد الخدري عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانتان بطانة تأمره بالمعروف وتحضه عليه وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه فالمعصوم من عصم الله تعالى) «4». وروى أنس بن مالك قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:) لا تستضيئوا بنار المشركين ولا تنقشوا في خواتيمكم غريبا". فسره الحسن بن أبي الحسن فقال: أراد عليه
__________
(1). في ب ود وهـ: روى أبو أمامة.
(2). في أ: الربا.
(3). في ب ود وهـ: إذا اتخذ إلخ.
(4). الحديث كما في النسخ الاميرية، وسائر الأصول: بالخير، بدل المعروف، وفى ج: تحثه عليه.

السلام لا تستشيروا المشركين في شي من أموركم، ولا تنقشوا في خواتيمكم محمدا. قال الحسن: وتصديق ذلك في كتاب الله عز وجل:" يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ" الآية. الثالثة- قوله تعالى:" مِنْ دُونِكُمْ" أي «1» من سواكم. قال الفراء:" وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذلِكَ" «2» أي سوى ذلك. وقيل:" مِنْ دُونِكُمْ" يعني في السير وحسن المذهب. ومعنى" لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا" لا يقصرون فيما فيه الفساد عليكم. وهو في موضع الصفة ل" بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ". يقال: لا آلو جهدا أي لا أقصر. وألوت ألوا قصرت، قال امرؤ القيس:
وما المرء ما دامت حشاشة نفسه ... بمدرك أطراف الخطوب ولا آل
والخبال: الخبل. والخبل: الفساد، وقد يكون ذلك في الافعال والأبدان والعقول. وفي الحديث: (من أصيب بدم أو خبل) أي جرح يفسد العضو. والخبل: فساد الأعضاء، ورجل خبل ومختبل، وخبله الحب أي أفسده. قال أوس:
أبني لبينى لستم بيد ... إلا يدا مخبولة «3» العضد
أي فاسدة العضد. وأنشد الفراء:
نظر ابن سعد نظرة وبت «4» بها ... كانت لصحبك والمطي خبالا
أي فساد. وانتصب" خَبالًا" بالمفعول الثاني، لان الألو يتعدى إلى مفعولين، وإن شئت على المصدر، أي يخبلونكم خبالا: وإن شئت بنزع الخافض، أي بالخبال، كما قالوا: أوجعته ضربا:" وَما" في قوله: (وَدُّوا ما عَنِتُّمْ) مصدرية، أي ودوا عنتكم. أي ما يشق عليكم. والعنت المشقة، وقد مضى في" البقرة" «5» معناه. الرابعة- قوله تعالى: (قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ) يعني ظهرت العداوة والتكذيب لكم من أفواههم. والبغضاء: البغض، وهو ضد الحب. والبغضاء مصدر مؤنث. وخص تعالى الأفواه بالذكر دون الألسنة إشارة إلى تشدقهم وثرثرتهم في أقوالهم هذه، فهم
__________
(1). في ب ود وهـ: يعنى.
(2). راجع ج 11 ص 322.
(3). الذي في ديوانه: إلا يدا ليست لها عضد
(4). الوب: التهبؤ للحملة في الحرب. [.....]
(5). راجع ج 3 ص 66.

هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119)

فوق المتستر الذي تبدو البغضاء في عينيه. ومن هذا المعنى نهيه عليه السلام أن يشتحي «1» الرجل فاه في عرض أخيه. معناه أن يفتح، يقال: شحي الحمار فاه بالنهيق، وشحى الفم نفسه. وشحى اللجام فم الفرس شحيا، وجاءت الخيل شواحي: فاتحات أفواهها. ولا يفهم من هذا الحديث دليل خطاب على الجواز فيأخذ أحد في عرض أخيه همسا، فإن ذلك يحرم باتفاق من العلماء. وفي التنزيل" وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً" [الحجرات: 12] «2» الآية. وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام). فذكر الشحو إنما هو إشارة إلى التشدق والانبساط، فاعلم. الخامسة- وفي هذه الآية دليل على أن شهادة العدو على عدوه لا يجوز، وبذلك قال أهل المدينة وأهل الحجاز، وروى عن أبي حنيفة جواز ذلك. وحكى ابن بطال عن ابن شعبان أنه قال: أجمع العلماء على أنه لا تجوز شهادة العدو على عدوه في شي وإن كان عدلا، والعداوة تزيل العدالة فكيف بعداوة كافر. السادسة: قوله تعالى: (وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ) إخبار وإعلام بأنهم يبطنون من البغضاء أكثر مما يظهرون بأفواههم. وقرا عبد الله بن مسعود:" قد بدأ البغضاء" بتذكير الفعل، لما كانت البغضاء بمعنى البغض.

[سورة آل عمران (3): آية 119]
ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (119)
قوله تعالى: ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (119) قوله تعالى: (ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ) يعني المنافقين، دليله قوله تعالى:" وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا"، قاله أبو العالية ومقاتل. والمحبة هنا بمعنى المصافاة، أي أنتم أيها المسلمون تصافونهم ولا يصافونكم لنفاقهم. وقيل: المعنى تريدون لهم الإسلام وهم يريدون لكم الكفر. وقيل: المراد اليهود، قاله الأكثر. والكتاب اسم جنس، قال ابن عباس: يعني
__________
(1). في هـ ود: يشحى. وفى اللسان شحا يشحو فاه فتحه، وشحا يشحاه.
(2). راجع ج 16 ص 334.

بالكتب. واليهود يؤمنون بالبعض، كما قال تعالى:" وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ" [البقرة: 91] «1». (وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا) أي بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأنه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (وَإِذا خَلَوْا) فيما بينهم (عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ) يعني أطراف الأصابع (مِنَ الْغَيْظِ) والحنق عليكم، فيقول بعضهم لبعض: ألا ترون إلى هؤلاء ظهروا وكثروا. والعض عبارة عن شدة الغيظ مع عدم القدرة على إنفاذه، ومنه قول أبي طالب:
يعضون غيظا خلفنا بالأنامل

وقال آخر:
إذا رأوني أطال الله غيظهم ... عضوا من الغيظ أطراف الأباهيم
يقال: عض يعض عضا وعضيضا. والعض (بضم العين): علف دواب أهل الأمصار مثل الكسب والنوى المرضوخ، يقال منه: أعض القوم، إذا أكلت إبلهم العض. وبعير عضاضي، أي سمين كأنه منسوب إليه. والعض (بالكسر): الداهي من الرجال والبليغ المكر «2». وعض الأنامل من فعل المغضب الذي فاته ما لا يقدر عليه، أو نزل به ما لا يقدر على تغييره. وهذا العض هو بالأسنان كعض اليد «3» على فائت قريب الفوات. وكقرع السن النادمة، إلى غير ذلك من عد الحصى والخط في الأرض للمهموم. ويكتب هذا العض بالضاد الساقطة، وعظ الزمان بالظاء المشالة، كما قال:
وعظ زمان يا ابن مروان لم يدع ... من المال إلا مسحتا أو مجلف «4»
وواحد الأنامل أنملة (بضم الميم) ويقال بفتحها، والضم أشهر. وكان أبو الجوزاء إذا تلا هذه الآية قال: هم الإباضية «5». قال ابن عطية: وهذه الصفة قد تترتب في كثير من أهل البدع «6» إلى يوم القيامة. قوله تعالى: (قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) إن قيل كيف لم يموتوا والله تعالى إذا قال لشيء: كُنْ فَيَكُونُ. قيل عنه جوابان: أحدهما: قال فيه الطبري وكثير
__________
(1). راجع ج 2 ص 29.
(2). في ب وهـ وج: المنكر.
(3). في ب ود وهـ: كعض اليد على اليد.
(4). البيت للفرزدق. وفى النقائض:" وعض زمان" بالضاد وهذه الكلمة في هذا المعنى تقال بالضاد وبالظاء كما في القاموس. والمسحت: المستأصل. والمجلف: الذي بقيت منه بقية، ويروى: المجرف.
(5). الإباضية بريئون من ذلك، وتفسير كلام الله ينزه عن مثل هذا التقول.
(6). في ب وهـ ود: في أهل البدع من الناس.

إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)

من المفسرين: هو دعاء عليهم. أي قل يا محمد أدام الله غيظكم إلى أن تموتوا. فعلى هذا يتجه أن يدعو عليهم بهذا مواجهة وغير مواجهة بخلاف اللعنة. الثاني: أن المعنى أخبرهم أنهم لا يدركون ما يؤملون، فإن الموت دون ذلك. فعلى هذا المعنى زال معنى الدعاء وبقي معنى التقريع والاغاطة. ويجري «1» هذا المعنى مع قول مسافر ابن أبي عمرو:
ويتمنى «2» في أرومتنا ... ونفقا عين من حسدا
وينظر إلى هذا المعنى قوله تعالى:" مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ" [الحج: 15] «3».

[سورة آل عمران (3): آية 120]
إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)
قوله تعالى:" إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ" قرأ السلمي بالياء والباقون بالتاء. واللفظ عام في كل ما يحسن ويسوء. وما ذكره المفسرون من الخصب والجدب واجتماع المؤمنين ودخول الفرقة بينهم إلى غير ذلك من الأقوال أمثلة وليس باختلاف. والمعنى في الآية: أن من كانت هذه صفته من شدة العداوة والحقد والفرح بنزول الشدائد على «4» المؤمنين، لم يكن أهلا لان يتخذ بطانة، لا سيما في هذا الامر الجسيم من الجهاد الذي هو ملاك الدنيا والآخرة، ولقد أحسن القائل في قوله:
كل العداوة قد ترجى إفاقتها ... إلا عداوة من عاداك من حسد
(وَإِنْ تَصْبِرُوا) أي على أذاهم وعلى الطاعة وموالاة المؤمنين (وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ «5» كَيْدُهُمْ شَيْئاً). يقال: ضاره يضوره ويضيره ضيرا وضورا، فشرط تعالى نفي ضررهم بالصبر والتقوى، فكان ذلك تسلية للمؤمنين وتقوية لنفوسهم.
__________
(1). في و: يجوز.
(2). في هـ: ونتمى، وفى ابن عطية ونبني، وفى الأغاني: وزمزم من أرومتنا.
(3). راجع ج 13 ص 21.
(4). في دوب وهـ بالمؤمنين.
(5). قراءة نافع. [.....]

وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121)

قلت- «1» قرأ الحرميان وأبو عمرو" لا يَضُرُّكُمْ" من ضار يضير كما ذكرنا، ومنه قوله" لا ضَيْرَ"، وحذفت الياء لالتقاء الساكنين، لأنك لما حذفت الضمة من الراء بقيت الراء ساكنة والياء ساكنة فحذفت الياء، وكانت أولى بالحذف، لان قبلها ما يدل عليها. وحكى الكسائي أنه سمع" ضاره يضوره" وأجاز" لا يضركم" وزعم أن في قراءة أبي بن كعب" لا يضرركم" «2». [وقرا الكوفيون:" لا يضركم" بضم الراء وتشديدها من ضر يضر] «3». ويجوز أن يكون مرفوعا على تقدير إضمار الفاء، والمعنى: فلا يضركم، ومنه قول الشاعر: «4»
من يفعل الحسنات الله يشكرها

هذا قول الكسائي والفراء، أو يكون مرفوعا على نية التقديم، وأنشد سيبويه:
إنك إن يصرع أخوك تصرع «5»

أي لا يضركم أن تصبروا وتتقوا. ويجوز أن يكون مجزوما، وضمت الراء لالتقاء الساكنين على إتباع الضم. وكذلك قراءة من فتح الراء على أن الفعل مجزوم، وفتح" يَضُرُّكُمْ" لالتقاء الساكنين لخفة الفتح، رواه أبو زيد عن المفضل عن عاصم، حكاه المهدوي. وحكى النحاس: وزعم المفضل الضبي عن عاصم" لا يضركم" بكسر الراء لالتقاء الساكنين.

[سورة آل عمران (3): آية 121]
وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121)
قوله تعالى: (وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ) العامل في" إِذْ" فعل مضمر تقديره: وأذكر إذ غدوت، يعنى خرجت بالصباح. (مِنْ أَهْلِكَ) من منزلك من عند عائشة. (تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) هذه غزوة أحد وفيها نزلت هذه الآية كلها. وقال مجاهد والحسن ومقاتل والكلبي: هي غزوة الخندق. وعن الحسن أيضا يوم بدر. والجمهور على أنها غزوة أحد، يدل عليه قوله تعالى:" إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا" [آل عمران: 122] وهذا إنما كان يوم أحد، وكان المشركون قصدوا المدينة في ثلاثة آلاف رجل ليأخذوا بثأرهم
__________
(1). كذا في د، وفى ب وا: قراآت قرأ، وفى زوجة: قرأ.
(2). في د ر هـ: يضور والتصحيح من البحر قال: بفك الإدغام وهى لغة أهل الحجاز.
(3). الزيادة من ب ودرهم.
(4). هو حسان بن ثابت رضى الله عنه. وتمامه: والشر بالشر عند الله سيان
(5). هذا عجز بيت لجرير بن عبد الله. وصدره: يا أقرع بن حابس يا أقرع

إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122)

في يوم بدر، فنزلوا عند أحد على شفير الوادي بقناة مقابل المدينة، يوم الأربعاء الثاني عشر من شوال سنة ثلاث من الهجرة، على رأس أحد وثلاثين شهرا من الهجرة، فأقاموا هنالك يوم الخميس والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمدينة، فرأى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في منامه أن في سيفه ثلمة، وأن بقرا له تذبح، وأنه أدخل يده في درع حصينة، فتأولها أن نفرا من أصحابه يقتلون، وأن رجلا من أهل بيته يصاب، وأن الدرع الحصينة المدينة. أخرجه مسلم. فكان كل ذلك على ما هو معروف مشهور من تلك الغزاة. واصل التبوء اتخاذ المنزل، بوأته منزلا إذا أسكنته إياه، ومنه قول عليه السلام: (من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار) أي ليتخذ فيها منزلا. فمعنى" تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ" تتخذ لهم مصاف. وذكر البيهقي من حديث أنس أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (رأيت فيما يرى النائم كأني مردف كبشا وكان ضبة سيفي انكسرت فأولت أني أقتل كبش القوم وأولت كسر ضبة سيفي قتل رجل من عترتي) فقتل حمزة وقتل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طلحة، وكان صاحب اللواء. وذكر موسى بن عقبة عن ابن شهاب: وكان حامل لواء المهاجرين رجل من أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: أنا عاصم إن شاء الله لما معي، فقال له طلحة بن عثمان أخو سعيد ابن عثمان اللخمي: هل لك يا عاصم في المبارزة؟ قال نعم، فبدره ذلك الرجل. فضرب بالسيف على رأس طلحة حتى وقع السيف في لحيته فقتله، فكان قتل صاحب اللواء «1» تصديقا لرؤيا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (كأني مردف كبشا).

[سورة آل عمران (3): آية 122]
إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122)
العامل في إذ" تَبُوءَ" أو" سَمِيعٌ عَلِيمٌ". والطائفتان: بنو سلمة من الخزرج، وبنو حارثة من الأوس، وكانا جناحي العسكر يوم أحد. ومعنى (أَنْ تَفْشَلا) أن تجبنا. وفي البخاري عن جابر قال: فينا نزلت (إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما" قال: نحن الطائفتان: بنو حارثة وبنو سلمة، وما نحب أنها لم تنزل، لقول الله عز وجل:" وَاللَّهُ وَلِيُّهُما". وقيل:
__________
(1). في ب وهـ وح وز: صاحب لواء المشركين. ما أثبتناه من د.

هم بنو الحارث وبنو الخزرج وبنو النبيت، والنبيت هو عمرو بن مالك من بني الأوس. والفشل عبارة عن الجبن، وكذلك هو في اللغة. والهم من الطائفتين كان بعد الخروج لما رجع عبد الله بن أبي بمن معه من المنافقين فحفظ الله قلوبهم فلم يرجعوا، فذلك قوله تعالى:" وَاللَّهُ وَلِيُّهُما" يعني قلوبهما عن تحقيق هذا الهم. وقيل: أرادوا التقاعد عن الخروج، وكان ذلك صغيرة منهم. وقيل: كان ذلك حديث نفس منهم خطر ببالهم فأطلع الله نبيه عليه السلام عليه فازدادوا بصيرة، ولم يكن ذلك الخور «1» مكتسبا لهم فعصمهم الله، وذم بعضهم بعضا، ونهضوا مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فمضى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى أطل على المشركين، وكان خروجه من المدينة في ألف، فرجع عنه عبد الله بن أبي بن سول بثلاثمائة رجل مغاضبا «2»، إذ خولف رأيه حين أشار بالقعود والقتال في المدينة إن نهض إليهم العدو، وكان رأيه وافق رأى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأبى ذلك أكثر الأنصار، وسيأتي. ونهض رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمسلمين فاستشهد منهم من أكرمه الله بالشهادة. قال مالك رحمه الله: قتل من المهاجرين يوم أحد أربعة، ومن الأنصار سبعون رضي الله عنهم. والمقاعد: جمع مقعد وهو مكان القعود، [وهذا] «3» بمنزلة مواقف، ولكن لفظ القعود دال على الثبوت، ولا سيما أن الرماة كانوا قعودا. هذا معنى حديث غزاة أحد على الاختصار، وسيأتي من تفصيلها ما فيه شفاء. وكان مع المشركين يومئذ مائة فرس عليها خاله بن الوليد، ولم يكن مع المسلمين يومئذ فرس. وفيها جرح رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في وجهه وكسرت رباعيته اليمنى السفلى بحجر وهشمت البيضة «4» من على رأسه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وجزاه عن أمته ودينه بأفضل ما جزى به نبيا من أنبيائه على صبره. وكان الذي تولى ذلك من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عمرو بن قميئة الليثي، وعتبة بن أبي وقاص. وقد قيل: إن عبد الله بن شهاب جد الفقيه محمد بن مسلم بن شهاب هو الذي شج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في جبهته. قال الواقدي: والثابت «5» عندنا أن الذي رمى في وجه «6» النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابن قميئة، والذي
__________
(1). كذا في د وز وب.
(2). كذا في دوب وهـ وج.
(3). من دوب وهـ.
(4). البيضة: الخوذة، وهى زود ينسخ على قدر الرأس يلبس تحت القلنسوة، وفى ب ود وهـ، هشمت البيضة رأسه.
(5). في ب ود وهـ: الثبت.
(6). في د وهـ وب، وجني النبي.

أدمى «1» شفته وأصاب رباعيته عتبة بن أبى وقاص. قال الواقدي بإسناده عن نافع بن جبير قال: سمعت رجلا من المهاجرين يقول: شهدت أحدا فنظرت إلى النبل تأتي من كل ناحية ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسطها كل [ذلك ] «2» يصرف عنه. ولقد رأيت عبد الله ابن شهاب الزهري يقول يومئذ: دلوني على محمد دلوني على محمد، فلا نجوت إن نجا. [وإن ] «3» رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى جنبه ما معه أحد ثم جاوزه، فعاتبه في ذلك صفوان فقال: والله ما رأيته، أحلف بالله إنه منا ممنوع! خرجنا أربعة فتعاهدنا وتعاقدنا على قتله [فلم نخلص «4» إلى ذلك ]. وأكبت الحجارة على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى سقط في حفرة، كان أبو عامر الراهب قد حفرها مكيدة للمسلمين، فخر عليه السلام على جنبه واحتضنه طلحة حتى قام، ومص مالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري من جرح رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدم، وتشبثت «5» حلقتان من درع المغفر في وجهه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فانتزعهما أبو عبيدة بن الجراح وعض عليهما بثنيتيه فسقطتا، فكان أهتم يزينه هتمه رضي الله عنه. وفي هذه الغزاة قتل حمزة رضي الله عنه، قتله وحشي، وكان وحشي مملوكا لجبير بن مطعم. وقد كان جبير قال له: إن قتلت محمدا جعلنا لك أعنة الخيل، وإن أنت قتلت علي بن أبي طالب جعلنا لك مائة ناقة كلها سود الحدق، وإن أنت قتلت حمزة فأنت حر. فقال وحشي: أما محمد فعليه حافظ من الله لا يخلص إليه أحد. وأما علي ما برز إليه أحد إلا قتله. وأما حمزة فرجل شجاع، وعسى أن أصادفه فأقتله. وكانت هند كلما تهيأ وحشي أو مرت به قالت: إيها أبا دسمة اشف واستشف. فكمن له خلف صخرة، وكان حمزة حمل على القوم من المشركين، فلما رجع من حملته ومر بوحشي زرقه بالمزراق فأصابه فسقط ميتا «6» رحمه الله ورضي عنه. قال ابن إسحاق: فبقرت هند عن كبد حمزة فلاكتها ولم تستطع أن تسيغها فلفظتها ثم علت على صخرة مشرفة فصرخت بأعلى صوتها فقالت:
نحن جزيناكم بيوم بدر ... والحرب بعد الحرب ذات سعر
ما كان عن عتبة لي من صبر ... ولا أخي وعمه بكري
__________
(1). في ب ود وهـ: رمى.
(2). زيادة عن مغازي الواقدي. [.....]
(3). في ب ود وهـ: رمى.
(4). زيادة عن مغازي الواقدي.
(5). في د: تشبت، وفى هـ: نشبت.
(6). كذا في د، وفى ب وهـ وح: فسقط منها.

شفيت نفسي وقضيت نذري ... شفيت وحشي غليل صدري
فشكر وحشي علي عمري ... حتى ترم أعظمي في قبري
فأجابتها هند بنت أثاثة بن عباد بن عبد المطلب فقالت:
خزيت في بدر وبعد بدر ... يا بنت وقاع عظيم الكفر
صبحك الله غداة الفجر ... ملهاشميين الطوال الزهر
بكل قطاع حسام يفري ... حمزة ليثي وعلى صقري
إذ رام شيب «1» وأبوك غدى ... فخضبا «2» منه ضواحي النحر
ونذرك السوء فشر نذر

وقال عبد الله بن رواحة يبكي حمزة رضي الله عنه:
بكت عيني وحق لها بكاها ... وما يغني البكاء ولا العويل
على أسد الاله غداة قالوا ... أحمزة ذاكم الرجل القتيل
أصيب المسلمون به جميعا ... هناك، وقد أصيب به الرسول
أبا يعلى لك الأركان هدت ... وأنت الماجد البر الوصل
عليك سلام ربك في جنان ... مخالطها نعيم لا يزول
ألا يا هاشم الأخيار صبرا ... فكل فعالكم حسن جميل
رسول الله مصطبر كريم ... بأمر الله ينطق إذ يقول
ألا من مبلغ عني لؤيا ... فبعد اليوم دائلة تدول
وقبل اليوم ما عرفوا وذاقوا ... وقائعنا بها يشفي الغليل
نسيتم ضربنا بقليب «3» بدر ... غداة أتاكم الموت العجيل
غداة ثوى أبو جهل صريعا ... عليه الطير حائمة تجول

وعتبة وابنه خرا جميعا ... وشيبة عضه السيف الصقيل
__________
(1). أرادت شيبة بن ربيعة أبا هند. وقد رخم هنا في غير النداء لضرورة الشعر.
(2). في د: مخضبا.
(3). القليب (بفتح أوله وكسر ثانيه): البئر العادية القديمة التي لا يعلم لها رب ولا حافر تكون في البراري، يذكر ويؤنث.

ومتركنا أمية مجلعبا «1» ... وفي حيزومه لدن نبيل «2»
وهام بني ربيعة سائلوها ... ففي أسيافها منها فلول
ألا يا هند لا تبدي شماتا ... بحمزة إن عزكم ذليل
ألا يا هند فابكي لا تملي ... فأنت الواله العبرى الهبول «3»
ورثته أيضا أخته صفية، وذلك مذكور في السيرة، رضي الله عنهم أجمعين. قوله تعالى: (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) فيه مسألة واحدة، وهي بيان التوكل. والتوكل في اللغة إظهار العجز والاعتماد على الغير «4» وواكل فلان إذا ضيع أمره متكلا على غيره. وأختلف العلماء في حقيقة التوكل، فسئل عنه سهل بن عبد الله فقال: قالت فرقة أرض الرضا بالضمان، وقطع الطمع من المخلوقين. وقال قوم: التوكل ترك الأسباب والركون إلى مسبب الأسباب، فإذا شغله السبب عن المسبب زال عنه اسم التوكل. قال سهل: من قال إن التوكل يكون بترك السبب فقد طعن في سنة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لان الله عز وجل يقول:" فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّباً" [الأنفال: 69] «5» فالغنيمة اكتساب. وقال تعالى:" فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ" [الأنفال: 12] «6» فهذا عمل. وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إن الله يحب العبد المحترف). وكان أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرضون على السرية «7». وقال غيره: وهذا قول عامة الفقهاء، وأن التوكل على الله هو الثقة بالله والإيقان بأن قضاءه ماض، وأتباع سنة نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في السعي فيما لأبد منه من الأسباب من مطعم ومشرب وتحرز من عدو وإعداد الأسلحة واستعمال ما تقتضيه سنة الله تعالى المعتادة. وإلى هذا ذهب محققو الصوفية، لكنه لا يستحق اسم التوكل عندهم مع الطمأنينة إلى تلك الأسباب والالتفات إليها بالقلوب، فإنها لا تجلب نفعا ولا تدفع ضرا، بل السبب والمسبب فعل الله تعالى، والكل منه وبمشيئته، ومتى وقع من المتوكل ركون إلى تلك الأسباب فقد انسلخ عن ذلك الاسم. ثم المتوكلون على
__________
(1). المجلعب: المصروع إما ميتا وإما صرعا شديدا.
(2). الحيزوم: وسط الصدر وما يضم عليه الحزام. واللدن: الرمح.
(3). الهبول من النساء: الثكول.
(4). في ب ود: غيرك وفى هـ: غيره.
(5). راجع ج 8 ص 51.
(6). راجع ج 7 ص 377.
(7). السرية: طائفة من الجيش يبلغ أقصاها أربعمائة سموا بذلك لأنهم تكون من خلاصة العسكر وخيارهم، من الشيء السري: النفيس. [.....]

وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125)

حالين: الأول- حال المتمكن في التوكل فلا يلتفت إلى شي من تلك الأسباب بقلبه، ولا يتعاطاه إلا بحكم الامر. الثاني- حال غير المتمكن وهو الذي يقع له الالتفات إلى تلك الأسباب أحيانا غير أنه يدفعها عن نفسه بالطرق العلمية، والبراهين القطعية، والأذواق الحالية، فلا يزال كذلك إلى أن يرقيه الله بجوده إلى مقام المتوكلين المتمكنين، ويلحقه بدرجات العارفين.

[سورة آل عمران (3): الآيات 123 الى 125]
وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125)
فيه ست مسائل: الاولى- قوله تعالى: (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ) كانت بدر يوم سبعة عشر من رمضان، يوم جمعة لثمانية عشر شهرا من الهجرة، وبدر ماء هنالك وبه سمي الموضع. وقال الشعبي: كان ذلك الماء لرجل من جهينة يسمى بدرا، وبه سمي الموضع. والأول أكثر. وقال الواقدي وغيره: بدر اسم لموضع غير منقول. وسيأتي في قصة بدر في" الأنفال" «1» إن شاء الله تعالى. و" أَذِلَّةٌ" معناها قليلون، وذلك أنهم كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر أو أربعة عشر رجلا. وكان عدوهم ما بين التسعمائة إلى الالف. و" أَذِلَّةٌ" جمع ذليل. واسم الذل في هذا الموضع مستعار، ولم يكونوا في أنفسهم إلا أعزة، ولكن نسبتهم إلى عدوهم وإلى جميع الكفار في أقطار الأرض تقتضي عند التأمل ذلتهم وأنهم يغلبون. والنصر العون، فنصرهم الله يوم بدر، وقتل فيه صناديد المشركين، وعلى ذلك اليوم ابتنى «2» الإسلام، وكان أول قتال قاتله النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وفي صحيح مسلم عن بريدة قال: غزا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سبع عشرة غزوة، قاتل في ثمان منهن. وفية عن ابن إسحاق قال: لقيت
__________
(1). راجع ج 7 ص 370 فما بعد.
(2). في ب، ود: انبنى؟؟.

زيد بن أرقم فقلت له: كم غزا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال تسع عشرة غزوة. فقلت: فكم غزوه أنت معه؟ فقال: سبع عشرة غزوة. قال فقلت: فما أول غزوة غزاها؟ قال: ذات العسير أو العشير. وهذا كله مخالف لما عليه أهل التواريخ والسير. قال محمد بن سعد في كتاب الطبقات له: إن غزوات رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سبع وعشرون غزوة، وسراياه ست وخمسون، وفي رواية ست وأربعون، «1» والتي قاتل فيها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بدر واحد والمريسيع والخندق وخيبر وقريظة والفتح والطائف. قال ابن سعد: هذا الذي أجتمع لنا عليه. وفي بعض الروايات أنه قاتل في بني النضير وفي وادي القرى منصرفه من خيبر وفي الغابة «2». وإذا تقرر هذا فنقول: زيد وبريدة إنما أخبر كل واحد منهما بما في علمه أو شاهده. وقول زيد:" إن أول غزاة غزاها ذات العسيرة" مخالف أيضا لما قال أهل التواريخ والسير. قال محمد بن سعد: كان قبل غزوة العشيرة ثلاث غزوات، يعني غزاها بنفسه. وقال ابن عبد البر في كتاب الدرر في المغازي والسير. أول غزاة غزاها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غزوة ودان «3» غزاها بنفسه في صفر، وذلك أنه وصل إلى المدينة لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول، أقام بها بقية ربيع الأول، وباقي العام كله. إلى صفر من سنة أثنتين من الهجرة: ثم حرج في صفر المذكور واستعمل على المدينة سعد بن عبادة حتى بلغ ودان فوادع «4» بني ضمرة، ثم رجع إلى المدينة ولم يلق حربا، وهي المسماة بغزوة الأبواء. ثم أقام بالمدينة إلى [شهر] ربيع الأخر من السنة المذكورة، ثم خرج فيها واستعمل على المدينة السائب بن عثمان بن مظعون حتى بلغ بواط «5» من ناحية رضوى «6»، ثم رجع إلى المدينة
__________
(1). الذي في كتاب الطبقات لابن سعد:" وكانت سراياه التي بعث بها سبعا وأربعين سرية".
(2). الغابة: موضع قرب المدينة من ناحية الشام.
(3). ودان (بفتح الواو وشد المهملة): قرية جامعة من أمهات القرى من عمل الفرع. وقيل: واد في الطريق يقطعه المصعدون من حجاج المدينة. (عن شرح المواهب).
(4). الموادعة: المصالحة.
(5). بواط (بفتح الموحدة وقد تضم وتخفيف الواو وآخره طاء مهملة): جبل من جبال جهينة بقرب ينبع على أربعة برد من المدينة.
(6). رضوى (بفتح الراء وسكون المعجمة مقصور): جبل بالمدينة، وهو على مسيرة يوم من ينبع وعلى سبع مراحل من المدينة.

ولم يلق حربا، ثم أقام بها بقية ربيع الأخر وبعض جمادى الاولى، ثم خرج غازيا واستخلف على المدينة أبا سلمة بن عبد الأسد، واخذ على طريق ملك «1» إلى العسيرة. قلت: ذكر ابن إسحاق عن عمار بن ياسر قال: كنت أنا وعلي بن أبي طالب رفيقين في غزوة العشيرة من بطن ينبع فلما نزلها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أقام بها شهرا فصالح بها بني مدلج وحلفاءهم من بني ضمرة فوادعهم، فقال لي علي بن أبي طالب: هل لك أبا اليقظان أن تأتي هؤلاء؟ نفر من بني مدلج يعملون في عين لهم ننظر كيف يعملون. فأتيناهم فنظرنا إليهم ساعة ثم غشينا النوم فعمدنا إلى صور «2» من النخل في دقعاء من الأرض فنمنا فيه، فو الله ما أهبنا إلا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقدمه، فجلسنا وقد تتربنا من تلك الدقعاء فيومئذ قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعلي: (ما بالك يا أبا تراب)، فأخبرناه بما كان من أمرنا فقال: (ألا أخبركم بأشقى الناس رجلين) قلنا: بلى يا رسول الله، فقال: (أحيمر ثمود الذي عقر الناقة والذي يضربك يا على على هذه- ووضع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يده على رأسه- حتى يبل منها هذه) ووضع يده على لحيته. فقال أبو عمر: فأقام بها بقية جمادى الاولى وليالي من جمادى الآخرة، ووادع فيها بني مدلج ثم رجع ولم يلق حربا. ثم كانت بعد ذلك غزوة بدر الاولى بأيام قلائل، هذا الذي لا يشك فيه أهل التواريخ والسير، فزيد بن أرقم إنما أخبر عما عنده. والله أعلم. ويقال: ذات العسير بالسين والشين، ويزاد عليها هاء فيقال: العشيرة. ثم غزوة بدر الكبرى وهي أعظم المشاهد فضلا لمن شهدها، وفيها أمد الله بملائكته نبيه والمؤمنين في قول جماعة العلماء، وعليه يدل ظاهر الآية، لا في يوم أحد. ومن قال: إن ذلك كان يوم أحد جعل قوله تعالى:" وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ" إلى قوله:" تَشْكُرُونَ"؟؟ اعتراضا بين الكلامين. هذا قول عامر الشعبي، وخالفه الناس. تظاهرت الروايات بأن الملائكة حضرت يوم بدر وقاتلت، ومن ذلك قول أبي أسيد مالك بن ربيعة وكان شهيد
__________
(1). ملك (بالكسر ثم السكون والكاف): واد بمكة.
(2). الصور جماعة النخل الصغار، لا واحد له من لفظه. الدقعاء: التراب.

بدر: لو كنت معكم ألان ببدر ومعي بصرى لأريتكم الشعب «1» الذي خرجت منه الملائكة، لا أشك ولا أمتري. رواه عقيل عن الزهري عن أبي حازم سلمة بن دينار. قال ابن أبي حاتم: لا يعرف للزهري عن أبي حازم غير هذا الحديث الواحد، وأبو أسيد يقال إنه آخر من مات من أهل بدر، ذكره أبو عمر في الاستيعاب وغيره. وفي صحيح مسلم من حديث عمر ابن الخطاب قال: لما كان يوم بدر نظر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى المشركين وهم ألف، وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلا، فاستقبل نبي الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ القبلة ثم مد يديه فجعل يهتف بربه: (اللهم أنجز لي ما وعدتني اللهم آت ما وعدتني اللهم إن تهلك هذه العصابة من الإسلام لا تعبد في الأرض) فما زال يهتف بربه مادا يديه مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه، ثم التزمه من ورائه وقال: يا نبي الله، كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك، فأنزل الله عز وجل:" إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ" [الأنفال: 9] «2» فأمده الله تعالى بالملائكة. قال أبو زميل «3»: فحدثني ابن عباس قال: بينما رجل من المسلمين يومئذ يشتد في أثر رجل من المشركين أمامه إذ يسمع ضربة بالسوط فوقه وصوت الفارس يقول: أقدم حيزوم، «4» فنظر إلى المشرك أمامه فخر مستلقيا، فنظر إليه فإذا هو قد خطم أنفه وشق وجهه [كضربه السوط] «5» فأخضر ذلك أجمع. فجاء الأنصاري فحدث بذلك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: (صدقت ذلك من مدد السماء الثالثة) فقتلوا يومئذ سبعين وأسروا سبعين. وذكر الحديث. وسيأتي تمامه في آخر" الأنفال" «6» إن شاء الله تعالى. فتظاهرت السنة والقرآن على ما قاله الجمهور، والحمد لله. وعن خارجة بن إبراهيم عن أبيه قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لجبريل: (من القائل يوم بدر من الملائكة أقدم حيزوم)؟ فقال جبريل: (يا محمد ما كل أهل السماء أعرف). وعن علي رضي الله عنه أنه خطب الناس فقال: بينا أنا أمتح «7» من قليب بدر جاءت ريح شديدة لم أر مثلها قط، ثم ذهبت، ثم جاءت ريح شديدة لم أر مثلها قط إلا التي كانت
__________
(1). الشعب (بالكسر): الطريق في الجبل.
(2). راجع ج 7 ص 370.
(3). أبو زميل (بالتصغير) هو سماك بن الوليد. (تهذيب التهذيب).
(4). حيزوم: اسم فرس من خيل الملائكة. [.....]
(5). زيادة عن صحيح مسلم، واخضر بأسود؟.
(6). ج 8 ص 48.
(7). متح: جذب الدلو من البئر مستقيما، والماتح: المستقى.

قبلها. قال: وأظنه ذكر: ثم جاءت ريح شديدة، فكانت الريح الاولى جبريل نزل في ألف من الملائكة مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكانت الريح الثانية ميكائيل نزل في ألف من الملائكة عن يمين رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان أبو بكر عن يمينه، وكانت الريح الثالثة إسرافيل نزل في ألف من الملائكة عن ميسرة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنا في الميسرة. وعن سهل بن حنيف رضي الله عنه قال: لقد رأيتنا يوم بدر وأن أحدنا يشير بسيفه إلى رأس المشرك فيقع رأسه عن جسده قبل أن يصل إليه. وعن الربيع بن أنس قال: كان الناس يوم بدر يعرفون قتلى الملائكة ممن قتلوهم بضرب فوق الأعناق وعلى البنان مثل سمة النار قد أحرق به، ذكر جميعه البيهقي رحمه الله. وقال بعضهم: إن الملائكة كانوا يقاتلون وكانت علامة ضربهم في الكفار ظاهرة، لان كل موضع أصابت ضربتهم اشتعلت النار في ذلك الموضع، حتى إن أبا جهل قال لابن مسعود: أنت قتلني؟! إنما قتلني الذي لم يصل سناني إلى سنبك فرسه «1» وإن اجتهدت. وإنما كانت الفائدة في كثرة الملائكة لتسكين قلوب المؤمنين، ولان الله تعالى جعل أولئك الملائكة مجاهدين إلى يوم القيامة، فكل عسكر صبر وأحتسب تأتيهم الملائكة ويقاتلون معهم. وقال ابن عباس ومجاهد: لم تقاتل الملائكة إلا يوم بدر، وفيما سوى ذلك يشهدون ولا يقاتلون إنما يكونون عددا أو مددا. وقال بعضهم: إنما كانت الفائدة في كثرة الملائكة أنهم كانوا يدعون ويسبحون، ويكثرون «2» الذين يقاتلون يومئذ، فعلى هذا لم تقاتل الملائكة يوم بدر «3» وإنما حضروا للدعاء بالتثبيت، والأول أكثر. قال قتادة: كان هذا يوم بدر، أمدهم الله بألف ثم صاروا ثلاثة آلاف، ثم صاروا خمسة آلاف، فذلك قوله تعالى:" إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ" «4» وقوله:" أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ" [آل عمران: 124] وقوله:" بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ" [آل عمران: 125] فصبر المؤمنون يوم بدر واتقوا الله فأمدهم الله بخمسة آلاف من الملائكة على ما وعدهم، فهذا كله يوم بدر. وقال الحسن: فهؤلاء الخمسة آلاف ردء «5» للمؤمنين إلى يوم القيامة. قال الشعبي: بلغ النبي
__________
(1). في د: قدميه. وسنبك الدابة طرف حافرها.
(2). في د وهـ وب: والثواب للذين يقاتلون ...
(3). في هـ ود: إلا يوم بدر.
(4). راجع ج 7 ص 370.
(5). الردء: العون والناصر.

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه يوم بدر أن كرز بن جابر المحاربي يريد أن يمد المشركين فشق ذلك على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلى المسلمين، فأنزل الله تعالى:" أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ- إلى قوله: مُسَوِّمِينَ" فبلغ كرزا الهزيمة فلم يمدهم ورجع، فلم يمدهم «1» الله أيضا بالخمسة آلاف، وكانوا قد مدوا بألف. وقيل: إنما وعد الله المؤمنين يوم بدر إن صبروا على طاعته، واتقوا محارمه أن يمدهم أيضا في حروبهم كلها، فلم يصبروا ولم يتقوا محارمه إلا في يوم الأحزاب، فأمدهم حين حاصروا قريظة. وقيل: إنما كان هذا يوم أحد، وعدهم الله المدد إن صبروا، فما صبروا فلم يمدهم بملك واحد، ولو أمدوا لما هزموا، قاله عكرمة والضحاك. فإن قيل: فقد ثبت عن سعد بن أبي وقاص أنه قال: رأيت عن يمين رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعن يساره يوم بدر «2» رجلين عليهما ثياب بيض يقاتلان عنه أشد القتال، ما رأيتهما قبل ولا بعد. قيل له: لعل هذا مختص بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، خصه بملكين يقاتلان عنه، ولا يكون هذا إمدادا للصحابة. والله أعلم. الثانية- نزول الملائكة سبب من أسباب النصر لا يحتاج إليه الرب تعالى، وإنما يحتاج إليه المخلوق فليعلق القلب بالله وليثق به، فهو الناصر بسبب وبغير سبب،" إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ" [يس: 82] «3». لكن أخبر بذلك ليمتثل الخلق ما أمرهم به من الأسباب التي قد خلت من قبل،" وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا" [الأحزاب: 62] «4»، ولا يقدح ذلك في التوكل. وهو رد على من قال: إن الأسباب إنما سنت في حق الضعفاء لا للأقوياء، فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه كانوا الأقوياء وغيرهم هم الضعفاء، وهذا واضح. و" مد" في الشر و" أمد" في الخير. وقد تقدم في البقرة «5». وقرا أبو حيوة" منزلين" بكسر الزاي مخففا، يعني منزلين النصر. وقرا ابن عامر مشددة الزاي مفتوحة على التكثير. ثم قال: (بلى) وتم الكلام." إِنْ تَصْبِرُوا" شرط، أي على لقاء العدو. (وَتَتَّقُوا) عطف عليه، أي معصيته. والجواب" يُمِدَّكُمْ". ومعنى" مِنْ فَوْرِهِمْ" من وجههم. هذا عن عكرمة وقتادة والحسن
__________
(1). في ج وا: فأمدهم. والمثبت هو ما في باقى الأصول وهو التحقيق قال الألوسي: ولم يمدوا بها بناء على تعليق الامداد بها بمجموع الأمور الثلاثة إلخ.
(2). في ب وهـ: يوم أحد.
(3). راجع ج 15 ص 60.
(4). راجع ج 14 ص 247.
(5). راجع ج 1 ص 209.

والربيع والسدي وأبي زيد. وقيل: من غضبهم، عن مجاهد والضحاك. كانوا قد غضبوا يوم أحد ليوم بدر مما لقوا. واصل الفور القصد إلى الشيء والأخذ فيه بجد، وهو من قولهم: فارت القدر تفور فورا وفورانا إذا غلت. والفور الغليان. وفار غضبه إذا جاش. وفعله من فوره أي قبل أن يسكن. والفوراة ما يفور من القدر. وفي التنزيل" وَفارَ التَّنُّورُ" [هود: 40] «1». قال الشاعر:
تفور علينا قدرهم فنديمها

الثالثة- قوله تعالى: (مُسَوِّمِينَ) بفتح الواو اسم مفعول، وهي قراءة ابن عامر وحمزة والكسائي ونافع. أي معلمين بعلامات. و" مُسَوِّمِينَ" بكسر الواو اسم فاعل، وهي قراءة أبي عمرو وابن كثير وعاصم، فيحتمل من المعنى ما تقدم، أي قد أعلموا أنفسهم بعلامة، وأعلموا خيلهم. ورجح الطبري وغيره هذه القراءة. وقال كثير من المفسرين: مسومين أي مرسلين خيلهم، في الغارة. وذكر المهدوي هذا المعنى في" مُسَوِّمِينَ" بفتح الواو، أي أرسلهم الله تعالى على الكفار. وقاله ابن فورك أيضا. وعلى القراءة الاولى اختلفوا في سيما الملائكة، فروى عن علي بن أبي طالب وابن عباس وغيرهما أن الملائكة أعتمت بعمائم بيض قد أرسلوها بين أكتافهم، ذكره البيهقي عن ابن عباس وحكاه المهدوي عن الزجاج. إلا جبريل فإنه كان بعمامة صفراء على مثال الزبير بن العوام، وقال ابن إسحاق. وقال الربيع: كانت سيماهم أنهم كانوا على خيل بلق. قلت: ذكر البيهقي عن سهيل بن عمرو رضي الله عنه قال: لقد رأيت يوم بدر رجالا بيضا على خيل بلق بين السماء والأرض معلمين يقتلون ويأسرون. فقوله:" معلمين" دل على أن الخيل البلق ليست السيما. والله أعلم. وقال مجاهد: كانت خيلهم مجزوزة الأذناب والأعراف معلمة النواصي والأذناب بالصوف والعهن «2». وروي عن ابن عباس: تسومت الملائكة يوم بدر بالصوف الأبيض في نواصي الخيل وأذنابها. وقال عباد بن عبد الله بن الزبير وهشام بن عروة والكلبي: نزلت الملائكة في سيما الزبير عليهم عمائم صفر مرخاة على أكتافهم. وقال ذلك عبد الله وعروة ابنا الزبير. وقال عبد الله: كانت ملاءة صفراء أعتم بها الزبير رضي الله عنه. قلت: ودلت الآية-
__________
(1). راجع ج 9 ص 33. [.....]
(2). العهن: الصوف المصبوغ ألوانا.

وهي الرابعة- على اتخاذ [الشارة و] «1» العلامة للقبائل والكتائب يجعلها السلطان لهم، لتتميز كل قبيلة وكتيبة من غيرها عند الحرب، وعلى فضل الخيل البلق لنزول الملائكة عليها. قلت:- ولعلها نزلت عليها موافقة لفرس المقداد، فإنه كان أبلق ولم يكن لهم فرس غيره، فنزلت الملائكة على الخيل البلق إكراما للمقداد، كما نزل جبريل معتجرا «2» بعمامة صفراء على مثال الزبير. والله أعلم. ودلت الآية أيضا- وهى الخامسة- على لباس الصوف وقد لبسه الأنبياء والصالحون. وروى أبو داود وابن ماجة واللفظ له عن أبي بردة عن أبيه قال قال لي أبي: لو شهدتنا ونحن مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا أصابتنا السماء لحسبت أن ريحنا ريح الضأن. ولبس صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جبة رومية من صوف ضيقة الكمين، رواه الأئمة. ولبسها يونس عليه السلام، رواه مسلم. وسيأتي لهذا المعنى مزيد بيان في" النحل" «3» إن شاء الله تعالى. السادسة- قلت: وأما ما ذكره مجاهد من أن خيلهم كانت مجزوزة الأذناب والأعراف فبعد، فإن في مصنف أبي داود عن عتبة بن عبد السلمي أنه سمع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: (لا تقصوا نواصي الخيل ولا معارفها ولا أذنابها فإن أذنابها مذابها ومعارفها دفاؤها ونواصيها معقود فيها الخير (. فيقول مجاهد يحتاج إلى توقيف من أن خيل الملائكة كانت على تلك الصفة. والله أعلم. ودلت الآية على حسن الأبيض والأصفر من الألوان لنزول الملائكة بذلك، وقد قال ابن عباس: من لبس نعلا أصفر قضيت حاجته. وقال عليه السلام: (ألبسوا من ثيابكم البياض فإنه من خير ثيابكم وكفنوا فيه موتاكم وأما العمائم فتيجان العرب ولباسها (. وروى ركانة- وكان صارع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فصرعه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال ركانة: وسمعت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: (فرق ما بيننا وبين المشركين العمائم على القلانس) أخرجه أبو داود. قال البخاري «4»: إسناده مجهول لا يعرف سماع بعضه من بعض.
__________
(1). من دوفى هـ: الإشارة، والشارة: الهيئة.
(2). الاعتجار بالعمامة: هو أن يلفها على رأسه ويرد طرفها على وجه ولا يعمل منها شيئا تحت ذقته، وفى ب: معتما.
(3). ج 10 ص 154.
(4). كذا في د وهـ وب. وفى أوح: النحاس.

وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (127)

[سورة آل عمران (3): الآيات 126 الى 127]
وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ (127)
قوله تعالى: (وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ) الهاء للمدد، وهو الملائكة أو الوعد أو الامداد، ويدل عليه" يُمْدِدْكُمْ" أو للتسويم أو للإنزال أو العدد على المعنى، لان خمسة آلاف عدد. (وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ) اللام لام كي، أي ولتطمئن قلوبكم به جعله، كقوله:" وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً" [فصلت: 12] «1» أي وحفظا لها جعل ذلك. (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) يعني نصر المؤمنين، ولا يدخل في ذلك نصر الكافرين، لان ما وقع لهم من غلبة إنما هو إملاء محفوف بخذلان وسوء عاقبة وخسران. (لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي بالقتل. ونظم الآية: ولقد نصركم الله ببدر ليقطع. وقيل: المعنى وما النصر إلا من عند الله ليقطع. ويجوز أن يكون متعلقا ب" يُمْدِدْكُمْ"، أي يمددكم ليقطع. والمعنى: من قتل من المشركين يوم بدر، عن الحسن وغيره. السدي: يعني به من قتل من المشركين يوم أحد وكانوا ثمانية عشر رجلا. ومعنى (يَكْبِتَهُمْ) يحزنهم، والمكبوت المحزون. وروى أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جاء إلى أبي طلحة فرأى ابنه مكبوتا فقال: (ما شأنه)؟. فقيل: مات بعيره. وأصله فيما ذكر بعض أهل اللغة" يكبدهم" أي يصيبهم بالحزن والغيظ في أكبادهم، فأبدلت الدال تاء، كما قلبت في سبت رأسه وسبده أي حلقه. كبت الله العدو كبتا إذا «2» صرفه وأذله، كبده، أصابه في كبده، يقال: قد أحرق الحزن كبده، وأحرقت العداوة كبده. وتقول العرب للعدو: أسود الكبد، قال الأعشى:
فما أجشمت «3» من إتيان قوم ... هم الأعداء والأكباد سود
كأن الأكباد لما احترقت بشدة العداوة اسودت. وقرا أبو مجلز" أو يكبدهم" بالدال. والخائب: المنقطع الأمل. خاب يخيب إذا لم ينل ما طلب. والخياب: القدح لا يوري.
__________
(1). راجع ج 15 ص 345.
(2). في ب: أي صرفه.
(3). أجشمت: كلفت على مشقة.

لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129)

[سورة آل عمران (3): الآيات 128 الى 129]
لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ (128) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129)
فيه ثلاث مسائل: الاولى- ثبت في صحيح مسلم أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كسرت رباعيته يوم أحد، وشج في رأسه، فجعل يسلب الدم عنه ويقول: (كيف يفلح قوم شجوا رأس نبيهم وكسروا رباعيته وهو يدعوهم إلى الله تعالى) فأنزل الله تعالى: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ). الضحاك: هم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يدعو على المشركين فأنزل الله تعالى:" لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ". وقيل: استأذن في أن يدعو في استئصالهم، فلما نزلت هذه الآية علم أن منهم من سيسلم وقد آمن كثير منهم خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعكرمة بن أبي جهل وغيرهم. وروى الترمذي عن ابن عامر قال: وكان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعو على أربعة نفر فأنزل الله عز وجل:" لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ" فهداهم الله للإسلام. وقال: هذا حديث حسن غريب صحيح. وقوله تعالى:" أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ" قيل: هو معطوف على" لِيَقْطَعَ طَرَفاً". والمعنى: ليقتل طائفة منهم، أو يحزنهم بالهزيمة أو يتوب عليهم أو يعذبهم. وقد تكون" أو" هاهنا بمعنى" حتى" و" إلا أن". قال امرؤ القيس:
... أو نموت فنعذرا

قال علماؤنا: قوله عليه السلام: (كيف يفلح قوم شجوا رأس نبيهم) استبعاد لتوفيق من فعل ذلك به. وقوله تعالى:" لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ" تقريب لما استبعده وإطماع في إسلامهم، ولما أطمع في ذلك قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (اللهم أغفر لقومي فإنهم لا يعلمون) كما في صحيح مسلم عن ابن مسعود قال: كأني أنظر إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحكي نبيا من الأنبياء ضربه قومه وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: (رب أغفر لقومي فإنهم

لا يعلمون (. قال علماؤنا: فالحاكي في حديث ابن مسعود هو الرسول عليه الصلاة والسلام، وهو المحكي عنه، بدليل ما قد جاء صريحا مبينا أنه عليه الصلاة والسلام لما كسرت رباعيته وشج وجهه يوم أحد شق ذلك على أصحابه شقا شديدا وقالوا: لو دعوت عليهم! فقال: (إني لم أبعث لعانا ولكني بعثت داعيا ورحمة، اللهم أغفر لقومي فإنهم لا يعلمون (. فكأنه عليه السلام أوحى إليه بذلك قبل وقوع قضية أحد، ولم يعلنه له ذلك النبي، فلما وقع له ذلك تعين أنه المعنى بذلك بدليل ما ذكرنا. ويبينه أيضا ما قاله عمر له في بعض كلامه: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! لقد دعا نوح على قومه فقال:" رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً" [نوح: 26] «1» الآية. ولو دعوت علينا مثلها لهلكنا من عند آخرنا، فقد وطئ ظهرك وأدمي وجهك وكسرت رباعيتك فأبيت أن تقول إلا خيرا، فقلت: (رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون). وقوله: (أشتد غضب الله على قوم كسروا رباعية نبيهم) يعني بذلك المباشر لذلك، وقد ذكرنا اسمه على اختلاف في ذلك، وإنما قلنا إنه خصوصي في المباشر، لأنه قد أسلم جماعة ممن شهد أحدا وحسن إسلامهم. الثانية- زعم بعض الكوفيين أن هذه الآية ناسخة للقنوت الذي كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يفعله بعد الركوع في الركعة الأخيرة من الصبح، واحتج بحديث ابن عمر أنه سمع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول في صلاة الفجر بعد رفع رأسه من الركوع فقال: (اللهم ربنا ولك الحمد في الآخرة- ثم قال- اللهم العن فلانا وفلانا) فأنزل الله عز وجل" لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ" الآية. أخرجه البخاري، وأخرجه مسلم أيضا من حديث أبي هريرة أتم منه. وليس هذا موضع نسخ وإنما نبه الله تعالى على نبيه على أن الامر ليس إليه، وأنه لا يعلم من الغيب شيئا إلا ما أعلمه، وأن الامر كله لله يتوب على من يشاء ويعجل العقوبة لمن يشاء. والتقدير: ليس لك من الامر شي ولله ما في السموات وما في الأرض دونك ودونهم يغفر لمن يشاء ويتوب على من يشاء. فلا نسخ، والله أعلم. وبين بقوله:" لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ" أن الأمور «2» بقضاء الله وقدره ردا على القدرية وغيرهم.
__________
(1). راجع ج 18 ص 312.
(2). في نسخة: هـ وب ود، وفى غيرها: الامر.

الثالثة- وأختلف العلماء في القنوت في صلاة الفجر وغيرها، فمنع الكوفيون منه في الفجر وغيرها. وهو مذهب الليث ويحيى بن يحيى الليثي الأندلسي صاحب مالك، وأنكره الشعبي. وفي الموطأ عن ابن عمر: أنه كان لا يقنت في شي من الصلاة. وروى النسائي أنبأنا قتيبة عن خلف عن أبي مالك الأشجعي عن أبيه قال: صليت خلف النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلم يقنت، وصليت خلف أبي بكر فلم يقنت، وصليت خلف عمر فلم يقنت، وصليت خلف عثمان فلم يقنت وصليت خلف علي فلم يقنت، ثم قال: يا بني إنها بدعة. وقيل: يقنت في الفجر دائما وفي سائر الصلوات إذا نزل بالمسلمين نازلة، قاله الشافعي والطبري. وقيل: هو مستحب في صلاة الفجر، وروي عن الشافعي. وقال الحسن وسحنون: إنه سنة. وهو مقتضى رواية علي بن زياد عن مالك بإعادة تاركه للصلاة عمدا. وحكى الطبري الإجماع على أن تركه غير مفسد للصلاة. وعن الحسن: في تركه سجود السهو، وهو أحد قولي الشافعي. وذكر الدارقطني عن سعيد ابن عبد العزيز فيمن نسي القنوت في صلاة الصبح قال: يسجد سجدتي السهو. واختار مالك قبل الركوع، وهو قول إسحاق. وروي أيضا عن مالك بعد الركوع، وروي عن الخلفاء الاربعة، وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق أيضا. وروى عن جماعة من الصحابة التخيير في ذلك. وروى الدارقطني بإسناد صحيح عن أنس أنه قال: ما زال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقنت في صلاة الغداة حتى فارق الدنيا. وذكر أبو داود في المراسيل عن خالد بن أبي عمران قال: بينا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعو على مضر إذ جاءه جبريل فاؤ ما إليه أن اسكت فسكت، فقال: (يا محمد إن الله لم يبعثك سبابا ولا لعانا وإنما بعثك رحمة ولم يبعثك عذابا، ليس لك من الامر شي أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون) قال: ثم علمه هذا القنوت فقال: (اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ونؤمن بك ونخنع «1» لك ونترك من يكفرك اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد وإليك نسعى ونحفد «2» ونرجو رحمتك ونخاف عذابك الجد إن عذابك بالكافرين ملحق «3»).
__________
(1). الخنوع: الخضوع والذل.
(2). الحقد (بفتح فسكون): الإسراع في العمل والخدمة.
(3). الرواية بكسر الحاء أي من نزل به عذابك ألحقه بالكفار. وقيل: هو بمعنى لا حق، لغة في لحق. ويروى بفتح الحاء على المفعول، أي إن عذابك يلحق بالكفاء ويصابون به. (عن ابن الأثير).

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132)

[سورة آل عمران (3): الآيات 130 الى 132]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132)
قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً) هذا النهي عن أكل الربا اعتراض بين أثناء قصة أحد. قال ابن عطية: ولا أحفظ في ذلك شيئا مرويا. قلت: قال مجاهد: كانوا يبيعون البيع إلى أجل، فإذا حل الأجل زادوا في الثمن على أن يؤخروا، فأنزل الله عز وجل:" يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً". [قلت ] «1» وإنما خص الربا من بين سائر المعاصي، لأنه الذي أذن الله فيه بالحرب في قوله:" فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ" [البقرة: 279] «2» والحرب يؤذن بالقتل، فكأنه يقول: إن لم تتقوا الربا هزمتم وقتلتم. فأمرهم بترك الربا، لأنه كان معمولا به عندهم. والله أعلم. و(أَضْعافاً) نصب علي الحال و(مُضاعَفَةً) نعته. وقرى" مضعفة" ومعناه: الربا الذي كانت العرب تضعف فيه الدين، فكان الطالب يقول: أتقضي أم تربي؟ كما تقدم في" البقرة". و(مُضاعَفَةً) إشارة إلى تكرار التضعيف عاما بعد عام كما كانوا يصنعون، فدلت هذه العبارة المؤكدة على شنعة فعلهم وقبحه، ولذلك ذكرت حالة التضعيف خاصة. قوله تعالى: (وَاتَّقُوا اللَّهَ أي في أموال الربا فلا تأكلوها. ثم خوفهم فقال:) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي قال كثير من المفسرين: وهذا الوعيد لمن أستحل الربا، ومن أستحل الربا فإنه يكفر [ويكفر] «3». وقيل: معناه اتقوا العمل الذي ينزع منكم الايمان فتستوجبون النار، لان من الذنوب ما يستوجب به صاحبه نزع الايمان ويخاف عليه، من ذلك عقوق الوالدين. وقد جاء في ذلك أثر: أن رجلا كان عاقا لوالديه يقال له علقمة، فقيل له عند الموت: قل لا إله إلا الله، فلم يقدر على ذلك حتى جاءته أمه فرضيت عنه. ومن ذلك قطيعة الرحم واكل الربا والخيانة
__________
(1). في هـ. [.....]
(2). راجع ج 3 ص 256.
(3). في د وه وفي ب: وبضر.

وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133)

في الأمانة. وذكر أبو بكر الوراق عن أبى حنيفة أنه قال: أكثر ما ينزع الايمان من العبد عند الموت. ثم قال أبو بكر: فنظرنا في الذنوب التي تنزع الايمان فلم نجد شيئا أسرع نزعا للايمان من ظلم العباد. وفي هذه الآية دليل على أن النار مخلوقة ردا على الجهمية، لان المعدوم لا يكون معدا. ثم قال: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ) [يعني أطيعوا الله ] «1» في الفرائض (وَالرَّسُولَ) في السنن: وقيل:" أَطِيعُوا اللَّهَ" في تحريم الربا" وَالرَّسُولَ" فيما بلغكم من التحريم. (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) أي كي يرحمكم الله. وقد تقدم «2».

[سورة آل عمران (3): آية 133]
وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133)
فيه مسألتان: الاولى- قوله تعالى: (وَسارِعُوا) قرأ نافع وابن عامر" سارِعُوا" بغير واو، وكذلك هي في مصاحف أهل المدينة وأهل الشام. وقرا باقي السبعة" وَسارِعُوا". وقال أبو علي: كلا الأمرين شائع «3» مستقيم، فمن قرأ بالواو فلانه عطف الجملة على الجملة، ومن ترك الواو فلان الجملة الثانية ملتبسة بالأولى مستغنية بذلك عن العطف بالواو. والمسارعة المبادرة، وهي مفاعلة. وفي الآية حذف. أي سارعوا إلى ما يوجب المغفرة وهي الطاعة. قال أنس ابن مالك ومكحول في تفسير (سارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ): معناه إلى تكبيرة الإحرام. وقال علي بن أبي طالب: إلى أداء الفرائض. عثمان بن عفان: إلى الإخلاص. الكلبي: إلى التوبة من الربا. وقيل: إلى الثبات في القتال. وقيل غير هذا. والآية عامة في الجميع، ومعناها معني"اسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ
" [البقرة: 148] وقد تقدم «4». الثانية- قوله تعالى: (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) تقديره كعرض فحذف المضاف، كقوله:" ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ" [لقمان: 28] «5» أي إلا كخلق نفس واحدة وبعثها. قال الشاعر:
__________
(1). في هـ.
(2). راجع ج 1 ص 227.
(3). في هـ: سائغ.
(4). راجع ج 2 ص 165.
(5). راجع ج 14 ص 78.

حسبت بغام راحلتي عناقا ... وما هي ويب غيرك بالعناق «1»
يريد صوت عناق. نظيره في سورة الحديد" وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ" [الحديد: 21] «2» واختلف العلماء في تأويله، فقال ابن عباس: تقرن السموات والأرض بعضها إلى بعض كما تبسط الثياب ويوصل بعضها ببعض، فذلك عرض الجنة، ولا يعلم طولها إلا الله. وهذا قول الجمهور، وذلك لا ينكر، فإن في حديث أبي ذر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (ما السموات السبع والأرضون السبع في الكرسي إلا كدراهم ألقيت في فلاة من الأرض وما الكرسي في العرش إلا كحلقة «3» ألقيت في فلاة من الأرض (. فهذه مخلوقات أعظم بكثير جدا من السموات والأرض، وقدرة الله أعظم من ذلك كله. وقال الكلبي: الجنان أربعة: جنة عدن وجنة المأوى وجنة الفردوس وجنة النعيم، وكل جنة منها كعرض السماء والأرض لو وصل بعضها ببعض. وقال إسماعيل السدي: لو كسرت السموات والأرض وصرن خردلا، فبكل خردلة جنة عرضها كعرض السماء والأرض. وفي الصحيح: (إن أدنى أهل الجنة منزلة من يتمنى ويتمنى حتى إذا انقطعت به الأماني قال الله تعالى: لك ذلك وعشرة أمثال) رواه أبو سعيد الخدري، خرجه مسلم وغيره. وقال يعلى بن أبي مرة: لقيت التنوخي رسول هرقل إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بحمص شيخا كبيرا قال: قدمت على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بكتاب هرقل، فناول الصحيفة رجلا عن يساره، قال: فقلت من صاحبكم الذي يقرأ؟ قالوا: معاوية، فإذا كتاب صاحبي: إنك كتبت تدعوني إلى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ فأين النار؟ فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (سبحان الله فأين الليل إذا جاء النهار). وبمثل هذه الحجة أستدل الفاروق على اليهود حين قالوا له: أرأيت قولكم" وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ" فأين النار؟ فقالوا له: لقد نزعت «4» بما في التوراة. ونبه تعالى بالعرض على الطول لان الغالب أن الطول يكون أكثر من العرض، والطول إذا ذكر لا يدل على قدر
__________
(1). بغام الناقة: صوت لا تفصح به. والعناق (بالفتح): الأنثى من المعز. وويب، بمعنى ويل. والبيت لذي الخرق الطهوي يخاطب ذئبا تبعه في طريقه. (عن اللسان).
(2). راجع ج 17 ص 254.
(3). في هـ: من حديد.
(4). نزعت بما في التوراة. جئت بما يشبهها.

العرض. قال الزهري: إنما وصف عرضها، فأما طولها فلا يعلمه إلا الله، وهذا كقول تعالى:" مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ" [الرحمن: 54] «1» فوصف البطانة بأحسن ما يعلم من الزينة، إذ معلوم أن الظواهر تكون أحسن واتقن من البطائن. وتقول العرب: بلاد عريضة، وفلاة عريضة، أي واسعة، قال الشاعر:
كأن بلاد الله وهي عريضة ... على الخائف المطلوب كفّة حابل «2»
وقال قوم: الكلام جار على مقطع العرب من الاستعارة، فلما كانت الجنة من الاتساع والانفساح في غاية قصوى حسنت العبارة عنها بعرض السموات والأرض، كما تقول للرجل: هذا بحر، ولشخص كبير من الحيوان: هذا جبل. ولم تقصد الآية تحديد العرض، ولكن «3» أراد بذلك أنها أوسع شي رأيتموه. وعامة العلماء على أن الجنة مخلوقة موجودة: لقوله" أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ" وهو نص حديث الاسراء وغيره في الصحيحين وغيرهما. وقالت المعتزلة: إنهما غير مخلوقتين في وقتنا، وإن الله تعالى إذا طوى السموات والأرض ابتدأ خلق الجنة والنار حيث شاء، لأنهما دار جزاء بالثواب والعقاب، فخلقتا بعد التكليف في وقت الجزاء، لئلا تجتمع دار التكليف ودار الجزاء في الدنيا، كما لم يجتمعا في الآخرة. وقال ابن فورك: الجنة يزاد فيها يوم القيامة. قال ابن عطية: وفي هذا متعلق لمنذر بن سعيد وغيره ممن قال: إن الجنة لم تخلق بعد. قال ابن عطية: وقول ابن فورك" يزاد فيها" إشارة إلى موجود، لكنه يحتاج إلى سند يقطع العذر في الزيادة. قلت: صدق ابن عطية رضي الله عنه فيما قال: وإذا كانت السموات السبع والأرضون السبع بالنسبة إلى الكرسي كدراهم ألقيت في فلاة من الأرض، والكرسي بالنسبة إلى العرش كحلقة ملقاة بأرض فلاة، فالجنة ألان على ما هي عليه في الآخرة عرضها كعرض السموات والأرض، إذ العرش سقفها، حسب ما ورد في صحيح مسلم. ومعلوم أن السقف يحتوي على ما تحته ويزيد. وإذا كانت المخلوقات كلها بالنسبة إليه كالحلقة فمن ذا الذي يقدره ويعلم طوله وعرضه إلا الله خالقه الذي لا نهاية لقدرته «4»، ولا غاية لسعة مملكته، سبحانه وتعالى.
__________
(1). راجع ج 17 ص 179.
(2). الكفة (بالكسر): ما يصاد به الظباء، يجعل كالطوق.
(3). في د وهـ: ولكنه يراد. [.....]
(4). في د وب وهـ: لمقدوراته.

الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)

[سورة آل عمران (3): آية 134]
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)
فيه أربع مسائل: الاولى- قوله تعالى: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ) هذا من صفة المتقين الذين أعدت لهم الجنة، وظاهر الآية أنها مدح بفعل المندوب إليه. و(السَّرَّاءِ) اليسر (وَالضَّرَّاءِ) العسر، قاله ابن عباس والكلبي ومقاتل. وقال عبيد بن عمير والضحاك: السراء والضراء الرخاء والشدة. ويقال في حال الصحة والمرض. وقيل: في السراء في الحياة، وفي الضراء يعني يوصي بعد الموت. وقيل: في السراء في العرس والولائم، وفي الضراء في النوائب والمأتم. وقيل: في السراء النفقة التي تسركم، مثل النفقة على الأولاد والقرابات، والضراء على الاعداء. ويقال: في السراء ما يضيف به الفتى «1» ويهدي إليه. والضراء ما ينفقه على أهل الضر ويتصدق به عليهم. قلت:- والآية تعم. ثم قال تعالى: (وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ) وهى المسألة: الثانية- وكظم الغيظ رده في الجوف، يقال: كظم غيظه أي سكت عليه ولم يظهره مع قدرته على إيقاعه بعدوه، وكظمت السقاء أي ملائه وسددت عليه، والكظامة ما يسد به مجرى الماء، ومنه الكظام للسير الذي يسد به فم الزق والقربة. وكظم البعير جرته «2» إذا ردها في جوفه، وقد يقال لحبسه الجرة قبل أن يرسلها إلى فيه: كظم، حكاه الزجاج. يقال: كظم البعير والناقة إذا لم يجترا، ومنه قول الراعي:
فأفضن بعد كظومهن بجرة ... من ذي الأبارق «3» إذ رعين حقيلا
الحقيل: موضع. والحقيل: نبت. وقد قيل: إنها تفعل ذلك عند الفزع والجهد فلا تجتر، قال أعشى باهلة يصف رجلا نحارا للإبل فهي تفزع منه:
قد تكظم البزل «4» منه حين تبصره ... حتى تقطع في أجوافها الجرر
__________
(1). في د، وز: الغنى.
(2). الجرة (بالكسر): ما يخرجه البعير من بطنه ليمضغه ثم يبلعه.
(3). في ب وهـ ود: ذى الأباطح.
(4). ليزل (بضم فسكون): جمع بازل، وهى البعير الذي كملت قوته ودخل في التاسعة وفطر نابه.

ومنه: رجل كظيم ومكظوم إذا كان ممتلئا غما وحزنا. وفي التنزيل:" وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ" [يوسف:] «1»." ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ" [النحل: [." إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ" [القلم: [. والغيظ أصل الغضب، وكثيرا ما يتلازمان لكن فرقان ما بينهما، أن الغيظ لا يظهر على الجوارح، بخلاف الغضب فإنه يظهر في الجوارح مع فعل ما لأبد، ولهذا جاء «2» إسناد الغضب إلى الله تعالى إذ هو عبارة عن أفعاله في المغضوب عليهم. وقد فسر بعض الناس الغيظ بالغضب، وليس بجيد. والله أعلم. الثالثة- قوله تعالى: (وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ) العفو عن الناس أجل ضروب فعل الخير، حيث يجوز للإنسان أن يعفو وحيث يتجه حقه. وكل من استحق عقوبة فتركت له فقد عفي عنه. واختلف في معنى" عَنِ النَّاسِ"، فقال أبو العالية والكلبي والزجاج:" وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ" يريد عن المماليك. قال ابن عطية: وهذا حسن على جهه المثال، إذ هم الخدمة فهم يذنبون كثيرا والقدرة عليهم متيسرة، وإنفاذ العقوبة سهل، فلذلك مثل هذا المفسر به. وروي عن ميمون بن مهران أن جاريته جاءت ذات يوم بصحفة فيها مرقة حارة، وعنده أضياف فعثرت فصبت المرقة عليه، فأراد ميمون أن يضربها، فقالت الجارية: يا مولاي، استعمل قول الله تعالى:" وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ". قال لها: قد فعلت. فقالت: أعمل بما بعده" وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ". فقال: قد عفوت عنك. فقالت الجارية:" وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ". قال ميمون: قد أحسنت إليك، فأنت حرة لوجه الله تعالى. وروي عن الأحنف بن قيس مثله. وقال زيد ابن سلم:" وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ" عن ظلمهم وإساءتهم «3». وهذا عام، وهو ظاهر الآية. وقال مقاتل بن حيان في هذه الآية: بلغنا أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال عند ذلك: (إن هؤلاء من أمتي قليل إلا من عصمه الله وقد كانوا كثيرا في الأمم التي مضت). فمدح الله تعالى الذين يغفرون عند الغضب وأثنى عليهم فقال:" وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ" [الشورى: 37] «4»، وأثنى على الكاظمين الغيظ بقوله:" وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ"، وأخبر أنه يحبهم بإحسانهم في ذلك. ووردت في كظم الغيظ والعفو عن الناس وملك النفس عند الغضب أحاديث، وذلك من
__________
(1). راجع ج 9 ص 247 وج 10 ص 116 وج 18 ص 252.
(2). في د: جاز.
(3). في هـ: عمن ظلمهم وأساء إليهم.
(4). راجع ج 16 ص 35.

أعظم العبادة وجهاد النفس، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ليس الشديد بالصرعة «1» ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب). وقال عليه السلام (ما من جرعة يتجرعها العبد خير له وأعظم أجرا من جرعة غيظ في الله). وروى أنس أن رجلا قال: يا رسول الله، ما أشد من كل شي؟ قال: (غضب الله). قال فما ينجي من غضب الله؟ قال: (لا تغضب). قال العرجي:
وإذا غضبت فكن وقورا كاظما ... للغيظ تبصر ما تقول وتسمع
فكفى به شرفا تبصر ساعة ... يرضى بها عنك الإله وترفع
وقال عروة بن الزبير في العفو:
لن يبلغ المجد أقوام وإن شرفوا ... حتى يذلوا وإن عزوا لأقوام
ويشتموا فترى الألوان مشرقة ... لا عفو ذل ولكن عفو إكرام

وروى أبو داود وأبو عيسى الترمذي عن سهل بن معاذ بن أنس الجهني عن أبيه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (من كظم غيظا وهو يستطيع أن ينفذه دعاه الله يوم القيامة على رءوس الخلائق حتى يخيره في أي الحور شاء) قال: هذا حديث حسن غريب. وروى أنس عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: (إذا كان يوم القيامة نادى مناد من كان أجره على الله فليدخل الجنة فيقال من ذا الذي أجره على الله فيقوم العافون عن الناس يدخلون الجنة بغير حساب (. ذكره الماوردي. وقال ابن المبارك: كنت عند المنصور جالسا فأمر بقتل رجل، فقلت: يا أمير المؤمنين، قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إذا كان يوم القيامة نادى مناد بين يدي الله عز وجل من كانت له يد عند الله فليتقدم فلا يتقدم إلا من عفا عن ذنب (، فأمر بإطلاقه. الرابعة- قوله تعالى:) وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ أي يثيبهم على إحسانهم. قال سري السقطي: الإحسان أن تحسن وقت الإمكان، فليس كل وقت يمكنك الإحسان، قال الشاعر:
__________
(1). الصرعة (بضم الصاد وفتح الراء): المبالغ في الصراع الذي لا يغلب، فنقله إلى الذي يغلب نفسه عند الغضب ويقهرها.

وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135)

بادر بخير إذا ما كنت مقتدرا ... فليس في كل وقت أنت مقتدر
وقال أبو العباس الجماني فأحسن:
ليس في كل ساعة وأوان ... تتهيأ صنائع الإحسان
وإذا أمكنت فبادر إليها ... حذرا من تعذر الإمكان
وقد مضى في" البقرة" «1» القول في المحسن والإحسان فلا معنى للإعادة.

[سورة آل عمران (3): آية 135]
وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135)
فيه سبع مسائل: الاولى- قوله تعالى: (وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) ذكر الله تعالى في هذه الآية صنفا، هم دون الصنف الأول فألحقهم به «2» برحمته ومنه، فهؤلاء هم التوابون. قال ابن عباس في رواية عطاء: نزلت هذه الآية في نبهان التمار- وكنيته أبو مقبل- أتته امرأة حسناء باع منها تمرا، فضمها إلى نفسه وقبلها فندم «3» على ذلك، فأتى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فذكر ذلك له، فنزلت هذه الآية. وذكر أبو داود الطيالسي في مسنده عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: حدثني أبو بكر- وصدق أبو بكر- أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (ما من عبد يذنب ذنبا ثم يتوضأ ويصلي ركعتين ثم يستغفر الله إلا غفر له- ثم تلا هذه الآية-" وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ" الآية، والآية الأخرى- ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه [النساء: 110] «4». وخرجة الترمذي وقال: حديث حسن. وهذا عام. وقد تنزل الآية بسبب خاص ثم تتناول جميع من فعل ذلك أو أكثر منه. وقد قيل: إن سبب نزولها أن ثقفيا خرج في غزاة وخلف صاحبا له أنصاريا على أهله، فخانه فيها بأن
__________
(1). راجع ج 1 ص 415.
(2). في ابن عطية: بهم.
(3). في ب ود وهـ: ثم.
(4). راجع ج 5 ص 380. [.....]

اقتحم عليها فدفعت عن نفسها فقبل يدها، فندم «1» على ذلك فخرج يسيح في الأرض نادما تائبا، فجاء الثقفي فأخبرته زوجته بفعل صاحبه، فخرج في طلبه فأتى به إلى أبي بكر وعمر رجاء أن يجد عندهما فرجا فوبخاه، فأتى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبره بفعله، فنزلت هذه الآية. والعموم أولى للحديث. وروي عن ابن مسعود أن الصحابة قالوا: يا رسول الله، كانت بنو إسرائيل أكرم على الله منا، حيث كان المذنب منهم تصبح عقوبته [مكتوبة] «2» على باب داره، وفي رواية: كفارة ذنبه مكتوبة على عتبة داره: أجدع أنفك، أقطع أذنك، أفعل كذا، فأنزل الله تعالى هذه الآية توسعة ورحمة وعوضا من ذلك الفعل ببني إسرائيل. ويروى أن إبليس بكى حين نزلت هذه الآية. والفاحشة تطلق على كل معصية، وقد كثر اختصاصها بالزنا حتى فسر جابر بن عبد الله والسدي هذه الآية بالزنا. و" أَوْ" في قوله:" أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ" قيل هي بمعنى الواو، والمراد ما دون الكبائر. (ذَكَرُوا اللَّهَ) معناه بالخوف من عقابه والحياء منه. الضحاك: ذكروا العرض الأكبر على الله. وقيل تفكروا في أنفسهم أن الله سائلهم عنه، قاله الكلبي ومقاتل. وعن مقاتل أيضا: ذكروا الله باللسان عند الذنوب. (فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ) أي طلبوا الغفران لأجل ذنوبهم. وكل دعاء فيه هذا المعنى أو لفظه فهو استغفار. وقد تقدم في صدر هذه السورة «3» سيد الاستغفار، وأن وقته الأسحار. فالاستغفار عظيم وثوابه جسيم، حتى لقد روى الترمذي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: (من قال استغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه غفر له. وإن كان قد فر من الزحف (. وروى مكحول عن أبي هريرة قال: ما رأيت أكثر استغفارا من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقال مكحول: ما رأيت أكثر استغفارا من أبي هريرة. وكان مكحول كثير الاستغفار. قال علماؤنا: الاستغفار المطلوب هو الذي يحل عقد الإصرار ويثبت معناه في الجنان، لا التلفظ باللسان. فأما من قال بلسانه: استغفر الله، وقلبه مصر على معصيته فاستغفاره ذلك يحتاج إلى استغفار، وصغيرته لاحقة بالكبائر. وروي عن الحسن البصري أنه قال: استغفارنا يحتاج إلى استغفار.
__________
(1). في ب ود وهـ: ثم.
(2). كذا في ابن عطية، وهى الرواية.
(3). راجع ص 38.

قلت: هذا يقوله في زمانه، فكيف في زماننا هذا الذي يرى فيه الإنسان مكبا على الظلم! حريصا عليه لا يقلع، والسبحة في يده زاعما أنه يستغفر الله من ذنبه وذلك استهزاء منه واستخفاف. وفي التنزيل" وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً" [البقرة: 231]. وقد تقدم «1». الثانية- قوله تعالى: (وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ) أي ليس أحد يغفر المعصية ولا يزيل عقوبتها إلا الله. (وَلَمْ يُصِرُّوا) أي ولم يثبتوا ويعزموا على ما فعلوا. وقال مجاهد: أي ولم يمضوا. وقال معبد بن صبيح: صليت خلف عثمان وعلي إلى جانبي، فأقبل علينا فقال: صليت بغير وضوء ثم ذهب فتوضأ وصلي. (وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ). الإصرار هو العزم بالقلب على الامر وترك الإقلاع عنه. ومنه صر الدنانير أي الربط عليها، قال الحطيئة يصف الخيل:
عوابس بالشعث الكماة إذا ابتغوا ... علالتها بالمحصدات «2» أصرت
أي ثبتت على عدوها. وقال قتادة: الإصرار الثبوت على المعاصي، قال الشاعر:
يصر بالليل ما تخفي شواكله «3» ... يا ويح كل مصر القلب ختار «4»
قال سهل بن عبد الله: الجاهل ميت، والناسي نائم، والعاصي سكران، والمصر هالك، والإصرار هو التسويف، والتسويف أن يقول: أتوب غدا، وهذا دعوى النفس، كيف يتوب غدا وغدا لا يملكه!. وقال غير سهل: الإصرار هو أن ينوي أن يتوب فإذا نوى التوبة [النصوح ] «5» خرج عن الإصرار. وقول سهل أحسن. وروي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: (لا توبة مع إصرار). الثالثة- قال علماؤنا: الباعث على التوبة وحل الإصرار إدامة الفكر في كتاب الله العزيز الغفار، وما ذكره الله سبحانه من تفاصيل الجنة ووعد به المطيعين، وما وصفه من
__________
(1). راجع ج 1 ص 446 وج 3 ص 156.
(2). العلالة (بالضم): بقية جرى الفرس، والمحصدات: السباط المفتولة.
(3). الشواكل: الطرق المنشعبة عن الطريق الأعظم.
(4). الختر: شبيه بالغدر والخديعة. وقيل: هو أسوأ الغدر وأقبحه، و" اخْتارَ" للبالغة
(5). في ب ود.

عذاب النار وتهدد به العاصين، ودام على ذلك حتى قوي خوفه ورجاؤه فدعا الله رغبا ورهبا، والرغبة والرهبة ثمرة الخوف والرجاء، يخاف من العقاب ويرجو الثواب، والله الموفق للصواب. وقد قيل: إن الباعث على ذلك تنبيه إلهي ينبه به من أراد سعادته، لقبح الذنوب وضررها إذ هي سموم مهلكة. قلت: وهذا خلاف في اللفظ لا في المعنى، فإن الإنسان لا يتفكر في وعد الله ووعيده إلا بتنبيهه، فإذا نظر العبد بتوفيق الله تعالى إلى نفسه فوجدها مشحونة بذنوب اكتسبها وسيئات اقترفها، وانبعث منه الندم على ما فرط، وترك مثل ما سبق مخافة عقوبة الله تعالى صدق عليه أنه تائب، فإن لم يكن كذلك كان مصرا على المعصية وملازما لأسباب الهلكة. قال سهل بن عبد الله: علامة التائب أن يشغله الذنب على الطعام والشراب، كالثلاثة الذين خلفوا «1». الرابعة- قوله تعالى: (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) فيه أقوال. فقيل: أي يذكرون ذنوبهم فيتوبون منها. قال النحاس: وهذا قول حسن. وقيل:" وَهُمْ يَعْلَمُونَ" أني أعاقب على الإصرار. وقال عبد الله بن عبيد بن عمير:" وَهُمْ يَعْلَمُونَ" أنهم إن تابوا تاب الله عليهم. وقيل:" يَعْلَمُونَ" أنهم إن استغفروا غفر لهم. وقيل:" يَعْلَمُونَ" بما حرمت عليهم، قاله ابن إسحاق. وقال ابن عباس والحسن ومقاتل والكلبي:" وَهُمْ يَعْلَمُونَ" أن الإصرار ضار، وأن تركه خير من التمادي. وقال الحسن بن الفضل:" وَهُمْ يَعْلَمُونَ" أن لهم ربا يغفر الذنب. قلت: وهذا أخذه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما يحكي عن ربه عز وجل قال: (أذنب عبدا «2» ذنبا فقال اللهم اغفر لي ذنبي فقال تبارك وتعالى أذنب عبدي ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب ثم عاد فأذنب فقال أي رب اغفر لي ذنبي- فذكر مثله مرتين، وفي آخره: اعمل ما شئت فقد غفرت لك) أخرجه مسلم.
__________
(1). هم كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيعة. تخلفوا عن الخروج مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غزوة تبوك، فلما رجع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لأصحابه (لا تكلمن أحدا من هؤلاء الثلاثة) إلى أن نزل فيهم قوله تعالى:" وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا ..." راجع ج 8 ص 281، وسيرة ابن هشام ص 893 طبع أوربا.
(2). في هـ: عبدي. والثابت هو ما في مسلم.

وفية دليل على صحة التوبة بعد نقضها بمعاودة الذنب، لان التوبة الاولى طاعة وقد انقضت وصحت، وهو محتاج بعد مواقعة الذنب الثاني إلى توبة أخرى مستأنفة، والعود إلى الذنب وإن كان أقبح من ابتدائه، لأنه أضاف «1» إلى الذنب نقض التوبة، فالعود إلى التوبة أحسن من ابتدائها، لأنه أضاف «2» إليها ملازمة الإلحاح بباب الكريم، وأنه لا غافر للذنوب سواه. وقوله في أخر الحديث (اعمل ما شئت) أمر معناه الإكرام في أحد الأقوال، فيكون من باب قوله:" ادْخُلُوها بِسَلامٍ" [الحجر: 46] «3». وآخر الكلام خبر «4» عن حال المخاطب بأنه مغفور له ما سلف من ذنبه، ومحفوظ إن شاء الله تعالى فيما يستقبل من شأنه. ودلت الآية والحديث على عظيم فائدة الاعتراف بالذنب والاستغفار منه، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب إلى الله تاب الله عليه) أخرجاه في الصحيحين. وقال:
يستوجب العفو الفتى إذا اعترف ... بما جنى من الذنوب واقترف
وقال آخر:
أقرر بذنبك ثم اطلب تجاوزه ... إن الجحود جحود الذنب ذنبان
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون ويستغفرون فيغفر لهم (. وهذه فائدة اسم الله تعالى الغفار والتواب، على ما بيناه في الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى. الخامسة- الذنوب التي يتاب منها إما كفر أو غيره، فتوبة الكافر إيمانه مع ندمه على ما سلف من كفره، وليس مجرد الايمان نفس توبة، وغير الكفر إما حق لله تعالى، وإما حق لغيره، فحق الله تعالى يكفي في التوبة منه الترك، غير أن منها ما لم يكتف الشرع فيها بمجرد الترك بل أضاف إلى ذلك في بعضها قضاء كالصلاة والصوم، ومنها ما أضاف إليها كفارة كالحنث في الايمان والظهار وغير ذلك، وأما حقوق الأدميين فلا بد من إيصالها إلي مستحقيها، فإن لم يوجدوا تصدق عنهم، ومن لم يجد السبيل لخروج ما عليه لاعسار فعفو الله مأمول، وفضله مبذول، فكم ضمن من التبعات وبدل من السيئات بالحسنات. وستأتي زيادة بيان لهذا المعنى «5».
__________
(1). في ب ود وهـ: انضاف.
(2). في ب ود وهـ: انضاف.
(3). راجع ج 10 ص 32، وج 17 ص 21.
(4). في أوح: أخبر. [.....]
(5). راجع ج 13 ص 77.

السادسة: ليس على الإنسان إذا لم يذكر ذنبه ويعلمه أن يتوب منه بعينه، ولكن يلزمه إذا ذكر ذنبا تاب منه. وقد تأول كثير من الناس فيما ذكر شيخنا أبو محمد عبد المعطي الإسكندراني رضي الله عنه أن الامام المحاسبي رحمه الله يرى أن التوبة من أجناس المعاصي لا تصح، وأن الندم على جملتها لا يكفي، بل لأبد أن يتوب من كل فعل بجارحته وكل عقد بقلبه على التعيين. ظنوا ذلك من قوله، وليس هذا مراده، ولا يقتضيه كلامه، بل حكم المكلف إذا عرف حكم أفعاله، وعرف المعصية من غيرها، صحت منه التوبة من جملة ما عرف، فإنه إن لم يعرف كون فعله الماضي معصية لا يمكنه أن يتوب منه لا على الجملة ولا على التفصيل، ومثاله رجل كان يتعاطى بابا من أبواب الربا ولا يعرف أنه ربا فإذا سمع كلام الله عز وجل:" يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ" [البقرة: 279] «1» عظم عليه هذا التهديد، وظن أنه سالم من الربا، فإذا علم حقيقة الربا ألان، ثم تفكر فيما مضى من أيامه وعلم أنه لابس منه شيئا كثيرا في أوقات متقدمة، صح أن يندم عليه ألان جملة، ولا يلزمه تعيين أوقاته، وهكذا كل ما واقع من الذنوب والسيئات كالغيبة والنميمة وغير ذلك من المحرمات التي لم يعرف كونها محرمة، فإذا فقه العبد وتفقد ما مضى من كلامه تاب من ذلك جملة، وندم على ما فرط فيه من حق الله تعالى، وإذا استحل من كان ظلمه فحالله على الجملة وطابت نفسه بترك حقه جاز، لأنه من باب هبة المجهول، هذا مع شح العبد وحرصه على طلب حقه، فكيف بأكرم الأكرمين المتفضل بالطاعات وأسبابها والعفو عن المعاصي صغارها وكبارها. قال شيخنا رحمه الله تعالى: هذا مراد الامام، والذي يدل عليه كلامه لمن تفقده، وما ظنه به الظان من أنه لا يصح الندم إلا على فعل فعل وحركة حركة وسكنة سكنة على التعيين هو من باب تكليف مالا يطاق، الذي لم يقع شرعا وإن جاز عقلا، ويلزم عنه أن يعرف كم جرعة جرعها في شرب الخمر، وكم حركة تحركها في الزنا، وكم خطوة مشاها إلى محرم، وهذا مالا يطيقه أحد، ولا تتأتى منه توبة على التفصيل. وسيأتي لهذا الباب مزيد بيان من أحكام التوبة وشروطها في" النساء" «2» وغيرها إن شاء الله تعالى.
__________
(1). راجع ج 3 ص 362.
(2). راجع ج 5 ص 90 وج 11 ص 231، وج 231 وج 13 ص 238.

أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136)

السابعة- في قوله تعالى: (وَلَمْ يُصِرُّوا) حجة واضحة ودلالة قاطعة لما قال سيف السنة، ولسان الامة القاضي أبو بكر بن الطيب: أن الإنسان يؤاخذ بما وطن عليه بضميره «1»، وعزم عليه بقلبه من المعصية. قلت: وفي التنزيل:" وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ" [الحج: 25] «2» وقال:" فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ" [القلم: 20] «3»
. فعوقبوا قبل فعلهم بعزمهم وسيأتي بيانه. وفي البخاري (إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار) قالوا: يا رسول الله هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: (إنه كان حريصا على قتل صاحبه). فعلق الوعيد على الحرص وهو العزم وألغى إظهار السلاح، وأنص من هذا ما خرجه الترمذي من حديث أبي كبشة الأنماري وصححه مرفوعا (إنما الدنيا لأربعة نفر رجل أعطاه الله مالا وعلما فهو يتقي فيه ربه ويصل فيه رحمه ويعلم الله فيه حقا فهذا أفضل المنازل، ورجل آتاه الله علما ولم يؤته مالا فهو [صادق النية] «4» يقول لو أن لي مالا لعملت فيه بعمل فلان فهو نيته فأجرهما سواء، ورجل آتاه الله مالا ولم يؤته علما فهو [يخبط في مال بغير علم ] «5» لا يتقي فيه ربه ولا يصل به رحمه ولا يعلم لله فيه حقا فهذا بأخبث المنازل، ورجل لم يؤته الله مالا ولا علما فهو يقول لو أن مالا لعملت فيه بعمل فلان فهو نيته فوزرهما سواء (. وهذا الذي صار إليه القاضي هو الذي عليه عامة السلف وأهل العلم من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين، ولا يلتفت إلى خلاف من زعم أن ما يهم الإنسان به وإن وطن عليه «6» لا يؤاخذ به. ولا حجة [له ] «7» في قول عليه السلام: (من هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه فإن عملها كتبت سيئة واحدة) لان معنى (فلم يعملها) فلم يعزم على عملها بدليل ما ذكرنا، ومعنى (فإن عملها) أي أظهرها أو عزم عليها بدليل ما وصفنا. وبالله توفيقنا.

[سورة آل عمران (3): آية 136]
أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (136)
رتب تعالى بفضله وكرمه غفران الذنوب لمن أخلص في توبته ولم يصر على ذنبه. ويكن أن يتصل هذا بقصة أحد، أي من فر ثم تاب ولم يصر فله مغفرة الله.
__________
(1). في أوح وطن عليه ضميره، وعلى ما أثبت يقدر المعمول.
(2). راجع ج 12 ص 34.
(3). راجع ج 18 ص 241.
(4). زيادة عن سنن الترمذي.
(5). زيادة عن سنن الترمذي.
(6). المعمول محذوف في كل الأصول، وتقديره في قوله القاضي السابق.
(7). في هـ.

قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137)

[سورة آل عمران (3): آية 137]
قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137)
هذا تسلية من الله تعالى للمؤمنين، والسنن جمع سنة وهي الطريق المستقيم. وفلان على السنة أي على طريق الاستواء لا يميل إلى شي من الاهواء، قال الهذلي:
فلا تجزعن من سنة أنت سرتها ... فأول راض سنة من يسيرها
والسنة: الامام المتبع المؤتم به، يقال: سن فلان سنة حسنة وسيئة إذا عمل عملا اقتدي به فيه من خير أو شر، قال لبيد:
من معشر سنت لهم آباؤهم ... ولكل قوم سنة وإمامها
والسنة الامة، والسنن الأمم، عن المفضل. وأنشد:
ما عاين الناس من فضل كفضلهم ... ولا رأوا مثلهم في سالف السنن
وقال الزجاج: والمعنى أهل سنن، فحذف المضاف. وقال أبو زيد: أمثال. عطاء: شرائع. مجاهد: المعنى" قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ" يعنى بالهلاك فيمن كذب قبلكم كعاد وثمود. والعاقبة: آخر الامر، وهذا في يوم أحد. يقول فأنا أمهلهم وأملي لهم واستدرجهم حتى يبلغ الكتاب أجله، يعني بنصرة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمؤمنين وهلاك أعدائهم الكافرين.

[سورة آل عمران (3): آية 138]
هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138)
يعني القرآن، عن الحسن وغيره. وقيل: هذا إشارة إلى قوله:" قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ". والموعظة الوعظ. وقد تقدم.

[سورة آل عمران (3): آية 139]
وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139)
عزاهم وسلاهم بما نالهم يوم أحد من القتل والجراح، وحثهم على قتال عدوهم ونهاهم عن العجز والفشل فقال (وَلا تَهِنُوا) أي لا تضعفوا ولا تجبنوا يا أصحاب محمد عن جهاد أعدائكم لما أصابكم.

إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140)

أصابكم." وَلا تَحْزَنُوا" على ظهورهم، ولا على ما أصابكم من الهزيمة والمصيبة." وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ" أي لكم تكون العاقبة بالنصر والظفر" إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ" أي بصدق وعدي. وقيل:" إِنْ" بمعنى" إذ". قال ابن عباس: انهزم أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم أحد فبيناهم كذلك إذ أقبل خالد بن الوليد بخيل، من المشركين، يريد أن يعلو عليهم الجبل، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" اللهم لا يعلن علينا اللهم لا قوة لنا إلا بك اللهم ليس يعبدك بهذه البلدة غير هؤلاء النفر (. فأنزل الله هذه الآيات. وثاب «1» نفر من المسلمين رماه فصعدوا الجبل ورموا خيل المشركين حتى هزموهم، فذلك قوله تعالى:" وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ" يعني الغالبين على الاعداء بعد أحد. فلم يخرجوا بعد ذلك عسكرا إلا ظفروا في كل عسكر كان في عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفي كل عسكر كان بعد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكان فيه واحد من الصحابة كان الظفر لهم، وهذه البلدان كلها إنما افتتحت على عهد أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم بعد انقراضهم ما افتتحت بلدة على الوجه كما كانوا يفتتحون في ذلك الوقت. وفي هذه الآية بيان فضل هذه الامة، لأنه خاطبهم بما خاطب به أنبياءه، لأنه قال لموسى:" إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى " [طه: 68] «2» وقال لهذه الامة:" وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ". وهذه اللفظة مشتقة من اسمه الأعلى فهو سبحانه العلي، وقال للمؤمنين:" وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ".

[سورة آل عمران (3): آية 140]
إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140)
قوله تعالى: (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ) القرح الجرح. والضم والفتح فيه لغتان عن الكسائي والأخفش، مثل عقر «3» وعقر. الفراء: هو بالفتح الجرح، وبالضم ألمه. والمعنى: إن يمسسكم يوم أحد قرح فقد مس القوم يوم بدر قرح مثله. وقرأ محمد بن السميقع" قرح" بفتح
__________
(1). في ح وأ: بات.
(2). راجع ج 11 ص 223.
(3). في الأصول:" قفر وقفر" وهو تحريف.

القاف والراء على المصدر. (وتلك الأيام نداولها بين الناس) قيل: هذا في الحرب، تكون مرة للمؤمنين لينصر الله عز وجل دينه، ومرة للكافرين إذا عصى المؤمنون ليبتليهم ويمحص ذنوبهم، فأما إذا لم يعصوا فإن حزب الله هم الغالبون. وقيل:" نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ" من فرح وغم وصحة وسقم وغنى وفقر. والدولة الكرة، قال الشاعر:
فيوم لنا ويوم علينا ... ويوم نساء ويوم نسر
قوله تعالى: (وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا) معناه، وإنما كانت هذه المداولة ليرى المؤمن من المنافق فيميز بعضهم من بعض، كما قال:" وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ. وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا" [آل عمران: 167- 166] «1». وقيل: ليعلم صبر المؤمنين، العلم الذي يقع عليه الجزاء كما علمه غيبا قبل أن كلفهم. وقد تقدم في" البقرة" «2» هذا المعنى. قوله تعالى: (وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ) فيه ثلاث مسائل: الاولى- قوله تعالى:" وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ" أي يكرمكم بالشهادة، أي ليقتل قوم فيكونوا شهدا على الناس بأعمالهم. وقيل: لهذا قيل شهيد: وقيل: سمي شهيدا لأنه مشهود له بالجنة وقيل: سمي شهيدا لان أرواحهم احتضرت «3» دار السلام، لأنهم أحياء عند ربهم، وأرواح غيرهم لا تصل إلى الجنة، فالشهيد بمعنى الشاهد أي الحاضر للجنة، وهذا هو الصحيح على ما يأتي والشهادة فضلها عظيم، ويكفيك في فضلها قول تعالى:" إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ" [التوبة: 111] «4» الآية." يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ. تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ" إلى قوله:" ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ" [الصف: 112 101] «5». وفي صحيح البستي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ما يجد الشهيد من القتل إلا كما يجد أحدكم من القرحة). وروى النسائي عن راشد بن سعد عن رجل من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن رجلا قال: يا رسول الله، ما بال المؤمنين يفتنون في قبورهم إلا الشهيد؟ قال: (كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة). وفي البخاري:" من قتل من المسلمين
__________
(1). راجع ص 265 من هذا الجزء. [.....]
(2). راجع ج 2 ص 156.
(3). في ب، د، آه: أحضرت.
(4). راجع ج 8 ص 266.
(5). راجع ج 18 ص 86.

وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141)

يوم أحد" منهم حمزة واليمان والنضر «1» بن أنس ومصعب بن عمير، حدثني عمرو بن علي أن معاذ ابن هشام قال حدثني أبي عن قتادة قال: ما نعلم حيا من أحياء العرب أكثر شهيدا أعز يوم القيامة من الأنصار. قال قتادة: وحدثنا أنس بن مالك أنه قتل منهم يوم أحد سبعون، ويوم بئر معونة سبعون، ويوم اليمامة سبعون. قال: وكان بئر معونة على عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويوم اليمامة على عهد أبى بكر يوم مسيلمة الكذاب. وقال أنس: أتى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعلى بن أبى طالب وبه نيف وستون جراحة من طعنة وضربة ورمية، فجعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يمسحها وهى تلتئم بإذن الله تعالى كأن لم تكن. الثانية- في قوله تعالى:" وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ" دليل على أن الإرادة غير الامر كما يقوله أهل السنة، إن الله تعالى نهى الكفار عن قتل المؤمنين: حمزة وأصحابه وأراد قتلهم، ونهى آدم عن أكل الشجرة وأراده فواقعه آدم، وعكسه أنه أمر إبليس بالسجود ولم يرده فامتنع منه، وعنه وقعت الإشارة بقوله الحق:" وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ «2»". وإن كان قد أمر جميعهم بالجهاد، ولكنه خلق الكسل والأسباب القاطعة عن المسير فقعدوا. الثالثة- روي عن علي «3»؟ بن أبي طالب رضي الله عنه قال: جاء جبريل إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم بدر فقال له: (خير أصحابك في الأسارى إن شاءوا القتل وإن شاءوا الفداء على أن يقتل منهم عام المقبل مثلهم فقالوا الفداء ويقتل منا) أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن. فأنجز الله وعده بشهادة أوليائه بعد أن خيرهم فاختاروا القتل. (وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) أي المشركين، أي وإن أنال «4» الكفار من المؤمنين فهو لا يحبهم، وإن أحل ألما بالمؤمنين فإنه يحب المؤمنين.

[سورة آل عمران (3): آية 141]
وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ (141)
__________
(1). الذي في شرح القسطلاني على صحيح البخاري:" وأنس بن النضر، وهو عم أنس بن مالك كما ذكره أبو نعيم وابن عبد البر وغيرهما. ولابي ذر" النضر بن أنس" وهو خطأ، والصواب الأول".
(2). راجع ج 8 ص 156.
(3). في ب ود وهـ: روى على.
(4). في هـ ود: أدال.

أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142)

فيه ثلاثة أقوال: يمحص: يختبر. الثاني- يطهر، أي من ذنوبهم فهو على حذف مضاف. المعنى: وليمحص الله ذنوب الذين آمنوا، قاله الفراء. الثالث- يمحص يخلص، فهذا أغربها. قال الخليل: يقال محصى الحبل يمحص محصا إذا انقطع وبره، ومنه (اللهم محص عنا ذنوبنا) أي خلصنا من عقوبتها. وقال أبو إسحاق الزجاج: قرأت على محمد بن يزيد عن الخليل: التمحيص التخليص. يقال: محصه [يمحصه ] «1» محصا إذا خلصه، فالمعنى عليه ليبتلي المؤمنين ليثيبهم ويخلصهم من ذنوبهم. (وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ) أي يستأصلهم بالهلاك.

[سورة آل عمران (3): آية 142]
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142)
" أَمْ" بمعنى بل. وقيل: الميم زائدة، والمعنى أحسبتم يأمن انهزم يوم أحد أن تدخلوا الجنة كما دخل الذين قتلوا وصبروا على ألم الجراح والقتل من غير أن تسلكوا طريقهم وتصبروا صبرهم لا، حتى (يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ) أي علم شهادة حتى يقع عليه الجزاء. والمعنى: ولم تجاهدوا فيعلم ذلك منكم، فلما بمعنى لم. وفرق سيبويه بين" لم" و" لما" فزعم أن" لم يفعل" نفي فعل، وأن" لم يفعل". نفى قد فعل. (وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) منصوب بإضمار أن، عن الخليل. وقرا الحسن ويحيى بن يعمر" يَعْلَمَ الصَّابِرِينَ" بالجزم على النسق. وقرى بالرفع على القطع، أي وهو يعلم. وروى هذه القراءة عبد الوارث عن أبي عمرو. وقال الزجاج: الواو هنا بمعنى حتى، أي ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم حتى يعلم صبرهم كما تقدم آنفا.

[سورة آل عمران (3): آية 143]
وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143)
قوله تعالى: (وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ)" أي الشهادة من قبل أن تلقوه. وقرا الأعمش" من قبل أن تلاقوه" أي من قبل القتل. وقيل: من قبل أن تلقوا أسباب الموت وذلك أن كثيرا ممن لم يحضروا بدرا كانوا يتمنون يوما يكون فيه قتال،
__________
(1). في ب ود وهـ.

وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144)

فلما كان يوم أحد انهزموا، وكان منهم من تجلد حتى قتل، ومنهم أنس بن النضر عم أنس بن مالك، فإنه قال لما انكشف المسلمون: اللهم إني أبرأ إليك مما جاء به هؤلاء، وباشر القتال وقال: إيها إنها ريح الجنة! إني لأجدها، ومضى حتى استشهد. قال أنس: فما عرفناه إلا ببنانه ووجدنا فيه بضعا وثمانين جراحة. وفية أمثاله نزل" رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ" [الأحزاب: 23] «1». فالآية عتاب في حق من انهزم، لا سيما وكان منهم حمل للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الخروج من المدينة، وسيأتي. وتمني الموت يرجع من المسلمين إلى تمني الشهادة المبنية على الثبات والصبر على الجهاد، لا إلى قتل الكفار لهم، لأنه معصية وكفر ولا يجوز إرادة المعصية، وعلى هذا يحمل سؤال المسلمين من الله أن يرزقهم الشهادة، فيسألون الصبر على الجهاد وإن أدى إلى القتل. قوله تعالى: (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) قال الأخفش: هو تكرير بمعنى التأكيد لقوله:" فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ" مثل" وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ" [الانعام: 38] «2». وقيل: معناه وأنتم بصراء ليس في أعينكم علل، [كما] «3» تقول: قد رأيت كذا وكذا وليس في عينيك علة، أي فقد رأيته رؤية حقيقة، وهذا راجع إلى معنى التوكيد. وقال بعضهم:" وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ" إلى محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وفي الآية إضمار، أي فقد رأيتموه وأنتم تنظرون فلم انهزمتم؟.

[سورة آل عمران (3): آية 144]
وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144)
فيه خمس مسائل: الاولى- روى أنها نزلت بسبب انهزام المسلمين يوم أحد حين صاح الشيطان: قد قتل محمد. قال عطية العوفي: فقال بعض الناس: قد أصيب محمد فأعطوهم بأيديكم فإنما هم إخوانكم. وقال بعضهم: إن كان محمد قد أصيب ألا تمضون على ما مضى عليه نبيكم حتى
__________
(1). راجع ج 14 ص 158.
(2). راجع ج 6 ص 419.
(3). في ب ود وهـ.

تلحقوا به، فأنزل الله تعالى في ذلك (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) إلى قول:" فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا" [آل عمران: 148]. وما نافية، وما بعدها ابتداء وخبر، وبطل عمل" ما". وقرا ابن عباس" قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ" بغير ألف ولام. فأعلم الله تعالى في هذه الآية أن الرسل ليست بباقية في قومها أبدا، وأنه يجب التمسك بما أتت به الرسل وإن فقد الرسول بموت أو قتل. وأكرم نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [وصفيه ] «1» باسمين مشتقين من اسمه: محمد وأحمد، وتقول العرب: رجل محمود ومحمد إذا كثرت خصاله المحمودة، قال الشاعر:
إلى الماجد القرم الجواد المحمد «2»

وقد مضى هذا في الفاتحة «3». وقال عباس بن مرداس:
يا خاتم النبآء إنك مرسل ... بالخير كل هدى السبيل هداكا
إن الإله بنى «4» عليك محبة ... في خلقه ومحمدا سماكا
فهذه الآية من تتمة العتاب مع المنهزمين، أي لم يكن لهم الانهزام وإن قتل محمد، والنبوة لا تدرأ الموت، والأديان لا تزول بموت الأنبياء. والله أعلم. الثانية- هذه الآية أدل دليل على شجاعة الصديق وجرأته، فإن الشجاعة والجرأة حدهما ثبوت القلب عند حلول المصائب، ولا مصيبة أعظم من موت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما تقدم بيانه في" البقرة" «5» فظهرت عنده شجاعته وعلمه. قال الناس: لم يمت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، منهم عمر، وخرس عثمان، واستخفى علي، واضطرب الامر فكشفه الصديق بهذه الآية حين قدومه من مسكنه بالسنح «6»، الحديث، كذا في البخاري. وفي سنن ابن ماجة عن عائشة قالت: لما قبض رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبو بكر عند امرأته ابنة خارجة بالعوالي، فجعلوا يقولون: لم يمت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما هو بعض ما كان يأخذه عند
__________
(1). في ب وهـ.
(2). هذا عجز بيت للأعشى، وصدره:
إليك أبيت اللعن كان كلالها

والذي في الديوان: الماجد الفرع. كذا في ب ود وهـ. وفرع كل شي: أعلاه. [.....]
(3). راجع ج 1 ص 133.
(4). في د، واللسان: ثنى ولم يعرف هذا في اللغة. والأصول بنى.
(5). راجع ج 2 ص 176.
(6). السنح (بضم أوله وسكون النون وقد تضم): موضع بعوالي المدينة، وهى منازل بنى الحارث بن الخزرج، بينهما وبين منزل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ميل.

الوحي. فجاء أبو بكر فكشف عن وجهه وقبل بين عينيه وقال: أنت أكرم على الله من أن يميتك! مرتين. قد والله مات رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعمر في ناحية المسجد يقول: والله ما مات رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا يموت حتى يقطع أيدي أناس من المنافقين كثير وأرحلهم. فقام أبو بكر فصعد المنبر فقال: من كان يعبد الله فإن الله حي لم يمت، ومن كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات،" وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ". قال عمر:" فلكأني لم أقرأها إلا يومئذ". ورجع عن مقالته التي قالها فيما ذكر الوائلي أبو نصر عبيد الله في كتابه الإبانة: عن أنس بن مالك أنه سمع عمر بن الخطاب حين بويع أبو بكر في مسجد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واستوى على منبر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تشهد قبل أبي بكر فقال: أما بعد فإني قلت لكم أمس مقالة وإنها لم تكن كما قلت، وإني والله ما وجدت المقالة التي قلت لكم في كتاب أنزله الله ولا في عهد عهده إلي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولكني كنت أرجو أن يعيش رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى يدبرنا- يريد أن يقول حتى يكون آخرنا موتا- فاختار الله عز وجل لرسوله الذي عنده على الذي عندكم، وهذا الكتاب الذي هدى الله به رسوله فخذوا به تهتدوا لما هدى له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال الوائلي أبو: نصر المقالة التي قالها ثم رجع عنها هي" أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يمت ولن يموت حتى يقطع أيدي رجال وأرجلهم" وكان قال ذلك لعظيم ما ورد عليه، وخشي الفتنة وظهور المنافقين، فلما شاهد قوة يقين الصديق الأكبر أبي بكر، وتفوهه بقول الله عز وجل:" كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ" [آل عمران: 185] «1» وقوله:" إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ «2» مَيِّتُونَ" [الزمر: 30] وما قاله ذلك اليوم- تنبه وتثبيت وقال: كأني لم أسمع بالآية إلا من أبي بكر. وخرج الناس يتلونها في سكك المدينة، كأنها لم تنزل قط إلا ذلك اليوم. ومات صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم الاثنين بلا اختلاف، في وقت دخوله المدينة في هجرته حين اشتد الضحاء، ودفن يوم الثلاثاء، وقيل ليلة الأربعاء. وقالت صفية بنت عبد المطلب ترثي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
__________
(1). راجع ص 297 من هذا الجزء، وج 11 ص 287.
(2). راجع ج 15 ص 254.

ألا يا رسول الله كنت رجاءنا ... وكنت بنا برا ولم تك جافيا
وكنت رحيما هاديا ومعلما ... ليبك عليك اليوم من كان باكيا
لعمرك ما أبكي النبي لفقده ... ولكن لما أخشى من الهرج آتيا
كأن على قلبي لذكر محمد ... وما خفت من بعد النبي المكاويا
أفاطم صلى الله رب محمد ... على جدث أمسى بيثرب ثاويا
فدى لرسول الله أمي وخالتي ... وعمي وآبائي ونفسي وماليا
صدقت وبلغت الرسالة صادقا ... ومت صليت العود أبلج صافيا
فلو أن رب الناس أبقى نبينا ... سعدنا، ولكن أمره كان ماضيا
عليك من الله السلام تحية ... وأدخلت جنات من عدن راضيا
أرى حسنا أيتمته وتركته ... يبكي ويدعو جده اليوم ناعيا «1»
فإن قيل وهي: الثالثة- فلم أخر دفن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد قال لأهل بيت أخروا دفن ميتهم: (عجلوا دفن جيفتكم ولا تؤخروها). فالجواب من ثلاثة أوجه: الأول- ما ذكرناه من عدم اتفاقهم على موته. الثاني- لأنهم لا يعلمون حيث يدفنونه. قال قوم في البقيع، وقال آخرون في المسجد، وقال قوم: يحبس حتى يحمل إلى أبيه إبراهيم. حتى قال العالم الأكبر «2»: سمعته يقول: (ما دفن نبي إلا حيث يموت) ذكره ابن ماجة والموطأ وغيرهما. الثالث أنهم اشتغلوا بالخلاف الذي وقع بين المهاجرين والأنصار في البيعة، فنظروا فيها حتى استتب الامر وانتظم الشمل واستوثقت «3» الحال، واستقرت الخلافة في نصابها فبايعوا أبا بكر، ثم بايعوه من الغد بيعة أخرى عن ملإ منهم ورضا، فكشف الله به الكربة من أهل الردة، وقام به الدين، والحمد لله رب العالمين. ثم رجعوا بعد ذلك إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فنظروا في دفنه وغسلوه وكفنوه. والله أعلم.
__________
(1). في ج وب ود: نائيا.
(2). يريد به أبا بكر رضى الله عنه.
(3). في هـ: استوسقت.

الرابعة واختلف هل صلي عليه أم لا، فمنهم من قال: لم يصل عليه أحد، وإنما وقف كل واحد يدعو، لأنه كان أشرف من أن يصلى عليه. وقال ابن العربي: وهذا كلام ضعيف، لان السنة تقام بالصلاة عليه في الجنازة، كما تقام بالصلاة عليه في الدعاء، فيقول: اللهم صل على محمد إلى يوم القيامة، وذلك منفعة لنا. وقيل: لم يصل عليه، لأنه لم يكن هناك إمام. وهذا ضعيف، لان الذي كان يقيم بهم الصلاة الفريضة هو الذي كان يؤم بهم في الصلاة. وقيل: صلى عليه الناس أفذاذا، لأنه كان آخر العهد به، فأرادوا أن يأخذ كل أحد بركته مخصوصا دون أن يكون فيها تابعا لغيره. والله أعلم بصحة ذلك. قلت: قد خرج ابن ماجة بإسناد حسن بل صحيح من حديث ابن عباس وفية: فلما فرغوا من جهازه يوم الثلاثاء وضع على سريره في بيته، ثم دخل الناس على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أرسالا «1» يصلون عليه، حتى إذا فرغوا أدخلوا النساء، حتى إذا فرغن أدخلوا الصبيان، ولم يؤم الناس على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحد. خرجه عن نصر ابن علي الجهضمي أنبأنا وهب بن جرير حدثنا أبي عن محمد بن إسحاق قال حدثني حسين ابن عبد الله عن عكرمة عن ابن عباس، الحديث بطوله. الخامسة- في تغيير الحال بعد موت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عن أنس قال: لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة أضاء منها كل شي، فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كل شي، وما نفضنا عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأيدي حتى أنكرنا قلوبنا. أخرجه ابن ماجة، وقال: حدثنا محمد بن بشار أخبرنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا سفيان عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال: كنا نتقي الكلام والانبساط إلى نسائنا على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مخافة أن ينزل فينا القرآن، فلما مات رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تكلمنا. وأسند عن أم سلمة بنت أبي أمية زوج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [أنها قالت ] «2»: كان الناس في عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا قام المصلي [يصلي ] «3» لم يعد بصر
__________
(1). أرسالا: أفواجا وفرقا متقطعة بعضهم يتلو بعضا، واحدهم رسل، بفتح الراء والسين.
(2). زيادة عن ابن ماجة.
(3). زيادة عن ابن ماجة.

وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145)

أحدهم موضع قدميه، فلما توفي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكان أبو بكر، فكان الناس إذا قام أحدهم يصلي لم يعد بصر أحدهم موضع جبينه، فتوفى أبو بكر وكان عمر، فكان الناس إذا قام أحدهم يصلي لم يعد بصر أحدهم موضع القبلة، فكان عثمان بن عفان فكانت الفتنة فتلفت الناس في الصلاة يمينا وشمالا. قوله تعالى: (أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ)" أَفَإِنْ ماتَ" شرط" أَوْ قُتِلَ" عطف عليه، والجواب" انْقَلَبْتُمْ". ودخل حرف الاستفهام على حرف الجزاء لان الشرط قد انعقد به وصار جملة واحدة وخبرا واحدا. والمعنى: أفتنقلبون على أعقابكم إن مات أو قتل؟ وكذلك كل استفهام دخل على حرف الجزاء، فإنه في غير موضعه، وموضعه أن يكون قبل جواب الشرط. وقوله" انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ" تمثيل، ومعناه ارتددتم كفارا بعد إيمانكم، قاله قتادة وغيره. ويقال لمن عاد إلى ما كان عليه: انقلب على عقبيه. ومنه" نكص على عقبيه" «1». وقيل: المراد بالانقلاب هنا الانهزام، فهو حقيقة لا مجاز. وقيل: المعنى فعلتم فعل المرتدين وإن لم تكن ردة. قوله تعالى: (وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً) بل يضر نفسه ويعرضها للعقاب بسبب المخالفة، والله تعالى لا تنفعه الطاعة ولا تضره «2» المعصية لغناه. (وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ)، أي الذين صبروا وجاهدوا واستشهدوا. وجاء" وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ" بعد قوله:" فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً" فهو اتصال وعد بوعيد.

[سورة آل عمران (3): آية 145]
وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145)
قوله تعالى: (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلًا) هذا حض على الجهاد، وإعلام أن الموت لأبد منه وأن كل إنسان مقتول أو غير مقتول ميت إذا بلغ أجله المكتوب له، لان معنى" مُؤَجَّلًا" إلى أجل. ومعنى" بِإِذْنِ اللَّهِ" بقضاء الله وقدره. و" كِتاباً" نصب على المصدر، أي كتب الله كتابا مؤجلا. وأجل الموت هو الوقت الذي
__________
(1). راجع ج 8 ص 26.
(2). في هـ ود: ولا يتضرر بالمعصية. [.....]

وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147)

في معلومه سبحانه، أن روح الحي تفارق جسده، ومتى قتل العبد علمنا أن ذلك أجله. ولا يصح أن يقال: لو لم يقتل لعاش. والدليل على قوله:" كِتاباً مُؤَجَّلًا" إذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون" [الأعراف: 34] «1»" فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ" [العنكبوت: 5]" لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ" [الرعد: 38]. والمعتزلي يقول: يتقدم الأجل ويتأخر، وأن من قتل فإنما يهلك قبل أجله، وكذلك كل ما ذبح من الحيوان كان هلاكه قبل أجله، لأنه يجب على القاتل الضمان والديه. وقد بين الله تعالى في هذه الآية أنه لا تهلك نفس قبل أجلها. وسيأتي لهذا مزيد بيان في" الأعراف" «2» إن شاء الله تعالى. وفية دليل على كتب العلم وتدوينه. وسيأتي بيانه في" طه" عند قوله." قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ" [طه: 52] «3» إن شاء الله تعالى. قوله تعالى: (وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها) يعني الغنيمة. نزلت في الذين تركوا المركز طلبا للغنيمة. وقيل: هي عامة في كل من أراد الدنيا دون الآخرة، والمعنى نؤته منها ما قسم له. وفي التنزيل:" مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ" [الاسراء: 18] «4». (وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها) أي نؤته جزاء عمله، على ما وصف الله تعالى من تضعيف الحسنات لمن يشاء. وقيل: لمراد منها «5» عبد الله بن جبير ومن لزم المركز معه حتى قتلوا. (وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ) أي نؤتيهم الثواب الأبدي جزاء لهم على ترك الانهزام، فهو تأكيد لما تقدم من إيتاء مزيد الآخرة. وقيل:" وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ" من الرزق في الدنيا لئلا يتوهم أن الشاكر يحرم ما قسم له مما يناله الكافر.

[سورة آل عمران (3): الآيات 146 الى 147]
وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (147)
__________ (1). راجع ج 7 ص 202 وج 13 ص 327 وج 9 ص 327.
(2). راجع ج 7 ص 202.
(3). راجع ج 11 ص 205 فما بعد.
(4). راجع ج 10 ص 235.
(5). في د وج: بهذا.

قوله تعالى: (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ «1» مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ) قال الزهري: صاح الشيطان يوم أحد: قتل محمد، فانهزم جماعة من المسلمين. قال، كعب بن مالك: فكنت أول من عرف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رأيت عينيه من تحت المغفر تزهران، فناديت بأعلى صوتي: هذا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأومأ إلي أن أسكت، فأنزل الله عز وجل:" وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا" الآية. و" كَأَيِّنْ" بمعنى كم. قال الخليل وسيبويه: هي أي دخلت. عليها كاف التشبيه وبنيت معها فصار في الكلام معنى وكم وصورت في المصحف نونا، لأنها كلمة. نقلت عن أصلها فغير لفظها لتغير معناها، ثم كثر استعمالها فتلعبت «2» بها العرب وتصرفت فيها بالقلب والحذف، فحصل فيها لغات أربع قرئ بها. وقرا ابن كثير" وكائن" مثل وكاعن، على وزن فاعل، وأصله كي فقلبت الياء ألفا، كما قلبت في ييأس «3» فقيل ياءس، قال الشاعر:
وكائن بالأباطح من صديق ... يراني لو أصبت هو المصابا
وقال آخر:
وكائن رددنا عنكم من مدجج ... يجيء أمام الركب يردي «4» مقنعا
وقال آخر:
وكائن في المعاشر «5» من أناس ... أخوهم فوقهم وهم كرام
وقرأ ابن محيصن" وكين" مهموزا مقصورا مثل وكعن، وهو من كائن حذفت ألفه. وعنه أيضا" وكأين" مثل وكعين وهو مقلوب كي المخفف. وقرا الباقون" كَأَيِّنْ" بالتشديد مثل كعين وهو الأصل، قال الشاعر:
كأين من أناس لم يزالوا ... أخوهم فوقهم وهم كرام
__________
(1). قراءة نافع.
(2). في اوح: فلغت.
(3). القلب في ذلك على لغة من يقلب حرف العلة الساكن المفتوح ما قبله ألفا، وهى لغة بلحارث بن كعب وخثعم وزبيد وقبائل من اليمن، كما ذكره الواحدي في وسيطه في تفسير قوله تعالى:" إِنْ هذانِ لَساحِرانِ".
(4). يردى: يمشى الرديان (بالتحريك) وهو ضرب من المشي فيه تبختر. والمقنع: الذي تقنع بالسلاح، كالبيضة والمغفر.
(5). في البحر: المعاسر.

وقال آخر:
كأين أبدنا من عدو بعزنا ... وكائن أجرنا من ضعيف وخائف
فجمع بين لغتين: كأين وكائن، ولغة خامسة كيئن مثل كيعن، وكأنه مخفف من كيئ مقلوب كأين. ولم يذكر الجوهري غير لغتين: كائن مثل كاعن، وكأين مثل كعين، تقول كأين رجلا لقيت، بنصب ما بعد كأين على التمييز. وتقول أيضا: كأين من رجل لقيت، وإدخال من بعد كأين أكثر من النصب بها وأجود. وبكائن تبيع هذا الثوب؟ أي بكم تبيع، قال ذو الرمة:
وكائن ذعرنا من مهاة ورامح ... بلاد العدا «1» ليست له ببلاد
قال النحاس: ووقف أبو عمرو" وكأي" بغير نون، لأنه تنوين. وروى ذلك سورة ابن المبارك عن الكسائي. ووقف الباقون بالنون اتباعا لخط المصحف. ومعنى الآية تشجيع المؤمنين، والامر بالاقتداء بمن تقدم من خيار أتباع الأنبياء، أي كثير من الأنبياء قتل معه ربيون كثير، أو كثير من الأنبياء قالوا فما ارتد أممهم، قولان: الأول للحسن وسعيد بن جبير. قال الحسن: ما قتل نبي في حرب قط. وقال ابن جبير: ما سمعنا أن نبيا قتل في القتال. والثاني عن قتادة وعكرمة. والوقف- على هذا القول- على" قُتِلَ" جائز، وهي قراءة نافع وابن جبير وأبي عمرو ويعقوب. وهي قراءة ابن عباس واختارها أبو حاتم. وفية وجهان: أحدهما أن يكون" قُتِلَ" واقعا على النبي وحده، وحينئذ يكون تمام الكلام عند قوله" قُتِلَ" ويكون في الكلام إضمار، أي ومعه ربيون كثير، كما يقال: قتل الأمير معه جيش عظيم، أي ومعه جيش. وخرجت معي تجارة، أي ومعي. الوجه الثاني أن يكون القتل نال النبي ومن معه من الربيين، ويكون وجه الكلام قتل بعض من كان معه، تقول العرب: قتلنا بني تميم وبني سليم، وإنما قتلوا بعضهم. ويكون قوله" فَما وَهَنُوا" راجعا إلى من بقي منهم. قلت: وهذا القول أشبه بنزول الآية وأنسب، فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يقتل، وقتل معه جماعة من أصحابه. وقرا الكوفيون وابن عامر" قاتَلَ" وهي قراءة
__________
(1). كذا في الأصول المهاة: البقرة الوحشية. والرامح: الثور الوحشي، لان قرنه بمنزلة الرمح فهو رامح: والمعنى لا يقيم مع الانس في مكان. الذي في ديوانه:" بلاد الورى ليست له ببلاد".

ابن مسعود، واختارها أبو عبيد وقال. إن الله إذا حمد من قاتل كان من قتل داخلا فيه، وإذا حمد من قتل لم يدخل فيه غيرهم، فقاتل أعم وأمدح. و" الربيون" بكسر الراء قراءة الجمهور. وقراءة علي رضي الله عنه بضمها. وابن عباس بفتحها، ثلاث لغات. والربيون الجماعات الكثيرة، عن مجاهد. وقتادة والضحاك وعكرمة، واحدهم ربي بضم الراء وكسرها، منسوب إلى الربة بكسر الراء أيضا وضمها، وهي الجماعة. وقال عبد الله بن مسعود: الربيون الألوف الكثيرة. وقال ابن زيد: الربيون الاتباع. والأول أعرف في اللغة، ومنه يقال للخرقة التي تجمع فيها القداح: ربة وربة. والرباب قبائل تجمعت. وقال أبان بن ثعلب: الربي عشرة آلاف. وقال الحسن: هم العلماء الصبر. ابن عباس ومجاهد وقتادة والربيع والسدي: الجمع الكثير، قال حسان:
وإذا معشر تجافوا عن الح ... ق حملنا عليهم ربيا
وقال الزجاج: ها هنا قراءتان" رِبِّيُّونَ" بضم الراء- و" رِبِّيُّونَ" بكسر الراء، أما الربيون (بالضم): الجماعات الكثيرة. ويقال: عشرة آلاف. قلت: وقد روي عن ابن عباس" رِبِّيُّونَ" بفتح الراء منسوب إلى الرب. قال الخليل: الربي الواحد من العباد الذين صبروا مع الأنبياء. وهم الربانيون نسبوا إلى التأله والعبادة ومعرفة الربوبية لله تعالى. والله أعلم. قوله تعالى: (فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)" وَهَنُوا" أي ضعفوا، وقد تقدم والوهن: انكسار الجد «1» بالخوف. وقرا الحسن وأبو الحسن وأبو السمال" وَهَنُوا" بكسر الهاء وضمها، لغتان عن أبي زيد. وهن الشيء يهن وهنا. وأوهنته أنا ووهنته ضعفته. والواهنة: أسفل الأضلاع وقصارها «2». والوهن من الإبل: الكثيف. والوهن: ساعة تمضي من الليل، وكذلك الموهن. وأوهنا صرنا «3» في تلك الساعة، أي ما وهنوا لقتل نبيهم، أو لقتل من قتل منهم، أي ما وهن باقيهم، فحذف المضاف. (وَما ضَعُفُوا) أي عن عدوهم. (وَمَا اسْتَكانُوا) أي لما أصابهم في الجهاد. والاستكانة: الذلة والخضوع، واصلها" استكنوا" على افتعلوا، فأشبعت فتحة الكاف فتولدت منها ألف. ومن جعلها من الكون فهي استفعلوا، والأول
__________
(1). الواهنة: القصيري وهى أسفل الأضلاع.
(2). الواهنة: القصيري وهى أسفل الأضلاع.
(3). كذا في دو اللسان، وفى هـ وأ وح: ضربنا. [.....]

فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)

أشبه بمعنى الآية. وقرى" فما وهنوا وما ضعفوا" بإسكان الهاء والعين. وحكى الكسائي" ضعفوا" بفتح العين. ثم أخبر تعالى عنهم بعد أن قتل منهم أو قتل نبيهم بأنهم صبروا ولم يفروا ووطنوا أنفسهم على الموت، واستغفروا ليكون موتهم على التوبة من الذنوب إن رزقوا الشهادة، ودعوا في الثبات حتى لا ينهزموا، وبالنصر على أعدائهم. وخصوا الاقدام بالثبات دون غيرها من الجوارح لان الاعتماد عليها. يقول: فهلا فعلتم وقلتم مثل ذلك يا أصحاب محمد؟ فأجاب دعاءهم وأعطاهم النصر والظفر والغنيمة في الدنيا والمغفرة في الآخرة إذا صاروا إليها. وهكذا يفعل الله مع عباده المخلصين التائبين الصادقين الناصرين لدينه، الثابتين عند لقاء عدوه بوعده الحق، وقوله الصدق. (وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) يعني الصابرين على الجهاد. وقرا بعضهم" وما كان قولهم" بالرفع، جعل القول اسما لكان، فيكون معناه وما كان قولهم إلا قولهم: (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا) ومن قرأ بالنصب جعل القول خبر كان. واسمها" إِلَّا أَنْ قالُوا". رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا يعني الصغائر (وَإِسْرافَنا) يعني الكبائر. والإسراف: الافراط في الشيء ومجاوزة الحد. وفي صحيح مسلم عن أبي موسى الأشعري عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان يدعو بهذا الدعاء (اللهم أغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني) وذكر الحديث. فعلى الإنسان أن يستعمل ما في كتاب الله وصحيح السنة من الدعاء ويدع ما سواه، ولا يقول أختار كذا، فإن الله تعالى قد اختار لنبيه وأوليائه وعلمهم كيف يدعون.

[سورة آل عمران (3): آية 148]
فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)
قوله تعالى: (فَآتاهُمُ اللَّهُ) أي أعطاهم (ثَوابَ الدُّنْيا)، يعنى النصر والظفر على عدوهم. (وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ) يعني الجنة. وقرا الجحدري" فأثابهم الله" من الثواب. (وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)" تقدم.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (149)

[سورة آل عمران (3): الآيات 149 الى 150]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (149) بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150)
لما أمر الله تعالى بالاقتداء بمن تقدم من أنصار الأنبياء حذر طاعة الكافرين، يعني مشركي العرب: أبا سفيان وأصحابه وقيل: اليهود والنصارى. وقال علي رضي الله عنه: يعني المنافقين في قولهم للمؤمنين عند الهزيمة: ارجعوا إلى دين آبائكم. (يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) أي إلى الكفر. (فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ) أي فترجعوا مغبونين. ثم قال: (بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ) أي متولي نصركم وحفظكم إن أطعتموه. وقرى" بَلِ اللَّهُ" بالنصب، على تقدير بل وأطيعوا الله مولاكم.

[سورة آل عمران (3): آية 151]
سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151)
نظيره" وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ" «1». وقرا ابن عامر والكسائي" الرعب" بضم العين، وهما لغتان. والرعب: الخوف، يقال: رعبته رعبا ورعبا، فهو مرعوب. ويجوز أن يكون الرعب مصدرا، والرعب الاسم. وأصله من الملء، يقال: سيل راعب يملأ الوادي. ورعبت الحوض ملأته. والمعنى: سنملأ قلوب المشركين «2» خوفا وفزعا. وقرا السختياني" سيلقي" بالياء، والباقون بنون العظمة. قال السدي وغيره: لما ارتحل أبو سفيان والمشركون يوم أحد متوجهين إلى مكة انطلقوا حتى إذا كانوا ببعض الطريق ندموا وقالوا: بئس ما صنعنا! قتلناهم حتى إذا لم يبق منهم إلا الشريد «3» تركناهم، ارجعوا فاستأصلوهم، فلما عزموا على ذلك ألقى الله في قلوبهم الرعب حتى رجعوا عما هموا به. والإلقاء يستعمل حقيقة في الأجسام، قال الله تعالى:" وَأَلْقَى الْأَلْواحَ" [الأعراف: 150] «4»" فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ" [الشعراء: 44]" فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ" [الأعراف: 107]. قال الشاعر: فألقت عصاها واستقر بها النوى
__________
(1). راجع ج 18 ص 3.
(2). في د وج وهـ: الكافرين.
(3). في د: الشديد.
(4). راجع ج 7 ص 288 و256 وج 13 ص 97.

وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152)

ثم قد يستعمل مجازا كما في هذه الآية، وقوله:" وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي" [طه: 39] «1» وألقى عليك مسألة. قوله تعالى: (بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ) تعليل، أي كان سبب إلقاء الرعب في قلوبهم إشراكهم، فما للمصدر. ويقال أشرك به أي عدل به غيره ليجعله شريكا. قوله تعالى: (ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً) حجة وبيانا، وعذرا وبرهانا، ومن هذا قيل، للوالي سلطان، لأنه حجة الله عز وجل في الأرض. ويقال: إنه مأخوذ من السليط وهو ما يضاء به السراج، وهو دهن السمسم، قال امرؤ القيس:
أمال «2» السليط بالذبال المفتل

فالسلطان يستضاء به في إظهار الحق وقمع الباطل. وقيل السليط الحديد. والسلاطة الحدة. والسلاطة من التسليط وهو القهر، والسلطان من ذلك، فالنون زائدة. فأصل السلطان القوة، فإنه يقهر بها كما يقهر بالسلطان. والسليطة المرأة الصخابة. والسليط الرجل الفصيح اللسان. ومعنى هذا أنه لم تثبت عبادة الأوثان في شي من الملل. ولم يدل عقل على جواز ذلك. ثم أخبر الله تعالى عن مصيرهم ومرجعهم فقال: (وَمَأْواهُمُ النَّارُ) ثم ذمه فقال: (وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ) والمثوى: المكان الذي يقام فيه، يقال: ثوى يثوي ثواء. والمأوى: كل مكان يرجع إليه شي ليلا أو نهارا.

[سورة آل عمران (3): آية 152]
وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152)
قال محمد بن كعب القرظي: لما رجع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى المدينة بعد أحد وقد أصيبوا قال بعضهم لبعض: من أين أصابنا هذا وقد وعدنا الله النصر! فنزلت هذه الآية. وذلك أنهم قتلوا صاحب لواء المشركين وسبعة نفر منهم بعده على اللواء، وكان
__________
(1). راجع ج 11 ص 196.
(2). في الأصول: أهان: والذي أثبتناه هو ما في الديوان وكتب اللغة.

الظفر ابتداء للمسلمين غير أنهم اشتغلوا بالغنيمة، وترك بعض الرماة أيضا مركزهم طلبا للغنيمة فكان ذلك سبب الهزيمة. روى البخاري عن البراء بن عازب قال: لما كان يوم أحد ولقينا المشركين أجلس رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أناسا من الرماة وأمر عليهم عبد الله ابن جبير وقال لهم: (لا تبرحوا من مكانكم [إن رأيتمونا ظهرنا عليهم فلا تبرحوا] «1» وإن رأيتموهم قد ظهروا علينا فلا تعينونا عليهم) قال: فلما التقى القوم وهزمهم المسلمون حتى نظرنا إلى النساء يشتددن «2» في الجبل، وقد رفعن عن سوقهن قد بدت خلاخلهن فجعلوا يقولون: الغنيمة الغنيمة. فقال لهم عبد الله: أمهلوا! أما عهد إليكم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ألا تبرحوا، فانطلقوا فلما أتوهم صرف الله وجوههم وقتل من المسلمين سبعون رجلا. ثم إن أبا سفيان بن حرب أشرف علينا وهو في نشز فقال: أفي القوم محمد؟ فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لا تجيبوه) حتى قالها ثلاثا. ثم قال: أفي القوم ابن أبي قحافة؟ ثلاثا، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ثم قال: (لا تجيبوه) ثم قال: أفي القوم عمر [بن الخطاب ] «3»؟ ثلاثا، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لا تجيبوه) ثم التفت إلى أصحابه فقال: أما هؤلاء فقد قتلوا. فلم يملك عمر رضي الله عنه نفسه دون أن قال: كذبت يا عدو الله! قد أبقى الله لك من يخزيك به. فقال: اعل هبل «4»، مرتين. فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أجيبوه) فقالوا: ما نقول يا رسول الله؟ قال: (قولوا الله أعلى وأجل). قال أبو سفيان: لنا العزى «5» ولا عزى لكم. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، (أجيبوه). قالوا: ما نقول يا رسول الله؟ قال: قولوا (الله مولانا ولا مولى لكم). قال أبو سفيان: يوم بيوم بدر، والحرب سجال، أما إنكم ستجدون في القوم مثلة لم آمر بها ولم تسؤني. وفى البخاري ومسلم عن سعد بن أبي وقاص قال: رأيت عن يمين رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعن شماله يوم أحد رجلين عليهما ثياب بيض يقاتلان عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أشد القتال. وفي رواية عن سعد: عليهما ثياب بيض ما رأيتهما قبل ولا بعد. يعني جبريل وميكائيل. وفي رواية أخرى: يقاتلان عن رسول الله
__________
(1). زيادة عن صحيح البخاري. والذي فيه:" لا تبرحوا إن رأيتمونا".
(2). أي يسرعن المشي.
(3). في ج وهـ ود.
(4). أي أظهر دينك، أو رد علوا، أو ليرتفع أمرك ويعز دينك فقد غلبت.
(5). العزى: اسم صنم لقريش.

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أشد القتال ما رأيتهما قبل ذلك اليوم ولا بعده. وعن مجاهد قال: لم تقاتل الملائكة معهم يومئذ، ولا قبله ولا بعده إلا يوم بدر. قال البيهقي: إنما أراد مجاهد أنهم لم يقاتلوا يوم أحد عن القوم حين عصوا الرسول ولم يصبروا على ما أمرهم به. وعن عروة بن الزبير قال: وكان الله عز وجل وعدهم على الصبر والتقوى أن يمدهم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين: وكان قد فعل، فلما عصوا أمر الرسول وتركوا مصافهم وتركوا الرماة عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إليهم ألا يبرحوا من منازلهم، وأرادوا الدنيا، رفع عنهم مدد الملائكة، وأنزل الله تعالى:" وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ" [آل عمران: 152] فصدق الله وعده وأراهم الفتح، فلما عصوا أعقبهم البلاء. وعن عمير بن إسحاق قال: لما كان يوم أحد انكشفوا عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسعد يرمي بين يديه، وفتى ينبل له، كلما ذهبت نبله أتاه بها. قال ارم أبا إسحاق. فلما فرغوا نظروا من الشاب؟ فلم يروه ولم يعرفوه «1». وقال محمد بن كعب: ولما قتل صاحب لواء المشركين وسقط لواؤهم، رفعته عمرة بنت علقمة الحارثية، وفي ذلك يقول حسان:
فلولا لواء الحارثية أصبحوا ... يباعون في الأسواق بيع الجلائب
و(تَحُسُّونَهُمْ) معناه تقتلونهم وتستأصلونهم، قال الشاعر:
حسسناهم بالسيف حسا فأصبحت ... بقيتهم قد شردوا وتبددوا
وقال جرير:
تحسهم السيوف كما تسامى ... حريق النار في الأجم الحصيد
قال أبو عبيد: الحس الاستئصال بالقتل، يقال: جراد محسوس إذا قتله البرد. والبرد محسة للنبت. أي محرقة له ذاهبة به. وسنة حسوس أي جديه تأكل كل شي، قال رؤبة:
إذا شكونا سنة حسوسا ... تأكل بعد الأخضر «2» اليبيسا"
أصله من الحس الذي هو الإدراك بالحاسة. فمعنى حسه أذهب حسه بالقتل. (بِإِذْنِهِ) بعلمه، أو بقضائه وأمره. (حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ) أي جبنتم وضعفتم. يقال: فشل يفشل فهو
__________
(1). في د: نقله محمد بن كعب.
(2). في اللسان: الخضرة.

فشل وفشل. وجواب" حَتَّى" محذوف، أي حتى إذا فشلتم امتحنتم. ومثل هذا جائز كقوله:" فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ" [الانعام: 35] «1» فافعل. وقال الفراء: جواب" حَتَّى"،" وَتَنازَعْتُمْ" والواو مقحمة زائدة، كقوله" فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ. وَنادَيْناهُ" [الصافات: 104- 103] «2» أي ناديناه. وقال امرؤ القيس:
فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى

أي انتحى. وعند هؤلاء يجوز إقحام الواو من" وَعَصَيْتُمْ". أي حتى إذا فشلتم وتنازعتم عصيتم. وعلى هذا فيه تقديم وتأخير، أي حتى إذا تنازعتم وعصيتم وفشلتم. وقال أبو علي: يجوز أن يكون الجواب" صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ"،" ثُمَّ" زائدة، والتقدير حتى إذا فشلتم وتنازعتم وعصيتم صرفكم عنهم. وقد أنشد بعض النحويين في زيادتها قوله الشاعر:
أراني إذا ما بت على هوى ... فثم إذا أصبحت أصبحت عاديا

وجوز الأخفش أن تكون زائدة، كما في قوله تعالى:" حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ" [التوبة: 118] «3». وقيل:" حَتَّى" بمعنى" إلى" وحينئذ لا جواب له، أي صدقكم الله وعده إلى أن فشلتم، أي كان ذلك الوعد بشرط الثبات. ومعنى (تَنازَعْتُمْ) اختلفتم، يعني الرماة حين قال بعضهم لبعض: نلحق الغنائم. وقال بعضهم: بل نثبت في مكاننا الذي أمرنا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالثبوت فيه. (وَعَصَيْتُمْ) أي خالفتم أمر الرسول في الثبوت. (مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ) يعني من الغلبة التي كانت للمسلمين يوم أحد أول أمرهم، وذلك حين صرع صاحب لواء المشركين على ما تقدم، وذلك أنه لما صرع انتشر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه وصاروا كتائب متفرقة فحاسوا «4» العدو ضربا حتى أجهضوهم «5» عن أثقالهم. وحملت خيل المشركين على المسلمين ثلاث مرات كل ذلك تنضح بالنبل فترجع مغلوبة «6»، وحمل المسلمون فنهكوهم قتلا. فلما أبصر الرماة الخمسون أن الله عز وجل قد فتح لإخوانهم قالوا: والله ما نجلس
__________
(1). راجع ج 6 ص 417. [.....]
(2). راجع ج 15 ص 99.
(3). راجع ج 8 ص 281.
(4). الحووس: شدة الاختلاط ومداركة الضرب. أي بالغوا النكاية فيهم، في هـ ود: جاسوا.
(5). أي نحوهم عنها وأزالوهم.
(6). في د: مفلولة.

هاهنا لشيء، قد أهلك الله العدو وإخواننا في عسكر المشركين. وقال طوائف منهم: علام نقف وقد هزم الله العدو؟ فتركوا منازلهم التي عهد إليهم النبي صلي الله عليه وسلم ألا يتركوها، وتنازعوا وفشلوا وعصوا الرسول فأوجفت «1» الخيل فيهم قتلا. وألفاظ الآية تقتضي التوبيخ لهم، ووجه التوبيخ لهم أنهم رأوا مبادئ النصر، فكان الواجب أن يعلموا أن تمام النصر في الثبات لا في الانهزام. ثم بين سبب التنازع فقال: (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا). يعني الغنيمة. قال ابن مسعود: ما شعرنا أن أحدا من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يريد الدنيا وعرضها حتى كان يوم أحد. (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) وهم الذين ثبتوا في مركزهم، ولم يخالفوا أمر نبيهم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع أميرهم عبد الله بن جبير، فحمل خالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل عليه، وكانا يومئذ كافرين فقتلوه مع من بقي، رحمهم الله. والعتاب مع من انهزم لا مع من ثبت، فإن من ثبت فاز بالثواب، وهذا كما أنه إذا حل بقوم عقوبة عامة فأهل الصلاح والصبيان يهلكون، ولكن لا يكون ما حل بهم عقوبة، بل هو سبب المثوبة. والله أعلم. قوله تعالى: (ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ) أي بعد أن استوليتم عليهم ردكم عنهم بالانهزام. ودل هذا على أن المعصية مخلوقة لله تعالى. وقالت المعتزلة: المعنى ثم انصرفتم، فإضافته إلى الله تعالى بإخراجه الرعب من قلوب الكافرين من المسلمين ابتلاء لهم. قال القشيري: وهذا لا يغنيهم، لان إخراج الرعب من قلوب الكافرين حتى يستخفوا بالمسلمين قبيح ولا يجوز عندهم، أن يقع من الله قبيح، فلا يبقى لقوله:" ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ" معنى. وقيل: معنى" صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ" أي لم يكلفكم طلبهم قوله تعالى: (وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) أي لم يستأصلكم بعد المعصية والمخالفة. والخطاب قيل هو للجميع. وقيل: هو للرماة الذين خالفوا ما أمروا به، واختاره النحاس. وقال أكثر المفسرين: ونظير هذه الآية قوله:" ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ" [البقرة: 52] «2». (وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) بالعفو والمغفرة. وعن ابن عباس قال: ما نصر النبي صلى الله
__________
(1). الإيجاف: سرعة السير.
(2). راجع ج 1 ص 397.

عليه وسلم في موطن كما نصر يوم أحد، قال: وأنكرنا ذلك، فقال ابن عباس: بيني وبين من أنكر ذلك كتاب الله عز وجل، إن الله عز وجل يقول في يوم أحد: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ- يقول ابن عباس: والحس القتل حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الامر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين" وإنما عنى بهذا الرماة. وذلك أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أقامهم في موضع ثم قال: (احموا ظهورنا فإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا وإن رأيتمونا قد غنمنا فلا تشركونا). فلما غنم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأباحوا عسكر المشركين انكفأت الرماة جميعا فدخلوا في العسكر ينتهبون، وقد التقت صفوف أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهم هكذا- وشبك أصابع يديه- والتبسوا. فلما أخل الرماة تلك الخلة «1» التي كانوا فيها دخلت الخيل من ذلك الموضع على أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فضرب بعضهم بعضا والتبسوا، وقتل من المسلمين ناس كثير، وقد كان لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه أول النهار حتى قتل من أصحاب لواء المشركين سبعة أو تسعة، وجال المسلمون نحو الجبل، ولم يبلغوا حيث يقول الناس: الغار «2»، إنما كانوا تحت المهراس «3» وصاح الشيطان: قتل محمد. فلم يشك فيه أنه حق، فما زلنا كذلك ما نشك أنه قتل حتى طلع علينا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين السعدين «4»، نعرفه بتكفئه «5» إذا مشى. قال: ففرحنا حتى كأنا لم يصبنا ما أصابنا. قال: فرقي نحونا وهو يقول: (اشتد غضب الله على قوم دموا وجه نبيهم) «6». وقال كعب بن مالك: أنا كنت أول من عرف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من المسلمين، عرفته بعينيه من تحت المغفر تزهران فناديت بأعلى صوتي: يا معشر المسلمين! ابشروا، هذا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أقبل. فأشار إلي أن اسكت.
__________
(1). أخل بالمكان ويمركزه: غاب عنه وتركه. والخلة: الطريق.
(2). كذا في الأصول. والذي في الدر المنثور، والمستدرك للحاكم:" ... الغاب" بالباء بدل الراء.
(3). المهراس: ماء بجبل أحد.
(4). السعدان: سعد بن معاذ وسعد بن عبادة.
(5). التكفؤ: التمايل إلى قدام كما تتكفأ السفينة في جريها.
(6). في د وهـ وج: وجه رسوله.

إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (153)

[سورة آل عمران (3): آية 153]
إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (153)
" إِذْ" متعلق بقوله:" وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ". وقراءة العامة" تُصْعِدُونَ" بضم التاء وكسر العين. وقرا أبو رجاء العطاردي وأبو عبد الرحمن السلمي والحسن وقتادة بفتح التاء والعين، يعني تصعدون الجبل. وقرا ابن محيصن وشبل" إذ يصعدون ولا يلوون" بالياء فيهما. وقرا الحسن" تلون" بواو واحدة. وروى أبو بكر بن عياش عن عاصم" ولا تلوون" بضم التاء، وهي لغة شاذة ذكرها النحاس. وقال أبو حاتم: أصعدت إذا مضيت حيال وجهك، وصعدت إذا ارتقيت في جبل أو غيره. فالاصعاد: السير في مستو من الأرض وبطون الأودية والشعاب. والصعود: الارتفاع على الجبال والسطوح والسلاليم والدرج. فيحتمل أن يكون صعودهم في الجبل بعد إصعادهم في الوادي، فيصح المعنى على قراءة" تُصْعِدُونَ" و" تصعدون". قال قتادة والربيع: أصعدوا يوم أحد في الوادي. وقراءة أبي" إذ تصعدون في الوادي". قال ابن عباس: صعدوا في أحد فرارا. فكلتا القراءتين صواب، كان يومئذ من المنهزمين مصعد وصاعد. والله أعلم. قال القتبي والمبرد: أصعد إذا أبعد في الذهاب وأمعن فيه، فكأن الإصعاد أبعاد في الأرض كإبعاد الارتفاع، قال الشاعر «1»:
ألا أيهذا السائلي أين أصعدت «2» ... فإن لها من بطن يثرب موعدا
وقال الفراء: الإصعاد الابتداء في السفر، والانحدار الرجوع منه، يقال: أصعدنا من بغداد إلى مكة وإلى خراسان وأشباه ذلك إذا خرجنا إليها وأخذنا في السفر، وانحدرنا إذا رجعنا. وأنشد أبو عبيدة:
قد كنت تبكين على الإصعاد ... فاليوم سرحت وصاح الحادي
__________
(1). هو أعشى قيس. [.....]
(2). الذي في ديوان الأعشى وسيرة ابن هشام ص 255 طبع أوربا:" أين يمت". والبيت من قصيدة يمدح بها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومطلعها:
ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا ... وعادك ما عاد السليم المسهدا

وقال المفضل: صعد وأصعد وصعد بمعنى واحد. ومعنى" تَلْوُونَ" تعرجون وتقيمون، أي لا يلتفت بعضكم إلى بعض هربا، فإن المعرج على الشيء يلوي إليه عنقه أو عنان دابته. (على أحد) يريد محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قاله الكلبي. (وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ) أي في آخركم، يقال: جاء فلان في آخر الناس وأخره الناس وأخرى الناس وأخريات الناس. وفي البخاري" أُخْراكُمْ" تأنيث آخركم: حدثنا عمرو بن خالد حدثنا زهير حدثنا أبو إسحاق قال: سمعت البراء بن عازب قال: جعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الرجالة يوم أحد عبد الله ابن جبير وأقبلوا منهزمين فذاك إذ يدعوهم الرسول في أخراهم. ولم يبق مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غير اثني عشر رجلا. قال ابن عباس وغيره: كان دعاء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أي عباد الله ارجعوا). وكان دعاءه تغييرا للمنكر، ومحال أن يرى عليه السلام المنكر وهو الانهزام ثم لا ينهى عنه. قلت: هذا على أن يكون الانهزام معصية وليس كذلك، على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى. قوله تعالى: (فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ) الغم في اللغة: التغطية. غممت الشيء غطيته. ويوم غم وليلة غمة إذا كانا مظلمين. ومنه غم الهلال إذا لم ير، وغمني الامر يغمني. قال مجاهد وقتادة وغيرهما: الغم الأول القتل والجراح، والغم الثاني الإرجاف بقتل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إذ صاح به الشيطان. وقيل: الغم الأول ما فاتهم من الظفر والغنيمة، والثاني ما أصابهم من القتل والهزيمة. وقيل: الغم الأول الهزيمة، والثاني إشراف أبي وسفيان وخالد عليهم في الجبل، فلما نظر إليهم المسلمون غمهم ذلك، وظنوا أنهم يميلون عليهم فيقتلونهم فأنساهم هذا ما نالهم، فعند ذلك قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" اللهم لا يعلن علينا" كما تقدم. والباء في" بِغَمٍّ" على هذا بمعنى على. وقيل: هي على بابها، والمعنى أنهم غموا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمخالفتهم إياه، فأثابهم بذلك غمهم بمن أصيب منهم. وقال الحسن:" فَأَثابَكُمْ غَمًّا" يوم أحد" بِغَمٍّ" يوم بدر للمشركين. وسمي الغم ثوابا كما سمي جزاء الذنب ذنبا. وقيل: وقفهم الله على ذنبهم فشغلوا بذلك عما أصابهم.

ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154)

قوله تعالى: (لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) اللام متعلقة بقوله:" وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ" وقيل: هي متعلقة بقوله:" فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ" أي كان هذا الغم بعد الغم لكيلا تحزنوا على ما فات من الغنيمة، ولا ما أصابكم من الهزيمة. والأول أحسن. و" غَمًّا" في قوله" ما أَصابَكُمْ" في موضع خفض. وقيل:" لا" صلة. أي لكي تحزنوا على ما فاتكم وما أصابكم عقوبة لكم على مخالفتكم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وهو مثل قوله:" ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ" [الأعراف: 12] «1» أي أن تسجد. وقوله" لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ" [الحديد: 29] «2» أي ليعلم، وهذا قول المفضل. وقيل: أراد بقوله" فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ" أي توالت عليكم الغموم، لكيلا تشتغلوا بعد هذا بالغنائم." وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ" فيه معنى التحذير والوعيد.

[سورة آل عمران (3): آية 154]
ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (154)
قوله تعالى: (ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً) الأمنة والأمن سواء. وقيل: الأمنة إنما تكون مع أسباب الخوف، والأمن مع عدمه. وهي منصوبة ب" أَنْزَلَ،" و" نُعاساً" بدل منها. وقيل: نصب على المفعول له، كأنه قال: أنزل عليكم للامنة «3» نعاسا. وقرا ابن محيصن" أمنة" بسكون الميم. تفضل الله تعالى على المؤمنين بعد هذه الغموم في يوم
__________
(1). راجع ج 7 ص 169.
(2). راجع ج 17 ص 266.
(3). في ز وهـ ود: أنزل عليهم للامعة نعاسا، وفى ج: أنزل عليكم الأمنة.

أحد بالنعاس حتى نام أكثرهم، وإنما ينعس من يأمن والخائف لا ينام. روى البخاري عن أنس أن أبا طلحة قال: غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أحد، قال: فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه، ويسقط وآخذه. (يغشى) قرئ بالياء والتاء. الياء للنعاس، والتاء للامنة. والطائفة تطلق على الواحد والجماعة. (وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ) يعني المنافقين: معتب بن قشير وأصحابه، وكانوا خرجوا طمعا في الغنيمة وخوف المؤمنين فلم يغشهم النعاس وجعلوا يتأسفون على الحضور، ويقولون الأقاويل. ومعنى" قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ" حملتهم على الهم، والهم ما هممت به، يقال: أهمني الشيء أي كان من همي. وأمر مهم: شديد. وأهمني الامر: أقلقني: وهمني: أذابني «1». والواو في قوله" وَطائِفَةٌ" واو الحال بمعنى إذ، أي إذ طائفة يظنون أن أمر محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ باطل، وأنه لا ينصر. (ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ) أي ظن أهل الجاهلية، فحذف. (يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ) لفظه استفهام ومعناه الجحد، أي ما لنا شي من الامر، أي من أمر الخروج، وإنما خرجنا كرها، يدل عليه قوله تعالى إخبارا عنهم:" لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا". قال الزبير: أرسل علينا النوم ذلك اليوم، وإني لأسمع قول معتب بن قشير والنعاس يغشاني يقول: لو كان لنا من الامر شي ما قلنا ها هنا. وقيل: المعنى يقول ليس لنا من الظفر الذي وعدنا به محمد شي. والله أعلم. قوله تعالى: (قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) قرأ أبو عمرو ويعقوب" كُلَّهُ" بالرفع على الابتداء، وخبره" بِاللَّهِ"، والجملة خبر" إِنَّ". وهو كقوله:" وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ" [الزمر: 60] «2». والباقون بالنصب، كما تقول: إن الامر أجمع لله. فهو توكيد، وهو بمعنى أجمع في الإحاطة والعموم، وأجمع لا يكون إلا توكيدا. وقيل: نعت للأمر. وقال الأخفش: بدل، أي النصر بيد الله ينصر من يشاء ويخذل من يشاء. وقال جويبر عن الضحاك عن ابن عباس في قوله" يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ" يعني التكذيب بالقدر. وذلك أنهم تكلموا فيه، فقال الله تعالى:" قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ" يعني القدر خيره وشره من الله. (يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ) أي من الشرك
__________
(1). أي حزنة الامر حتى أذا به.
(2). راجع ج 15 ص 273.

إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155)

والكفر والتكذيب. (ما لا يُبْدُونَ لَكَ) يظهرون لك. (يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا) أي ما قتل عشائرنا. فقيل: إن المنافقين قالوا لو كان لنا عقل ما خرجنا إلى قتال أهل مكة، ولما قتل رؤساؤنا. فرد الله عليهم فقال: (قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ) أي لخرج. (الَّذِينَ كُتِبَ) أي فرض. (عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ) يعني في اللوح المحفوظ. (إِلى مَضاجِعِهِمْ) أي مصارعهم. وقيل:" كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ" أي فرض عليهم القتال، فعبر عنه بالقتل، لأنه قد يؤول إليه. وقرا أبو حيوة" لبرز" بضم الباء وشد الراء، بمعنى يجعل يخرج. وقيل: لو تخلفتم أيها المنافقون لبرزتم إلى موطن آخر غيره تصرعون فيه حتى يبتلي الله ما في الصدور ويظهره للمؤمنين. والواو في قوله (وَلِيَبْتَلِيَ) مقحمة كقوله: (وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ [الانعام: 75] «1» أي ليكون، وحذف الفعل الذي مع لام كي. والتقدير (وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ) فرض الله عليكم القتال والحرب ولم ينصركم يوم أحد ليختبر صبركم وليمحص عنكم سيئاتكم إن تبتم وأخلصتم. وقيل: معنى" لِيَبْتَلِيَ
" ليعاملكم معاملة المختبر. وقيل: ليقع منكم مشاهدة ما علمه غيبا. وقيل: هو على حذف مضاف، والتقدير ليبتلي أولياء الله تعالى. وقد تقدم معنى التمحيص. (وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي ما فيها من خير وشر. وقيل: ذات الصدور هي الصدور، لان ذات الشيء نفسه.

[سورة آل عمران (3): آية 155]
إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155)
قوله تعالى: (إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا) هذه الجملة هي خبر" إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا" والمراد من تولى عن المشركين يوم أحد، عن عمر رضي الله عنه وغيره. السدي: يعني من هرب إلى المدينة في وقت الهزيمة دون من صعد الجبل. وقيل: هي في قوم بأعيانهم تخلفوا عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في وقت هزيمتهم ثلاثة أيام ثم انصرفوا. ومعنى" اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ" استدعى زللهم بأن ذكرهم خطايا سلفت منهم، فكرهوا الثبوت لئلا يقتلوا.
__________
(1). راجع ج 7 ص 43.

وهو معنى" بِبَعْضِ ما كَسَبُوا" وقيل:" اسْتَزَلَّهُمُ" حملهم على الزلل، وهو استفعل من الزلة وهي الخطيئة. وقيل: زل وأزل بمعنى واحد. ثم قيل: كرهوا القتال قبل إخلاص التوبة، فإنما تولوا لهذا، وهذا على القول الأول. وعلى الثاني بمعصيتهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في تركهم المركز وميلهم إلى الغنيمة. وقال الحسن:" ما كَسَبُوا" قبولهم من إبليس ما وسوس إليهم. وقال الكلبي: زين لهم الشيطان أعمالهم. وقيل: لم يكن الانهزام معصية، لأنهم أرادوا التحصن بالمدينة، فيقطع العدو طمعه فيهم لما سمعوا أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قتل. ويجوز أن يقال: لم يسمعوا دعاء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للهول الذي كانوا فيه. ويجوز أن يقال: زاد عدد العدو على الضعف، لأنهم كانوا سبعمائة والعدو ثلاثة آلاف. وعند هذا يجوز الانهزام ولكن الانهزام عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خطأ لا يجوز، ولعلهم توهموا أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انحاز إلى الجبل أيضا. وأحسنها الأول. وعلى الجملة فإن حمل الامر على ذنب محقق فقد عفا الله عنه، وإن حمل على انهزام مسوغ فالآية فيمن أبعد في الهزيمة وزاد على القدر المسوغ. وذكر أبو الليث السمرقندي نصر بن محمد بن إبراهيم قال: حدثنا الخليل بن أحمد قال حدثنا السراج قال حدثنا قتيبة قال حدثنا أبو بكر بن غيلان عن جرير: أن عثمان كان بينه وبين عبد الرحمن بن عوف كلام، فقال له عبد الرحمن بن عوف: أتسبني وقد شهدت بدرا ولم تشهد، وقد بايعت تحت شجرة ولم تبايع، وقد كنت تولى مع من تولى يوم الجمع، يعني يوم أحد. فرد عليه عثمان فقال: أما قولك: أنا شهدت بدرا ولم تشهد، فإني لم أغب عن شي شهده رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إلا أن بنت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانت مريضة وكنت معها أمرضها، فضرب لي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سهما في سهام المسلمين، وأما بيعة الشجرة فإن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعثني ربيئة على المشركين بمكة- الربيئة هو الناظر- فضرب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يمينه على شماله فقال: (هذه لعثمان) فيمين رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وشماله خير لي من يميني وشمالي. وأما يوم الجمع فقال الله تعالى:" وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ" فكنت فيمن عفا الله عنهم. فحج «1» عثمان عبد الرحمن.
__________
(1). في ب وهـ ود: فخاصم، وفى ج: فحاج.

قلت: وهذا المعنى صحيح أيضا عن ابن عمر، كما في صحيح البخاري قال: حدثنا عبدان أخبرنا أبو حمزة عن عثمان بن موهب قال: جاء رجل حج البيت فرأى قوما جلوسا فقال: من هؤلاء القعود؟ قالوا: هؤلاء قريش. قال: من الشيخ؟ قالوا: ابن عمر، فأتاه فقال: إني سائلك عن شي أتحدثني؟ قال: أنشدك بحرمة هذا البيت، أتعلم أن عثمان بن عفان فر يوم أحد؟ قال: نعم. قال: فتعلمه تغيب عن بدر فلم يشهدها؟ قال: نعم. قال: فتعلم أنه تخلف عن بيعة الرضوان فلم يشهدها؟ قال نعم. قال: فكبر. قال ابن عمر: تعال لأخبرك ولأبين لك عما سألتني عنه، أما فراره يوم أحد فأشهد أن الله عفا عنه. وأما تغيبه عن بدر فإنه كان تحته بنت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكانت مريضة، فقال له النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إن لك أجر رجل من شهد بدرا وسهمه). وأما تغيبه عن بيعة الرضوان فإنه لو كان أحد أعز ببطن مكة من عثمان بن عفان لبعثه مكانه، فبعث عثمان وكانت بيعة الرضوان بعد ما ذهب عثمان إلى مكة، فقال «1» النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيده اليمنى: (هذه يد عثمان) فضرب بها على يده «2» فقال: (هذه لعثمان). اذهب بهذا «3» ألان معك. قلت: ونظير هذه الآية توبة الله على آدم عليه السلام. وقوله عليه السلام: (فحج آدم موسى) أي غلبه بالحجة، وذلك أن موسى عليه السلام أراد توبيخ آدم ولومه في إخراج نفسه وذريته من الجنة بسبب أكله من الشجرة، فقال له آدم: (أفتلومني على أمر قدره الله تعالى علي قبل أن أخلق بأربعين سنة تاب علي منه ومن تاب عليه فلا ذنب له ومن لا ذنب له لا يتوجه عليه لوم (. وكذلك من عفا الله عنه. وإنما كان هذا لاخباره تعالى بذلك، وخبره صدق. وغيرهما من المذنبين التائبين يرجون رحمته ويخافون عذابه، فهم على وجل وخوف ألا تقبل توبتهم، وإن قبلت فالخوف أغلب عليهم إذ لا علم لهم بذلك. فأعلم.
__________
(1). قال: أشار، والعرب تجعل القول عبارة عن جميع الافعال وتطلقه على غير الكلام واللسان، فتقول: قال بيده أي أخذ، وقال برجله أي مشى، وقال بثوبه أي رفعه، وكل ذلك على الاتساع والمجاز (عن نهاية ابن الأثير).
(2). أي اليسرى.
(3). في رواية (بها) أي بالأجوبة التي أجبتك التي أجبتك بها حتى يزول عنك ما كنت تعتقده من عيب عثمان. (عن القسطلاني) في ب وهـ ود: بهذه.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156)

[سورة آل عمران (3): آية 156]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156)
قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا) يعنى المنافقين. (وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ) يعني في النفاق أو في النسب في السرايا التي بعث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى بئر معونة. (لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا) فنهي المسلمون أن يقولوا مثل قولهم. وقوله: (إِذا ضَرَبُوا) هو لما مضى، أي إذ ضربوا، لان في الكلام معنى الشرط من حيث كان" الَّذِينَ" بهما غير موقت، فوقع" إِذا" موقع" إذ" كما يقع الماضي في الجزاء موضع المستقبل. ومعنى (ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ) سافروا فيها وساروا لتجارة أو غيرها فماتوا. (أَوْ كانُوا غُزًّى) غزاة فقتلوا. والغزي جمع منقوص لا يتغير لفظها في رفع وخفض، واحدهم غاز، كراكع وركع، وصائم وصوم، ونائم ونوم، وشاهد وشهد، وغائب وغيب. ويجوز في الجمع غزاة مثل قضاة، وغزاء بالمد مثل ضراب وصوام. ويقال: غزى «1» جمع الغزاة. قال الشاعر «2»:
قل للقوافل والغزي إذا غزوا

وروي عن الزهري أنه قرأه" غُزًّى" بالتخفيف. والمغزية المرأة التي غرا زوجها. وأتان مغزية متأخرة النتاج ثم تنتج. وأغزت الناقة إذا عسر لقاحها. والغزو قصد الشيء. والمغزى المقصد. ويقال في النسب إلى الغزو: غزوى.
__________
(1). في اللسان مادة" غزا" أنه جمع غاز مثل حاج وحجيج وقاطن وقطين وناد وندى وناج وتجئ.
(2). هو زياد الأعجم. وقيل: هو الصلتان العبدي، وتمامه كما في اللسان:
والباكرين وللمجد الرامح

وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158)

قوله تعالى: (لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ) يعني ظنهم وقولهم. واللام متعلقة بقوله" قالُوا" أي ليجعل ظنهم أنهم لو لم يخرجوا ما قتلوا." حَسْرَةً" أي ندامة" فِي قُلُوبِهِمْ". والحسرة الاهتمام على فائت لم يقدر بلوغه، قال الشاعر:
فوا حسرتى لم أقض منها لبانتي ... ولم أتمتع بالجوار وبالقرب
وقيل: هي متعلقة بمحذوف. والمعنى: لا تكونوا مثلهم" لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ" القول" حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ" لأنهم ظهر نفاقهم. وقيل: المعنى لا تصدقوهم ولا تلتفتوا إليهم، فكان ذلك حسرة في قلوبهم. وقيل:" لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ" يوم القيامة لما هم فيه من الخزي والندامة، ولما فيه المسلمون من النعيم والكرامة. قوله تعالى: (وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ) أي يقدر على أن يحيي من يخرج إلى القتال، ويميت من أقام في أهله. (وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) قرئ بالياء والتاء. ثم أخبر تعالى أن القتل في سبيل الله والموت فيه خير من جميع الدنيا.

[سورة آل عمران (3): الآيات 157 الى 158]
وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158)
جواب الجزاء محذوف، استغني عنه بجواب القسم في قوله: (لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ) وكان الاستغناء بجواب القسم أولى، لان له صدر الكلام، ومعناه ليغفرن لكم. وأهل الحجاز يقولون: متم، بكسر الميم مثل نمتم، من مات يمات مثل خفت يخاف. وسفلي مضر يقولون: متم، بضم الميم مثل صمتم، من مات يموت. كقولك كان يكون، وقال يقول. هذا قول الكوفيين وهو حسن. وقوله: (لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ) وعظ. وعظهم الله بهذا القول، أي لا تفروا من القتال ومما أمركم به، بل فروا من عقابه وأليم عذابه، فإن مردكم إليه لا يملك لكم أحد ضرا ولا نفعا غيره. والله سبحانه وتعالى أعلم.

فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)

[سورة آل عمران (3): آية 159]
فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)
" فَبِما" صلة فيها معنى التأكيد، أي فبرحمة، كقوله:" عَمَّا قَلِيلٍ" [المؤمنون: 40] «1»" فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ" [النساء: 155] «2»" جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ" [ص: 11] «3». وليست بزائدة على الإطلاق، وإنما أطلق عليها سيبويه معنى الزيادة من حيث زال عملها. ابن كيسان:" فَبِما" نكرة في موضع جر بالباء (ورَحْمَةٍ) بدل منها. ومعنى الآية: أنه عليه السلام لما رفق بمن تولى يوم أحد ولم يعنفهم بين الرب تعالى أنه إنما فعل ذلك بتوفيق الله تعالى إياه. وقيل:" فَبِما" استفهام. والمعنى: فبأي رحمة من الله لنت لهم، فهو تعجيب. وفية بعد، لأنه لو كان كذلك لكان" فبم" بغير ألف. (لِنْتَ) من لان يلين لينا وليانا بالفتح. والفظ الغليظ الجافي. فظظت تفظ فظاظة وفظاظا فأنت فظ. والأنثى فظة والجمع أفظاظ. وفي صفة النبي عليه السلام ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق وأنشد المفضل في المذكر:
وليس بفظ في الأداني والاولى ... يؤمون جدواه ولكنه سهل
وفظ على أعدائه يحذرونه ... فسطوته حتف ونائله جزل
وقال آخر في المؤنث:
أموت من الضر في منزلي ... وغيري يموت من الكظة «4»
ودنيا تجود على الجاهلي ... ن وهي على ذي النهى فظه
وغلظ القلب عبارة عن تجهم الوجه، وقلة الانفعال في الرغائب، وقلة الإشفاق والرحمة، ومن ذلك قول الشاعر:
يبكى علينا ولا نبكي على أحد؟ ... لنحن أغلظ أكبادا من الإبل
__________
(1). راجع ج 12 ص 124. [.....]
(2). راجع ج 6 ص 211.
(3). راجع 15 ص 151.
(4). الكظة: البطنة.

ومعنى (لَانْفَضُّوا) لتفرقوا، فضضتهم فانفضوا، أي فرقتهم فتفرقوا، ومن ذلك قول أبي النجم يصف إبلا:
مستعجلات القيض «1» غير جرد «2» ... ينفض عنهن الحصى بالصمد «3»
وأصل الفض الكسر، ومنه قولهم: لا يفضض الله فاك. والمعنى: يا محمد لولا رفقك لمنعهم الاحتشام والهيبة من القرب منك بعد ما كان من توليهم. قوله تعالى: (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) الاولى- قال العلماء: أمر الله تعالى نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بهذه الأوامر التي هي بتدريج بليغ، وذلك أنه أمره بأن يعفو عنهم ما له في خاصته عليهم من تبعة، فلما صاروا في هذه الدرجة أمره أن يستغفر فيما لله عليهم من تبعة أيضا، فإذا صاروا في هذه الدرجة صاروا أهلا للاستشارة في الأمور. قال أهل اللغة: الاستشارة مأخوذة من قول العرب: شرت الدابة وشورتها إذا علمت خبرها بجري أو غيره. ويقال للموضع الذي تركض فيه: مشوار. وقد يكون من قولهم: شرت العسل واشترته فهو مشور ومشتار إذا أخذته من موضعه، قال عدي بن زيد:
في سماع يأذن الشيخ له ... وحديث مثل ماذي مشار «4»
الثانية- قال ابن عطية: والشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام، من لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب. هذا ما لا خلاف فيه. وقد مدح الله المؤمنين بقوله:" وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ" [الشورى: 38] «5». قال أعرابي: ما غبنت قط حتى يغبن قومي، قيل:
__________
(1). كذا في الأصول بالقاف والياء المثناة، ولعله مصحف عن" القبض" بالقاف والباء الموحدة وهو السوق السريع، وإنما سمى السوق السريع قبضا لان البسائق؟ للإبل يقبضها أي يجمعها إذا أراد سوقها، فإذا انتشرت تعذر عليه سوقها: أو القبض بمهملة: العدو الشديد.
(2). كذا في الأصول بالمعجمة، ولعله" حرد" بالحاء المهملة، والحرد في البعير أن تنقطع عصبة ذراعه فتسترخي يده فلا يزال يخفق بها أبدا.
(3). الصمد: المكان الغيظ المرتفع من الأرض لا يبلغ أن يكون جبلا.
(4). يأذن: يستمع. والماذي: العسل الأبيض والمشار: المجتنى.
(5). راجع ج 16 ص 36.

وكيف ذلك؟ قال لا أفعل شيئا حتى أشاورهم. وقال ابن خويز منداد: واجب على الولاة مشاورة العلماء فيما لا يعلمون، وفيما أشكل عليهم من أمور الدين، ووجوه الجيش فيما يتعلق بالحرب، وجوه والناس فيما يتعلق بالمصالح، ووجوه الكتاب والوزراء والعمال فيما يتعلق بمصالح البلاد وعمارتها. وكان يقال: ما ندم من استشار «1». وكان يقال: من أعجب برأيه ضل. الثالثة- قوله تعالى: (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) يدل على جواز الاجتهاد في الأمور والأخذ بالظنون مع إمكان الوحي، فإن الله أذن لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ذلك. واختلف أهل التأويل في المعنى الذي أمر الله نبيه عليه السلام أن يشاور فيه أصحابه، فقالت طائفة: ذلك في مكايد الحروب، وعند لقاء العدو، وتطييبا لنفوسهم، ورفعا لأقدارهم، وتألفا على دينهم، وإن كان الله تعالى قد أغناه عن رأيهم بوحيه. روي هذا عن قتادة والربيع وابن إسحاق والشافعي. قال الشافعي: هو كقوله (والبكر تستأمر) تطيبا لقلبها، لا أنه واجب. وقال مقاتل وقتادة والربيع: كانت سادات العرب إذا لم يشاوروا في الامر شق عليهم: فأمر الله تعالى، نبيه عليه السلام أن يشاورهم في الامر: فإن ذلك أعطف لهم عليه وأذهب لاضغانهم، وأطيب لنفوسهم. فإذا شاورهم عرفوا إكرامه لهم. وقال آخرون: ذلك فيما لم يأته فيه وحي. روي ذلك عن الحسن البصري والضحاك قالا: ما أمر الله تعالى نبيه بالمشاورة لحاجة منه إلى رأيهم، وإنما أراد أن يعلمهم ما في المشاورة من الفضل، ولتقتدى به أمته من بعده. وفي قراءة ابن عباس:" وشاورهم في بعض الامر" ولقد أحسن القائل:
شاور صديقك في الخفي المشكل ... واقبل نصيحة ناصح متفضل
فالله قد أوصى بذاك نبيه ... في قوله: (شاوِرْهُمْ) و(فَتَوَكَّلْ)
الرابعة- جاء في مصنف أبي داود عن أبي هريرة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (المستشار مؤتمن). قال العلماء: وصفه المستشار إن كان في الأحكام أن
__________
(1). هذا حديث رواه الطبري في أوسطه والقضاعي عن أنس وحسنه السيوطي وفى كشف الخفا: في سنده؟ ضعيف جدا.

يكون عالما دينا، وقلما يكون ذلك إلا في عاقل. قال الحسن: ما كمل دين امرئ ما لم يكمل عقله. فإذا استشير من هذه صفته واجتهد في الصلاح وبذل جهده فوقعت الإشارة خطأ فلا غرامة عليه، قاله الخطابي وغيره. الخامسة- وصفه المستشار في أمور الدنيا أن يكون عاقلا مجربا وادا في المستشير. قال:
شاور صديقك في الخفي المشكل

وقد تقدم. وقال آخر:
وإن باب أمر عليك التوى ... فشاور لبيبا ولا تعصه
في أبيات «1». والشورى بركة. وقال عليه السلام: (ما ندم من استشار ولا خاب من استخار). وروى سهل بن سعد الساعدي عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (ما شقي قط عبد بمشورة وما سعد باستغناء رأي). وقال بعضهم: شاور من جرب الأمور، فإنه يعطيك من رأيه ما وقع عليه غاليا وأنت تأخذه مجانا. وقد جعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه الخلافة- وهي أعظم النوازل- شورى. قال البخاري: وكانت الأئمة بعد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستشيرون الأمناء من أهل العلم في الأمور المباحة ليأخذوا بأسهلها. وقال سفيان الثوري: ليكن أهل مشورتك أهل التقوى والأمانة، ومن يخشى الله تعالى. وقال الحسن: والله ما تشاور قوم بينهم إلا هداهم لأفضل ما يحضر «2» بهم. وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ما من قوم كانت لهم مشورة فحضر معهم من اسمه أحمد أو محمد فأدخلوه في مشورتهم إلا خير لهم).
__________
(1). وقيل البيت:
إذا كنت في حاجة مرسلا ... فأرسل حكيما ولا توصه
وبعده:
ونص الحديث إلى أهله ... فإن الوثيقة في نصه
إذا المرء أضمر خوف الإل ... هـ تبين ذلك في شخصه

(2). في ب وج: ما بحضرتهم.

السادسة- والشورى مبنية على اختلاف الآراء، والمستشير ينظر في ذلك الخلاف، وينظر أقربها قولا إلى الكتاب والسنة إن أمكنه، فإذا أرشده الله تعالى إلى ما شاء منه عزم عليه وأنفذه متوكلا عليه، إذ هذه غاية الاجتهاد المطلوب، وبهذا أمر الله تعالى نبيه في هذه الآية. السابعة- قوله تعالى: (فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ) قال قتادة: أمر الله تعالى نبيه عليه السلام إذا عزم على أمر أن يمضي فيه ويتوكل على الله، لا على مشاورتهم. والعزم هو الامر المروي المنقح، وليس ركوب الرأي دون روية عزما، إلا على مقطع المشيحين من فتاك العرب، كما قال «1»:
إذا هم ألقى بين عينيه عزمه ... ونكب عن ذكر العواقب جانبا
ولم يستشر في رأيه غير نفسه ... ولم يرض إلا قائم السيف صاحبا
وقال النقاش: العزم والحزم واحد، والحاء مبدلة من العين. قال ابن عطية: وهذا خطأ، فالحزم جودة النظر في الامر وتنقيحه والحذر من الخطأ فيه. والعزم قصد الإمضاء، والله تعالى يقول:" وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ". فالمشاورة وما كان في معناها هو الحزم. والعرب تقول: قد أحزم لو أعزم «2». وقرا جعفر الصادق وجابر بن زيد:" فَإِذا عَزَمْتَ" بضم التاء. نسب العزم إلى نفسه سبحانه إذ هو بهدايته وتوفيقه، كما قال:" وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى " [الأنفال: 17] «3». ومعنى الكلام أي عزمت لك ووفقتك وأرشدتك" فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ". والباقون بفتح التاء. قال المهلب: وامتثل هذا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أمر ربه فقال: (لا ينبغي لنبي يلبس لامته «4» أن يضعها حتى يحكم الله). أي ليس ينبغي له إذا عزم أن ينصرف، لأنه نقض للتوكل الذي شرطه الله عز وجل مع العزيمة. فلبسه لامته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين أشار عليه بالخروج يوم أحد من أكرمه الله بالشهادة فيه، وهم صلحاء المؤمنين ممن كان فاتته بدر: يا رسول الله اخرج بنا إلى عدونا، دال على العزيمة. وكان
__________
(1). هو سعد بن ناشب المازني (عن الكامل للبرد وخزانة الأدب للبغدادي).
(2). يقول: أعرف وجه الحزم، فإن عزمت فأمضيت الرأى فأنا حازم، وإن تركت الصواب وأنا أراه وضيعت العزم لم ينفعني حزمى. (عن الكامل للمبرد).
(3). راجع ج 7 ص 384. [.....]
(4). اللامة: الدرع، وقيل: السلاح. ولامة الحرب: أداتها. وقد يترك الهمز تخفيفا.

إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160)

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أشار بالقعود، وكذلك عبد الله بن أبي أشار بذلك وقال: أقم يا رسول الله ولا تخرج إليهم بالناس، فإن هم أقاموا أقاموا بشر مجلس، وإن جاءونا إلى المدينة قاتلناهم في الأفنية وأفواه السكك، ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من الآطام «1»، فو الله ما حاربنا قط عدو في هذه المدينة إلا غلبناه، ولا خرجنا منها إلى عدو إلا غلبنا. وأبى هذا الرأي من ذكرنا، وشجعوا الناس ودعوا إلى الحرب. فصلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجمعة، ودخل إثر صلاته بيته ولبس سلاحه، فندم أولئك القوم وقالوا: أكرهنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما خرج عليهم في سلاحه قالوا: يا رسول الله، أقم إن شئت فإنا لا نريد أن نكرهك، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لا ينبغي لنبي إذا لبس سلاحه أن يضعها حتى يقاتل). الثامنة- قوله تعالى: (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) التوكل: الاعتماد على الله مع إظهار العجز، والاسم التكلان. يقال منه: اتكلت عليه في أمرى، وأصله:" اوتكلت" قلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها، ثم أبد لت منها التاء وأدغمت في تاء الافتعال. ويقال: وكلته بأمري توكيلا، والاسم الوكالة بكسر الواو وفتحها. واختلف العلماء في التوكل، فقالت طائفة من المتصوفة: لا يستحقه إلا من لم يخالط قلبه خوف غير الله من سبع أو غيره، وحتى يترك السعي في طلب الرزق لضمان الله تعالى. وقال عامة الفقهاء: ما تقدم ذكره عند قوله تعالى: (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) [آل عمران: 160] «2». وهو الصحيح كما بيناه. وقد خاف موسى وهارون بإخبار الله تعالى عنهما في قوله" لا تَخافا" «3». وقال:" فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى قُلْنا لا تَخَفْ" [طه: 68- 67] «4». وأخبر عن إبراهيم بقوله:" فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ" [هود: 70] «5». فإذا كان الخليل وموسى والكليم قد خافا وحسبك بهما- فغيرهما أولى. وسيأتي بيان هذا المعنى.

[سورة آل عمران (3): آية 160]
إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160)
__________
(1). الآطام (جمع أطم بضمتين): الأبنية المرتفعة كالحصون. وقيل: حصون مبنية بالحجارة.
(2). راجع ص 189 من هذا الجزء.
(3). راجع ج 11 ص 201 و221.
(4). راجع ج 11 ص 201 و221.
(5). راجع ج 9 ص 62.

وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (161)

قوله تعالى: (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ) أي عليه توكلوا فإنه إن يعنكم ويمنعكم من عدوكم لن تغلبوا .. (وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ) يترككم من معونته. (فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ) أي لا ينصركم أحد من بعده، أي من بعد خذلانه إياكم، لأنه قال:" وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ" والخذلان ترك العون. والمخذول: المتروك لا يعبأ به. وخذلت الوحشية أقامت على ولدها في المرعى وتركت صواحباتها، فهي خذول. قال طرفة:
خذول تراعي ربربا بخميلة ... تناول أطراف البرير وترتدي «1»
وقال أيضا:
نظرت إليك بعين جارية ... خذلت صواحبها على طفل
وقيل: هذا من المقلوب، لأنها هي المخذولة إذا تركت. وتخاذلت رجلاه إذا ضعفتا. قال:
وخذول الرجل من غير كسح

«2» ورجل خذلة للذي لا يزال يخذل. والله أعلم.

[سورة آل عمران (3): آية 161]
وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (161)
فيه إحدى عشرة مسألة: الاولى- لما أخل الرماة يوم أحد بمراكزهم- على ما تقدم- خوفا من أن يستولي المسلمون على الغنيمة فلا يصرف إليهم شي، بين الله سبحانه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يجور في القسمة، فما كان من حقكم أن تتهموه. وقال الضحاك: بل السبب أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث طلائع في بعض غزواته ثم غنم قبل مجيئهم، فقسم للناس ولم يقسم للطلائع، فأنزل الله عليه عتابا:" وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ" أي يقسم لبعض ويترك بعضا. وروي نحو هذا القول عن ابن عباس. وقال ابن عباس أيضا وعكرمة وابن جبير وغيرهم:
__________
(1). الربوب: القطيع من بقر الوحش والظباء وغير ذلك. الخميلة: الأرض السهلة اللينة ذات الشجر. البرير:؟؟؟ الأراك.
(2). هذا عجز بيت للأعشى وصدره: كل وضاح كريم جده.

نزلت بسبب قطيفة حمراء فقدت في المغانم يوم بدر، فقال بعض من كان مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لعل أن يكون النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخذها، فنزلت الآية أخرجه أبو داود والترمذي وقال: هذا حديث حسن غريب. قال ابن عطية: قيل كانت هذه المقالة من مؤمنين لم يظنوا أن في ذلك حرجا. وقيل: كانت من المنافقين. وقد روي أن المفقود كان سيفا. وهذه الأقوال تخرج على قراءة" يَغُلَّ" بفتح الياء وضم الغين. وروى أبو صخر عن محمد بن كعب" وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ" قال: تقول وما كان لنبي أن يكتم شيئا من كتاب الله. وقيل: اللام فيه منقولة، أي وما كان نبي ليغل، كقوله:" ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ" [مريم: 35] «1». أي ما كان الله ليتخذ ولدا. وقرى" يغل" بضم الياء وفتح الغين. وقال ابن السكيت: [لم نسمع في المغنم إلا غل غلولا، وقرى «2» و[ما كان لنبي أن يغل ويغل. قال: فمعنى" يَغُلَّ" يخون، ومعنى" يغل" يخون، ويحتمل معنيين: أحدهما يخان أي يؤخذ من غنيمته، والآخر يخون أن ينسب إلى الغلول: ثم قيل: إن كل من غل شيئا في خفاء فقد غل يغل غلولا: قال ابن عرفة: سميت غلولا لان الأيدي مغلولة منها، أي ممنوعة. وقال أبو عبيد: الغلول من المغنم خاصة، ولا نراه من الخيانة ولا من الحقد. ومما يبين ذلك أنه يقال من الخيانة: أغل يغل، ومن الحقد: غل يغل بالكسر، ومن الغلول: غل يغل بالضم. وغل البعير أيضا [يغل غلة] «3» إذا لم يقض ريه واغل الرجل خان، قال النمر:
جزى الله عنا حمزة «4» ابنة نوفل ... جزاء مغل بالأمانة كاذب
وفي الحديث: (لا إغلال ولا إسلال) أي لا خيانة ولا سرقة، ويقال: لا رشوة. وقال شريح: ليس على المستعير غير المغل ضمان. وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ثلاث لا يغل عليهن قلب مؤمن) من رواه بالفتح «5» فهو من الضغن. وغل [دخل ] «6» يتعدى ولا يتعدى، يقال:
__________
(1). راجع ج 11 ص 105.
(2). زيادة عن الصحاح واللسان.
(3). زيادة عن كتب اللغة.
(4). كذا في الأصول واللسان، وفى الصحاح للجوهري" جمرة" بالجيم المعجمة والراء.
(5). أي بفتح الياء.
(6). زيادة عن كتب اللغة. [.....]

غل فلان المفاوز، أي دخلها وتوسطها. وغل من المغنم غلولا، أي خان. وغل الماء بين الأشجار إذا جرى فيها، يغل بالضم «1» في جميع ذلك. وقيل: الغلول في اللغة أن يأخذ من المغنم شيئا يستره عن أصحابه، ومنه تغلغل الماء في الشجر إذا تخللها. والغلل: الماء الجاري في أصول الشجر، لأنه مستتر بالأشجار، كما قال «2»:
لعب السيول به فأصبح ماؤه ... غللا يقطع في أصول الخروع
ومنه الغلالة للثوب الذي يلبس تحت الثياب. والغال: أرض مطمئنة ذات شجر. ومنابت السلم «3» والطلح يقال لها: غال. والغال أيضا نبت، والجمع غلان بالضم. وقال بعض الناس: إن معنى" يَغُلَّ" يوجد غالا، كما تقول: أحمدت الرجل وجدته محمودا. فهذه القراءة على هذا التأويل ترجع إلى معنى" يَغُلَّ" بفتح الياء وضم الغين. ومعنى" يغل" عند جمهور أهل العلم أي ليس لاحد أن يغله، أي يخونه في الغنيمة. فالآية في معنى نهي الناس عن الغلول في الغنائم، والتوعد عليه. وكما لا يجوز أن يخان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يجوز أن يخان غيره، ولكن خصه بالذكر لان الخيانة معه أشد وقعا وأعظم وزرا، لان المعاصي تعظم بحضرته لتعين توقيره. والولاة إنما هم على أمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلهم حظهم من التوقير. وقيل: معنى" يَغُلَّ" أي ما غل نبي قط، وليس الغرض النهي. الثانية- قوله تعالى: (وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي يأتي به حاملا له على ظهره ورقبته، معذبا بحمله وثقله، ومرعوبا بصوته، وموبخا بإظهار خيانته على رءوس الاشهاد، على ما يأتي. وهذه الفضيحة التي يوقعها الله تعالى بالغال نظير الفضيحة التي توقع بالغادر، في أن ينصب له لواء عند استه بقدر غدرته. وجعل الله تعالى هذه المعاقبات حسبما يعهده البشر ويفهمونه، ألا ترى إلى قول الشاعر:
أسمي ويحك هل سمعت بغدرة ... رفع اللواء لنا بها في المجمع
__________
(1). أي بضم الغين.
(2). البيت للحويدرة، كما في اللسان.
(3). في ب ود: الساج.

وكانت العرب ترفع للغادر لواء، وكذلك يطاف بالجاني مع جنايته. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قام فينا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذات يوم فذكر الغلول فعظمه وعظم أمره ثم قال: (لا ألفين أحدكم يجئ يوم القيامة علي رقبته بعير له رغاء يقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئا قد أبلغتك لا ألفين أحدكم يجئ يوم القيامة على رقبته فرس له حمحمة «1» فيقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئا قد أبلغتك لا ألفين أحدكم يجئ يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء يقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئا قد أبلغتك لا ألفين أحدكم يجئ يوم القيامة على رقبته نفس لها صياح فيقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئا قد أبلغتك لا ألفين أحدكم يجئ يوم القيامة على رقبته رقاع «2» تخفق فيقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئا قد أبلغتك لا ألفين أحدكم يجئ يوم القيامة على رقبته صامت «3» فيقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئا قد أبلغتك) وروى أبو داود عن سمرة «4» بن جندب قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا أصاب غنيمة أمر بلالا فنادى في الناس فيجيئون بغنائمهم فيخمسه ويقسمه، فجاء رجل يوما بعد النداء بزمام من الشعر فقال: يا رسول الله هذا كان فيما أصبناه من الغنيمة. فقال: (أسمعت بلالا ينادي ثلاثا)؟ قال: نعم. قال: (فما منعك أن تجئ به)؟ فاعتذر إليه. فقال: (كلا «5» أنت تجئ به يوم القيامة فلن أقبله منك). قال بعض العلماء: أراد يوافي بوزر ذلك يوم القيامة، كما قال في آية أخرى:" وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ" [الانعام: 31] «6». وقيل: الخبر محمول على شهرة الامر، أي يأتي يوم القيامة قد شهر الله أمره كما يشهر لو حمل بعيرا له رغاء أو فرسا له حمحمة. قلت: وهذا عدول عن الحقيقة إلى المجاز والتشبيه، وإذا دار الكلام بين الحقيقة والمجاز فالحقيقة الأصل كما في كتب الأصول. وقد أخبر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالحقيقة،
__________
(1). حمحمة الفرس: صوته دون الصهيل، والثغاء: صياح الغنم.
(2). الرقاع (بالكسر جمع رقعة بالضم) وهى التي تكتب. وأراد بها ما عليها من الحقوق المكتوبة. وخفوقها: حركتها.
(3). الصامت: الذهب والفضة، خلاف الناطق وهو الحيوان.
(4). في سنن أبى داود:" عن عبد الله بن عمرو"، وكذا في مسند الامام أحمد بن حنبل.
(5). في سنن أبى داود" كن أنت تجئ به".
(6). راجع ج 6 ص 314.

ولا عطر بعد عروس. ويقال: إن من غل شيئا في الدنيا يمثل له يوم القيامة في النار، ثم يقال له: انزل إليه فخذه، فيهبط إليه، فإذا انتهى إليه حمله، حتى إذا انتهى إلى الباب سقط عنه إلى أسفل جهنم، فيرجع إليه فيأخذه، لا يزال هكذا إلى ما شاء الله. ويقال" يَأْتِ بِما غَلَّ" يعني تشهد عليه يوم القيامة تلك الخيانة والغلول. الثالثة- قال العلماء: والغلول كبيرة من الكبائر، بدليل هذه الآية وما ذكرناه من حديث أبي هريرة: أنه يحمله على عنقه. وقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مدعم «1»: (والذي نفسي بيده أن الشملة التي أخذ يوم خيبر من المغانم لم تصبها المقاسم لتشتعل عليه نارا) قال: فلما سمع الناس ذلك جاء رجل بشراك أو شراكين إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (شراك أو شراكان من نار). أخرجه الموطأ. فقوله عليه السلام: (والذي نفسي بيده) وامتناعه من الصلاة على من غل دليل على تعظيم الغلول وتعظيم الذنب فيه وأنه من الكبائر، وهو من حقوق الأدميين ولا بد فيه من القصاص بالحسنات والسيئات، ثم صاحبه في المشيئة. وقوله: (شراك أو شراكان من نار) مثل قوله: (أدوا الخياط «2» والمخيط). وهذا يدل على أن القليل والكثير لا يحل أخذه في الغزو قبل المقاسم، إلا ما أجمعوا عليه من أكل المطاعم «3» في أرض الغزو ومن الاحتطاب والاصطياد. وقد روي عن الزهري أنه قال: لا يؤخذ الطعام في أرض العدو إلا بإذن الامام. وهذا لا أصل له، لان الآثار تخالفه، على ما يأتي. قال الحسن: كان أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا افتتحوا المدينة أو الحصن أكلوا من السويق والدقيق والسمن والعسل. وقال إبراهيم: كانوا يأكلون من أرض العدو الطعام في أرض الحرب ويعلفون قبل أن يخمسوا. وقال عطاء: في الغزاة يكونون في السرية فيصيبون أنحاء «4» السمن والعسل والطعام فيأكلون، وما بقي ردوه إلى إمامهم، وعلى هذا جماعة العلماء.
__________
(1). مدعم: عبد أسود أهداه رفاعة بن زيد لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عام خيبر.
(2). الخياط هاهنا الخيط. والمخيط بالكسر: الإبرة.
(3). في هـ ود وج وب: الطعام، وكلها: أرض العدو، الأب: أرض الغزو.
(4). أنحاء: جمع نحى بالكسر وهو زق السمن. وقيل مطلقا.

الرابعة: وفي هذا الحديث دليل على أن الغال لا يحرق متاعه، لان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يحرق متاع «1» الرجل الذي أخذ الشملة، ولا أحرق متاع صاحب الخرزات «2» الذي ترك الصلاة عليه، ولو كان حرق متاعه واجبا لفعله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولو فعله لنقل ذلك في الحديث. وأما ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (إذا وجدتم الرجل قد غل فأحرقوا متاعه واضربوه). فرواه أبو داود والترمذي من حديث صالح بن محمد بن زائدة، وهو ضعيف لا يحتج به. قال الترمذي: سألت محمدا- يعني البخاري- عن هذا الحديث فقال: إنما روى هذا صالح بن محمد وهو أبو واقد الليثي وهو منكر الحديث. وروى أبو داود أيضا عنه قال: غزونا مع الوليد بن هشام ومعنا سالم بن عبد الله بن عمر وعمر بن عبد العزيز، فغل رجل متاعا فأمر الوليد بمتاعه فأحرق، وطيف به ولم يعطه سهمه. قال أبو داود: وهذا أصح الحديثين. وروي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبا بكر وعمر حرقوا متاع الغال وضربوه. قال أبو داود: وزاد فيه علي بن بحر عن الوليد- ولم أسمعه منه-: ومنعوه سهمه. قال أبو عمر: قال بعض رواة هذا الحديث: واضربوا عنقه وأحرقوا متاعه. وهذا الحديث يدور على صالح ابن محمد وليس ممن يحتج به. وقد ثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث) وهو ينفي القتل في الغلول. وروى ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (ليس على الخائن ولا على المنتهب ولا على المختلس قطع). وهذا يعارض حديث صالح بن محمد وهو أقوى من جهة الاسناد. والغال خائن في اللغة والشريعة وإذا انتفى عنه القطع فأحرى القتل. وقال الطحاوي: لو صح حديث صالح المذكور احتمل أن يكون حين كانت العقوبات في الأموال، كما قال في مانع
__________
(1). في هـ وج وب: لم يحرق رحل الذي أخذ الشملة. [.....]
(2). صاحب الخرزات: رجل من أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لم يسمه أبو داود في سننه) توفى يوم خيبر، فذكروا ذلك لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال:" صلوا على صاحبكم" فتغيرت وجوه الناس لذلك، فقال (إن صاحبكم غل في سبيل الله" ففتشنا متاعه فوجدنا خرزا من خرز يهود لا يساوى درهمين (عن سنن أبى داود).

الزكاة: (إنا آخذوها وشطر ماله، عزمة من عزمات الله تعالى) «1». وكما قال أبو هريرة في ضالة الإبل المكتومة: فيها غرامتها ومثله معها. وكما روى عبد الله بن عمرو بن العاص في الثمر المعلق غرامة مثليه وجلدات نكال. وهذا كله منسوخ، والله أعلم. الخامسة- فإذا غل الرجل في المغنم ووجد أخذ منه، وأدب وعوقب بالتعزير. وعند مالك والشافعي وأبي حنيفة وأصحابهم والليث: لا يحرق متاعه. وقال الشافعي والليث وداود: إن كان عالما بالنهي عوقب. وقال الأوزاعي: يحرق متاع الغال كله إلا سلاحه وثيابه التي عليه وسرجه، ولا تنزع منه دابته، ولا يحرق الشيء الذي غل. وهذا قول أحمد وإسحاق، وقاله الحسن، إلا أن يكون حيوانا أو مصحفا. وقال ابن خويز منداد: وروي أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما ضربا الغال وأحرقا متاعه. قال ابن عبد البر: وممن قال يحرق رحل الغال ومتاعه مكحول وسعيد بن عبد العزيز. وحجة من ذهب إلى هذا حديث صالح المذكور. وهو عندنا حديث لا يجب به انتهاك حرمة، ولا إنفاذ حكم، لما يعارضه من الإثار التي هي أقوى منه. وما ذهب إليه مالك ومن تابعه من هذه المسألة أصح من جهة النظر وصحيح الأثر. والله أعلم. السادسة- لم يختلف مذهب مالك في العقوبة على البدن، فأما في المال فقال في الذمي يبيع الخمر من المسلم: تراق الخمر على المسلم، وينزع الثمن من الذمي عقوبة له، لئلا يبيع الخمر من المسلمين. فعلى هذا يجوز أن يقال: تجوز العقوبة في المال. وقد أراق عمر رضي الله عنه لبنا شيب بماء. السابعة أجمع العلماء على أن للغال أن يرد جميع ما غل إلى صاحب المقاسم قبل أن يفترق الناس إن وجد السبيل إلى ذلك، وإنه إذا فعل ذلك فهي توبة له، وخروج عن ذنبه.
__________
(1). في نهاية ابن الأثير:" قال الحربي غلط الراوي في لفظ الرواية، إنما هو وشطر ماله شطرين، أي يجعل ماله شطرين، ويتخير عليه المصدق فيأخذ الصدقة من خير النصفين عقوبة لمنعه الزكاة فأما ما لا تلزمه فلا". وعزمة حق من حقوقه وواجب من واجباته.

واختلفوا فيما يفعل به إذا افترق أهل العسكر ولم يصل إليه، فقال جماعة من أهل العلم: يدفع إلى الامام خمسه ويتصدق بالباقي. هذا مذهب الزهري ومالك والأوزاعي والليث والثوري، وروي عن عبادة بن الصامت ومعاوية والحسن البصري. وهو يشبه مذهب ابن مسعود وابن عباس، لأنهما كانا يريان أن يتصدق بالمال الذي لا يعرف صاحبه، وهو مذهب أحمد ابن حنبل. وقال الشافعي: ليس له الصدقة بمال غيره. قال أبو عمر: فهذا عندي فيما يمكن وجود صاحبه والوصول إليه أو إلى ورثته، وأما إن لم يكن شي من ذلك فإن الشافعي لا يكره الصدقة حينئذ إن شاء الله. وقد أجمعوا في اللقطة على جواز الصدقة بها بعد التعريف لها وانقطاع صاحبها، وجعلوه إذا جاء- مخيرا بين الأجر والضمان، وكذلك المغصوب. وبالله التوفيق. وفي تحريم الغلول دليل على اشتراك الغانمين في الغنيمة، فلا يحل لاحد أن يستأثر بشيء منها دون الأخر، فمن غصب شيئا منها أدب اتفاقا، على ما تقدم. الثامنة- وإن وطئ جارية أو سرق نصابا فاختلف العلماء في إقامة الحد عليه، فرأى جماعة أنه لا قطع عليه. التاسعة- ومن الغلول هدايا العمال، وحكمه في الفضيحة في الآخرة حكم الغال. روى أبو داود في سننه ومسلم في صحيحه عن أبي حميد الساعدي أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استعمل رجلا من الأزد يقال له ابن اللتبية «1» [قال ابن السرح ابن الاتبية] «2» على الصدقة، فجاء فقال: هذا لكم وهذا أهدي لي. فقام النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على المنبر فحمد الله وأثنى عليه وقال: (ما بال العامل نبعثه فيجيء فيقول هذا لكم وهذا أهدي لي ألا جلس في بيت أمه أو أبيه فينظر أيهدى إليه أم لا، لا يأتي أحد منكم بشيء من ذلك إلا جاء به يوم القيامة إن كان بعيرا فله رغاء وإن كانت بقرة فلها خوار أو شاة تيعر ( «3»- ثم رفع يديه حتى رأينا عفرتي «4» إبطيه ثم قال:-) اللهم هل بلغت اللهم هل بلغت (. وروى أبو داود عن بريدة عن النبي
__________
(1). ابن اللتبية (بضم فسكون) هو عبد الله بن اللتبية الصحابي، واللتبية أمة. ويروى بفتح اللام والمثناة.
(2). هذه الزيادة في صلب: ج وهـ ود، وابن السرح هو أحمد بن عمرو الأموي أبو الطاهر المصري.
(3). اليعار (بضم الياء): صوت الغنم والمعزى. يعرف بفتح العين تيعر بالكسر والفتح يعارا بالضم.
(4). العفرة (بضم فسكون): بياض ليس بالناصح الشديد، ولكن كلون عفر الأرض وهو وجهها.

أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (163)

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (من استعملناه على عمل فرزقناه رزقا فما أخذ بعد ذلك فهو غلول). وروى أيضا عن أبى مسعود الأنصاري قال: بعثني رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ساعيا ثم قال: (انطلق أبا مسعود ولا ألفينك يوم القيامة تأتي على ظهرك بعير من إبل الصدقة له رغاء قد غللته (. قال: إذا لا أنطلق. قال:) إذا لا أكرهك (. وقد قيد هذه الأحاديث ما رواه أبو داود أيضا عن المستورد بن شداد قال: سمعت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: (من كان لنا عاملا فليكتسب «1» زوجة فإن لم يكن له خادم فليكتسب خادما فإن لم يكن له مسكن فليكتسب مسكنا (. قال فقال أبو بكر: أخبرت أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:) من اتخذ غير ذلك فهو غال سارق (. والله أعلم. العاشرة- ومن الغلول حبس الكتب عن أصحابها، ويدخل غيرها في معناها. قال الزهري: إياك وغلول الكتب. فقيل له: وما غلول الكتب؟ قال: حبسها عن أصحابها. وقد قيل في تأويل قوله تعالى:" وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ" أن يكتم شيئا من الوحي رغبة أو رهبة أو مداهنة. وذلك أنهم كانوا يكرهون ما في القرآن من عيب دينهم وسب آلهتهم، فسألوه أن يطوي ذلك، فأنزل الله هذه الآية، قاله محمد بن بشار «2». وما بدأنا به قول الجمهور. الحادية عشرة- قوله تعالى: (ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) تقدم القول فيه «3».

[سورة آل عمران (3): الآيات 162 الى 163]
أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (163)
قوله تعالى: (أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ) يريد بترك الغلول والصبر على الجهاد. (كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ) يريد بكفر أو غلول أو تول عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحرب. (وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ) أي مثواه النار، أي إن لم يتب أو يعفو الله عنه. (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي المرجع. وقرى
__________
(1). والحديث بالسند والمتن في ابن كثير.
(2). في د وهـ وب: يسار. هو أبو عبد الله المروزي الخرساني، وابن بشار هو ابن عثمان بن داود بن كيسان العبدى البصري.
(3). راجع ج 3 ص 375.

لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164)

رضوان بكسر الراء وضمها كالعدوان [والعدوان ] «1». ثم قال تعالى: (هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ) أي ليس من اتبع رضوان الله كمن باء بسخط منه. قيل:" هُمْ دَرَجاتٌ" متفاوتة، أي هم مختلفوا المنازل عند الله، فلمن ابتغى رضوانه الكرامة والثواب العظيم، ولمن باء بسخط منه المهانة والعذاب الأليم. ومعنى" هُمْ دَرَجاتٌ"- أي ذوو درجات. أو على درجات، أو في درجات، أو لهم درجات. وأهل النار أيضا ذوو درجات، كما قال: (وجدته في غمرات من النار فأخرجته إلى ضحضاح) «2». فالمؤمن والكافر لا يستويان في الدرجة، ثم المؤمنون يختلفون أيضا، فبعضهم أرفع درجة من بعض، وكذلك الكفار. والدرجة الرتبة، ومنه الدرج، لأنه يطوى رتبة بعد رتبة. والأشهر في منازل جهنم دركات، كما قال:" إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ" [النساء: 145] «3» فلمن لم يغل درجات في الجنة، ولمن غل دركات في النار. قال أبو عبيدة: جهنم أدراك، أي منازل، يقال لكل منزل منها: درك ودرك. والدرك إلى أسفل، والدرج إلى أعلى.

[سورة آل عمران (3): آية 164]
لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (164)
بين الله تعالى عظيم منته عليهم ببعثه محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. والمعنى في المنة فيه أقوال: منها أن يكون معنى (مِنْ أَنْفُسِهِمْ) أي بشر مثلهم. فلما أظهر البراهين وهو بشر مثلهم علم أن ذلك من عند الله. وقيل:" مِنْ أَنْفُسِهِمْ" منهم. فشرفوا به صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكانت تلك المنة. وقيل:" مِنْ أَنْفُسِهِمْ" ليعرفوا حاله ولا تخفى عليهم طريقته. وإذا كان محله فيهم هذا كانوا أحق بأن يقاتلوا عنه ولا ينهزموا دونه. وقرى في الشواذ «4»" من أنفسهم" (بفتح الفاء) يعني من أشرفهم، لأنه من بني هاشم، وبنو هاشم أفضل من قريش، وقريش أفضل من العرب، والعرب أفضل من غيرهم. ثم قيل: لفظ المؤمنين عام ومعناه خاص
__________
(1). في هـ وج ود.
(2). الضحضاح: مارق من الماء على وجه الأرض ولا يبلغ الكعبين، فاستعارة للنار.
(3). راجع ج 5 ص 124.
(4). هذه قراءة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفاطمة وابن عباس رضى الله عنهما.

أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165)

في العرب، لأنه ليس حي من أحياء العرب إلا وقد ولده صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولهم فيه نسب، إلا بني تغلب فإنهم كانوا نصارى فطهره الله من دنس النصرانية. وبيان هذا التأويل قوله تعالى:" هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ" [الجمعة: 2] «1». وذكر أبو محمد عبد الغني قال: حدثنا أبو أحمد البصري «2» حدثنا أحمد بن علي بن سعيد القاضي أبو بكر المروزي حدثنا يحيى بن معين حدثنا هشام بن يوسف عن عبد الله بن سليمان النوفلي عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها:" لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ" قالت: هذه للعرب خاصة. وقال آخرون: أراد به المؤمنين كلهم. ومعنى" مِنْ أَنْفُسِهِمْ" أنه واحد منهم وبشر ومثلهم، وإنما امتاز عنهم بالوحي، وهو معنى قوله" لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ" [التوبة: 128] «3» وخص المؤمنين بالذكر لأنهم المنتفعون به، فالمنة عليهم أعظم. وقوله تعالى: (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ)" يَتْلُوا" في موضع نصب نعت لرسول، ومعناه يقرأ. والتلاوة القراءة. (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) تقدم في" البقرة" «4». ومعنى (وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ) أي ولقد كانوا من قبل، أي من قبل محمد، وقيل:" إِنْ" بمعنى ما، واللام في الخبر بمعنى إلا، أي وما كانوا من قبل إلا في ضلال مبين. ومثله" وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ" [البقرة: 198] أي وما كنتم من قبله إلا من الضالين. وهذا مذهب الكوفيين. وقد تقدم في" البقرة" «5» معنى هذه الآية.

[سورة آل عمران (3): آية 165]
أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165)
الالف للاستفهام، والواو للعطف. (مُصِيبَةٌ) أي غلبة. (قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها) يوم بدر بأن قتلتم منهم سبعين وأسرتم سبعين. والأسير في حكم المقتول، لان الآسر يقتل أسيره إن أراد. أي فهزمتموهم يوم بدر ويوم أحد أيضا في الابتداء، وقتلتم فيه قريبا من
__________
(1). راجع ج 18 ص 91. [.....]
(2). في ب وهـ ود: المصري.
(3). راجع ج 8 ص 301.
(4). راجع ج 2 ص 130.
(5). راجع ج 2 ص 427.

وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167)

عشرين، قتلتم منهم في يومين، ونالوا منكم في يوم أحد." قُلْتُمْ أَنَّى هذا" أي من أين أصابنا هذا الانهزام والقتل، ونحن نقاتل في سبيل الله، ونحن مسلمون، وفينا النبي والوحي، وهم مشركون؟. (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) يعني مخالفة الرماة. وما من قوم أطاعوا نبيهم في حرب إلا نصروا، لأنهم إذا أطاعوا فهم حزب الله، وحزب الله هم الغالبون. وقال قتادة والربيع بن أنس: يعني سؤالهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يخرج بعد ما أراد الإقامة بالمدينة. وتأولها في الرؤيا التي رآها درعا حصينة «1». علي بن أبي طالب رضي الله عنه: هو اختيارهم الفداء يوم بدر على القتل. وقد قيل لهم: إن فأديتم الأسارى قتل منكم على عدتهم. وروى البيهقي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الأسارى يوم بدر: (إن شئتم قتلتموهم وإن شئتم فاديتموهم واستمتعتم بالفداء واستشهد منكم بعدتهم). فكان آخر السبعين ثابت بن قيس قتل يوم اليمامة. فمعنى" مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ" على القولين الأولين بذنوبكم. وعلى القول الأخير باختياركم.

[سورة آل عمران (3): الآيات 166 الى 167]
وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ (167)
يعني يوم أحد من القتل والجرح والهزيمة. (فَبِإِذْنِ اللَّهِ) أي بعلمه. وقيل: بقضائه وقدره. قال القفال: أي فبتخليته بينكم وبينهم، لا أنه أراد ذلك. وهذا تأويل المعتزلة. ودخلت الفاء في" فَبِإِذْنِ اللَّهِ" لان" ما" بمعنى الذي. أي والذي أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله، فأشبه الكلام معنى الشرط، كما قال سيبويه: الذي قام فله درهم.
__________
(1). كذا في د وب وج وهـ، وفى ا: حصنا حصينا.

(وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا) أي ليميز. وقيل ليرى. وقيل: ليظهر إيمان المؤمنين بثبوتهم في القتال، وليظهر كفر المنافقين بإظهارهم الشماتة فيعلمون ذلك. والإشارة بقوله نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ هي إلى عبد الله بن أبي وأصحابه الذين انصرفوا معه عن نصرة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكانوا ثلاثمائة. فمشى في أثرهم عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري، أبو جابر ابن عبد الله، فقال لهم: اتقوا الله ولا تتركوا نبيكم، وقاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا، ونحو هذا من القول. فقال له ابن أبى: ما أرى أن يكون قتال، ولو علمنا أن يكون قتال لكنا معكم. فلما يئس منهم عبد الله قال: اذهبوا أعداء الله فسيغني الله رسوله عنكم. ومضى مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واستشهد رحمه الله تعالى. واختلف الناس في معنى قوله: (أَوِ ادْفَعُوا) فقال السدي وابن جريج وغيرهما: كثروا سوادنا وإن لم تقاتلوا معنا، فيكون ذلك دفعا وقمعا للعدو، فإن السواد إذا كثر حصل دفع العدو. وقال أنس بن مالك: رأيت يوم القادسية عبد الله بن أم مكتوم الأعمى وعليه درع يجر أطرافها، وبيده راية سوداء، فقيل له «1»: [أليس ] «2» قد أنزل الله عذرك؟ قال: بلى! ولكني أكثر [سواد] «3» المسلمين بنفسي. وروي عنه أنه قال: فكيف بسوادي في سبيل الله! وقال أبو عون الأنصاري: معنى" أَوِ ادْفَعُوا" رابطوا. وهذا قريب من الأول. ولا محالة أن المرابط مدافع، لأنه لولا مكان المرابطين في الثغور لجاءها العدو. وذهب قوم من المفسرين إلى أن قول عبد الله بن عمرو" أَوِ ادْفَعُوا" إنما هو استدعاء إلى القتال [حمية، لأنه استدعاهم إلى القتال ] «4» في سبيل الله، وهي أن تكون كلمة الله هي العليا، فلما رأى أنهم ليسوا على ذلك عرض عليهم الوجه الذي يحشمهم ويبعث الأنفة. أي أو قاتلوا دفاعا عن الحوزة. ألا ترى أن قزمان «5» قال: والله ما قاتلت إلا عن أحساب قومي. وألا ترى أن بعض الأنصار
__________
(1). في ز: فقلت له.
(2). الزيادة من ابن عطية.
(3). الزيادة من ابن عطية.
(4). الزيادة من ب ود وج.
(5). هو قزمان بن الحارث العبسي المنافق الذي قال فيه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر).

الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (168)

قال يوم أحد لما رأى قريشا قد أرسلت الظهر «1» في زروع قناة «2»، أترعى زروع بني قيلة «3» ولما نضارب؟ والمعنى إن لم تقاتلوا في سبيل الله فقاتلوا دفعا عن أنفسكم وحريمكم. قوله تعالى: (هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ) أي بينوا حالهم، وهتكوا أستارهم، وكشفوا عن نفاقهم لمن كان يظن أنهم مسلمون، فصاروا أقرب إلى الكفر في ظاهر الحال، وإن كانوا كافرين على التحقيق. وقوله تعالى: (يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) أي أظهروا الايمان، وأضمروا الكفر. وذكر الأفواه تأكيد، مثل قوله:" يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ" [الانعام: 38] «4».

[سورة آل عمران (3): آية 168]
الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (168)
قوله تعالى: (الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ) معناه لأجل «5» إخوانهم، وهم الشهداء المقتولون من الخزرج، وهم إخوة نسب ومجاورة، لا إخوة الدين. أي قالوا لهؤلاء الشهداء: لو قعدوا، أي بالمدينة ما قتلوا. وقيل: قال عبد الله بن أبي وأصحابه لإخوانهم، أي لاشكالهم من المنافقين: لو أطاعونا، هؤلاء الذين قتلوا، لما قتلوا. وقوله (لَوْ أَطاعُونا) يريد في ألا يخرجوا إلى قريش. وقوله: (وَقَعَدُوا) أي قالوا هذا القول وقعدوا بأنفسهم عن الجهاد، فرد الله عليهم بقوله: (قُلْ فَادْرَؤُا) أي قل لهم يا محمد: إن صدقتم فادفعوا الموت عن أنفسكم. والدرء الدفع. بين بهذا أن الحذر لا ينفع من القدر، وأن المقتول يقتل بأجله، وما علم الله وأخبر به كائن لا محالة. وقيل: مات يوم قيل هذا، سبعون منافقا. وقال أبو الليث السمرقندي: سمعت بعض المفسرين بسمرقند يقول: لما نزلت الآية" قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ" مات يومئذ سبعون نفسا من المنافقين.
__________
(1). الظهر: الركاب التي تحمل الأثقال في السفر، لحملها إياها على ظهورها.
(2). قناة: واد بالمدينة، وهى أحد أوديتها الثلاثة، عليه حرث ومال. قال المدائني: وقناة يأتي من الطائف ويصيب في الارحضية وقرقرة الكدر، ثم يأتي بئر معونة، ثم يمر على طرف القدوم في أصل قبور الشهداء بأحد. (عن معجم البلدان).
(3). قيلة: أم الأوس والخزرج، هي قيلة بنت كاهل بن عذرة، قضاعية. ويقال: بنت جفنة، غسانية. (عن شرح القاموس).
(4). راجع ج 6 ص 419. [.....]
(5). في ب: لأهل.

وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170)

[سورة آل عمران (3): الآيات 169 الى 170]
وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (170)
فيه ثمان مسائل: الاولى- لما بين الله تعالى أن ما جرى يوم أحد كان امتحانا يميز المنافق من الصادق، بين أن من لم ينهزم فقتل له الكرامة والحياة عنده. والآية في شهداء أحد. وقيل: نزلت في شهداء بئر معونة. وقيل: بل هي عامة في جميع الشهداء. وفي مصنف أبي داود بإسناد صحيح عن ابن عباس قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في جوف طير خضر ترد أنهار الجنة تأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم ومقيلهم قالوا من يبلغ إخواننا عنا أنا أحياء في الجنة نرزق لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا عند الحرب فقال الله سبحانه أنا أبلغهم عنكم (- قال- فأنزل الله (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً ...) إلى آخر الآيات. وروى بقي «1» بن مخلد عن جابر قال: لقيني رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: (يا جابر مالي أراك منكسا مهتما)؟ قلت: يا رسول الله، استشهد أبي وترك عيالا وعليه دين، فقال: (ألا أبشرك بما لقي الله عز وجل به أباك)؟ قلت: بلى يا رسول الله. قال: (إن الله أحيا أباك وكلمه كفاحا «2» وما كلم أحد قط إلا من وراء حجاب فقال له يا عبدي تمن أعطك قال يا رب فردني إلى الدنيا فأقتل فيك ثانية فقال الرب تبارك وتعالى إنه قد سبق مني أنهم [إليها] «3» لا يرجعون قال يا رب فأبلغ من ورائي) فأنزل الله عز وجل" وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ" الآية. أخرجه ابن ماجة في سننه، والترمذي في جامعه وقال: هذا حديث حسن غريب. وروى وكيع عن سالم بن الأفطس عن سعيد بن جبير" وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ"
__________
(1). حافظ الأندلس ابن يزيد القرطبي.
(2). كفاحا (بكسر الكاف) أي مواجهة ليس بينهما حجاب ولا رسول.
(3). زيادة عن سنن الترمذي وابن ماجة.

قال: لما أصيب حمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عمير ورأوا ما رزقوا من الخير قالوا: ليت إخواننا يعلمون ما أصابنا من الخير كي يزدادوا في الجهاد رغبة، فقال الله تعالى أنا أبلغهم عنكم، فأنزل الله تعالى:" وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً- إلى قوله: لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ". وقال أبو الضحى: نزلت هذه الآية في أهل أحد خاصة. والحديث الأول يقتضي «1» صحة هذا القول. وقال بعضهم: نزلت في شهداء بدر وكانوا أربعة عشر رجلا، ثمانية من الأنصار، وستة من المهاجرين. وقيل: نزلت في شهداء بئر معونة، وقصتهم مشهورة ذكرها محمد بن إسحاق «2» وغيره. وقال آخرون: إن أولياء الشهداء كانوا إذا أصابتهم نعمة وسرور تحسروا وقالوا: نحن في النعمة والسرور، وآباؤنا وأبناؤنا وإخواننا في القبور. فأنزل الله تعالى هذه الآية تنفيسا عنهم وإخبارا عن حال قتلاهم. قلت: وبالجملة وإن كان يحتمل أن يكون النزول بسبب المجموع فقد أخبر الله تعالى فيها عن الشهداء أنهم أحياء في الجنة يرزقون، ولا محالة أنهم ماتوا وأن أجسادهم في التراب، وأرواحهم حية كأرواح سائر المؤمنين، وفضلوا بالرزق في الجنة من وقت القتل حتى كأن حياة الدنيا دائمة لهم. وقد اختلف العلماء في هذا المعنى. فالذي عليه المعظم هو ما ذكرناه، وأن حياة الشهداء محققة. ثم منهم من يقول: ترد إليهم الأرواح في قبورهم فينعمون، كما يحيا الكفار في قبورهم فيعذبون. وقال مجاهد: يرزقون من ثمر الجنة، أي يجدون ريحها وليسوا فيها. وصار قوم إلى أن هذا مجاز، والمعنى أنهم في حكم الله مستحقون للتنعم في الجنة. وهو كما يقال: ما مات فلان، أي ذكره حي، كما قيل:
موت التقي حياة لا فناء لها ... قد مات قوم وهم في الناس أحياء
__________
(1). كذا في أوح. وفى د: يقتضى هذا القول، وفى ب وج وهـ: يقضى بصحة إلخ.
(2). راجع سيرة ابن هشام ص 64 طبع أوربا.

فالمعنى أنهم يرزقون الشاء الجميل. وقال آخرون: أرواحهم في أجواف طير خضر وأنهم يرزقون في الجنة ويأكلون ويتنعمون. وهذا هو الصحيح من الأقوال، لان ما صح به النقل فهو الواقع. وحديث ابن عباس نص يرفع الخلاف. وكذلك حديث ابن مسعود خرجه مسلم. وقد أتينا على هذا المعنى مبينا في كتاب" التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة". والحمد لله. وقد ذكرنا هناك كم الشهداء، وأنهم مختلفو الحال. وأما من تأول في الشهداء أنهم أحياء بمعنى أنهم سيحيون فبعيد يرده القرآن والسنة، فإن قوله تعالى:" بَلْ أَحْياءٌ" دليل على حياتهم، وأنهم يرزقون ولا يرزق إلا حي. وقد قيل: إنه يكتب لهم في كل سنة ثواب غزوة، ويشركون في ثواب كل جهاد كان بعدهم إلى يوم القيامة، لأنهم سنوا أمر الجهاد. نظيره قوله تعالى:" مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً" [المائدة: 32] «1». على ما يأتي بيانه هناك إن شاء الله تعالى. وقيل: لان أرواحهم تركع وتسجد تحت العرش إلى يوم القيامة، كأرواح الأحياء المؤمنين الذين باتوا على وضوء. وقيل: لان الشهيد لا يبلى في القبر ولا تأكله الأرض. وقد ذكرنا هذا المعنى في" التذكرة" وأن الأرض لا تأكل الأنبياء والشهداء والعلماء والمؤذنين المحتسبين وحملة القرآن. الثانية- إذا كان الشهيد حيا حكما فلا يصلى عليه، كالحي حسا. وقد اختلف العلماء في غسل الشهداء والصلاة عليهم، فذهب مالك والشافعي وأبو حنيفة والثوري إلى غسل جميع الشهداء والصلاة عليهم، إلا قتيل المعترك في قتال العدو خاصة، لحديث جابر قال قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ادفنوهم بدمائهم) يعني يوم أحد ولم يغسلهم، رواه البخاري. وروى أبو داود عن ابن عباس قال: أمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقتلى أحد أن ينزع عنهم الحديد والجلود وأن يدفنوا؟ بدمائهم وثيابهم. وبهذا قال أحمد وإسحاق والأوزاعي وداود بن علي وجماعة فقهاء الأمصار وأهل الحديث وابن علية. وقال سعيد بن المسيب والحسن: يغسلون. قال أحدهما: إنما لم تغسل شهداء أحد لكثرتهم والشغل عن ذلك. قال أبو عمر: ولم يقل بقول سعيد والحسن هذا أحد من فقهاء الأمصار إلا عبيد الله بن الحسن العنبري، وليس
__________
(1). راجع ج 6 ص 145.

ما ذكروا من الشغل عن غسل شهداء أحد علة، لان كل واحد منهم كان له ولي يشتغل به ويقوم بأمره. والعلة في ذلك- والله أعلم- ما جاء في الحديث في دمائهم (أنها تأتي يوم القيامة كريح المسك) فبان أن العلة ليست الشغل كما قال من قال في ذلك، وليس لهذه المسألة مدخل في القياس والنظر، وإنما هي مسألة اتباع للأثر الذي نقله الكافة في قتلى أحد لم يغسلوا. وقد احتج بعض المتأخرين ممن ذهب مذهب الحسن بقوله عليه السلام في شهداء أحد. (أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة). قال: وهذا يدل على خصوصهم وأنه لا يشركهم في ذلك غيرهم. قال أبو عمر: وهذا يشبه الشذوذ، والقول بترك غسلهم أولى، لثبوت ذلك عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قتلى أحد وغيرهم. وروى أبو داود عن جابر قال: رمي رجل بسهم في صدره أو في حلقه فمات فأدرج في ثيابه كما هو. قال: ونحن مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. الثانية- وأما الصلاة عليهم فاختلف العلماء في ذلك أيضا، فذهب مالك والليث والشافعي وأحمد وداود إلى أنه لا يصلى عليهم، لحديث جابر قال: كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد ثم يقول: (أيهما أكثر أخذا للقرآن)؟ فإذا أشير له إلى أحدهما قدمه في اللحد وقال: (أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة) وأمر بدفنهم بدمائهم ولم يغسلوا ولم يصل عليهم. وقال فقهاء الكوفة والبصرة والشام: يصلى عليهم. ورووا آثارا كبيرة أكثرها مراسيل أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلى على حمزة وعلى سائر شهداء أحد. والرابعة- وأجمع العلماء على أن الشهيد إذا حمل حيا ولم يمت في المعترك وعاش واكل فإنه يصلى عليه، كما قد صنع بعمر رضي الله عنه. واختلفوا فيمن قتل مظلوما كقتيل الخوارج وقطاع الطريق وشبه ذلك، فقال أبو حنيفة والثوري: كل من قتل مظلوما لم يغسل، ولكنه يصلى عليه وعلى كل شهيد، وهو قول سائر أهل العراق. ورووا من طرق كثير صحاح عن زيد بن صوحان، وكان قتل يوم الجمل: لا تنزعوا عني ثوبا ولا تغسلوا عني دما. وثبت «1» عن عمار بن ياسر أنه قال مثل قول زيد
__________
(1). كذا في د وج وهـ وب. وفى أوح: روى.

ابن صوحان. وقتل عمار بن ياسر بصفين ولم يغسله علي. وللشافعي قولان: أحدهما- يغسل كجميع الموتى إلا من قتله أهل الحرب، وهذا قول مالك. قال مالك: لا يغسل من قتله الكفار ومات في المعترك. وكان مقتول غير قتيل المعترك- قتيل الكفار- فإنه يغسل ويصلى عليه. وهذا قول أحمد بن حنبل رضي الله عنه. والقول الآخر للشافعي- لا يغسل قتيل البغاة. وقول مالك أصح، فإن غسل الموتى قد ثبت بالإجماع ونقل الكافة. فواجب غسل كل ميت إلا من أخرجه إجماع أو سنة ثابتة. وبالله التوفيق. الخامسة- العدو إذا صبح قوما في منزلهم ولم يعلموا به فقتل منهم فهل يكون حكمه حكم قتيل المعترك، أو حكم سائر الموتى، وهذه المسألة نزلت عندنا بقرطبة أعادها الله: أغار العدوقصمه الله- صبيحة الثالث من رمضان المعظم سنة سبع وعشرين وستمائة والناس في أجرانهم على غفلة، فقتل وأسر، وكان من جملة من قتل والدي رحمه الله، فسألت شيخنا المقرئ الأستاذ أبا جعفر أحمد المعروف بأبي «1» حجة فقال، غسله وصلي عليه، فإن أباك لم يقتل في المعترك بين الصفين. ثم سألت شيخنا ربيع بن عبد الرحمن بن أحمد بن ربيع بن أبي فقال: إن حكمه حكم القتلى في المعترك. ثم سألت قاضي الجماعة أبا الحسن علي بن قطرال وحوله جماعة من الفقهاء فقالوا: غسله وكفنه وصل عليه، ففعلت. ثم بعد ذلك وقفت على المسألة في" التبصرة" لابي الحسن اللخمي وغيرها. ولو كان ذلك قبل ذلك ما غسلته، وكنت دفنته بدمه في ثيابه. السادسة- هذه الآية تدل على عظيم ثواب القتل في سبيل الله والشهادة فيه حتى أنه يكفر الذنوب، كما قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (القتل في سبيل الله يكفر كل شي إلا الدين كذلك قال لي جبريل عليه السلام آنفا). قال علماؤنا ذكر الدين تنبيه على ما في معناه من الحقوق المتعلقة بالذمم، كالغصب واخذ المال بالباطل وقتل العمد وجراحه وغير ذلك من التبعات، فإن كل هذا أولى ألا يغفر بالجهاد من الدين فإنه أشد، والقصاص في هذا
__________
(1). في ج:" بابن حجة".

كله بالحسنات والسيئات حسبما وردت به السنة الثابتة. روى عبد الله بن أنيس قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: (يحشر الله العباد- أو قال الناس، شك همام «1»، وأومأ بيده إلى الشام- عراة غرلا «2» بهما. قلنا: ما بهم؟ «3» قال: ليس معهم شي فيناديهم بصوت يسمعه من قرب ومن بعد أنا الملك أنا الديان لا ينبغي لاحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة واحد من أهل النار يطلبه بمظلمة ولا ينبغي لاحد من أهل النار أن يدخل النار واحد من أهل الجنة يطلبه بمظلمة حتى اللطمة. قال قلنا: كيف وإنما نأتي الله حفاة عراة غرلا؟. قال: بالحسنات والسيئات (. أخرجه الحارث بن أبي أسامة «4». وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:) أتدرون من المفلس (؟. قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. فقال:) إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ويأتي قد شتم هذا وقذف هذا واكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياه فطرحت عليه ثم طرح في النار (. وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:) والذي نفسي بيده لو أن رجلا قتل في سبيل الله ثم أحيي ثم قتل ثم أحيي ثم قتل وعليه دين ما دخل الجنة حتى يقضى عنه (. وروى أبو هريرة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:) نفس المؤمن معلقة ما كان عليه دين (. وقال أحمد بن زهير: سئل يحيى بن معين عن هذا الحديث فقال: هو صحيح. فإن قيل: فهذا يدل على أن بعض الشهداء لا يدخلون الجنة من حين القتل، ولا تكون أرواحهم في جوف طير كما ذكرتكم، ولا يكونون في قبورهم، فأين يكونون؟ قلنا: قد ورد عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: (أرواح الشهداء على نهر بباب الجنة يقال له بارق يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشيا) فلعلهم هؤلاء. والله أعلم. ولهذا قال الامام أبو محمد بن عطية: وهؤلاء طبقات وأحوال مختلفة يجمعها أنهم" يُرْزَقُونَ". وقد أخرج الامام أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجة القزويني في سننه عن
__________
(1). هو همام بن يحيى، أحد رجال سند هذا الحديث.
(2). الغرل (بضم فسكون): جمع الأغرل، وهو الأقلف.
(3). في ط وهـ وب: ما بهما؟.
(4). في ج: أمامة. والصحيح ما أثبت كما في التمهيد.

سليم بن عامر قال: سمعت أبا أمامة يقول سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: (شهيد البحر مثل شهيدي «1» البر والمائد «2» في البحر كالمتشحط «3» في دمه في البر وما بين الموجتين كقاطع الدنيا في طاعة الله وإن الله عز وجل وكل ملك الموت بقبض الأرواح إلا شهداء البحر فإنه سبحانه يتولى قبض أرواحهم ويغفر لشهيد البر الذنوب كلها إلا الدين ويغفر لشهيد البحر الذنوب كلها والدين (. السابعة- الدين الذي يحبس به صاحبه عن الجنة- والله أعلم- هو الذي قد ترك له وفاء ولم يوص به. أو قدر على الأداء فلم يؤده، أو أدانه في سرف أو في سفه ومات ولم يوفه. وأما من ادان في حق واجب لفاقة وعسر ومات ولم يترك وفاء فإن الله لا يحبسه عن الجنة إن شاء الله، لان على السلطان فرضا أن يؤدي عنه دينه، إما من جملة الصدقات، أو من سهم الغارمين، أو من الفيء الراجع على المسلمين. قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (من ترك دينا أو ضياعا «4» فعلى الله ورسوله ومن ترك مالا فلورثته). وقد زدنا هذا الباب بيانا في كتاب (التذكرة) والحمد لله. الثانية- قوله تعالى: (عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) فيه حذف مضاف تقديره عند كرامة ربهم. و" عِنْدَ" هنا تقتضي غاية القرب، فهي ك (- لدى) ولذلك لم تصغر فيقال! عنيد، قال سيبويه. فهذه عندية الكرامة لا عندية المسافة والقرب. و" يُرْزَقُونَ" هو الرزق المعروف في العادات. ومن قال: هي حياة الذكر قال: يرزقون الثناء الجميل. والأول الحقيقة. وقد قيل: إن الأرواح تدرك في تلك الحال التي يسرحون فيها من روائح الجنة وطيبها ونعبمها وسرورها ما يليق بالأرواح، مما ترتزق وتنتعش به. وأما اللذات الجسمانية فإذا أعيدت تلك الأرواح إلى أجسادها استوفت من النعيم جميع ما أعد الله لها. وهذا قول حسن، وإن كان فيه نوع من المجاز، فهو الموافق لما اخترناه. والموفق الاله. و(فَرِحِينَ) نصب في موضع الحال
__________
(1). قال في شرح الجامع: بلفظ التثنية. [.....]
(2). المائد: الذي تدور رأسه من ريح البحر، واضطراب السفينة بالأمواج.
(3). تشحط المقتول في دمه تخبط في واضطراب وتمرغ.
(4). الضياع: (بفتح أوله): العيال.

يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171)

من المضمر في" يُرْزَقُونَ". ويجوز في الكلام" فرحون" على النعت لإحياء. وهو من الفرح بمعنى السرور. والفضل في هذه الآية هو النعيم المذكور. وقرا ابن السميقع" فارحين" بالألف وهما لغتان، كالفره والفاره، والحذر والحاذر، والطمع والطامع، والبخل والباخل. قال النحاس: ويجوز في غير القرآن رفعه، يكون نعتا لإحياء. قوله تعالى: (وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ) المعنى لم يلحقوا بهم في الفضل، وإن كان لهم فضل. وأصله من البشرة «1»، لان الإنسان إذا فرح ظهر أثر السرور في وجهه. وقال السدي.: يؤتى الشهيد بكتاب فيه ذكر من يقدم عليه من إخوانه، فيستبشر كما يستبشر أهل الغائب بقدومه في الدنيا. وقال قتادة وابن جريح والربيع وغيرهم: استبشارهم بأنهم يقولون: إخواننا الذين تركنا خلفنا في الدنيا يقاتلون في سبيل الله مع نبيهم، فيستشهدون فينالون من الكرامة مثل ما نحن فيه، فيسرون ويفرحون لهم بذلك. وقيل: إن الإشارة بالاستبشار للذين لم يلحقوا بهم إلى جميع المؤمنين وإن لم يقتلوا، ولكنهم لما عاينوا ثواب الله وقع اليقين بأن دين الإسلام هو الحق الذي يثيب الله عليه، فهم فرحون لأنفسهم بما آتاهم الله من فضله، مستبشرون للمؤمنين بأن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. ذهب إلى هذا المعنى الزجاج وابن فورك.

[سورة آل عمران (3): آية 171]
يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171)
أي بجنة من الله. ويقال: بمغفرة من الله. (وَفَضْلٍ) هذا لزيادة البيان. والفضل داخل في النعمة، وفية دليل على اتساعها، وأنها ليست كنعم الدنيا. وقيل: جاء الفضل بعد النعمة على وجه التأكيد، روى الترمذي عن المقدام بن معديكرب قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (للشهيد عند الله ست خصال- كذا في الترمذي وابن ماجة" ست"،
__________
(1). كذا في ب وز وهـ وج. وفى ط: البشارة.

الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172)

وهي في العدد «1» سبع- يغفر له في أول دفعة «2» ويرى مقعده من الجنة ويجار من عذاب القبر ويأمن من الفزع الأكبر ويوضع على رأسه تاج الوقار الياقوتة منها خير من الدنيا وما فيها ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين ويشفع في سبعين من أقاربه) قال: هذا حديث حسن صحيح غريب. وهذا تفسير للنعمة والفضل. والإثار في هذا المعنى كثيرة. وروي عن مجاهد أنه قال: السيوف مفاتيح الجنة. وروي عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: (أكرم الله تعالى الشهداء بخمس كرامات لم يكرم بها أحدا من الأنبياء ولا أنا أحدها أن جميع الأنبياء قبض أرواحهم ملك الموت وهو الذي سيقبض روحي وأما الشهداء فالله هو الذي يقبض أرواحهم بقدرته كيف يشاء ولا يسلط على أرواحهم ملك الموت، والثاني أن جميع الأنبياء قد غسلوا بعد الموت وأنا أغسل بعد الموت والشهداء لا يغسلون ولا حاجة لهم إلى ماء الدنيا، والثالث أن جميع الأنبياء قد كفنوا وأنا أكفن والشهداء لا يكفنون بل يدفنون في ثيابهم، والرابع أن الأنبياء لما ماتوا سموا أمواتا وإذا مت يقال قد مات والشهداء لا يسمون موتى، والخامس أن الأنبياء تعطى لهم الشفاعة يوم القيامة وشفاعتي أيضا يوم القيامة وأما الشهداء فإنهم يشفعون في كل يوم فيمن يشفعون (. قوله تعالى:) وَأَنَّ اللَّهَ قرأه الكسائي بكسر الالف، والباقون بالنصب، فمن قرأ بالنصب فمعناه يستبشرون بنعمة من الله ويستبشرون بأن الله لا يضيع أجر المؤمنين. ومن قرأ بالكسر فعلى الابتداء. ودليله قراءة ابن مسعود" والله لا يضيع أجر المؤمنين".

[سورة آل عمران (3): آية 172]
الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172)
__________
(1). في حاشية السندي على سنن ابن ماجة:" قوله ست خصال المذكورات سبع إلا أن يجعل الإجارة والأمن من الفزع واحدة".
(2). دفعة: قال الدميري: ضبطناه في جامع الترمذي بضم الدال، وكذلك قال أهل اللغة: الدفعة بالضم ما دفع من إناء أو سقاء فانصب بمرة، وكذلك الدفعة من المطر وغيره مثل الدفقة بالقاف. وأما الدفعة بالفتح فهي المرة الواحدة فلا يصلح هاهنا".

" الَّذِينَ" في موضع رفع على الابتداء، وخبره" مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ". ويجوز أن يكون في موضع خفض، بدل «1» من المؤمنين، أو من" بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا". (اسْتَجابُوا) بمعنى أجابوا والسين والتاء زائدتان. ومنه قوله:
فلم يستجبه عند ذاك مجيب «2»

وفي الصحيحين عن عروة بن الزبير قال: قالت لي عائشة رضي الله عنها: كان أبوك من الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح. لفظ مسلم. وعنه عائشة: يا ابن أختي كان أبواك- تعني الزبير وأبا بكر- من الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح. وقالت: لما انصرف المشركون من أحد وأصاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه ما أصابهم خاف أن يرجعوا فقال: (من ينتدب لهؤلاء حتى يعلموا أن بنا قوة) قال فانتدب أبو بكر والزبير في سبعين، فخرجوا في آثار القوم، فسمعوا بهم وانصرفوا بنعمة من الله وفضل. وأشارت عائشة رضي الله عنها إلى ما جرى في غزوة حمراء الأسد، وهي على نحو ثمانية أميال من المدينة، وذلك أنه لما كان في يوم الأحد، وهو الثاني من يوم أحد، نادى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الناس بإتباع المشركين، وقال: (لا يخرج معنا إلا من شهدها بالأمس) فنهض معه مائتا رجل من المؤمنين. في البخاري فقال: (من يذهب في إثرهم) فانتدب منهم سبعون رجلا. قال: كان فيهم أبو بكر والزبير على ما تقدم، حتى بلغ حمراء الأسد، مرهبا للعدو، فربما كان فيهم المثقل بالجراح لا يستطيع المشي ولا يجد مركوبا، فربما يحمل على الأعناق، وكل ذلك امتثال لأمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورغبة في الجهاد. وقيل: إن الآية نزلت في رجلين من بني عبد الأشهل كانا مثخنين بالجراح، يتوكأ أحدهما على صاحبه، وخرجا مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما وصلوا حمراء الأسد، لقيهم نعيم بن مسعود فأخبرهم أن أبا سفيان ابن حرب ومن معه من قريش قد جمعوا جموعهم، وأجمعوا رأيهم على أن يأتوا «3» إلى المدينة
__________
(1). كذا في الأصول. والذي في النحاس والعبارة له: بدلا.
(2). هذا عجز بيت لكعب بن سعد الغنوي يرثى أخاه أبا المغوار، وصدره:
وداع دعا يا من يجيب إلى الندى

(3). في ج وهـ وط: يرجعوا.

فيستأصلوا أهلها، فقالوا ما أخبرنا الله عنهم:" حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ". وبينا قريش قد أجمعوا على ذلك إذ جاءهم معبد الخزاعي، وكانت خزاعة حلفاء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعيبة «1» نصحه، وكان قد رأى حال أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما هم عليه، ولما رأى عزم قريش على الرجوع ليستأصلوا أهل المدينة احتمله خوف ذلك، وخالص نصحه للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه على أن خوف قريشا بأن قال لهم: قد تركت محمدا وأصحابه بحمراء الأسد في جيش عظيم، قد اجتمع له من كان تخلف عنه، وهم قد تحرقوا عليكم، فالنجاء النجاء! فإني أنهاك عن ذلك، فو الله لقد حملني ما رأيت أن قلت فيه أبياتا من الشعر. قال: وما قلت؟ قال: قلت:
كادت تهد من الأصوات راحلتي ... إذ سالت الأرض بالجرد الأبابيل «2»
تردي بأسد كرام لا تنابلة ... عند اللقاء ولا ميل معازيل «3»
فظلت عدوا أظن الأرض مائلة ... لما سموا برئيس غير مخذول
فقلت ويل ابن حرب من لقائكم ... إذا تغطمطت البطحاء بالخيل «4»
إني نذير لأهل البسل ضاحية ... لكل ذي إربة منهم ومعقول
من جيش أحمد لا وخش قنابله ... وليس يوصف ما أنذرت بالقيل «5»
قال: فثنى ذلك أبا سفيان ومن معه، وقذف الله في قلوبهم الرعب، ورجعوا إلى مكة خائفين مسرعين، ورجع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أصحابه إلى المدينة منصورا، كما قال الله تعالى:" فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ" [آل عمران: 174] أي قتال ورعب. واستأذن
__________
(1). عيبة الرجل: موضع سره.
(2). الجرد: خيل قصيرة شعر الجلد. أبابيل: فرقا.
(3). ردت الخيل رديا ورديانا: رجمت الأرض بحوافرها في سيرها وعدوها. والتنابلة: القصار، واحدهم تنبال. والأميل: الذي يميل على السرج ولا يستوي عليه. وقيل: هو الكسل الذي لا يحسن الركوب والفروسية. والمعازيل: القوم ليس معهم سلاح، واحدهم معزال.
(4). في الروض الأنف:" تغطمطت البطحاء، لفظ مستعار عن الغطمطة، وهو صوت غليان القدر. قوله (الخيل) وفى هـ وابن هشام ط أوربا: الجيل. والأول فيه سناد. ولعله: الخيل جمع أخيل فلا سناد.
(5). الوخش: رذال الناس. والقنابل: الطائفة من الناس ومن الخيل، وفى ج وز والسيرة ط مصر مع الروض: تنابلة. وفى ط وى وهـ: تناتلة: تنتل الرجل إذا الرجل إذا تقذر بعد التنظف. [.....]

الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173)

جابر بن عبد الله إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الخروج معه فأذن له. وأخبرهم تعالى أن الأجر العظيم قد تحصل لهم بهذه القفلة. وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إنها غزوة). هذا تفسير الجمهور لهذه الآية. وشذ مجاهد وعكرمة رحمهما الله تعالى فقالا: إن هذه الآية من قوله:" الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ"- إلى قوله:-" عَظِيمٍ" [آل عمران: 174- 173] إنما نزلت في خروج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى بدر الصغرى. وذلك أنه خرج لميعاد أبي سفيان في أحد، إذ قال: موعدنا بدر من العام المقبل. فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (قولوا نعم) فخرج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل بدر، وكان بها سوق عظيم، فأعطى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصحابه دراهم، وقرب من بدر فجاءه نعيم بن مسعود الأشجعي، فأخبره أن قريشا قد اجتمعت وأقبلت لحربه هي ومن انضاف إليها، فأشفق المسلمون من ذلك، لكنهم قالوا:" حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ" فصمموا «1» حتى أتوا بدرا فلم يجدوا أحدا، ووجدوا السوق فاشتروا بدراهمهم أدما وتجارة، وانقلبوا ولم يلقوا كيدا، وربحوا في تجارتهم، فلذلك قول تعالى:" فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ" أي وفضل في تلك التجارات. والله أعلم.

[سورة آل عمران (3): آية 173]
الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173)
اختلف في قوله تعالى: (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ) فقال مجاهد ومقاتل وعكرمة والكلبي: هو نعيم بن مسعود الأشجعي. واللفظ عام ومعناه خاص، كقوله:" أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ" [النساء: 54] «2» يعني محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. السدي: هو أعرابي جعل له جعل على ذلك. وقال ابن إسحاق وجماعة: يريد الناس ركب عبد القيس، مروا بأبي سفيان فدسهم إلى المسلمين ليثبطوهم. وقيل: الناس هنا المنافقون. قال السدي: لما تجهز النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه للمسير إلى بدر الصغرى لميعاد أبي سفيان أتاهم المنافقون وقالوا: نحن أصحابكم الذين
__________
(1). صمم في السير وغيره: مضى.
(2). راجع ج 5 ص 250.

نهيناكم عن الخروج إليهم وعصيتمونا، وقد قاتلوكم في دياركم وظفروا، فإن أتيتموهم في ديارهم فلا يرجع منكم أحد. فقالوا:" حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ". وقال أبو معشر: دخل ناس من هذيل من أهل تهامة المدينة، فسألهم أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن أبي سفيان فقالوا:" قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ" جموعا كثيرة" فَاخْشَوْهُمْ" أي فخافوهم واحذروهم، فإنه لا طاقة لكم بهم. فالناس على هذه الأقوال على بابه من الجمع. والله أعلم. قوله تعالى: (فَزادَهُمْ إِيماناً) أي فزادهم قول الناس إيمانا، أي تصديقا ويقينا في دينهم، وإقامة على نصرتهم، وقوه وجراءة واستعدادا. فزيادة الايمان على هذا هي في الأعمال. وقد اختلف العلماء في زيادة الايمان ونقصانه على أقوال. والعقيدة في هذا على أن نفس الايمان الذي هو تاج واحد، وتصديق واحد بشيء ما، إنما هو معنى فرد، لا يدخل معه زيادة إذا حصل، ولا يبقى منه شي إذا زال، فلم يبق إلا أن تكون الزيادة والنقصان في متعلقاته دون ذاته. فذهب جمع من العلماء إلى أنه يزيد وينقص من حيث الأعمال الصادرة عنه، لا سيما أن كثيرا من العلماء يوقعون اسم الايمان على الطاعات، لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الايمان بضع وسبعون بابا فأعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق) أخرجه الترمذي، وزاد مسلم (والحياء شعبة من الايمان) وفي حديث علي رضي الله عنه: إن الايمان ليبدو لمظة بيضاء في القلب، كلما أزداد الايمان ازدادت اللمظة. وقوله" لمظة" قال الأصمعي: اللمظة مثل النكتة ونحوها من البياض، ومنه قيل: فرس ألمظ، إذا كان بجحفلته شي من بياض. والمحدثون يقولون" لمظة" بالفتح. وأما كلام العرب فبالضم، مثل شبهة ودهمه وخمرة. وفية حجة على من أنكر أن يكون الايمان يزيد وينقص. ألا تراه يقول: كلما ازداد الايمان ازدادت اللمظة حتى يبيض القلب كله. وكذلك النفاق يبدو لمظة سوداء في القلب كلما ازداد النفاق أسود القلب حتى يسود القلب كله. ومنهم من قال: إن الايمان عرض، وهو لا يثبت زمانين، فهو للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وللصلحاء متعاقب، فيزيد باعتبار توالي أمثاله على قلب المؤمن، وباعتبار دوام حضوره.

وينقص بتوالي الغفلات على قلب المؤمن. أشار إلى هذا أبو المعالي. وهذا المعنى موجود في حديث الشفاعة، حديث أبي سعيد الخدري أخرجه مسلم. وفية: (فيقول المؤمنون يا ربنا إخواننا كانوا يصومون ويصلون ويحجون فقال لهم أخرجوا من عرفتم فتحرم صورهم على النار فيخرجون خلقا كثيرا قد أخذت النار إلى نصف ساقيه وإلى ركبتيه ثم يقولون ربنا ما بقي فيها أحد ممن أمرتنا به فيقول ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من خير فأخرجوه فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقولون ربنا لم نذر فيها أحدا ممن أمرتنا ثم يقول ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار من خير فأخرجوه فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقولون ربنا لم نذر فيها ممن أمرتنا أحدا ثم يقول ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير فأخرجوه) وذكر الحديث «1». وقد قيل: إن المراد بالايمان في هذا الحديث أعمال القلوب، كالنية والإخلاص والخوف والنصيحة وشبه ذلك. وسماها إيمانا لكونها في محل الايمان أو عني بالايمان، على عادة العرب في تسمية الشيء باسم الشيء إذا جاوره، أو كان منه بسبب. دليل هذا التأويل قول الشافعين بعد إخراج من كان في قلبه مثقال ذرة من خير: (لم نذر فيها خيرا) مع أنه تعالى يخرج بعد ذلك جموعا كثيرة ممن يقول لا إله إلا الله، وهم مؤمنون قطعا، ولو لم يكونوا مؤمنين لما أخرجهم. ثم إن عدم الوجود الأول الذي يركب «2» عليه المثل لم تكن زيادة ولا نقصان. وقدر ذلك في الحركة. فإن الله سبحانه إذا خلق علما فردا وخلق معه مثله أو أمثاله بمعلومات فقد زاد علمه، فإن أعدم الله الأمثال فقد نقص، أي زالت الزيادة. وكذلك إذا خلق حركة وخلق معها مثلها أو أمثالها. وذهب قوم من العلماء إلى أن زيادة الايمان ونقصه إنما هو من طريق الادلة، فتزيد الادلة عند واحد فيقال في ذلك: إنها زيادة في الايمان، وبهذا المعنى- على أحد الأقوال- فضل الأنبياء على الخلق، فإنهم علموه من وجوه كثيرة، أكثر من الوجوه التي علمه الخلق بها. وهذا القول خارج عن مقتضى الآية، إذ لا يتصور أن تكون الزيادة فيها من جهة الادلة. وذهب قوم: إلى أن الزيادة في الايمان
إنما هي بنزول الفرائض والاخبار في مدة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفي المعرفة بها بعد الجهل غابر الدهر.
__________
(1). بقيته" فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقولون ربنا لم نذر فيها خبرا" مسلم ج 1 ص 116.
(2). في ز: يتركب. ()

فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174)

وهذا إنما هو زيادة إيمان، فالقول فيه إن الايمان يزيد قول مجازي، ولا يتصور فيه النقص على هذا الحد، وإنما يتصور بالإضافة إلى من علم. فاعلم. قوله تعالى: (وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) أي كافينا الله. وحسب مأخوذ من الأحساب، وهو الكفاية. قال الشاعر:
فتملأ بيتنا أقطا «1» وسمنا ... وحسبك من غنى شبع وري
روى البخاري عن ابن عباس قال في قوله تعالى:" الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ- إلى قوله:-" وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ" قالها إبراهيم الخليل عليه السلام حين ألقي في النار. وقالها محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين قال لهم الناس: إن الناس قد جمعوا لكم. والله أعلم.

[سورة آل عمران (3): آية 174]
فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174)
قال علماؤنا: لما فوضوا أمورهم إليه، واعتمدوا بقلوبهم عليه، أعطاهم من الجزاء أربعة معان: النعمة، والفضل، وصرف السوء، واتباع الرضا. فرضاهم عنه، ورضي عنهم.

[سورة آل عمران (3): آية 175]
إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)
قال ابن عباس وغيره: المعنى يخوفكم أولياءه، أي بأوليائه، أو من أوليائه، فحذف حرف الجر ووصل الفعل إلى الاسم فنصب. كما قال تعالى:" لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً" [الكهف: 2] «2» أي لينذركم ببأس شديد، أي يخوف المؤمن بالكافر. وقال الحسن والسدي: المعنى يخوف أولياءه المنافقين، ليقعدوا عن قتال المشركين. فأما أولياء الله فإنهم لا يخافونه إذا خوفهم. وقد
__________
(1). الأقط: شي يتخذ من اللبن المخيض ويترك حتى يمصل.
(2). راجع ج 10 ص 246.

قيل: إن المراد هذا الذي يخوفكم بجمع الكفار شيطان من شياطين الانس، إما نعيم بن مسعود أو غيره، على الخلاف في ذلك كما تقدم. (فَلا تَخافُوهُمْ) أي لا تخافوا الكافرين المذكورين في قوله:" إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ". أو يرجع إلى الأولياء إن قلت: إن المعنى يخوف بأوليائه أي يخوفكم أولياءه. قوله تعالى: (وَخافُونِ) أي خافوني في ترك أمري إن كنتم مصدقين بوعدي. والخوف في كلام العرب الذعر. وخاوفني فلان فخفته، أي كنت أشد خوفا منه. والخوفاء «1» المفازة لا ماء بها. ويقال: ناقة خوفاء وهي الجرباء. والخافة كالخريطة «2» من الأدم يشتار فيها العسل. قال سهل بن عبد الله: اجتمع بعض الصديقين إلى إبراهيم الخليل فقالوا: ما الخوف؟ فقال: لا تأمن حتى تبلغ المأمن. قال سهل: وكان الربيع بن خيثم إذا مر بكير «3» يغشى عليه، فقيل لعلي ابن أبي طالب ذلك، فقال: إذا أصابه ذلك فأعلموني. فأصابه فأعلموه، فجاءه فأدخل يده في قميصه فوجد حركته عالية فقال: أشهد أن هذا أخوف [أهل ] «4» زمانكم. فالخائف من الله تعالى هو أن يخاف أن يعاقبه إما في الدنيا وإما في الآخرة، ولهذا قيل: ليس الخائف الذي يبكي ويمسح عينيه، بل الخائف الذي يترك ما يخاف أن يعذب عليه. ففرض الله تعالى على العباد أن يخافوه فقال: (وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) وقال:" وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ". ومدح المؤمنين بالخوف فقال:" يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ" [النحل: 50]. ولأرباب الإشارات في الخوف عبارات مرجعها إلى ما ذكرنا. قال الأستاذ أبو علي الدقاق: دخلت على أبي بكر بن فورك رحمه الله عائدا، فلما رءاني دمعت عيناه، فقلت له: إن الله يعافيك ويشفيك. فقال لي: أترى أني أخاف من الموت؟ إنما أخاف مما وراء الموت. وفي سنن ابن ماجة عن أبي ذر قال
__________
(1). يقال مفازة خوقاء (بالقاف لا بالفاء) أي واسعة الجوف أو لا ماء بها، كما يقال ناقة خوفاء (بالقاف كذلك) أي جرباء (انظر اللسان مادة خوق) وليس فيه ولا في كتاب آخر من كتب اللغة هذان المعنيان في مادة" خوف" بالفاء.
(2). كذا في الأصول. وفى اللسان: والخافة: خريطة.
(3). الكير: كير الحداد، وهو زق أو جلد غليظ ذو خافات، وهو المعروف ألان بالمنفاخ. وأما الكور فهو المبني من الطين.
(4). عن ج ود.

وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176)

قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إني أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون أطت «1» السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجدا لله والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا وما تلذذتم بالنساء على الفرشات ولخرجتم إلى الصعدات «2» تجأرون «3» إلى الله والله لوددت أني كنت شجرة تعضد ( «4» خرجه الترمذي وقال: حديث حسن غريب. ويروى من غير هذا الوجه أن أبا ذر قال: (لوددت أني كنت شجرة تعضد). والله أعلم.

[سورة آل عمران (3): آية 176]
وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (176)
قوله تعالى: (وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) هؤلاء قوم أسلموا ثم ارتدوا خوفا من المشركين، فاغتم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأنزل الله عز وجل:" وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ". وقال الكلبي: يعني به المنافقين ورؤساء اليهود، كتموا صفة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الكتاب فنزلت. ويقال: إن أهل الكتاب لما لم يؤمنوا شق ذلك على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لان الناس ينظرون إليهم ويقولون إنهم أهل كتاب، فلو كان قوله حقا لاتبعوه، فنزلت" وَلا يَحْزُنْكَ". قراءة نافع بضم الياء وكسر الزاي حيث وقع إلا في- الأنبياء-" لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ" «5» فإنه بفتح الياء وبضم الزاي. وضده أبو جعفر. وقرا ابن محيصن كلها بضم الياء و[كسر] «6» الزاي. والباقون كلها بفتح الياء وضم الزاي.
__________
(1). الأطيط: صوت الأقتاب، وأطيط الإبل: أصواتها وحنينها. أي إن كثرة ما في السماء من الملائكة قد أثقلها حتى أطت. وهذا مثل وإيذان بكثرة الملائكة وإن لم يكن ثم أطيط، وإنما هو كلام تقريب أريد به تقرير عظمة الله عز وجل (عن ابن الأثير).
(2). الصعدات: الطرق، وهى جمع صعد، كطرق وطرقات. وقيل: جمع صعدة، كظلمة وهى فناء باب الدار، وممر الناس بين يديه.
(3). جأر القوم جؤارا: رفعوا أصواتهم بالدعاء متضرعين.
(4). تعضد: تقطع بالمعضد، والمعضد، والمعضاد مثل المنجل يقطع به الشجر. [.....]
(5). راجع ج 11 ص 346.
(6). الأصول كلها: بضم الياء والزاي. والصواب ما أثبتناه. راجع ص 346 ج 11.

وهما لغتان: حزنني الامر يحزنني، وأحزنني أيضا وهي [لغة] «1» قليلة، والاولى أفصح اللغتين، قاله النحاس. وقال الشاعر في" أحزن":
مضى صحبي وأحزنني الديار

وقراءة العامة" يُسارِعُونَ". وقرا طلحة" يسرعون في الكفر". قال الضحاك: هم كفار قريش. وقال غيره: هم المنافقون. وقيل: هو ما ذكرناه قبل. وقيل: هو عام في جميع الكفار. ومسارعتهم في الكفر المظاهرة على محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال القشيري: والحزن على كفر الكافر طاعة، ولكن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يفرط في الحزن على كفر قومه، فنهي عن ذلك، كما قال:" فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ" [فاطر: 8] «2» وقال:" فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً" [الكهف: 6] «3». إنهم لن يضروا الله شيئا) أي لا ينقصون من ملك الله وسلطانه شيئا، يعني لا ينقص بكفرهم. وكما روي عن أبي ذر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما روى عن الله تبارك وتعالى أنه قال: (يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا. يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم. يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم. يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم. يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم. يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني. يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا. يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد ما نقص ذلك من ملكي شيئا. يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر. يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه (. خرجه مسلم في صحيحه والترمذي وغيرهما، وهو حديث عظيم فيه طول
__________
(1). عن ط.
(2). راجع ج 14 ص 324.
(3). راجع ج 10 ص 353.

إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (177)

يكتب كله. وقيل: معنى" لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً" أي لن يضروا أولياء الله حين تركوا نصرهم إذ كان الله عز وجل ناصرهم. قوله تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) أي نصيبا. والحظ النصيب والجد. يقال: فلان أحظ من فلان، وهو محظوظ. وجمع الحظ أحاظ على غير قياس «1». قال أبو زيد: يقال رجل حظيظ، أي جديد إذا كان ذا حظ من الرزق. وحظظت في الامر أحظ. وربما جمع الحظ أحظا. أي لا يجعل لهم نصيبا في الجنة. وهو نص في أن الخير والشر بإرادة الله تعالى.

[سورة آل عمران (3): آية 177]
إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (177)
قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ) تقدم في البقرة «2». (لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً) كرر للتأكيد. وقيل: أي من سوء تدبيره استبدال الايمان بالكفر وبيعه به، فلا يخاف جانبه ولا تدبيره. وانتصب" شَيْئاً" في الموضعين لوقوعه موقع المصدر، كأنه قال: لن يضروا الله ضررا قليلا ولا كثيرا. ويجوز انتصابه على تقدير حذف الباء، كأنه قال: لن يضروا الله بشيء.

[سورة آل عمران (3): آية 178]
وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (178)
قوله تعالى: (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ) الاملاء طول العمر ورغد العيش. والمعنى: لا يحسبن هؤلاء الذين يخوفون المسلمين، فإن الله قادر
__________
(1). قال الجوهري: كأنه جمع أحظ. قال ابن برى: وقوله" أحاظ على غير قياس" وهم منه، بل أحاظ جمع أحظ، وأصله أحظظ فقلبت الظاء الثانية ياء فصارت أحظ، ثم جمعت على أحاظ. (عن اللسان).
(2). راجع ج 1 ص 210.

على إهلاكهم، وإنما يطول أعمارهم ليعملوا بالمعاصي، لا لأنه خير لهم. ويقال:" أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ" بما أصابوا من الظفر يوم أحد لم يكن ذلك خيرا لأنفسهم، وإنما كان ذلك ليزدادوا عقوبة. وروي عن ابن مسعود أنه قال: ما من أحد بر ولا فاجر إلا والموت خير له، لأنه إن كان برا فقد قال الله تعالى:" وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ" [آل عمران: 198] «1» وإن كان فاجرا فقد قال الله: (إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً) وقرا ابن عامر وعاصم" لا يَحْسَبَنَّ" بالياء ونصب السين. وقرا حمزة: بالتاء ونصب السين. والباقون: بالياء وكسر السين. فمن قرأ بالياء فالذين فاعلون. أي فلا يحسبن الكفار. و" أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ" تسد مسد المفعولين. و" أَنَّما" بمعنى الذي، والعائد محذوف، و" خَيْرٌ" خبر" أن". ويجوز أن تقدر" ما" والفعل مصدرا، والتقدير ولا يحسبن الذين كفروا أن إملاءنا لهم خير لأنفسهم. ومن قرأ بالتاء فالفاعل هو المخاطب، وهو محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. و" الَّذِينَ" نصب على المفعول الأول لتحسب. وأن وما بعدها بدل من الذين، وهي تسد مسد المفعولين، كما تسد لو لم تكن بدلا. ولا يصلح أن تكون" أن" وما بعدها مفعولا ثانيا لتحسب، لان المفعول الثاني في هذا الباب هو الأول في المعنى، لان حسب وأخواتها داخلة على المبتدأ والخبر، فيكون التقدير، ولا تحسبن أنما نملي لهم خير. هذا قول الزجاج. وقال أبو علي: لو صح هذا لقال" خيرا" بالنصب، لان" أن" تصير بدلا من" الَّذِينَ كَفَرُوا"، فكأنه قال: لا تحسبن إملاء الذين كفروا خيرا، فقوله" خيرا" هو المفعول الثاني لحسب. فإذا لا يجوز أن يقرأ" لا تحسبن" بالتاء إلا أن تكسر" إن" في" أَنَّما" وتنصب خيرا، ولم يرو ذلك عن حمزة، والقراءة عن حمزة بالتاء، فلا تصح هذه القراءة إذا. وقال الفراء والكسائي: قراءة حمزة جائزة على التكرير، تقديره ولا تحسبن الذين كفروا، ولا تحسبن أنما نملي لهم خيرا، فسدت" أن" مسد المفعولين لتحسب الثاني، وهي وما عملت مفعول ثان لتحسب الأول. قال القشيري: وهذا قريب مما ذكره الزجاج في دعوى البدل، والقراءة صحيحة. فإذا غرض أبي علي تغليط الزجاج. قال النحاس: وزعم أبو حاتم أن قراءة حمزة بالتاء هنا، وقوله:" وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ" [آل عمران: 180] لحن لا يجوز. وتبعه على ذلك جماعة.
__________
(1). راجع ص 322 من هذا الجزء.

مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179)

قلت: وهذا ليس بشيء، لما تقدم بيانه من الاعراب، ولصحة القراءة وثبوتها نقلا. وقرا يحيى بن وثاب" إنما نملي لهم" بكسر إن فيهما جميعا. قال أبو جعفر: وقراءة يحيي حسنة. كما تقول: حسبت عمرا أبوه خالد. قال أبو حاتم وسمعت الأخفش يذكر كسر" إن" يحتج به لأهل القدر، لأنه كان منهم. ويجعل على التقديم والتأخير" ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم ليزدادوا إثما إنما نملي لهم خير لأنفسهم". قال: ورأيت في مصحف في المسجد الجامع قد زادوا فيه حرفا فصار" إنما نملي لهم إيمانا" فنظر إليه يعقوب القارئ فتبين اللحن فحكه. والآية نص في بطلان مذهب القدرية، لأنه أخبر أنه يطيل أعمارهم ليزدادوا الكفر بعمل المعاصي، وتوالي أمثاله على القلب. كما تقدم بيانه في ضده وهو الايمان. وعن ابن عباس قال: ما من بر ولا فاجر إلا والموت خير له ثم تلا" إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً" وتلا" وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ" أخرجه رزين.

[سورة آل عمران (3): آية 179]
ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179)
قال أبو العالية: سأل المؤمنون أن يعطوا علامة يفرقون بها بين المؤمن والمنافق، فأنزل الله عز وجل (ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ) الآية. واختلفوا من المخاطب بالآية على أقوال. فقال ابن عباس والضحاك ومقاتل والكلبي وأكثر المفسرين: الخطاب للكفار والمنافقين. أي ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه من الكفر والنفاق وعداوة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال الكلبي: إن قريشا من أهل مكة قالوا للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الرجل منا تزعم أنه في النار، وأنه إذا ترك ديننا واتبع دينك قلت هو من أهل الجنة! فأخبرنا عن هذا من أين هو؟ وأخبرنا من يأتيك منا؟ ومن لم يأتك؟. فأنزل الله عز وجل" ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ

الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ
" من الكفر والنفاق." حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ". وقيل: هو خطاب للمشركين. والمراد بالمؤمنين في قوله:" لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ" من في الأصلاب والأرحام ممن يؤمن. أي ما كان الله ليذر أولادكم الذين حكم لهم بالايمان على ما أنتم عليه من الشرك، حتى يفرق بينكم وبينهم، وعلى هذا (وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ) كلام مستأنف. وهو قول ابن عباس وأكثر المفسرين. وقيل: الخطاب للمؤمنين. أي وما كان الله ليذركم يا معشر المؤمنين على ما أنتم عليه من اختلاط المؤمن بالمنافق، حتى يميز بينكم بالمحنة والتكليف، فتعرفوا المنافق الخبيث، والمؤمن الطيب. وقد ميز يوم أحد بين الفريقين. وهذا قول أكثر أهل المعاني. (وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ) يا معشر المؤمنين. أي ما كان الله ليعين لكم المنافقين حتى تعرفوهم، ولكن يظهر ذلك لكم بالتكليف والمحنة، وقد ظهر ذلك في يوم أحد، فإن المنافقين تخلفوا وأظهروا الشماتة، فما كنتم تعرفون هذا الغيب قبل هذا، فالآن قد أطلع الله محمدا عليه السلام وصحبه على ذلك. وقيل: معنى" لِيُطْلِعَكُمْ" أي وما كان [الله ] «1» ليعلمكم ما يكون منهم. فقوله:" وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ [عَلَى الْغَيْبِ ] «2»" على هذا متصل، وعلى القولين الأولين منقطع. وذلك أن الكفار لما قالوا: لم لم يوح إلينا؟ قال:" وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ" أي على من يستحق النبوة، حتى يكون الوحي باختياركم. (وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي) أي يختار (مِنْ رُسُلِهِ) لاطلاع غيبه (مَنْ يَشاءُ) يقال: طلعت على كذا واطلعت [عليه ] «3»، وأطلعت عليه غيري، فهو لازم ومتعد. وقرى" حَتَّى يَمِيزَ" بالتشديد من ميز، وكذا في" الأنفال" «4» وهي قراءة حمزة. والباقون" يَمِيزَ" بالتخفيف من ماز يميز. يقال: مزت الشيء بعضه من بعض أميزه ميزا، وميزته تمييزا. قال أبو معاذ: مزت الشيء أميزه ميزا إذا فرقت بين شيئين. فإن كانت أشياء قلت: ميزتها تمييزا. ومثله إذا جعلت الواحد شيئين قلت: فرقت بينهما، مخففا، ومنه فرق الشعر. فإن جعلته أشياء قلت: فرقته تفريقا. قلت: ومنه امتاز القوم، تميز بعضهم عن بعض. ويكاد يتميز: يتقطع، وبهذا فسر قوله تعالى:" تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ" [الملك: 8] «5» وفي الخبر (من ماز أذى عن الطريق فهو له صدقة).
__________ (1). وز وهـ وج.
(2). وز وهـ وج.
(3). وز وهـ وج.
(4). راجع ج 7 ص 400.
(5). راجع ج 18 ص 218.

وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180)

قوله تعالى: (فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ) يقال: إن الكفار لما سألوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يبين لهم من «1» يؤمن منهم، فأنزل الله" فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ" يعني لا تشتغلوا بما لا يعنيكم، واشتغلوا بما يعنيكم وهو الايمان. (فَآمِنُوا) أي صدقوا، أي عليكم التصديق لا التشوف إلى اطلاع الغيب. (وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ) أي الجنة. ويذكر أن رجلا كان عند الحجاج بن يوسف الثقفي منجما، فأخذ الحجاج حصيات بيده قد عرف عددها فقال للمنجم: كم في يدي؟ فحسب فأصاب المنجم. فأغفله الحجاج واخذ حصيات لم يعدهن فقال للمنجم: كم في يدي؟ فحسب فأخطأ، ثم حسب أيضا فأخطأ، فقال: أيها الأمير، أظنك لا تعرف عدد ما في يدك؟ قال لا: قال: فما الفرق بينهما؟ فقال: إن ذاك أحصيته فخرج عن حد الغيب، فحسبت فأصبت، وإن هذا لم تعرف عددها فصار غيبا، ولا يعلم الغيب إلا الله تعالى. وسيأتي هذا الباب في" الانعام" «2» إن شاء الله تعالى.

[سورة آل عمران (3): آية 180]
وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180)
فيه أربع مسائل: الاولى- قوله تعالى: (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ)" الَّذِينَ" «3» في موضع رفع، والمفعول الأول محذوف. قال الخليل وسيبويه والفراء: المعنى البخل خيرا لهم، أي لا يحسبن الباخلون البخل خيرا لهم. وإنما حذف لدلالة يبخلون على البخل، وهو كقوله: من صدق كان خيرا له. أي كان الصدق خيرا له. ومن هذا قول الشاعر:
إذا نهي السفيه جرى إليه ... وخالف والسفيه إلى خلاف
فالمعنى: جرى: إلى السفه، فالسفيه دل على السفه. وأما قراءة حمزة بالتاء فبعيدة جدا، قاله النحاس. وجوازها أن يكون التقدير: لا تحسبن بخل الذين يبخلون هو خيرا لهم. قال
__________
(1). في ط وج وهـ: أيهم. [.....]
(2). راجع ج 7 ص 1 فما بعد.
(3). في ط وج.

الزجاج: وهي مثل" وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ". و" هُوَ" في قوله" هُوَ خَيْراً لَهُمْ" فاصلة عند البصريين. وهي العماد عند الكوفيين. قال النحاس: ويجوز في العربية" هو خير لهم" ابتداء وخبر. الثانية- قوله تعالى: (بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ) ابتداء وخبر، أي البخل شر لهم. والسين في" سَيُطَوَّقُونَ" سين الوعيد، أي سوف يطوقون، قاله المبرد. وهذه الآية نزلت في البخل بالمال والإنفاق في سبيل الله، وأداء الزكاة المفروضة. وهذه كقوله:" وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ" [التوبة: 34] الآية. ذهب إلى هذا جماعة من المتأولين، منهم ابن مسعود وابن عباس وأبو وائل وأبو مالك والسدي والشعبي قالوا: ومعنى (سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ) هو الذي ورد في الحديث عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثل له يوم القيامة شجاعا «1» أقرع «2» له زبيبتان «3» يطوقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهزمتيه «4» ثم يقول أنا مالك أنا كنزك- ثم تلا هذه الآية-" وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ" الآية. أخرجه النسائي «5». وخرجه ابن ماجة عن ابن مسعود عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (ما من أحد لا يؤدي زكاة ماله إلا مثل له يوم القيامة شجاع أقرع حتى يطوق به في عنقه) ثم قرأ علينا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مصداقه من كتاب الله تعالى:" وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ" الآية. وجاء عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: (ما من ذي رحم يأتي ذا رحمه فيسأله من فضل ما عنده فيبخل به عليه إلا أخرج له يوم القيامة شجاع من النار يتلمظ «6» حتى يطوقه). وقال ابن عباس أيضا: إنما نزلت في أهل الكتاب وبخلهم ببيان ما علموه من أمر محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقال ذلك مجاهد وجماعة من أهل العلم. ومعنى" سَيُطَوَّقُونَ" على هذا التأويل سيحملون عقاب ما بخلوا به، فهو من الطاقة كما قال تعالى:" وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ"
__________
(1). الشجاع (بالضم): الحية الذكر، أو الذي يقوم على ذنبه ويواثب الراجل والفارس.
(2). الأقرع: هو الذي تمرط جلد رأسه، لكثرة سمه وطول عمره.
(3). الزبيتان: النكتنان السوداوان فوق عينيه، وهو أوحش ما يكون من الحيات وأخبثه. وقيل: هما زيدتان في شدقي الحية.
(4). اللهزمتان: شدقاه. وقيل:: هما عظمان ناتئان في اللحيين تحت الأذنين.
(5). هذه رواية البخاري عن أبى هريرة ولفظه. أما ما خرجه النسائي فبلفظ آخر عن ابن مسعود. راجع صحيح البخاري وسنن النسائي في باب الزكاة.
(6). تلظت الحية: أخرجت لسانها كتلمظ الأكل.

[البقرة: 184] وليس من التطويق. وقال إبراهيم النخعي: معنى" سَيُطَوَّقُونَ" سيجعل لهم يوم القيامة طوق من النار. وهذا يجري مع التأويل الأول [أي ] «1» قول السدي. وقيل: يلزمون أعمالهم كما يلزم الطوق العنق، يقال: طوق فلان عمله طوق الحمامة، أي ألزم عمله. وقد قال تعالى:" وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ" [الاسراء: 13] «2». ومن هذا المعنى قول عبد الله ابن جحش لابي سفيان:
أبلغ أبا سفيان عن أمر عواقبه ندامة

دار «3» ابن عمك بعتها ... تقتضي بها عنك الغرامة
وحليفكم بالله رب ... الناس مجتهد القسامة
اذهب بها أذهب بها ... طوقتها طوق الحمامة
وهذا يجري مع التأويل الثاني. والبخل والبخل في اللغة أن يمنع الانسال الحق الواجب عليه؟؟. فأما من منع مالا يجب عليه فليس ببخيل، لأنه لا يذم بذلك. وأهل الحجاز يقولون: يبخلون وقد بخلوا. وسائر العرب يقولون: بخلوا يبخلون، حكاه النحاس. وبخل يبخل بخلا وبخلا، عن ابن فارس. الثالثة- في ثمرة البخل وفائدته. وهو ما روي أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال للأنصار: (من سيدكم؟) قالوا الجد بن قيس على بخل فيه. فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وأى داء أدوى «4» من البخل) قالوا: وكيف ذاك يا رسول الله؟ قال: (إن قوما نزلوا بساحل البحر فكرهوا لبخلهم نزول الأضياف بهم فقالوا: ليبعد الرجال منا عن النساء حتى يعتذر الرجال إلى الأضياف ببعد النساء، وتعتذر النساء ببعد الرجال، ففعلوا وطال ذلك بهم فاشتغل الرجال بالرجال والنساء بالنساء) ذكره الماوردي في كتاب" أدب الدنيا والدين". والله أعلم.
__________
(1). زيادة يقتضيها المقام.
(2). راجع ج 10 ص 229.
(3). لما هاجر بنو جحش من مكة إلى المدينة تركوا دورهم هجرة مغلقة، ليس فيها ساكن، فباعها أبو سفيان من عمرو بن علقمة. فقال عبد الله لابي سفيان هذه الا بيان بعد فتح مكة. (راجع سيرة ابن هشام ص 339 طبع أوربا).
(4). أي أي عيب أقبح منه.

الرابعة- واختلف في البخل والشح، هل هما بمعنى واحد أو بمعنيين. فقيل: البخل الامتناع من إخراج ما حصل عندك. والشح: الحرص على تحصيل ما ليس عندك. وقيل: إن الشح هو البخل مع حرص. وهو الصحيح لما رواه مسلم عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم). وهذا يرد قول من قال: إن البخل منع الواجب، والشح منع المستحب. إذ لو كان الشح منع المستحب لما دخل تحت هذا الوعيد العظيم، والذم الشديد الذي فيه هلاك الدنيا والآخرة «1». ويؤيد هذا المعنى ما رواه النسائي عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في منخري رجل مسلم أبدأ ولا يجتمع شح وإيمان في قلب رجل مسلم أبدا (. وهذا يدل على أن الشح أشد في الذم من البخل، إلا أنه قد جاء ما يدل على مساواتهما وهو قوله- وقد سئل، أيكون المؤمن بخيلا؟ قال: (لا) وذكر الماوردي في كتاب" أدب الدنيا والدين" أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال للأنصار: (من سيدكم) قالوا: الجد بن قيس على بخل فيه، الحديث. وقد تقدم. قوله تعالى: (وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أخبر تعالى ببقائه ودوام ملكه. وأنه في الأبد كهو في الأزل غني عن العالمين، فيرث الأرض بعد فناء خلقه وزوال أملاكهم، فتبقى الاملاك والأموال لا مدعى فيها. فجرى هذا مجرى الوراثة في عادة الخلق، وليس هذا بميراث في الحقيقة، لان الوارث «2» في الحقيقة هو الذي يرث شيئا لم يكن ملكه من قبل، والله سبحانه وتعالى مالك السموات والأرض وما بينهما، وكانت السموات وما فيها، والأرض وما فيها له، وإن الأموال كانت عارية عند أربابها، فإذا ماتوا ردت العارية إلى صاحبها الذي كانت له في الأصل. ونظير هذه الآية قوله تعالى:" إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها" [مريم: 40] «3» الآية. والمعنى في الآيتين أن الله تعالى أمر عباده بأن ينفقوا ولا يبخلوا قبل أن يموتوا ويتركوا ذلك ميراثا لله تعالى، ولا ينفعهم إلا ما أنفقوا.
__________
(1). في ج: هلاك الدنيا والأخرى والدين.
(2). في الأصول: الميراث. والصواب ما ذكر. [.....]
(3). راجع ج 11 ص 105.

لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (182)

[سورة آل عمران (3): الآيات 181 الى 182]
لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (181) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (182)
قوله تعالى: (لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ) ذكر تعالى قبيح قول الكفار لا سيما اليهود. وقال أهل التفسير: لما أنزل الله" مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً" [البقرة: 245] «1» قال قوم من اليهود- منهم حيي بن أخطب، في قول الحسن. وقال عكرمة وغيره: هو فنحاص بن عازوراء- إن الله فقير ونحن أغنياء يقترض منا. وإنما قالوا هذا تمويها على ضعفائهم، لا أنهم يعتقدون هذا، لأنهم أهل كتاب. ولكنهم كفروا بهذا القول، لأنهم أرادوا تشكيك الضعفاء منهم ومن المؤمنين، وتكذيب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أي إنه فقير على قول محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأنه اقترض منا. (سنكتب ما قالوا سنجازيهم عليه. وقيل: سنكتبه في صحائف أعمالهم، أي نأمر الحفظة بإثبات قولهم حتى يقرءوه يوم القيامة في كتبهم التي يؤتونها، حتى يكون أوكد للحجة عليهم. وهذا كقوله:" وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ" [الأنبياء: 94] «2». وقيل: مقصود الكتابة الحفظ، أي سنحفظ ما قالوا لنجازيهم. و" ما" في قوله" ما قالُوا" في موضع نصب ب سَنَكْتُبُ". وقرا الأعمش وحمزة" سيكتب" بالياء، فيكون" ما" اسم ما لم يسم فاعله. واعتبر حمزة ذلك بقراءة ابن مسعود:" ويقال ذوقوا عذاب الحريق". قوله تعالى: (وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ) أي ونكتب قتلهم الأنبياء، أي رضاهم بالقتل. والمراد قتل أسلافهم الأنبياء، لكن لما رضوا بذلك صحت الإضافة إليهم. وحسن رجل عند الشعبي، قتل عثمان رضي الله عنه فقال له الشعبي: شركت في دمه. فجعل الرضا بالقتل قتلا، رضي الله عنه.
__________
(1). راجع ج 2 ص 237.
(2). راجع ج 12 ص 339.

الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (183) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (184)

قلت: وهذه مسألة عظمي، حيث يكون الرضا بالمعصية معصية. وقد روى أبو داود عن، العرس بن عميرة الكندي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فكرهها- وقال مرة فأنكرها- كمن غاب عنها ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها). وهذا نص. قوله تعالى: (بِغَيْرِ حَقٍّ) تقدم معناه في القرة «1» (وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) أي يقال لهم في جهنم، أو عند الموت، أو عند الحساب هذا. ثم هذا القول من الله تعالى، أو من الملائكة، قولان. وقراءة ابن مسعود" ويقال". والحريق اسم للملتهبة من النار، والنار تشمل الملتهبة وغير الملتهبة. قوله تعالى (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) أي ذلك العذاب بما سلف من الذنوب. وخص الأيدي بالذكر ليدل على تولي الفعل ومباشرته، إذ قد يضاف الفعل إلى الإنسان بمعنى أنه أمر به، كقوله:" يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ" [القصص: 4] «2» واصل" أَيْدِيكُمْ" أيديكم فحذفت الضمة لثقلها. والله أعلم.

[سورة آل عمران (3): الآيات 183 الى 184]
الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (183) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ (184)
قوله تعالى: (الَّذِينَ) في موضع خفض بدلا من" الَّذِينَ" في قوله عز وجل" لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا" أو نعت" للعبيد" أو خبر ابتداء، أي هم الذين قالوا. وقال الكلب وغيره. نزلت في كعب بن الأشرف، ومالك بن الصيف، ووهب بن يهوذا، وفنحاص بن عازوراء وجماعة أتوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالوا له: أتزعم أن الله أرسلك إلينا، وأنه أنزل علينا كتابا عهد إلينا فيه ألا نؤمن لرسول يزعم أنه من عند الله حتى يأتينا بقربان تأكله النار، فإن جئتنا به صدقناك. فأنزل الله هذه الآية. فقيل: كان هذا في التوراة، ولكن كان تمام الكلام: حتى يأتيكم المسيح ومحمد فإذا أتياكم فآمنوا بهما من غير قربان.
__________
(1). راجع ج 1 ص 431.
(2). راجع ج 13 ص 247.

وقيل: كان أمر القرابين ثابتا إلى أن نسخت على لسان عيسى بن مريم. وكان النبي منهم يذبح ويدعو فتنزل نار بيضاء لها دوي وحفيف لا دخان لها، فتأكل القربان. فكان هذا القول دعوى من اليهود، إذ كان ثم استثناء فأخفوه، أو نسخ، فكانوا في تمسكهم بذلك متعنتين، ومعجزات النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دليل قاطع في إبطال دعواهم، وكذلك معجزات عيسى، ومن وجب صدقه وجب تصديقه. ثم قال تعالى: إقامة للحجة عليهم: (قُلْ) يا محمد (قَدْ جاءَكُمْ) يا معشر اليهود (رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ) من القربان (فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) يعني زكريا ويحيى وشعيا، وسائر من قتلوا من الأنبياء عليهم السلام ولم تؤمنوا بهم. أراد بذلك أسلافهم. وهذه الآية هي التي تلاها عامر الشعبي رضي الله عنه، فأحتج بها على الذي حسن قتل عثمان رضي الله عنه كما بيناه. وأن الله تعالى سمى اليهود قتلة لرضاهم بفعل أسلافهم، وإن كان بينهم نحو من سبعمائة سنة. والقربان ما يتقرب به إلى الله تعالى من نسك «1» وصدقة وعمل صالح، وهو فعلان من القربة. ويكون اسما ومصدرا، فمثال الاسم السلطان والبرهان. والمصدر العدوان والخسران. وكان عيسى ابن عمر يقرأ" بِقُرْبانٍ" بضم الراء اتباعا لضمة القاف، كما قيل في جمع ظلمة: ظلمات، وفي حجرة حجرات. ثم قال تعالى معزيا لنبيه ومؤنسا له. (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ) أي بالدلالات. (وَالزُّبُرِ) أي الكتب المزبورة، يعني المكتوبة. والزبر جمع زبور وهو الكتاب. وأصله من زبرت أي كتبت. وكل زبور فهو كتاب، قال امرؤ القيس: لمن طلل أبصرته فشجاني كخط زبور في عسيب «2» يماني وأنا أعرف تزبرتي أي كتابتي. وقيل: الزبور من الزبر بمعنى الزجر. وزبرت الرجل انتهرته. وزبرت البئر: طويتها بالحجارة. وقرا ابن عامر" بِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ" بزيادة باء في الكلمتين «3». وكذلك هو في مصاحف أهل الشام. (وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ) أي الواضح المضي، من قولك: أنرت الشيء أنيره، أي أوضحته: يقال: نار الشيء وأناره ونوره واستناره بمعنى،
__________
(1). في هـ وط: نسيكة.
(2). العسيب: سعف النخل الذي جرد عنه خوصة، وهى الجريدة.
(3). في ط وب: في الحرفين.

كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185)

وكل واحد منهما لازم ومتعد. وجمع بين الزبر والكتاب- وهما بمعنى- لاختلاف لفظهما، واصلها كما ذكرنا.

[سورة آل عمران (3): آية 185]
كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (185)
فيه سبع «1» مسائل: الاولى- لما أخبر جل وتعالى عن الباخلين وكفرهم في قولهم:" إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ" وأمر المؤمنين بالصبر على أذاهم في قوله:" لَتُبْلَوُنَّ" [آل عمران: 186] الآية- بين أن ذلك مما ينقضي ولا يدوم، فإن أمد الدنيا قريب، ويوم القيامة يوم الجزاء. (ذائِقَةُ الْمَوْتِ) من الذوق، وهذا مما لا محيص عنه للإنسان، ولا محيد عنه لحيوان. وقد قال أمية بن أبي الصلت:
من لم يمت عبطة «2» يمت هرما ... للموت كأس والمرء ذائقها
وقال آخر:
الموت باب وكل الناس داخله ... فليت شعري بعد الباب ما الدار
الثانية- قراءة العامة" ذائِقَةُ الْمَوْتِ" بالإضافة. وقرا الأعمش ويحيى وابن أبي إسحاق" ذائقة الموت" بالتنوين ونصب الموت. قالوا: لأنها لم تذق بعد. وذلك أن اسم الفاعل على ضربين: أحدهما أن يكون بمعنى المضي. والثاني بمعنى الاستقبال، فإن أردت الأول لم يكن فيه إلا الإضافة إلى ما بعده، كقولك: هذا ضارب زيد أمس، وقاتل بكر أمس، لأنه يجري مجرى الاسم الجامد وهو العلم، نحو غلام زيد، وصاحب بكر. قال الشاعر:
الحافظو عورة العشيرة لا ... يأتيهم من ورائهم وكف «3»
__________
(1). كذا في الأصول والتقسيم ثمانية إلا ج فسبعة وعليها الاعتماد.
(2). مات عبطة: أي شابا صحيحا.
(3). الوكف: العيب: والبيت لعمرو بن امرئ القيس، ويقال لقيس بن الخطيم. (عن اللسان).

وإن أردت الثاني جاز الجر. والنصب والتنوين فيما هذا سبيله هو الأصل، لأنه يجري مجرى الفعل المضارع فإن كان الفعل غير متعد، لم يتعد نحو قاتم زيد. وإن كان متعديا عديته ونصبت به، فتقول. زيد ضارب عمروا بمعنى يضرب عمروا. ويجوز حذف التنوين والإضافة تخفيفا، كما قال المرار":
سل الهموم بكل معطي رأسه ... ناج مخالط صهبة متعيس «1»

مغتال أحبله مبين عنقه ... في منكب زبن المطي عرندس «2»
[فحذف التنوين تخفيفا، والأصل: معط رأسه بالتنوين والنصب، ومثل هذا أيضا في التنزيل قوله تعالى:" هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ" [الزمر: 38] وما كان مثله «3»]. الثالثة- ثم اعلم أن للموت أسبابا وأمارات، فمن علامات موت المؤمن عرق الجبين. أخرجه النسائي من حديث بريدة قال سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول:" المؤمن يموت بعرق الجبين". وقد بيناه في" التذكرة" فإذا احتضر لقن الشهادة، لقوله عليه السلام: (لقنوا موتاكم لا إله إلا الله) لتكون آخر كلامه فيختم له بالشهادة، ولا يعاد عليه منها لئلا يضجر. ويستحب قراءة" يس" ذلك الوقت، لقوله عليه السلام:" اقرءوا يس على موتاكم" أخرجه أبو داود. وذكر الآجري في كتاب النصيحة من حديث أم الدرداء عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (ما من ميت يقرأ عنده سورة يس إلا هون عليه الموت). فإذا قضي وتبع البصر الروح- كما أخبر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في صحيح مسلم- وارتفعت العبادات وزال التكليف، توجهت على الأحياء أحكام، منها: تغميضه. وإعلام إخوانه الصلحاء بموته. وكرهه قوم وقالوا: هو من النعي. والأول أصح، وقد بيناه في غير هذا الموضع. ومنها الأخذ في تجهيزه بالغسل والدفن لئلا يسرع إليه التغير، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقوم أخروا دفن ميتهم: (عجلوا بدفن جيفتكم) وقال: (أسرعوا بالجنازة) الحديث، وسيأتي.
__________
(1). قوله معطى رأسه، أي ذلول، وناج: سريع. والصهبة: أن يضرب بياضه إلى الحمرة. والمتعيس والاعيس: الأبيض، وهو أفضل ألوان الإبل. والمعنى: سل همومك اللازمة لفراق من تهوى ونأيه عنك بكل بعير ترتحله للسفر.
(2). وصف بعيرا بعظم الجوف، فإذا شد رحله عليه اغتال أحبله (جمع حبل) واستوفاها لعظم جوفه. والاغتيال: الذهاب بالشيء. والمبين: البين الطويل. وزبن: زاحم ودفع. والعرندس: الشديد. ويروى: متين عنقه. (عن شرح الشواهد للشنتمري).
(3). الزيادة من ج وط ود وهـ. [.....]

الثالثة- فأما غسله فهو سنة لجميع المسلمين حاشا الشهيد على ما تقدم. وقيل: غسله واجب. قاله القاضي عبد الوهاب. والأول: مذهب الكتاب «1»، وعلى هذين القولين العلماء. وسبب الخلاف قوله عليه السلام لام عطية في غسلها ابنته زينب، على ما في كتاب مسلم. وقيل: هي أم كلثوم، على ما في كتاب أبي داود: (اغسلنها ثلاثا أو خمسا أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك) الحديث. وهو الأصل عند العلماء في غسل الموتى. فقيل: المراد بهذا الامر بيان حكم الغسل فيكون واجبا. وقيل: المقصود منه تعليم كيفية الغسل فلا يكون فيه ما يدل على الوجوب. قالوا ويدل عليه قوله: (إن رأيتن ذلك) وهذا يقتضي إخراج ظاهر الامر عن الوجوب، لأنه فوضه إلى نظرهن. قيل لهم: هذا فيه بعد، لان ردك (إن رأيتن) إلى الامر، ليس السابق إلى الفهم بل السابق رجوع هذا الشرط إلى أقرب مذكور، وهو (أكثر من ذلك) أو إلى التخيير في الاعداد. وعلى الجملة فلا خلاف في أن غسل الميت مشروع معمول به في الشريعة لا يترك. وصفته كصفة غسل الجنابة على ما هو معروف. ولا يجاوز السبع غسلات في غسل الميت بإجماع، على ما حكاه أبو عمر. فإن خرج منه شي بعد السبع غسل الموضع وحده، وحكمه حكم الجنب إذا أحدث بعد غسله. فإذا فرغ من غسله كفنه في ثيابه وهي: الرابعة- والتكفين واجب عند عامة العلماء، فإن كان له مال فمن رأس ماله عند عامة العلماء، إلا ما حكي عن طاوس أنه قال: من الثلث كان المال قليلا أو كثيرا. فإن كان الميت ممن تلزم غيره نفقته في حياته من سيد- إن كان عبدا- أو أب أو زوج أو ابن، فعلى السيد باتفاق، وعلى الزوج والأب والابن باختلاف. ثم على بيت المال أو على جماعة المسلمين على الكفاية. والذي يتعين منه بتعيين الفرض ستر العورة، فإن كان فيه فضل غير أنه لا يعم جميع الجسد غطى رأسه ووجهه، إكراما لوجهه وسترا لما يظهر من تغير محاسنه. والأصل في هذا قصة مصعب بن عمير، فإنه ترك يوم أحد نمرة «2» كان
__________
(1). كذا في كل الأصول.
(2). النمرة (بفتح فكسر): شملة فيما خطوط بيض وسود، أو بردة من صوف تلبسها الاعراب.

إذا غطى رأسه خرجت رجلاه، وإذا غطي رجلاه خرج رأسه، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ضعوها مما يلي رأسه واجعلوا على رجليه من الإذخر) «1» أخرج الحديث مسلم. والوتر مستحب عند كافة العلماء في الكفن، وكلهم مجمعون على أنه ليس فيه حد. والمستحب منه البياض قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (البسوا من ثيابكم البياض فإنها من خير ثيابكم وكفنوا فيها موتاكم) أخرجه أبو داود. وكفن صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ثلاثة أثواب بيض سحولية من كرسف «2». والكفن في غير البياض جائز إلا أن يكون حريرا أو خزا. فإن تشاح الورثة في الكفن قضي عليهم في مثل لباسه في جمعته وأعياده قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إذا كفن أحدكم أخاه فليحسن كفنه) أخرجه مسلم. إلا أن يوصي بأقل من ذلك. فإن أوصى بسرف قيل: يبطل الزائد. وقيل: يكون في الثلث. والأول أصح، لقوله تعالى: (وَلا تُسْرِفُوا) [الانعام: 141] «3». وقال أبو بكر: إنه للمهلة «4». فإذا فرغ من غسله وتكفينه ووضع على سريره واحتمله الرجال على أعناقهم وهي: الخامسة- فالحكم الإسراع في المشي، لقوله عليه السلام: (أسرعوا بالجنازة فإن تك صالحة فخير تقدمونها إليه وإن تكن غير ذلك فشر تضعونه عن رقابكم). لا كما يفعله اليوم الجهال في المشي رويدا والوقوف بها المرة بعد المرة، وقراءة القرآن بالالحان إل ما لا يحل ولا يجوز حسب ما يفعله أهل الديار المصرية بموتاهم. روى النسائي: أخبرنا محمد بن عبد الأعلى قال حدثنا خالد قال أنبأنا عيينة بن عبد الرحمن قال حدثني أبي قال: شهدت جنازة عبد الرحمن بن سمرة وخرج زياد يمشي بين يدي السرير، فجعل رجال من أهل عبد الرحمن ومواليهم يستقبلون السرير ويمشون على أعقابهم ويقولون: رويدا رويدا، بارك الله فيكم! فكانوا يدبون دبيبا، حتى إذا كنا ببعض طريق المريد «5» لحقنا أبو بكرة رضي الله عنه على بغلة فلما
__________
(1). الإذخر (بكسر الهمزة): حشيشة طيبة الرائحة، يسقف بها البيوت فوق الخشب.
(2). قوله: سحولية، يروى بفتح السين وضمهما، فالفتح منسوب إلى السحول، وهو الإقصار لأنه يسحلها أي يغسلها، أو إلى سحول وهى قرية باليمن. وأما الضم فهو جمع سحل، وهو الثوب الأبيض النقي: ولا يكون إلا من قطن. والكرسف كعصفر: القطن.
(3). راجع ج 7 ص 110.
(4). المهلة (مثلثة الميم): القيح والصديد الذي يذوب فيسيل من الجسد.
(5). المربد كمنبر: موضع قرب المدينة.

رأى الذين يصنعون حمل عليهم ببغلته وأهوى إليهم بالسوط فقال: خلوا! فوالذي أكرم وجه أبي القاسم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقد رأينا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإنها لنكاد نرمل بها رملا، فانبسط القوم. وروى أبو ماجدة عن ابن مسعود قال سألنا نبينا صلى الله عليه سلم عن المشي مع الجنازة فقال: (دون الخبب إن يكن خيرا يعجل إليه وإن يكن غير ذلك فبعدا لأهل النار) الحديث. قال أبو عمر: والذي عليه جماعة العلماء في ذلك الإسراع فوق السجية قليلا، والعجلة أحب إليهم من الإبطاء. ويكره الإسراع الذي يشق على ضعفة الناس ممن يتبعها. وقال إبراهيم النخعي: بطئوا بها قليلا ولا تدبوا دبيب اليهود والنصارى. وقد تأول قوم الإسراع في حديث أبي هريرة تعجيل الدفن لا المشي، وليس بشيء لما ذكرنا. وبالله التوفيق. السادسة- وأما الصلاة عليه فهي واجبة على الكفاية كالجهاد. هذا هو المشهور من مذاهب العلماء: مالك وغيره، لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في النجاشي: (قوموا فصلوا عليه). وقال أصبغ: إنها سنة. وروى عن مالك. وسيأتي لهذا المعنى زيادة بيان في" براءة" «1». السابعة- وأما دفنه في التراب ودسه وستره فذلك واجب، لقوله تعالى:" فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ" [المائدة: 31] «2». وهناك يذكر حكم بنيان القبر وما يستحب منه، وكيفية جعل الميت فيه. ويأتي في" الكهف" حكم بناء المسجد «3» عليه، إن شاء الله تعالى. فهذه جملة من أحكام الموتى وما يجب لهم على الأحياء. وعن عائشة قالت قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لا تسبوا الأموات فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا) أخرجه مسلم. وفي سنن النسائي عنها أيضا قالت: ذكر عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هالك بسوء فقال: (لا تذكروا هلكاكم إلا بخير).
__________
(1). راجع ج 8 ص 218.
(2). راجع ج 6 ص 141.
(3). راجع ج 10 ص 378.

قوله تعالى: (وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) فأجر المؤمن ثواب، واجر الكافر عقاب، ولم يعتد بالنعمة والبلية في الدنيا أجرا وجزاء، لأنها عرصة الفناء. (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ) أي أبعد. (وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ) ظفر بما يرجو، ونجا مما يخاف. وروى الأعمش عن زيد بن وهب عن عبد الرحمن بن عبد رب الكعبة عن عبد الله بن عمرو عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (من سره أن يزحزح عن النار وأن يدخل الجنة فلتأته منيته وهو يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويأتي إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه (. عن أبي هريرة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:) موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها اقرءوا إن شئتم" فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ" (. وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ) أي تغر المؤمن وتخدعه فيظن طول البقاء وهي فانية. والمتاع ما يتمتع به وينتفع، كالفأس والقدر والقصعة ثم يزول ولا يبقى ملكه، قاله أكثر المفسرين. قال الحسن: كخضرة النبات، ولعب البنات لا حاصل له. وقال قتادة: هي متاع متروك توشك أن تضمحل بأهلها، فينبغي للإنسان أن يأخذ من هذا المتاع بطاعة الله سبحانه ما استطاع. ولقد أحسن من قال:
هي الدار دار الأذى والقذى ... ودار الفناء ودار الغير «1»
فلو نلتها بحذافيرها ... لمت ولم تقض منها الوطر
أيا من يؤمل طول الخلود ... وطول الخلود عليه ضرر
إذا أنت شبت وبان الشباب ... فلا خير في العيش بعد الكبر
والغرور (بفتح الغين) الشيطان، يغر الناس بالتمنية والمواعيد الكاذبة. قال ابن عرفة: الغرور ما رأيت له ظاهرا تحبه، وفية باطن مكروه أو مجهول. والشيطان غرور، لأنه يحمل على محاب النفس، ووراء ذلك ما يسوء. قال: ومن هذا بيع الغرر، وهو ما كان له ظاهر بيع يغر وباطن مجهول.
__________
(1). في ج: العبر.

لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186)

[سورة آل عمران (3): آية 186]
لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186)
هذا الخطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأمته والمعنى: لتختبرن ولتمتحنن في أموالكم بالمصائب والأرزاء بالإنفاق في سبيل الله وسائر تكاليف الشرع. والابتلاء في الأنفس بالموت والأمراض وفقد الأحباب. وبدأ بذكر الأموال لكثرة المصائب بها. (ولتسمعن) إن قيل: لم ثبتت الواو في" لَتُبْلَوُنَّ" وحذفت من" وَلَتَسْمَعُنَّ"، فالجواب أن الواو في" لَتُبْلَوُنَّ" قبلها فتحة فحركت لالتقاء الساكنين، وخصت بالضمة لأنها واو الجمع، ولم يجز حذفها لأنها ليس قبلها ما يدل عليها، وحذفت من" وَلَتَسْمَعُنَّ" لان قبلها ما يدل عليها. ولا يجوز همز الواو في" لَتُبْلَوُنَّ" لان حركتها عارضة، قاله النحاس وغيره. ويقال للواحد من المذكر: لتبلين يا رجل. وللاثنين: لتبليان يا رجلان. ولجماعة الرجال: لتبلون. ونزلت بسبب أن أبا بكر رضي الله عنه سمع يهوديا يقول: إن الله فقير ونحن أغنياء. ردا على القرآن واستخفافا به حين أنزل الله" مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً" [البقرة: 245] فلطمه، فشكاه إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فنزلت. قيل: إن قائلها فنحاص اليهودي، عن عكرمة. الزهري: هو كعب بن الأشرف نزلت بسببه، وكان شاعرا، وكان يهجو النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه، ويؤلب عليه كفار قريش، ويشبب بنساء المسلمين حتى بعث [إليه ] «1» رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ محمد بن مسلمة وأصحابه فقتله القتلة المشهورة «2» في السير وصحيح الخبر. وقيل غير هذا. وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما قدم المدينة كان بها اليهود والمشركون، فكان هو وأصحابه يسمعون أذى كثيرا. وفي الصحيحين أنه عليه السلام مر بابن أبي وهو عليه السلام على حمار فدعاه إلى الله تعالى فقال ابن أبي: إن كان ما تقول حقا فلا تؤذنا به في مجالسنا! ارجع إلى رحلك، فمن جاءك فاقصص عليه. وقبض على أنفه لئلا يصيبه غبار الحمار، فقال
__________
(1). في ج وهـ وز.
(2). راجع سيرة ابن هشام ص 548 طبع أوربا.

وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187)

ابن رواحة: نعم يا رسول الله، فاغشنا في مجالسنا فإنا نحب ذلك. واستب المشركون الذين كانوا حول ابن أبي والمسلمون، وما زال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسكنهم حتى سكنوا. ثم دخل على سعد بن عبادة يعوده وهو مريض، فقال: (ألم تسمع ما قال فلان) فقال سعد: أعف عنه واصفح، فو الذي أنزل عليك الكتاب لقد جاءك الله بالحق الذي نزل، وقد اصطلح أهل هذه البحيرة «1» على أن يتوجوه ويعصبوه بالعصابة، فلما رد الله ذلك بالحق الذي أعطاكه شرق به، فذلك فعل به ما رأيت. فعفا عنه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ونزلت هذه الآية. قيل: هذا كان قبل نزول القتال، وندب الله عباده إلى الصبر والتقوى وأخبر أنه من عزم الأمور. وكذا في البخاري في سياق الحديث، إن ذلك كان قبل نزول القتال. والأظهر أنه ليس بمنسوخ، فإن الجدال بالأحسن والمداراة أبدا مندوب إليها، وكان عليه السلام مع الامر بالقتال يوادع اليهود ويداريهم، ويصفح عن المنافقين، وهذا بين. ومعنى (عَزْمِ الْأُمُورِ) شدها وصلابتها «2». وقد تقدم «3».

[سورة آل عمران (3): آية 187]
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ (187)
فيه مسألتان: الاولى- قوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) هذا متصل بذكر اليهود، فإنهم أمروا بالايمان بمحمد عليه السلام وبيان أمره، فكتموا نعته «4». فالآية توبيخ لهم، ثم مع ذلك هو خبر عام لهم ولغيرهم. قال الحسن وقتادة: هي في كل من أوتي علم شي من الكتاب. فمن علم شيئا فليعلمه، وإياكم وكتمان العلم فإنه هلكة. وقال محمد بن كعب: لا يحل لعالم أن يسكت على علمه، ولا للجاهل أن يسكت على جهله، قال الله تعالى:
__________
(1). يريد المدينة. [.....]
(2). في ج وهـ وز وى: سدها وصلاحها. من السداد.
(3). راجع ج 3 ص 110.
(4). في ج: أمره. وفى ز: بعثه.

لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188)

" وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ" الآية. وقال:" فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ" [النحل: 42] «1» وقال أبو هريرة: لولا ما أخذ الله على أهل الكتاب ما حدثتكم بشيء، ثم تلا هذه الآية" وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ". وقال الحسن بن عمارة: أتيت الزهري بعد ما ترك الحديث، فألفيته على بابه فقلت: إن رأيت أن تحدثني. فقال: أما علمت أني تركت الحديث؟ فقلت: إما أن تحدثني وإما أن أحدثك. قال حدثني. قلت: حدثني الحكم بن عتيبة عن يحيى بن الجزار قال سمعت علي بن أبي طالب يقول: ما أخذ الله على الجاهلين أن يتعلموا حتى أخذ على العلماء أن يعلموا. قال: فحدثني أربعين حديثا. الثانية- الهاء في قوله: (لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ) ترجع إلى محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإن لم يجر له ذكر. وقيل: ترجع إلى الكتاب، ويدخل فيه بيان أمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأنه في الكتاب. وقال: (وَلا تَكْتُمُونَهُ) ولم يقل تكتمنه لأنه في معنى الحال، أي لتبيننه غير كاتمين. وقرا أبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر وأهل مكة" لَتُبَيِّنُنَّهُ" بالتاء على حكاية الخطاب. والباقون بالياء لأنهم «2» غيب. وقرا ابن عباس «3»" وإذ أخذ الله ميثاق النبيين ليبيننه". فيجيء قوله (فَنَبَذُوهُ) عائدا على الناس الذين بين لهم الأنبياء. وفي قراءة ابن مسعود" ليبينونه" دون النون الثقيلة. والنبذ الطرح. وقد تقدم بيانه في" البقرة" «4». (وَراءَ ظُهُورِهِمْ) مبالغة في الاطراح، ومنه" وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا" [هود: 92] وقد تقدم في" البقرة" «5» بيانه أيضا. وتقدم معنى قوله: (وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا) في" البقرة" «6» فلا معنى لإعادته. (فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ) تقدم أيضا «7». والحمد لله.

[سورة آل عمران (3): آية 188]
لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (188)
__________ (1). راجع ج 10 ص 108 وج 11 ص 272.
(2). كذا في ج ود وهـ وز وب، وفى أوح: لأنه غيب.
(3). الذي في الطبري أنها قراءة عبد الله، وسيأتي.
(4). راجع ج 2 ص 40.
(5). راجع ج 2 ص 40.
(6). راجع ج 1 ص 334.
(7). راجع ج 2 ص 27.

أي بما فعلوا من القعود في التخلف عن الغزو وجاءوا به من العذر. ثبت في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري أن رجالا من المنافقين في عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا خرج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الغزو تخلفوا عنه وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإذا قدم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعتذروا إليه وحلفوا، وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا، فنزلت (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا) الآية. وفي الصحيحين أيضا أن مروان «1» قال لبوابه: اذهب يا رافع إلى ابن عباس فقل له: لئن كان كل امرئ منا فرح بما أوتي وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبا لنعذبن أجمعون. فقال ابن عباس: مالكم ولهذه الآية! إنما أنزلت هذه الآية في أهل الكتاب. ثم تلا ابن عباس" وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ" و" لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا". وقال ابن عباس: سألهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن شي فكتموه إياه، وأخبروه بغيره، فخرجوا وقد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه واستحمدوا بذلك إليه، وفرحوا بما أوتوا من كتمانهم إياه، وما سألهم عنه. وقال محمد بن كعب القرظي: نزلت في علماء بني إسرائيل الذين كتموا الحق، وأتوا ملوكهم من العلم ما يوافقهم في باطلهم،" وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا" أي بما أعطاهم الملوك من الدنيا، فقال الله لنبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ). فأخبر أن لهم عذابا أليما بما أفسدوا من الدين على عباد الله. وقال الضحاك: إن اليهود كانوا يقولون للملوك إنا نجد في كتابنا أن الله يبعث نبيا في آخر الزمان يختم به النبوة، فلما بعثه الله سألهم الملوك أهو هذا الذي تجدونه في كتابكم؟ فقال اليهود طمعا في أموال الملوك: هو غير ذلك، فأعطاهم الملوك الخزائن، فقال الله تعالى:" لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا" الملوك من الكذب حتى يأخذوا عرض الدنيا. والحديث الأول خلاف مقتضى الحديث الثاني. ويحتمل أن يكون نزولها على السببين
__________
(1). هو مروان بن الحكم بن العاصي، وكان يومئذ أميرا على المدينة من قبل معاوية. (عن شرح القسطلاني).

لاجتماعهما في زمن واحد، فكانت جوابا للفريقين. والله أعلم. وقوله: واستحمدوا بذلك إليه، أي طلبوا أن يحمدوا. وقول مروان: لئن كان كل امرئ منا إلخ دليل على أن للعموم صيغا مخصوصة، وأن" الَّذِينَ" منها. وهذا مقطوع به من تفهم ذلك من القرآن والسنة. وقوله تعالى:" وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا" إذا كانت الآية في أهل الكتاب لا في المنافقين المتخلفين، لأنهم كانوا يقولون: نحن على دين إبراهيم ولم يكونوا على دينه، وكانوا يقولون: نحن أهل الصلاة والصوم والكتاب، يريدون أن يحمدوا بذلك. و" الَّذِينَ" فاعل بيحسبن بالياء. وهي قراءة نافع وابن عامر وابن كثير وأبي عمرو، أي لا يحسبن الفارحون فرحهم منجيا لهم من العذاب. وقيل: المفعول الأول محذوف، وهو أنفسهم. والثاني" بِمَفازَةٍ". وقرا الكوفيون" تَحْسَبَنَّ" بالتاء على الخطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أي لا تحسبن يا محمد الفارحين بمفازة من العذاب. وقوله" فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ" بالتاء وفتح الباء، إعادة تأكيد، ومفعوله الأول الهاء والميم، والمفعول الثاني محذوف، أي كذلك، والفاء عاطفة أو زائدة على بدل الفعل الثاني من الأول. وقرا الضحاك وعيسى بن عمر بالتاء وضم الباء" فلا تحسبنهم" أراد محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه. وقرا مجاهد وابن كثير وأبو عمرو ويحيى بن يعمر بالياء وضم الباء خبرا عن الفارحين، أي فلا يحسبن أنفسهم،" بِمَفازَةٍ" المفعول الثاني. ويكون" فلا يحسبنهم" تأكيدا. وقيل:" الَّذِينَ" فاعل" بيحسبن" ومفعولاها محذوفان لدلالة" يحسبنهم" عليه، كما قال الشاعر:
بأي كتاب أم بأية آية «1» ... ترى حبهم عارا على وتحسب
استغنى بذكر مفعول الواحد عن ذكر مفعول، الثاني، و" بِمَفازَةٍ" الثاني، وهو بدل من الفعل الأول فأغنى لابداله منه عن ذكر مفعولية، والفاء زائدة. وقيل: قد تجئ هذه الافعال ملغاة لا في حكم الجمل المفيدة نحو قول الشاعر:
وما خلت أبقى بيننا من مودة ... عراض المذاكي المسنفات القلائصا
__________
(1). في ط وز: سنة. وهى الرواية المشهورة

وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189)

المذاكي: الخيل التي قد أتي عليها بعد قروحها سنة أو سنتان، الواحد مذك، مثل المخلف من الإبل، وفي المثل جري المذكيات غلاب «1»، والمسنفات اسم مفعول، يقال: سنفت البعير أسنفه سنفا إذا كففته بزمامه وأنت راكبه، وأسنف البعير لغة في سنفه، وأسنف البعير بنفسه إذا رفع رأسه، يتعدى ولا يتعدى. وكانت العرب تركب الإبل وتجنب الخيل، تقول: الحرب لا تبقي مودة. وقال كعب «2» بن أبي سلمى:
أرجو وآمل أن تدنو مودتها ... وما إخال لدنيا منك تنويل
وقرأ جمهور القراء السبعة وغيرهم" أَتَوْا" بقصر الالف، أي بما جاءوا به من الكذب والكتمان. وقرا مروان بن الحكم والأعمش وإبراهيم النخعي" آتوا" بالمد، بمعنى أعطوا: وقرا سعيد ابن جبير" أوتوا" على ما لم يسو فاعله، أي أعطوا. والمفازة المنجاة، مفعلة من فاز يفوز إذا نجا، أي ليسوا بفائزين. وسمي موضع المخاوف مفازة على جهة التفاؤل، قاله الأصمعي. وقيل: لأنها موضع تفويز ومظنة هلاك، تقول العرب: فوز الرجل إذا مات. قال ثعلب: حكيت لابن الاعرابي قول الأصمعي فقال أخطأ، قال لي أبو المكارم: إنما سميت مفازة، لان من قطعها فاز. وقال الأصمعي: سمي اللديغ سليما تفاؤلا. قال ابن الاعرابي: لأنه مستسلم لما أصابه. وقيل: لا تحسبنهم بمكان بعيد من العذاب، لان الفوز التباعد عن المكروه. والله أعلم.

[سورة آل عمران (3): آية 189]
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189)
هذا احتجاج على الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء، وتكذيب لهم. وقيل: المعنى لا تظن الفرحين ينجون من العذاب، فإن لله كل شي، وهم في قبضة القدير، فيكون معطوفا على، الكلام الأول، أي إنهم لا ينجون من عذابه، يأخذهم متى شاء. (وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ) أي ممكن (قَدِيرٌ) وقد مضى في" البقرة" «3».
__________
(1). الغلاب: المغالبة. أي أن المذكى يغالب مجاريه فيغلبه لقوته.
(2). كذا في الأصول. وهو اختصار من كعب بن زهير إلخ. [.....]
(3). راجع ج 1 ص 422.

إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192) رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194) فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195) لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (198) وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)

[سورة آل عمران (3): الآيات 190 الى 200]
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ (191) رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (192) رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (193) رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ (194)
فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ (195) لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (196) مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (197) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ (198) وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (199)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)

فيه خمس وعشرون مسا له: الاولى- قوله تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) تقدم معنى هذه الآية في" البقرة" «1» في غير موضع. فختم تعالى هذه السورة بالأمر بالنظر والاستدلال في آياته، إذ لا تصدر إلا عن حي قيوم قدير قدوس سلام غني عن العالمين، حتى يكون إيمانهم مستندا إلى اليقين لا إلى التقليد. (لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ) الذين يستعملون عقولهم في تأمل الدلائل. وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: لما نزلت هذه الآية على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قام يصلى، فأتاه بلال يؤذنه بالصلاة، فرءاه يبكي فقال: يا رسول الله، أتبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر! فقال: (يا بلال، أفلا أكون عبدا شكورا ولقد أنزل الله على الليلة آية" إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ"- ثم قال: ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها. الثانية- قال العلماء: يستحب لمن انتبه من نومه أن يمسح على وجهه، ويستفتح قيامه بقراءة هذه العشر الآيات اقتداء بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثبت ذلك في الصحيحين وغيرهما وسيأتي، ثم يصلي ما كتب له، فيجمع بين التفكر والعمل، وهو أفضل العمل على 17 خط حذف شده است. ما يأتي بيانه في هذه الآية بعد هذا. وروي عن أبى هريرة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقرأ عشر آيات من آخر سورة" آل عمران" كل ليلة، خرجه أبو نصر الوائلي السجستاني الحافظ في كتاب" الإبانة" من حديث سليمان بن موسى عن مظاهر بن أسلم المخزومي عن المقبري عن أبي هريرة. وقد تقدم أول «2» السورة عن عثمان قال: من قرأ آخر آل عمران في ليلة كتب له قيام ليلة. الثالثة- قوله تعالى: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ) ذكر تعالى ثلاث هيئات لا يخلوا ابن آدم منها في غالب أمره، فكأنها تحصر زمانه. ومن هذا المعنى قول عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يذكر الله على كل
__________
(1). راجع ج 2 ص 191.
(2). راجع ص 2 من هذا الجزء.

أحيانه. أخرجه مسلم. فدخل في ذلك كونه على الخلاء وغير ذلك. وقد اختلف العلماء في هذا، فأجاز ذلك عبد الله بن عمرو وابن سيرين والنخعي، وكره ذلك ابن عباس وعطاء والشعبي. والأول أصح لعموم الآية والحديث. قال النخعي: لا بأس بذكر. الله في الخلاء فإنه يصعد. المعنى: تصعد به الملائكة مكتوبا في صحفهم، فحذف المضاف. دليله قول تعالى:" ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ" [ق: 18] «1». وقال:" وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ" [الانفطار: 11- 10] «2». ولان الله عز وجل أمر عباده بالذكر على كل حال ولم يستثن فقال:" اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً" [الأحزاب: 41] «3» وقال:" فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ" [البقرة: 152] «4» وقال:" إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا" [الكهف: 3] «5» فعم. فذاكر الله تعالى على كل حالاته مثاب مأجور إن شاء الله تعالى. وذكر أبو نعيم قال: حدثنا أبو بكر بن مالك حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال حدثني أبي قال حدثنا وكيع قال حدثنا سفيان عن عطاء بن أبي مروان عن أبيه عن كعب الأحبار قال قال موسى عليه السلام: (يا رب أقريب أنت فأناجيك أم بعيد فأناديك قال: يا موسى أنا جليس من ذكرني قال: يا رب فإنا نكون من الحال على حال نجلك ونعظمك أن نذكرك قال: وما هي؟ قال: الجنابة والغائط قال: يا موسى اذكرني على كل حال (. وكراهية من كره ذلك إما لتنزيه ذكر الله تعالى في المواضع المرغوب عن ذكره فيها ككراهية قراءة القرآن في الحمام، وإما إبقاء على الكرام الكاتبين على أن يحلهم موضع الأقذار والأنجاس لكتابة ما يلفظ به. والله أعلم. و(قِياماً وَقُعُوداً) نصب على الحال. (وَعَلى جُنُوبِهِمْ) في موضع الحال، أي ومضطجعين ومثله قول تعالى:" دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً" [يونس: 12] «6» على العكس، أي دعانا مضطجعا على جنبه. وذهب، جماعة من المفسرين منهم الحسن وغير إلى أن قوله" يَذْكُرُونَ اللَّهَ" إلى آخره، إنما هو عبارة عن الصلاة، أي لا يضيعونها، ففي حال العذر يصلونها قعودا أو على جنوبهم. وهي مثل قول تعالى:" فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ" [النساء: 103] «7» في قول ابن مسعود على، ما يأتي بيانه. وإذا كانت الآية في الصلاة ففقهها أن الإنسان يصلى قائما، فإن لم يستطع فقاعدا، فإن لم يستطع فعلى جنبه، كما ثبت عن عمران
__________
(1). راجع ج 17 ص 8.
(2). راجع ج 19 ص 245.
(3). راجع ج 14 ص 197.
(4). راجع ج 2 ص 171.
(5). راجع ج 10 ص 395.
(6). راجع ج 8 ص 317.
(7). راجع ج 5 ص 373.

ابن حصين قال: كان بي البواسير فسألت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الصلاة فقال: (صل قائما، فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى جنب) رواه الأئمة. وقد كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي قاعدا قبل موته بعام في النافلة، على ما في صحيح مسلم. وروى النسائي عن عائشة رضي الله عنها قالت: رأيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي متربعا. قال أبو عبد الرحمن «1»: لا أعلم أحد روى هذا الحديث غير أبي داود الحفري «2» وهو ثقة، ولا أحسب هذا الحديث إلا خطأ. والله أعلم. الرابعة- واختلف العلماء في كيفية صلاة المريض والقاعد وهيئتها، فذكر ابن عبد الحكم عن مالك أنه يتربع في قيامه، وقال البويطي عن الشافعي فإذا أراد السجود تهيأ للسجود على قدر ما يطيق، قال: وكذلك المتنفل. ونحوه قول الثوري، وكذلك قال الليث وأحمد وإسحاق وأبو يوسف ومحمد. وقال الشافعي في رواية المزني: يجلس في صلاته كلها كجلوس التشهد. وروى هذا عن مالك وأصحابه، والأول المشهور «3» وهو ظاهر المدونة. وقال أبو حنيفة وزفر: يجلس كجلوس التشهد، وكذلك يركع ويسجد. الخامسة- قال «4»: فإن لم يستطع القعود صلى على جنبه أو ظهره على التخيير، هذا مذهب المدونة وحكى ابن حبيب عن ابن القاسم يصلي على ظهره، فإن لم يستطع فعلى جنبه الأيمن ثم على جنبه الأيسر. وفي كتاب ابن المواز عكسه، يصلي على جنبه الأيمن، وإلا فعلى الأيسر، وإلا فعلى الظهر. وقال سحنون: يصلي على الأيمن كما يجعل في لحده، وإلا فعلى ظهره وإلا فعلى الأيسر. وقال مالك وأبو حنيفة: إذا صلى مضطجعا تكون رجلاه مما يلي القبلة. والشافعي والثوري: يصلي على جنبه ووجهه إلى القبلة. السادسة- فإن قوي لخفة المرض وهو في الصلاة، قال ابن القاسم: إنه يقوم فيما بقي من صلاته ويبني على ما مضى، وهو قول الشافعي وزفر والطبري. وقال أبو حنيفة
__________
(1). أبو عبد الرحمن: كنية النسائي.
(2). الحفري (بفتح المهملة والفاء) نسبة إلى موضع بالكوفة واسمه عمر بن سعد بن عبيد.
(3). في ى: المذهب. وذلك في الهامش تصحيحا.
(4). في هـ. [.....]

وصاحباه يعقوب ومحمد فيمن صلى مضطجعا ركعة ثم صح: إنه يستقبل الصلاة من أولها، ولو كان قاعدا يركع ويسجد ثم صح بنى في قول أبي حنيفة ولم يبن في قول محمد. وقال أبو حنيفة وأصحابه: إذا افتتح الصلاة قائما ثم صار إلى حد الإيماء فليبن، وروي عن أبي يوسف. وقال مالك في المريض الذي لا يستطيع الركوع ولا السجود وهو يستطيع القيام والجلوس: إنه يصلي قائما ويومئ إلى الركوع، فإذا أراد السجود جلس وأومأ إلى السجود، وهو قول أبي يوسف وقياس قول الشافعي وقال، أبو حنيفة وأصحابه: يصلي قاعدا. السابعة- وأما صلاة الراقد الصحيح فروي عن حديث عمران بن حصين زيادة ليست موجودة في غيره، وهي" صلاة الراقد مثل نصف صلاة القاعد". قال أبو عمر: وجمهور أهل العلم لا يجيزون النافل مضطجعا، وهو حديث لم يروه إلا حسين المعلم وهو حسين ابن ذكوان عن عبد الله بن بريدة عن عمران بن حصين، وقد اختلف على حسين في إسناده ومتنه اختلافا يوجب التوقف عنه، وإن صح فلا أدري ما وجهه، فإن كان أحد من أهل العلم قد أجاز النافلة مضطجعا لمن قدر على القعود أو على القيام فوجهه هذه الزيادة في هذا الخبر، وهي حجة لمن ذهب إلى ذلك. وإن أجمعوا على كراهة النافلة راقدا لمن قدر على القعود أو القيام، فحديث حسين هذا إما غلط وإما منسوخ. وقيل: المراد بالآية الذين يستدلون بخلق السموات والأرض على أن المتغير لا بد له من مغير، وذلك المغير يجب أن يكون قادرا على الكمال، وله أن يبعث الرسل، فإن بعث رسولا ودل على صدقه بمعجزة واحدة لم يبق لاحد عذر، فهؤلاء هم الذين يذكرون الله على كل حال. والله أعلم. الثامنة- قوله تعالى: (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) قد بينا معنى" يَذْكُرُونَ" وهو إما ذكر باللسان وإما الصلاة فرضها ونفلها، فعطف تعالى عبادة أخرى على إحداهما «1» بعبادة أخرى، وهي التفكر في قدرة الله تعالى ومخلوقاته والعبر الذي بث «2»، ليكون ذلك أزيد بصائرهم:
وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد
__________
(1). في اوج وب وهـ وى وط: بعبادة أخرى وهى الفكر.
(2). كذا في هـ وب ود وج وى. وفى أوح: نبه، وفى ز: ثبت.

وقيل:" يتفكرون" عطف على الحال. وقيل: يكون منقطعا، والأول أشبه. والفكرة: تردد القلب في الشيء، يقال: تفكر، ورجل فكير كثير الفكر، ومر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على قوم يتفكرون في الله فقال: (تفكروا في الخلق، ولا تتفكروا في الخالق فإنكم لا تقدرون قدره) وإنما التفكر والاعتبار وانبساط الذهن في المخلوقات كما قال:" وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ". وحكي أن سفيان الثوري رضي الله عنه صلى خلف المقام ركعتين، ثم رفع رأسه إلى السماء، فلما رأى الكواكب غشي عليه، وكان يبول الدم من طول حزنه وفكرته. وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (بينما رجل مستلق على فراشه إذ رفع رأسه فنظر إلى النجوم وإلى السماء فقال أشهد أن لك ربا وخالقا اللهم أغفر لي فنظر الله إليه فغفر له) وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لا عبادة كتفكر). وروي عنه عليه السلام قال: (تفكر ساعة خير من عبادة سنة). وروى ابن القاسم عن مالك قال: قيل لام الدرداء: ما كان أكثر شأن أبي الدرداء؟ قالت: كان أكثر شأنه التفكر. قيل له: أفترى التفكر عمل من الأعمال؟ قال: نعم، هو اليقين. وقيل لابن المسيب في الصلاة بين الظهر والعصر، قال: ليست هذه عبادة، إنما العبادة الورع عما حرم الله والتفكر في أمر الله. وقال الحسن: تفكر ساعة خير من قيام ليلة، وقاله ابن العباس وأبو الدرداء. وقال الحسن: الفكرة مرآة المؤمن ينظر فيها إلى حسناته وسيئاته. ومما يتفكر فيه مخاوف الآخرة من الحشر والنشر والجنة ونعيمها والنار وعذابها. ويروى أن أبا سليمان الداراني رضي الله عنه أخذ قدح الماء ليتوضأ لصلاة الليل وعنده ضيف، فرآه لما أدخل أصبعه في أذن القدح أقام لذلك متفكرا حتى طلع الفجر، فقال له: ما هذا يا أبا سليمان؟ قال: إني لما طرحت إصبعي في أذن القدح تفكرت في قول الله تعالى" إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ" [المؤمن: 71] «1» تفكرت، في حالي وكيف أتلقى الغل إن طرح في عنقي يوم القيامة، فما زلت في ذلك حتى أصبحت. قال ابن عطية:" وهذا نهاية الخوف، وخير الأمور أوساطها، وليس علماء الامة الذين هم الحجة على هذا المنهاج، وقراءة علم كتاب الله تعالى ومعاني سنة رسول الله
__________
(1). راجع ج 15 ص 332.

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمن يفهم ويرجى نفعه أفضل من هذا". قال ابن العربي: اختلف الناس أي العملين أفضل: التفكر أم الصلاة، فذهب الصوفية إلى أن التفكر أفضل، فإنه يثمر المعرفة وهو أفضل، المقامات الشرعية. وذهب الفقهاء إلى أن الصلاة أفضل، لما ورد في الحديث من الحث عليها والدعاء إليها والترغيب فيها. وفي الصحيحين عن ابن عباس أنه بات عند خالته ميمونة، وفية: فقام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فمسح النوم عن وجهه ثم قرأ الآيات العشر الحواتم من سورة آل عمران، وقام إلى شن «1» معلق فتوضأ وضوءا خفيفا ثم صلى ثلاث عشرة ركعة، الحديث. فانظروا رحمكم الله إلى جمعه بين التفكر في المخلوقات ثم إقباله على صلاته بعده، وهذه السنة هي التي يعتمد عليها. فأما طريقة الصوفية أن يكون الشيخ منهم يوما وليلة وشهرا مفكرا لا يفتر، فطريقه بعيدة عن الصواب غير لائقة بالبشر، ولا مستمرة على السنن. قال ابن عطية: وحدثني أبي عن بعض علماء المشرق قال: كنت بائتا في مسجد الاقدام «2» بمصر فصليت العتمة فرأيت رجلا قد اضطجع في كساء له مسجى بكسائه حتى أصبح، وصلينا نحن تلك الليلة، فلما أقيمت صلاة الصبح قام ذلك الرجل فاستقبل القبلة وصلي مع الناس، فاستعظمت جراءته في الصلاة بغير وضوء، فلما فرغت الصلاة خرج فتبعته لاعظه، فلما دنوت منه سمعته ينشد شعرا:
مسجى الجسم غائب حاضر ... منتبه القلب صامت ذاكر
منقبض في الغيوب منبسط ... كذاك من كان عارفا ذاكر
يبيت في ليله أخا فكر ... فهو مدى الليل نائم ماهر
قال: فعلمت أنه ممن يعبد بالفكرة، فانصرفت عنه. التاسعة- قوله تعالى: (رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا) أي يقولون: ما خلقته عبثا وهزلا، بل خلقته دليلا على قدرتك وحكمتك. والباطل: الزائل الذاهب. ومنه قول لبيد:
ألا كل شي ما خلا الله باطل
__________
(1). الشن: القربة.
(2). مسجد الاقدام: مسجد كان بجهة مصر العتيقة قريبا من سقاية ابن طولون. راجع المقريزي ج 2 ص 445 طبع بولاق.

أي زائل. و" باطِلًا" نصب لأنه نعت مصدر محذوف، أي خلقا باطلا وقيل: أنتصب على نزع الخافض، أي ما خلقتها للباطل. وقيل: على المفعول الثاني، ويكون خلق بمعنى جعل. (سُبْحانَكَ) أسند النحاس عن موسى بن طلحة قال: سئل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن معنى" سبحان الله" فقال: (تنزيه الله عن السوء) وقد تقدم في" البقرة" «1» معناه مستوفى. و(فَقِنا عَذابَ النَّارِ) أجرنا من عذابها، وقد تقدم «2». العاشرة- قوله تعالى: (رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) أي أذللته وأهنته. وقال المفضل: أي أهلكته، وأنشد:
أخزى الاله من الصليب عبيده ... واللابسين قلانس الرهبان
وقيل: فضحته وأبعدته، يقال: أخزاه الله: أبعده ومقته. والاسم الخزي. قال ابن السكيت: خزي يخزي خزيا إذا وقع في بلية. وقد تمسك بهذه الآية أصحاب الوعيد وقالوا: من أدخل النار ينبغي ألا يكون مؤمنا، لقوله تعالى:" فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ" فإن الله يقول:" يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ" [التحريم: 8] «3». وما قالوه مردود، لقيام الادلة على أن من ارتكب كبيرة لا يزول عنه اسم الايمان، كما تقدم ويأتي. والمراد من قوله:" مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ" من تخلد في النار، قاله أنس بن مالك. وقال قتادة: تدخل مقلوب تخلد، ولا نقول كما قال أهل حروراء. وقال سعيد بن المسيب: الآية خاصة في قوم لا يخرجون من النار، ولهذا قال: (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) أي الكفار. وقال أهل المعاني: الخزي يحتمل أن يكون بمعنى الحياء، يقال: خزي يخزى خزاية إذا استحيا، فهو خزيان. قال ذو الرمة:
خزاية أدركته عند «4» جولته ... من جانب الحبل مخلوطا بها الغضب
فخزي المؤمنين يومئذ استحياؤهم في دخول النار من سائر أهل الأديان إلى أن يخرجوا منها. والخزي للكافرين هو إهلاكهم فيها من غير موت، والمؤمنون يموتون، فافترقوا. كذا ثبت في صحيح السنة من حديث أبي سعيد الخدري، أخرجه مسلم، وقد تقدم ويأتي.
__________
(1). راج ج 1 ص 276.
(2). راجع ج 2 ص 433.
(3). راجع ج 18 ص 791.
(4). في الديوان: بعد.

الحادية عشرة- قوله تعالى: (رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ) أي محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قاله ابن مسعود وابن عباس وأكثر المفسرين. وقال قتادة ومحمد بن كعب القرظي: هو القرآن، وليس كلهم سمع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. دليل هذا القول ما أخبر الله تعالى عن مؤمني الجن إذ قالوا:" إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ" [الجن: 2- 1] «1». وأجاب الأولون فقالوا: من سمع القرآن فكأنما لقي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا صحيح معنى. ولِلْإِيمانِ «2» من (أَنْ آمِنُوا) في موضع نصب على حذف حرف الخفض، أي بأن أمنوا. وفي الكلام تقديم وتأخير، أي سمعنا مناديا للايمان ينادي، عن أبي عبيدة. وقيل: اللام بمعنى إلى، أي إلى الايمان، كقوله:" ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ" [المجادلة: 8] «3». وقوله:" بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها" [الزلزلة: 5] «4» وقوله:" الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا" [الأعراف: 43] «5» أي إلى هذا، ومثله كثير. وقيل: هي لام أجل، أي لأجل الايمان. الثانية عشرة- قوله تعالى: (رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا) تأكيد ومبالغة في الدعاء. ومعنى اللفظين واحد، فإن الغفر والكفر: الستر. (وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ) أي أبرارا مع الأنبياء، أي في جملتهم. واحدهم وبر وبار وأصله من الاتساع، فكأن البر متسع في طاعة الله ومتسعة له رحمة الله. الثالثة عشرة- قوله تعالى: (رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ) أي على ألسنة رسلك، مثل" وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ" «6». وقرا الأعمش والزهري" رسلك" بالتخفيف، وهو ما ذكر من استغفار الأنبياء والملائكة للمؤمنين، والملائكة يستغفرون لمن في الأرض. وما ذكر من دعاء نوح للمؤمنين ودعاء إبراهيم واستغفار النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لامته. (وَلا تُخْزِنا) أي لا تعذبنا ولا تهلكنا ولا تفضحنا، ولا تهنا ولا تبعدنا ولا تمقتنا يوم القيامة (إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ). إن قيل: ما وجه قولهم" رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ" [آل عمران: 194] وقد علموا أنه لا يخلف الميعاد، فالجواب من ثلاثة أوجه: الأول- أن الله سبحانه وعد من آمن بالجنة، فسألوا أن يكونوا ممن وعد بذلك دون الخزي: والعقاب.
__________
(1). راجع ج 19 ص 6.
(2). من هـ وج وط.
(3). راجع ج 17 ص 290.
(4). راجع ج 20 ص 140.
(5). راجع ج 7 ص 802. [.....]
(6). راجع ج 9 ص 245.

=

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

فيديو مولاي صلي وسلم دائما أبدا + عبد العال الجبري

 --------------------------------       000000000000000000000000000000000000000       ---------------------------------