17. الجامع لأحكام القرآن = تفسير القرطبي
المؤلف : أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي شمس الدين
القرطبي (المتوفى : 671هـ)
قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (76)
[سورة
طه (20): الآيات 72 الى 76]
قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا
فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا (72) إِنَّا
آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ
السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى (73) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً
فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ
مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى (75)
جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ
جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى (76)
قوله تعالى: (قالُوا) يعني السحرة (لَنْ نُؤْثِرَكَ) 20: 72 أي لن نختارك (عَلى ما
جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ) 20: 72 قال ابن عباس: يريد من اليقين والعلم. وقال
عكرمة وغيره: لما سجدوا أراهم الله في سجودهم منازلهم في الجنة، فلهذا
قالوا:" لَنْ نُؤْثِرَكَ 20: 72". وكانت امرأة فرعون تسأل من غلب؟ فقيل
لها: غلب موسى وهرون، فقالت: آمنت برب موسى وهرون. فأرسل إليها فرعون فقال: أنظروا
أعظم صخرة فإن مضت «1» على قولها فألقوها عليها، فلما أتوها رفعت بصرها إلى السماء
فأبصرت منزلها في الجنة، فمضت على قولها فانتزع روحها، وألقيت الصخرة على جسدها
وليس في جسدها «2» روح. وقيل: قال مقدم السحرة لمن يثق به لما رأى من عصا موسى ما
رأى: انظر إلى هذه الحية هل تخوفت؟ «3» فتكون جنيا أو لم تتخوف فهي من صنعة الصانع
الذي لا يعزب عليه مصنوع، فقال: ما تخوفت، فقال: آمنت برب هرون وموسى. (وَالَّذِي
فَطَرَنا) 20: 72 قيل: هو معطوف على" ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ 20:
72" أي لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات ولا على الذي فطرنا أي خلقنا. وقيل:
هو قسم أي والله لن نؤثرك. (فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ) 20: 72 التقدير: ما أنت
قاضيه. وليست" ما" ها هنا التي تكون مع الفعل بمنزلة المصدر، لان تلك
توصل بالأفعال، وهذه موصولة بابتداء وخبر.
__________
(1). في ب وا وج وط وك: مرت.
(2). في اوب وط وك وي: وليس فيها روح. [.....]
(3). في ب وج وط: (تجوفت أو لم تتجوف- ما تجوفت) بالجيم.
قال
ابن عباس: فاصنع ما أنت صانع. وقيل: فاحكم ما أنت حاكم، أي من القطع والصلب. وحذفت
الياء من قاض في الوصل لسكونها وسكون التنوين. واختار سيبويه إثباتها في الوقف
لأنه قد زالت علة [التقاء «1»] الساكنين. (إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ
الدُّنْيا) 20: 72 أي إنما ينفذ أمرك فيها. وهي منصوبة على الظرف، والمعنى: إنما
تقضى في متاع هذه الحياة الدنيا. أو وقت هذه الحياة الدنيا، فتقدر حذف المفعول.
ويجوز أن يكون التقدير: إنما تقضي أمور هذه الحياة الدنيا، فتنتصب انتصاب المفعول
و" ما" كافة لان. وأجاز الفراء الرفع على أن تجعل" ما" بمعنى
الذي وتحذف الهاء من تقضي ورفعت" هذه الحياة الدنيا". (إِنَّا آمَنَّا
بِرَبِّنا) 20: 73 أي صدقنا بالله وحده لا شريك له وما جاءنا به موسى. (لِيَغْفِرَ
لَنا خَطايانا) يريدون الشرك الذي كانوا عليه. (وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ
السِّحْرِ)" ما" في موضع نصب معطوفة على الخطايا. وقيل: لا موضع لها وهى
نافية، أي ليغفر لنا خطايانا من السحر وما أكرهتنا عليه. النحاس: والأول أولى.
المهدوي: وفية بعد، لقولهم:" إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ
الْغالِبِينَ" «2» وليس هذا بقول مكرهين، ولان الإكراه ليس بذنب، وإن كان
يجوز أن يكونوا أكرهوا على تعليمه صغارا. قال الحسن: كانوا يعلمون السحر أطفالا ثم
عملوه مختارين بعد. ويجوز أن يكون" ما" في موضع رفع بالابتداء ويضمر
الخبر، والتقدير: وما أكرهتنا عليه من السحر موضوع عنا. و" مِنَ
السِّحْرِ" على هذا القول والقول الأول يتعلق ب"- أَكْرَهْتَنا 20:
73". وعلى أن" ما" نافية يتعلق ب"- خَطايانا 20: 73".
(وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى ) أي ثوابه خير وأبقى فحذف المضاف، قاله ابن عباس.
وقيل: الله خير لنا منك وأبقى عذابا لنا من عذابك لنا وهو جواب قوله:"
وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى 20: 71" وقيل: الله خير
لنا إن أطعناه، وأبقى عذابا منك إن عصيناه. قوله تعالى: (إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ
رَبَّهُ مُجْرِماً) 20: 74 قيل: هو من قول السحرة لما آمنوا. وقيل: ابتداء كلام من
الله عز وجل. والكناية في" إِنَّهُ" ترجع إلى الامر والشأن. ويجوز إن من
يأت، ومنه قول الشاعر:
إن من يدخل الكنيسة يوما ... يلق فيها جآذرا وظباء «3»
__________
(1). من ب وج وط وك وى.
(2). راجع ج 7 ص 258.
(3). البيت للأخطل وهو نصراني.
وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى (79)
أراد
إنه من يدخل، أي أن الامر هذا، وهو أن المجرم يدخل النار، والمؤمن يدخل الجنة.
والمجرم الكافر. وقيل: الذي يقترف المعاصي ويكتسبها. والأول أشبه لقوله تعالى:
(فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى ) 20: 74 وهذه صفة الكافر
المكذب الجاحد- على ما تقدم بيانه في سورة (النساء) «1» وغيرها- فلا ينتفع بحياته
ولا يستريح بموته. قال الشاعر:
ألا من لنفس لا تموت فينقضي ... شقاها ولا تحيا حياة لها طعم
وقيل: نفس الكافر معلقة في حنجرته أخبر الله تعالى عنه فلا يموت بفراقها، ولا يحيا
باستقرارها. ومعنى. (مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً) 20: 74 من يأت موعد ربه.
ومعنى (وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً) 20: 75 أي يمت عليه ويوافيه مصدقا به. (قَدْ
عَمِلَ) أي وقد عمل" الصَّالِحاتِ" أي الطاعات وما أمر به ونهى عنه.
(فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى ) 20: 75 أي الرفيعة التي قصرت دونها
الصفات. ودل قوله:" وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً 20: 75" على أن المراد
بالمجرم المشرك. قوله تعالى: (جَنَّاتُ عَدْنٍ) بيان للدرجات وبدل منها، والعدن
الإقامة. وقد تقدم «2» بيانه. (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا) أي من تحت غرفها وسررها
(الْأَنْهارُ) من الخمر والعسل واللبن والماء. وقد تقدم. (خالِدِينَ فِيها) أي
ماكثين دائمين. (وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى) 20: 76 أي من تطهر من الكفر
والمعاصي. ومن قال هذا من قول السحرة قال: لعل السحرة سمعوه من موسى أو من بني
إسرائيل إذ كان فيهم بمصر أقوام، وكان فيهم أيضا المؤمن من آل فرعون. قلت: ويحتمل
أن يكون ذلك إلهاما من الله لهم أنطقهم بذلك لما آمنوا، والله أعلم.
[سورة طه (20): الآيات 77 الى 79]
وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً
فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى (77) فَأَتْبَعَهُمْ
فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ
فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى (79)
قوله تعالى: (وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي) 20: 77 تقدم
الكلام في هذا مستوفى. (فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً) 20: 77
أي يابسا لا طين فيه ولا ماء. وقد مضى في (البقرة) «3»
__________
(1). راجع ج 5 ص 253.
(2). راجع ج 10 ص 396.
(3). راجع ج 1 ص 389 فما بعد.
ضرب
موسى البحر وكنيته إياه وإغراق فرعون فلا معنى للإعادة. (لا تَخافُ دَرَكاً) 20:
77 أي لحاقا من فرعون وجنوده." ولا تخشى" قال ابن جريج قال أصحاب موسى [له
«1»]: هذا فرعون قد أدركنا، وهذا البحر قد غشينا، فأنزل الله تعالى:" لا
تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى 20: 77" أي لا تخاف دركا من فرعون ولا تخشى غرقا
من البحر أن يمسك إن غشيك. وقرا حمزة" لا تخف" على أنه جواب الامر.
التقدير إن تضرب لهم طريقا في البحر لا تخف. و" لا تَخْشى 20: 77"
مستأنف على تقدير: ولا أنت تخشى. أو يكون مجزوما والألف مشبعة من فتحة،
كقوله:" فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا" «2» [الأحزاب: 67] أو يكون على حد
قول الشاعر: «3»
كأن لم ترى قبلي أسيرا يمانيا
على تقدير حذف الحركة كما تحذف حركة الصحيح. وهذا مذهب الفراء. وقال آخر:
هجوت زبان ثم جئت معتذرا ... من هجو زبان لم تهجو ولم تدع
وقال آخر «4»:
ألم يأتيك والإنباء تنمي ... بما لاقت لبون بني زياد
قال النحاس: وهذا من أقبح الغلط أن يحمل كتاب الله عز وجل على الشذوذ من الشعر،
وأيضا فإن الذي جاء به من الشعر لا يشبه من الآية شيئا، لان الياء والواو مخالفتان
للألف، لأنهما تتحركان والألف لا تتحرك، وللشاعر إذا اضطر أن يقدرهما متحركتين ثم
تحذف الحركة للجزم، وهذا محال في الالف، والقراءة الاولى أبين لان بعده" وَلا
تَخْشى 20: 77" مجمع عليه بلا جزم، وفيها ثلاث تقديرات: الأول- أن يكون"
لا تَخافُ 20: 77" في موضع الحال من المخاطب، التقدير: فاضرب لهم طريقا في
البحر يبسا غير خائف ولا خاش. الثاني أن يكون في موضع النعت للطريق، لأنه معطوف
على يبس الذي هو صفة، ويكون التقدير: لا تخاف فيه، فحذف الراجع من الصفة. والثالث-
أن يكون منقطعا خبر ابتداء محذوف تقديره: وأنت لا تخاف.
__________
(1). من ب وج وز وط وك وى.
(2). راجع ج 14 ص 249.
(3). هو عبد يغوث بن وقاص من شعراء الجاهلية. وصدر البيت:
وتضحك مني شيخة عبشمية
(4). البيت من أبيات لقيس بن زهير بن جذيمة بن رواحة العبسي وكان قد نشأت بينه
وبين الربيع بن زياد شحناء في شأن درع فاستاق إبل الربيع وباعها بمكة من عبد الله
بن جدعان القرشي.
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى (80) كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى (81) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82)
قوله
تعالى: (فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ) 20: 78 أي أتبعهم ومعه جنوده،
وقرى" فاتبعهم" بالتشديد فتكون الباء في" بِجُنُودِهِ 20: 78"
عدت الفعل إلى المفعول الثاني، لان اتبع يتعدى إلى مفعول واحد. أي تبعهم ليلحقهم
بجنوده أي مع جنوده كما يقال: ركب الأمير بسيفه أي مع سيفه. ومن قطع"
فأتبع" يتعدى إلى مفعولين: فيجوز أن تكون الباء زائدة، ويجوز أن يكون اقتصر
على مفعول واحد. يقال: تبعه وأتبعه ولحقه وألحقه بمعنى واحد. وقوله:"
بجنوده" في موضع الحال، كأنه قال: فأتبعهم سائقا جنوده. (فَغَشِيَهُمْ مِنَ
الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ) 20: 78 أي أصابهم من البحر ما غرقهم، وكرر على معنى
التعظيم والمعرفة بالأمر. (وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى ) 20: 79 أي
أضلهم عن الرشد وما هداهم إلى خير ولا نجاة، لأنه قدر أن موسى عليه السلام ومن معه
لا يفوتونه، لان بين أيديهم البحر. فلما ضرب موسى البحر بعصاه أنفلق منه اثنا عشر طريقا
وبين الطرق الماء قائما كالجبال. وفي سورة الشعراء:" فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ
كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ" «1» أي الجبل الكبير، فأخذ كل سبط طريقا. وأوحى الله
إلى أطواد الماء أن تشبكي فصارت شبكات يرى بعضهم بعضا ويسمع بعضهم كلام بعض، فكان
هذا من أعظم المعجزات، وأكبر الآيات، فلما أقبل فرعون وراي الطرق في البحر والماء
قائما أوهمهم أن البحر فعل هذا لهيبته، فدخل هو وأصحابه فانطبق البحر عليهم. وقيل
إن قوله:" وَما هَدى 20: 79" تأكيد لاضلاله إياهم. وقيل: هو جواب قول
فرعون:" ما أُرِيكُمْ إِلَّا ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ
الرَّشادِ 40: 29" «2» [غافر: 29] فكذبه الله تعالى. وقال ابن عباس"
وَما هَدى 20: 79" أي ما هدى نفسه بل أهلك نفسه وقومه.
[سورة طه (20): الآيات 80 الى 82]
يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ
الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى (80) كُلُوا
مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ
غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى (81) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ
لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى (82)
__________
(1). راجع ج 13 ص 100 فما بعد.
(2). راجع ج 15 ص 305 فما بعد.
قوله
تعالى: (يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ) 20: 80 لما
أنجاهم من فرعون قال لهم هذا ليشكروه. (وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ
الْأَيْمَنَ) 20: 80" جانِبَ" نصب على المفعول الثاني ل"
واعدنا" ولا يحسن أن ينتصب على الظرف، لأنه ظرف مكان محض غير مبهم. وإنما
تتعدى الافعال والمصادر إلى ظروف المكان بغير حرف جر إذا كانت مبهمة. قال مكي: هذا
أصل لا خلاف فيه، وتقدير الآية. وواعدناكم إتيان جانب الطور، ثم حذف المضاف. قال
النحاس: أي أمرنا موسى أن يأمركم بالخروج معه ليكلمه بحضرتكم فتسمعوا الكلام.
وقيل: وعد موسى بعد إغراق فرعون أن يأتي جانب الطور الأيمن فيؤتيه التوراة، فالوعد
كان لموسى ولكن خوطبوا به لان الوعد كان لأجلهم. وقرا أبو عمرو"
ووعدناكم" بغير ألف واختاره أبو عبيد، لان الوعد إنما هو من الله تعالى لموسى
خاصة، والمواعدة لا تكون إلا من اثنين. وقد مضى في (البقرة) «1» هذا المعنى.
و" الْأَيْمَنَ" نصب، لأنه نعت للجانب وليس للجبل يمين ولا شمال، فإذا
قيل: خذ عن يمين الجبل فمعناه خذ على يمينك من الجبل. وكان الجبل على يمين موسى إذ
أتاه. (وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى ) 20: 80 أي في التيه. وقد
تقدم القول فيه «2». (كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) أي من لذيذ الرزق.
وقيل: من حلاله إذ لا صنع فيه لآدمي فتدخله شبهة. (وَلا تَطْغَوْا) أي لا تحملنكم
السعة والعافية أن تعصوا، لان الطغيان التجاوز إلى ما لا يجوز. وقيل: المعنى، أي
لا تكفروا النعمة ولا تنسوا [شكر النعم ولا شكر «3»] المنعم بها عليكم. وقيل: أي
ولا تستبدلوا بها شيئا آخر كما قال:" أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى
بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ" «4» [البقرة: 61] وقيل: لا تدخروا منه لأكثر من يوم
وليلة، قال ابن عباس: فيتدود عليهم ما ادخروه، ولولا ذلك ما تدود طعام أبدا.
(فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي) 20: 81 أي يجب وينزل، وهو منصوب بالفاء في جواب
النهي من قوله:" وَلا تَطْغَوْا". (فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ
يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى ) 20: 81 قرأ الأعمش ويحيى بن وثاب
والكسائي:" فَيَحِلَّ 20: 81" بضم الحاء (وَمَنْ يَحْلِلْ) 20: 81 بضم
اللام الاولى. والباقون بالكسر وهما لغتان. وحكى
__________
(1). راجع ج 1 ص 394 وص 406. [.....]
(2). من ب وط وى.
(3). من ب وط وى.
(4). من ب وط وى.
أبو
عبيدة وغيره: أنه يقال حل يحل إذا وجب وحل يحل إذا نزل. وكذا قال الفراء: الضم من
الحلول بمعنى الوقوع والكسر من الوجوب. والمعنيان متقاربان إلا أن الكسر أولى،
لأنهم قد أجمعوا على قوله:" وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ" «1»
[هود: 39]. وغضب الله عقابه ونقمته وعذابه." فَقَدْ هَوى 20: 81" قال
الزجاج: فقد هلك، أي صار إلى الهاوية وهي قعر النار، من هوى يهوي هويا أي سقط من
علو إلى سفل، وهوى فلان أي مات. وذكر ابن المبارك: أخبرنا إسماعيل بن عياش قال
حدثنا ثعلبة بن مسلم عن أيوب بن بشير عن شفى الأصبحي «2» قال: إن في جهنم جبلا
يدعى صعودا يطلع فيه الكافر أربعين خريفا قبل أن يرقاه، قال الله تعالى:"
سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً
" «3» [المدثر: 17] وإن في جهنم قصرا يقال له هوى يرمى الكافر من أعلاه فيهوي
أربعين خريفا قبل أن يبلغ أصله «4» قال الله تعالى" وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ
غَضَبِي فَقَدْ هَوى 20: 81" وذكر الحديث، وقد ذكرناه في كتاب"
التذكرة". قوله تعالى: (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ) 20: 82 أي من
الشرك. (وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى ) 20: 82 أي أقام على إيمانه حتى
مات عليه، قاله سفيان الثوري وقتادة وغيرهما. وقال ابن عباس: أي لم يشك في إيمانه،
ذكره الماوردي والمهدوي. وقال سهل بن عبد الله التستري وابن عباس أيضا: أقام على
السنة والجماعة، ذكره الثعلبي. وقال أنس: أخذ بسنة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ذكره المهدوي، وحكاه الماوردي عن الربيع بن أنس. وقول خامس: أصاب العمل،
قاله ابن زيد، وعنه أيضا تعلم العلم ليهتدي كيف يفعل، ذكر الأول المهدوي، والثاني
الثعلبي. وقال الشعبي ومقاتل والكلبي: علم أن لذلك ثوابا وعليه عقابا، وقاله
الفراء. وقول ثامن:" ثُمَّ اهْتَدى 20: 82" في ولاية أهل بيت النبي
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قاله ثابت البناني. والقول الأول أحسن هذه
الأقوال- إن شاء الله- وإليه يرجع سائرها. قال وكيع عن سفيان: كنا نسمع في قوله عز
وجل:" وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ 20: 82" أي من الشرك"
وَآمَنَ 110" أي بعد الشرك" وَعَمِلَ صالِحاً" صلى وصام"
ثُمَّ اهْتَدى 20: 82" مات على ذلك.
__________
(1). راجع ج 9 ص 33.
(2). بالتصغير بن ماتع (بالتاء المثناة الفوقية) الأصبحي.
(3). راجع ج 19 ص 72.
(4). في ك: قعره.
وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى (83) قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84) قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86) قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88) أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (89)
[سورة
طه (20): الآيات 83 الى 89]
وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى (83) قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي
وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى (84) قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ
مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ
غَضْبانَ أَسِفاً قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً
أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ
مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86) قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ
بِمَلْكِنا وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها
فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87)
فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ
مُوسى فَنَسِيَ (88) أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا
يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً (89)
قوله تعالى: (وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى ) 20: 83 أي ما حملك على أن
تسبقهم. قيل: عنى بالقوم جميع بني إسرائيل، فعلى هذا قيل: استخلف هرون على بني
إسرائيل، وخرج معه بسبعين رجلا للميقات. فقوله: (هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي) 20:
84 ليس يريد أنهم يسيرون خلفه متوجهين إليه، بل أراد أنهم بالقرب مني ينتظرون عودي
إليهم. وقيل: لا بل كان أمر هرون بأن يتبع في بني إسرائيل أثره ويلتحقوا به. وقال
قوم: أراد بالقوم السبعين الذين اختارهم، وكان موسى لما قرب من الطور سبقهم شوقا
إلى سماع كلام الله. [عز وجل «1»] وقيل: لما وفد إلى طور سينا بالوعد اشتاق إلى
ربه وطالت عليه المسافة من شدة الشوق إلى الله تعالى، فضاق به الامر حتى شق قميصه،
ثم لم يصبر حتى خلفهم ومضى وحده، فلما وقف في مقامه قال الله تبارك وتعالى:"
وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى 20: 83" فبقي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ متحيرا عن الجواب [لهذه «2» الكلمة لما استقبله من صدق الشوق فأعرض عن
الجواب ] وكنى عنه بقوله:" هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي 20: 84" وإنما
سأله السبب الذي أعجله بقوله" ما" فأخبر عن مجيئهم بالأثر. ثم قال:
(وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى ) 20: 84 فكنى عن
__________
(1). من ى. وفي ك: تعالى.
(2). من اوب وج وز وط وك وى.
ذكر
الشوق وصدقه «1» إلى ابتغاء الرضا. ذكر عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في
قوله:" وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى 20: 84" قال: شوقا. وكانت
عائشة رضى الله عنها إذا آوت إلى فراشها تقول: هاتوا المجيد. فتؤتى بالمصحف فتأخذه
في صدرها وتنام معه تتسلى بذلك، رواه سفيان عن معسر عن عائشة رضى الله عنها. وكان
عليه الصلاة والسلام إذا أمطرت السماء خلع ثيابه وتجرد حتى يصيبه المطر
ويقول:" إنه حديث عهد بربي" فهذا من الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وممن بعده من قبيل الشوق، ولذلك قال الله تبارك اسمه فيما يروى عنه:" طال شوق
الأبرار إلى لقائي وأنا إلى لقائهم أشوق". وقال ابن عباس: كان الله عالما
ولكن قال:" وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ 20: 83" رحمة لموسى، وإكراما
له بهذا القول، وتسكينا لقلبه، ورقة «2» عليه، فقال مجيبا لربه:" هُمْ
أُولاءِ عَلى أَثَرِي 20: 84". قال أبو حاتم قال عيسى: بنو تميم
يقولون:" هم أولى" مقصورة مرسلة، واهل الحجاز يقولون"
أُولاءِ" ممدودة. وحكى الفراء" هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي 20: 84"
وزعم أبو إسحاق الزجاج: أن هذا لا وجه له. قال النحاس: وهو كما قال، لان هذا ليس
مما يضاف فيكون مثل هداي. ولا يخلو من إحدى جهتين: إما أن يكون اسما مبهما فإضافته
محال، وإما أن يكون بمعنى الذين فلا يضاف أيضا، لان ما بعده من تمامه وهو معرفة.
وقرا ابن أبي إسحاق ونصر ورويس عن يعقوب" على إثري" بكسر الهمزة وإسكان
الثاء وهو بمعنى أثر، لغتان." وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى 20:
84" أي عجلت إلى الموضع الذي أمرتني بالمصير إليه لترضى عني. يقال: رجل عجل
وعجل وعجول وعجلان بين العجلة، والعجلة خلاف البطء. قوله تعالى: (فَإِنَّا قَدْ
فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ) 20: 85 أي اختبرناهم وامتحناهم بأن يستدلوا على
الله عز وجل. (وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ) 20: 85 أي دعاهم إلى الضلالة أو هو
سببها. وقيل: فتناهم ألقيناهم في الفتنة: أي زينا لهم عبادة العجل، ولهذا قال
موسى:" إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ" «3» [الأعراف: 155]. قال ابن عباس
رضي الله عنهما: كان السامري من قوم يعبدون البقر «4»، فوقع بأرض مصر فدخل في دين
بني إسرائيل بظاهره، وفي قلبه ما فيه من عبادة البقر. وقيل: كان رجلا
__________
(1). في ب وج وك وى: وصرفه.
(2). المراد بالرقة هنا التعطف.
(3). راجع ج 7 ص 294 فما بعد.
(4). أي من أهل الهند كما في بعض الاخبار.
من
القبط، وكان جارا لموسى آمن به وخرج معه. وقيل: كان عظيما من عظماء بني إسرائيل،
من قبيلة تعرف بالسامرة وهم معروفون بالشام. قال سعيد بن جبير: كان من أهل كرمان.
قوله تعالى: (فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً) 20: 86 حال وقد مضى
في (الأعراف) «1» بيانه مستوفى. (قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ
وَعْداً حَسَناً) 20: 86 وعدهم عز وجل الجنة إذا أقاموا على طاعته، ووعدهم أنه
يسمعهم كلامه في التوراة على لسان موسى، ليعملوا بما فيها فيستحقوا ثواب عملهم.
وقيل: وعدهم النصر والظفر. وقيل: وعده قوله:" وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ
تابَ وَآمَنَ 20: 82" الآية. (أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ) 20: 86 أي
أفنسيتم، كما قيل، والشيء قد ينسى لطول العهد. (أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ
عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ) 20: 86" يَحِلَّ" أي يجب وينزل.
والغضب العقوبة والنقمة. والمعنى: أم أردتم أن تفعلوا فعلا يكون سبب حلول غضب الله
بكم، لان أحدا لا يطلب غضب الله «2»، بل قد يرتكب ما يكون سببا للغضب.
(فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي) 20: 86 لأنهم وعدوه أن يقيموا على طاعة الله عز وجل
إلى أن يرجع إليهم من الطور. وقيل: وعدهم على أثره للميقات فتوقفوا. (قالُوا ما
أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا) 20: 87 بفتح الميم، وهي قراءة نافع وعاصم وعيسى
بن عمر. قال مجاهد والسدي: ومعناه بطاقتنا. ابن زيد: لم نملك أنفسنا أي كنا
مضطرين. وقرا ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر" بِمَلْكِنا 20: 87" بكسر
الميم. واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، لأنها اللغة العالية. وهو مصدر ملكت الشيء
أملكه ملكا. والمصدر مضاف إلى الفاعل والمفعول محذوف، كأنه قال: بملكنا الصواب بل
أخطأنا فهو اعتراف منهم بالخطإ. وقرا حمزة والكسائي:" بملكنا" بضم الميم
والمعنى بسلطاننا. أي لم يكن لنا ملك فنخلف موعدك. ثم قيل قوله:"
قالُوا" عام يراد به الخاص، أي قال الذين ثبتوا على طاعة الله إلى أن يرجع
إليهم من الطور:" ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا 20: 87" وكانوا
أثني عشر ألفا وكان جميع بني إسرائيل ستمائة ألف. (وَلكِنَّا حُمِّلْنا) 20: 87
بضم الحاء وتشديد الميم مكسورة، قرأه نافع وابن كثير وابن عامر وحفص ورويس.
الباقون بفتح الحرفين خفيفة. واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، لأنهم حملوا حلى القوم
__________
(1). راجع ج 7 ص 286 فما بعد. [.....]
(2). في ب وج وز وط وك: غضب الرب.
معهم وما حملوه كرها. (أَوْزاراً) 20: 87 أي أثقالا (مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ) 20: 87 أي من حليهم، وكانوا استعاروه حين أرادوا الخروج مع موسى عليه السلام، وأوهموهم أنهم يجتمعون في عيد لهم أو وليمة. وقيل: هو ما أخذوه من آل فرعون، لما قذفهم البحر إلى الساحل. وسميت أوزارا بسبب أنها كانت آثاما. أي لم يحل لهم أخذها ولم تحل لهم الغنائم، وأيضا فالاوزار هي الأثقال في اللغة. (فَقَذَفْناها) 20: 87 أي ثقل علينا حمل ما كان معنا من الحلي فقذفناه في النار ليذوب، أي طرحناه فيها. وقيل: طرحناه إلى السامري لترجع فترى فيها رأيك. قال قتادة: إن السامري قال لهم حين استبطأ القوم موسى: إنما احتبس عليكم من أجل ما عندكم من الحلي، فجمعوه ودفعوه إلى السامري فرمى به في النار وصاغ لهم منه عجلا، ثم ألقى عليه قبضة من أثر فرس الرسول وهو جبريل عليه السلام. وقال معمر: الفرس الذي كان عليه جبريل هو الحياة، فلما ألقى عليه القبضة صار عجلا جسدا له خوار. والخوار صوت البقر. وقال ابن عباس: لما انسكبت الحلي في النار، جاء السامري وقال لهارون: يا نبي الله أألقي ما في يدي- وهو يظن أنه كبعض ما جاء به غيره من الحلي- فقذف التراب فيه، وقال: كن عجلا جسدا له خوار، فكان كما قال للبلاء والفتنة، فخار خورة واحدة لم يتبعها مثلها. وقيل: خوارة وصوته كان بالريح، لأنه كان عمل فيه خروقا فإذا دخلت الريح في جوفه خار ولم تكن فيه حياة. وهذا قول مجاهد. وعلى القول الأول كان عجلا من لحم ودم، وهو قول الحسن وقتادة والسدي. وروى حماد عن سماك عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: مر هرون بالسامري وهو يصنع العجل فقال: ما هذا؟ فقال: ينفع ولا يضر، فقال: اللهم أعطه ما سألك على ما في نفسه، فقال: اللهم إني أسألك أن يخور. وكان إذا خار سجدوا، وكان الخوار من أجل دعوة هرون. قال ابن عباس: خار كما يخور الحي من العجول. وروى أن موسى قال: يا رب هذا السامري أخرج لهم عجلا جسدا له خوار من حليهم، فمن جعل الجسد والخوار؟ قال الله تبارك وتعالى: أنا. قال موسى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وعزتك وجلالك وارتفاعك وعلوك وسلطانك ما أضلهم غيرك. قال: صدقت يا حكيم
وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (91) قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93)
الحكماء.
وقد تقدم هذا كله في سورة (الأعراف) «1». (فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى )
20: 88 أي قال السامري ومن «2» تبعه وكانوا ميالين إلى التشبيه، إذ قالوا"
اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ". الأعراف: 138" (فَنَسِيَ) أي
فضل موسى [وذهب «3»] بطلبه فلم يعلم مكانه، وأخطأ الطريق إلى ربه. وقيل: معناه
فتركه موسى هنا وخرج يطلبه. أي ترك موسى إلهه هنا. وروى إسرائيل عن سماك عن عكرمة
عن ابن عباس قال: أي فنسي موسى أن يذكر لكم أنه إلهه. وقيل: الخطاب خبر عن
السامري. أي ترك السامري ما أمره به موسى من الايمان فضل، قاله ابن الاعرابي. فقال
الله تعالى محتجا عليهم:" أَفَلا يَرَوْنَ 20: 89" أي يعتبرون ويتفكرون.
في (أن)- هـ لا (يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا) أي لا يكلمهم. وقيل: لا يعود إلى
الخوار والصوت. (وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً) 20: 89 فكيف يكون
إلها؟! والذي يعبده موسى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يضر وينفع ويثيب ويعطى
ويمنع. و" أَلَّا يَرْجِعُ 20: 89" تقديره أنه لا يرجع فلذلك ارتفع
الفعل فخففت" أن" وحذف الضمير. وهو الاختيار في الرؤية والعلم والظن.
قال
في فتية من سيوف الهند قد علموا ... أن هالك كل من يحفى وينتعل
وقد يحذف «4» مع التشديد، قال:
فلو كنت ضبيا عرفت قرابتي ... ولكن زنجي عظيم المشافر
أي ولكنك.
[سورة طه (20): الآيات 90 الى 93]
وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ
وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قالُوا
لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى (91) قالَ يا
هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ
أَمْرِي (93)
قوله تعالى: (وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ) 20: 90 أي من قبل أن يأتي
موسى ويرجع إليهم (يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ) 20: 90 أي ابتليتم وأضللتم
به، أي بالعجل. (وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ) 20: 90
__________
(1). راجع ج 7 ص فما 284 بعد
(2). في ب وج وط وك وى: تابعه
(3). عبارة الحلالين يقتضيها المقام
(4). في ط وك: يجوز. أى الحذف
لا
العجل. (فَاتَّبِعُونِي) في عبادته. (وَأَطِيعُوا أَمْرِي) 20: 90 لا أمر السامري.
أو فاتبعوني في مسيري إلى موسى ودعوا العجل. فعصوه و(قالُوا لَنْ نَبْرَحَ
عَلَيْهِ عاكِفِينَ) 20: 91 أي لن نزال مقيمين على عبادة العجل (حَتَّى يَرْجِعَ
إِلَيْنا مُوسى ) 20: 91 فينظر هل يعبده كما عبدناه، فتوهموا أن موسى يعبد العجل،
فاعتزلهم هرون في أثنى عشر ألفا، الذين «1» لم يعبدوا العجل فلما رجع موسى وسمع
الصياح والجلبة وكانوا يرقصون حول العجل قال للسبعين معه: هذا صوت الفتنة، فلما
رأى هرون أخذ شعر رأسه بيمينه ولحيته بشماله غضبا و(قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ
إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا) 20: 92 أي أخطئوا الطريق وكفروا. (أَلَّا تَتَّبِعَنِ)
20: 93" لا" زائدة أي أن تتبع أمري ووصيتي. وقيل: ما منعك عن اتباعي في
الإنكار عليهم. وقيل: معناه هلا قاتلتهم إذ قد علمت أني لو كنت بينهم لقاتلتهم على
كفرهم. وقيل: ما منعك من اللحوق بي لما فتنوا. (أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي) 20: 93 يريد
أن مقامك بينهم وقد عبدوا غير الله تعالى عصيان منك لي، قاله ابن عباس. وقيل:
معناه هلا فارقتهم فتكون مفارقتك إياهم تقريعا لهم وزجرا. ومعنى:"
أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي 20: 93" قيل: إن أمره ما حكاه الله تعالى عنه"
وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ
سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ" «2» [الأعراف: 142]، فلما أقام معهم ولم يبالغ في
منعهم والإنكار عليهم نسبه إلى عصيانه ومخالفة أمره. مسألة- وهذا كله أصل في الامر
بالمعروف والنهي عن المنكر، وتغييره ومفارقة أهله، وأن المقيم بينهم لا سيما إذا
كان راضيا حكمه كحكمهم. وقد مضى هذا المعنى في آل عمران والنساء والمائدة والانعام
والأعراف والأنفال. وسيل الامام أبو بكر الطرطوشي رحمه الله: ما يقول سيدنا الفقيه
في مذهب الصوفية؟ وأعلم- حرس الله مدته- أنه أجتمع جماعة من رجال، فيكثرون من ذكر
الله تعالى، وذكر محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم إنهم يوقعون بالقضيب
على شي من الأديم، ويقوم بعضهم يرقص ويتواجد حتى يقع مغشيا عليه، ويحضرون شيئا
يأكلونه. هل الحضور معهم جائز أم لا؟ أفتونا مأجورين، [يرحمكم الله «3»] وهذا
القول الذي يذكرونه
__________
(1). كذا في ب وج وط وى. والذي في ا: من الذين.
(2). راجع ج 7 ص 277.
(3). من ب وط وى.
قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94) قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (95) قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96) قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (97) إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (98)
يا
شيخ كف عن الذنوب ... قبل التفرق والزلل
واعمل لنفسك صالحا ... ما دام ينفعك العمل
أما الشباب فقد مضى ... ومشيب رأسك قد نزل
وفي مثل هذا ونحوه «1». الجواب:- يرحمك الله- مذهب الصوفية بطالة وجهالة وضلالة،
وما الإسلام إلا كتاب الله وسنة رسوله، وأما الرقص والتواجد فأول من أحدثه أصحاب
السامري، لما اتخذ لهم عجلا جسدا له خوار قاموا يرقصون حواليه ويتواجدون، فهو دين
الكفار وعباد العجل، وأما القضيب فأول من اتخذه الزنادقة ليشغلوا به المسلمين عن
كتاب الله تعالى، وإنما كان يجلس النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع
أصحابه كأنما على رؤوسهم الطير من الوقار، فينبغي للسلطان ونوابه أن يمنعهم من
الحضور في المساجد وغيرها، ولا يحل لاحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يحضر معهم،
ولا يعينهم على باطلهم، هذا مذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهم
من أئمة المسلمين وبالله التوفيق.
[سورة طه (20): الآيات 94 الى 98]
قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ
تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94) قالَ
فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ (95) قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ
فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي
نَفْسِي (96) قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ
وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ
عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً
(97) إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ
عِلْماً (98)
قوله تعالى:َا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي)
ابن عباس: أخذ شعره بيمينه ولحيته بيساره، لان الغيرة في الله ملكته، أي لا تفعل
هذا فيتوهموا أنه منك استخفاف
__________
(1). في ب وج وط وك: وجوه.
أو
عقوبة. وقد قيل: إن موسى عليه السلام إنما فعل هذا على غير استخفاف ولا عقوبة كما
يأخذ الإنسان بلحية نفسه. وقد مضى هذا في (الأعراف) «1» مستوفى. والله عز وجل أعلم
بما أراد نبيه عليه السلام.ِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي
إِسْرائِيلَ) 20: 94
أي خشيت أن أخرج وأتركهم وقد أمرتني أن أخرج معهم فلو خرجت لاتبعني قوم ويتخلف مع
العجل قوم، وربما أدى الامر إلى سفك الدماء، وخشيت إن زجرتهم أن يقع قتال فتلومني
على ذلك. وهذا جواب هرون لموسى السلام عن قوله" أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي 20:
93" وفي الأعراف" إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا
يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ 150" [الأعراف: 150] لأنك
أمرتني أن أكون معهم. وقد تقدم. ومعنىَ- لَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي) 20: 94
لم تعمل بوصيتي في حفظ [- هم، لأنك أمرتني أن أكون معهم «2»]، قاله مقاتل. وقال
أبو عبيدة: لم تنتظر عهدي وقدومي. فتركه موسى ثم أقبل على السامري ف (- قالَ فَما
خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ) 20: 95 أي، ما أمرك وشأنك، وما الذي حملك على ما صنعت؟ قال
قتادة: كان السامري عظيما في بني إسرائيل من قبيلة يقال لها سامرة ولكن عدو الله
نافق بعد ما قطع البحر مع موسى، فلما مرت بنو إسرائيل بالعمالقة وهم يعكفون على
أصنام لهم" قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ"
[الأعراف: 138] فاغتنمها السامري وعلم أنهم يميلون إلى عبادة العجل فاتخذ العجل.
ف"- قالَ 30" السامري مجيبا لموسى:" بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا
بِهِ 20: 96" يعني: رأيت ما لم يروا، رأيت جبريل عليه السلام على فرس الحياة،
فألقى في نفسي أن أقبض من أثره قبضة، فما ألقيته على شي إلا صار له روح ولحم ودم
فلما سألوك أن تجعل لهم إلها زينت لي نفسي ذلك. وقال علي رضى الله عنه: لما نزل جبريل
ليصعد بموسى عليه السلام إلى السماء، أبصره السامري من بين الناس فقبض قبضة من أثر
الفرس. وقيل قال السامري: رأيت جبريل على الفرس وهى تلقي خطوها مد البصر فألقي في
نفسي أن أقبض من أثرها فما ألقيته على شي إلا صار له روح ودم. وقيل: رأى جبريل يوم
نزل على رمكة «3» وديق، فتقدم خيل فرعون في ورود البحر. ويقال: إن أم السامري
جعلته حين وضعته في غار خوفا
__________
(1). راجع ج 7 ص 289 فما بعد وص 286 وص 253.
(2). من ب وج وط وك.
(3). الرمكة: الفرس والبرذونة التي تتخذ النسل معرب. وهي هنا الفرس. والوديق: التي
تشتهي الفحل.
من
أن يقتله فرعون، فجاءه جبريل عليه السلام، فجعل كف السامري في فم السامري، فرضع
العسل واللبن فاختلف إليه فعرفه من حينئذ. وقد تقدم هذا المعنى في"
الأعراف" «1». ويقال: إن السامري سمع كلام موسى عليه السلام، حيث عمل تمثالين
من شمع أحدهما ثور والآخر فرس فألقاهما في النيل طلب قبر يوسف عليه السلام وكان في
تابوت من حجر في النيل فأتى به الثور على قرنه، فتكلم السامري بذلك الكلام الذي
سمعه من موسى، وألقى القبضة في جوف العجل فخار. وقرا حمزة والكسائي والأعمش
وخلف:" بما لم تبصروا" بالتاء على الخطاب. الباقون بالياء على الخبر. وقرا
أبي بن كعب وابن مسعود والحسن وقتادة" فقبصت قبصة" بصاد غير معجمة. وروي
عن الحسن ضم القاف من" قَبْضَةً 20: 96" والصاد غير معجمة. الباقون:
(قبضت قبضة) بالضاد المعجمة. والفرق بينهما أن القبض بجميع الكف، والقبص بأطراف
الأصابع، ونحوهما الخضم والقضم، والقبضة بضم القاف القدر المقبوض، ذكره المهدوي.
ولم يذكر الجوهري" قبصة" بضم القاف والصاد غير معجمة، وإنما ذكر"
القبضة" بضم القاف والضاد المعجمة وهو ما قبضت عليه من شي، يقال: أعطاه قبضة
من سويق أو تمر أي كفا منه، وربما جاء بالفتح. قال: والقبض بكسر القاف والصاد غير
المعجمة العدد الكثير من الناس، قال الكميت:
لكم مسجدا الله المزوران والحصى ... لكم قبصه من بين أثرى واقترى «2»
(فَنَبَذْتُها) 20: 96 أي طرحتها في العجل. (وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي) 20:
96 أي زينته، قاله الأخفش. وقال ابن زيد: حدثتني نفسي. والمعنى متقارب. قوله
تعالى: (قالَ فَاذْهَبْ) 20: 97 أي قال له موسى فاذهب أي من بيننا (فَإِنَّ لَكَ
فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ) 20: 97 أي لا أمس ولا أمس طول الحياة.
فنفاه موسى عن قومه وأمر بني إسرائيل ألا يخالطوه ولا يقربوه ولا يكلموه عقوبة له.
[والله أعلم «3»] قال الشاعر:
تميم كرهط السامري وقوله ... ألا لا يريد السامري مساسا
__________
(1). راجع ج 7 ص 274.
(2). أي من بين مثر ومقل. [.....]
(3). من ك.
قال
الحسن: جعل الله عقوبة السامري ألا يماس الناس ولا يماسوه عقوبة له ولمن كان منه
إلى يوم القيامة، وكان الله عز وجل شدد عليه المحنة، بأن جعله لا يماس أحدا ولا
يمكن من أن يمسه أحد، وجعل ذلك عقوبة له في الدنيا. ويقال: ابتلى بالوسواس واصل
الوسواس من ذلك الوقت. وقال قتادة: بقاياهم إلى اليوم يقولون ذلك- لا مساس- وإن مس
واحد من غيرهم أحدا منهم حم كلاهما في الوقت. ويقال: إن موسى هم بقتل السامري،
فقال الله تعالى له: لا تقتله فإنه سخي. ويقال لما قال له موسى:" فاذهب فإن
لك في الحياة أن تقول لا مساس" خاف فهرب فجعل يهيم في البرية مع السباع
والوحش، لا يجد أحدا من الناس يمسه حتى صار كالقائل: لا مساس، لبعده عن الناس وبعد
الناس عنه، كما قال الشاعر:
حمال رايات بها قناعسا ... حتى تقول الأزد لا مسابسا «1»
مسألة: هذه الآية أصل في نفي أهل البدع والمعاصي وهجرانهم وألا يخالطوا، وقد فعل
النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك بكعب بن مالك والثلاثة «2» الذين
خلفوا. ومن التجأ إلى الحرم وعليه قتل لا يقتل عند بعض الفقهاء، ولكن لا يعامل ولا
يبايع ولا يشارى، وهو إرهاق إلى الخروج. ومن هذا القبيل التغريب في حد الزنى، وقد
تقدم جميع هذا كله في موضعه، فلا معنى لإعادته. والحمد لله وحده. وقال هرون
القارئ: ولغة العرب لا مساس بكسر السين وفتح الميم، وقد تكلم النحويون فيه، فقال
سيبويه: هو مبني على الكسر كما يقال اضرب الرجل. وقال أبو إسحاق: لا مساس نفي
وكسرت السين لان الكسرة من علامة التأنيث، تقول: فعلت يا امرأة «3». قال النحاس
وسمعت علي بن سليمان يقول سمعت محمد بن يزيد يقول: إذا أعتل الشيء من ثلاث جهات وجب
أن يبني، وإذا أعتل من جهتين وجب ألا ينصرف، لأنه ليس بعد ترك الصرف إلا البناء،
فمساس ودراك اعتل من ثلاث جهات: منها أنه معدول، ومنها أنه مؤنث، وأنه معرفة، فلما
وجب البناء فيه وكانت الالف قبل السين ساكنة كسرت السين لالتقاء الساكنين، كما
تقول: اضرب الرجل. ورأيت أبا إسحاق
__________
(1). كذا في الأصول ولم نقف عليه.
(2). في ك: وصاحبيه.
(3). كذا في النحاس. والذي في الأصول: فعلت المرأة.
يذهب
إلى أن هذا القول خطأ، وألزم أبا العباس إذا سمى أمرة بفرعون يبنيه، وهذا لا يقوله
أحد. وقال الجوهر في الصحاح: وأما قول العرب لا مساس مثال قطام فإنما بني على
الكسر لأنه معدول عن المصدر وهو المس. وقرا أبو حيوة" لا مِساسَ 20:
97". (وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ) 20: 97 يعني يوم القيامة.
والموعد مصدر، أي إن لك وعدا لعذابك. وقرا ابن كثير وأبو عمرو:" تخلفه"
بكسر اللام وله معنيان: أحدهما- ستأتيه ولن تجده مخلفا، كما تقول: أحمدته أي وجدته
محمودا. والثاني- على التهديد أي لا بد لك من أن تصير إليه. الباقون بفتح اللام،
بمعنى: إن الله لن يخلفك إياه. قوله تعالى: (وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي
ظَلْتَ عَلَيْهِ) 20: 97 أي دمت وأقمت عليه." عاكِفاً 20: 97" أي
ملازما، وأصله ظللت، قال: «1»
خلا أن العتاق من المطايا ... أحسن به فهن إليه شوس
أي أحسسن. وكذلك قرأ الأعمش بلامين على الأصل. وفي قراءة ابن مسعود:"
ظلت" بكسر الظاء. يقال: ظللت أفعل كذا إذا فعلته نهارا وظلت وظلت، فمن قال:
ظلت حذف اللام الاولى تخفيفا، ومن قال: ظلت ألقى حركة اللام على الظاء.
(لَنُحَرِّقَنَّهُ) 20: 97 قراءة العامة بضم النون وشد الراء من حرق يحرق. وقرا
الحسن وغيره: بضم النون وسكون الحاء وتخفيف الراء من أحرقه يحرقه. وقرا علي وابن
عباس وأبو جعفر وابن محيصن وأشهب العقيلي" لنحرقنه" بفتح النون وضم
الراء خفيفة، من حرقت الشيء أحرقه حرقا بردته وحككت بعضه ببعض، ومنه قولهم: حرق
نابه يحرقه ويحرقه أي سحقه حتى سمع له صريف، فمعنى هذه القراءة لنبردنه بالمبارد،
ويقال للمبرد المحرق. والقراءتان الأوليان معناهما الحرق بالنار. وقد يمكن جمع ذلك
فيه، قال السدي: ذبح العجل فسال منه كما يسيل من العجل إذا ذبح، ثم برد عظامه
بالمبرد وحرقه. وفي حرف ابن مسعود:" لنذبحنه ثم لنحرقنه" واللحم والدم
إذا أحرقا
__________
(1). هو أبو زبيد والشوس (بالتحريك) قال ابن سيده: أن ينظر بإحدى عينيه ويميل وجهه
في شق العين التي ينظر بها ويكون ذلك خلقة ويكون من الكبر والتيه والغضب.
كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (100) خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا (101) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا (104)
صارا
رمادا فيمكن تذريته في اليم فأما الذهب فلا يصير رمادا وقيل: عرف موسى ما صير به
الذهب رمادا، وكان ذلك من آياته. ومعنى" لَنَنْسِفَنَّهُ 20: 97"
لنطيرنه. وقرا أبو رجاء" لننسفنه" بضم السين لغتان، والنسف نفض الشيء
ليذهب به الريح وهو التذرية، والمنسف ما ينسف به الطعام، وهو شي متصوب «1» الصدر
أعلاه مرتفع، والنسافة ما يسقط منه، يقال: اعزل النسافة وكل الخالص. ويقال: أتانا
فلان كأن لحيته منسف، حكاه أبو نصر أحمد بن حاتم. والمنسفة آلة يقلع بها البناء،
ونسفت البناء نسفا قلعته، ونسفت البعير الكلا ينسفه بالكسر إذا اقتلعه بأصله،
وانتسفت الشيء اقتلعته، عن أبي زيد. قوله تعالى: (إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ
الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) 20: 98 لا العجل، أي
وسع كل شي علمه، يفعل الفعل عن العلم، ونصب على التفسير. وقرا مجاهد وقتادة"
وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً 20: 98".
[سورة طه (20): الآيات 99 الى 104]
كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ
لَدُنَّا ذِكْراً (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ
الْقِيامَةِ وِزْراً (100) خالِدِينَ فِيهِ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ
حِمْلاً (101) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ
زُرْقاً (102) يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً (103)
نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ
لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً (104)
قوله تعالى: (كَذلِكَ) الكاف في موضع نصب نعت لمصدر محذوف. أي كما قصصنا عليك خبر
موسى" كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ 20: 99" قصصا كذلك من أخبار ما قد سبق،
ليكون تسلية لك، وليدل على صدقك. (وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً) 20: 99
يعني القرآن. وسمي القرآن ذكرا، لما فيه من الذكر كما سمي الرسول ذكرا، لان الذكر
كان ينزل عليه. وقيل:" آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً 20: 99" أي
شرفا، كما قال تعالى" وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ" «2» [الزخرف: 44] أي شرف
وتنويه باسمك.
__________
(1). في ب وز: منصوب.
(2). راجع ج 16 ص 93.
قوله
تعالى: (مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ) 20: 100 أي القرآن فلم يؤمن به، ولم يعمل بما فيه
(فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً) 20: 100 أي إثما عظيما وحملا
ثقيلا. (خالِدِينَ فِيهِ) 20: 101 يريد مقيمين فيه، أي في جزائه وجزاؤه جهنم.
(وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلًا) 20: 101 يريد بئس الحمل حملوه يوم
القيامة. وقرا داود ابن رفيع:" فإنه يحمل". قوله تعالى: (يَوْمَ
يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) قراءة العامة" يُنْفَخُ" بضم الياء على الفعل
المجهول. وقرا أبو عمرو وابن أبي إسحاق بنون مسمى الفاعل. واستدل أبو عمرو بقوله
تعالى:" وَنَحْشُرُ" بنون. وعن ابن هرمز" ينفخ" بفتح الياء أي
ينفخ إسرافيل. أبو عياض:" فِي الصُّورِ". الباقون:" فِي
الصُّورِ" وقد تقدم هذا في (الانعام) «1» مستوفى وفي كتاب (التذكرة). وقرا
طلحة بن مصرف" ويحشر" بضم الياء" المجرمون" رفعا بخلاف
المصحف. والباقون" وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ 20: 102" أي المشركين.
(زُرْقاً) 20: 102 حال من المجرمين، والزرق خلاف الكحل. والعرب تتشاءم بزرق العيون
وتذمه، أي تشوه خلقتهم بزرقة عيونهم وسواد وجوههم. وقال الكلبي والفراء:"
زُرْقاً 20: 102" أي عميا. وقال الأزهري: [أي «2»] عطاشا قد ازرقت أعينهم من
شدة العطش، وقاله الزجاج، قال: لان سواد العين يتغير ويزرق من العطش. وقيل: إنه
الطمع الكاذب إذا تعقبته الخيبة، يقال: ابيضت عيني لطول انتظاري لكذا. وقول خامس:
إن المراد بالزرقة شخوص البصر من شدة الخوف، قال الشاعر:
لقد زرقت عيناك يا ابن مكعبر ... كما كل ضبي من اللؤم أزرق
يقال: رجل أزرق العين، والمرأة زرقاء بينة الزرق. والاسم الزرقة. وقد زرقت عينه
بالكسر وازرقت عينه ازرقاقا، وازراقت عينه ازريقاقا. وقال سعيد بن جبير: قيل لابن
عباس في قوله:" وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً 20: 102"
وقال في موضع آخر:" وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ
عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا" «3» [الاسراء: 97] فقال: إن ليوم القيامة حالات،
فحالة يكونون فيها زرقا، وحالة عميا. (يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ) 20: 103 أصل
الخفت في اللغة السكون، ثم قيل لمن خفض صوته خفته. [والمعنى «4»]
__________
(1). راجع ج 7 ص 20 فما بعد.
(2). من ك.
(3). راجع ج 10 ص 333.
(4). من ب وج وط وك.
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا (108) يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (109) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110)
يتسارون،
قاله مجاهد، أي يقول بعضهم لبعض في الموقف سرا (إِنْ لَبِثْتُمْ) أي ما لبثتم يعني
في الدنيا، وقيل: في القبور (إِلَّا عَشْراً) 20: 103 يريد عشر ليال. وقيل: أراد
ما بين النفختين وهو أربعون سنة، يرفع العذاب في تلك المدة عن الكفار.- في قول ابن
عباس- فيستقصرون تلك المدة. أو مدة مقامهم في الدنيا لشدة ما يرون من أهوال يوم
القيامة، ويخيل إلى أمثلهم أي أعدلهم قولا وأعقلهم وأعلمهم عند نفسه أنهم ما لبثوا
إلا يوما واحدا يعني لبثهم في الدنيا، عن قتادة، فالتقدير: إلا مثل يوم. وقيل:
إنهم من شدة هول المطلع نسوا ما كانوا فيه من نعيم الدنيا رأوه كيوم. وقيل: أراد
بيوم لبثهم ما بين النفختين، أو لبثهم في القبور على ما تقدم." وعشرا" و"
يوما" منصوبان ب"- لبثتم".
[سورة طه (20): الآيات 105 الى 110]
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً (105)
فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً (106) لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً (107)
يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ
لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً (108) يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ
الشَّفاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً (109)
يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً
(110)
قوله تعالى: (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ) 20: 105 أي عن حال الجبال يوم
القيامة. (فَقُلْ) [فقد «1»] جاء هذا بفاء وكل سؤال في القرآن" قل" بغير
فاء إلا هذا، لان المعنى إن سألوك عن الجبال فقل، فتضمن الكلام معنى الشرط. وقد
علم الله أنهم يسألونه عنها، فأجابهم قبل السؤال، وتلك أسئلة تقدمت سألوا عنها
النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فجاء الجواب عقب السؤال، فلذلك كان بغير
فاء، وهذا سؤال لم يسألوه عنه بعد، فتفهمه. (يَنْسِفُها) 20: 105 يطيرها."
نَسْفاً 20: 97" قال ابن الاعرابي وغيره: يقلعها قلعا من أصولها ثم يصيرها رملا
يسيل سيلا، ثم يصيرها كالصوف المنفوش تطيرها الرياح هكذا وهكذا. قال: ولا يكون
العهن من الصوف إلا المصبوغ، ثم كالهباء المنثور. (فَيَذَرُها) 20: 106 أي يذر
مواضعها (قاعاً صَفْصَفاً) 20: 106 القاع الأرض الملساء
__________
(1). من ك.
بلا
نبات ولا بناء «1»، قاله ابن الاعرابي. وقال الجوهري: والقاع المستوي من الأرض
والجمع أقوع وأقواع وقيعان صارت الواو ياء لكسر ما قبلها. وقال الفراء: القاع
مستنقع الماء والصفصف القرعاء. الكلبي: هو الذي لا نبات فيه. وقيل: المستوي من
الأرض كأنه على صف واحد في استوائه، قاله مجاهد. والمعنى واحد في القاع والصفصف،
فالقاع الموضع المنكشف، والصفصف المستوي الأملس. وأنشد سيبويه «2»:
وكم دون بيتك من صفصف ... ودكداك رمل وأعقادها
و" قاعاً 20: 106" نصب على الحال والصفصف. (لا تَرى ) 20: 107 في موضع
الصفة. (فِيها عِوَجاً) 20: 107 قال ابن الاعرابي: العوج التعوج في الفجاج. والأمت
النبك. وقال أبو عمرو: الأمت النباك وهي التلال الصغار واحدها نبك، أي هي أرض
مستوية لا انخفاض فيها ولا ارتفاع. تقول: امتلأ فما به أمت، وملأت القربة مليا لا
أمت فيه، أي لا استرخاء فيه. والأمت في اللغة المكان المرتفع. وقال ابن
عباس:" عوجا" ميلا. قال: والأمت الأثر مثل الشراك. وعنه أيضا"
عِوَجاً" واديا" وَلا أَمْتاً 20: 107" رابية. وعنه أيضا: العوج
[الانخفاض «3»] والأمت الارتفاع وقال قتادة:" عِوَجاً" صدعا. (وَلا
أَمْتاً) 20: 107 أي أكمة. وقال يمان: الأمت الشقوق في الأرض. وقيل: الأمت أن يغلظ
مكان في الفضاء أو الجبل ويدق في مكان، حكاه الصولي. قلت: وهذه الآية تدخل في باب
الرقي، ترقى بها الثآليل وهي التي تسمى عندنا" بالبراريق" واحدها"
بروقه"، تطلع في الجسد وخاصة في اليد: تأخذ ثلاث أعواد من تبن الشعير، يكون
في طرف كل عود عقدة، تمر كل عقدة على الثآليل وتقرأ الآية مرة، ثم تدفن الأعواد في
مكان ندي، تعفن وتعفن الثآليل فلا يبقى لها أثر، جربت ذلك في نفسي وفي غيري فوجدته
نافعا إن شاء الله تعالى «4». قوله تعالى: (يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ)
20: 108 يريد إسرافيل عليه السلام إذا نفخ في الصور (لا عِوَجَ لَهُ) 20: 108 أي
لا معدل لهم عنه، أي عن دعائه لا يزيغون ولا ينحرفون بل يسرعون إليه ولا يحيدون
__________
(1). في ك: ماء.
(2). البيت للأعشى وقد وصف بعد المسافة بينه وبين الممدوح الذي قصده ليستوجب بذلك
جائزته. والدكداك: من الرمل المستوي. الاعقاد (جمع) عقدة وهو المنعقد من الرمل
المتراكب. [.....]
(3). زيادة يقتضيها المعنى.
(4). في ك: نافعا بالله ولله الحمد. وفي ز: نافعا بإذن الله والحمد لله.
عنه.
وعلى هذا أكثر العلماء. وقيل:" لا عوج له" أي لدعائه. وقيل: يتبعون
الداعي اتباعا لا عوج له، فالمصدر مضمر، والمعنى: يتبعون صوت الداعي للمحشر،
نظيره:" واستمع يوم يناد المنادي من مكان قريب" «1» [ق: 41] الآية.
وسيأتي. (وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ) 20: 108 أي ذلت وسكنت، عن ابن عباس قال: لما أتى
خبر الزبير تواضعت سور المدينة والجبال الخشع، فكل لسان ساكت هناك للهيبة. (لِلرَّحْمنِ)
أي من أجله. (فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً) 20: 108 الهمس الصوت الخفي، قاله
مجاهد. عن ابن عباس: الحس الخفي. الحسن وابن جريج: هو صوت وقع الاقدام بعضها على
بعض إلى المحشر، ومنه قول الراجز:
وهن يمشين بنا هميسا
يعني صوت أخفاف الإبل في سيرها. ويقال للأسد الهموس، لأنه يهمس في الظلمة، أي يطأ
وطئا خفيا. قال رؤبة يصف نفسه بالشدة:
ليث يدق الأسد الهموسا ... والاقهبين «2» الفيل والجاموسا
وهمس الطعام، أي مضغه وفوه منضم، قال الراجز:
لقد رأيت عجبا مذ أمسا ... عجائزا مثل السعالي خمسا
يأكلن ما أصنع همسا همسا
وقيل: الهمس تحريك الشفة واللسان. وقرا أبي بن كعب:" فلا ينطقون إلا
همسا". والمعنى متقارب، أي لا يسمع لهم نطق ولا كلام ولا صوت أقدام.
وبناء" هـ م س" أصله الخفاء كيفما تصرف، ومنه الحروف المهموسة، وهي عشرة
يجمعها قولك:" حثه شخص فسكت" وإنما سمي الحرف مهموسا لأنه ضعف الاعتماد
من موضعه حتى جرى معه النفس. قوله تعالى: (يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ
إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ) 20: 109" مَنْ" في موضع نصب على
الاستثناء الخارج من الأول، أي لا تنفع الشفاعة أحدا إلا شفاعة من أذن له الرحمن.
(وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا) 20: 109 أي رضي قوله في الشفاعة. وقيل: المعنى، أي إنما
تنفع الشفاعة لمن أذن له الرحمن في أن يشفع له، وكان له قول يرضى. قال ابن عباس:
هو قول لا إله إلا الله.
__________
(1). راجع ج 17 ص 26.
(2). سمى الفيل والجاموس أقهبين للونهما وهو الغيرة.
وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا (111) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (112)
قوله
تعالى: (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) أي من أمر الساعة. (وَما خَلْفَهُمْ) من
أمر الدنيا قاله قتادة. وقيل: يعلم ما يصيرون إليه من ثواب أو عقاب" وَما
خَلْفَهُمْ" ما خلفوه وراءهم في الدنيا. ثم قيل: الآية عامة في جميع الخلق.
وقيل: المراد الذين يتبعون الداعي. والحمد لله. قوله تعالى: (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ
عِلْماً) 20: 110 الهاء في" بِهِ" لله تعالى، أي أحد لا يحيط به علما،
إذ الإحاطة مشعرة بالحد ويتعالى الله عن التحديد. وقيل: تعود على العلم، أي أحد لا
يحيط علما بما يعلمه الله. وقال الطبري: الضمير في" أَيْدِيهِمْ"
و" خَلْفَهُمْ" و" يُحِيطُونَ" يعود على الملائكة، أعلم الله
من يعبدها أنها لا تعلم ما بين أيديها وما خلفها.
[سورة طه (20): الآيات 111 الى 112]
وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً (111)
وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا
هَضْماً (112)
قوله تعالى: (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ) 20: 111 أي ذلت وخضعت، قاله ابن الاعرابي
وغيره. ومنه قيل للأسير عان. قال أمية بن أبي الصلت:
مليك على عرش السماء مهيمن ... لعزته تعنو الوجوه وتسجد
وقال أيضا
وعنا له وجهي وخلقي كله ... في الساجدين لوجهه مشكورا
قال الجوهري: عنا يعنو خضع وذل وأعناه غيره، ومنه قوله تعالى:" وَعَنَتِ
الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ 20: 111". ويقال أيضا: عنا فيهم فلان
أسيرا، أي قام فيهم على إساره واحتبس. وعناه غيره تعنية حبسه. والعاني الأسير.
وقوم عناة ونسوة عوان. وعنت أمور نزلت. وقال ابن عباس:" عَنَتِ" ذلت.
وقال مجاهد: خشعت. الماوردي: والفرق بين الذل والخشوع «1»- وإن تقارب معناهما- أن
الذل أن يكون ذليل النفس، والخشوع «2» أن يتذلل لذي طاعة. وقال الكلبي"
عَنَتِ" أي علمت. عطية العوفي: استسلمت. وقال طلق
__________
(1). في ك: الخضوع.
(2). في ك: الخضوع.
ابن
حبيب: إنه وضع الجبهة والأنف على الأرض في السجود. النحاس:" وَعَنَتِ
الْوُجُوهُ 20: 111" في معناه قولان: أحدهما: أن هذا في الآخرة. وروى عكرمة
عن ابن عباس" وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ 20: 111" قال:
الركوع والسجود، ومعنى" عَنَتِ" في اللغة القهر والغلبة، ومنه فتحت
البلاد عنوة أي غلبة، قال الشاعر «1»:
فما أخذوها عنوة عن مودة ... ولكن ضرب المشرفي استقالها
وقيل: هو من العناء بمعنى التعب، وكنى عن الناس بالوجوه، لان أثار الذل إنما تتبين
في الوجه. (لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ) 20: 111 وفي القيوم ثلاث تأويلات، أحدها: أنه
القائم بتدبير الخلق. الثاني- أنه القائم على كل نفس بما كسبت. الثالث- أنه الدائم
الذي لا يزول ولا يبيد. وقد مضى في (البقرة) «2» هذا. (وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ
ظُلْماً) 20: 111 أي خسر من حمل شركا. قوله تعالى: (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ
الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ) 20: 112 لان العمل لا يقبل من غير إيمان. و"
مَنْ" في قوله" مِنَ الصَّالِحاتِ" للتبعيض، أي شيئا من الصالحات.
وقيل: للجنس. (فَلا يَخافُ) 20: 112 قرأ ابن كثير ومجاهد وابن محيصن:"
يخف" بالجزم جوابا لقوله:" وَمَنْ يَعْمَلْ 110". الباقون"
يَخافُ 20: 112" رفعا على الخبر، أي فهو لا يخاف، أو فإنه لا يخاف. (ظُلْماً)
أي نقصا لثواب طاعته، ولا زيادة عليه في سيئاته. (وَلا هَضْماً) 20: 112 بالانتقاص
من حقه. والهضم النقص والكسر، يقال: هضمت ذلك من حقي أي حططته وتركته. وهذا يهضم
الطعام أي ينقص ثقله. وامرأة هضيم الكشح ضامرة البطن. الماوردي: والفرق بين الظلم
والهضم أن الظلم المنع من الحق كله، والهضم المنع من بعضه، والهضم ظلم وإن افترقا
من وجه، قال المتوكل الليثي:
إن الأذلة واللئام لمعشر ... مولاهم المتهضم المظلوم
قال الجوهري: ورجل هضيم ومهتضم أي مظلوم. وتهضمه أي ظلمه واهتضمه إذا ظلمه وكسر
عليه حقه.
__________
(1). أنشده الفراء لكثير كما في (اللسان).
(2). راجع ج 3 ص 271 فما بعد.
وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا (113) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114)
[سورة
طه (20): الآيات 113 الى 114]
وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ
لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً (113) فَتَعالَى اللَّهُ
الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ
وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (114)
قوله تعالى: (وَكَذلِكَ) أي كما بينا لك في هذه السورة من البيان ف (- كَذلِكَ
أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) 20: 113 أي بلغة العرب. (وَصَرَّفْنا فِيهِ
مِنَ الْوَعِيدِ) 20: 113 أي بينا ما فيه من التخويف والتهديد والثواب والعقاب.
(لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) أي يخافون الله فيجتنبون معاصيه، ويحذرون عقابه. (أَوْ
يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً) 20: 113 أي موعظة. وقال قتادة: حذرا وورعا. وقيل: شرفا،
فالذكر هاهنا بمعنى الشرف، كقوله:" وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ
وَلِقَوْمِكَ" «1» [الزخرف 44]. وقيل: أي ليتذكروا العذاب الذي توعدوا به.
وقرا الحسن:" أو نحدث" بالنون، وروي عنه رفع الثاء وجزمها. قوله تعالى:
(فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ) 20: 114 لما عرف العباد عظيم نعمه، وإنزال
القرآن نزه نفسه عن الأولاد والأنداد فقال:" فَتَعالَى اللَّهُ" أي جل
الله (الْمَلِكُ الْحَقُّ) 20: 114، أي ذو الحق. (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ
قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ) 20: 114 علم نبيه كيف يتلقى القرآن. قال
ابن عباس: كان عليه السلام يبادر جبريل فيقرأ قبل أن يفرغ جبريل من الوحي حرصا على
الحفظ، وشفقة على القرآن مخافة النسيان، فنهاه الله عن ذلك وأنزل:" وَلا
تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ 20: 114". وهذا كقوله تعالى:" لا تُحَرِّكْ بِهِ
لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ
" «2» [القيامة: 16] على ما يأتي. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: لا تتله
قبل أن تتبينه. وقيل:" وَلا تَعْجَلْ 20: 114" أي لا تسل إنزاله"
مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ 20: 114" أي يأتيك" وَحْيُهُ".
وقيل: المعنى لا تلقه إلى الناس قبل أن يأتيك بيان تأويله. وقال الحسن: نزلت في
رجل لطم وجه امرأته، فجاءت إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تطلب
القصاص، فجعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لها القصاص فنزل"
الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ" «3» [النساء 34] ولهذا قال:"
وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً 20: 114" أي فهما، لأنه عليه السلام حكم
بالقصاص وأبى الله ذلك. وقرا ابن مسعود وغيره:" من قبل أن نقضي" بالنون
وكسر الضاد" وحيه" بالنصب.
__________
(1). راجع ج 16 ص 93.
(2). راجع ج 19 ص 104.
(3). راجع ج 5 ص 168.
وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115)
[سورة
طه (20): آية 115]
وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً
(115)
قوله تعالى: (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ) 20: 115 قرأ
الأعمش باختلاف عنه" فَنَسِيَ 20: 88" بإسكان الياء وله معنيان: أحدهما-
ترك، أي ترك الامر والعهد، وهذا قول مجاهد وأكثر المفسرين ومنه" نَسُوا
اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ" «1» [التوبة 67]. و[وثانيهما «2»] قال ابن عباس:"
نسي" هنا من السهو والنسيان، وإنما أخذ الإنسان من أنه عهد إليه فنسي. قال
ابن زيد: نسى ما عهد الله إليه في ذلك، ولو كان له عزم ما أطاع عدوه إبليس. وعلى
هذا القول يحتمل أن يكون آدم عليه السلام في ذلك الوقت مأخوذا بالنسيان، وأن كان
النسيان عنا اليوم مرفوعا. ومعنى" مِنْ قَبْلُ" أي من قبل أن يأكل من
الشجرة، لأنه نهى عنها. والمراد تسلية النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
أي طاعة بني آدم الشيطان أمر قديم، أي إن نقض هؤلاء العهد فإن آدم أيضا عهدنا إليه
فنسي: حكاه القشيري وكذلك الطبري. أي وإن يعرض يا محمد هؤلاء الكفرة عن آياتي،
ويخالفوا رسلي، ويطيعوا إبليس فقدما فعل ذلك أبوهم آدم. قال ابن عطية: وهذا
التأويل ضعيف، وذلك كون آدم مثالا للكفار الجاحدين بالله ليس بشيء وآدم إنما عصى
بتأويل، ففي هذا غضاضة عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإنما الظاهر في
الآية إما أن يكون ابتداء قصص لا تعلق له بما قبله، وإما أن يجعل تعلقه أنه لما عهد
إلى محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ألا يعجل بالقرآن، مثل له بنبي قبله
عهد إليه فنسي فعوقب، ليكون أشد في التحذير، وأبلغ في العهد إلى محمد صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والعهد ها هنا في معنى الوصية،" ونسي"
معناه ترك، ونسيان الذهول لا يمكن هنا، لأنه لا يتعلق بالناسي عقاب. والعزم المضي
على المعتقد في أي شي كان، وآدم عليه السلام قد كان يعتقد ألا يأكل من الشجرة لكن
لما وسوس إليه إبليس لم يعزم على معتقده. والشيء الذي عهد إلى آدم هو ألا يأكل من
الشجرة، وأعلم مع ذلك أن إبليس عدو له. واختلف في معنى قوله: (وَلَمْ نَجِدْ لَهُ
عَزْماً) 20: 115 فقال ابن عباس وقتادة: لم نجد له صبرا عن أكل الشجرة، ومواظبة
على التزام الامر. قال
__________
(1). راجع ج 18 ص 43.
(2). زيادة يقتضيها السياق.
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى (116) فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117) إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119)
النحاس:
وكذلك هو في اللغة، يقال: لفلان عزم أي صبر وثبات على التحفظ من المعاصي حتى يسلم
منها، ومنه." فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ"
«1» [الأحقاف: 35]. وعن ابن عباس أيضا وعطية العوفي: حفظا لما أمر به، أي لم يتحفظ
مما نهيته حتى نسي وذهب عن علم ذلك بترك الاستدلال، وذلك أن إبليس قال له: إن
أكلتها خلدت في الجنة يعني عين تلك الشجرة، فلم يطعه فدعاه إلى نظير تلك الشجرة
مما دخل في عموم النهي وكان يجب أن يستدل عليه فلم يفعل، وظن أنها لم تدخل في
النهي فأكلها تأويلا، ولا يكون ناسيا للشيء من يعلم أنه معصية. وقال ابن زيد:"
عَزْماً 20: 115" محافظة على أمر الله. وقال الضحاك: عزيمة أمر. ابن كيسان:
إصرارا ولا إضمارا للعود إلى الذنب. قال القشيري: والأول أقرب إلى تأويل الكلام،
ولهذا قال قوم: آدم لم يكن من أولي العزم من الرسل، لان الله تعالى قال:"
وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً 20: 115". وقال المعظم: كان الرسل أولو العزم،
وفي الخبر:" ما من نبي إلا وقد أخطأ أو هم بخطيئة ما خلا يحيى بن زكريا"
فلو خرج آدم بسبب خطيئته من جملة أولى العزم لخرج جميع الأنبياء سوى يحيى. وقد قال
أبو أمامة: أن أحلام بني آدم جمعت منذ خلق الله الخلق إلى يوم القيامة، ووضعت في
كفة ميزان، ووضع حلم آدم في كفة أخرى لرجحهم، وقد قال الله تبارك وتعالى:"
وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً 20: 115"
[سورة طه (20): الآيات 116 الى 119]
وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى
(116) فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا
يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى (117) إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيها
وَلا تَعْرى (118) وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى (119)
قوله تعالى: (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا
إِبْلِيسَ أَبى ) تقدم في (البقرة) «2» مستوفى. (فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا
عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما) 20: 117 نهي، ومجازه
__________
(1). راجع ج 16 ص 220. [.....]
(2). راجع ج 1 ص 291 فما بعد.
لا تقبلا منه فيكون ذلك سببا لخروجكما" مِنَ الْجَنَّةِ"" فَتَشْقى 20: 117" يعني أنت وزوجك لأنهما في استواء العلة واحد، ولم يقل: فتشقيا لان المعنى معروف، وآدم عليه السلام هو المخاطب، وهو المقصود. وأيضا لما كان الكاد عليها والكاسب لها كان بالشقاء أخص. وقيل: الا خرج واقع عليهما والشقاوة على آدم وحده، وهو شقاوة البدن، ألا ترى أنه عقبه بقوله:" إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى 20: 118" أي في الجنة" وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى 20: 119" فأعلمه أن له في الجنة هذا كله: الكسوة والطعام والشراب والمسكن، وأنك إن ضيعت الوصية، وأطعت العدو أخرجكما من الجنة فشقيت تعبا ونصبا، أي جعت وعريت وظمئت وأصابتك الشمس، لأنك ترد إلى الأرض إذا أخرجت من الجنة. وإنما خصه بذكر الشقاء ولم يقل فتشقيان: يعلمنا أن نفقة الزوجة على الزوج، فمن يومئذ جرت نفقة النساء على الأزواج، فلما كانت نفقة حواء على آدم كذلك نفقات بناتها على بني آدم بحق الزوجية. وأعلمنا في هذه الآية أن النفقة التي تجب للمرأة على زوجها هذه الاربعة: الطعام والشراب والكسوة والمسكن، فإذا أعطاها هذه الاربعة فقد خرج إليها من نفقتها، فإن تفضل بعد ذلك فهو مأجور، فأما هذه الاربعة فلا بد لها منها، لان بها إقامة المهجة. قال الحسن المراد بقوله:" فَتَشْقى 20: 117" شقاء الدنيا، لا يرى ابن آدم إلا ناصبا. وقال الفراء: هو أن يأكل من كد يديه. وقال سعيد بن جبير: أهبط إلى آدم ثور أحمر فكان يحرث عليه، ويمسح العرق عن جبينه، فهو شقاؤه الذي قال الله تبارك وتعالى. وقيل: لما أهبط من الجنة كان من أول شقائه أن جبريل أنزل عليه حبات من الجنة، فقال: يا آدم ازرع هذا، فحرث وزرع، ثم حصد ثم درس ثم نقى ثم طحن ثم عجن ثم خبز، ثم جلس ليأكل بعد التعب، فتدحرج رغيفه من يده حتى صار أسفل الجبل، وجرى وراءه آدم حتى تعب وقد عرق جبينه، قال: يا آدم فكذلك رزقك بالتعب والشقاء، ورزق ولدك من بعدك ما كنت في الدنيا. قوله تعالى: (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى . وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى ) 20: 119- 118 فيه مسألتان:
فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120) فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122)
الاولى-
قوله تعالى: (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها) 20: 118 أي في الجنة (وَلا تَعْرى
) 20: 118." وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها 20: 119" أي لا تعطش. والظمأ
العطش." وَلا تَضْحى 20: 119" أي تبرز للشمس فتجد حرها. إذ ليس في الجنة
شمس، إنما هو ظل ممدود، كما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس. قال أبو العالية: نهار
الجنة هكذا: وأشار إلى ساعة المصلين صلاة الفجر. قال أبو زيد: ضحا الطريق يضحو
ضحوا إذا بدا لك وظهر. وضحيت وضحيت" بالكسر" ضحا عرقت. وضحيت أيضا للشمس
ضحاء ممدود برزت وضحيت" بالفتح" مثله، والمستقبل أضحى في اللغتين جميعا،
قال عمر بن أبي ربيعة:
رأت رجلا أيما إذا الشمس عارضت ... فيضحى وأما بالعشي فيخصر
وفي الحديث أن ابن عمر رأى رجلا محرما قد استظل، فقال: أضح لمن أحرمت له. هكذا
يرويه المحدثون بفتح الالف وكسر الحاء من أضحيت. وقال الأصمعي: إنما هو اضح لمن
أحرمت له، بكسر الالف وفتح الحاء من ضحيت أضحى، لأنه أمره بالبروز للشمس، ومنه
قوله تعالى:" وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى 20: 119" وأنشد:
ضحيت له كي أستظل بظله ... إذا الظل أضحى في القيامة قالصا
وقرا أبو عمرو والكوفيون إلا عاصما في رواية أبو بكر عنه" وَأَنَّكَ"
بفتح الهمزة عطفا على" أَلَّا تَجُوعَ 20: 118". ويجوز أن يكون في موضع
رفع عطفا على الموضع، والمعنى: ولك أنك لا تظمأ فيها. الباقون بالكسر على
الاستئناف، أو على العطف على" إِنَّ لَكَ" «1».
[سورة طه (20): الآيات 120 الى 122]
فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ
الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى (120) فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما
وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ
فَغَوى (121) ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى (122)
__________
(1). في الأصول في هذه الآية مسألتان ولكن المثبت مسألة واحدة. ولعل الثانية هي
القراءة.
قوله
تعالى: (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ) 20: 120 تقدم في (الأعراف) «1». (قالَ)
30 يعني الشيطان: (يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا
يَبْلى ) 20: 120 وهذا يدل على المشافهة، وأنه دخل الجنة في جوف الحية على ما تقدم
في (البقرة) «2» بيانه، وتقدم هناك تعيين الشجرة، وما للعلماء فيها فلا معنى
للإعادة. (فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ
عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ) 20: 121 تقدم في (الأعراف) «3» مستوفى. وقال
الفراء:" وَطَفِقا" في العربية أقبلا، قال وقيل: جعل يلصقان عليهما ورق
التين. قوله تعالى: (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى ) 20: 121 فيه ست مسائل: الاولى-
قوله تعالى: (وَعَصى ) 20: 121 تقدم في (البقرة) «4» القول في ذنوب الأنبياء. وقال
بعض المتأخرين من علمائنا والذي ينبغي أن يقال: إن الله تعالى قد أخبر بوقوع ذنوب
من بعضهم، ونسبها إليهم، وعاتبهم عليها، وأخبروا بذلك عن نفوسهم وتنصلوا منها،
واستغفروا منها وتابوا، وكل ذلك ورد في مواضع كثيرة لا يقبل التأويل جملتها، وإن
قبل ذلك آحادها، وكل ذلك مما لا يزرى بمناصبهم، وإنما تلك الأمور التي وقعت منهم
على جهة الندور، وعلى جهة الخطأ والنسيان، أو تأويل دعا إلى ذلك، فهي بالنسبة إلى
غيرهم حسنات، وفى حقهم سيئات بالنسبة إلى مناصبهم، وعلو أقدارهم، إذ قد يؤاخذ
الوزير بما يثاب عليه السائس، فأشفقوا من ذلك في موقف القيامة، مع علمهم بالأمن
والأمان والسلامة. قال: وهذا هو الحق. ولقد أحسن الجنيد حيث قال: حسنات الأبرار
سيئات المقربين، فهم صلوات الله وسلامه عليهم- وإن كانوا قد شهدت النصوص بوقوع
ذنوب منهم، فلم يخل ذلك بمناصبهم، ولا قدح في رتبتهم «5»، بل قد تلافاهم، واجتباهم
وهداهم، ومدحهم وزكاهم واختارهم واصطفاهم، صلوات الله عليه وسلامه. الثانية- قال
القاضي أبو بكر بن العربي: لا يجوز لاحد منا اليوم أن يخبر بذلك عن آدم إلا إذا
ذكرناه في أثناء قوله تعالى عنه، أو قول نبيه، فأما أن يبتدئ ذلك من قبل
__________
(1). راجع ج 7 ص 177.
(2). راجع ج 1 ص 308 فما بعد.
(3). راجع ج 7 ص 180.
(4). راجع ج 1 ص 305.
(5). في ب وج وز وط: رتبهم.
نفسه
فليس بجائز لنا في آبائنا الأدنين إلينا، المماثلين لنا، فكيف في أبينا الأقدم
الأعظم الأكرم النبي المقدم، الذي عذره الله سبحانه وتعالى وتاب عليه وغفر له.
قلت: وإذا كان هذا في المخلوق لا يجوز، فالأخبار عن صفات الله عز وجل كاليد والرجل
والإصبع والجنب والنزول إلى غير ذلك أولى بالمنع، وأنه لا يجوز الابتداء بشيء من
ذلك إلا في أثناء قراءة كتابه أو سنة رسوله، ولهذا قال الامام مالك بن أنس رضي
الله عنه: من وصف شيئا من ذات الله عز وجل مثل قوله:" وَقالَتِ الْيَهُودُ
يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ" «1» [المائدة 64] فأشار بيده إلى عنقه قطعت يده،
وكذلك في السمع والبصر يقطع ذلك منه، لأنه شبه الله تعالى بنفسه. الثالثة- روى الأئمة
واللفظ [المسلم «2»] عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قال:" احتج آدم وموسى فقال موسى يا آدم أنت أبونا خيبتنا وأخرجتنا من الجنة
فقال [له «3»] آدم يا موسى اصطفاك الله عز وجل بكلامه وخط لك بيده يا موسى:
أتلومني على أمر قدره الله علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة فحج آدم موسى
ثلاثا" «4» قال المهلب قوله:" فحج آدم موسى" أي غلبه بالحجة. قال
الليث بن سعد: إنما صحت الحجة في هذه القصة لآدم على موسى عليهما السلام من أجل أن
الله تعالى قد غفر لآدم خطيئته وتاب عليه، فلم يكن لموسى أن يعيره بخطيئة قد غفرها
الله تعالى له، ولذلك قال آدم: أنت موسى الذي آتاك الله التوراة، وفيها علم كل شي،
فوجدت فيها أن الله قد قدر علي المعصية، وقدر على التوبة منها، وأسقط بذلك اللوم
عني أفتلومني أنت والله لا يلومني وبمثل هذا احتج ابن عمر على الذي قال له: إن
عثمان فر يوم أحد، فقال ابن عمر: ما على عثمان ذنب لان الله تعالى قد عفا عنه
بقوله:" وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ" «5» [آل عمران: 155]. وقد
قيل: إن آدم عليه السلام أب وليس تعييره من بره أن لو كان مما يعير به غيره، فإن
الله تبارك وتعالى يقول في الأبوين الكافرين:" وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا
مَعْرُوفاً" «6» [لقمان: 15] ولهذا إن إبراهيم عليه السلام لما قال له أبوه
وهو كافر:" لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا.
قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ" «7» [مريم: 46] فكيف بأب هو نبي قد اجتباه ربه وتاب
عليه وهدى.
__________
(1). راجع ج 6 ص 238.
(2). في الأصول: اللفظ للبخاري. والتصويب عن صحيح مسلم.
(3). من ب وج وك.
(4). ثلاثا: أي قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فحج آدم موسى) ثلاث
مرات.
(5). راجع ج 4 ص 243.
(6). راجع ج 14 ص 63.
(7). راجع ص 111 من هذا الجزء. [.....]
قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126) وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127)
الرابعة-
وأما من عمل الخطايا ولم تأته المغفرة، فإن العلماء مجمعون على أنه لا يجوز له أن
يحتج بمثل حجة آدم، فيقول تلومني على أن قتلت أو زنيت أو سرقت وقد قدر الله على
ذلك، والامة مجمعة على جواز حمد المحسن على إحسانه، ولوم المسيء على إساءته،
وتعديد ذنوبه عليه. الخامسة- قوله تعالى:" فَغَوى 20: 121" أي ففسد عليه
عيشه، حكاه النقاش وأختاره القشيري. وسمعت شيخنا الأستاذ المقرئ أبا جعفر القرطبي
يقول:" فَغَوى 20: 121" ففسد عيشه بنزوله إلى الدنيا، والغي الفساد، وهو
تأويل حسن وهو أولى من تأويل من يقول:" فَغَوى 20: 121" معناه ضل، من
الغي الذي هو ضد الرشد. وقيل: معناه جهل موضع رشده، أي جهل أن تلك الشجرة هي التي
نهى عنها، والغي الجهل. وعن بعضهم" فَغَوى 20: 121"" فبشم من كثرة
الأكل، الزمخشري: وهذا وإن صح على لغة من يقلب الياء المكسورة ما قبلها ألفا، فيقول
في فنى وبقي: فنى وبقي وهم بنو طي- تفسير خبيث. السادسة- قال القشيري أبو نصر قال
قوم يقال: عصى آدم وغوى ولا يقال له عاص ولا غاو كما أن من خاط مرة يقال له: خاط
ولا يقال له خياط ما لم يتكرر منه الخياطة. وقيل: يجوز للسيد أن يطلق في عبده عند
معصيته ما لا يجوز لغيره أن يطلقه، وهذا تكلف، وما أضيف من هذا إلى الأنبياء فإما
أن تكون صغائر، أو ترك الاولى، أو قبل النبوة. قلت: هذا حسن. قال الامام أبو بكر
بن فورك رحمه الله تعالى: كان هذا من آدم قبل النبوة، ودليل ذلك قوله تعالى:"
ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى 20: 122" فذكر أن الاجتباء
والهداية كانا بعد العصيان، وإذا كان هذا قبل النبوة فجائز عليهم الذنوب وجها
واحدا، لان قبل النبوة لا شرع علينا في تصديقهم، فإذا بعثهم الله تعالى إلى خلقه
وكانوا مأمونين في الأداء معصومين لم يضر ما قد سلف منهم من الذنوب. وهذا نفيس
والله أعلم.
[سورة طه (20): الآيات 123 الى 127]
قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا
يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى
(123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ
يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (124) قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ
كُنْتُ بَصِيراً (125) قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ
الْيَوْمَ تُنْسى (126) وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ
رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى (127)
قوله
تعالى: (قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً) 20: 123 خطاب آدم وإبليس."
مِنْها" أي من الجنة. وقد قال لإبليس:" اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً
مَدْحُوراً" [الأعراف 18] فلعله أخرج من الجنة إلى موضع من السماء، ثم أهبط
إلى الأرض. (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) تقدم في (البقرة) «1» أي أنت عدو للحية
ولإبليس وهما عدوان لك. وهذا يدل على أن قوله:" اهْبِطا 20: 123" ليس
خطابا لآدم وحواء، لأنهما ما كانا متعاديين، وتضمن هبوط آدم هبوط حواء. (فَإِمَّا
يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً) أي رشدا وقولا حقا. وقد تقدم في (البقرة) «2».
(فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ) يعني الرسل والكتب. (فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى ) 20: 123
قال ابن عباس: ضمن الله تعالى لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه ألا يضل في الدنيا، ولا
يشقى في الآخرة، وتلا الآية. وعنه: من قرأ القرآن واتبع ما فيه هداه الله من
الضلالة، ووقاه يوم القيامة سوء الحساب، ثم تلا الآية. (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ
ذِكْرِي) 20: 124
أي ديني، وتلاوة كتابي، والعمل بما فيه. وقيل: عما أنزلت من الدلائل. ويحتمل أن
يحمل الذكر على الرسول، لأنه كان منه الذكر. (فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً) 20:
124 أي عيشا ضيقا، يقال: منزل ضنك وعيش ضنك يستوي فيه الواحد والاثنان والمذكر
والمؤنث والجمع، قال عنترة:
إن يلحقوا أكرر وإن يستحلموا ... أشدد وإن يلفوا بضنك أنزل
وقال أيضا:
إن المنية لو تمثل مثلت ... مثلي إذا نزلوا بضنك المنزل
وقرى:" ضنكى" على وزن فعلى: ومعنى ذلك أن الله عز وجل جعل مع الدين
التسليم والقناعة والتوكل عليه وعلى قسمته، فصاحبه ينفق مما رزقه الله- عز وجل-
بسماح وسهولة
__________
(1). راجع ج 1 ص 319 فما بعد.
(2). راجع ج 1 ص 328 فما بعد.
ويعيش
عيشا رافغا «1»، كما قال الله تعالى:" فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً
طَيِّبَةً" «2» [النحل 97]. والمعرض عن الدين مستول عليه الحرص الذي لا يزال
يطمح به إلى الازدياد من الدنيا، مسلط عليه الشح، الذي يقبض يده عن الإنفاق، فعيشه
ضنك، وحاله مظلمة، كما قال بعضهم: لا يعرض أحد عن ذكر ربه إلا أظلم عليه وقته
وتشوش عليه رزقه، وكان في عيشة ضنك. وقال عكرمة:" ضَنْكاً 20: 124" كسبا
حراما. الحسن: طعام الضريع والزقوم. وقول رابع وهو الصحيح أنه عذاب القبر، قاله
أبو سعيد الخدري وعبد الله بن مسعود، ورواه أبو هريرة مرفوعا عن النبي صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد ذكرناه في كتاب" التذكرة"، قال أبو
هريرة: يضيق على الكافر قبره حتى تختلف فيه أضلاعه، وهو المعيشة الضنك.
(وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى ) 20: 124 قيل: أعمى في حال وبصيرا في
حال، وقد تقدم في آخر" سبحان" «3» [الاسراء 1] وقيل: أعمى عن الحجة،
قاله مجاهد. وقيل: أعمى عن جهات الخير، لا يهتدي لشيء منها. وقيل: عن الحيلة في
دفع العذاب عن نفسه، كالأعمى الذي لا حيلة له فيما لا يراه. (قالَ رَبِّ لِمَ
حَشَرْتَنِي أَعْمى ) 20: 125 أي بأي ذنب عاقبتني بالعمى. (وَقَدْ كُنْتُ
بَصِيراً) 20: 125 أي في الدنيا، وكأنه يظن أنه لا ذنب له. وقال ابن عباس ومجاهد:
أي" لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى 20: 125" عن حجتي" وَقَدْ كُنْتُ
بَصِيراً 20: 125" أي عالما بحجتي، القشيري: وهو بعيد إذ ما كان للكافر حجة
في الدنيا. (قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا) 20: 126 أي قال الله تعالى له"
كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا 20: 126" أي دلالاتنا «4» على وحدانيتنا وقدرتنا.
(فَنَسِيتَها) 20: 126 أي تركتها ولم تنظر فيها، وأعرضت عنها. (وَكَذلِكَ
الْيَوْمَ تُنْسى ) 20: 126 أي تترك في العذاب، يريد جهنم. (وَكَذلِكَ نَجْزِي
مَنْ أَسْرَفَ) 20: 127 أي وكما جزينا من أعرض عن القرآن، وعن النظر في المصنوعات،
والتفكير فيها، وجاوز الحد في المعصية. (وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ) 20: 127
أي لم يصدق بها. (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ) 20: 127 أي أفظع من المعيشة
الضنك، وعذاب القبر. (وَأَبْقى ) أي أدوم وأثبت، لأنه لا ينقطع ولا ينقضي.
__________
(1). عيش أرفغ ورافغ ورفيغ.
(2). راجع ج 10 ص 174.
(3). راجع ج 10 ص 333.
(4). في ك: دلائلنا.
أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (128) وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130)
[سورة
طه (20): الآيات 128 الى 130]
أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي
مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (128) وَلَوْ لا كَلِمَةٌ
سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129) فَاصْبِرْ عَلى ما
يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ
غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ
تَرْضى (130)
قوله تعالى: (أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ) 20: 128 يريد أهل مكة، أي أفلم يتبين لهم
خبر من أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إذا سافروا وخرجوا في التجارة طلب
المعيشة، فيرون بلاد الأمم الماضية، والقرون الخالية خاوية، أي أفلا يخافون أن يحل
بهم مثل ما حل بالكفار قبلهم. وقرا ابن عباس والسلمى وغيرهما:" نهد لهم"
بالنون وهي أبين. و" يَهْدِ 100" بالياء مشكل لأجل الفاعل، فقال الكوفيون:"
كَمْ" الفاعل، النحاس: وهذا خطأ لان" كم" استفهام فلا يعمل فيها ما
قبلها وقال الزجاج: المعنى أو لم يهد لهم الامر بإهلاكنا من أهلكنا. وحقيقة"
يهد" على الهدى، فالفاعل هو الهدى تقديره: أفلم يهد الهدى لهم. قال
الزجاج:" كَمْ" في موضع نصب ب"- أَهْلَكْنا". قوله تعالى:
(وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً) 20: 129 فيه تقديم
وتأخير، أي ولولا كلمة سبقت من ربك وأجل مسمى لكان لزاما، قاله قتادة. واللزام
الملازمة، أي لكان العذاب لازما لهم. وأضمر اسم كان. قال الزجاج: (وَأَجَلٌ
مُسَمًّى) عطف على" كَلِمَةٌ". قتادة: والمراد القيامة، وقاله القتبي
وقيل: تأخيرهم إلى يوم بدر. قوله تعالى: (فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) 20: 130
أمره تعالى بالصبر على أقوالهم: إنه ساحر، إنه كاهن، إنه كذاب، إلى غير ذلك.
والمعنى: لا تحفل بهم، فإن لعذابهم وقتا مضروبا لا يتقدم ولا يتأخر. ثم قيل: هذا
منسوخ بآية القتال. وقيل: ليس منسوخا، إذ لم يستأصل الكفار بعد آية القتال بل بقي
المعظم منهم.
وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132)
قوله
تعالى: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ) 20: 130 قال أكثر
المتأولين: هذا إشارة إلى الصلوات الخمس" قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ 20:
130" صلاة الصبح (وَقَبْلَ غُرُوبِها) 20: 130 صلاة العصر (وَمِنْ آناءِ
اللَّيْلِ) 20: 130 العتمة (وَأَطْرافَ النَّهارِ) 20: 130 المغرب والظهر، لان
الظهر في آخر طرف النهار الأول، وأول طرف النهار الآخر، فهي في طرفين منه، والطرف
الثالث غروب الشمس وهو وقت المغرب. وقيل: النهار ينقسم قسمين فصلهما الزوال، ولكل
قسم طرفان، فعند الزوال طرفان، الآخر من القسم الأول والأول من القسم الآخر، فقال
عن الطرفين أطرافا على نحو" فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما" «1» [التحريم:
4] وأشار إلى هذا النظر ابن فورك في المشكل. وقيل: النهار للجنس فلكل يوم طرف، وهو
إلى جمع لأنه يعود في كل نهار. و" آناءِ اللَّيْلِ" ساعاته وواحد الآناء
إني وإني وأنى. وقالت فرقة: المراد بالآية صلاة التطوع، قاله الحسن. قوله تعالى:
(لَعَلَّكَ تَرْضى ) 20: 130 بفتح التاء، أي لعلك تثاب على هذه الأعمال بما ترضى
به. وقرا الكسائي وأبو بكر عن عاصم" ترضى" بضم التاء، أي لعلك تعطى ما
يرضيك.
[سورة طه (20): الآيات 131 الى 132]
وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ
الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى (131)
وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ
نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى (132)
قوله تعالى: (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ) 20: 131 وقد
تقدم معناه في (الحجر) «2»." أَزْواجاً" مفعول ب"-
مَتَّعْنا". و" زَهْرَةَ 20: 131" نصب على الحال. وقال
الزجاج:" زَهْرَةَ 20: 131" منصوبة بمعنى" مَتَّعْنا" لان
معناه جعلنا لهم الحياة الدنيا زهرة، أو بفعل مضمر وهو" جعلنا" أي جعلنا
لهم زهرة الحياة الدنيا، عن الزجاج أيضا. وقيل: هي بدل من الهاء في"
بِهِ" على الموضع كما تقول: مررت به أخاك. وأشار الفراء إلى نصبه على الحال،
والعامل فيه" مَتَّعْنا" قال: كما تقول مررت به المسكين، وقدره: متعناهم
به زهرة في الحياة الدنيا وزينة فيها. ويجوز أن ينتصب على المصدر مثل" صُنْعَ
اللَّهِ" و" وَعَدَ اللَّهُ" وفيه
__________
(1). راجع ج 18 ص 188.
(2). راجع ج 10 ص 56 فما بعد.
نظر.
والأحسن أن ينتصب على الحال ويحذف التنوين لسكونه وسكون اللام من الحياة، كما
قرئ:" ولا الليل سابق النهار" «1» بنصب النهار بسابق على تقدير حذف
التنوين لسكونه وسكون اللام، وتكون" الحياة" مخفوضة على البدل من"
ما" في قوله:" إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ" فيكون التقدير: ولا تمدن
عينيك إلى الحياة الدنيا زهرة أي في حال زهرتها. ولا يحسن أن يكون"
زهرة" بدلا من" ما" على الموضع في قوله:" إِلى ما
مَتَّعْنا" لان" لِنَفْتِنَهُمْ 20: 131" متعلق ب"-
مَتَّعْنا" و" زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا 20: 131" يعني زينتها
بالنبات. والزهرة، بالفتح في الزاي والهاء نور النبات. والزهرة بضم الزاي وفتح
الهاء النجم. وبنو زهرة بسكون الهاء، قاله ابن عزيز. وقرا عيسى بن عمر"
زهرة" بفتح الهاء مثل نهر ونهر. ويقال: سراج زاهر أي له بريق. وزهر الأشجار
ما يروق من ألوانها. وفي الحديث: كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أزهر اللون أي نير اللون، يقال لكل شي مستنير: زاهر، وهو أحسن الألوان.
(لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) 20: 131 أي لنبتليهم. وقيل: لنجعل ذلك فتنة لهم وضلالا، ومعنى
الآية: لا تجعل يا محمد لزهرة الدنيا وزنا، فإنه لا بقاء لها." وَلا
تَمُدَّنَّ 20: 131" أبلغ من لا تنظرن، لان الذي يمد بصره، إنما يحمله على
ذلك حرص مقترن، والذي ينظر قد لا يكون ذلك معه: مسألة: قال بعض الناس سبب نزول هذه
الآية ما رواه أبو رافع مولى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال:
نزل ضيف برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأرسلني عليه السلام إلى
رجل من اليهود، وقال قل له يقول لك محمد: نزل بنا ضيف ولم يلف عندنا بعض الذي
يصلحه، فبعني كذا وكذا من الدقيق، أو أسلفني إلى هلال رجب فقال: لا، إلا برهن:
قال: فرجعت إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبرته فقال:"
والله إني لأمين في السماء أمين في الأرض ولو أسلفني أو باعني لأديت إليه اذهب
بدرعي إليه" ونزلت الآية تعزية له عن الدنيا. قال ابن عطية: وهذا معترض أن
يكون سببا، لان السورة مكية والقصة المذكورة مدنية في آخر عمر النبي صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأنه مات ودرعه مرهونة عند يهودي بهذه القصة التي
ذكرت، وإنما الظاهر أن الآية متناسقة مع ما قبلها، وذلك أن الله تعالى
__________
(1). راجع ج 15 ص 32 فما بعد.
وبخهم
على ترك الاعتبار بالأمم السالفة ثم توعدهم بالعذاب المؤجل، ثم أمر نبيه بالاحتقار
لشأنهم، والصبر على أقوالهم، والاعراض عن أموالهم وما في أيديهم من الدنيا، إذ ذلك
منصرم عنهم صائر إلى خزي. قلت: وكذلك ما روى عنه عليه السلام أنه مر بإبل بني
المصطلق وقد عبست «1» في أبوالها [وأبعارها «2»] من السمن فتقنع بثوبه ثم مضى،
لقوله عز وجل:" وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً
مِنْهُمْ 20: 131" الآية. ثم سلاه فقال:" وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ
وَأَبْقى 20: 131" أي ثواب الله على الصبر وقلة المبالاة بالدنيا أولى، لأنه
يبقى والدنيا تفنى. وقيل: يعني بهذا الرزق ما يفتح الله على المؤمنين من البلاد
والغنائم. قوله تعالى: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ) 20: 132 أمره تعالى بأن
يأمر أهله بالصلاة ويمتثلها معهم، ويصطبر عليها ويلازمها: وهذا الخطاب للنبي
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويدخل في عمومه جميع أمته، واهل بيته على
التخصيص. وكان عليه السلام بعد نزول هذه الآية يذهب كل صباح إلى بيت فاطمة وعلى
رضوان الله عليهما فيقول" الصلاة". ويروى أن عروة بن الزبير رضى الله
عنه كان إذا رأى شيئا من أخبار السلاطين وأحوالهم بادر إلى منزله فدخله، وهو
يقرأ" وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ 20: 131" الآية إلى قوله:"
وَأَبْقى 20: 71" ثم ينادي بالصلاة: الصلاة يرحمكم الله، ويصلي: وكان عمر بن
الخطاب رضي الله عنه يوقظ أهل داره لصلاة الليل ويصلي وهو يتمثل بالآية. قوله
تعالى: (لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً) 20: 132 أي لا نسئلك أن ترزق نفسك وإياهم، وتشتغل
عن الصلاة بسبب الرزق، بل نحن نتكفل برزقك وإياهم، فكان عليه السلام إذا نزل بأهله
ضيق أمرهم بالصلاة. وقد قال الله تعالى" وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ
إِلَّا لِيَعْبُدُونِ. ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ
يُطْعِمُونِ. إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ" «3» [الذاريات 56]. قوله
تعالى: (وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى ) 20: 132 أي الجنة لأهل التقوى، يعني العاقبة
المحمودة وقد تكون لغير التقوى عاقبة ولكنها مذمومة فهي كالمعدومة،
__________
(1). عبست في أبوالها: هو أن تجف أبوالها وأبعارها على أفخاذها وذلك إنما يكون من
الشحم.
(2). الزيادة من (النهاية) لابن الأثير.
(3). راجع ج 17 ص 55.
وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى (133) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى (134) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى (135)
[سورة
طه (20): الآيات 133 الى 135]
وَقالُوا لَوْ لا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ
ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى (133) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ
قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ
آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى (134) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ
فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى
(135)
قوله تعالى: (وَقالُوا لَوْ لا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ) 20: 133 يريد كفار
مكة، أي لولا يأتينا محمد بآية توجب العلم الضروري. أو بآية ظاهرة كالناقة والعصا.
أو هلا يأتينا بالآيات التي نقترحها نحن كما أتى الأنبياء من قبله: قال الله
تعالى: (أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى ) 20: 133 يريد
التوراة والإنجيل والكتب المتقدمة، وذلك أعظم آية إذ أخبر بما فيها. وقرى"
الصحف" بالتخفيف. وقيل: أو لم تأتيهم الآية الدالة على نبوته بما وجدوه في
الكتب المتقدمة من البشارة. وقيل: أو لم يأتهم إهلاكنا الأمم الذين كفروا واقترحوا
الآيات، فما يؤمنهم إن أتتهم الآيات أن يكون حالهم حال أولئك. وقرا أبو جعفر وشيبة
ونافع وأبو عمرو ويعقوب وابن أبي إسحاق وحفص:" أولم تأتيهم" بالتاء
لتأنيث البينة. الباقون بالياء لتقدم الفعل ولان البينة هي البيان والبرهان فردوه
إلى المعنى، وأختاره أبو عبيد وأبو حاتم. وحكى الكسائي" أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ
بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى 20: 133" قال: ويجوز على هذا" بينة
ما في الصحف الاولى". قال النحاس إذا نونت" بَيِّنَةُ" ورفعت
جعلت" ما" بدلا منها وإذا نصبتها فعلى الحال، والمعنى: أو لم يأتهم ما
في الصحف الاولى مبينا. قوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ
قَبْلِهِ) 20: 134 أي من قبل بعثة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونزول
القرآن (لَقالُوا) أي يوم القيامة (رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا)
20: 134 أي هلا أرسلت إلينا رسولا. (فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ
وَنَخْزى ) 20: 134 وقرى:" نَذِلَّ وَنَخْزى 20: 134" على
ما
لم يسم فاعله. وروى أبو سعيد الخدري قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ في الهالك في الفترة والمعتوه والمولود قال: (يقول الهالك في الفترة لم
يأتني كتاب ولا رسول- ثم تلا-" وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ
قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا 20: 134"-
الآية- ويقول المعتوه رب لم تجعل لي عقلا أعقل به خيرا ولا شرا ويقول المولود رب
لم أدرك العمل فترفع لهم نار فيقول لهم ردوها وادخلوها- قال- فيردها أو يدخلها من
كان في علم الله سعيدا لو أدرك العمل ويمسك عنها من كان في علم الله شقيا لو أدرك
العمل [قال «1»] فيقول الله تبارك وتعالى إياك عصيتم فكيف رسلي لو أتتكم (. ويروى
موقوفا عن أبي سعيد قوله وفية نظر وقد بيناه في كتاب" التذكرة" وبه احتج
من قال: إن الأطفال وغيرهم يمتحنون في الآخرة." فَنَتَّبِعَ" 20: 134
نصب بجواب التخصيص." آياتِكَ" يريد ما جاء به محمد صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ." مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ 20: 134" أي في
العذاب" وَنَخْزى 20: 134" في جهنم، قاله ابن عباس. وقيل:" مِنْ
قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ 20: 134" في الدنيا بالعذاب" وَنَخْزى 20:
134" في الآخرة بعذابها. (قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ) 20: 135 أي قل لهم يا محمد
كل متربص، أي كل المؤمنين والكافرين منتظر دوائر الزمان ولمن يكون النصر.
(فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ
اهْتَدى ) 20: 135 يريد الدين المستقيم والهدى والمعنى: فستعلمون بالنصر من اهتدى
إلى دين الحق. وقيل: فستعلمون يوم القيامة من اهتدى إلى طريق الجنة. وفي هذا ضرب
من الوعيد والتخويف والتهديد ختم به السورة. وقرى" فسوف تعلمون". قال
أبو رافع: حفظته من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ذكره الزمخشري.
و" من" في موضع رفع عند الزجاج. وقال الفراء: يجوز أن يكون في موضع نصب
مثل." والله يعلم المفسد من المصلح" «2». قال أبو إسحاق: هذا خطأ، لان
الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله، و" من" ها هنا استفهام في موضع رفع
بالابتداء، والمعنى: فستعلمون أصحاب الصراط السوي نحن أم أنتم؟. قال النحاس:
والفراء يذهب إلى أن معنى." مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ 20:
135" من لم يضل وإلى أن معنى." وَمَنِ اهْتَدى 20: 135
" من ضل ثم اهتدى. وقرا يحيى بن يعمر وعاصم الجحدري" فسيعلمون من أصحاب
__________
(1). من ب وج وز وط وك وى.
(2). راجع ج 3 ص 66. [.....]
اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3)
الصراط
السوا" بتشديد الواو بعدها ألف التأنيث على فعلى بغير همزة، وتأنيث الصراط
شاذ قليل، قال الله وتعالى:" اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ" «1»
[الفاتحة: 6] فجاء مذكرا في هذا وفي غيره، وقد رد هذا أبو حاتم قال: إن كان من
السوء وجب أن يقال السوأى وإن كان من السواء وجب أن يقال: السيا بكسر السين والأصل
السويا. قال الزمخشري: وقرى" السواء" بمعنى الوسط والعدل، أو المستوي.
النحاس وجواز قراءة يحيى بن يعمر والجحدري أن يكون الأصل" السوأى"
والساكن ليس بحاجز حصين، فكأنه قلب الهمزة ضمة فأبدل منها واوا كما يبدل منها ألف
إذا انفتح ما قبلها. تمت والحمد لله وحده.
[سورة الأنبياء]
سورة الأنبياء مكية في قول الجميع وهي مائة واثنتا عشرة آية بِسْمِ اللَّهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الأنبياء (21): الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) ما
يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ
يَلْعَبُونَ (2) لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا
هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ
تُبْصِرُونَ (3)
قوله تعالى: (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ) قال عبد الله بن مسعود: الكهف ومريم
وطه والأنبياء من العتاق الأول، وهن من تلادي يريد من قديم ما كسب وحفظ من القرآن
كالمال التلاد. وروي أن رجلا من أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كان يبني جدارا فمر به آخر في يوم نزول هذه السورة، فقال الذي كان يبني
الجدار: ماذا نزل اليوم من القرآن؟ فقال الآخر: نزل" اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ
حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ" فنفض يده من البنيان، وقال:
والله لا بنيت أبدا وقد اقترب الحساب." اقْتَرَبَ" أي قرب الوقت
__________
(1). راجع ج 1 ص 146 فما بعد.
الذي
يحاسبون فيه على أعمالهم." لِلنَّاسِ" قال ابن عباس: المراد بالناس هنا
المشركون بدليل قوله تعالى:" إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ"
إلى قوله:" أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ". وقيل:
الناس عموم وإن كان المشار إليه في ذلك الوقت كفار قريش، يدل على ذلك ما بعد من
الآيات، ومن علم اقتراب الساعة قصر أمله، وطابت نفسه بالتوبة، ولم يركن إلى
الدنيا، فكأن ما كان لم يكن إذا ذهب، وكل آت قريب، والموت لا محالة آت، وموت كل
إنسان قيام ساعته، والقيامة أيضا قريبة بالإضافة إلى ما مضى من الزمان، فما بقي من
الدنيا أقل مما مضى. وقال الضحاك: معنى" اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ"
أي عذابهم يعني أهل مكة، لأنهم استبطئوا ما وعدوا به من العذاب تكذيبا، وكان قتلهم
يوم بدر. النحاس ولا يجوز في الكلام اقترب حسابهم للناس، لئلا يتقدم مضمر على مظهر
لا يجوز أن ينوي به التأخير. (وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ) ابتداء وخبر.
ويجوز النصب في غير القرآن على الحال. وفيه وجهان: أحدهما:" وَهُمْ فِي
غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ" يعني بالدنيا عن الآخرة. الثاني- عن التأهب للحساب
وعما جاء به محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وهذه الواو عند سيبويه
بمعنى" إذ" وهي التي يسميها النحويون واو الحال، كما قال الله تبارك وتعالى:"
يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ" «1»
[آل عمران: 154]. قوله تعالى: (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ
مُحْدَثٍ)" مُحْدَثٍ" نعت ل"- ذِكْرٍ". وأجاز الكسائي
والفراء" محدثا" بمعنى ما يأتيهم محدثا، نصب على الحال. وأجاز الفراء
أيضا رفع" مُحْدَثٍ" على النعت للذكر، لأنك لو حذفت" مِنْ"
رفعت ذكرا، أي ما يأتيهم ذكر من ربهم محدث، يريد في النزول وتلاوة جبريل على النبي
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإنه كان ينزل سورة بعد سورة، وآية بعد آية،
كما كان ينزله الله تعالى عليه في وقت بعد وقت، لا أن القرآن مخلوق. وقيل: الذكر
ما يذكرهم به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويعظهم به. وقال:"
مِنْ رَبِّهِمْ" لان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا ينطق إلا
بالوحي، فوعظ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتحذيره ذكر، وهو محدث، قال
الله تعالى:" فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ" «2» [الغاشية: 21].
ويقال: فلان في مجلس
__________
(1). راجع ج 4 ص 242.
(2). راجع ج 20 ص 37.
الذكر.
وقيل: الذكر الرسول نفسه، قاله الحسين بن الفضل بدليل ما في سياق الآية" هَلْ
هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ" [الأنبياء: 3] ولو أراد بالذكر القرآن لقال:
هل هذا إلا أساطير الأولين، ودليل هذا التأويل قوله تعالى:" وَيَقُولُونَ
إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ. وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ" «1» [القلم:
52- 51] يعني محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقال:" قَدْ أَنْزَلَ
اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً. رَسُولًا 10" [الطلاق: 11- 10]." إِلَّا
اسْتَمَعُوهُ" يعني محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو القرآن من
النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو من أمته." وَهُمْ يَلْعَبُونَ"
الواو واو الحال يدل عليه" لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ" ومعنى."
يَلْعَبُونَ" أي يلهون. وقيل: يشتغلون، فإن حمل تأويله على اللهو احتمل ما
يلهون به وجهين: أحدهما: بلذاتهم. الثاني: بسماع ما يتلى عليهم. وإن حمل تأويله
على الشغل احتمل ما يتشاغلون به وجهين: أحدهما- بالدنيا لأنها لعب، كما قال الله
تعالى:" إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ" «2» [محمد: 36].
الثاني: يتشاغلون بالقدح فيه، والاعتراض عليه. قال الحسن: كلما جدد لهم الذكر
استمروا على الجهل وقيل. يستمعون القرآن مستهزئين. قوله تعالى: (لاهِيَةً
قُلُوبُهُمْ) أي ساهية قلوبهم، معرضة عن ذكر الله، متشاغلة عن التأمل والتفهم، من
قول العرب: لهيت عن ذكر الشيء إذا تركته وسلوت عنه ألهى لهيا ولهيانا. و"
لاهِيَةً" نعت تقدم الاسم، ومن حق النعت أن يتبع المنعوت في جميع الاعراب،
فإذا تقدم النعت الاسم انتصب كقوله:" خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ" [القلم: 43]
و" وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها" «3» [الإنسان: 14] و" لاهِيَةً
قُلُوبُهُمْ" قال الشاعر:
لعزة موحشا طلل ... يلوح «4» كأنه خلل
أراد: طلل موحش. وأجاز الكسائي والفراء" لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ" بالرفع
بمعنى قلوبهم لاهية. وأجاز غيرهما: الرفع على أن يكون خبرا بعد خبر وعلى إضمار
مبتدأ. وقال الكسائي: ويجوز أن يكون المعنى، إلا استمعوه لاهية قلوبهم.
(وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) أي تناجوا فيما بينهم بالتكذيب، ثم
بين من هم فقال:" الَّذِينَ ظَلَمُوا" أي الذين أشركوا، ف"-
الَّذِينَ ظَلَمُوا" بدل من الواو في" أَسَرُّوا" وهو عائد على
الناس المتقدم ذكرهم، ولا يوقف على هذا
__________
(1). راجع ج 18 ص 255 فما بعد وص 297
(2). راجع ج 16 ص 257
(3). راجع ج 19 ص 136
(4). هو كثير عزة أي تلوح آثاره وتتبين تبين الوشي في خلل السيوف، وهي أغشية
الأغماد واحدتها خلة.
القول
على" النَّجْوَى 20: 62". قال المبرد وهو كقولك: إن الذين في الدار
انطلقوا بنو عبد الله فبنو بدل من الواو في انطلقوا. وقيل: هو رفع على الذم، أي هم
الذين ظلموا: وقيل: على حذف القول، التقدير: يقول الذين ظلموا وحذف القول،
مثل" وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ
عَلَيْكُمْ" [الرعد: 24- 23]. واختار هذا القول النحاس، قال: والدليل على صحة
هذا الجواب أن بعده" هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ" [الأنبياء: 3].
وقول رابع: يكون منصوبا بمعنى أعني الذين ظلموا: وأجاز الفراء أن يكون خفضا بمعنى
اقترب للناس الذين ظلموا حسابهم، ولا يوقف على هذا الوجه على" النَّجْوَى 20:
62" ويوقف على الوجوه الثلاثة المتقدمة قبله، فهذه خمسة أقوال: وأجاز الأخفش
الرفع على لغة من قال: أكلوني البراغيث، وهو حسن، قال الله تعالى:" ثُمَّ
عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ" «1» [المائدة: 71]: وقال الشاعر:
بك نال النضال دون المساعي ... فاهتدين النبال للأغراض
وقال آخر: «2»
ولكن ديافي أبوه وأمه ... بحوران يعصرن السليط أقاربه
وقال الكسائي: فيه تقديم وتأخير، مجازه: والذين ظلموا أسروا النجوى. أبو
عبيدة:" أَسَرُّوا" هنا من الأضداد، فيحتمل أن يكونوا أخفوا كلامهم،
ويحتمل أن يكونوا أظهروه وأعلنوه: قوله تعالى: (هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ
مِثْلُكُمْ) أي تناجوا بينهم وقالوا: هل هذا الذكر الذي هو الرسول، أو هل هذا الذي
يدعوكم إلا بشر مثلكم، لا يتميز عنكم بشيء، يأكل الطعام، ويمشي في الأسواق كما تفعلون:
وما علموا أن الله عز وجل بين أنه لا يجوز أن يرسل إليهم إلا بشرا ليتفهموا
ويعلمهم: (أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ) أي إن الذي جاء به محمد صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سحر، فكيف تجيئون إليه وتتبعونه؟ فأطلع الله نبيه عليه السلام
على ما تناجوا به: و" السِّحْرَ 10" في اللغة كل مموه لا حقيقة له ولا
صحة. (وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ). [قيل معناه «3»" وَأَنْتُمْ
تُبْصِرُونَ" [أنه إنسان مثلكم مثل:" وأنتم تعقلون" لان العقل
البصر بالأشياء. وقيل: المعنى، أفتقبلون السحر وأنتم تعلمون أنه سحر: وقيل:
المعنى، أفتعدلون إلى الباطل وأنتم تعرفون الحق، ومعنى الكلام التوبيخ.
__________
(1). راجع ج 6 ص 247.
(2). هو الفرزدق يهجو عمرو بن عفراء. ودياف: موضع بالجزيرة، وهم نبط الشام.
والسليط، الزيت.
(3). من ب وج وز وط وك وى.
قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4) بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5) مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6)
[سورة
الأنبياء (21): الآيات 4 الى 6]
قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ
الْعَلِيمُ (4) بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ
فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5) ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ
قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6)
قوله تعالى: (قالَ «1» رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ) أي
لا يخفي عليه شي مما يقال في السماء والأرض. وفي مصاحف أهل الكوفة" قالَ
رَبِّي" أي قال محمد ربي يعلم القول، أي هو عالم بما تناجيتم به. وقيل: إن
القراءة الاولى أولي لأنهم أسروا هذا القول فأظهر الله عز وجل عليه نبيه صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأمره أن يقول لهم هذا، قال النحاس: والقراءتان
صحيحتان وهما بمنزلة الآيتين، وفيهما من الفائدة أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أمر وأنه قال كما أمر. قوله تعالى: (بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ) قال
الزجاج: أي قالوا الذي يأتي به أضغاث أحلام. وقال غيره: أي قالوا هو أخلاط
كالاحلام المختلطة، أي أهاويل رآها في المنام، قال معناه مجاهد وقتادة، ومنه قول
الشاعر:
كضغث حلم غر منه حالمه
وقال القتبي: إنها الرؤيا الكاذبة، وفية قول الشاعر:
أحاديث طسم أو سراب بفدفد ... ترقرق للساري وأضغاث حالم
وقال اليزيدي: الأضغاث ما لم يكن له تأويل. وقد مضى هذا في" يوسف" «2».
فلما رأوا أن الامر ليس كما قالوا انتقلوا عن ذلك فقالوا: (بَلْ قالُوا) ثم
انتقلوا عن ذلك فقالوا:" بَلْ هُوَ شاعِرٌ" أي هم متحيرون لا يستقرون
على شي: قالوا مرة سحر، ومرة أضغاث أحلام، ومرة افتراه، ومرة شاعر. وقيل: أي قال
فريق إنه ساحر: وفريق إنه أضغاث أحلام، وفريق إنه افتراه، وفريق إنه شاعر.
والافتراء الاختلاق، وقد تقدم.
__________
(1). (قل) على الامر قراءة (نافع).
(2). راجع ج 9 ص 200 فما بعد.
وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7) وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ (8) ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9) لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (10)
(فَلْيَأْتِنا
بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ) أي كما أرسل موسى بالعصا وغيرها من الآيات
ومثل ناقة صالح. وكانوا عالمين بأن القرآن ليس بسحر ولا رؤيا ولكن قالوا: ينبغي أن
يأتي بآية نقترحها، ولم يكن لهم الاقتراح بعد ما رأوا آية واحدة. وأيضا إذا لم
يؤمنوا بآية هي من جنس ما هم أعلم الناس به، ولا مجال للشبهة فيها فكيف يؤمنون
بآية غيرها، ولو أبرأ الأكمه والأبرص لقالوا: هذا من باب الطب، وليس ذلك من
صناعتنا، وإنما كان سؤالهم تعنتا إذ كان الله أعطاهم من الآيات ما فيه كفاية. وبين
الله عز وجل أنهم لو كانوا يؤمنون لأعطاهم ما سألوه لقوله عز وجل:" وَلَوْ
عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا
وَهُمْ مُعْرِضُونَ" «1» [الأنفال: 23]. قوله تعالى: (ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ
مِنْ قَرْيَةٍ) قال ابن عباس: يريد قوم صالح وقوم فرعون. (أَهْلَكْناها) يريد كان
في علمنا هلاكها: (أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ) يريد يصدقون، أي فما آمنوا بالآيات فاستؤصلوا
فلو رأى هؤلاء ما اقترحوا لما آمنوا، لما سبق من القضاء بأنهم لا يؤمنون أيضا،
وإنما تأخر عقابهم لعلمنا بأن في أصلابهم من يؤمن: و" من" زائدة في
قوله:" مِنْ قَرْيَةٍ" كقوله:" فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ
حاجِزِينَ" «2» [الحاقة: 47]:
[سورة الأنبياء (21): الآيات 7 الى 10]
وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ
الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (7) وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا
يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ (8) ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ
فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9) لَقَدْ
أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (10)
قوله تعالى: (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي «3» إِلَيْهِمْ) هذا
رد عليهم في قولهم:" هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ" [الأنبياء: 3]
وتأنيس لنبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أي لم يرسل قبلك إلا رجالا.
__________
(1). راجع ج 7 ص 388.
(2). راجع ج 18 ص 276. [.....]
(3). (يوحى) بالياء قراءة نافع.
(فَسْئَلُوا
أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) يريد أهل التوراة والإنجيل الذين
آمنوا بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قاله سفيان: وسماهم أهل الذكر،
لأنهم كانوا يذكرون خبر الأنبياء مما لم تعرفه العرب: وكان كفار قريش يراجعون أهل
الكتاب في آمر محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وقال ابن زيد: أراد بالذكر
القرآن، أي فاسألوا المؤمنين العالمين من أهل القرآن، قال جابر الجعفي: لما نزلت
هذه الآية قال علي رضي الله عنه نحن أهل الذكر: وقد ثبت بالتواتر أن الرسل كانوا
من البشر، فالمعنى لا تبدءوا بالإنكار وبقولكم ينبغي أن يكون الرسول من الملائكة،
بل ناظروا المؤمنين ليبينوا لكم جواز أن يكون الرسول من البشر: والملك لا يسمى
رجلا، لان الرجل يقع على ماله ضد من لفظه تقول: رجل وامرأة، ورجل وصبي
فقوله:" إِلَّا رِجالًا 10" من بني آدم: وقرا حفص وحمزة والكسائي:"
نوحي إليهم". مسألة- لم يختلف العلماء أن العامة عليها تقليد علمائها، وأنهم
المراد بقول الله عز وجل:" فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا
تَعْلَمُونَ" وأجمعوا على أن الأعمى لأبد له من تقليد غيره ممن يثق بميزه
بالقبلة إذا أشكلت عليه، فكذلك من لا علم له ولا بصر بمعنى ما يدين به لا بد له من
تقليد عالمه، وكذلك لم يختلف العلماء أن العامة لا يجوز لها الفتيا، لجهلها
بالمعاني التي منها يجوز التحليل والتحريم. قوله تعالى: (وَما جَعَلْناهُمْ
جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ) الضمير في" جَعَلْناهُمْ 10: 73"
للأنبياء، أي لم نجعل الرسل قبلك خارجين عن طباع البشر لا يحتاجون إلى طعام
وشراب.- (وَما كانُوا خالِدِينَ) يريد لا يموتون وهذا جواب لقولهم:" ما هذا
إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ" [المؤمنون: 33] وقولهم:" مالِ هذَا
الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ" «1» [الفرقان: 7]. و" جَسَداً" اسم
جنس، ولهذا لم يقل أجسادا، وقيل: لم يقل أجسادا، لأنه أراد وما جعلنا كل واحد منهم
جسدا. والجسد البدن، تقول منه: تجسد كما تقول من الجسم تجسم. والجسد أيضا الزعفران
أو نحوه من الصبغ، وهو الدم أيضا، قال النابغة:
وما أهريق على الأنصاب من جسد «2»
__________
(1). راجع ج 13 ص 4.
(2). صدر البيت:
فلا لعمر الذي مسحت كعبته
أقسم بالله أولا ثم بالدماء التي كانت تصب في الجاهلية على الأنصاب.
وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (12) لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14) فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ (15)
وقال
الكلبي: والجسد هو المتجسد الذي فيه الروح يأكل ويشرب، فعلى مقتضى هذا القول يكون
ما لا يأكل ولا يشرب جسما وقال مجاهد: الجسد ما لا يأكل ولا يشرب، فعلى مقتضى هذا
القول يكون ما يأكل ويشرب نفسا ذكره الماوردي. قوله تعالى: (ثُمَّ صَدَقْناهُمُ
الْوَعْدَ) يعني الأنبياء، أي بإنجائهم ونصرهم وإهلاك مكذبيهم. (وَمَنْ نَشاءُ) أي
الذين صدقوا الأنبياء. (وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ) أي المشركين. قوله تعالى:
(لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً) 10 يعني القرآن. (فِيهِ ذِكْرُكُمْ) 10
رفع بالابتداء والجملة في موضع نصب لأنها نعت لكتاب، والمراد بالذكر هنا الشرف، أي
فيه شرفكم، مثل" وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ" «1» [الزخرف:
44]. ثم نبههم بالاستفهام الذي معناه التوقيف فقال عز وجل: (أَفَلا تَعْقِلُونَ).
وقيل: فيه ذكركم أي ذكر أمر دينكم، وأحكام شرعكم وما تصيرون إليه من ثواب وعقاب،
أفلا تعقلون هذه الأشياء التي ذكرناها؟! وقال مجاهد:" فِيهِ ذِكْرُكُمْ
10" أي حديثكم. وقيل: مكارم أخلاقكم، ومحاسن أعمالكم. وقال سهل بن عبد الله:
العمل بما فيه حياتكم. قلت: وهذه الأقوال بمعنى والأول يعمها، إذ هي شرف كلها،
والكتاب شرف لنبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأنه معجزته، وهو شرف لنا
إن عملنا بما فيه، دليله قوله عليه السلام: (القرآن حجة لك أو عليك).
[سورة الأنبياء (21): الآيات 11 الى 15]
وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً
آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ (12) لا
تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ
تُسْئَلُونَ (13) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (14) فَما زالَتْ
تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ (15)
__________
(1). راجع ج 16 ص 93 فما بعد.
قوله
تعالى: (وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً) يريد مدائن كانت باليمن.
وقال أهل التفسير والاخبار: إنه أراد أهل حضور «1» وكان بعث إليهم نبي اسمه شعيب
بن ذي مهدم، وقبر شعيب هذا باليمن بجبل يقال له ضنن «2» كثير الثلج، وليس بشعيب
صاحب مدين، لان قصة حضور قبل مدة عيسى عليه السلام، وبعد مئين من السنين من مدة
سليمان عليه السلام، وأنهم قتلوا نبيهم وقتل أصحاب الرس في ذلك التاريخ نبيا لهم
اسمه حنظلة بن صفوان، وكانت حضور بأرض الحجاز من ناحية الشام، فأوحى الله إلى
أرميا أن ايت بخت نصر فأعلمه أني قد سلطته على أرض العرب وأني منتقم بك منهم،
وأوحى الله إلى أرميا أن أحمل معد بن عدنان على البراق إلى أرض العراق، كي لا
تصيبه النقمة والبلاء معهم، فإني مستخرج من صلبه نبيا في آخر الزمان اسمه محمد،
فحمل معد وهو ابن اثنتي عشرة سنة، فكان مع بني إسرائيل إلى أن كبر وتزوج امرأة
اسمها معانة، ثم إن بخت نصر نهض بالجيوش، وكمن للعرب في مكان- وهو أول من اتخذ
المكامن فيما ذكروا- ثم شن الغارات على حضور فقتل وسبى وخرب العامر، ولم يترك
بحضور أثرا، ثم انصرف راجعا إلى السواد. و" كَمْ" في موضع نصب ب"-
قَصَمْنا". والقصم الكسر، يقال: قصمت ظهر فلان وانقصمت سنه إذا انكسرت
والمعنى به هاهنا الإهلاك. وأما الفصم (بالفاء) فهو الصدع في الشيء من غير بينونة،
قال الشاعر: «3»
كأنه دملج من فضة نبه ... في ملعب من عذارى الحي مفصوم
ومنه الحديث (فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا). وقوله:" كانَتْ ظالِمَةً"
أي كافرة، يعني أهلها. والظلم وضع الشيء في غير موضعه، وهم وضعوا الكفر موضع
الايمان. (وَأَنْشَأْنا) أي أوجدنا وأحدثنا بعد إهلاكهم (قَوْماً آخَرِينَ).
(فَلَمَّا أَحَسُّوا) أي رأوا عذابنا، يقال: أحسست منه ضعفا. وقال الأخفش:"
أَحَسُّوا" خافوا وتوقعوا. (إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ) أي يهربون ويفرون.
والركض العدو بشدة الوطي. والركض
__________
(1). وتروى حضوراء (بالألف الممدودة) وفي ح الجمل بوزن شكور.
(2). كذا في الأصول: الأب ففيه ضئن كثير الملح صححه في الهامش.
(3). هو ذو الرمة يذكر غزالا شبهه وهو نائم بدملج فضة قد طرح ونسى. ونبه: أي منسى
نسيته العذارى في الملعب.
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18)
تحريك
الرجل، ومنه قوله تعالى:" ارْكُضْ بِرِجْلِكَ" «1» [ص: 42] وركضت الفرس
برجلي استحثته ليعدو ثم كثر حتى قيل ركض الفرس إذا عدا وليس بالأصل، والصواب ركض
الفرس على ما لم يسم فاعله فهو مركوض. (لا تَرْكُضُوا) أي لا تفروا. وقيل: إن
الملائكة نادتهم لما انهزموا استهزاء بهم وقالت:" لا تَرْكُضُوا".
(وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ) أي إلى نعمكم التي كانت سبب بطركم،
والمترف المتنعم، يقال: أترف على فلان أي وسع عليه في معاشه. وإنما أترفهم الله عز
وجل كما قال:" وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا" «2»
[المؤمنون: 33]. (لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ) أي لعلكم تسألون شيئا من دنياكم،
استهزاء بهم، قاله قتادة. وقيل: المعنى" لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ" عما
نزل بكم من العقوبة فتخبرون به. وقيل: المعنى" لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ"
أي تؤمنوا كما كنتم تسألون ذلك قبل نزول البأس بكم، قيل لهم ذلك استهزاء وتقريعا
وتوبيخا. (قالُوا يا وَيْلَنا) لما قالت لهم الملائكة:" لا تَرْكُضُوا"
ونادت يا لثارات الأنبياء! ولم يروا شخصا يكلمهم عرفوا أن الله عز وجل هو الذي سلط
عليهم عدوهم بقتلهم النبي الذي بعث فيهم، فعند ذلك قالوا" يا وَيْلَنا إِنَّا
كُنَّا ظالِمِينَ" فاعترفوا بأنهم ظلموا حين لا ينفع الاعتراف. (فَما زالَتْ
تِلْكَ دَعْواهُمْ) أي لم يزالوا يقولون:" يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا
ظالِمِينَ". (حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً) أي بالسيوف كما يحصد الزرع
بالمنجل، قاله مجاهد. وقال الحسن: أي بالعذاب. (خامِدِينَ) أي ميتين. والخمود
الهمود كخمود النار إذا طفئت فشبه خمود الحياة بخمود النار كما يقال لمن مات قد
طفئ تشبيها بانطفاء النار.
[سورة الأنبياء (21): الآيات 16 الى 18]
وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (16) لَوْ
أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا
فاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا
هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18)
__________
(1). راجع ج 15 ص 211.
(2). راجع ج 12 ص 121 فما بعد.
قوله
تعالى: (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ) أي عبثا
وباطلا، بل للتنبيه على أن لها خالقا قادرا يجب امتثال أمره، وأنه يجازي المسيء
والمحسن أي ما خلقنا السماء والأرض ليظلم بعض الناس بعضا ويكفر بعضهم، ويخالف
بعضهم ما أمر به ثم يموتوا ولا يجازوا، ولا يؤمروا في الدنيا بحسن ولا ينهوا عن
قبيح. وهذا اللعب المنفي عن الحكيم ضده الحكمة. قوله تعالى: (لَوْ أَرَدْنا أَنْ
نَتَّخِذَ لَهْواً) لما أعتقد قوم أن له ولدا قال:" لَوْ أَرَدْنا أَنْ
نَتَّخِذَ لَهْواً" واللهو المرأة بلغة اليمن، قاله قتادة. وقال عقبة بن أبي
جسرة- وجاء طاوس وعطاء ومجاهد يسألونه عن قوله تعالى:" لَوْ أَرَدْنا أَنْ
نَتَّخِذَ لَهْواً"- فقال: اللهو الزوجة، وقاله الحسن. وقال ابن عباس: اللهو
الولد، وقاله الحسن أيضا. قال الجوهري: وقد يكنى باللهو عن الجماع. قلت: ومنه قول
امرئ القيس:
ألا زعمت بسباسة اليوم أنني ... كبرت وألا يحسن اللهو أمثالي
وإنما سمي الجماع لهوا لأنه ملهى للقلب، كما قال: «1»
وفيهن ملهى للصديق ومنظر
الجوهري- وقوله تعالى:" لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً" قالوا
امرأة ويقال: ولدا. (لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا) أي من عندنا لا من عندكم. قال
ابن جريج: من أهل السماء لا من أهل الأرض. قيل: أراد الرد على من قال إن الأصنام
بنات الله، أي كيف يكون منحوتكم ولدا لنا. وقال ابن قتيبة: الآية رد على النصارى.
(إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ) قال قتادة ومقاتل وابن. جريج والحسن: المعنى ما كنا
فاعلين، مثل" إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ" «2» [فاطر: 23] أي ما أنت إلا
نذير. و" أَنْ" بمعنى الجحد وتم الكلام عند قوله:" لَاتَّخَذْناهُ
مِنْ لَدُنَّا". وقيل: إنه على معنى الشرط، أي إن كنا فاعلين ذلك ولكن لسنا
بفاعلين ذلك لاستحالة أن يكون لنا ولد، إذ لو كان ذلك لم نخلق جنة
__________
(1). هو زهير بن أبي سلمى والبيت من معلقته وتمامه:
أنيق لعين الناظر المتوسم
(2). راجع ج 14 ص ...
وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20) أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21)
ولا
نارا ولا موتا ولا بعثا ولا حسابا. وقيل: لو أردنا أن نتخذ ولدا على طريق التبني
لاتخذناه من عندنا من الملائكة. ومال إلى هذا قوم، لان الإرادة قد تتعلق بالتبني
فأما اتخاذ الولد فهو محال، والإرادة لا تتعلق بالمستحيل، ذكره القشيري. قوله
تعالى: (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ) القذف الرمي، أي نرمي بالحق
على الباطل. (فَيَدْمَغُهُ) أي يقهره ويهلكه. واصل الدمغ شج الرأس حتى يبلغ
الدماغ، ومنه الدامغة «1». والحق هنا القرآن، والباطل الشيطان في قول مجاهد، قال:
وكل ما في القرآن من الباطل فهو الشيطان. وقيل: الباطل كذبهم ووصفهم الله عز وجل
بغير صفاته من الولد وغيره. وقيل: أراد بالحق الحجة، وبالباطل شبههم. وقيل: الحق
المواعظ، والباطل المعاصي، والمعنى متقارب. والقرآن يتضمن الحجة والموعظة. (فَإِذا
هُوَ زاهِقٌ) أي هالك وتالف، قاله قتادة. (وَلَكُمُ الْوَيْلُ) أي العذاب في
الآخرة بسبب وصفكم الرب بما لا يجوز وصفه. وقال ابن عباس: الويل واد في جهنم، وقد
تقدم «2»." مِمَّا تَصِفُونَ" أي مما تكذبون، عن قتادة ومجاهد،
نظيره:" سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ" «3» [الانعام: 139] أي بكذبهم. وقيل:
مما تصفون الله به من المحال وهو اتخاذه سبحانه الولد.
[سورة الأنبياء (21): الآيات 19 الى 21]
وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ
عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا
يَفْتُرُونَ (20) أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21)
قوله تعالى: (وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي ملكا وخلقا فكيف يجوز
أن يشرك به ما هو عبده وخلقه. (وَمَنْ عِنْدَهُ) يعني الملائكة الذين ذكرتم أنهم
بنات الله. (لا يَسْتَكْبِرُونَ) أي لا يأنفون (عَنْ عِبادَتِهِ) والتذلل له.
(وَلا يَسْتَحْسِرُونَ) أي يعيون، قاله قتادة. مأخوذ من الحسير وهو البعير المنقطع
بالإعياء والتعب، [يقال ]: حسر البعير يحسر حسورا أعيا وكل، واستحسر وتحسر مثله،
وحسرته أنا حسرا يتعدى ولا يتعدى،
__________
(1). راجع ج 2 ص 7 فما بعد.
(2). راجع ج 2 ص 7 فما بعد.
(3). راجع ج 7 ص 95 فما بعد. [.....]
لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24)
وأحسرته
أيضا فهو حسير. وقال ابن زيد: لا يملون. ابن عباس: لا يستنكفون. وقال أبو زيد: لا
يكلون. وقيل: لا يفشلون، ذكره ابن الاعرابي، والمعنى واحد. (يُسَبِّحُونَ
اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) 20 أي يصلون ويذكرون الله وينزهونه دائما. (لا
يَفْتُرُونَ) 20 أي لا يضعفون ولا يسأمون، يلهمون التسبيح والتقديس كما يلهمون
النفس. قال عبد الله بن الحرث سألت كعبا فقلت: أما لهم شغل عن التسبيح؟ أما يشغلهم
عنه شي؟ فقال: من هذا؟ فقلت: من بني عبد المطلب، فضمني إليه وقال: يا ابن أخي هل
يشغلك شي عن النفس؟! إن التسبيح لهم بمنزلة النفس. وقد استدل بهذه الآية من قال:
إن الملائكة أفضل من بني آدم. وقد تقدم «1» والحمد لله. قوله تعالى: (أَمِ
اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ) قال المفضل: مقصود هذا
الاستفهام الجحد، أي لم يتخذوا آلهة تقدر على الأحياء. وقيل:" أَمِ"
بمعنى" هل" أي هل أتخذ هؤلاء المشركون آلهة من الأرض يحيون الموتى. ولا
تكون" أَمِ" هنا بمعنى بل، لان ذلك يوجب لهم إنشاء الموتى إلا أن
تقدر" أم" مع الاستفهام فتكون" أم" المنقطعة فيصح المعنى،
قاله المبرد. وقيل:" أَمِ" عطف على المعنى أي أفخلقنا السماء والأرض
لعبا، أو هذا الذي أضافوه إلينا من عندنا فيكون لهم موضع شبهة؟ أو هل ما اتخذوه من
الآلهة في الأرض يحيى الموتى فيكون موضع شبهة؟. وقيل:" لَقَدْ أَنْزَلْنا
إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ 10" [الأنبياء: 10]
ثم عطف عليه بالمعاتبة، وعلى هذين التأويلين تكون" أم" متصلة. وقرا
الجمهور:" يُنْشِرُونَ" بضم الياء وكسر الشين من أنشر الله الميت فنشر
أي أحياه فحيي. وقرا الحسن: بفتح الياء، أي يحيون ولا يموتون.
[سورة الأنبياء (21): الآيات 22 الى 24]
لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ
الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ
(23) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هذا ذِكْرُ
مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ
فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24)
__________
(1). راجع ج 1 ص 289 فما بعد.
قوله
تعالى: (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا) أي لو كان في
السموات والأرضين آلهة غير الله معبودون لفسدتا. قال الكسائي وسيبويه:" إلا"
بمعنى غير فلما جعلت إلا في موضع غير أعرب الاسم الذي بعدها بإعراب غير، كما قال:
وكل أخ مفارقه أخوه ... لعمر أبيك إلا الفرقدان
وحكى سيبويه: لو كان معنا رجل إلا زيد لهلكنا. وقال الفراء:" إِلَّا"
هنا في موضع سوى، والمعنى: لو كان فيهما آلهة سوى الله لفسد أهلها. وقال غيره: أي
لو كان فيهما إلهان لفسد التدبير، لان أحدهما إن أراد شيئا والآخر ضده كان أحدهما
عاجزا: وقيل: معنى" لَفَسَدَتا" أي خربتا وهلك من فيهما بوقوع التنازع
بالاختلاف الواقع بين الشركاء. (فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ)
نزه نفسه وأمر العباد أن ينزهوه عن أن يكون له شريك أو ولد. قوله تعالى: (لا
يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) قاصمة للقدرية وغيرهم. قال ابن جريج
المعنى. لا يسأله الخلق عن قضائه في خلقه وهو يسأل الخلق عن عملهم، لأنهم عبيد.
بين بهذا أن من يسأل غدا عن أعماله كالمسيح والملائكة لا يصلح للإلهية. وقيل: لا
يؤاخذ على أفعاله وهم يؤاخذون. وروي عن علي رضي عنه أن رجلا قال له يا أمير
المؤمنين: أيحب ربنا أن يعصى؟ قال: أفيعصي ربنا قهرا؟ قال: أرأيت إن منعني. الهدى
ومنحني الردى أأحسن إلي أم أساء؟ قال: إن منعك حقك فقد أساء، وإن منعك فضله فهو
يؤتيه من يشاء. ثم تلا الآية:" لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ
يُسْئَلُونَ". وعن ابن عباس قال: لما بعث الله عز وجل موسى وكلمه، وأنزل عليه
التوراة، قال: اللهم إنك رب عظيم، لو شئت أن تطاع لاطعت، ولو شئت ألا تعصى ما
عصيت، وأنت تحب أن تطاع وأنت في ذلك تعصى فكيف هذا يا رب؟ فأوحى الله إليه: إني لا
أسأل عما أفعل وهم يسألون. قوله تعالى: (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً)
أعاد التعجب في اتخاذ الآلهة من دون الله مبالغة في التوبيخ، أي صفتهم كما تقدم في
الإنشاء والأحياء، فتكون" أَمِ" بمعنى هل على ما تقدم، فليأتوا بالبرهان
على ذلك. وقيل: الأول احتجاج من حيث المعقول، لأنه قال:" هُمْ
يُنْشِرُونَ" ويحيون الموتى، هيهات! والثاني احتجاج بالمنقول، أي هاتوا
برهانكم من
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)
هذه
الجهة، ففي أي كتاب نزل هذا؟ في القرآن، أم في الكتب المنزلة على سائر الأنبياء؟
(هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ) بإخلاص التوحيد في القرآن (وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي) في
التوراة والإنجيل، وما أنزل الله من الكتب، فانظروا هل في كتاب من هذه الكتب أن
الله أمر باتخاذ آلهة سواه؟ فالشرائع لم تختلف فيما يتعلق بالتوحيد، وإنما اختلفت
في الأوامر والنواهي. وقال قتادة: الإشارة إلى القرآن، المعنى:" هذا ذِكْرُ
مَنْ مَعِيَ" بما يلزمهم من الحلال والحرام" وَذِكْرُ مَنْ
قَبْلِي" من الأمم ممن نجا بالايمان وهلك بالشرك. وقيل:" ذِكْرُ مَنْ
مَعِيَ" بما لهم من الثواب على الايمان والعقاب على الكفر." وَذِكْرُ
مَنْ قَبْلِي" من الأمم السالفة فيما يفعل بهم في الدنيا، وما يفعل بهم في
الآخرة. وقيل: معنى الكلام الوعيد والتهديد، أي افعلوا ما شئتم فعن قريب ينكشف
الغطاء. وحكى أبو حاتم: أن يحيى بن يعمر وطلحة ابن مصرف قرأ" هذا ذِكْرُ مَنْ
مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي" بالتنوين وكسر الميم، وزعم أنه لا وجه لهذا.
وقال أبو إسحاق الزجاج في هذه القراءة: المعنى، هذا ذكر مما أنزل إلي ومما هو معي
وذكر من قبلي. وقيل: ذكر كائن من قبلي، أي جئت بما جاءت به الأنبياء من قبلي.
(بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ) وقرا ابن محيص والحسن:"
الحق" بالرفع بمعنى هو الحق وهذا هو الحق وعلى هذا يوقف على" لا
يَعْلَمُونَ" ولا يوقف عليه على قراءة النصب. (فَهُمْ مُعْرِضُونَ) أي عن
الحق وهو القرآن، فلا يتأملون حجة التوحيد.
[سورة الأنبياء (21): آية 25]
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا
إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)
قوله تعالى: (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ)
«1» وقرا حفص وحمزة والكسائي:" نُوحِي إِلَيْهِ" بالنون، لقوله:"
أَرْسَلْنا". (أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) أي قلنا للجميع
لا إله إلا الله، فأدل العقل شاهدة أنه لا شريك له، والنقل عن جميع الأنبياء
موجود، والدليل إما معقول وإما منقول. وقال قتادة: لم يرسل نبي إلا بالتوحيد،
والشرائع مختلفة في التوراة والإنجيل والقرآن، وكل ذلك على الإخلاص والتوحيد.
__________
(1). (يوحى) بالياء قراءة (نافع).
وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29)
[سورة
الأنبياء (21): الآيات 26 الى 29]
وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (26) لا
يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ ما بَيْنَ
أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ
خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ
فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29)
قوله تعالى: (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ) نزلت في خزاعة حيث
قالوا: الملائكة بنات الله، وكانوا يعبدونهم طمعا في شفاعتهم لهم. وروى معمر عن
قتادة قال قالت اليهود- قال معمر في روايته- أو طوائف من الناس: خاتن إلى الجن
والملائكة من الجن، فقال الله عز وجل:" سُبْحانَهُ" تنزيها له. (بَلْ
عِبادٌ) أي بل هم عباد (مُكْرَمُونَ) أي ليس كما زعم هؤلاء الكفار. ويجوز النصب
عند الزجاج على معنى بل اتخذ عبادا مكرمين. وأجازه الفراء على أن يرده على ولد، أي
بل لم نتخذهم ولدا، بل اتخذناهم عبادا مكرمين. والولد ها هنا للجمع، وقد يكون
الواحد والجمع ولدا. ويجوز أن يكون لفظ الولد للجنس، كما يقال لفلان مال. (لا
يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ) أي لا يقولون حتى يقول، ولا يتكلمون إلا بما يأمرهم.
(وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) أي بطاعته وأوامره." يَعْلَمُ ما بَيْنَ
أَيْدِيهِمْ" أي يعلم ما عملوا وما هم عاملون، قال ابن عباس. وعنه
أيضا:" ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ" الآخرة" وَما خَلْفَهُمْ"
الدنيا، ذكر الأول الثعلبي، والثاني القشيري. (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ
ارْتَضى ) قال ابن عباس: هم أهل شهادة أن لا إله إلا الله. وقال مجاهد: هم كل من
رضي الله عنه، والملائكة يشفعون غدا في الآخرة كما في صحيح مسلم وغيره، وفي الدنيا
أيضا، فإنهم يستغفرون للمؤمنين ولمن في الأرض، كما نص عليه التنزيل على ما يأتي.
(وَهُمْ) يعني الملائكة (مِنْ خَشْيَتِهِ) يعني من خوفه (مُشْفِقُونَ) أي خائفون
لا يأمنون مكره.
أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30) وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33)
قوله
تعالى: (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ) قال قتادة والضحاك
وغيرهما: عنى بهذه الآية إبليس حيث أدعى الشركة، ودعا إلى عبادة نفسه وكان من
الملائكة، ولم يقل أحد من الملائكة إني إله غيره. وقيل: الإشارة إلى جميع
الملائكة، أي فذلك القائل (نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ). وهذا دليل على أنهم وإن أكرموا
بالعصمة فهم متعبدون، وليسوا مضطرين إلى العبادة كما ظنه بعض الجهال. وقد استدل
ابن عباس بهذه الآية على أن محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أفضل أهل
السماء. وقد تقدم في" البقرة" «1». (كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) أي
كما جزينا هذا بالنار فكذلك نجزي الظالمين الواضعين الألوهية والعبادة في غير
موضعهما.
[سورة الأنبياء (21): الآيات 30 الى 33]
أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً
فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ
(30) وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها
فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً
مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ (32) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ
وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33)
قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا) 30 قراءة العامة" أَوَلَمْ
260" بالواو. وقرا ابن كثير وابن محيصن وحميد وشبل بن عباد" ألم
تر" بغير واو وكذلك هو في مصحف مكة." أَوَلَمْ يَرَ 30" بمعنى
يعلم." الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً
30" قال الأخفش:" كانَتا" لأنهما صنفان، كما تقول العرب: هما
لقاحان أسودان، وكما قال الله عز وجل:" إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا" «2» [فاطر: 41] قال أبو إسحاق:" كانَتا"
لأنه يعبر عن السموات بلفظ الواحد بسماء، ولان السموات كانت سماء واحدة، وكذلك الأرضون.
وقال:" رَتْقاً 30"
__________
(1). راجع ج 3 ص 261 فما بعد.
(2). راجع ج 14 ص 356.
ولم
يقل رتقين، لأنه مصدر، والمعنى: كانتا ذواتي رتق. وقرا الحسن:" رتقا"
بفتح التاء. قال عيسى بن عمر: هو صواب وهي لغة. والرتق السد ضد الفتق، وقد رتقت
الفتق أرتقه فارتتق أي التأم، ومنه الرتقاء للمنضمة الفرج. قال ابن عباس والحسن
وعطاء والضحاك وقتادة: يعني أنها كانت شيئا واحدا ملتزقتين ففصل الله بينهما
بالهواء. وكذلك قال كعب: خلق الله السموات والأرض بعضها على بعض ثم خلق ريحا
بوسطها «1» ففتحها بها، وجعل السموات سبعا والأرضين سبعا. وقول ثان قاله مجاهد
والسدي وأبو صالح: كانت السموات مؤتلفة طبقة واحدة ففتقها فجعلها سبع سموات، وكذلك
الأرضين كانت مرتتقة طبقة واحدة ففتقها فجعلها سبعا. وحكاه القتبي في عيون الاخبار
له، عن إسماعيل بن أبي خالد في قول الله عز وجل:" أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ
كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما 30"
قال: كانت السماء مخلوقة وحدها والأرض مخلوقة وحدها، ففتق من هذه سبع سموات، ومن
هذه سبع أرضين، خلق الأرض العليا فجعل سكانها الجن والانس، وشق فيها الأنهار وأنبت
فيها الأثمار، وجعل فيها البحار وسماها رعاء، عرضها مسيرة خمسمائة عام، ثم خلق
الثانية مثلها في العرض والغلظ وجعل فيها أقواما، أفواههم كأفواه الكلاب وأيديهم
أيدي الناس، وآذانهم آذان البقر وشعورهم شعور الغنم، فإذا كان عند اقتراب الساعة
ألقتهم الأرض إلى يأجوج ومأجوج، واسم تلك الأرض الدكماء، ثم خلق الأرض الثالثة
غلظها مسيرة خمسمائة عام، ومنها هواء إلى الأرض. الرابعة خلق فيها ظلمة وعقارب
لأهل النار مثل البغال السود، ولها أذناب مثل أذناب الخيل الطوال، يأكل بعضها بعضا
فتسلط على بني آدم. ثم خلق الله الخامسة [مثلها «2»] في الغلظ والطول والعرض فيها
سلاسل وأغلال وقيود لأهل النار. ثم خلق الله الأرض السادسة واسمها ماد، فيها حجارة
سود بهم، ومنها خلقت تربة آدم عليه السلام، تبعث تلك الحجارة يوم القيامة وكل حجر
منها كالطود العظيم، وهي من كبريت تعلق في أعناق الكفار فتشتعل حتى تحرق وجوههم
وأيديهم، فذلك قوله عز وجل:" وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ" «3»
[البقرة: 24] ثم خلق الله الأرض السابعة واسمها عربية وفيها جهنم، فيها بابان اسم
__________
(1). في ب وج وك: توسطتها.
(2). زيادة يقتضيها السياق.
(3). راجع ج 18 ص 194.
الواحد
سجين و[اسم «1»] الآخر الفلق «2»، فأما سجين فهو مفتوح وإليه ينتهي كتاب الكفار،
وعليه يعرض أصحاب المائدة وقوم فرعون، وأما الفلق «3» فهو مغلق لا يفتح إلى يوم
القيامة. وقد مضى في" البقرة" «4» أنها سبع أرضين بين كل أرضين مسيرة
خمسمائة عام، وسيأتي له في آخر" الطلاق" «5» زيادة بيان إن شاء الله
تعالى. وقول ثالث قاله عكرمة وعطية وابن زيد وابن عباس أيضا فيما ذكر المهدوي: إن
السموات كانت رتقا لا تمطر، والأرض كانت رتقا لا تنبت، ففتق السماء بالمطر، والأرض
بالنبات، نظيره قوله عز وجل:" وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ. وَالْأَرْضِ ذاتِ
الصَّدْعِ" «6» [الطارق: 12- 11]. واختار هذا القول الطبري،، لان بعده:"
وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ 30". قلت:
وبه يقع الاعتبار مشاهدة ومعاينة، ولذلك أخبر بذلك في غير ما آية، ليدل على كمال
قدرته، وعلى البعث والجزاء. وقيل:
يهون عليهم إذا يغضبو ... ن سخط العداة وإرغامها
ورتق الفتوق وفتق الرتو ... ق ونقض الأمور وإبرامها
وفي قوله تعالى: (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) 30 ثلاث تأويلات:
أحدها: أنه خلق كل شي من الماء، قاله قتادة. الثاني- حفظ حياة كل شي بالماء.
الثالث- وجعلنا من ماء الصلب كل شي حي، قاله قطرب." وَجَعَلْنا" بمعنى
خلقنا. وروى أبو حاتم البستي في المسند الصحيح له من حديث أبي هريرة قال: قلت يا
رسول الله! إذا رأيتك طابت نفسي، وقرت عيني، أنبئني عن كل شي، قال: (كل شي خلق من
الماء) الحديث، قال أبو حاتم قول أبي هريرة:" أنبئني عن كل شي"" أراد
به عن كل شي خلق من الماء" والدليل على صحة هذا جواب المصطفى إياه حيث قال:
(كل شي خلق من الماء) وإن لم يكن مخلوقا. وهذا احتجاج آخر سوى ما تقدم من كون
السموات والأرض رتقا. وقيل: الكل قد يذكر بمعنى البعض كقوله:" وَأُوتِيَتْ
مِنْ كُلِّ شَيْءٍ" «7» [النمل: 23]
__________
(1). من ب وج وز وك.
(2). من ب وج وز وك.
(3). من ب وج وز وك.
(4). راجع ج 1 ص 258 فما بعد.
(5). راجع ج 18 ص 174.
(6). راجع ج 20 ص 10.
(7). راجع ج 13 ص 184. [.....]
وقوله:"
تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ" «1» [الأحقاف: 25] والصحيح العموم، لقوله عليه السلام:
(كل شي خلق من الماء) والله أعلم. (أَفَلا يُؤْمِنُونَ) 30 أي أفلا يصدقون بما
يشاهدون، وأن ذلك لم يكن بنفسه، بل لمكوّن كوّنه، ومدبر أوجده، ولا يجوز أن يكون
ذلك المكون محدثا. قوله تعالى: (وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ) أي جبالا
ثوابت. (أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ) أي لئلا تميد بهم، ولا تتحرك ليتم القرار عليها،
قاله الكوفيون. وقال البصريون: المعنى كراهية أن تميد. والميد التحرك والدوران.
يقال: ماد رأسه، أي دار. ومضى في" النحل" «2» مستوفي. (وَجَعَلْنا فِيها
فِجاجاً) يعني في الرواسي، عن ابن عباس. والفجاج المسالك. والفج الطريق الواسع بين
الجبلين. وقيل: وجعلنا في الأرض فجاجا أي مسالك، وهو اختيار الطبري، لقوله:
(لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) أي يهتدون إلى السير في الأرض. (سُبُلًا) تفسير الفجاج،
لان الفج قد يكون طريقا نافذا مسلوكا وقد لا يكون. وقيل: ليهتدوا بالاعتبار بها إلى
دينهم. قوله تعالى: (وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً) أي محفوظا من أن
يقع ويسقط على الأرض، دليله قوله تعالى:" وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ
عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ" «3» [الحج: 65]. وقيل: محفوظا بالنجوم من
الشياطين، قاله الفراء. دليله قوله تعالى:" وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ
رَجِيمٍ" «4» [الحجر: 17]. وقيل: محفوظا من الهدم والنقض، وعن أن يبلغه أحد
بحيلة. وقيل: محفوظا فلا يحتاج إلى عماد. وقال مجاهد: مرفوعا. وقيل: محفوظا من
الشرك والمعاصي. (وَهُمْ) يعني الكفار (عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ) قال مجاهد: يعني
الشمس والقمر. وأضاف الآيات إلى السماء لأنها مجعولة فيها، وقد أضاف الآيات إلى
نفسه في مواضع، لأنه الفاعل لها. بين أن المشركين غفلوا عن النظر في السموات
وآياتها، من ليلها ونهارها، وشمسها وقمرها، وأفلاكها ورياحها وسحابها، وما فيها من
قدرة الله تعالى، إذ لو نظروا واعتبروا لعلموا أن لها صانعا قادرا واحدا فيستحيل
أن يكون له شريك.
__________
(1). راجع ج 16 ص 205 فما بعد.
(2). راجع ج 10 ص 90 وص 10.
(3). راجع ج 12 ص 92 فما بعد.
(4). راجع ج 10 ص 90 وص 10.
قوله
تعالى: (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) ذكرهم نعمة أخرى: جعل لهم
الليل ليسكنوا فيه، والنهار ليتصرفوا فيه لمعايشهم. (الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) أي
وجعل الشمس آية النهار، والقمر آية الليل، لتعلم الشهور والسنون والحساب، كما تقدم
في" سبحان" «1» بيانه. (كُلٌّ) يعني من الشمس والقمر والنجوم والكواكب
والليل والنهار (فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) أي يجرون ويسيرون بسرعة كالسابح في
الماء. قال الله تعالى وهو أصدق القائلين:" وَالسَّابِحاتِ «2» سَبْحاً"
ويقال للفرس الذي يمد يده في الجري سابح. وفية من النحو أنه لم يقل: يسبحن ولا
تسبح، فمذهب سيبويه: أنه لما أخبر عنهن بفعل من يعقل وجعلهن في الطاعة بمنزلة من
يعقل، أخبر عنهن بالواو والنون ونحوه قال الفراء. وقد تقدم هذا المعنى في"
يوسف" «3». وقال الكسائي: إنما قال:" يَسْبَحُونَ" لأنه رأس آية،
كما قال الله تعالى:" نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ" «4» [القمر: 44] ولم
يقل منتصرون. وقيل: الجري للفلك فنسب إليها. والأصح أن السيارة تجري في الفلك، وهي
سبعة أفلاك دون السموات المطبقة، التي هي مجال الملائكة وأسباب الملكوت، فالقمر في
الفلك الأدنى، ثم عطارد، ثم الزهرة، ثم الشمس، ثم المريخ، ثم المشتري ثم زحل،
والثامن فلك البروج، والتاسع الفلك الأعظم. والفلك واحد أفلاك النجوم. قال أبو
عمرو: ويجوز أن يجمع على فعل مثل أسد وأسد وخشب وخشب. واصل الكلمة من الدوران،
ومنه فلكة المغزل، لاستدارتها. ومنه قيل: فلك ثدي المرأة تفليكا، وتفلك استدار.
وفي حديث ابن مسعود: تركت فرسي كأنه يدور في فلك. كأنه لدورانه شبهه بفلك السماء
الذي تدور عليه النجوم. قال ابن زيد: الأفلاك مجاري النجوم والشمس والقمر. قال:
وهي بين السماء والأرض. وقال قتادة: الفلك استدارة في السماء تدور بالنجوم مع ثبوت
السماء. وقال مجاهد: الفلك كهيئة حديد الرحى وهو قطبها. وقال الضحاك: فلكها مجراها
وسرعة مسيرها. وقيل: الفلك موج مكفوف ومجرى الشمس والقمر فيه، والله أعلم.
__________
(1). راجع ج 10 ص 227 فما بعد.
(2). راجع ج 19 ص 188.
(3). راجع ج 9 ص 122.
(4). راجع ج 17 ص 145.
وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34)
[سورة
الأنبياء (21): الآيات 34 الى 35]
وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ
الْخالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ
وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ (35)
قوله تعالى: (وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ) أي دوام البقاء في
الدنيا نزلت حين قالوا: نتربص بمحمد ريب المنون. وذلك أن المشركين كانوا يدفعون
نبوته ويقولون: شاعر نتربص به ريب المنون، ولعله يموت كما مات شاعر بني فلان، فقال
الله تعالى: قد مات الأنبياء من قبلك، وتولى الله دينه بالنصر والحياطة، فهكذا
نحفظ دينك وشرعك. (أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ) أي أفهم، مثل قول الشاعر:
«1»
رفوني وقالوا يا خويلد لا ترع ... فقلت وأنكرت الوجوه هم هم
أي أهم! فهو استفهام إنكار. وقال الفراء: جاء بالفاء ليدل على الشرط، لأنه جواب
قولهم سيموت. ويجوز أن يكون جئ بها، لان التقدير فيها: أفهم الخالدون إن مت! قال
الفراء: ويجوز حذف الفاء وإضمارها، لان" هم" لا يتبين فيها الاعراب. أي
إن مت فهم يموتون أيضا، فلا شماتة في الإماتة. وقرى" مت" و" مت"
بكسر الميم وضمها لغتان. قوله تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) تقدم في
(آل عمران) «2» (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً)" فِتْنَةً
10" مصدر على غير اللفظ. أي نختبركم بالشدة والرخاء والحلال والحرام، فننظر
كيف شكركم وصبركم. (وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ) أي للجزاء بالأعمال.
[سورة الأنبياء (21): آية 36]
وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا
الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ (36)
__________
(1). هو أبو خراش الهذلي ورفاه سكته من الرعب يقول: سكنوني. اعتبر بمشاهدة الوجوه
وجعلها دليلا على ما في النفوس.
(2). راجع ج 4 ص 297 فما بعدها.
خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (37) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (40)
قوله
تعالى: (وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً) أي
ما يتخذونك. والهزء السخرية، وقد تقدم. وهم المستهزءون المتقدمو الذكر في آخر
سورة" الحجر" «1» في قوله:" إِنَّا كَفَيْناكَ
الْمُسْتَهْزِئِينَ" [الحجر: 95]. كانوا يعيبون من جحد إلهية أصنامهم وهم
جاحدون لإلهية الرحمن، وهذا غاية الجهل (أَهذَا الَّذِي) أي يقولون: أهذا الذي؟
فأضمر القول وهو جواب" إِذا" وقوله:" إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا
هُزُواً" كلام معترض بين" إِذا" وجوابه. (يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ) أي
بالسوء والعيب. ومنه قول عنترة.
لا تذكري مهري وما أطعمته ... فيكون جلدك مثل جلد الأجرب «2»
أي لا تعيبي مهري. (وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ) أي بالقرآن. (هُمْ
كافِرُونَ)" هُمْ" الثانية توكيد كفرهم، أي هم الكافرون مبالغة في وصفهم
بالكفر.
[سورة الأنبياء (21): الآيات 37 الى 40]
خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (37)
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (38) لَوْ يَعْلَمُ
الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ
ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ
فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (40)
قوله تعالى: (خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ) أي ركب على العجلة فخلق عجولا، كما
قال الله تعالى:" اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ 30: 54" «3»
[الروم: 54] أي خلق الإنسان ضعيفا. ويقال: خلق الإنسان من الشر أي شريرا إذا بالغت
في وصفه به. ويقال: إنما أنت ذهاب ومجيء. أي ذاهب جائي. أي طبع الإنسان العجلة،
فيستعجل كثيرا من الأشياء وإن كانت مضرة. ثم قيل: المراد بالإنسان آدم عليه
السلام. قال سعيد بن جبير والسدي: لما دخل الروح في عيني
__________
(1). راجع ج 10 ص 62.
(2). قاله لامرأة له من بجيلة كانت تلومه في فرس كان يؤثره على خيله ويطعمه ألبان
إبله.
(3). راجع ج 14 ص 46.
آدم
عليه السلام نظر في ثمار الجنة، فلما دخل جوفه اشتهى الطعام، فوثب من قبل أن تبلغ
الروح رجليه عجلان إلى ثمار الجنة. فذلك قوله:" خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ
عَجَلٍ". وقيل: خلق آدم يوم الجمعة في آخر النهار، فلما أحيا الله رأسه
استعجل، وطلب تتميم نفخ الروح فيه قبل غروب الشمس، قاله الكلبي ومجاهد وغيرهما.
وقال أبو عبيدة وكثير من أهل المعاني: العجل الطين بلغة حمير. وأنشدوا:
والنخل ينبت بين الماء والعجل «1»
وقيل: المراد بالإنسان الناس كلهم. وقيل المراد: النضر بن الحرث بن علقمة بن كلدة
بن عبد الدار في تفسير ابن عباس، أي لا ينبغي لمن خلق من الطين الحقير أن يستهزئ
بآيات الله ورسله. وقيل: إنه من المقلوب، أي خلق العجل من الإنسان. وهو مذهب أبي
عبيدة. النحاس: وهذا القول لا ينبغي أن يجاب به في كتاب الله، لان القلب إنما يقع
في الشعر اضطرارا كما «2» قال:
كان الزناء فريضة الرجم
ونظيره «3» هذه الآية:" وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا" [الاسراء: 11] وقد
مضى في" سبحان" «4» [الاسراء: 1]. (سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا
تَسْتَعْجِلُونِ) هذا يقوي القول الأول، وأن طبع الإنسان العجلة، وأنه خلق خلقا لا
يتمالك، كما قال عليه السلام حسب ما تقدم في" سبحان". والمراد بالآيات
ما دل على صدق محمد عليه السلام من المعجزات، وما جعله له من العاقبة المحمودة.
وقيل: ما طلبوه من العذاب، فأرادوا الاستعجال وقالوا:" مَتى هذَا الْوَعْدُ
10: 48" [يونس: 48]؟ وما علموا أن لكل شي أجلا مضروبا. نزلت في النضر بن
الحرث. وقوله:" إِنْ كانَ هذا «5» هُوَ الْحَقَّ" [الأنفال: 32]. وقال
الأخفش سعيد: معنى" خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ" أي قيل له كن فكان،
فمعنى" فَلا تَسْتَعْجِلُونِ" على هذا القول أنه من يقول للشيء كن
فيكون، لا يعجزه إظهار ما استعجلوه من الآيات. (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ)
10: 48 أي الموعود، كما يقال: الله رجاؤنا أي مرجونا. وقيل: معنى" الْوَعْدُ
10: 48" هنا الوعيد، أي الذي يعدنا من العذاب. وقيل: القيامة. (إِنْ كُنْتُمْ
صادِقِينَ) يا معشر المؤمنين.
__________
(1). صدر البيت:
والنبع في الصخرة الصماء منبته
[.....]
(2). البيت: للجعدي وصدره:
كانت فريضة ما تقول كما
(3). في ب وج وط وك وى: نظير هذه الآية. راجع ج 10 ص 226.
(4). في ب وج وط وك وى: نظير هذه الآية. راجع ج 10 ص 226.
(5). راجع ج 7 ص 398.
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (41) قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43) بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (44)
قوله
تعالى: (لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) العلم هنا بمعنى المعرفة فلا يقتضي
مفعولا ثانيا مثل" لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ 60"
[الأنفال: 60]. وجواب" لَوْ 20" محذوف، أي لو علموا الوقت الذي (لا
يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ
يُنْصَرُونَ) وعرفوه لما استعجلوا الوعيد. وقال الزجاج: أي لعلموا صدق الوعد.
وقيل: المعنى لو علموه لما أقاموا على الكفر ولآمنوا. وقال الكسائي: هو تنبيه على
تحقيق وقوع الساعة، أي لو علموه علم يقين لعلموا أن الساعة آتية. ودل عليه (بَلْ
تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً) 40 أي فجأة يعني القيامة. وقيل العقوبة. وقيل: النار فلا
يتمكنون حيلة (فَتَبْهَتُهُمْ) 40. قال الجوهري: بهته بهتا أخذه بغتة، قال الله
تعالى:" بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ 40". وقال الفراء:"
فَتَبْهَتُهُمْ 40" أي تحيرهم، يقال: بهته يبهته إذا واجهه بشيء يحيره. وقيل:
فتفجأهم. (فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها) 40 أي صرفها عن ظهورهم. (وَلا هُمْ
يُنْظَرُونَ) أي لا يمهلون ويؤخرون لتوبة واعتذار.
[سورة الأنبياء (21): آية 41]
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا
مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (41)
قوله تعالى: (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ) 10 هذا تسلية للنبي
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتعزية له. يقول: إن استهزأ بك هؤلاء، فقد
استهزئ برسل من قبلك، فاصبر كما صبروا. ثم وعده النصر فقال: (فَحاقَ) أي أحاط ودار
(بِالَّذِينَ) كفروا و(سَخِرُوا مِنْهُمْ) وهزءوا بهم (ما كانُوا بِهِ
يَسْتَهْزِؤُنَ) أي جزاء استهزائهم.
[سورة الأنبياء (21): الآيات 42 الى 44]
قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ بَلْ هُمْ عَنْ
ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا
لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43) بَلْ
مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ
أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ (44)
قوله
تعالى: (قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ) يحرسكم ويحفظكم. والكلاءة الحراسة والحفظ، كلأه
الله كلاء (بالكسر) أي حفظه وحرسه. يقال: أذهب في كلاءة الله، واكتلأت منهم أي
احترست، قال الشاعر هو ابن هرمة:
إن سليمى والله يكلؤها ... ضنت بشيء ما كان يرزؤها
وقال آخر: «1»
أنخت بعيري واكتلأت بعينه
وحكى الكسائي والفراء" قل من يكلؤكم" بفتح اللام وإسكان الواو.
وحكيا" من يكلاكم" على تخفيف الهمزة في الوجهين، والمعروف تحقيق الهمزة
وهي قراءة العامة. فأما" يكلاكم" فخطأ من وجهين فيما ذكره النحاس:
أحدهما: أن بدل الهمزة إنما يكون في الشعر. والثاني: أنهما يقولان في الماضي
كليته. ثم قيل: مخرج اللفظ مخرج الاستفهام والمراد به النفي. وتقديره: قل لا حافظ
لكم (بِاللَّيْلِ) إذا نمتم (وَ) ب (النَّهارِ) إذا قمتم وتصرفتم في أموركم. (مِنَ
الرَّحْمنِ) أي من عذابه وبأسه، كقوله تعالى:" فمن ينصرني من الله" «2»
[هود: 63] أي من عذاب الله. والخطاب لمن اعترف منهم بالصانع، أي إذا أقررتم بأنه
الخالق، فهو القادر على إحلال العذاب الذي تستعجلونه. (بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ)
أي عن القرآن. وقيل: عن مواعظ ربهم وقيل: عن معرفته. (مُعْرِضُونَ) لاهون غافلون.
قوله تعالى: (أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ) المعنى: ألهم والميم صلة. (تَمْنَعُهُمْ مِنْ
دُونِنا) أي من عذابنا. (لا يَسْتَطِيعُونَ) يعنى الذين زعم هؤلاء الكفار أنهم
ينصرونهم لا يستطيعون (نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ) فكيف ينصرون عابديهم. (وَلا هُمْ
مِنَّا يُصْحَبُونَ) قال ابن عباس: يمنعون. وعنه: يجارون، وهو اختيار الطبري. تقول
العرب: أنا لك جار وصاحب من فلان، أي مجير منه، قال الشاعر:
ينادي بأعلى صوته متعوذا ... ليصحب منها والرماح دواني
__________
(1). هو كعب بن زهير وعجزه.
وآمرت نفسي أي أمري أفعل
(2). راجع ج 9 ص 58 فما بعد.
قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ (45) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (46)
وروى
معمر عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال:" ينصرون" أي يحفظون. قتادة: أي لا
يصحبهم الله بخير، ولا يجعل رحمته صاحبا لهم. قوله تعالى: (بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ
وَآباءَهُمْ) قال ابن عباس: يريد أهل مكة. أي بسطنا لهم ولآبائهم في نعيمها و(طالَ
عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ) في النعمة فظنوا أنها لا تزول عنهم، فاغتروا وأعرضوا عن
تدبير حجج الله عز وجل. (أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها
مِنْ أَطْرافِها) أي بالظهور عليها لك يا محمد أرضا بعد أرض، وفتحها بلدا بعد بلد
مما حول مكة، قال معناه الحسن وغيره. وقيل: بالقتل والسبي، حكاه «1» الكلبي.
والمعنى واحد. وقد مضى في" الرعد" «2» الكلام في هذا مستوفى. (أَفَهُمُ
الْغالِبُونَ) يعني كفار مكة بعد أن نقصنا من أطرافهم، بل أنت تغلبهم وتظهر عليهم.
[سورة الأنبياء (21): الآيات 45 الى 46]
قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما
يُنْذَرُونَ (45) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ
يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (46)
قوله تعالى: (قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ) أي أخوفكم وأحذركم بالقرآن.
(وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ) أي من أصم الله قلبه، وختم على سمعه، وجعل على
بصره غشاوة، عن فهم الآيات وسماع الحق. وقرا أبو عبد الرحمن السلمي ومحمد بن
السميقع" وَلا يَسْمَعُ" بياء مضمومة وفتح الميم على ما لم يسم
فاعله" الصم" رفعا أي إن الله لا يسمعهم. وقرا ابن عامر والسلمى أيضا،
وأبو حيوة ويحيى بن الحرث" ولا تسمع" بتاء مضمومة وكسر الميم"
الصُّمُّ" نصبا، أي إنك يا محمد" لا تسمع الصم الدعاء"، فالخطاب
للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ورد هذه القراءة بعض أهل اللغة. وقال:
وكان يجب أن يقول: إذا ما تنذرهم. قال النحاس: وذلك جائز، لأنه قد عرف المعنى.
__________
(1). في ج: (حكاه الثعلبي).
(2). راجع ج 9 ص 333.
وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47)
قوله
تعالى: (وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ) قال ابن عباس: طرف.
قال قتادة: عقوبة. ابن كيسان: قليل وأدنى شي، مأخوذة من نفح المسك. قال: «1»
وعمرة من سروات النساء ... تنفح بالمسك أردانها
ابن جريج: نصيب، كما يقال: نفح فلان لفلان من عطائه، إذا أعطاه نصيبا من المال.
قال الشاعر: «2»
لما أتيتك أرجو فضل نائلكم ... نفحتني نفحة طابت لها العرب
أي طابت لها النفس. والنفحة في اللغة الدفعة اليسيرة، فالمعنى ولين مسهم أقل شي من
العذاب. (لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) أي متعدين. فيعترفون
حين لا ينفعهم الاعتراف.
[سورة الأنبياء (21): آية 47]
وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ
شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا
حاسِبِينَ (47)
قوله تعالى: (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ
نَفْسٌ شَيْئاً) الموازين جمع ميزان. فقيل: إنه يدل بظاهره على أن لكل مكلف ميزانا
توزن به أعماله، فتوضع الحسنات في كفة، والسيئات في كفة. وقيل: يجوز أن يكون هناك
موازين للعامل الواحد، يوزن بكل ميزان منها صنف من أعماله، كما قال:
ملك تقوم الحادثات لعدله ... فلكل حادثة لها ميزان
ويمكن أن يكون ميزانا واحدا عبر عنه بلفظ الجمع. وخرج اللالكاني الحافظ أبو القاسم
في سننه عن أنس يرفعه: (إن ملكا موكلا بالميزان فيؤتي بابن آدم فيوقف بين كفتي الميزان
فإن رجح نادي الملك بصوت يسمع الخلائق سعد فلان سعادة لا يشقى بعدها أبدا وإن خف
نادي الملك شقي فلان شقاوة لا يسعد بعدها أبدا (. وخرج عن حذيفة رضي الله عنه
قال:) صاحب الميزان يوم القيامة جبريل عليه السلام) وقيل: للميزان كفتان وخيوط
ولسان والشاهين، فالجمع يرجع إليها. وقال مجاهد وقتادة والضحاك: ذكر الميزان مثل
وليس ثم
__________
(1). هو قيس بن الخطيم الأنصاري.
(2). هو للرماح بن ميادة مدح به الوليد بن يزيد بن عبد الملك.
ميزان
وإنما هو العدل. والذي وردت به الاخبار وعليه السواد الأعظم القول الأول. وقد مضى
في" الأعراف" «1» بيان هذا، وفي" الكهف" «2» أيضا. وقد ذكرناه
في كتاب" التذكرة" مستوفى والحمد لله. و" القسط" العدل أي ليس
فيها بخس ولا ظلم كما يكون في وزن الدنيا. و" القسط" صفة الموازين ووحد
لأنه مصدر، يقال: ميزان قسط، وميزانان قسط، وموازين قسط. مثل رجال عدل ورضا. وقرأت
فرقة" القصط" بالصاد." لِيَوْمِ الْقِيامَةِ" أي لأهل يوم
القيامة. وقيل: المعنى في يوم القيامة." فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً"
أي لا ينقص من إحسان محسن ولا يزاد في إساءة مسي. (وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ
مِنْ خَرْدَلٍ) قرأ نافع وشيبة وأبو جعفر" مثقال حبة" بالرفع هنا،
وفي" لقمان" «3» على معنى إن وقع أو حضر، فتكون كان تامة ولا تحتاج إلى
خبر الباقون" مثقال" بالنصب على معنى وإن كان العمل أو ذلك الشيء مثقال.
ومثقال الشيء ميزانه من مثله. (أَتَيْنا بِها) مقصورة الالف قراءة الجمهور أي
أحضرناها وجينا بها للمجازاة عليها ولها. يجاء بها أي بالحبة ولو قال به أي
بالمثقال لجاز. وقيل: مثقال الحبة ليس شيئا غير الحبة فلهذا قال:" أتينا
بها". وقرا مجاهد وعكرمة:" آتينا" بالمد على معنى جازينا بها.
يقال: آتى يؤاتي مؤاتاة. (وَكَفى بِنا حاسِبِينَ) أي مجازين «4» على ما قدموه من
خير وشر. وقيل:" حاسبين" أي «5» لا أحد أسرع حسابا منا. والحساب العد.
روى الترمذي عن عائشة رضي الله عنها: أن رجلا قعد بين يدي النبي صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله! إن لي مملوكين يكذبونني ويخونونني
ويعصونني وأشتمهم وأضربهم فكيف أنا منهم؟ قال: (يحسب ما خانوك وعصوك وكذبوك وعقابك
إياهم فإن كان عقابك إياهم بقدر ذنوبهم كان كفافا لا لك ولا عليك وإن كان عقابك
إياهم دون ذنوبهم كان فضلا لك وإن كان عقابك [إياهم «6»] فوق ذنوبهم اقتص لهم منك
الفضل) قال: فتنحى الرجل فجعل يبكي ويهتف. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ (أما تقرأ كتاب الله تعالى" ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا
تظلم نفس شيئا") فقال الرجل: والله يا رسول الله ما أجد لي ولهؤلاء شيئا خيرا
من مفارقتهم، أشهدك أنهم أحرار كلهم. قال حديث غريب.
__________
(1). راجع ج 7 ص 165.
(2). راجع ج 10 ص 418.
(3). راجع ج 14 ص 66 فما بعد.
(4). كذا في الأصول. [.....]
(5). كذا في ك. وفي غيرها من الأصول: إذ.
(6). من ب وج وز وط وك.
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (48) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49) وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50) وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55) قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56)
[سورة
الأنبياء (21): الآيات 48 الى 50]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ
(48) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ
مُشْفِقُونَ (49) وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ
مُنْكِرُونَ (50)
قوله تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً) وحكى عن ابن
عباس وعكرمة" الفرقان ضياء" بغير واو على الحال. وزعم الفراء أن حذف
الواو والمجيء بها واحد، كما قال الله عز وجل:" إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ
الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ «1». وَحِفْظاً" [الصافات: 7- 6] أي حفظا.
ورد عليه هذا القول الزجاج. قال: لان الواو تجئ لمعنى فلا تزاد. قال: وتفسير"
الفرقان" التوراة، لان فيها الفرق بين الحرام والحلال. قال:"
وَضِياءً" مثل" فِيهِ هُدىً وَنُورٌ" «2» وقال ابن زيد:"
الفرقان" هنا هو النصر على الاعداء، دليله قوله تعالى:" وَما أَنْزَلْنا
عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ" «3» [الأنفال: 41] يعني يوم بدر. قال
الثعلبي: وهذا القول أشبه بظاهر الآية، لدخول الواو في الضياء، فيكون معنى الآية:
ولقد آتينا موسى وهرون النصر والتوراة التي هي الضياء والذكر. (لِلْمُتَّقِينَ
الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ) أي غائبين، لأنهم لم يروا الله
تعالى، بل عرفوا بالنظر والاستدلال أن لهم ربا قادرا، يجازي على الأعمال فهم
يخشونه في سرائرهم، وخلواتهم التي يغيبون فيها عن الناس. (وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ)
أي من قيامها قبل التوبة. (مُشْفِقُونَ) أي خائفون وجلون. (وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ
أَنْزَلْناهُ) يعني القرآن (أَفَأَنْتُمْ لَهُ) يا معشر العرب (مُنْكِرُونَ) وهو
معجز لا تقدرون على الإتيان بمثله. وأجاز الفراء" وهذا ذكر مباركا
أنزلناه" بمعنى أنزلناه مباركا
[سورة الأنبياء (21): الآيات 51 الى 56]
وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ (51)
إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها
عاكِفُونَ (52) قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ (53) قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ
أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (54) قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ
أَنْتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ (55)
قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا
عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56)
__________
(1). راجع ج 15 ص 64.
(2). راجع ج 6 ص 208.
(3). راجع ج؟ ص 20.
وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58)
قوله
تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ) قال الفراء: أي أعطيناه هداه.
(مِنْ قَبْلُ) أي من قبل النبوة، أي وفقناه للنظر والاستدلال، لما جن عليه الليل
فرأى النجم والشمس والقمر. وقيل:" من قبل" أي من قبل موسى وهرون. والرشد
على هذا النبوة. وعلى الأول أكثر أهل التفسير، كما قال ليحيى:" وآتيناه الحكم
صبيا" «1» [مريم: 12]. وقال القرظي: رشده صلاحه. (وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ)
أي إنه أهل لإيتاء الرشد وصالح للنبوة. قوله تعالى: (إِذْ قالَ لِأَبِيهِ) قيل:
المعنى أي اذكر حين قال لأبيه، فيكون الكلام قد تم عند قوله:" وكنا به
عالمين". وقيل: المعنى،" وكنا به عالمين إذ قال" فيكون الكلام
متصلا ولا يوقف على قوله:" عالِمِينَ"." لِأَبِيهِ" وهو
آزر" وَقَوْمِهِ" نمرود ومن اتبعه. (ما هذِهِ التَّماثِيلُ) أي الأصنام.
والتمثال اسم موضوع للشيء المصنوع مشبها بخلق من خلق الله تعالى. يقال: مثلت الشيء
بالشيء أي شبهته به. واسم ذلك الممثل تمثال. (الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ) أي
مقيمون على عبادتها. (قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ) أي نعبدها تقليدا
لاسلافنا. (قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي في
خسران بعبادتها، إذ هي جمادات لا تنفع ولا تضر ولا تعلم. (قالُوا أَجِئْتَنا
بِالْحَقِّ) أي أجاء أنت بحق فيما تقول؟ (أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ) أي لاعب
مازح. (قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي لست بلاعب، بل ربكم
والقائم بتدبيركم خالق السموات والأرض. (الَّذِي فَطَرَهُنَّ) أي خلقهن وأبدعهن.
(وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) أي على أنه رب السموات والأرض. والشاهد
يبين الحكم، ومنه" شَهِدَ اللَّهُ" «2» [آل عمران: 18] بين الله،
فالمعنى: وأنا أبين بالدليل ما أقول.
[سورة الأنبياء (21): الآيات 57 الى 58]
وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57)
فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ
(58)
__________
(1). راجع ص 74 من هذا الجزء فما بعد.
(2). راجع ج 4 ص 40 فما بعد.
قوله
تعالى: (وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ) أخبر أنه لم يكتف بالمحاجة
باللسان بل كسر أصنامهم فعل واثق بالله تعالى، موطن نفسه على مقاساة المكروه في
الذب عن الدين. والتاء في" تَاللَّهِ" تختص في القسم باسم الله وحده،
والواو تختص بكل مظهر، والباء بكل مضمر ومظهر. قال الشاعر: «1»
تالله يبقى على الأيام ذو حيد ... بمشمخر به الظيان والآس
وقال ابن عباس: أي وحرمة الله لأكيدن أصنامكم، أي لأمكرن بها. والكيد المكر. كاده
يكيده كيدا ومكيدة، وكذلك المكايدة، وربما سمى الحرب كيدا، يقال: غزا فلان فلم يلق
كيدا، وكل شي تعالجه فأنت تكيده. (بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ) أي منطلقين
ذاهبين. وكان لهم في كل سنة عيد يجتمعون فيه، فقالوا لإبراهيم: لو خرجت معنا إلى
عيدنا أعجبك ديننا- روى ذلك عن ابن مسعود على ما يأتي بيانه في"
والصافات" «2»- فقال إبراهيم في نفسه:" وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ
أَصْنامَكُمْ". قال مجاهد وقتادة: إنما قال ذلك إبراهيم في سر من قومه، ولم
يسمعه إلا رجل واحد وهو الذي أفشاه عليه. والواحد يخبر عنه بخبر الجمع إذا كان ما
أخبر به مما يرضى به غيره. ومثله" يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى
الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ" «3» [المنافقون:
8]. وقيل: إنما قاله بعد خروج القوم، ولم يبق منهم إلا الضعفاء فهم الذين سمعوه.
وكان إبراهيم احتال في التخلف عنهم بقوله:" إِنِّي سَقِيمٌ" [الصافات: 89]
أي ضعيف عن الحركة. قوله تعالى: (فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً) أي فتاتا. والجذ الكسر
والقطع، جذذت الشيء كسرته وقطعته. والجذاذ والجذاذ ما كسر منه، والضم أفصح من
كسره. قاله الجوهري. الكسائي: ويقال لحجارة الذهب جذاذ، لأنها تكسر. وقرا الكسائي
والأعمش وابن محيصن:" جذاذا" بكسر الجيم، أي كسرا وقطعا جمع جذيذ وهو
الهشيم، مثل خفيف وخفاف وظريف وظراف. قال الشاعر:
جذذ الأصنام في محرابها ... ذاك في الله العلي المقتدر
__________
(1). هو مالك بن خالد الخناعي الهذلي. وحيد هنا (كعنب): كل نتوء في الجبل.
والمشمخر: الجبل العالي. والظبان: ياسمين البر. والمعنى: لا يبقى.
(2). راجع ج 15 ص 94.
(3). راجع ج 18 ص 129.
قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61)
الباقون
بالضم، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم. [مثل «1»] الحطام والرفات الواحدة جذاذة. وهذا
هو الكيد الذي أقسم به ليفعلنه بها. وقال:" فَجَعَلَهُمْ"، لان القوم
اعتقدوا في أصنامهم الإلهية. وقرا ابن عباس وأبو نهيك وأبو السمال:"
جذاذا" بفتح الجيم، والفتح والكسر لغتان كالحصاد والحصاد. أبو حاتم: الفتح
والكسر والضم بمعنى، حكاه قطرب. (إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ) أي عظيم الآلهة في الخلق
فإنه لم يكسره. وقال السدي ومجاهد: ترك الصنم الأكبر وعلق الفأس الذي كسر به
الأصنام في عنقه، ليحتج به عليهم. (لعلهم إليه) أي إلى إبراهيم دينه"
يَرْجِعُونَ" إذا قامت الحجة عليهم. وقيل:" لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ"
أي إلى الصنم الأكبر" يَرْجِعُونَ" في تكسيرها.
[سورة الأنبياء (21): الآيات 59 الى 61]
قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قالُوا
سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ (60) قالُوا فَأْتُوا بِهِ
عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61)
قوله تعالى: (قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ)
المعنى لما رجعوا من عيدهم ورأوا ما أحدث بآلهتهم، قالوا على جهة البحث
والإنكار:" مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ".
وقيل:" مَنْ" ليس استفهاما، بل هو ابتداء وخبره" لَمِنَ
الظَّالِمِينَ" أي فاعل هذا ظالم. والأول أصح لقوله: (سمعنا فتى يذكرهم) وهذا
هو جواب" مَنْ فَعَلَ هذا". والضمير في" قالُوا" للقوم
الضعفاء الذين سمعوا إبراهيم، أو الواحد على ما تقدم. ومعنى"
يَذْكُرُهُمْ" يعيبهم ويسبهم فلعله الذي صنع هذا. واختلف الناس في وجه رفع
إبراهيم، فقال الزجاج: يرتفع على معنى يقال له هو إبراهيم، فيكون [خبر مبتدإ «2»]
محذوف، والجملة محكية. قال: ويجوز أن يكون رفعا على النداء وضمة بناء، وقام له
مقام ما لم يسم فاعله. وقيل: رفعه على أنه مفعول ما لم يسم فاعله، على أن يجعل
إبراهيم غير دال على الشخص، بل يجعل النطق به دالا على بناء هذه اللفظة أي يقال له
هذا القول وهذا اللفظ، [وهذا «3»] كما تقول
__________
(1). في الأصول: (أي) وهو تحريف.
(2). في الأصول: (فيكون مبتدأ وخبره محذوف وهو تحريف.
(3). من ب وج وز وط وك.
قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63)
زيد
وزن فعل، أو زيد ثلاثة أحرف، فلم تدل بوجه الشخص، بل دللت بنطقك على نفس اللفظة
وعلى هذه الطريقة تقول: قلت إبراهيم، ويكون مفعولا صحيحا نزلته منزلة قول وكلام،
فلا يتعذر بعد ذلك أن يبني الفعل فيه للمفعول. هذا اختيار ابن عطية في رفعه. وقال
الأستاذ أبو الحجاج الإشبيلي الأعلم: هو رفع على الإهمال. قال ابن عطية: لما رأى
وجوه الرفع كأنها لا توضح المعنى الذي قصدوه، ذهب إلى رفعه بغير شي، كما قد يرفع
التجرد والعرو عن العوامل الابتداء. والفتى الشاب والفتاة الشابة. وقال ابن عباس:
ما أرسل الله نبيا إلا شابا. ثم قرأ:" سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ".
قوله تعالى: (قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ) فيه مسألة واحدة، وهي:
أنه لما بلغ الخبر نمروذ وأشراف قومه، كرهوا أن يأخذوه بغير بينة، فقالوا: ائتوا
به ظاهرا بمرأى من الناس حتى يروه (لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ) عليه بما قال، ليكون
ذلك حجة عليه. وقيل:" لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ" عقابه فلا يقدم أحد على
مثل ما أقدم عليه. أو لعل قوما" يَشْهَدُونَ" بأنهم رأوه يكسر الأصنام،
أو" لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ" طعنه على آلهتهم ليعلموا أنه يستحق العقاب.
قلت: وفي هذا دليل على أنه كان لا يؤاخذ أحد بدعوى أحد فيما تقدم، لقوله
تعالى:" فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ"
وهكذا الامر في شرعنا ولا خلاف فيه.
[سورة الأنبياء (21): الآيات 62 الى 63]
قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ (62) قالَ بَلْ فَعَلَهُ
كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ (63)
قوله تعالى (قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ) فيه أربع
مسائل: الاولى- لما لم يكن السماع عاما ولا ثبتت الشهادة استفهموه هل فعل أم لا؟
وفي الكلام حذف فجاء إبراهيم حين أتى به فقالوا: أأنت فعلت هذا بالآلهة؟ فقال لهم
إبراهيم على جهة الاحتجاج عليهم:" بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا" أي
إنه غار وغضب من أن يعبد هو
ويعبد
الصغار معه ففعل هذا بها لذلك، إن كانوا ينطقون فاسألوهم. فعلق فعل الكبير بنطق
الآخرين، تنبيها لهم على فساد اعتقادهم. كأنه قال: بل هو الفاعل إن نطق هؤلاء. وفي
الكلام تقديم على هذا التأويل في قوله:" فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا
يَنْطِقُونَ". وقيل: أراد بل فعله كبيرهم إن كانوا ينطقون. بين أن من لا
يتكلم ولا يعلم ولا يستحق أن يعبد. وكان قوله من المعاريض، وفي المعاريض مندوحة عن
الكذب. أي سلوهم إن نطقوا فإنهم يصدقون، وإن لم يكونوا ينطقون فليس هو الفاعل. وفي
ضمن هذا الكلام اعتراف بأنه هو الفاعل وهذا هو الصحيح لأنه عدده على نفسه، فدل أنه
خرج مخرج التعريض. وذلك أنهم كانوا يعبدونهم ويتخذونهم آلهة من دون الله، كما قال
إبراهيم لأبيه:" يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ
" «1» [مريم: 42]- الآية- فقال إبراهيم:" بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ
هذا" ليقولوا إنهم لا ينطقون ولا ينفعون ولا يضرون، فيقول لهم فلم تعبدونهم؟
فتقوم عليهم الحجة منهم، ولهذا يجوز عند الامة فرض الباطل مع الخصم حتى يرجع إلى
الحق من ذات نفسه، فإنه أقرب في الحجة وأقطع للشبهة، كما قال لقومه:" هذا
رَبِّي" «2» وهذه أختي و" إِنِّي سَقِيمٌ" «3» و" بَلْ
فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا" وقرا ابن السميقع" بل فعله" بتشديد اللام
بمعنى فلعل الفاعل كبيرهم. وقال الكسائي: الوقف عند قوله:" بَلْ
فَعَلَهُ" أي فعله من فعله، ثم يبتدئ" كَبِيرُهُمْ هذا". وقيل: أي
لم ينكرون أن يكون فعله كبيرهم؟ فهذا إلزام بلفظ الخبر. أي من اعتقد عبادتها يلزمه
أن يثبت لها فعلا، والمعنى: بل فعله كبيرهم فيما يلزمكم. الثانية- روى البخاري
ومسلم والترمذي عن أبي هريرة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: (لم يكذب إبراهيم النبي في شي قط إلا في ثلاث:" إِنِّي
سَقِيمٌ" [الصافات: 89] وقوله: لسارة أختي وقوله:" بَلْ فَعَلَهُ
كَبِيرُهُمْ" (لفظ الترمذي. وقال: حديث حسن صحيح. ووقع في الاسراء في صحيح مسلم،
من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في قصة إبراهيم قال: وذكر قوله في الكوكب"
هذا رَبِّي". فعلى هذا تكون الكذبات أربعا إلا أن الرسول عليه السلام قد نفى
تلك بقوله: (لم يكذب إبراهيم النبي قط إلا في ثلاث كذبات ثنتين في ذات الله قوله:
__________
(1). راجع ص 110 من هذا الجزء. [.....]
(2). راجع ج 7 ص 25.
(3). راجع ج 15 ص 19 فما بعد.
"
إِنِّي سَقِيمٌ" [الصافات: 89] وقوله:" بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ"
وواحدة في شأن سارة) الحديث لفظ مسلم وإنما يعد عليه قوله في الكوكب:" هذا
رَبِّي" [الانعام: 78] كذبة وهي داخلة في الكذب، لأنه- والله أعلم- كان حين
قال ذلك في حال الطفولية، وليست حالة تكليف. أو قال لقومه مستفهما لهم على جهة
التوبيخ الإنكار، وحذفت همزة الاستفهام. أو على طريق الاحتجاج على قومه: تنبيها
على أن ما يتغير لا يصلح للربوبية. وقد تقدمت هذه الوجوه كلها في" الانعام"
«1» مبينة والحمد لله. الثالثة- قال القاضي أبو بكر بن العربي: في هذا الحديث نكتة
عظمي تقصم الظهر، وهي أنه عليه السلام قال: (لم يكذب إبراهيم إلا في ثلاث كذبات
ثنتين ما حل بهما عن دين الله وهما قوله" إِنِّي سَقِيمٌ" [الصافات: 89]
وقوله" بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ" ولم يعد [قوله «2»] هذه أختي في ذات
الله تعالى وإن كان دفع بها مكروها، ولكنه لما كان لإبراهيم عليه السلام فيها حظ
من صيانة فراشه وحماية أهله، لم يجعلها في ذات الله، وذلك لأنه لا يجعل في جنب
الله وذاته إلا العمل الخالص من شوائب الدنيا، والمعاريض التي ترجع إلى النفس إذا
خلصت للدين كانت لله سبحانه، كما قال:" أَلا لِلَّهِ الدِّينُ
الْخالِصُ" [الزمر: 3 ( «3»]. وهذا لو صدر منا لكان لله، لكن منزلة إبراهيم
اقتضت هذا. والله أعلم. الرابعة- قال علماؤنا: الكذب هو الاخبار عن الشيء بخلاف ما
هو عليه. والأظهر أن قول إبراهيم فيما أخبر عنه عليه السلام كان من المعاريض، وإن
كانت معاريض وحسنات وحججا في الخلق ودلالات، لكنها أثرت في الرتبة، وخفضت عن محمد
المنزلة، واستحيا منها قائلها، على ما ورد في حديث الشفاعة، فإن الأنبياء يشفقون
مما لا يشفق منه غيرهم إجلالا لله، فإن الذي كان يليق بمرتبته في النبوة والخلة،
أن يصدع بالحق ويصرح بالحق لأمر كيفما كان، ولكنه رخص له فقبل الرخصة فكان ما كان
من القصة، والقصة ولهذا جاء في حديث الشفاعة (إنما اتخذت خليلا من وراء وراء) بنصب
وراء فيهما على البناء كخمسة عشر، وكما قالوا
__________
(1). راجع ج 7 ص 25 فما بعد.
(2). الزيادة من (أحكام القرآن) لابن العربي.
(3). راجع ج 15 ص 232 فما بعد.
فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65) قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67)
جاري
بيت بيت. ووقع في بعض نسخ مسلم (من وراء من وراء) بإعادة من، وحينئذ لا يجوز
البناء على الفتح، وإنما يبني كل واحد منهما على الضم، لأنه قطع عن الإضافة ونوى
المضاف كقبل وبعد، وإن لم ينو المضاف أعرب ونون غير أن وراء لا ينصرف، لان ألفه
للتأنيث، لأنهم قالوا في تصغيرها ورئية، قال الجوهري: وهي شاذة. فعلى هذا يصح
الفتح فيهما مع وجود" من" فيهما. والمعنى إني كنت خليلا متأخرا عن غيري.
ويستفاد من هذا أن الخلة لم تصح بكمالها إلا لمن صح له في ذلك اليوم المقام
المحمود كما تقدم. وهو نبينا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
[سورة الأنبياء (21): الآيات 64 الى 67]
فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64)
ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ (65) قالَ
أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ
(66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (67)
قوله تعالى: (فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ) أي رجع بعضهم إلى بعض رجوع المنقطع عن
حجته، المتفطن لصحة حجة خصمه. (فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ) أي
بعبادة من لا ينطق بلفظة، ولا يملك لنفسه لحظة، وكيف ينفع عابديه ويدفع عنهم
البأس، من لا يرد عن رأسه الفأس. قوله تعالى: (ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ) أي
عادوا إلى جهلهم وعبادتهم «1» فقالوا:" لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ
يَنْطِقُونَ" ف"- قالَ" قاطعا لما به يهذون، ومفحما لهم فيما
يتقولون" أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً
وَلا يَضُرُّكُمْ. أُفٍّ لَكُمْ
" أي النتن لكم" وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا
تَعْقِلُونَ". وقيل، (نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ) أي طأطئوا رؤسهم خجلا من
إبراهيم وفيه نظر لأنه لم يقل نكسوا رؤوسهم بفتح الكاف بل قال" نُكِسُوا عَلى
رُؤُسِهِمْ" أي ردوا على ما كانوا عليه في أول الامر وكذا قال ابن عباس قال:
أدركهم الشقاء فعادوا إلى كفرهم.
__________
(1). كذا في ب وج وز وى. وفي اوط: عبادتهم.
قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69)
[سورة
الأنبياء (21): الآيات 68 الى 69]
قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (68) قُلْنا
يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ (69)
قوله تعالى: (قالُوا حَرِّقُوهُ) لما انقطعوا بالحجة أخذتهم عزة بإثم وانصرفوا إلى
طريق الغشم والغلبة وقالوا حرقوه. روى أن قائل هذه المقالة هو رجل من الأكراد من
أعراب فارس، أي من باديتها، قاله ابن عمر ومجاهد وابن جريج. ويقال: اسمه هيزر «1»
فخسف الله به الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة. وقيل: بل قاله ملكهم نمرود.
(وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ) بتحريق إبراهيم لأنه يسبها ويعيبها. وجاء في الخبر: أن
نمرود بنى صرحا طوله ثمانون ذراعا وعرضه أربعون ذراعا. قال ابن إسحاق: وجمعوا
الحطب شهرا ثم أوقدوها، واشتعلت واشتدت، حتى أن كان الطائر ليمر بجنباتها فيحترق
من شدة وهجها. ثم قيدوا إبراهيم ووضعوه في المنجنيق مغلولا. ويقال: إن إبليس صنع
لهم المنجنيق يومئذ. فضجت السموات والأرض ومن فيهن من الملائكة وجميع الخلق، إلا
الثقلين ضجة واحدة: ربنا! إبراهيم ليس في الأرض أحد يعبدك غيره يحرق فيك فأذن لنا
في نصرته. فقال الله تعالى:" إن استغاث بشيء منكم أو دعاه فلينصره فقد أذنت
له في ذلك وإن لم يدع غيري فأنا أعلم به وأنا وليه" فلما أرادوا إلقاءه في
النار، أتاه خزان الماء- وهو في الهواء- فقالوا: يا إبراهيم إن أردت أخمدنا النار
بالماء. فقال: لا حاجة لي إليكم. وأتاه ملك الريح فقال: لو شئت طيرت النار. فقال:
لا. ثم رفع رأسه إلى السماء فقال:" اللهم أنت الواحد في السماء وأنا الواحد
في الأرض ليس أحد يعبدك غيري حسبي الله ونعم الوكيل". وروى أبي بن كعب رضي
الله عنه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إن إبراهيم حين قيدوه
ليلقوه في النار قال لا إله إلا أنت سبحانك رب العالمين لك الحمد ولك الملك لا
شريك لك) قال: ثم رموا به في المنجنيق من مضرب شاسع، فاستقبله جبريل، فقال: يا
إبراهيم ألك حاجة؟ قال:" أما إليك فلا". فقال جبريل: فاسأل ربك.
فقال:" حسبي من سؤالي علمه بحالي". فقال
__________
(1). وقيل: اسمه (هيزن) كما في تاريخ الطبري وتفسيره. وقيل: (هيون).
وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70) وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (73)
الله
تعالى وهو أصدق القائلين: (يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ)
قال بعض العلماء: جعل الله فيها بردا يرفع حرها، وحرا يرفع بردها، فصارت سلاما
عليه. قال أبو العالية: ولو لم يقل" بَرْداً وَسَلاماً" لكان بردها أشد
عليه من حرها، ولو لم يقل" عَلى إِبْراهِيمَ" لكان بردها باقيا على
الأبد. وذكر بعض العلماء: أن الله تعالى أنزل زربية «1» من الجنة فبسطها في
الجحيم، وأنزل الله ملائكة: جبريل وميكائيل وملك البرد وملك السلامة. وقال على
وابن عباس: لو لم يتبع بردها سلاما لمات إبراهيم من بردها، ولم تبق يومئذ نار إلا
طفئت ظنت أنها تعني. قال السدي: وأمر الله كل عود من شجرة أن يرجع إلى شجره ويطرح
ثمرته. وقال كعب وقتادة: لم تحرق النار من إبراهيم إلا وثاقه. فأقام في النار سبعة
أيام لم يقدر أحد أن يقرب من النار، ثم جاءوا فإذا هو قائم يصلي. وقال المنهال بن
عمرو قال إبراهيم:" ما كنت أياما قط أنعم مني في الأيام التي كنت فيها في
النار". وقال كعب وقتادة والزهري: ولم تبق يومئذ دابة إلا أطفأت عنه النار
إلا الوزغ فإنها كانت تنفخ عليه، فلذلك أمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بقتلها وسماها فويسقة. وقال شعيب الحماني: ألقى إبراهيم في النار وهو
ابن ست عشرة سنة. وقال ابن جريج: ألقي إبراهيم في النار وهو ابن ست وعشرين سنة.
ذكر الأول الثعلبي، والثاني الماوردي، فالله أعلم. وقال الكلبي: بردت نيران الأرض
جميعا فما أنضجت كراعا، فرآه نمروذ من الصرح وهو جالس على السرير يؤنسه ملك الظل.
فقال: نعم الرب ربك! لأقربن له أربعة آلاف بقرة وكف عنه.
[سورة الأنبياء (21): الآيات 70 الى 73]
وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70) وَنَجَّيْناهُ
وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ (71) وَوَهَبْنا
لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنا صالِحِينَ (72)
وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ
الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ (73)
__________
(1). الزربية: الطنفسة وقيل: البساط ذو الخمل وزايها مثلثة.
قوله
تعالى: (وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً) أي أراد نمروذ وأصحابه أن يمكروا به
(فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ) [أي «1»] في أعمالهم، ورددنا مكرهم عليهم
بتسليطنا أضعف خلقنا. قال «2» ابن عباس: سلط الله عليهم أضعف خلقه البعوض، فما برح
نمروذ حتى رأى عظام أصحابه وخيله تلوح، أكلت لحومهم وشربت دماءهم، ووقعت واحدة في
منخره فلم تزل تأكل إلى أن وصلت دماغه، وكان أكرم الناس عليه الذي يضرب رأسه
بمرزبة من حديد. فأقام بهذا نحوا من أربعمائة سنة. قوله تعالى: (وَنَجَّيْناهُ
وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ) يريد نجينا
إبراهيم ولوطا إلى [الأرض «3»] أرض الشام وكانا بالعراق. وكان [إبراهيم «4»] عليه
السلام [عمه لوط «5»
]، قاله ابن عباس. وقيل: لها مباركة لكثرة خصبها وثمارها وأنهارها، ولأنها معادن
الأنبياء. والبركة ثبوت الخير، ومنه برك البعير إذا لزم مكانه فلم يبرح. وقال ابن
عباس: الأرض المباركة مكة. وقيل: بيت المقدس، لان منها بعث الله أكثر الأنبياء،
وهي أيضا كثيرة الخصب والنمو، عذبة الماء، ومنها يتفرق في الأرض. قال أبو العالية:
ليس ماء عذب إلا يهبط من السماء إلى الصخرة التي ببيت المقدس، ثم يتفرق في الأرض.
ونحوه عن كعب الأحبار. وقيل: الأرض المباركة مصر. قوله تعالى: (وَوَهَبْنا لَهُ
إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً) أي زيادة، لأنه دعا في إسحاق وزيد يعقوب من غير
دعاء فكان ذلك نافلة، أي زيادة على ما سأل، إذ قال:" رَبِّ هَبْ لِي مِنَ
الصَّالِحِينَ" «6» [الصافات: 100]. ويقال لولد الولد نافلة، لأنه زيادة على
الولد. (وَكُلًّا جَعَلْنا صالِحِينَ) أي وكلا من إبراهيم وإسحاق ويعقوب جعلناه
صالحا عاملا بطاعة الله. وجعلهم صالحين إنما يتحقق بخلق الصلاح والطاعة لهم، وبخلق
القدرة على الطاعة، ثم ما يكتسبه العبد فهو مخلوق لله تعالى. قوله تعالى:
(وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا) أي رؤساء يقتدى بهم في الخيرات
وأعمال الطاعات. ومعنى" بأمرنا" أي بما أنزلنا عليهم من الوحي والامر
والنهي، فكأنه قال يهدون بكتابنا وقيل: المعنى يهدون الناس إلى ديننا بأمرنا إياهم
بإرشاد الخلق، ودعائهم إلى التوحيد. (وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ)
أي أن يفعلوا الطاعات. (وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا
عابِدِينَ) أي مطيعين.
__________
(1). من ب وج وز وط وك وى.
(2). سبق أن نبهنا على أن ابن عباس يكذب عليه بعض الرواة.
(3). من ب وج وز وط وك وى.
(4). من ك.
(5). كذا في ك. وفي غيرها من النسخ: لوط. وهو خطأ.
(6). راجع ج 15 ص 97 فما بعد. [.....]
وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (74) وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (77)
[سورة
الأنبياء (21): الآيات 74 الى 75]
وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي
كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ (74)
وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75)
قوله تعالى: (وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً)" لُوطاً" منصوب
بفعل مضمر دل عليه الثاني، أي وآتينا لوط آتيناه. وقيل: أي واذكر لوطا. والحكم
النبوة، والعلم المعرفة بأمر الدين وما يقع به الحكم بين الخصوم. وقيل:"
عِلْماً" فهما، والمعنى واحد. (وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي
كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ) يريد سدوم. ابن عباس: كانت سبع قرى، قلب جبريل عليه
السلام ستة وأبقي واحدة للوط وعياله، وهي زغر التي فيها الثمر من كورة فلسطين إلى
حد الشراة «1»، ولها قرى كثيرة إلى حد بحر الحجاز «2». وفي الخبائث التي كانوا
يعملونها قولان: أحدهما: اللواط على ما تقدم. والثاني: الضراط، أي كانوا يتضارطون
في ناديهم ومجالسهم. وقيل: الضراط وخذف «3» الحصي وسيأتي. (إِنَّهُمْ كانُوا
قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ) أي خارجين عن طاعة الله، والفسوق الخروج وقد تقدم.
(وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا) أي في النبوة. وقيل: في الإسلام. وقيل: الجنة.
وقيل: عنى بالرحمة إنجاءه من قومه (إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ).
[سورة الأنبياء (21): الآيات 76 الى 77]
وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ
الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا
بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (77)
قوله تعالى: (وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ) أي واذكر نوحا إذ نادى، أي
دعا." مِنْ قَبْلُ" أي من قبل إبراهيم ولوط على قومه، وهو قوله:"
رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً" «4» [نوح: 26]
وقال لما كذبوه:" أني مغلوب فانتصر" «5» [القمر: 10]. (فَاسْتَجَبْنا
لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) أي من الغرق. والكرب الغم
الشديد" واهله" أي المؤمنين منهم. (وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ
الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا)
__________
(1). كذا في ب وز وك. وهو الأشبه. والشراة جبل بنجد لطيئ. وفي اوج وط: السراة
بالمهملة: جبل من عرفات إلى حد نجران.
(2). في ك: نجد بالحجاز.
(3). كذا في ك: وفي ب وج وز وط: حذف. بالمهملة.
(4). راجع ج 18 ص 312.
(5). راجع ج 17 ص 131.
(
وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79)
قال
أبو عبيدة:" مِنَ" بمعنى على. وقيل: المعنى فانتقمنا له" مِنَ
الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا"." فَأَغْرَقْناهُمْ
أَجْمَعِينَ" أي الصغير منهم والكبير.
[سورة الأنبياء (21): الآيات 78 الى 79]
وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ
الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ
وَكُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ
يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ (79)
فيه ست وعشرون مسألة: الاولى- قوله تعالى: (وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ
يَحْكُمانِ) أي وأذكرهما إذ يحكمان، ولم يرد بقوله" إِذْ يَحْكُمانِ"
الاجتماع في الحكم وإن جمعهما في القول، فإن حكمين على حكم واحد لا يجوز. وإنما
حكم كل واحد منهما على انفراده، وكان سليمان الفاهم لها بتفهيم الله تعالى
إياه:" فِي الْحَرْثِ" اختلف فيه على قولين: فقيل: كان زرعا، قاله
قتادة. وقيل: كرما نبتت عناقيده، قال ابن مسعود وشريح «1». و" الحرث"
يقال فيهما، وهو في الزرع أبعد من الاستعارة. الثانية- قوله تعالى: (إِذْ نَفَشَتْ
فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ) أي رعت فيه ليلا، والنفش الرعي بالليل. يقال: نفشت
بالليل، وهملت بالنهار، إذا رعت بلا راع. وأنفشها صاحبها. وابل نفاش. وفي حديث عبد
الله بن عمرو: الحبة في الجنة مثل كرش البعير يبيت نافشا، أي راعيا، حكاه الهروي.
وقال ابن سيده: لا يقال الهمل في الغنم وإنما هو في الإبل: الثالثة- قوله تعالى:
(وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ) دليل على أن أقل الجمع اثنان وقيل: المراد
الحاكمان والمحكوم عليه، فلذلك قال" لِحُكْمِهِمْ". الرابعة- قوله تعالى:
(فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ) أي فهمناه القضية والحكومة، فكنى عنها إذ سبق ما يدل
عليها. وفضل حكم سليمان حكم أبيه في أنه أحرز أن يبقي [ملك «2»] كل واحد منهما على
متاعه وتبقى نفسه طيبة بذلك، وذلك أن داود عليه السلام رأى أن يدفع الغنم إلى صاحب
الحرث. وقالت فرقة: بل دفع الغنم إلى صاحب الحرث، والحرث إلى صاحب الغنم.
__________
(1). في ك: سعيد.
(2). من ب وج وز وط وى.
قال
ابن عطية: فيشبه على القول الواحد أنه رأى الغنم تقاوم الغلة التي أفسدت. وعلى
القول الثاني رآها تقاوم الحرث والغلة، فلما خرج الخصمان على سليمان وكان يجلس على
الباب الذي يخرج منه الخصوم، وكانوا يدخلون إلى داود من باب آخر فقال: بم قضى
بينكما نبي الله داود؟ فقالا: قضى بالغنم لصاحب الحرث: فقال لعل الحكم غير هذا
انصرفا معي: فأتى أباه فقال: يا نبي الله أنك حكمت بكذا وكذا وإني رأيت ما هو أرفق
بالجميع. قال: وما هو؟ قال: ينبغي أن تدفع الغنم إلى صاحب الحرث فينتفع بألبانها
وسمونها وأصوافها، وتدفع الحرث إلى صاحب الغنم ليقوم عليه، فإذا عاد الزرع إلى
حاله التي أصابته الغنم [فيه «1»] في السنة المقبلة، رد كل واحد منهما ماله إلى
صاحبه. فقال داود: وفقت يا بني لا يقطع الله فهمك. وقضى بما قضى به سليمان، قال
معناه ابن مسعود ومجاهد وغيرهما. قال الكلبي: قوم داود الغنم والكرم الذي أفسدته
الغنم فكانت القيمتان سواء، فدفع الغنم إلى صاحب الكرم. وهكذا قال النحاس، قال:
إنما قضى بالغنم لصاحب الحرث، لان ثمنها كان قريبا منه. وأما في حكم سليمان فقد
قيل: كانت قيمة ما نال من الغنم وقيمة ما أفسدت الغنم سواء أيضا. الخامسة-
(وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً) تأول قوم أن داود عليه السلام لم يخطئ في
هذه النازلة، بل فيها أوتي الحكم والعلم. وحملوا قوله:" فَفَهَّمْناها
سُلَيْمانَ" على أنه فضيلة له على داود وفضيلته راجعة إلى داود، والوالد تسره
زيادة ولده عليه. وقالت فرقة: بل لأنه لم يصب العين المطلوبة في هذه النازلة،
وإنما مدحه الله بأن له حكما وعلما يرجع إليه في غير هذه النازلة. وأما في هذه
فأصاب سليمان وأخطأ داود عليهما الصلاة والسلام، ولا يمتنع وجود الغلط والخطإ من
الأنبياء كوجوده من غيرهم، لكن لا يقرون عليه، وإن أقر عليه غيرهم. ولما هدم
الوليد كنيسة دمشق كتب إليه ملك الروم: إنك هدمت الكنيسة التي رأى أبوك تركها، فإن
كنت مصيبا فقد أخطأ أبوك، وإن كان أبوك مصيبا فقد أخطأت أنت، فأجابه الوليد"
وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ
الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ. فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلًّا
آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً". وقال قوم كان داود وسليمان- عليهما السلام-
نبيين يقضيان بما يوحى إليهما، فحكم داود بوحي،
__________
(1). كذا في ك. وفي ب وج وز وط وى: عليه.
وحكم سليمان بوحي نسخ الله به حكم داود، وعلى هذا" فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ" أي بطريق الوحي الناسخ لما أوحى إلى داود، وأمر سليمان أن يبلغ ذلك داود، ولهذا قال:" وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً". هذا قول جماعة من العلماء ومنهما ابن فورك. وقال الجمهور: إن حكمهما كان باجتهاد وهي: السادسة- واختلف العلماء في جواز الاجتهاد على الأنبياء فمنعه قوم، وجوزه المحققون، لأنه ليس فيه استحالة عقلية، لأنه دليل شرعي فلا إحالة أن يستدل به الأنبياء، كما لو قال له الرب سبحانه وتعالى: إذا غلب على ظنك كذا فاقطع بأن ما غلب على ظنك هو حكمي فبلغه الامة، فهذا غير مستحيل في العقل. فإن قيل: إنما يكون دليلا إذا عدم النص وهم لا يعدمونه. قلنا: إذا لم ينزل الملك فقد عدم النص عندهم، وصاروا في البحث كغيرهم من المجتهدين عن معاني النصوص التي عندهم. والفرق بينهم وبين غيرهم من المجتهدين أنهم معصومون عن الخطأ، وعن الغلط، وعن التقصير في اجتهادهم، وغيرهم ليس كذلك. كما ذهب الجمهور في أن جميع الأنبياء صلوات الله عليهم معصومون عن الخطأ والغلط في اجتهادهم. وذهب أبو علي ابن أبي هريرة من أصحاب الشافعي إلى أن نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مخصوص منهم في جواز الخطأ عليهم، وفرق بينه وبين غيره من الأنبياء أنه لم يكن بعده من يستدرك غلطه، ولذلك عصمه الله تعالى منه، وقد بعث بعد غيره من الأنبياء من يستدرك غلطه. وقد قيل: إنه على العموم في جميع الأنبياء، وأن نبينا وغيره من الأنبياء صلوات الله عليهم في تجويز الخطإ على سواء إلا أنهم لا يقرون على إمضائه، فلم يعتبر فيه استدراك من بعدهم من الأنبياء. هذا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد سألته امرأة عن العدة فقال لها: (اعتدي حيث شئت) ثم قال لها: (امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله). وقال له رجل: أرأيت لو قتلت صبرا محتسبا أيحجزني عن الجنة شي؟ فقال: (لا) ثم دعاه فقال: (إلا الدين كذا أخبرني جبريل عليه السلام). السابعة- قال الحسن: لولا هذه الآية لرأيت أن القضاة هلكوا، ولكنه تعالى أثنى على سليمان بصوابه، وعذر داود باجتهاده. وقد اختلف الناس في المجتهدين في الفروع إذا
اختلفوا،
فقالت فرقة: الحق في طرف واحد عند الله، وقد نصب على ذلك أدلة، وحمل المجتهدين على
البحث عنها، والنظر فيها، فمن صادف العين المطلوبة في المسألة فهو المصيب على
الإطلاق، وله أجران أجر في الاجتهاد واجر في الإصابة، ومن لم يصادفها فهو مصيب في
اجتهاده مخطئ في أنه لم يصب العين فله أجر وهو غير معذور. وهذا سليمان قد صادف
العين المطلوبة، وهي التي فهم. ورأت فرقة أن العالم المخطئ لا إثم في خطئه وإن كان
غير معذور. وقالت فرقة: الحق في طرف واحد ولم ينصب الله تعالى عليه دلائل «1» [بل
«2»] وكل الامر إلى نظر المجتهدين فمن أصابه أصاب ومن أخطأ فهو معذور مأجور ولم
يتعبد بإصابة العين بل تعبدنا بالاجتهاد فقط. وقال جمهور أهل السنة وهو المحفوظ عن
مالك وأصحابه رضي الله عنهم: إن الحق في مسائل الفروع في الطرفين، وكل مجتهد مصيب،
المطلوب إنما هو الأفضل في ظنه، وكل مجتهد قد أداه نظره إلى الأفضل في ظنه،
والدليل على هذه المقالة أن الصحابة فمن بعدهم قرر بعضهم خلاف بعض، ولم ير أحد
منهم أن يقع الانحمال على قوله دون قول مخالفه. ومنه رد مالك رحمه الله للمنصور
أبي جعفر عن حمل الناس على" الموطأ"، فإذا قال عالم في أمر حلال فذلك هو
الحق فيما يختص بذلك العالم عند الله تعالى وبكل من أخذ بقوله، وكذا في العكس.
قالوا: وإن كان سليمان عليه السلام فهم القضية المثلى والتي أرجح فالأولى ليست
بخطإ، وعلى هذا يحملون قوله عليه السلام: (إذا اجتهد العالم فأخطأ) أي فأخطأ
الأفضل. الثامنة- روى مسلم وغيره عن عمرو بن العاص أنه سمع رسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران وإذا
حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر) هكذا لفظ الحديث في كتاب مسلم (إذا حكم فاجتهد) فبدأ
بالحكم قبل الاجتهاد، والامر بالعكس، فإن الاجتهاد مقدم على الحكم، فلا يجوز الحكم
قبل الاجتهاد بالإجماع. وإنما معنى هذا الحديث: إذا أراد أن يحكم، كما قال:"
فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ" «3» [النحل: 98] فعند
__________
(1). في ج وز: دليلا بل.
(2). في ج وز: دليلا بل.
(3). راجع ج 10 ص 174.
ذلك أراد أن يجتهد في النازلة. ويفيد هذا صحة ما قاله الأصوليون: إن المجتهد يجب عليه أن يجدد نظرا عند وقوع النازلة، ولا يعتمد على اجتهاده المتقدم لإمكان أن يظهر له ثانيا خلاف ما ظهر له أولا، اللهم إلا أن يكون ذاكرا لأركان اجتهاده، مائلا إليه، فلا يحتاج إلى استئناف نظر في أمارة أخرى. التاسعة- إنما يكون يكون الأجر للحاكم المخطئ إذا كان عالما بالاجتهاد والسنن والقياس، وقضاء من مضي لان اجتهاده عبادة ولا يؤجر على الخطأ بل يوضع عنه الإثم فقط، فأما من لم يكن محلا للاجتهاد فهو متكلف لا يعذر بالخطإ في الحكم، بل يخاف عليه أعظم الوزر. يدل على ذلك حديثه الآخر، رواه أبو داود: (القضاة ثلاثة) الحديث. قال ابن المنذر: إنما يؤجر على اجتهاده في طلب الصواب لا على الخطأ، ومما يؤيد هذا قوله تعالى:" فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ" الآية. قال الحسن: أثنى على سليمان ولم يذم داود. العاشرة- ذكر أبو التمام المالكي أن مذهب مالك أن الحق في واحد من أقاويل المجتهدين وليس ذلك في أقاويل المختلفين، وبه قال أكثر الفقهاء. قال: وحكى ابن القاسم أنه سأل مالكا عن اختلاف الصحابة، فقال: مخطئ ومصيب، وليس الحق في جميع أقاويلهم. وهذا القول قيل: هو المشهور عن مالك وإليه ذهب محمد بن الحسين. واحتج من قال هذا بحديث عبد الله بن عمرو، قالوا: وهو نص على أن في المجتهدين وفي الحاكمين مخطئا ومصيبا، قالوا: والقول بأن كل مجتهد مصيب يؤدي إلى كون الشيء حلالا حراما، وواجبا ندبا. واحتج أهل المقالة الاولى بحديث ابن عمر. قال: نادى فينا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم انصرف من الأحزاب (ألا لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة) فتخوف ناس فوت الوقت فصلوا دون بني قريظة، وقال الآخرون: لا نصلي إلا حيث أمرنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإن فاتنا الوقت، قال: فما عنف واحدا من الفريقين، قالوا: فلو كان أحد الفريقين مخطئا لعينه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ويمكن أن يقال: لعله إنما سكت عن تعيين المخطئين لأنه غير آثم بل مأجور،
فاستغنى عن تعيينه. والله أعلم. ومسألة الاجتهاد طويلة متشعبة، وهذه النبذة التي ذكرناها كافية في معنى الآية، والله الموفق للهداية. الحادية عشرة- ويتعلق بالآية فصل آخر: وهو رجوع الحاكم بعد قضائه من اجتهاده إلى اجتهاد آخر أرجح من الأول، فإن داود عليه السلام فعل ذلك. وقد اختلف في ذلك علماؤنا رحمهم الله تعالى، فقال عبد الملك ومطرف في" الواضحة": ذلك له ما دام في ولايته، فأما إن كانت ولاية أخرى فليس له ذلك، وهو بمنزلة غيره من القضاة. وهذا هو ظاهر قول مالك رحمة الله في" المدونة". وقال سحنون في رجوعه من اجتهاد فيه قول إلى غيره مما رآه أصوب ليس له ذلك، وقاله ابن عبد الحكم. قالا: ويستأنف الحكم بما قوي عنده. قال سحنون: إلا أن يكون نسي الأقوى عنده في ذلك الوقت، أو وهم فحكم بغيره فله نقضه، وأما وإن حكم بحكم هو الأقوى عنده في ذلك الوقت ثم قوى عنده غيره بعد ذلك فلا سبيل إلى نقض الأول، قاله سحنون في كتاب ابنه. وقال أشهب في كتاب ابن المواز إن كان رجوعه إلى الأصوب في مال فله نقض الأول، وإن كان في طلاق أو نكاح أو عتق فليس له نقضه. قلت: رجوع القاضي عما حكم القاضي إذا تبين له أن الحق في غيره ما دام في ولايته أولى. وهكذا في رسالة عمر إلى أبي موسى رضي الله عنهما، رواها الدارقطني، وقد ذكرناها في" الأعراف" ولم يفصل، وهي الحجة لظاهر قول مالك. ولم يختلف العلماء أن القاضي إذا قضى تجوزا وبخلاف أهل العلم فهو مردود، إن كان على وجه الاجتهاد، فأما أن يتعقب قاض حكم قاض آخر فلا يجوز ذلك له لان فيه مضرة عظمي من جهة نقض الأحكام، وتبديل الحلال بالحرام، وعدم ضبط قوانين الإسلام، ولم يتعرض أحد من العلماء لنقض ما رواه الآخر، وإنما كان يحكم بما ظهر له. الثانية عشرة- قال بعض الناس: إن داود عليه السلام لم يكن أنفذ الحكم وظهر له ما قال غيره. وقال آخرون: لم يكن حكما وإنما كانت فتيا.
قلت:
وهكذا تؤول فيما رواه أبو هريرة عنه عليه السلام أنه قال:" بينما امرأتان
معهما ابناهما جاء الذئب فذهب بابن إحداهما، فقالت
هذه لصاحبتها: إنما ذهب بابنك أنت. وقالت الأخرى: إنما ذهب بابنك، فتحاكمتا إلى
داود، فقضى به للكبرى فخرجتا على سليمان بن داود عليهما السلام فأخبرتاه، فقال:
ائتوني بالسكين أشقه بينكما، فقالت الصغرى: لا- يرحمك الله- هو ابنها، فقضى به
للصغرى، قال أبو هريرة: إن سمعت بالسكين قط إلا يومئذ، ما كنا نقول إلا المدية،
أخرجه مسلم. فأما القول بأن ذلك من داود فتيا فهو ضعيف، لأنه كان النبي- صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وفتياه حكم. وأما القول الآخر فيبعد، لأنه تعالى
قال:" إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ" فبين أن كل واحد منهما كان قد
حكم. وكذا قوله في الحديث: فقضى به للكبرى، يدل على إنفاذ القضاء وإنجازه. ولقد
أبعد من قال: إنه كان من شرع داود أن يحكم به للكبرى من حيث هي كبرى، لان الكبر
والصغر طرد محض عند الدعاوى كالطول والقصر والسواد والبياض وذلك لا يوجب ترجيح أحد
المتداعيين حتى يحكم له أو عليه لأجل ذلك. وهو مما يقطع به من فهم ما جاءت به
الشرائع. والذي ينبغي أن يقال: إن داود عليه السلام إنما قضى به للكبرى لسبب اقتضى
عنده ترجيح قولها. ولم يذكر في الحديث تعيينه إذ لم تدع حاجة إليه، فيمكن أن الولد
كان بيدها، وعلم عجز الأخرى عن إقامة البينة، فقضى به لها إبقاء لما كان على ما
كان. وهذا التأويل أحسن ما قيل في هذا الحديث. وهو الذي تشهد له قاعدة الدعاوي
الشرعية التي يبعد اختلاف الشرائع فيها. لا يقال: فإن كان داود قضى بسبب شرعي فكيف
ساغ لسليمان نقض حكمه، فالجواب: أن سليمان عليه السلام لم يتعرض لحكم أبيه بالنقض،
وإنما احتال حيلة لطيفة ظهر له بسببها صدق الصغرى، وهي أنه لما قال: هات السكين
أشقه بينكما، قالت الصغرى: لا، فظهر له من قرينه الشفقة في الصغرى، وعدم ذلك في
الكبرى، مع ما عساه انضاف إلى ذلك من القرائن ما حصل له العلم بصدقها فحكم لها.
ولعله كان ممن سوغ له أن يحكم بعلمه. وقد ترجم النسائي على هذا الحديث" حكم
الحاكم بعلمه". وترجم له أيضا" السعة للحاكم أن يقول
للشيء
الذي لا يفعله أفعل ليستبين الحق". وترجم له أيضا" نقض الحاكم لا يحكم
به غيره ممن هو مثله أو أجل منه". ولعل الكبرى اعترفت بأن الولد للصغرى عند
ما رأت من سليمان الحزم والجد في ذلك، فقضى بالولد للصغرى، ويكون هذا كما إذا حكم
الحاكم باليمين، فلما مضى ليحلف حضر من استخرج من المنكر ما أوجب إقراره، فإنه
يحكم عليه بذلك الإقرار قبل اليمين وبعدها، ولا يكون ذلك من باب نقض الحكم الأول،
لكن من باب تبدل الأحكام بحسب تبدل الأسباب. والله أعلم. وفي هذا الحديث من الفقه
أن الأنبياء سوغ لهم الحكم بالاجتهاد، وقد ذكرناه. وفية من الفقه استعمال الحكام الحيل
التي تستخرج بها الحقوق، وذلك يكون عن قوة الذكاء والفطنة، وممارسة أحوال الخلق،
وقد يكون في أهل التقوى فراسة دينية، وتوسمات نورية، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
وفية الحجة لمن يقول: إن الام تستلحق، وليس مشهور مذهب مالك، وليس هذا موضع ذكره.
وعلى الجملة فقضاء سليمان في هذه القصة «1» تضمنها مدحه تعالى له بقوله:"
فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ". الثالثة عشرة- قد تقدم القول في الحرث والحكم في
هذه الواقعة في شرعنا: أن على أصحاب الحوائط حفظ حيطانهم وزروعهم بالنهار، ثم
الضمان في المثل بالمثليات، وبالقيمة في ذوات القيم. والأصل في هذه المسألة في
شرعنا ما حكم به [محمد «2»] نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ناقة
البراء بن عازب. رواه مالك عن ابن شهاب عن حرام بن سعد بن محيصة: أن ناقة للبراء
دخلت حائط رجل فأفسدت فيه فقضى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن
على أهل الحوائط حفظها بالليل، وأن ما أفسدت المواشي بالليل ضامن «3» على أهلها.
هكذا رواه جميع الرواة مرسلا. وكذلك رواه أصحاب ابن شهاب عن ابن شهاب، إلا ابن
عيينة فإنه رواه عن الزهري عن سعيد وحرام بن سعد بن محيصة: أن ناقة، فذكر مثله
بمعناه. ورواه ابن أبي ذئب عن ابن شهاب أنه بلغه أن ناقة البراء دخلت حائط قوم،
مثل حديث مالك سواء، إلا أنه لم يذكر حرام بن سعد بن محيصة ولا غيره. قال أبو عمر:
لم يصنع ابن أبي ذئب
__________
(1). في ك: القضية.
(2). من ب وج وز وط وى.
(3). ضامن بمعنى مضمون. [.....]
شيئا،
إلا أنه أفسد إسناده. ورواه عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن حرام بن محيصة عن
أبيه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم يتابع «1» عبد الرزاق على
ذلك وأنكروا عليه قوله عن أبيه. ورواه ابن جريج عن ابن شهاب قال: حدثني أبو أمامة
بن سهل بن حنيف أن ناقة دخلت في حائط قوم فأفسدت، فجعل الحديث لابن شهاب عن أبي
أمامة، ولم يذكر أن الناقة كانت للبراء. وجائز أن يكون الحديث عن ابن شهاب عن ابن
محيصة، وعن سعيد ابن المسيب، وعن أبي أمامة- والله أعلم- فحدث به عمن شاء منهم على
ما حضره وكلهم ثقات. قال أبو عمر: وهذا الحديث وإن كان مرسلا فهو حديث مشهور أرسله
الأئمة، وحدث به الثقات، واستعمله فقهاء الحجاز وتلقوه بالقبول، وجرى في المدينة
العمل به، وحسبك باستعمال أهل المدينة وسائر أهل الحجاز لهذا الحديث. الرابعة
عشرة- ذهب مالك وجمهور الأئمة إلى القول بحديث البراء، وذهب أبو حنيفة وأصحابه وجماعة
من الكوفيين إلى أن هذا الحكم منسوخ، وأن البهائم إذا أفسدت زرعا في ليل أو نهار
أنه لا يلزم صاحبها شي وأدخل فسادها في عموم قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: (جرح العجماء جبار) فقاس جميع أعمالها على جرحها. ويقال: أنه ما تقدم
أبا حنيفة أحد بهذا القول، ولا حجة له ولا لمن اتبعه في حديث العجماء، وكونه ناسخا
لحديث البراء ومعارضا له، فإن النسخ شروطه معدومة، والتعاوض إنما يصح إذا لم يمكن
استعماله أحدهما إلا بنفي الآخر، وحديث (العجماء جرحها جبار) عموم متفق عليه، ثم
خص منه الزرع والحوائط بحديث البراء، لان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لو جاء عنه في حديث واحد: العجماء جرحها جبار نهارا لا ليلا وفي الزرع والحوائط
والحرث، لم يكن هذا مستحيلا من القول، فكيف يجوز أن يقال في هذا متعارض؟! وإنما
هذا من باب العموم والخصوص على ما هو مذكور في الأصول. الخامشة عشرة- إن قيل: ما
الحكمة في تفريق الشارع بين الليل والنهار، وقد قال الليث بن سعد: يضمن أرباب
المواشي بالليل والنهار كل ما أفسدت، ولا يضمن أكثر من قيمة الماشية؟ قلنا: الفرق
بينهما واضح وذلك أن أهل المواشي لهم ضرورة إلى إرسال
__________
(1). في ز: لم ينازع.
مواشيهم
ترعي بالنهار، والأغلب عندهم أن من عنده زرع يتعاهده بالنهار ويحفظه عمن أراده،
فجعل حفظ ذلك بالنهار على أهل الزروع، لأنه وقت التصرف في المعاش، كما قال الله
سبحانه وتعالى:" وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً" «1» [النبأ: 1 1] فإذا
جاء الليل فقد جاء الوقت الذي يرجع كل شي إلى موضعه وسكنه، كما قال الله
تعالى:" مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ
فِيهِ" «2» [القصص: 72] وقال:" وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً" «3»
[الانعام: 96] ويرد أهل المواشي مواشيهم إلى مواضعهم ليحفظوها، فإذا فرط صاحب
الماشية في ردها إلى منزله، أو فرط في ضبطها وحبسها عن الانتشار بالليل حتى أتلفت
شيئا فعليه ضمان ذلك، فجرى الحكم على الأوفق الاسمح، وكان ذلك أرفق بالفريقين
وأسهل على الطائفتين، وأحفظ للمالين، وقد وضح الصبح لذي عينين، ولكن لسليم
الحاستين، وأما قول الليث: لا يضمن أكثر من قيمة الماشية، فقد قال أبو عمر: لا
أعلم من أين قال هذا الليث بن سعد، إلا أن يجعله قياسا على العبد الجاني لا يفتك
بأكثر من قيمته ولا يلزم سيده في جنايته أكثر من قيمته، وهذا ضعيف الوجه، كذا قال
في" التمهيد" وقال في" الاستذكار": فخالف الحديث في (العجماء
جرحها جبار) وخالف ناقة البراء، وقد تقدمه إلى ذلك طائفة من العلماء منهم عطاء.
قال ابن جريج قلت لعطاء: الحرث الماشية ليلا أو نهارا؟ قال: يضمن صاحبها ويغرم.
قلت: كان عليه حظرا أو لم يكن؟ قال نعم! يغرم. قلت: ما يغرم؟ قال: قيمة ما أكل
حماره ودابته وماشيته. وقال معمر عن ابن شبرمة: يقوم الزرع على حاله التي أصيب
عليها دراهم. وروي عن عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنهما: يضمن رب
الماشية ليلا أو نهارا، من طرق لا تصح. السادسة عشرة- قال مالك: ويقوم الزرع الذي
أفسدت المواشي بالليل على الرجاء والخوف. قال: والحوائط التي تحرس والتي لا تحرس،
والمحظر عليها وغير المحظر سواء، يغرم أهلها ما أصابت بالليل بالغا ما بلغ، وإن
كان أكثر من قيمتها. قال: وإذا انفلتت دابة بالليل فوطئت على رجل نائم لم يغرم
صاحبها شيئا، وإنما هذا في الحائط والزرع والحرث، ذكره عنه ابن عبد الحكم. وقال ابن
القاسم: ما أفسدت الماشية بالليل فهو في مال ربها،
__________
(1). راجع ج 19 ص 170.
(2). راجع ج 14 ص 308.
(3). راجع ج 7 ص 44.
وإن
كان أضعاف ثمنها، لان الجناية من قبله إذ لم يربطها، وليست الماشية كالعبيد، حكاه
سحنون وأصبغ وأبو زيد عن ابن القاسم. السابعة عشرة- ولا يستأني بالزرع أن ينبت أو
لا ينبت كما يفعل في سن الصغير. وقال عيسى عن ابن القاسم: قيمته لو حل بيعه. وقال
أشهب وابن نافع في المجموعة عنه: وإن لم يبد صلاحه. ابن العربي: والأول أقوى لأنها
صفته فتقوم كما يقوم كل متلف على صفته. الثامنة عشرة- لو لم يقض للمفسد له بشيء
حتى نبت وانجبر فإن كان فيه قبل ذلك منفعة رعى أو شيء ضمن تلك المنفعة، وإن لم تكن
فيه منفعة فلا ضمان. وقال أصبغ: يضمن، لان التلف قد تحقق والجبر ليس من جهته فلا
يعتد له به. التاسعة عشرة- وقع في كتاب ابن سحنون أن الحديث إنما جاء في أمثال
المدينة التي هي حيطان محدقة، وأما البلاد التي هي زروع متصلة غير محظرة، وبساتين
كذلك، فيضمن أرباب النعم ما أفسدت من ليل أو نهار، كأنه ذهب إلى أن ترك تثقيف
الحيوان في مثل هذه البلاد تعد، لأنها ولا بد تفسد. وهذا جنوح إلى قول الليث.
الموفية عشرين- قال أصبغ في المدينة: ليس لأهل المواشي أن يخرجوا مواشيهم إلى قرى
الزرع بغير ذواد، فركب العلماء على هذا أن البقعة لا تخلو أن تكون بقعة زرع، أو
بقعة سرح، فإن كانت بقعة زرع فلا تدخلها ماشية إلا ماشية تحتاج، وعلى أربابها
حفظها، وما أفسدت فصاحبها ضامن ليلا أو نهارا، وإن كانت بقعة سرح فعلى صاحب الذي
حرثه فيها حفظه، ولا شي على أرباب المواشي. الحادية والعشرون- المواشي على قسمين:
ضواري وحريسة وعليهما قسمها مالك. فالضواري هي المعتادة للزرع «1» والثمار، فقال
مالك: تغرب وتباع في بلد لا زرع فيه، رواه ابن القاسم في الكتاب وغيره. قال ابن
حبيب: وإن كره ذلك ربها، وكذلك قال مالك في الدابة التي ضريت في إفساد الزرع: تغرب
وتباع. وأما ما يستطاع الاحتراس منه فلا يؤمر صاحبه بإخراجه.
__________
(1). في ك: الزروع.
الثانية
والعشرون- قال أصبغ: النحل والحمام والاوز والدجاج كالماشية، لا يمنع صاحبها من
اتخاذها وإن [ضريت «1»]، وعلى أهل القرية حفظ زروعهم. قال ابن العربي: وهذه رواية
ضعيفة لا يلتفت إليها. من أراد أن يتخذ ما ينتفع به مما لا يضر بغيره مكن منه،
وأما انتفاعه بما يتخذه بإضراره بأحد فلا سبيل إليه. قال عليه السلام: (لا ضرر ولا
ضرار) وهذه الضواري عن ابن القاسم في المدينة لا ضمان على أربابها إلا بعد التقدم.
ابن العربي: وأرى الضمان عليهم قبل التقدم إذا كانت ضواري. الثالثة والعشرون- ذكر
عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن الشعبي أن شاة وقعت في غزل حائك فاختصموا إلى
شريح، فقال الشعبي: انظروه فإنه سيسألهم ليلا وقعت فيه أو نهارا، ففعل. ثم قال: إن
كان بالليل ضمن وإن كان بالنهار لم يضمن، ثم قرأ شريح" إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ
غَنَمُ الْقَوْمِ" قال: والنفش بالليل والهمل بالنهار. قلت: ومن هذا الباب
قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (العجماء جرحها جبار) الحديث. وقال ابن
شهاب: والجبار الهدر، والعجماء البهيمة، قال علماؤنا: ظاهر قوله: (العجماء جرحها
جبار) أن ما انفردت البهيمة بإتلافه لم يكن فيه شي، وهذا مجمع عليه. فلو كان معها
قائد أو سائق أو راكب فحملها أحدهم على شي فأتلفته لزمه حكم المتلف، فإن كانت
جناية مضمونة بالقصاص وكان الحمل عمدا كان فيه القصاص ولا يختلف فيه، لان الدابة
كالآلة. وإن كان عن غير قصد كانت فيه الدية على العاقلة. وفي الأموال الغرامة في
مال الجاني. الرابعة والعشرون- واختلفوا فيمن أصابته برجلها أو ذنبها، فلم يضمن
مالك والليث والأوزاعي صاحبها، وضمنه الشافعي وابن أبي ليلى وابن شبرمة. واختلفوا
في الضارية فجمهورهم أنها كغيرها، ومالك وبعض أصحابه يضمنونه. الخامسة والعشرون-
روى سفيان بن حسين عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال قال رسول الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الرجل جبار) قال الدارقطني: لم يروه
__________
(1). في اوب وج وح وز وط وك: (أضرت) والتصويب من (الموطأ).
غير
سفيان بن حسين ولم يتابع عليه، وخالفه الحفاظ عن الزهري منهم مالك وابن عيينة
ويونس ومعمر وابن جريج والزبيدي وعقيل وليث بن سعد، وغيرهم كلهم رووه عن الزهري
فقالوا: (العجماء جبار والبئر جبار والمعدن جبار) ولم يذكروا الرجل وهو الصواب.
وكذلك رواه أبو صالح السمان، وعبد الرحمن الأعرج، ومحمد بن سيرين، ومحمد بن زياد
وغيرهم عن أبي هريرة، ولم يذكروا فيه (والرجل جبار) وهو المحفوظ عن أبي هريرة.
السادسة والعشرون- قوله: (والبئر جبار) قد روى موضعه (والنار جبار) قال الدارقطني:
حدثنا حمزة بن القاسم الهاشمي حدثنا حنبل بن إسحاق قال سمعت أبا عبد الله أحمد بن
حنبل يقول في حديث عبد الرزاق: حديث أبي هريرة (والنار جبار) ليس بشيء لم يكن في
الكتاب باطل ليس هو بصحيح. حدثنا محمد بن مخلد حدثنا أبو إسحاق «1» إبراهيم بن هانئ
قال سمعت أحمد بن حنبل يقول: أهل اليمن يكتبون النار النير ويكتبون البئر، يعني
مثل ذلك. وإنما لقن عبد الرزاق (النار جبار). وقال الرمادي: قال عبد الرزاق قال
معمر لا أراه إلا وهما. قال أبو عمر: روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ حديث معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: (النار جبار) وقال يحيي بن معين: أصله البئر ولكن
معمرا صحفه قال أبو عمر: لم يأت ابن معين على قوله هذا بدليل، وليس هكذا ترد
أحاديث الثقات. ذكر وكيع عن عبد العزيز بن حصين عن يحيى بن يحيى الغساني قال: أحرق
رجل سافي قراح «2» له فخرجت شرارة من نار حتى أحرقت شيئا لجاره. قال: فكتب فيه إلى
عمر بن عبد العزيز ابن حصين فكتب إلي أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قال: (العجماء جبار) وأرى أن النار جبار. وقد روي (والسائمة جبار) بدل
العجماء فهذا ما ورد في ألفاظ هذا الحديث ولكل معنى لفظ صحيح مذكور في شرح الحديث
وكتب الفقه. قوله تعالى: (وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ) قال
وهب: كان داود يمر بالجبال مسبحا والجبال تجاوبه بالتسبيح، وكذلك الطير. وقيل: كان
داود إذا وجد فترة أمر الجبال فسبحت
__________
(1). كذا في ب وج وز وط وك. وكذا في التهذيب.
(2). قراح: مزرعة.
وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80)
حتى
يشتاق، ولهذا قال:" وَسَخَّرْنا" أي جعلناها بحيث تطيعه إذا أمرها بالتسبيح.
وقيل: إن سيرها معه تسبيحها، والتسبيح مأخوذ من السباحة، دليله قوله تعالى:"
يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ" «1» [سبأ: 10]. وقال قتادة:"
يُسَبِّحْنَ" يصلين معه إذا صلى، والتسبيح الصلاة. وكل محتمل. وذلك فعل الله
تعالى بها، ذلك لان الجبال لا تعقل فتسبيحها دلالة على تنزيه الله تعالى عن صفات
العاجزين والمحدثين.
[سورة الأنبياء (21): آية 80]
وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ
أَنْتُمْ شاكِرُونَ (80)
فيه ثلاث مسائل: الاولى- قوله تعالى: (وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ) يعني
اتخاذ الدروع بإلانة الحديد له، واللبوس عند العرب السلاح كله، درعا كان أو جوشنا
أو سيفا أو رمحا. قال الهذلي «2» يصف رمحا:
ومعي لبوس للبئيس كأنه ... روق بجبهة ذي نعاج مجفل
واللبوس كل ما يلبس، وأنشد ابن السكيت: «3»
ألبس لكل حالة لبوسها ... إما نعيمها وإما بوسها
وأراد الله تعالى هنا الدرع، وهو بمعنى الملبوس نحو الركوب والحلوب. قال قتادة:
أول من صنع الدروع داود. وإنما كانت صفائح، فهو أول من سردها وحلقها. الثانية-
قوله تعالى: (لِتُحْصِنَكُمْ) «4» ليحرزكم. (مِنْ بَأْسِكُمْ) أي من حربكم. وقيل:
من السيف والسهم والرمح، أي من آلة بأسكم فحذف المضاف. ابن عباس:" مِنْ
بَأْسِكُمْ" من سلاحكم. الضحاك: من حرب أعدائكم. والمعنى واحد. وقرا الحسن
__________
(1). راجع ج 14 ص 264 فما بعد.
(2). هو أبو كبير الهذلي واسمه عامر بن الحليس من قصيدة أولها:
أزهير هل عن شيبة من معدل ... أم لا سبيل إلى الشباب الأول
والبئيس: الشجاع. والروق: القرن. وذو نعاج: يعني ثورا والنعاج: البقر من الوحش.
(3). البيت لبيهس الفزاري.
(4). (ليحصنكم) بالياء قراءة نافع.
وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81) وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (82)
وأبو
جعفر وابن عامر وحفص وروح" لِتُحْصِنَكُمْ" بالتاء ردا على الصنعة «1».
وقيل: على اللبوس والمنعة التي هي الدروع. وقرا شيبة وأبو بكر والمفضل ورويس وابن
أبي إسحاق:" لنحصنكم" بالنون لقوله:" وَعَلَّمْناهُ" وقرا
الباقون بالياء جعلوا الفعل للبوس، أو يكون المعنى ليحصنكم الله. (فَهَلْ أَنْتُمْ
شاكِرُونَ) أي على تيسير نعمة الدروع لكم. وقيل:" هل أنتم شاكرون" بأن تطيعوا
رسولي. الثالثة- هذه الآية أصل في اتخاذ الصنائع والأسباب، وهو قول أهل العقول
والألباب، لا قول الجهلة الأغبياء القائلين بأن ذلك إنما شرع للضعفاء، فالسبب سنة
الله في خلقه فمن طعن في ذلك فقد طعن في الكتاب والسنة، ونسب من ذكرنا إلى الضعف
وعدم المنة. وقد أخبر الله تعالى عن نبيه داود عليه السلام أنه كان يصنع الدروع،
وكان أيضا يصنع الخوص، وكان يأكل من عمل يده، وكان آدم حراثا، ونوح نجارا ولقمان
خياطا، وطالوت دباغا. وقيل: سقاء، فالصنعة يكف بها الإنسان نفسه عن الناس، ويدفع
بها عن نفسه الضرر والبأس. وفي الحديث:" إن الله يحب المؤمن المحترف الضعيف
المتعفف ويبغض السائل الملحف". وسيأتي لهذا مزيد بيان في سورة"
الفرقان" «2». وقد تقدم في غير ما آية، وفية كفاية والحمد لله.
[سورة الأنبياء (21): الآيات 81 الى 82]
وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي
بارَكْنا فِيها وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ (81) وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ
يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ
(82)
قوله تعالى: (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً) أي وسخرنا لسليمان الريح عاصفة،
أي شديدة الهبوب. يقال منه: عصفت الريح أي اشتدت فهي ريح عاصف وعصوف. وفي لغة بني
أسد: أعصفت الريح فهي معصف ومعصفة. والعصف التبن فسمي به شدة الريح،
__________
(1). كذا في ب وج وز وط وك وى، وهو الصواب.
(2). راجع ج 13 ص 12 فما بعد وص 72. [.....]
وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84)
لأنها
تعصفه بشدة تطيرها. وقرا عبد الرحمن الأعرج والسلمى وأبو بكر" وَلِسُلَيْمانَ
الرِّيحَ" برفع الحاء على القطع مما قبله، والمعنى ولسليمان تسخير الريح،
ابتداء وخبر. (تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها) يعني
الشام. يروي أنها كانت تجري به وبأصحابه إلى حيث أراد، ثم ترده إلى الشام. وقال
وهب: كان سليمان بن داود إذا خرج إلى مجلسه عكفت عليه الطير، وقام له الجن والانس
حتى يجلس على سريره. وكان امرأ غزاء لا يقعد عن الغزو، فإذا أراد أن يغزو أمر بخشب
فمدت ورفع عليها الناس والدواب وآلة الحرب، ثم أمر العاصف فأقلت ذلك، ثم أمر الرخاء
فمرت «1» به شهرا في رواحه وشهرا في غدوه، وهو معنى قوله تعالى:" تَجْرِي
بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ" «2» [ص: 36]. والرخاء اللينة. (وَكُنَّا
بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ) أي بكل شي عملنا عالمين بتدبيره. قوله تعالى: (وَمِنَ
الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ) أي وسخرنا له من يغوصون، يريد تحت الماء. أي
يستخرجون له الجواهر من البحر. والغوص النزول تحت الماء، وقد غاص في الماء،
والهاجم على الشيء غائص. والغواص الذي يغوص في البحر على اللؤلؤ، وفعله الغياصة.
(وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذلِكَ) أي سوى ذلك من الغوص، قاله الفراء. وقيل:
يراد بذلك المحاريب والتماثيل وغير ذلك مما يسخرهم فيه. (وَكُنَّا لَهُمْ
حافِظِينَ) أي لأعمالهم. وقال الفراء: حافظين لهم من أن يفسدوا أعمالهم، أو يهيجوا
أحدا من بني آدم في زمان سليمان. وقيل:" حافظين" من أن يهربوا أو
يمتنعوا. أو حفظناهم من أن يخرجوا عن أمره. وقد قيل: إن الحمام والنورة والطواحين
والقوارير والصابون من استخراج الشياطين.
[سورة الأنبياء (21): الآيات 83 الى 84]
وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ
الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ
أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ
(84)
__________
(1). في ك: فمدت.
(2). راجع ج 15 ص 198 فما بعد.
قوله
تعالى: (وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ) أي واذكر أيوب إذ نادى ربه. (أَنِّي مَسَّنِيَ
الضُّرُّ) أي نالني في بدني ضر وفي مالي وأهلي. قال ابن عباس: سمي أيوب لأنه آب
إلى الله تعالى في كل حال. وروى أن أيوب عليه السلام كان رجلا من الروم ذا مال
عظيم، وكان برا تقيا رحيما بالمساكين، يكفل الأيتام والأرامل، ويكرم الضيف، ويبلغ
ابن السبيل، شاكرا لأنعم الله تعالى، وأنه دخل مع قومه على جبار عظيم فخاطبوه في
أمر، فجعل أيوب يلين له في القول من أجل زرع كان له فامتحنه الله بذهاب ماله
واهلة، وبالضر في جسمه حتى تناثر لحمه وتدود جسمه، حتى أخرجه أهل قريته إلى خارج
القرية، وكانت امرأته تخدمه. قال الحسن: مكث بذلك تسع سنين وستة أشهر. فلما أراد
الله أن يفرج عنه قال الله تعالى له:" ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ
بارِدٌ وَشَرابٌ" [ص: 42] فيه شفاؤك، وقد وهبت لك أهلك ومالك وولدك ومثلهم
معهم. وسيأتي في" ص" «1» ما للمفسرين في قصة أيوب من تسليط الشيطان
عليه، والرد عليهم إن شاء الله تعالى. واختلف في قول أيوب:" مَسَّنِيَ
الضُّرُّ" على خمسة عشر قولا: الأول: أنه وثب ليصلي فلم يقدر على النهوض
فقال:" مَسَّنِيَ الضُّرُّ" إخبارا عن حاله، لا شكوى لبلائه، رواه أنس
مرفوعا. الثاني- أنه إقرار بالعجز فلم يكن منافيا للصبر. الثالث- أنه سبحانه أجراه
على لسانه ليكون حجة لأهل البلاء بعده في الإفصاح بما ينزل بهم. الرابع- أنه أجراه
على لسانه إلزاما له في صفة الآدمي في الضعف عن تحمل البلاء. الخامس- أنه انقطع
الوحي عنه أربعين يوما فخاف هجران ربه فقال:" مَسَّنِيَ الضُّرُّ". وهذا
قول جعفر بن محمد. السادس- أن تلامذته الذين كانوا يكتبون عنه لما أفضت حاله إلى
ما انتهت إليه محوا ما كتبوا عنه، وقالوا: ما لهذا عند الله قدر، فاشتكى الضر في
ذهاب الوحي والدين من أيدي الناس. وهذا مما لم يصح سنده. والله أعلم، قاله ابن
العربي. السابع- أن دودة سقطت «2» من لحمه فأخذها وردها في موضعها فعقرته
فصاح" مَسَّنِيَ الضُّرُّ" فقيل: أعلينا نتصبر. قال ابن العربي: وهذا
بعيد جدا
__________
(1). راجع ج 15 ص 207.
(2). في ك: سقطت من جلده فطلبها ليردها فلم يجدها. فسيأتي.
مع
أنه يفتقر إلى نقل صحيح، ولا سبيل إلى وجوده. الثامن- أن الدود كان يتناول بدنه
فصبر حتى تناولت دودة قلبه وأخرى لسانه، فقال:" مَسَّنِيَ الضُّرُّ"
لاشتغاله عن ذكر الله. قال ابن العربي: وما أحسن هذا لو كان له سند ولم تكن دعوى
عريضة. التاسع- أنه أبهم عليه جهة أخذ البلاء له هل هو تأديب، أو تعذيب، أو تخصيص،
أو تمحيص، أو ذخر أو طهر، فقال:" مَسَّنِيَ الضُّرُّ" أي ضر الاشكال في
جهة أخذ البلاء. قال ابن العربي: وهذا غلو لا يحتاج إليه. العاشر- أنه قيل له سل
الله العافية فقال: أقمت في النعيم سبعين سنة وأقيم في البلاء سبع سنين وحينئذ
أسأله فقال:" مَسَّنِيَ الضُّرُّ". قال ابن العربي: وهذا ممكن ولكنه لم
يصح في إقامته مدة خبر ولا في هذه القصة. الحادي عشر- أن ضره قول إبليس لزوجه
اسجدي لي فخاف ذهاب الايمان عنها فتهلك ويبقي بغير كافل. الثاني عشر- لما ظهر به
البلاء قال قومه: قد أضربنا كونه معنا وقذره فليخرج عنا، فأخرجته امرأته إلى ظاهر
البلد، فكانوا إذا خرجوا رأوه وتطيروا به وتشاءموا برؤيته، فقالوا: ليبعد بحيث لا
نراه. فخرج إلى بعد من القرية، فكانت امرأته تقوم عليه وتحمل قوته إليه. فقالوا:
إنها تتناوله وتخالطنا فيعود بسببه ضره إلينا. فأرادوا قطعها عنه، فقال:"
مَسَّنِيَ الضُّرُّ". الثالث عشر: قال عبد الله بن عبيد بن عمير: كان لأيوب
أخوان فأتياه فقاما من بعيد لا يقدران أن يدنوا منه من نتن ريحه، فقال أحدهما: لو
علم الله في أيوب خيرا ما ابتلاه بهذا البلاء، فلم يسمع شيئا أشد عليه من هذه
الكلمة، فعند ذلك قال:" مَسَّنِيَ الضُّرُّ" ثم قال:" اللهم إن كنت
تعلم أني لم أبت شبعان قط وأنا أعلم مكان جائع فصدقني" فنادى مناد من
السماء" أن صدق عبدي" وهما يسمعان فخرا ساجدين. الرابع عشر- أن
معنى:" مَسَّنِيَ الضُّرُّ" من شماتة الاعداء، ولهذا قيل له: ما كان أشد
عليك في بلائك؟ قال شماتة الاعداء. قال ابن العربي: وهذا ممكن فإن الكليم قد سأله
أخوه العافية من ذلك فقال:" إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا
يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ" «1» [الأعراف: 150]. الخامس
عشر- أن امرأته كانت ذات ذوائب فعرفت حين منعت أن تتصرف لاحد بسببه
__________
(1). راجع ج 7 ص 286 فما بعد.
ما
تعود به عليه، فقطعت ذوائبها واشترت بها ممن يصلها قوتا وجاءت به إليه، وكان
يستعين بذوائبها في تصرفه وتنقله، فلما عدمها وأراد الحركة في تنقله لم يقدر
قال:" مَسَّنِيَ الضُّرُّ". وقيل: إنها لما اشترت القوت بذوائبها جاءه
إبليس «1» [لعنه الله «2»] في صفة رجل وقال له: إن أهلك بغت فأخذت وحلق شعرها.
فحلف أيوب أن يجلدها، فكانت المحنة على قلب المرأة أشد من المحنة على قلب أيوب.
قلت: وقول سادس عشر- ذكره ابن المبارك: أخبرنا يونس بن يزيد عن عقيل عن ابن شهاب
أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذكر يوما أيوب النبي صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما أصابه من البلاء، الحديث. وفية أن بعض إخوانه ممن
صابره ولازمه قال: يا نبي الله لقد أعجبني أمرك وذكرته إلى أخيك وصاحبك، أنه قد
ابتلاك بذهاب الأهل والمال وفي جسدك منذ ثمانية عشرة سنة حتى بلغت ما ترى ألا
يرحمك فيكشف عنك! لقد أذنبت ذنبا ما أظن أحدا بلغه! فقال أيوب عليه السلام:"
ما أدري ما يقولان غير أن ربي عز وجل يعلم أني كنت أمر على الرجلين يتزاعمان وكل
يحلف بالله- أو على النفر يتزاعمون- فانقلب إلى أهلي فأكفر عن أيمانهم إرادة ألا
يأثم أحد ذكره ولا يذكره أحد إلا بالحق" فنادى ربه" أَنِّي مَسَّنِيَ
الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ" إنما كان دعاؤه عرضا عرضه على
الله تبارك وتعالى يخبره بالذي بلغه، صابرا لما يكون من الله تبارك وتعالى فيه.
وذكر الحديث. وقول سابع عشر- سمعته ولم أقف عليه أن دودة سقطت من جسده فطلبها
ليردها إلى موضعها فلم يجدها فقال:" مَسَّنِيَ الضُّرُّ" لما فقد من أجر
ألم تلك الدودة، وكان أراد أن يبقى له الأجر موفرا إلى وقت العافية، وهذا حسن إلا
أنه يحتاج إلى سند. قال العلماء: ولم يكن قوله" مَسَّنِيَ الضُّرُّ" جزعا،
لان الله تعالى قال:" إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً" «3» [ص: 44] بل كان
ذلك دعاء منه، والجزع في الشكوى إلى الخلق لا إلى الله تعالى، والدعاء لا ينافي
الرضا. قال الثعلبي: سمعت أستاذنا أبا القاسم ابن حبيب يقول حضرت مجلسا غاصا
بالفقهاء والأدباء في دار السلطان، فسألت عن هذه الآية بعد إجماعهم على أن قول
أيوب كان شكاية قد قال الله تعالى:" إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً" [ص: 44]
__________
(1). في ج: الشيطان.
(2). من ك.
(3). راجع ج 15 ص 212 فما بعد.
فقلت:
ليس هذا شكاية وإنما كان دعاء، بيانه (فَاسْتَجَبْنا لَهُ) والإجابة تتعقب الدعاء
لا الاشتكاء. فاستحسنوه وارتضوه. وسيل الجنيد عن هذه الآية فقال: عرفه فاقة السؤال
ليمن عليه بكرم النوال «1». قوله تعالى: (فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ
وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ) قال مجاهد وعكرمة: قيل لأيوب صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قد آتيناك أهلك في الجنة فإن شئت تركناهم لك في الجنة
وإن شئت آتيناكهم في الدنيا. قال مجاهد: فتركهم الله عز وجل له في الجنة وأعطاه
مثلهم في الدنيا. قال النحاس: والاسناد عنهما بذلك صحيح. قلت: وحكاه المهدوي عن
ابن عباس. وقال الضحاك: قال عبد الله بن مسعود كان أهل أيوب قد ماتوا إلا امرأته
فأحياهم الله عز وجل في أقل من طرف البصر، وآتاه مثلهم معهم. وعن ابن عباس أيضا:
كان بنوه قد ماتوا فأحيوا له وولد له مثلهم معهم. وقاله قتادة وكعب الأحبار
والكلبي وغيرهم. قال ابن مسعود: مات أولاده وهم سبعة من الذكور وسبعة من الإناث
فلما عوفي نشروا له، وولدت [له «2»] امرأته سبعة بنين وسبع بنات. [قال «3»]
الثعلبي: وهذا القول أشبه بظاهر الآية. قلت: لأنهم ماتوا ابتلاء قبل آجالهم حسب ما
تقدم بيانه في سورة" البقرة" «4» في قصة" الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ
دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ" [البقرة: 243]. وفي قصة السبعين
الذين أخذتهم الصعقة فماتوا ثم أحيوا «5»، وذلك أنهم ماتوا قبل آجالهم، وكذلك هنا
والله أعلم. وعلى قول مجاهد وعكرمة يكون المعنى:" وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ"
في الآخرة" وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ" في الدنيا. وفي الخبر: إن الله بعث
إليه جبريل عليه السلام حين ركض برجله على الأرض ركضة فظهرت عين ماء حار «6»، واخذ
بيده ونفضه نفضة فتناثرت عنه الديدان، وغاص في الماء غوصه فنبت لحمه وعاد إلى
منزله، ورد الله عليه أهله ومثلهم معهم، ونشأت سحابة على قدر قواعد داره فأمطرت
ثلاثة أيام بلياليها جرادا من ذهب. فقال له جبريل: أشبعت؟ فقال: ومن
__________
(1). في ك: كريم النوال.
(2). من ب وج وز وط وك.
(3). من ب وج وز وط وك.
(4). راجع ج 3 ص 230.
(5). راجع ج 1 ص 404 وج 7 ص 295.
(6). في ج: جار. [.....]
وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86)
يشبع
من فضل الله!. فأوحى الله إليه: قد أثنيت عليك بالصبر قبل وقوعك في البلاء وبعده،
ولولا أني وضعت تحت كل شعرة منك صبرا ما صبرت. (رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا) أي فعلنا
ذلك به رحمة من عندنا. وقيل: ابتليناه ليعظم ثوابه غدا. (وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ)
أي وتذكيرا للعباد، لأنهم إذا ذكروا بلاء أيوب وصبره عليه ومحنته له وهو أفضل أهل
زمانه وطنوا أنفسهم على الصبر على شدائد الدنيا نحو ما فعل أيوب، فيكون هذا تنبيها
لهم على إدامة العبادة، واحتمال الضرر. واختلف في مدة إقامته في البلاء، فقال ابن
عباس: كانت مدة البلاء سبع سنين وسبعة أشهر وسبعة أيام وسبع ليال. وهب: ثلاثين
سنة. الحسن: سبع سنين وستة أشهر. قلت: وأصح من هذا والله أعلم ثماني عشرة سنة،
رواه ابن شهاب عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ذكره ابن المبارك وقد
تقدم.
[سورة الأنبياء (21): الآيات 85 الى 86]
وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85)
وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86)
قوله تعالى: (وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ) وهو أخنوخ وقد تقدم (وَذَا الْكِفْلِ) أي
واذكرهم. وخرج الترمذي الحكيم في" نوادر الأصول" وغيره من حديث ابن عمر
عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (كان في بني إسرائيل رجل يقال له
ذو الكفل لا يتورع «1» من ذنب عمله فاتبع امرأة فأعطاها ستين دينارا [على أن يطأها
«2»] فلما قعد منها مقعد الرجل من امرأته ارتعدت وبكت فقال ما يبكيك قالت من هذا
العمل والله ما عملته قط قال أأكرهتك قالت لا ولكن حملني عليه الحاجة قال اذهبي
فهو لك والله لا أعصى الله بعدها أبدا ثم مات من ليلته فوجدوا مكتوبا على باب داره
إن الله قد غفر لذي الكفل) وخرجه أبو عيسى الترمذي أيضا. ولفظه عن ابن عمر رضي
الله عنهما قال: سمعت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحدث حديثا لو لم
أسمعه إلا مرة أو مرتين- حتى عد سبع مرات- [لم أحدث به «3»] ولكني سمعته أكثر من
ذلك، سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: (كان)
__________
(1). في ج وز وك وى.
(2). من ب.
(3). الزيادة من صحيح الترمذي.
ذو
الكفل من بني إسرائيل لا يتورع من ذنب عمله فأتته امرأة فأعطاها ستين دينارا على
أن يطأها فلما قعد منها مقعد الرجل من امرأته ارتعدت وبكت فقال ما يبكيك أأكرهتك
قالت لا ولكنه عمل ما عملته قط وما حملني عليه إلا الحاجة فقال تفعلين أنت هذا وما
فعلته اذهبي فهي لك وقال والله لا أعصى الله بعدها أبدا فمات من ليلته فأصبح
مكتوبا على بابه إن الله قد غفر لذي الكفل) قال: حديث حسن. وقيل إن اليسع لما كبر
قال: لو استخلفت رجلا على الناس حتى أنظر كيف يعمل. فقال: من يتكفل لي بثلاث:
بصيام النهار وقيام الليل وألا يغضب وهو يقضى؟ فقال رجل من ذرية العيص: أنا، فرده
ثم قال مثلها من الغد، فقال الرجل: أنا، فاستخلفه فوفى فأثنى الله عليه فسمى ذا
الكفل، لأنه تكفل بأمر، قال أبو موسى ومجاهد وقتادة. وقال عمر «1» بن عبد الرحمن
بن الحرث وقال أبو موسى عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن ذا الكفل
لم يكن نبيا، ولكنه كان عبدا صالحا فتكفل بعمل رجل صالح عند موته، وكان يصلى لله
كل يوم مائة صلاة فأحسن الله الثناء عليه. وقال كعب: كان في بني إسرائيل ملك كافر
فمر ببلاده رجل صالح فقال: والله إن خرجت من هذه البلاد حتى أعرض على هذا الملك
الإسلام. فعرض عليه فقال: ما جزائي؟ قال: الجنة- ووصفها له- قال: من يتكفل لي
بذلك؟ قال: أنا، فأسلم الملك وتخلى عن المملكة وأقبل على طاعة ربه حتى مات، فدفن
فأصبحوا فوجدوا يده خارجة من القبر وفيها رقعة خضراء مكتوب فيها بنور أبيض: إن
الله قد غفر لي وأدخلني الجنة ووفى عن كفالة فلان، فأسرع الناس إلى ذلك الرجل بأن
يأخذ عليهم الايمان، ويتكفل لهم بما تكفل به للملك، ففعل ذلك فآمنوا كلهم فسمى ذا
الكفل. وقيل: كان رجلا عفيفا يتكفل بشأن كل إنسان وقع في بلاء أو تهمة أو مطالبة
فينجيه الله على يديه. وقيل: سمى ذا الكفل لان الله تعالى تكفل له في سعيه وعمله
بضعف عمل غيره من الأنبياء الذين كانوا في زمانه. والجمهور على أنه ليس بنبي. وقال
الحسن: هو نبي قبل إلياس. وقيل: هو زكريا بكفالة مريم. (كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ)
أي على أمر الله والقيام بطاعته واجتناب معاصيه. (وَأَدْخَلْناهُمْ فِي
رَحْمَتِنا) أي في الجنة (إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ).
__________
(1). في الأصول: عمرو بن عبد الله. والتصويب من التهذيب.
وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)
[سورة
الأنبياء (21): الآيات 87 الى 88]
وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى
فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ
الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ
نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)
قوله تعالى: (وَذَا النُّونِ) أي واذكر" ذا النون" وهو لقب ليونس بن متى
لابتلاع النون إياه. والنون الحوت. وفي حديث عثمان رضي الله عنه أنه رأى صبيا
مليحا فقال: دسموا نونته كي لا تصيبه العين. روى ثعلب عن ابن الاعرابي: النونة
النقبة التي تكون في ذقن الصبي الصغير، ومعنى دسموا سودوا. (إِذْ ذَهَبَ
مُغاضِباً) قال الحسن والشعبي وسعيد بن جبير: مغاضبا لربه عز وجل. واختاره الطبري
والقتبي واستحسنه المهدوي، وروي عن ابن مسعود. وقال النحاس: وربما أنكره هذا من لا
يعرف اللغة وهو قول صحيح. والمعنى: مغاضبا من أجل ربه، كما تقول: غضبت لك أي من
أجلك. والمؤمن يغضب لله عز وجل إذا عصى. وأكثر أهل اللغة يذهب إلى أن قول النبي
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعائشة: (اشترطي لهم الولاء) من هذا. وبالغ
القتبي في نصرة هذا القول. وفي الخبر في وصف يونس: إنه كان ضيق الصدر فلما حمل
أعباء النبوة تفسخ تحتها تفسخ الربع «1» تحت الحمل الثقيل، فمضى على وجهه مضى
الآبق الناد. وهذه المغاضبة كانت صغيرة. ولم يغضب على الله ولكن غضب لله إذ رفع
العذاب عنهم. وقال ابن مسعود: أبق من ربه أي من أمر ربه حتى أمره بالعودة إليهم
بعد رفع العذاب عنهم. فإنه كان يتوعد قومه نزول العذاب في وقت معلوم، وخرج من
عندهم في ذلك الوقت، فأظلهم العذاب فتضرعوا فرفع عنهم ولم يعلم يونس بتوبتهم،
فلذلك ذهب مغاضبا وكان من حقه ألا يذهب إلا بإذن محدد. وقال الحسن: أمره الله
تعالى بالمسير إلى قومه فسأل أن ينظر ليتأهب، فأعجله الله حتى سأل أن يأخذ نعلا
ليلبسها فلم ينظر، وقيل له: الامر أعجل من ذلك- وكان في خلقه ضيق- فخرج مغاضبا
لربه، فهذا قول. وقول
__________
(1). الربع: ما ولد من الإبل في الربيع.
النحاس
أحسن ما قيل في تأويله. أي خرج مغاضبا من أجل ربه، أي غضب على قومه من أجل كفرهم
بربه. وقيل: إنه غاضب قومه حين طال عليه أمرهم وتعنتهم فذهب فارا بنفسه، ولم يصبر
على أذاهم وقد كان الله أمره بملازمتهم والدعاء، فكان ذنبه خروجه من بينهم من غير
إذن من الله. روي معناه عن ابن عباس والضحاك، وأن يونس كان شابا ولم يحمل أثقال
النبوة، ولهذا قيل للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" وَلا تَكُنْ
كَصاحِبِ الْحُوتِ" «1» [القلم: 48]. وعن الضحاك أيضا خرج مغاضبا لقومه، لان
قومه لما لم يقبلوا منه وهو رسول من الله عز وجل كفروا بهذا فوجب أن يغاضبهم، وعلى
كل أحد أن يغاضب من عصى الله عز وجل. وقالت فرقة منهم الأخفش: إنما خرج مغاضبا
للملك الذي كان على قومه. قال ابن عباس: أراد شعيا النبي والملك الذي كان في وقته
اسمه حزقيا أن يبعثوا يونس إلى ملك نينوى، وكان غزا بني إسرائيل وسبى الكثير منهم
ليكلمه حتى يرسل معه بني إسرائيل، وكان الأنبياء في ذلك الزمان يوحى إليهم، والامر
والسياسة إلى ملك قد اختاروه فيعمل على وحي ذلك النبي، وكان أوحى الله لشعيا: أن
قل لحزقيا الملك أن يختار نبيا قويا أمينا من بني إسرائيل فيبعثه إلى أهل نينوى
فيأمرهم بالتخلية عن بني إسرائيل فإني ملق في قلوب ملوكهم وجبابرتهم التخلية عنهم.
فقال يونس لشعيا: هل أمرك الله بإخراجي؟ قال: لا. قال: فهل سماني لك؟ قال: لا. قال
فها هنا أنبياء أمناء أقوياء. فألحوا عليه فخرج مغاضبا للنبي والملك وقومه، فأتى
بحر الروم وكان من قصته ما كان، فابتلى ببطن الحوت لتركه أمر شعيا، ولهذا قال الله
تعالى:" فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ" «2» [الصافات: 142]
والمليم من فعل ما يلام عليه. وكان ما فعله إما صغيرة أو ترك الاولى. وقيل: خرج
ولم يكن نبيا في ذلك الوقت ولكن أمره ملك من ملوك بني إسرائيل أن يأتي نينوى،
ليدعو أهلها بأمر شعيا فأنف أن يكون ذهابه إليهم بأمر أحد غير الله، فخرج مغاضبا
للملك، فلما نجا من بطن الحوت بعثه الله إلى قومه فدعاهم وآمنوا به. وقال القشيري:
والأظهر أن هذه المغاضبة كانت بعد إرسال الله تعالى إياه وبعد رفع العذاب عن القوم
بعد ما أظلهم، فإنه كره رفع العذاب عنهم.
__________
(1). راجع ج 18 ص 253.
(2). راجع ج 15 ص 121.
قلت:
هذا أحسن ما قيل فيه على ما يأتي بيانه في" والصافات" «1» إن شاء الله
تعالى. وقيل: إنه كان من أخلاق قومه قتل من جربوا عليه الكذب فخشي أن يقتل فغضب،
وخرج فارا على وجهه حتى ركب في سفينة فسكنت ولم تجر. فقال أهلها: أفيكم آبق؟ فقال:
أنا هو. وكان من قصته ما كان، وأبتلى ببطن الحوت تمحيصا من الصغيرة كما قال في أهل
أحد:" حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ" [آل عمران: 152] إلى قوله:"
وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا" «2» [آل عمران: 141] فمعاصي
الأنبياء مغفورة، ولكن قد يجري تمحيص ويتضمن ذلك زجرا عن المعاودة. وقول رابع: إنه
لم يغاضب ربه ولا قومه، ولا الملك، وأنه من قولهم غضب إذا أنف. وفاعل قد يكون من
واحد، فالمعنى أنه لما وعد قومه بالعذاب وخرج عنهم تابوا وكشف عنهم العذاب، فلما
رجع وعلم أنهم لم يهلكوا أنف من ذلك فخرج آبقا. وينشد هذا البيت:
وأغضب أن تهجى تميم بدارم
أي آنف. وهذا فيه نظر، فإنه يقال لصاحب هذا القول: إن تلك المغاضبة وإن كانت من
الأنفة، فالانفة لأبد أن يخالطها الغضب وذلك الغضب وإن دق على من كان؟! وأنت تقول
لم يغضب على ربه ولا على قومه! قوله تعالى: (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ
فَنادى فِي الظُّلُماتِ) قيل: معناه استزله إبليس ووقع في ظنه إمكان ألا يقدر الله
عليه بمعاقبته. وهذا قول مردود مرغوب عنه، لأنه كفر. روى عن سعيد بن جبير حكاه عنه
المهدوي، والثعلبي عن الحسن. وذكر الثعلبي وقال عطاء وسعيد بن جبير وكثير من
العلماء معناه: فظن أن لن نضيق عليه. قال الحسن: هو من قوله تعالى:" اللَّهُ
يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ" «3» [الرعد: 26] أي يضيق.
وقوله" وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ" «4» [الطلاق: 7]. قلت: وهذا
الأشبه بقول سعيد والحسن. وقدر وقدر وقتر وقتر بمعنى، أي ضيق وهو قول ابن عباس فيما
ذكره الماوردي والمهدوي. وقيل: هو من القدر الذي هو القضاء والحكم، أي فظن أن لن
نقضي عليه بالعقوبة، قاله قتادة ومجاهد والفراء. مأخوذ من القدر وهو الحكم
__________
(1). راجع ج 15 ص 121.
(2). راجع ج 4 ص 233 فما بعد.
(3). راجع ج 9 ص 313 فما بعد.
(4). راجع ج 18 ص 170.
دون
القدرة والاستطاعة. وروي عن أبي العباس أحمد بن يحيى ثعلب، أنه قال في قول الله عز
وجل:" فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ" هو من التقدير ليس من
القدرة، يقال منه: قدر الله لك الخير يقدره قدرا، بمعنى قدر الله لك الخير. وأنشد
ثعلب:
فليست عشيات اللوى برواجع ... لنا أبدا ما أورق السلم النضر
ولا عائد ذاك الزمان الذي مضى ... تباركت ما تقدر يقع ولك الشكر
يعني ما تقدره وتقضى به يقع. وعلى هذين التأويلين العلماء. وقرا عمر بن عبد العزيز
والزهري:" فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ" بضم النون وتشديد الدال
من التقدير. وحكى هذه القراءة الماوردي عن ابن عباس. وقرا عبيد بن عمير وقتادة
والأعرج:" أن لن يقدر عليه" بضم الياء مشددا على الفعل المجهول. وقرا
يعقوب وعبد الله بن أبي إسحاق والحسن وابن عباس أيضا:" يقدر عليه" بياء
مضمومة وفتح الدال مخففا على الفعل المجهول. وعن الحسن أيضا:" فظن أن لن يقدر
عليه". الباقون" نقدر" بفتح النون وكسر الدال وكله بمعنى التقدير.
قلت: وهذان التأويلان تأولهما العلماء في قول الرجل الذي لم يعمل خيرا قط لأهله
إذا مات فحرقوه (فوالله لئن قدر الله على) الحديث فعلى التأويل الأول يكون تقديره:
والله لئن ضيق الله علي وبالغ في محاسبتي وجزاني على ذنوبي ليكونن ذلك، ثم أمر أن
يحرق بإفراط خوفه. وعلى التأويل الثاني: أي لئن كان سبق في قدر الله وقضائه أن
يعذب كل ذي جرم على جرمه ليعذبني الله على إجرامي وذنوبي عذابا لا يعذبه أحدا من
العالمين غيري. وحديثه خرجه الأئمة في الموطأ وغيره. والرجل كان مؤمنا موحدا. وقد
جاء في بعض طرقه (لم يعمل خيرا إلا التوحيد) وقد قال حين قال الله تعالى: لم فعلت
هذا؟ قال: من خشيتك يا رب. والخشية لا تكون إلا لمؤمن مصدق، قال الله تعالى:"
إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ" «1» [فاطر: 28]. وقد قيل:
إن معنى" فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ" الاستفهام وتقديره:
أفظن، فحذف ألف الاستفهام إيجازا، وهو قول سليمان «2» [أبو [المعتمر. وحكى القاضي
منذر بن سعيد: أن بعضهم قرأ:" أفظن" بالألف.
__________
(1). راجع ج 14 ص
(2). في الأصل (سليمان بن المعتمر) وهو تحريف والتصويب من (تهذيب التهذيب).
قوله
تعالى: (فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي
كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) فيه مسألتان: الاولى- قوله تعالى:" فَنادى فِي
الظُّلُماتِ" اختلف العلماء في جمع الظلمات ما المراد به، فقالت فرقة منهم
ابن عباس وقتادة: ظلمة الليل، وظلمة البحر، وظلمة الحوت. وذكر ابن أبي الدنيا
حدثنا يوسف بن موسى حدثنا عبيد الله بن موسى عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن عمرو بن
ميمون قال حدثنا عبد الله بن مسعود في بيت المال قال: لما ابتلع الحوت يونس عليه
السلام أهوى به إلى قرار الأرض، فسمع يونس تسبيح الحصى فنادى في الظلمات ظلمات
ثلاث: ظلمة بطن الحوت، وظلمة الليل، وظلمة البحر" أَنْ لا إِلهَ إِلَّا
أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ"" فَنَبَذْناهُ
بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ" «1» [الصافات: 145] كهيئة الفرخ الممعوط الذي
ليس عليه ريش. وقالت فرقة منهم سالم بن أبي الجعد: ظلمة البحر، وظلمة حوت التقم
الحوت الأول. ويصح أن يعبر بالظلمات عن جوف الحوت الأول فقط، كما قال:" في
غيابات «2» الجب" [يوسف: 10] وفي كل جهاته ظلمة فجمعها سائغ. وذكر الماوردي:
أنه يحتمل أن يعبر بالظلمات عن ظلمة الخطيئة، وظلمة الشدة، وظلمة الوحدة. وروى: أن
الله تعالى أوحى إلى الحوت:" لا تؤذ منه شعرة فإني جعلت بطنك سجنه ولم أجعله
طعامك" وروى: أن يونس عليه السلام سجد في جوف الحوت حين سمع تسبيح الحيتان في
قعر البحر. وذكر ابن أبي الدنيا حدثنا العباس بن يزيد العبدي حدثنا إسحاق «3» ابن
إدريس حدثنا جعفر بن سليمان عن عوف عن سعيد بن أبي الحسن قال: لما التقم الحوت
يونس عليه السلام ظن أنه قد مات فطول رجليه فإذا هو لم يمت فقام إلى عادته يصلي
فقال في دعائه:" واتخذت لك مسجدا حيث لم يتخذه أحد". وقال أبو المعالي:
قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لا تفضلوني على يونس بن متى) المعنى فإني
لم أكن وأنا في سدرة المنتهى بأقرب إلى الله منه، وهو في قعر البحر في بطن الحوت.
وهذا يدل على أن الباري سبحانه وتعالى
__________
(1). راجع ج 15 ص 127. [.....]
(2). راجع ج 9 ص 132.
(3). كذا في الأصول، ولعله (عبد الله بن إدريس) فإن عبد الله المذكور حدث عنه
العبدى كما في (تهذيب التهذيب).
ليس
في جهة. وقد تقدم هذا المعنى في" البقرة" «1» و" الأعراف"
«2»." أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ
الظَّالِمِينَ" يريد فيما خالف فيه من ترك مداومة قومه والصبر عليهم. وقيل:
في الخروج من غير أن يؤذن له. ولم يكن ذلك من الله عقوبة، لان الأنبياء لا يجوز أن
يعاقبوا، وإنما كان ذلك تمحيصا. وقد يؤدب من لا يستحق العقاب كالصبيان، ذكره
الماوردي. وقيل: من الظالمين في دعائي على قومي بالعذاب. وقد دعا نوح على قومه فلم
يؤاخذ. وقال الواسطي في معناه: نزه ربه عن الظلم وأضاف الظلم إلى نفسه اعترافا
واستحقاقا. ومثل هذا قول آدم وحواء:" رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا" «3»
[الأعراف: 23] إذ كانا السبب في وضعهما أنفسهما في غير الموضع الذي أنزلا فيه. الثانية-
روى أبو داود عن سعد بن أبي وقاص عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
(دعاء ذي النون في بطن الحوت" لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي
كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ" لم يدع به رجل مسلم في شي قط إلا استجيب له) وقد
قيل: إنه اسم الله الأعظم. ورواه سعد عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وفي الخبر: في هذه الآية شرط الله لمن دعاه أن يجيبه كما أجابه وينجيه كما أنجاه،
وهو قوله:" وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ" وليس هاهنا صريح دعاء
وإنما هو مضمون قوله:" إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ" فاعترف بالظلم
فكان تلويحا. قوله تعالى: (وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) أي نخلصهم من همهم
بما سبق من عملهم. وذلك قوله:" فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ
لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ" «4» [الصافات: 144- 143]
وهذا حفظ من الله عز وجل لعبده يونس رعى له حق تعبده، وحفظ ذمام ما سلف له من
الطاعة. وقال الأستاذ أبو إسحاق: صحب ذو النون الحوت أياما قلائل فإلى يوم القيامة
يقال له ذو النون، فما ظنك بعبد عبده سبعين سنة يبطل هذا عنده! لا يظن به
ذلك." مِنَ الْغَمِّ" أي من بطن الحوت. قوله تعالى:" وَكَذلِكَ نُنْجِي
الْمُؤْمِنِينَ" قراءة العامة بنونين من أنجي ينجي. وقرا ابن عامر"
نجي" بنون واحدة وجيم مشددة وتسكين الياء على الفعل الماضي وإضمار المصدر أي
وكذلك نجي النجاء المؤمنين، كما تقول: ضرب زيدا بمعنى ضرب الضرب زيدا وأنشد:
__________
(1). راجع ج 2 ص 308 فما بعد.
(2). راجع ج 7 ص ص 180.
(3). راجع ج 7 ص 223 فما بعد وص 180.
(4). راجع ج 15 ص 121.
وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90)
ولو
ولدت قفيرة «1» جرو كلب ... لسب بذلك الجرو الكلابا
أراد لسب السب بذلك الجرو. وسكنت ياؤه على لغة من يقول بقي ورضى فلا يحرك الياء.
وقرا الحسن" وذروا ما بقي من الربا" «2» [البقرة: 278] استثقالا لتحريك
ياء قبلها كسرة. وأنشد:
خمر الشيب لمتي تحميرا ... وحدا بي إلى القبور البعيرا
ليت شعري إذا القيامة قامت ... ودعى بالحساب أين المصيرا
سكن الياء في دعي استثقالا لتحريكها وقبلها كسرة وفاعل حدا المشيب، أي وحدا المشيب
البعير، ليت شعري المصير أين هو. هذا تأويل الفراء وأبي عبيد وثعلب في تصويب هذه
القراءة. وخطأها أبو حاتم والزجاج وقالوا: هو لحن، لأنه نصب اسم ما لم يسم فاعله،
وإنما يقال: نجي المؤمنون. كما يقال: كرم الصالحون. ولا يجوز ضرب زيدا بمعنى ضرب
الضرب زيدا، لأنه لا فائدة [فيه «3»] إذ كان ضرب يدل على الضرب. ولا يجوز أن يحتج
بمثل ذلك البيت على كتاب الله تعالى. ولابي عبيد قول آخر- وقاله القتبي- وهو أنه
أدغم النون في الجيم. النحاس: وهذا القول لا يجوز عند أحد من النحويين، لبعد مخرج
النون من مخرج الجيم فلا تدغم فيها، ولا يجوز في" مَنْ جاءَ
بِالْحَسَنَةِ" «4»" مجاء بالحسنة" قال النحاس: ولم أسمع في هذا
أحسن من شي سمعته من علي بن سليمان. قال: الأصل ننجي فحذف إحدى النونين،
لاجتماعهما كما تحذف إحدى التاءين، لاجتماعهما نحو قوله عز وجل:" وَلا تَفَرَّقُوا"
«5» [آل عمران: 103] والأصل تتفرقوا. وقرا محمد بن السميقع وأبو العالية:"
وكذلك نجى المؤمنين" أي نجى الله المؤمنين، وهي حسنة.
[سورة الأنبياء (21): الآيات 89 الى 90]
وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ
الْوارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ
زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً
وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ (90)
__________
(1). قفيرة (كجهينة): أم الفرزدق. والبيت لجرير من قصيدة يهجو بها الفرزدق.
(2). راجع ج 3 ص 362.
(3). الزيادة من (إعراب القرآن) للنحاس.
(4). راجع ج 7 ص 150.
(5). راجع ج 4 ص 158.
قوله
تعالى: (وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ) أي واذكر زكريا. وقد تقدم في" آل
عمران" «1» ذكره. (رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً) أي منفردا لا ولد لي وقد
تقدم. (وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ) أي خير من يبقى بعد كل من يموت، وإنما
قال" وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ" لما تقدم من قوله:"
يَرِثُنِي" [مريم: 6] أي أعلم أنك لا تضيع دينك ولكن لا تقطع هذه الفضيلة
التي هي القيام بأمر الدين عن عقبى. كما تقدم في" مريم" «2» بيانه. قوله
تعالى: (فَاسْتَجَبْنا لَهُ) أي أجبنا دعاءه: (وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى ). تقدم
ذكره مستوفى: (وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ) قال قتادة وسعيد بن جبير وأكثر
المفسرين: إنها كانت عاقرا فجعلت ولودا. وقال ابن عباس وعطاء: كانت سيئة الخلق،
طويلة اللسان، فأصلحها الله تعالى فجعلها حسنة الخلق. قلت: ويحتمل أن تكون جمعت
المعنيين فجعلت حسنة الخلق ولودا." إِنَّهُمْ" يعني الأنبياء المسمين في
هذه السورة. (كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ). وقيل: الكناية راجعة إلى زكريا
وامرأته ويحيى. قوله تعالى: (وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً) فيه مسألتان:
الاولى- قوله تعالى: (وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً) أي يفزعون إلينا فيدعوننا
في حال الرخاء وحال الشدة. وقيل: المعنى يدعون وقت تعبدهم وهم بحال رغبة ورجاء
ورهبة وخوف، لان الرغبة والرهبة متلازمان. وقيل: الرغب رفع بطون الأكف إلى السماء،
والرهب رفع ظهورها، قاله خصيف، وقال ابن عطية: وتلخيص هذا أن عادة كل داع من البشر
أن يستعين بيديه فالرغب من حيث هو طلب يحسن منه أن يوجه باطن الراح نحو المطلوب
منه، إذ هو موضع إعطاء أو بها يتملك، والرهب من حيث هو دفع مضرة يحسن معه طرح ذلك،
والإشارة إلى ذهابه وتوقيه بنفض اليد ونحوه. الثانية- روى الترمذي عن عمر بن
الخطاب رضي الله عنه قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا
رفع يديه في الدعاء لم يحطهما حتى يسمح بهما وجهه وقد مضى في" الأعراف"
«3»
__________
(1). راجع ج 4 ص 74 فما بعد.
(2). راجع ص 81 من هذا الجزء.
(3). راجع ج 7 ص 224 فما بعد. [.....]
الاختلاف
في رفع الأيدي، وذكرنا هذا الحديث وغيره هناك. وعلى القول بالرفع فقد اختلف الناس
في صفته وإلى أين؟ فكان بعضهم يختار أن يبسط كفيه رافعهما حذو صدره وبطونهما إلى
وجهه، روى عن ابن عمر وابن عباس. وكان علي يدعو بباطن كفيه، وعن أنس مثله، وهو
ظاهر حديث الترمذي. وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إذا سألتم الله
فاسألوه ببطون أكفكم ولا تسألوه بظهورها وامسحوا بها وجوهكم). وروى عن ابن عمر
وابن الزبير برفعهما إلى وجهه، واحتجوا بحديث أبي سعيد الخدري، قال: وقف رسول الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعرفة فجعل يدعو وجعل ظهر كفيه مما يلي وجهه،
ورفعهما فوق ثدييه وأسفل من منكبيه. وقيل: حتى يحاذي بهما وجهه وظهورهما مما يلي
وجهه. قال أبو جعفر الطبري والصواب أن يقال: إن كل هذه الآثار المروية عن النبي
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ متفقة غير مختلفة المعاني، وجائز أن يكون ذلك
عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاختلاف أحوال الدعاء كما قال ابن
عباس: إذا أشار أحدكم بإصبع واحد فهو الإخلاص وإذا رفع يديه حذو صدره فهو «1»
الدعاء، وإذا رفعهما حتى يجاوز بهما رأسه وظاهرهما مما يلي وجهه فهو الابتهال. قال
الطبري: وقد روى قتادة عن أنس قال: رأيت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يدعو بظهر كفيه وباطنهما. و" رَغَباً وَرَهَباً" منصوبان على المصدر، أي
يرغبون رغبا ويرهبون رهبا. أو على المفعول من أجله، أي للرغب والرهب. أو على الحال.
وقرا طلحة بن مصرف:" ويدعونا" بنون واحدة. وقرا الأعمش: بضم الراء
وإسكان الغين والهاء مثل السقم والبخل، والعدم والضرب لغتان وابن وثاب والأعمش
أيضا" رغبا ورهبا" بالفتح في الراء والتخفيف في الغين والهاء، وهما
لغتان مثل: نهر ونهر وصخر وصخر. ورويت هذه القراءة عن أبي عمرو. (وَكانُوا لَنا
خاشِعِينَ) أي متواضعين خاضعين.
__________
(1). في ك: ألة الدعاء. لعله الأصل.
وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (91)
[سورة
الأنبياء (21): آية 91]
وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها
وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ (91)
قوله تعالى: (وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها) أي واذكر مريم التي أحصنت فرجها.
وإنما ذكرها وليست من الأنبياء ليتم ذكر عيسى عليه السلام ولهذا قال:" وَجَعَلْناها
وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ" ولم يقل آيتين لان معنى الكلام: وجعلنا
شأنهما وأمرهما وقصتهما آية للعالمين. وقال الزجاج: إن الآية فيهما واحدة، لأنها
ولدته من غير فحل وعلى مذهب سيبويه التقدير: وجعلناها آيه للعالمين وجعلنا ابنها
آية للعالمين ثم حذف. وعلى مذهب الفراء: وجعلناها آية للعالمين وابنها، مثل قوله
جل ثناؤه:" وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ" «1». وقيل:
إن من آياتها أنها أول امرأة قبلت في النذر في المتعبد. ومنها أن الله عز وجل
غذاها برزق من عنده لم يجره على يد عبد من عبيده. وقيل: إنها لم تلقم ثديا قط.
و" أَحْصَنَتْ" يعني عفت فامتنعت من الفاحشة. وقيل: إن المراد بالفرج
فرج القميص، أي لم تعلق بثوبها ريبة، أي إنها طاهرة الأثواب. وفروج القميص أربعة:
الكمان والأعلى والأسفل. قال السهيلي: فلا يذهبن وهمك إلى غير هذا، فإنه من لطيف
الكناية لان القرآن أنزه معنى، وأوزن لفظا، وألطف إشارة، وأحسن عبارة من أن يريد
ما يذهب إليه وهم الجاهل، لا سيما والنفخ من روح القدس بأمر القدوس، فأضف القدس
إلى القدوس، ونزه المقدسة المطهرة عن الظن الكاذب والحدس." فَنَفَخْنا فِيها
مِنْ رُوحِنا" يعني أمرنا جبريل حتى نفخ في درعها، فأحدثنا بذلك النفخ المسيح
في بطنها. وقد مضى هذا في" النساء" «2» و" مريم" فلا معنى
للإعادة." آيَةً" أي علامة وأعجوبة للخلق، وعلما لنبوة عيسى، ودلالة على
نفوذ قدرتنا فيما نشاء.
[سورة الأنبياء (21): آية 92]
إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92)
قوله تعالى: (إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) لما ذكر الأنبياء قال:
هؤلاء كلهم مجتمعون على التوحيد، فالأمة هنا بمعنى الدين الذي هو الإسلام، قاله
ابن عباس ومجاهد وغيرهما. فأما المشركون فقد خالفوا الكل. (وَأَنَا رَبُّكُمْ) أي
إلهكم وحدي. (فاعبدوني) أي أفردوني بالعبادة. وقرا عيسى بن عمر وابن أبي
إسحاق:" إن هذه أمتكم أمة واحدة" ورواها
__________
(1). راجع ج 8 ص 193 فما بعد.
(2). راجع ج 6 ص 22 فما بعد.
وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ (93) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ (94)
حسين
عن أبي عمرو. الباقون" أُمَّةً واحِدَةً" بالنصب على القطع بمجيء النكرة
بعد تمام الكلام، قاله الفراء. الزجاج: انتصب" أُمَّةً" على الحال، أي
في حال اجتماعها على الحق، أي هذه أمتكم ما دامت أمة واحدة واجتمعتم على التوحيد
فإذا تفرقتم وخالفتم فليس من خالف الحق من جملة أهل الدين الحق، وهو كما تقول:
فلان صديقي عفيفا أي ما دام عفيفا فإذا خالف العفة لم يكن صديقي. وأما الرفع فيجوز
أن يكون على البدل من" أُمَّتُكُمْ" أو على إضمار مبتدإ، أي إن هذه
أمتكم، هذه أمة واحدة. أو يكون خبرا بعد خبر. ولو نصبت" أُمَّتُكُمْ"
على البدل من" هذِهِ" لجاز ويكون" أمة واحدة" خبر"
إن".
[سورة الأنبياء (21): الآيات 93 الى 94]
وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ (93) فَمَنْ
يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا
لَهُ كاتِبُونَ (94)
قوله تعالى: (وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ) أي تفرقوا في الدين، قال
الكلبي. الأخفش: اختلفوا فيه. والمراد المشركون، ذمهم لمخالفتهم الحق، واتخاذهم
آلهة من دون الله. قال الأزهري: أي تفرقوا في أمرهم، فنصب" أَمْرَهُمْ"
بحذف" في". فالمتقطع على هذا لازم وعلى الأول متعد. والمراد جميع الخلق،
أي جعلوا أمرهم في أديانهم قطعا وتقسموه بينهم، فمن موحد، ومن يهودي، ومن نصراني،
ومن عابد ملك أو صنم. (كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ) أي إلى حكمنا فنجازيهم. قوله
تعالى: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ)" مِنَ"
للتبعيض لا للجنس إذ لا قدرة للمكلف أن يأتي بجميع الطاعات [كلها «1»] فرضها
ونفلها، فالمعنى: من يعمل شيئا من الطاعات فرضا أو نفلا وهو موحد مسلم. وقال ابن
عباس: مصدقا بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ)
أي لا جحود لعمله، أي لا يضيع جزاؤه ولا يغطي والكفر ضده الايمان. والكفر أيضا
جحود النعمة، وهو ضد الشكر. وقد كفره كفورا وكفرانا. وفي حرف ابن مسعود" فلا
كفر لسعيه". (وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ) لعمله حافظون. نظيره" أَنِّي لا
أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى " «2» [آل عمران:
195] أي كل ذلك محفوظ ليجازي به.
__________
(1). كذا في ب وج وط وى.
(2). راجع ج 4 ص 318.
وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (95) حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (97)
[سورة
الأنبياء (21): الآيات 95 الى 97]
وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ (95) حَتَّى إِذا
فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96)
وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا
يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ (97)
قوله تعالى: (وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ)
قراءة زيد بن ثابت واهل المدينة:" وَحَرامٌ" وهي اختيار أبي عبيد وأبي
حاتم. واهل الكوفة" وحرم" ورويت عن علي وابن مسعود وابن عباس رضي الله
عنهم. وهما لغتان مثل حل وحلال. وقد روى عن ابن عباس وسعيد بن جبير"
وحرم" بفتح الحاء والميم وكسر الراء. وعن ابن عباس أيضا وعكرمة وأبي
العالية:" وحرم" بضم الراء وفتح الحاء والميم. وعن ابن عباس أيضا"
وحرم" وعنه أيضا" وحرم"،" وحرم". وعن عكرمة أيضا"
وحرم". وعن قتادة ومطر الوراق" وحرم" تسع قراءات. وقرا
السلمي" على قرية أهلكتها". واختلف في" لا" في قوله:" لا
يَرْجِعُونَ" فقيل: هي صلة، روى ذلك عن ابن عباس، واختاره أبو عبيد، أي وحرام
على قرية أهلكناها أن يرجعوا بعد الهلاك. وقيل: ليست بصلة، وإنما هي ثابتة ويكون
الحرام بمعنى الواجب، أي وجب على قرية، كما قالت الخنساء:
وإن حراما لا أرى الدهر باكيا ... على شجوه إلا بكيت على صخر
تريد أخاها، ف"- لا" ثابتة على هذا القول. قال النحاس: والآية مشكلة ومن
أحسن ما قيل فيها وأجله ما رواه ابن عيينة وابن علية وهشيم وابن إدريس ومحمد بن
فضيل وسليمان «1» بن حيان ومعلى عن داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس في قول
الله عز وجل:" وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها" قال: وجب انهم لا
يرجعون، قال: لا يتوبون. قال أبو جعفر: واشتقاق هذا بين في اللغة، وشرحه: أن معنى
حرم الشيء حظر ومنع منه، كما أن معنى أحل أبيح ولم يمنع منه، فإذا كان"
حَرامٌ" و" حرم" بمعنى واجب فمعناه أنه قد ضيق الخروج
__________
(1). في الأصول: سليم بن حيان وكذا في التهذيب بالفتح ولعل صوابه: سليمان كما في
التهذيب أيضا إذ هو الراوي عن ابن أبي هند. والله أعلم.
منه
ومنع فقد دخل في باب المحظور بهذا، فأما قول أبي عبيدة: إن" لا" زائدة
فقد رده عليه جماعة، لأنها لا تزاد في مثل هذا الموضع، ولا فيما يقع فيه إشكال،
ولو كانت زائدة لكان التأويل بعيدا أيضا، لأنه إن أراد وحرام على قرية أهلكناها أن
يرجعوا إلى الدنيا فهذا ما لا فائدة فيه، وإن أراد التوبة فالتوبة لا تحرم. وقيل:
في الكلام إضمار أي وحرام على قرية حكمنا باستئصالها، أو بالختم على قلوبها أن
يتقبل منهم عمل لأنهم لا يرجعون أي لا يتوبون، قاله الزجاج وأبو علي، و"
لا" غير زائدة. وهذا هو معنى قول ابن عباس رضى الله عنه. قوله تعالى: (حَتَّى
إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ) تقدم القول فيهم. وفي الكلام حذف، أي حتى
إذا فتح سد يأجوج ومأجوج، مثل" وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ" «1» [يوسف: 82].
(وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ) قال ابن عباس: من كل شرف يقبلون، أي
لكثرتهم ينسلون من كل ناحية. والحدب ما ارتفع من الأرض، والجمع الحداب مأخوذ من
حدبة الظهر، قال عنترة:
فما رعشت يداي ولا ازدهاني ... تواترهم إلي من الحداب
وقيل:" ينسلون" يخرجون، ومنه قول امرئ القيس:
فسلي ثيابي من ثيابك تنسل «2»
وقيل: يسرعون، ومنه قول النابغة: «3»
عسلان الذئب أمسى قاربا «4» ... برد الليل عليه فنسل
يقال: عسل الذئب يعسل عسلا وعسلانا إذا أعنق وأسرع. وفي الحديث: (كذب عليك العسل)
أي عليك بسرعة المشي. وقال الزجاج: والنسلان مشية الذئب إذا أسرع، يقال: نسل فلان
في العدو ينسل بالكسر والضم نسلا ونسولا ونسلانا، أي أسرع. ثم قيل في الذين ينسلون
من كل حدب: إنهم يأجوج ومأجوج، وهو الأظهر، وهو قول ابن مسعود وابن عباس. وقيل:
جميع الخلق، فإنهم يحشرون إلى أرض الموقف، وهم يسرعون من كل
__________
(1). راجع ج 9 ص 245 فما بعد.
(2). البيت من معلقته وصدره:
وإن تك قد ساءتك منى خليقة
(3). وقيل: هو للبيد كما في (اللسان) مادة (عسل).
(4). القارب: السائر ليلا.
صوب.
وقرى في الشواذ" وهم من كل جدث ينسلون" أخذا من قوله:" فَإِذا هُمْ
مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ «1» يَنْسِلُونَ" [يس: 51]. وحكى هذه
القراءة المهدوي عن ابن مسعود والثعلبي عن مجاهد وأبي الصهباء. قوله تعالى:
(وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ) يعني القيامة. وقال الفراء والكسائي وغيرهما:
الواو زائدة مقحمة، والمعنى: حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج اقترب الوعد الحق"
فاقترب" جواب" إذا". وأنشد الفراء «2»:
فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى
أي انتحى، والواو زائدة، ومنه قوله تعالى:" وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ «3».
وَنادَيْناهُ" [الصافات: 104- 103] أي للجبين ناديناه. وأجاز الكسائي أن يكون
جواب" إذا"" فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ
كَفَرُوا" ويكون قوله:" وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ" معطوفا
على الفعل الذي هو شرط. وقال البصريون: الجواب محذوف والتقدير: قالوا يا ويلنا،
وهو قول الزجاج، وهو قول حسن. قال الله تعالى:" وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ
دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى
" «4» [الزمر: 3] المعنى: قالوا ما نعبدهم، وحذف القول كثير. قوله
تعالى" فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ"" هِيَ" ضمير الأبصار، والأبصار
المذكورة بعدها تفسير لها كأنه قال: فإذا أبصار الذين كفروا شخصت عند مجيء الوعد.
وقال الشاعر:
لعمر أبيها لا تقول ظعينتي ... ألا فر عني مالك بن أبي كعب
فكنى عن الظعينة في أبيها ثم أظهرها. وقال الفراء:" هِيَ" عماد،
مثل." فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ" «5» [الحج: 46]. وقيل: إن
الكلام تم عند قوله:" هي" التقدير: فإذا هي، بمعنى القيامة بارزة واقعة،
أي من قربها كأنها آتية حاضرة ثم ابتداء فقال:" شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ
كَفَرُوا" على تقديم الخبر على الابتداء، أي أبصار الذين كفروا شاخصة من هذا
اليوم، أي من هوله لا تكاد تطرف، يقولون: يا ويلنا إنا كنا ظالمين بمعصيتنا،
ووضعنا العبادة في غير موضعها.
__________ (1). راجع ج 15 ص 39 فما بعده.
(2). البيت لامرئ القيس وهو من معلقته وتمامه:
بنا بطن خبت ذي قفاف عقنقل
(3). راجع ج 15 ص 99 فما بعد.
(4). راجع ج 15 ص 232 فما بعد. [.....]
(5). راجع ج 15 ص 232 فما بعد.
إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98)
[سورة
الأنبياء (21): آية 98]
إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها
وارِدُونَ (98)
فيه أربع مسائل: الاولى: قوله تعالى:" إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ" قال
ابن عباس: آية لا يسألني الناس عنها! لا أدري أعرفوها فلم يسألوا عنها، أو جهلوها
«1» فلا يسألون عنها، فقيل: وما هي؟ قال:" إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ
دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ" لما أنزلت شق على
كفار قريش، وقالوا: شتم آلهتنا، وأتوا ابن الزبعري وأخبروه، فقال: لو حضرته لرددت
عليه. قالوا: وما كنت تقول له؟ قال: كنت أقول له: هذا المسيح تعبده اليهود تعبد
عزيرا أفهما من حصب جهنم؟ فعجبت قريش من مقالته، ورأوا أن محمدا قد خصم، فأنزل
الله تعالى:" إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ
عَنْها مُبْعَدُونَ" [الأنبياء: 101] وفية نزل" وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ
مَرْيَمَ مَثَلًا" [الزخرف: 57] يعني ابن «2» الزبعري" إِذا قَوْمُكَ
مِنْهُ يَصِدُّونَ" [الزخرف: 57] بكسر الصاد، أي يضجون، وسيأتي «3». الثانية-
هذه الآية أصل في القول بالعموم وأن له صيغا مخصوصة، خلافا لمن قال ليست له صيغة
موضوعة للدلالة عليه، وهو باطل بما دلت عليه هذه الآية وغيرها، فهذا عبد الله بن
الزبعرى قد فهم" ما" في جاهليته جميع من عبد، ووافقه على ذلك قريش وهم
العرب الفصحاء، واللسن البلغاء، ولو لم تكن للعموم لما صح أن يستثنى منها، وقد وجد
ذلك فهي للعموم وهذا واضح. الثالثة: قراءة العامة بالصاد المهملة أي إنكم يا معشر
الكفار والأوثان التي تعبدونها من دون الله وقود جهنم، قاله ابن عباس. وقال مجاهد
وعكرمة وقتادة: حطبها. وقرا علي ابن أبي طالب وعائشة رضوان الله عليهما:" حطب
جهنم" بالطاء. وقرا ابن عباس" حضب" بالضاد المعجمة، قال الفراء:
يريد الحصب. قال: وذكر لنا أن الحضب في لغة أهل
__________
(1). كذا في ط وك: جهلوها. وفي غيرهما: جهلوا.
(2). في ك: يا ابن الزبعري.
(3). راجع ج 16 ص 201.
لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ (100)
اليمن
الحطب، وكل ما هيجت به النار وأوقدتها به فهو حضب، ذكره الجوهري. والموقد محضب.
وقال أبو عبيدة في قوله تعالى:" حَصَبُ جَهَنَّمَ" كل ما ألقيته في
النار فقد حصبتها به. ويظهر من هذه الآية أن الناس من الكفار وما يعبدون من
الأصنام حطب لجهنم. ونظير هذه الآية قوله تعالى:" فَاتَّقُوا النَّارَ
الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ" [البقرة: 24]. وقيل: إن المراد
بالحجارة حجارة الكبريت، على ما تقدم في" البقرة" «1» وأن النار لا تكون
على الأصنام عذابا ولا عقوبة، لأنها لم تذنب، ولكن تكون عذابا على من عبدها: أول
شي بالحسرة، ثم تجمع على النار فتكون نارها أشد من كل نار، ثم يعذبون بها. وقيل:
تحمى فتلصق بهم زيادة في تعذيبهم. وقيل: إنما جعلت في النار تبكيتا لعبادتهم.
الرابعة: قوله تعالى:" أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ" أي فيها داخلون.
والخطاب للمشركين عبدة الأصنام، أي أنتم وأردؤها مع الأصنام. ويجوز أن يقال:
الخطاب للأصنام وعبدتها، لان الأصنام وإن كانت جمادات فقد يخبر عنها بكنايات
الآدميين. وقال العلماء: لا يدخل في هذا عيسى ولا عزير ولا الملائكة صلوات الله
عليهم، لان" ما" لغير الآدميين. فلو أراد ذلك لقال:" ومن".
قال الزجاج: ولان المخاطبين بهذه الآية مشركو مكة دون غيرهم.
[سورة الأنبياء (21): الآيات 99 الى 100]
لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ (99) لَهُمْ
فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ (100)
قوله تعالى: (لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها) أي لو كانت الأصنام آلهة
لما ورد عابدوها النار. وقيل: ما وردها العابدون والمعبودون، ولهذا قال:"
وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ". قوله تعالى: (لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ) أي لهؤلاء
الذين وردوا النار من الكفار والشياطين، فأما الأصنام فعلى الخلاف فيها، هل يحييها
الله تعالى ويعذبها حتى يكون لها زفير أو لا؟ قولان: والزفير صوت نفس المغموم يخرج
من القلب. وقد تقدم في" هود" «2». (وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ)
__________
(1). راجع ج 1 ص 235 فما بعد.
(2). راجع ج 9 ص 78 فما بعد.
إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102) لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103)
قيل:
في الكلام حذف، والمعنى وهم فيها لا يسمعون شيئا، لأنهم يحشرون صما، كما قال الله
تعالى:" وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً
وَبُكْماً وَصُمًّا" «1» [الاسراء: 97]. وفي سماع الأشياء روح وأنس، فمنع
الله الكفار ذلك في النار. وقيل: لا يسمعون ما يسرهم، بل يسمعون صوت من يتولى
تعذيبهم من الزبانية. وقيل: إذا قيل لهم" اخْسَؤُا فِيها وَلا
تُكَلِّمُونِ" «2» [المؤمنون: 108] يصيرون حينئذ صما بكما، كما قال ابن
مسعود: إذا بقي من يخلد في النار في جهنم جعلوا في توابيت من نار، ثم جعلت التوابيت
في توابيت أخرى فيها مسامير من نار، فلا يسمعون شيئا، ولا يرى أحد منهم أن في
النار من يعذب غيره.
[سورة الأنبياء (21): الآيات 101 الى 103]
إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ
(101) لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ
(102) لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا
يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103)
قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى ) أي الجنة
(أُولئِكَ عَنْها) أي عن النار (مُبْعَدُونَ) فمعنى الكلام الاستثناء، ولهذا قال
بعض أهل العلم:" إِنَّ" هاهنا بمعنى" إلا" وليس في القرآن
غيره. وقال محمد بن حاطب: سمعت علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقرأ هذه الآية على
المنبر" إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى " فقال سمعت
النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: (إن عثمان منهم). قوله تعالى: (لا
يَسْمَعُونَ حَسِيسَها) أي حس النار وحركة لهبها. والحسيس والحس الحركة. وروى ابن
جريج عن عطاء قال قال أبو راشد الحروري لابن عباس:" لا يَسْمَعُونَ
حَسِيسَها" فقال ابن عباس: أمجنون أنت؟ فأين قوله تعالى:" وَإِنْ
مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها" «3» وقوله تعالى:" فَأَوْرَدَهُمُ
النَّارَ" «4» [هود: 98] وقوله:" إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً" «5»
[مريم: 86]. ولقد كان من دعاء من مضى: اللهم أخرجني من النار سالما، وأدخلني الجنة
فائزا. وقال أبو عثمان النهدي:
__________
(1). راجع ج 10 ص 333.
(2). راجع ج 12 ص 153.
(3). راجع ص 135. وص 152 من هذا الجزء.
(4). راجع ج 9 ص 93 فما بعد.
(5). راجع ص 152 ص 149 من هذا الجزء.
يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104)
على
الصراط حيات تلسع أهل النار فيقولون: حس حس. وقيل: إذا دخل أهل الجنة [الجنة «1»]
لم يسمعوا حس أهل النار وقبل ذلك يسمعون، فالله أعلم (وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ
أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ) أي دائمون وهم فيما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين.
وقال" وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما
تَدَّعُونَ
" «2» [فصلت: 31]. قوله تعالى: (لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ) وقرا
أبو جعفر وابن محيصن" لا يَحْزُنُهُمُ" بضم الياء وكسر الزاي. الباقون
بفتح الياء وضم الزاي. قال اليزيدي: حزنه لغة قريش، وأحزنه لغة تميم، وقد قرئ
بهما. والفزع الأكبر أهوال يوم القيامة والبعث، عن ابن عباس. وقال الحسن: هو وقت
يؤمر بالعباد إلى النار. وقال ابن جريج وسعيد بن جبير والضحاك: هو إذا أطبقت النار
على أهلها، وذبح الموت بين الجنة والنار وقال ذو النون المصري: هو القطيعة
والفراق. وعن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ثلاثة يوم القيامة في
كثيب من المسك الأذفر ولا يحزنهم الفزع الأكبر رجل أم قوما محتسبا وهم له رضوان
ورجل أذن لقوم محتسبا ورجل ابتلى برق الدنيا فلم يشغله عن طاعة ربه (. وقال أبو
سلمة بن عبد الرحمن: مررت برجل يضرب غلاما له، فأشار إلى الغلام، فكلمت مولاه حتى
عفا عنه، فلقيت أبا سعيد الخدري فأخبرته، فقال: يا بن أخي من أغاث مكروبا أعتقه
الله من النار يوم الفزع الأكبر. سمعت ذلك من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ. (وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) أي تستقبلهم الملائكة على أبواب
الجنة يهنئونهم ويقولون لهم: (هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) وقيل:
تستقبلهم ملائكة الرحمة عند خروجهم من القبور عن ابن عباس" هذا
يَوْمُكُمُ" أي ويقولون لهم، فحذف." الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ"
فيه الكرامة.
[سورة الأنبياء (21): آية 104]
يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ
خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ (104)
قوله تعالى: (يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ) قرأ أبو جعفر بن القعقاع وشيبة بن نصاح
والأعرج والزهري" تطوي" بتاء مضمومة" السماء" رفعا على ما لم
يسم فاعله. مجاهد" يطوي"
__________
(1). من ب وج وط وز وك.
(2). راجع ج 15 ص 357.
على
معنى يطوى الله السماء. الباقون" نطوي" بنون العظمة. وانتصاب"
يَوْمَ" على البدل من الهاء المحذوفة في الصلة، التقدير: الذي كنتم توعدونه
يوم نطوي السماء. أو يكون منصوبا ب"- نعيد" من قوله" كَما بَدَأْنا
أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ". أو بقوله:" لا يَحْزُنُهُمُ" أي لا
يحزنهم الفزع الأكبر في اليوم الذي نطوي فيه السماء. أو على إضمار واذكر، وأراد
بالسماء الجنس، دليله:" وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ" «1»
[الزمر: 67]." كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ" «2» قال ابن عباس ومجاهد:
أي كطي الصحيفة على ما فيها، فاللام بمعنى" على". وعن ابن عباس أيضا:
اسم كاتب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وليس بالقوي، لان كتاب رسول
الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معروفون ليس هذا منهم، ولا في أصحابه من
اسمه السجل. وقال ابن عباس أيضا وابن عمر والسدي:" السِّجِلِّ" ملك، وهو
الذي يطوي كتب بني آدم إذا رفعت إليه. ويقال: إنه في السماء الثالثة، ترفع إليه
أعمال العباد، يرفعها إليه الحفظة الموكلون بالخلق في كل خميس واثنين، وكان من
أعوانه فيما ذكروا هاروت وماروت. والسجل الصك، وهو اسم مشتق من السجالة وهي
الكتابة، وأصلها من السجل وهو الدلو، تقول: ساجلت الرجل إذا نزعت دلوا ونزع دلوا،
ثم استعيرت فسميت المكاتبة والمراجعة مساجلة. وقد سجل الحاكم تسجيلا. وقال الفضل
بن العباس بن عتبة بن أبي لهب:
من يساجلني يساجل ماجدا ... يملأ الدلو إلى عقد الكرب «3»
ثم بني هذا الاسم على فعل مثل حمر وطمر وبلي. وقرا أبو زرعة بن عمرو بن
جرير:"/ كطي السجل" بضم السين والجيم وتشديد اللام. وقرا الأعمش
وطلحة:" كَطَيِّ السِّجِلِّ" بفتح السين وإسكان الجيم وتخفيف اللام. قال
النحاس: والمعنى واحد إن شاء الله تعالى. والتمام عند قوله:" للكتاب".
والطي في هذه الآية يحتمل معنيين: أحدهما: الدرج الذي هو ضد النشر، قال الله
تعالى:" وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ" [الزمر: 67]. والثاني:
الإخفاء والتعمية والمحو، لان الله تعالى يمحو ويطمس رسومها ويكدر نجومها.
__________
(1). راجع ج 15 ص 277 فما بعد. [.....]
(2). (الكتاب) بالإفراد قراءة نافع.
(3). الكرب: حبل يشد على عراقي الدلو ثم يثنى ثم يثلث ليكون هو الذي يلي الماء فلا
يعفن الحبل الكبير.
قال
الله تعالى: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ. وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ" «1»
[التكوير: 2- 1]" وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ" [التكوير: 11]."
للكتاب" وتم الكلام. وقراءة الأعمش وحفص وحمزة والكسائي ويحيى وخلف:"
للكتب" جمعا ثم استأنف الكلام فقال:" كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ
نُعِيدُهُ" أي نحشرهم حفاة عراة غرلا كما بدئوا في البطون. وروى النسائي عن
ابن عباس عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: (يحشر الناس يوم
القيامة عراة غرلا أول الخلق يكسى يوم القيامة إبراهيم عليه السلام- ثم قرأ-"
كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ" أخرجه مسلم أيضا عن ابن عباس قال:
قام فينا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بموعظة فقال: (يا أيها
الناس إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غرلا" كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ
نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ" ألا وإن أول الخلائق
يكسى يوم القيامة إبراهيم عليه السلام) وذكر الحديث. وقد ذكرنا هذا الباب في
كتاب" التذكرة" مستوفى. وذكر سفيان الثوري عن سلمة بن كهيل عن أبي
الزعراء عن عبد الله بن مسعود قال: يرسل الله عز وجل ماء من تحت العرش كمني الرجال
فتنبت منه لحمانهم وجسمانهم كما تنبت الأرض بالثرى. وقرا" كَما بَدَأْنا
أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ". وقال ابن عباس: المعنى نهلك كل شي ونفنيه كما كان
أول مرة «2»، وعلى هذا فالكلام متصل بقوله:" يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ"
أي نطويها فنعيدها إلى الهلاك والفناء فلا تكون شيئا. وقيل: نفنى السماء ثم نعيدها
مرة أخرى بعد طيها وزوالها، كقوله:" يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ
الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ" «3» [إبراهيم: 48] والقول الأول أصح وهو نظير
قوله:" وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ"
«4» [الانعام: 94] وقوله عز وجل:"- عُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ
جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ
" «5»." وَعْداً" نصب على المصدر، أي وعدنا وعدا"
عَلَيْنا" إنجازه والوفاء به أي من البعث والإعادة ففي الكلام حذف: ثم أكد
ذلك بقوله جل ثناؤه:" إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ" قال الزجاج: معنى"
إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ" إنا كنا قادرين على ما نشاء. وقيل" إِنَّا
كُنَّا فاعِلِينَ" أي ما وعدناكم وهو كما قال:" كانَ وَعْدُهُ
مَفْعُولًا" [المزمل: 18]. وقيل:" كانَ" للاخبار بما سبق من قضائه.
وقيل: صلة.
__________
(1). راجع ج 19 ص 225. وص 47.
(2). هذا القول يحتاج إلى تدبر كما قال الألوسي.
(3). راجع ج 9 ص 383.
(4). راجع ج 7 ص 42.
(5). راجع ج 10 ص 417.
وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106)
[سورة
الأنبياء (21): الآيات 105 الى 106]
وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها
عِبادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ (106)
قوله تعالى: (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ) الزبور والكتاب واحد، ولذلك جاز
أن يقال للتوراة والإنجيل زبور. زبرت أي كتبت وجمعه زبر. وقال سعيد بن جبير:"
الزبور" التوراة والإنجيل والقرآن. (مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ) الذي في السماء
(أَنَّ الْأَرْضَ) أرض الجنة (يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) رواه سفيان عن
الأعمش عن سعيد بن جبير. الشعبي:" الزبور" زبور داود، و"
الذكر" توراة موسى عليه السلام. مجاهد وابن زيد:" الزبور" كتب
الأنبياء عليهم السلام، و" الذِّكْرِ" أم الكتاب الذي عند الله في
السماء. وقال ابن عباس:" الزبور" الكتب التي أنزلها الله من بعد موسى
على أنبيائه، و" الذكر" التوراة المنزلة على موسى. وقرا حمزة" فِي
الزَّبُورِ" بضم الزاي جمع زبر" أن الأرض يرثها عبادي الصالحون"
أحسن ما قيل فيه أنه يراد بها أرض الجنة كما قال سعيد بن جبير، لان الأرض في
الدنيا قال قد ورثها الصالحون وغيرهم. وهو قول ابن عباس ومجاهد وغيرهما. وقال
مجاهد وأبو العالية: ودليل هذا التأويل قوله تعالى:" وَقالُوا الْحَمْدُ
لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ" «1» [الزمر: 74]
وعن ابن عباس: أنها الأرض المقدسة. وعنه أيضا: أنها أرض الأمم الكافرة ترثها أمة
محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالفتوح. وقيل: إن المراد بذلك بنو
إسرائيل، بدليل قوله تعالى:" وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا
يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها"
«2» [الأعراف: 137] وأكثر المفسرين على أن المراد بالعباد الصالحين أمة محمد
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقرا حمزة" عبادي الصالحون" بتسكين
الياء. (إِنَّ فِي هذا) أي فيما جرى ذكره في هذه السورة من الوعظ والتنبيه. وقيل:
إن في القرآن (لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ) قال أبو هريرة وسفيان الثوري: هم أهل
الصلوات الخمس. وقال ابن عباس رضي الله عنهما:" عابدين" مطيعين. والعابد
المتذلل الخاضع. قال القشيري: ولا يبعد أن يدخل فيه كل عاقل، لأنه من حيث الفطرة
متذلل للخالق، وهو بحيث لو تأمل القرآن واستعمله لأوصله ذلك إلى الجنة. وقال ابن
عباس أيضا: هم أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذين يصلون الصلوات
الخمس ويصومون شهر رمضان. وهذا هو القول الأول بعينه.
__________
(1). راجع ج 15 ص 284 فما بعد.
(2). راجع ج 7 ص 272.
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107) قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (110) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (111) قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (112)
[سورة
الأنبياء (21): الآيات 107 الى 109]
وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (107) قُلْ إِنَّما يُوحى
إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108) فَإِنْ
تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ
ما تُوعَدُونَ (109)
قوله تعالى: (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) قال سعيد بن جبير
عن ابن عباس قال: كان محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رحمة لجميع الناس
فمن آمن به وصدق به سعد، ومن لم يؤمن به سلم مما لحق الأمم من الخسف والغرق. وقال
ابن زيد: أراد بالعالمين المؤمنين خاصة. قوله تعالى: (قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ
أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) فلا يجوز الاشراك به. (فَهَلْ أَنْتُمْ
مُسْلِمُونَ) أي منقادون لتوحيد الله تعالى، أي فأسلموا، كقوله تعالى:"
فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ" «1» [المائدة: 91] أي انتهوا. قوله تعالى:
(فَإِنْ تَوَلَّوْا) أي إن أعرضوا عن الإسلام (فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ) أي
أعلمتكم على بيان أنا وإياكم حرب لا صلح بيننا، كقوله تعالى:" وَإِمَّا
تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ" «2»
[الأنفال: 58] أي أعلمهم أنك نقضت العهد نقضا، أي استويت أنت وهم فليس لفريق عهد
ملتزم في حق الفريق الآخر. وقال الزجاج: المعنى أعلمتكم بما يوحى إلي على استواء
في العلم به، ولم أظهر لاحد شيئا كتمته عن غيره. (وَإِنْ أَدْرِي)" إن"
نافية بمعنى" ما" أي وما أدرى. (أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ)
يعني أجل يوم القيامة لا يدريه أحد لا نبي مرسل ولا ملك مقرب، قاله ابن عباس.
وقيل: آذنتكم بالحرب ولكني لا أدري متى يؤذن لي في محاربتكم.
[سورة الأنبياء (21): الآيات 110 الى 112]
إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ (110)
وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (111) قالَ رَبِّ
احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (112)
قوله تعالى: (إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما
تَكْتُمُونَ) أي من الشرك وهو المجازي عليه. (وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ) أي لعل
الامهال (فِتْنَةٌ لَكُمْ) أي اختبار ليرى كيف صنيعكم
__________
(1). راجع ج 6 ص 285 فما بعد.
(2). راجع ج 8 ص 31.
وهو
أعلم. (وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) قيل: إلى انقضاء المدة. وروي أن النبي صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى بني أمية في منامه يلون الناس، فخرج الحكم من عنده فأخبر
بني أمية بذلك، فقالوا له: ارجع فسله متى يكون ذلك. فأنزل الله تعالى" وَإِنْ
أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ"" وَإِنْ أَدْرِي
لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ" يقول لنبيه عليه السلام قل
لهم ذلك. قوله تعالى: (قالَ «1» رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ) ختم السورة بأن أمر
النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بتفويض الامر إليه وتوقع الفرج من عنده،
أي احكم بيني وبين هؤلاء المكذبين وانصرني عليهم. روى سعيد عن قتادة قال: كانت
الأنبياء تقول:" رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا. وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ"
«2» [الأعراف: 89] فأمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يقول:"
رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ" فكان إذا لقى العدو يقول وهو يعلم أنه على الحق
وعدوه على الباطل" رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ" أي أقض به. وقال أبو
عبيدة: الصفة هاهنا أقيمت مقام الموصوف والتقدير: رب أحكم بحكمك الحق. و"
رب" في موضع نصب، لأنه نداء مضاف. وقرا أبو جعفر بن القعقاع وابن
محيصن:" قل رب أحكم بالحق" بضم الباء. قال النحاس: وهذا لحن عند
النحويين، لا يجوز عندهم رجل أقبل، حتى تقول يا رجل أقبل أو ما أشبهه. وقرا الضحاك
وطلحة ويعقوب:" قال ربي أحكم بالحق" بقطع الالف مفتوحة الكاف والميم
مضمومة. أي قال محمد ربي أحكم بالحق من كل حاكم. وقرا الجحدري" قل ربي
أحكم" على معنى أحكم الأمور بالحق. (وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ
عَلى ما تَصِفُونَ) أي تصفونه من الكفر والتكذيب. وقرا المفضل والسلمى" على
ما يصفون" بالياء على الخبر. الباقون بالتاء على الخطاب. والله أعلم.
تم الجزء الحادي عشر من تفسير القرطبي يتلوه إن شاء الله تعالى الجزء الثاني عشر
وأوله: (سورة الحج)
تحقيق أبي إسحاق إبراهيم أطفيش
__________
(1). (قل) على صيغة الامر قراءة نافع.
(2). راجع ج 7 ص 250 فما بعد.
الجزء
الثاني عشر
[تفسير سورة الحج ]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تفسير سورة الحج وهي مكية، سوى ثلاث ءايات:
قوله تعالى:" هذانِ خَصْمانِ" «1» [الحج: 19] إلى تمام ثلاث آيات، قاله
ابن عباس ومجاهد. وعن ابن عباس أيضا (أنهن أربع آيات)، قوله" عَذابَ الْحَرِيقِ".
[الحج: 22] وقال الضحاك وابن عباس أيضا: (هي مدنية)- وقاله قتادة- إلا أربع
آيات:" وَما أَرْسَلْنا «2» مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ"
[الحج: 52] إلى" عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ" [الحج: 55] فهن مكيات. وعد
النقاش ما نزل بالمدينة عشر آيات. وقال الجمهور: السورة مختلطة، منها مكي ومنها
مدني. وهذا هو الأصح، لان الآيات تقتضي ذلك، لان" يا أَيُّهَا النَّاسُ"
مكي، «3» و" يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا 10" مدني. الغزنوي: وهي من
أعاجيب السور، نزلت ليلا ونهارا، سفرا وحضرا، مكيا ومدنيا، سلميا وحربيا، ناسخا
ومنسوخا، محكما ومتشابها، مختلف العدد. قلت: وجاء في فضلها ما رواه الترمذي وأبو
داود والدارقطني عن عقبة بن عامر قال قلت: يا رسول الله، فضلت سورة الحج بأن فيها
سجدتين؟ قال: (نعم، ومن لم يسجدهما فلا يقرأهما). لفظ الترمذي. وقال: هذا حديث حسن
ليس إسناده بالقوي. واختلف أهل العلم في هذا، فروي عن عمر بن الخطاب- رضي الله
عنه- وابن عمر أنهما قالا:" فضلت سورة الحج بأن فيها سجدتين". وبه يقول
ابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق. وراي بعضهم أن فيها سجدة واحدة، وهو قول سفيان
الثوري. روى الدارقطني عن عبد الله بن ثعلبة قال: رأيت عمر بن الخطاب سجد في الحج
سجدتين، قلت في الصبح؟ قال في الصبح.
__________
(1). راجع ص 79 وص 87 من هذا الجزء. [.....]
(2). راجع ص 79 وص 87 من هذا الجزء.
(3). يعنى غالبه مكي.
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1)
(بسم
الله الرحمن الرحيم)
[سورة الحج (22): آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ
عَظِيمٌ (1)
«1» روى الترمذي عن عمران بن حصين أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما
نزلت:" يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ
شَيْءٌ عَظِيمٌ- إلى قوله- وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ
" قال: أنزلت عليه هذا الآية وهو في سفر فقال:" أتدرون أي يوم
ذلك"؟ فقالوا: الله ورسوله أعلم، قال:" ذاك يوم يقول الله لآدم أبعث بعث
النار قال يا رب وما بعث النار قال تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار وواحد إلى
الجنة". فأنشأ المسلمون يبكون، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ:" قاربوا وسددوا فإنه لم تكن نبوة قط إلا كان بين يديها جاهلية-
قال- فيؤخذ العدد من الجاهلية فإن تمت وإلا كملت من المنافقين وما مثلكم والأمم
إلا كمثل الرقمة «2» في ذراع الدابة أو كالشامة «3» في جنب البعير- ثم قال- إني
لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة- فكبروا، ثم قال- إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل
الجنة- فكبروا، ثم قال- إنى لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة" فكبروا. قال: لا
أدري قال الثلثين أم لا. قال: هذا حديث حسن صحيح، وقد روي من غير وجه عن الحسن عن
عمران بن حصين. وفية: فيئس القوم حتى ما أبدوا بضاحكة، فلما رأى رسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:" اعملوا وأبشروا فوالذي نفسي بيده إنكم لمع
خليقتين ما كانتا مع شي إلا كثرتاه يأجوج ومأجوج ومن مات من بني آدم وبني
إبليس" قال: فسري عن القوم بعض الذي يجدون، فقال:" اعملوا وأبشروا
فوالذي نفس محمد بيده ما أنتم في الناس إلا كالشامة في جنب البعير أو كالرقمة في
ذراع الدابة" قال: هذا حديث حسن صحيح. وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري [رضي
الله عنه ] قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" يقول الله
تعالى يا آدم فيقول لبيك وسعديك والخير في يديك- قال- يقول أخرج بعث النار قال وما
بعث النار قال من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين «4»
__________
(1). الرقمة الهنة الناشئة في ذراع الدابة.
(2). الرقمة الهنة الناشئة في ذراع الدابة.
(3). الشامة: علامة تخالف البدن الذي هي فيه.
(4). في بعض النسخ:" تسعمائة وتسعة وتسعون" فالنصب على المفعولية،
والرفع على الخبرية.
قال
فذاك حين يشيب الصغير وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ
سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ
". قال: فاشتد ذلك عليهم، قالوا: يا رسول الله، أينا ذلك الرجل؟ فقال:"
أبشروا فإن من يأجوج ومأجوج ألفا ومنكم رجل". وذكر الحديث بنحو ما تقدم في
حديث عمران بن حصين. وذكر أبو جعفر النحاس قال: حدثنا أحمد بن محمد ابن نافع قال
حدثنا سلمة قال حدثنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن قتادة عن أنس بن مالك رضي
الله عنه قال:" يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ
السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ"- إلى-" وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ
" قال: نزلت على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو في مسير له،
فرفع بها صوته حتى ثاب إليه أصحابه فقال:" أتدرون أي يوم هذا هذا يوم يقول
الله عز وجل لآدم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يا آدم قم فابعث بعث أهل
النار من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار وواحد إلى الجنة". فكبر ذلك
على المسلمين، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سدوا وقاربوا
وأبشروا فوالذي نفسي بيده ما أنتم في الناس إلا كالشامة في جنب البعير أو كالرقمة
في ذراع الحمار وإن معكم الخليقتين ما كانتا مع شي إلا كثرتاه يأجوج ومأجوج ومن
هلك من كفرة الجن والانس". قوله تعالى:" يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا
رَبَّكُمْ" المراد بهذا النداء المكلفون، أي اخشوه في أوامره أن تتركوها،
ونواهيه أن تقدموا عليها. والاتقاء: الاحتراس من المكروه، وقد تقدم في أول"
البقرة" القول فيه مستوفى «1»، فلا معنى لإعادته. والمعنى: احترسوا بطاعته عن
عقوبته. قوله تعالى:" إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ"
الزلزلة شدة الحركة، ومنه" وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ" «2»
[البقر و: 214]. واصل الكلمة من زل عن الموضع، أي زال عنه وتحرك. وزلزل الله قدمه،
أي حركها. وهذه اللفظة تستعمل في تهويل الشيء. وقيل: هي الزلزلة المعروفة التي هي
إحدى شرائط الساعة، التي تكون في الدنيا قبل يوم القيامة، هذا قول الجمهور. وقد
قيل: إن هذه الزلزلة تكون في النصف من شهر رمضان، ومن بعدها طلوع الشمس من مغربها،
فالله أعلم.
__________
(1). راج ج 1 ص 161.
(2). راجع ج 3 ص 33.
يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)
[سورة
الحج (22): آية 2]
يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ
ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ
اللَّهِ شَدِيدٌ (2)
قوله تعالى: (يَوْمَ تَرَوْنَها)
الهاء في" تَرَوْنَها
" عائدة عند الجمهور على الزلزلة، ويقوي هذا وقوله عز وجل." تَذْهَلُ
كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها
". والرضاع والحمل إنما هو في الدنيا. وقالت فرقة: الزلزلة في يوم القيامة،
واحتجوا بحديث عمران بن حصين الذي ذكرناه، وفيه:" أتدرون أي يوم ذلك
..." الحديث. وهو الذي يقتضيه سياق مسلم في حديث أبي سعيد الخدري.
قوله:" تَذْهَلُ
" أي تشتغل، قاله قطرب. وأنشد:
ضربا «1» يزيل الهام عن مقيله ... ويذهل الخليل عن خليله
وقيل: تنسى. وقيل تلهو. وقيل: تسلو، والمعنى متقارب." عَمَّا أَرْضَعَتْ
" قال المبرد:" ما" بمعنى المصدر، أي تذهل عن الإرضاع. قال: وهذا
يدل على أن هذه الزلزلة في الدنيا، إذ ليس بعد البعث حمل وإرضاع. إلا أن يقال: من
ماتت حاملا تبعث حاملا فتضع حملها للهول. ومن ماتت مرضعة بعثت كذلك. ويقال: هذا
كما قال الله عز وجل:" يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً" «2»
[المزمل: 17]. وقيل: تكون مع النفخة الاولى. وقيل: تكون مع قيام الساعة، حتى يتحرك
الناس من قبورهم في النفخة الثانية. ويحتمل أن تكون الزلزلة في الآية عبارة عن
أهوال يوم القيامة، كما قال تعالى:" مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ
وَزُلْزِلُوا" «3» [البقرة: 214]. وكما قال عليه السلام:" اللهم اهزمهم
وزلزلهم". وفائدة ذكر هول ذلك اليوم التحريض على التأهب له والاستعداد بالعمل
الصالح. وتسمية الزلزلة ب" شَيْءٌ" إما لأنها
__________
(1). في الأصول:" بضرب" والتصويب عن سيرة ابن هشام. وقبله:
نحن قتلنا كم على تأويله ... كما قتلنا كم على تنزيله
والرجز لعبد الله بن رواحة، ارتجزه وهو يقود ناقة سيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين دخل مكة في عمرة القضاء. راجع سيرة ابن هشام
. (2). راجع ج 19 ص 47.
(3). راجع ج 3 ص 33 فما بعد.
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3)
حاصلة
متيقن وقوعها، فيستسهل لذلك أن تسمى شيئا وهي معدومة، إذ اليقين يشبه الموجودات.
وإما على المآل، أي هي إذا وقعت شي عظيم. وكأنه لم يطلق الاسم ألان، بل المعنى
أنها إذا كانت فهي إذا شي عظيم، ولذلك تذهل المراضع وتسكر الناس، كما قال:
(وَتَرَى النَّاسَ سُكارى )
أي من هولها ومما يدركهم من الخوف والفزع. (وَما هُمْ بِسُكارى )
من الخمر. وقال أهل المعاني، وترى الناس كأنهم سكارى. يدل عليه قراءة أبي زرعة هرم
بن عمرو بن جرير بن عبد الله" وَتَرَى النَّاسَ
" بضم التاء، أي تظن ويخيل إليك. وقرا حمزة والكسائي" سكرى" بغير
ألف. الباقون" سُكارى
" وهما لغتان لجمع سكران، مثل كسلي وكسالى. والزلزلة: التحريك العنيف.
والذهول. الغفلة عن الشيء بطروء «1» ما يشغل عنه من هم أو وجع أو غيره. قال ابن
زيد: المعنى تترك ولدها للكرب الذي نزل بها.
[سورة الحج (22): الآيات 3 الى 4]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ
شَيْطانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ
يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (4)
قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ
وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ
فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (4) قوله تعالى: (وَمِنَ
النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) قيل: المراد النضر بن
الحارث، قال: إن الله عز وجل غير قادر على إحياء من قد بلي وعاد ترابا.
(وَيَتَّبِعُ) أي في قوله ذلك. (كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ) متمرد. (كُتِبَ عَلَيْهِ
أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ) قال قتادة ومجاهد: أي من تولى الشيطان. (فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ
وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ).
[سورة الحج (22): آية 5]
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا
خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ
مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي
الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ
لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ
إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى
الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ
وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5)
__________
(1). في الأصول:" بطريان".
قوله
تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ)- إلى قوله-
(مُسَمًّى) فيه اثنتا عشرة مسألة: الاولى- قوله تعالى: (إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ
مِنَ الْبَعْثِ) هذا احتجاج على العالم بالبداءة الاولى. وقوله:" إِنْ
كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ" متضمنة التوقيف. وقرا الحسن ابن أبي الحسن:"
الْبَعْثِ" بفتح العين، وهي لغة في" البعث" عند البصريين. وهي عند
الكوفيين بتخفيف" بعث". والمعنى: يا أيها الناس إن كنتم في شك من
الإعادة. (فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ) أي خلقنا أباكم الذي هو أصل البشر، يعني آدم
عليه السلام (مِنْ تُرابٍ). (ثُمَّ) خلقنا ذريته. (مِنْ نُطْفَةٍ) وهو المني، سمي
نطفة لقلته، وهو القليل من الماء، وقد يقع على الكثير منه، ومنه الحديث" حتى
يسير الراكب بين النطفتين لا يخشى جورا". أراد بحر المشرق وبحر المغرب.
والنطف: القطر. نطف ينطف وينطف. وليلة نطوفة دائمة القطر. (ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ)
وهو الدم الجامد. والعلق الدم العبيط، أي الطري. وقيل: الشديد الحمرة. (ثُمَّ مِنْ
مُضْغَةٍ) وهي لحمة قليلة قدر ما يمضغ، ومنه الحديث" ألا وإن في الجسد
مضغة". وهذه الأطوار أربعة أشهر. قال ابن عباس: وفي العشر بعد الأشهر الاربعة
ينفخ فيه الروح، فذلك عدة المتوفى عنها زوجها، أربعة أشهر وعشر. الثانية- روى يحيى
بن زكريا بن أبي زائدة حدثنا داود عن عامر عن علقمة عن ابن مسعود وعن ابن عمر أن
النطفة إذا استقرت في الرحم أخذها ملك بكفه فقال:" يا رب، ذكر أم أنثى، شقي
أم سعيد، ما الأجل والأثر «1»، بأي أرض تموت؟ فيقال له أنطلق إلى
__________
(1). الأثر: الأجل، وسمي به لأنه يتبع العمر.
أم الكتاب فإنك تجد فيها قصة هذه النطفة، فينطلق فيجد قصتها في أم الكتاب، فتخلق فتأكل رزقها وتطأ أثرها فإذا جاء أجلها قبضت فدفنت في المكان الذي قدر لها، ثم قرأ عامر:" يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ". وفي الصحيح عن أنس بن مالك- ورفع الحديث- قال:" إن الله قد وكل بالرحم ملكا فيقول أي رب نطفة. أي رب علقة. أي رب مضغة. فإذا أراد الله أن يقضي خلقا- قال- قال الملك أي رب ذكر أو أنثى شقي أو سعيد. فما الرزق فما الأجل. فيكتب كذلك في بطن أمه". وفي الصحيح أيضا عن حذيفة بن أسيد الغفاري قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول:" إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكا فصورها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها ثم يقول أي رب أذكر أم أنثى ..." وذكر الحديث. وفي الصحيح عن عبد الله بن مسعود قال: حدثنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو الصادق المصدوق" إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد ..." الحديث. فهذا الحديث مفسر للأحاديث الأول، فإن فيه:" يجمع خلق أحدكم في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم أربعين يوما علقة ثم أربعين يوما مضغة ثم يبعث الملك فينفخ فيه الروح" فهذه أربعة أشهر وفي العشر ينفخ الملك الروح، وهذه عدة المتوفي [عنها زوجها] كما قال ابن عباس. وقوله:" إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه" قد فسره ابن مسعود، سئل الأعمش: ما يجمع في بطن أمه؟ فقال: حدثنا خيثمة قال قال عبد الله: إذا وقعت النطفة في الرحم فأراد أن يخلق منها بشرا طارت في بشرة المرأة تحت كل ظفر وشعر ثم تمكث أربعين يوما ثم تصير دما في الرحم، فذلك جمعها، وهذا وقت كونها علقة. الثالثة- نسبة الخلق والتصوير للملك نسبة مجازية لا حقيقية، وأن ما صدر عنه فعل ما في المضغة كان عند التصوير والتشكيل بقدرة الله وخلقه واختراعه، ألا تراه سبحانه
قد
أضاف إليه الخلقة الحقيقية، وقطع عنها نسب جميع الخليقة فقال:" وَلَقَدْ
خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ" «1» [الأعراف: 11]. وقال:" وَلَقَدْ
خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ. ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي
قَرارٍ «2» مَكِينٍ" [المؤمنون: 13- 12]. وقال:" يا أَيُّهَا النَّاسُ
إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ
مِنْ نُطْفَةٍ". وقال تعالى:" هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ
كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ" «3» [التغابن: 2]. ثم قال:" وَصَوَّرَكُمْ
فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ" «4». [غافر: 64]. وقال:" لَقَدْ خَلَقْنَا
الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ" «5» [التين: 4]. وقال:" خَلَقَ
الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ". [العلق: 2]. إلى غير ذلك من الآيات، مع ما دلت
عليه قاطعات البراهين أن لا خالق لشيء من المخلوقات إلا رب العالمين. وهكذا القول
في قول:" ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح" أي أن النفخ سبب خلق الله فيها
الروح والحياة. وكذلك القول في سائر الأسباب المعتادة، فإنه بإحداث الله تعالى لا
بغيره. فتأمل هذا الأصل وتمسك به، ففيه النجاة من مذاهب أهل الضلال الطبيعيين «6»
وغيرهم. الرابعة- لم يختلف العلماء أن نفخ الروح فيه يكون بعد مائة وعشرين يوما،
وذلك تمام أربعة أشهر ودخوله في الخامس، كما بيناه بالأحاديث. وعليه يعول فيما
يحتاج إليه من الأحكام في الاستلحاق عند التنازع، وفي وجوب النفقات على حمل
المطلقات، وذلك لتيقنه بحركة الجنين في الجوف. وقد قيل: إنه الحكمة في عدة المرأة
من الوفاة بأربعة أشهر وعشر، وهذا الدخول في الخامس يحقق براءة الرحم ببلوغ هذه
المدة إذا لم يظهر حمل. الخامسة- النطفة ليست بشيء يقينا، ولا يتعلق بها حكم إذا
ألقتها المرأة إذا لم تجتمع في الرحم، فهي كما لو كانت في صلب الرجل، فإذا طرحته
علقة فقد تحققنا أن النطفة قد استقرت واجتمعت واستحالت إلى أول أحوال يتحقق به أنه
ولد. وعلى هذا فيكون وضع العلقة فما فوقها من المضغة وضع حمل، تبرأ به الرحم،
وتنقضي به العدة، ويثبت به لها حكم أم الولد. وهذا مذهب مالك رضي الله عنه
وأصحابه. وقال الشافعي رضي الله عنه:
__________
(1). راجع ج 7 ص 168. [.....]
(2). راجع ص 108 فما بعد من هذا الجزء.
(3). راجع ج 18 ص 132.
(4). راجع ج 15 ص 326.
(5). راجع ج 20 ص 113 فما بعد. وص 119.
(6). في الأصول: الطبائع.
لا
اعتبار بإسقاط العلقة، وإنما الاعتبار بظهور الصورة والتخطيط، فإن خفي التخطيط
وكان لحما فقولان بالنقل والتخريج، والمنصوص أنه تنقضي به العدة ولا تكون أم ولد.
قالوا: لان العدة تنقضي بالدم الجاري، فبغيره أولى. السادسة- قوله تعالى:
(مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ) قال الفراء:" مُخَلَّقَةٍ" تامة
الخلق،" وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ" السقط. وقال ابن الاعرابي:"
مُخَلَّقَةٍ" قد بدأ خلقها،" وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ" لم تصور بعد.
ابن زيد: المخلقة التي خلق الله فيها الرأس واليدين والرجلين، و" غَيْرِ
مُخَلَّقَةٍ" التي لم يخلق فيها شي. قال ابن العربي: إذا رجعنا إلى أصل
الاشتقاق فإن النطفة والعلقة والمضغة مخلقة، لان الكل خلق الله تعالى، وإن رجعنا
إلى التصوير الذي هو منتهى الخلقة كما قال الله تعالى:" ثُمَّ أَنْشَأْناهُ
خَلْقاً آخَرَ" [المؤمنون: 14] فذلك ما قال ابن زيد. قلت: التخليق من الخلق،
وفية معنى الكثرة، فما تتابع عليه الأطوار فقد خلق خلقا بعد خلق، وإذا كان نطفة
فهو مخلوق، ولهذا قال الله تعالى:" ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ"
[المؤمنون: 14] والله أعلم. وقد قيل: إن قوله:" مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ
مُخَلَّقَةٍ" يرجع إلى الولد بعينه لا إلى السقط، أي منهم من يتم الرب سبحانه
مضغته فيخلق له الأعضاء أجمع، ومنهم من يكون خديجا ناقصا غير تمام. وقيل: المخلقة
أن تلد المرأة لتمام الوقت. ابن عباس: المخلقة ما كان حيا، وغير المخلقة السقط.
قال:
أفي غير المخلقة البكاء ... فأين الحزم ويحك والحياء
السابعة- أجمع العلماء على أن الامة تكون أم ولد بما تسقطه من ولد تام الخلق. وعند
مالك والأوزاعي وغيرهما بالمضغة كانت مخلقة أو غير مخلقة. قال مالك: إذا علم أنها
مضغة. وقال الشافعي وأبو حنيفة: إن كان قد تبين له شي من خلق بني آدم إصبع أو عين
أو غير ذلك فهي له أم ولد. وأجمعوا على أن المولود إذا استهل صارخا يصلى عليه، فإن
لم يستهل صارخا لم يصل عليه عند مالك وأبي حنيفة والشافعي وغيرهما. وروي عن ابن
عمر أنه يصلى عليه، وقاله ابن المسيب وابن سيرين وغيرهما. وروي عن المغيرة بن شعبة
أنه
كان
يأمر بالصلاة على السقط، ويقول سموهم واغسلوهم وكفنوهم وحنطوهم، فإن الله أكرم
بالإسلام كبيركم وصغيركم، ويتلو هذه الآية" فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ"-
إلى-" وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ". قال ابن العربي: لعل المغيرة بن شعبة أراد
بالسقط ما تبين خلقه فهو الذي يسمى، وما لم يتبين خلقه فلا وجود له. وقال بعض
السلف: يصلي عليه متى نفخ فيه الروح وتمت له أربعة أشهر. وروى أبو داود عن أبي
هريرة رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:" إذا
استهل المولود ورث". الاستهلال: رفع الصوت، فكل مولود كان ذلك منه أو حركة أو
عطاس أو تنفس فإنه يورث لوجود ما فيه من دلالة الحياة. وإلى هذا ذهب سفيان الثوري
والأوزاعي والشافعي. قال الخطابي: وأحسنه قول أصحاب الرأي. وقال مالك: لا ميراث له
وإن تحرك أو عطس ما لم يستهل [صارخا «1»]. وروي عن محمد ابن سيرين والشعبي والزهري
وقتادة. الثامنة- قال مالك رضي الله عنه: ما طرحته المرأة من مضغة أو علقة أو ما
يعلم أنه ولد إذا ضرب بطنها ففيه الغرة «2». وقال الشافعي: لا شي فيه حتى يتبين من
خلقه [شي «3»]. قال مالك: إذا سقط الجنين فلم يستهل صارخا ففيه الغرة. وسواء تحرك
أو عطس فيه الغرة أبدا، حتى يستهل صارخا ففيه الدية كاملة. وقال الشافعي رضي الله
عنه وسائر فقهاء الأمصار: إذا علمت حياته بحركة أو بعطاس أو باستهلال أو بغير ذلك
مما تستيقن به حياته ففيه الدية. التاسعة- ذكر القاضي إسماعيل أن عدة المرأة تنقضي
بالسقط الموضوع، واحتج عليه بأنه حمل، وقال قال الله تعالى:" وَأُولاتُ
الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ" «4». قال القاضي
إسماعيل: والدليل على ذلك أنه يرث أباه، فدل على وجوده خلقا وكونه ولدا وحملا. قال
ابن العربي: ولا يرتبط به شي من هذه الأحكام إلا أن يكون مخلقا. قلت: ما ذكرناه من
الاشتقاق وقول عليه الصلاة والسلام:" إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه"
يدل على صحة ما قلناه، ولان مسقطة العلقة والمضغة يصدق على المرأة إذا
__________
(1). من ك.
(2). الغرة عند الفقهاء: ما بلغ ثمنه نصف عشر الدية من العبيد والإماء.
(3). من ك.
(4). راجع ج 18 ص 162 فما بعد.
ألقته
أنها كانت حاملا وضعت ما استقر في رحمها، فيشملها قوله تعالى:" وَأُولاتُ
الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ". [الطلاق: 4] ولأنها
وضعت مبدأ الولد عن نطفة متجسدا كالمخطط، وهذا بين. العاشرة- روى ابن ماجة: حدثنا
أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا خالد بن مخلد حدثنا يزيد عن عبد الملك النوفلي عن يزيد
بن رومان عن أبي هريرة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ:" لسقط أقدمه بين يدي أحب إلي من فارس أخلفه [خلفي" «1»].
وأخرجه الحاكم في معرفة علوم الحديث له عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة
فقال:" أحب إلي من ألف فارس أخلفه ورائي". الحادية عشرة-"
(لِنُبَيِّنَ لَكُمْ)" يريد: كمال قدرتنا بتصريفنا أطوار خلقكم. (وَنُقِرُّ
فِي الْأَرْحامِ) قرئ بنصب" نقر" و" نخرج"، رواه أبو حاتم عن
أبي زيد عن المفضل عن عاصم قال قال أبو حاتم: النصب على العطف. وقال الزجاج:"
نُقِرُّ" بالرفع لا غير، لأنه ليس المعنى: فعلنا ذلك لنقر في الأرحام ما
نشاء، وإنما خلقهم عز وجل ليدلهم على الرشد والصلاح. وقيل: المعنى لنبين لهم أمر
البعث، فهو اعتراض بين الكلامين. وقرأت هذه الفرقة بالرفع." وَنُقِرُّ"،
المعنى: ونحن نقر. وهي قراءة الجمهور. وقرى:" ويقر" و"
يخرجكم" بالياء، والرفع على هذا سائغ. وقرا ابن وثاب:" ما نشاء"
بكسر النون. والأجل المسمى يختلف بحسب جنين جنين، فثم من يسقط وثم من يكمل أمره
ويخرج حيا. وقال:" ما نَشاءُ" ولم يقل من نشاء لأنه يرجع إلى الحمل، أي
نقر في الأرحام ما نشاء من الحمل ومن المضغة وهي جماد فكنى عنها بلفظ ما. الثانية
عشرة- قوله تعالى: (ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا) أي أطفالا، فهو اسم جنس. وأيضا
فإن العرب قد تسمي الجمع باسم الواحد، قال الشاعر:
يلحينني في حبها ويلمنني ... وإن العواذل ليس لي بأمير
__________
(1). زيادة عن سنن ابن ماجة.
ولم
يقل أمراء. وقال المبرد: وهو اسم يستعمل مصدرا كالرضا والعدل، فيقع على الواحد
والجمع، قال الله تعالى:" أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى
عَوْراتِ النِّساءِ" «1» [النور: 31]. وقال الطبري: وهو نصب على التمييز،
كقوله تعالى:" فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً"»
[النساء: 4]. وقيل: المعنى ثم نخرج كل واحد منكم طفلا. والطفل يطلق من وقت انفصال
الولد إلى البلوغ. وولد كل وحشية أيضا طفل. ويقال: جارية طفل، وجاريتان طفل وجوار
طفل، وغلام طفل، وغلمان طفل. ويقال أيضا: طفل وطفلة وطفلان وطفلتان وأطفال. ولا
يقال: طفلات. وأطفلت المرأة صارت ذات طفل. والمطفلة: الظبية معها طفلها، وهي قريبة
عهد بالنتاج. وكذلك الناقة، [والجمع [مطافل ومطافيل. والطفل (بالفتح في الطاء)
الناعم، يقال: جارية طفلة أي ناعمة، وبنان طفل. وقد طفل الليل إذا أقبل ظلامه.
والطفل (بالتحريك): بعد العصر إذا طفلت الشمس للغروب. والطفل (أيضا): مطر، قال:
لوهد «3» جاده طفل الثريا
(ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ) قيل: إن" ثُمَّ" زائدة كالواو في
قوله" حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها" «4» [الزمر: 73]، لان
ثم من حروف النسق كالواو." أَشُدَّكُمْ" كمال عقولكم ونهاية قواكم. وقد
مضى في" الانعام" «5» بيانه. وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ
الْعُمُرِ) 70 أي أخسه وأدونه، وهو الهرم والخرف حتى لا يعقل، ولهذا قال:
(لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً) كما قال في سورة يس:" وَمَنْ
نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ" «6» [يس: 68]. وكان النبي صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. يدعو فيقول: اللهم إني أعوذ بك من البخل وأعوذ بك من
الجبن وأعوذ بك أن أرد إلى أرذل العمر وأعوذ بك من فتنة الدنيا وعذاب القبر".
أخرجه النسائي عن سعد، وقال: وكان يعلمهن بنيه كما يعلم المكتب «7» الغلمان. وقد
مضى في النحل هذا المعنى «8».
__________
(1). راجع ص 226 من هذا الجزء فما بعد.
(2). راجع ج 5 ص 23 فما بعد.
(3). الوهد والوهدة: المطمئن من الأرض كأنه حفرة.
(4). راجع ج 15 ص 184 فما بعد. [.....]
(5). راجع ج 7 ص 124.
(6). راجع ج 15 ص 38 فما بعد.
(7). المكتب المعلم.
(8). راجع ج 10 ص 140.
قوله
تعالى: (وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً) ذكر دلالة أقوى على البعث فقال في
الأول:" فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ" فخاطب جمعا. وقال في
الثاني:" وَتَرَى الْأَرْضَ" فخاطب واحدا، فانفصل اللفظ عن اللفظ، ولكن
المعنى متصل من حيث الاحتجاج على منكري البعث. (هامِدَةً) يابسة لا تنبت شيئا، قال
ابن جريج. وقيل: دارسة. والهمود الدروس. قال الأعشى:
قالت قتيلة ما لجسمك شاحبا ... وأرى ثيابك باليات همدا
الهروي:" هامِدَةً" أي جافة ذات تراب. وقال شمر: يقال: همد شجر الأرض
إذا بلي وذهب. وهمدت أصواتهم إذا سكنت. وهمود الأرض ألا يكون فيها حياة ولا نبت
ولا عود ولم يصبها مطر. وفي الحديث:" حتى كاد يهمد من الجوع" أي يهلك.
يقال: همد الثوب يهمد إذا بلي. وهمدت النار تهمد. قوله تعالى: (فَإِذا أَنْزَلْنا
عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ) أي تحركت. والاهتزاز: شدة الحركة، يقال: هززت الشيء
فاهتز، أي حركته فتحرك. وهز الحادي الإبل هزيزا فاهتزت هي إذا تحركت في سيرها
بحدائه. واهتز الكوكب في انقضاضه. وكوكب هاز. فالأرض تهتز بالنبات، لان النبات لا
يخرج منها حتى يزيل بعضها من بعض إزالة خفية، فسماه اهتزازا مجازا. وقيل: اهتز
نباتها، فحذف المضاف، قال المبرد، واهتزازه شدة حركته، كما قال الشاعر:
تثنى إذا قامت وتهتز إن مشت ... كما اهتز غصن البان في ورق خضر
والاهتزاز في النبات أظهر منه في الأرض. (وَرَبَتْ) أي ارتفعت وزادت. وقيل:
انتفخت، والمعنى واحد، وأصله الزيادة. ربا الشيء يربو ربوا أي زاد، ومنه الربا
والربوة. وقرا يزيد بن القعقاع وخالد بن إلياس" وربأت" أي ارتفعت حتى صارت
بمنزلة الربيئة، وهو الذي يحفظ القوم على شي مشرف، فهو رابي وربيئة على المبالغة.
قال امرؤ القيس:
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7)
بعثنا
ربيئا قبل ذاك مخملا ... كذئب الغضا يمشي الضراء ويتقي «1»
(وَأَنْبَتَتْ) أي أخرجت. (مِنْ كُلِّ زَوْجٍ) أي لون. (بَهِيجٍ) أي حسن، عن
قتادة. أي يبهج من يراه. والبهجة الحسن، يقال: رجل ذو بهجة. وقد بهج (بالضم) بهاجة
وبهجة فهو بهيج. وأبهجني أعجبني بحسنه. ولما وصف الأرض بالإنبات دل على أن
قوله:" اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ" يرجع إلى الأرض لا إلى النبات. والله أعلم.
[سورة الحج (22): الآيات 6 الى 7]
ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ
اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7)
قوله تعالى:" ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ" لما ذكر افتقار
الموجودات إليه وتسخيرها على وفق اقتداره واختياره في قول:" يا أَيُّهَا النَّاسُ
إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ"- إلى قوله-" بَهِيجٍ".
قال بعد ذلك:" ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ
الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا
رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ". فنبه سبحانه
وتعالى بهذا على أن كل ما سواه وإن كان موجودا حقا فإنه لا حقيقة له من نفسه، لأنه
مسخر مصرف. والحق الحقيقي: هو الموجود المطلق الغني المطلق، وأن وجود كل ذي وجود
عن وجوب وجوده، ولهذا قال في آخر السورة:" وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ
هُوَ الْباطِلُ" «2» [الحج: 62]. والحق الموجود الثابت الذي لا يتغير ولا
يزول، وهو الله تعالى. وقيل: ذو الحق على عباده. وقيل: الحق «3» بمعنى في أفعاله.
وقال الزجاج:" ذلِكَ" في موضع رفع، أي الامر ما وصف لكم وبين. (بِأَنَّ
اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ) أي لان الله هو الحق. وقال: ويجوز أن يكون
__________
(1). المخمل: الذي يخمل نفسه، أي يسيرها ويخفيها لئلا يشعر به الصيد والغضى:
الشجر، والعرب تقول: أخبث الذئاب ذئب الغضى، وإنما صار كذلك لأنه لا يباشر الناس
إلا إذا أراد أن يغير. والضراء (بالفتح والمد): الشجر الملتف في الوادي يستر من
دخل فيه. وفلان يمشى الضراء: إذا مشى مستخفيا فيما يواري من الشجر.
(2). راجع ص 91 من هذا الجزء.
(3). في ك: الحق في أفعاله. وفي ط:" وقيل الحق أي بمعنى كذا في أفعاله"
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8) ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (10)
"
ذلِكَ" نصبا، أي فعل الله ذلك بأنه هو الحق. (وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى )
أي بأنه (وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي وبأنه قادر على ما أراد.
(وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ) عطف على قوله:" ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ
الْحَقُّ" من حيث اللفظ، وليس عطفا في المعنى، إذ لا يقال فعل الله ما ذكر
بأن الساعة آتية، بل لأبد من إضمار فعل يتضمنه، أي وليعلموا أن الساعة آتية (لا
رَيْبَ فِيها) أي لا شك. (وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ) يريد
للثواب والعقاب.
[سورة الحج (22): الآيات 8 الى 10]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا
كِتابٍ مُنِيرٍ (8) ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي
الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ (9) ذلِكَ
بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (10)
قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا
هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (8) ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ
لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ (9)
ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (10)
10- 8 قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ
وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ) أي نير بين الحجة. نزلت في النضر بن الحارث.
وقيل: في أبي جهل بن هشام، قال ابن عباس. والمعظم على أنها نزلت في النضر بن
الحارث كالآية الاولى، فهما في فريق واحد، والتكرير للمبالغة في الذم، كما تقول
للرجل تذمه وتوبخه: أنت فعلت هذا! أنت فعلت هذا! ويجوز أن يكون التكرير لأنه وصفه
في كل آية بزيادة، فكأنه قال: إن النضر بن الحارث يجادل في الله بغير علم ويتبع كل
شيطان مريد، والنضر بن الحارث يجادل في الله من غير علم ومن غير هدى وكتاب منير،
ليضل عن سبيل الله. وهو كقولك: زيد يشتمني وزيد يضربني، وهو تكرار مفيد، قال
القشيري. وقد قيل: نزلت فيه بضع عشرة آية. فالمراد بالآية الاولى إنكاره البعث،
وبالثانية إنكاره النبوة، وأن القرآن منزل من جهة الله. وقد قيل: كان من قول النضر
بن الحارث أن الملائكة بنات الله، وهذا جدال في الله تعالى:" مِنَ" في
موضع رفع بالابتداء. والخبر في قوله:" وَمِنَ النَّاسِ". (ثانِيَ
عِطْفِهِ) نصب على الحال. ويتأول على معنيين: أحدهما- روي عن ابن عباس أنه قال: هو
النضر بن الحارث،
لوى
عنقه مرحا وتعظما. والمعنى الأخر: وهو قول الفراء: أن التقدير: ومن الناس من يجادل
في الله بغير علم ثاني عطفه، أي معرضا عن الذكر، ذكره النحاس. وقال مجاهد وقتادة:
لاويا عنقه كفرا. ابن عباس: معرضا عما يدعى إليه كفرا. والمعنى واحد. وروى
الأوزاعي عن مخلد بن حسين عن هشام بن حسان عن ابن عباس في قوله عز وجل:"
ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ" قال: هو صاحب البدعة.
المبرد: العطف ما انثنى من العنق. وقال المفضل: والعطف الجانب، ومنه قولهم: فلان
ينظر في أعطافه، أي في جوانبه. وعطفا الرجل من لدن رأسه إلى وركه. وكذلك عطفا كل
شي جانباه. ويقال: ثنى فلان عني عطفه إذا أعرض عنك. فالمعنى: أي هو معرض عن الحق
في جداله ومول عن النظر في كلامه، وهو كقوله تعالى:" وَلَّى مُسْتَكْبِراً
كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها" «1» [لقمان: 7]. وقوله تعالى:" لَوَّوْا
رُؤُسَهُمْ" «2» [المنافقون: 5]. وقوله:" أَعْرَضَ وَنَأى
بِجانِبِهِ" «3» [الاسراء: 83]. وقوله:" ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ
يَتَمَطَّى" «4» [القيامة: 33]. (لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) أي عن طاعة
الله تعالى. وقرى" ليضل" بفتح الياء. واللام لام العاقبة، أي يجادل
فيضل، كقوله تعالى:" لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً" «5» [القصص:
8]. أي فكان لهم كذلك. ونظيره" إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ
يُشْرِكُونَ. لِيَكْفُرُوا" «6» [النحل: 55- 54]. (لَهُ فِي الدُّنْيا
خِزْيٌ) أي هوان وذل بما يجري له من الذكر القبيح على ألسنة المؤمنين إلى يوم
القيامة، كما قال:" وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ 10" «7» [القلم:
10] الآية. وقوله تعالى:" تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ" «8»
[المسد: 1]. وقيل: الخزي هاهنا القتل، فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قتل النضر بن الحارث يوم بدر صبرا، كما تقدم في آخر الأنفال.
(وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ) أي نار جهنم. (ذلِكَ بِما
قَدَّمَتْ يَداكَ) 10 أي يقال له في الآخرة إذا دخل النار: ذلك العذاب بما قدمت
يداك من المعاصي والكفر. وعبر باليد عن الجملة، لان اليد التي تفعل وتبطش للجملة.
و" ذلِكَ" بمعنى هذا، كما تقدم في أول البقرة «9».
__________
(1). راجع ج 14 ص 57.
(2). راجع ج 18 ص 126 فما بعد وص 231.
(3). راجع ج 10 ص 321 وص 114.
(4). راجع ج 19 ص 111 فما بعد وص 231.
(5). راجع ج 13 ص 250.
(6). راجع ج 10 ص 321 وص 114.
(7). راجع ج 19 ص 111 فما بعد وص 231. [.....]
(8). راجع ج 20 ص 234.
(9). راجع ج 1 ص 157.
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11)
[سورة
الحج (22): آية 11]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ
اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ
الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (11)
قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ)"
مِنَ" في موضع رفع بالابتداء، والتمام" انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ"
على قراءة الجمهور" خَسِرَ". وهذه الآية خبر عن المنافقين. قال ابن
عباس: يريد شيبة بن ربيعة كان قد أسلم قبل أن يظهر رسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما أوحى إليه ارتد شيبة بن ربيعة. وقال أبو سعيد الخدري:
أسلم رجل من اليهود فذهب بصره وماله، فتشاءم بالإسلام فأتى النبي صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال أقلني! فقال:" إن الإسلام لا يقال" فقال: إني
لم أصب في ديني هذا خيرا! ذهب بصري ومالي وولدي! فقال:" يا يهودي إن الإسلام
يسبك الرجال كما تسبك النار خبث الحديد والفضة والذهب"، فأنزل الله
تعالى:" وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ". وروى
إسرائيل عن أبي حصين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال:" وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ" قال: كان الرجل يقدم المدينة فإن ولدت امرأته
غلاما ونتجت خيله قال هذا دين صالح، فإن لم تلد امرأته ولم تنتج خيله قال هذا دين
سوء. وقال المفسرون: نزلت في أعراب كانوا يقدمون على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فيسلمون، فإن نالوا رخاء أقاموا، وإن نالتهم شدة ارتدوا. وقيل نزلت في
النضر بن الحارث. وقال ابن زيد وغيره: نزلت في المنافقين. ومعنى" عَلى
حَرْفٍ" على شك، قاله مجاهد وغيره. وحقيقته أنه على ضعف في عبادته، كضعف
القائم على حرف مضطرب فيه. وحرف كل شي طرفه وشفيره وحده، ومنه حرف الجبل، وهو
أعلاه المحدد. وقيل:" عَلى حَرْفٍ" أي على وجه واحد، وهو أن يعبده على
السراء دون الضراء، ولو عبدوا الله على الشكر في السراء والصبر على الضراء لما
عبدوا الله على حرف. وقيل:" عَلى حَرْفٍ" على شرط، وذلك أن شيبة ابن ربيعة
قال للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل أن يظهر أمره: أدع لي ربك أن
يرزقني مالا وابلا
يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12)
وخيلا
وولدا حتى أو من بك وأعدل إلى دينك، فدعا له فرزقه الله عز وجل ما تمنى، ثم أراد
الله عز وجل فتنته واختباره وهو أعلم به فأخذ منه ما كان رزقه بعد أن أسلم فارتد
عن الإسلام فأنزل الله تبارك وتعالى فيه:" وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ
اللَّهَ عَلى حَرْفٍ" يريد شرط. وقال الحسن: هو المنافق يعبد الله بلسانه دون
قلبه. وبالجملة فهذا الذي يعبد الله على حرف ليس داخلا بكليته، وبين هذا بقوله
(فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ) صحة جسم ورخاء معيشة رضي وأقام على دينه. (وَإِنْ
أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ) أي خلاف ذلك مما يختبر به (انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ) أي ارتد
فرجع إلى وجهه الذي كان عليه من الكفر. (خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ
الْخُسْرانُ الْمُبِينُ) قرأ مجاهد وحميد بن قيس والأعرج والزهري وابن أبي إسحاق-
وروي عن يعقوب-" خاسر الدنيا" بألف، نصبا على الحال، وعليه فلا يوقف
على" وَجْهِهِ". وخسرانه الدنيا بأن لاحظ في غنيمة ولا ثناء، والآخرة
بأن لا ثواب له فيها.
[سورة الحج (22): آية 12]
يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ
الضَّلالُ الْبَعِيدُ (12)
قوله تعالى: (يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ) أي هذا الذي يرجع إلى الكفر يعبد الصنم
الذي ولا ينفع ولا يضر. (ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ) قال الفراء: الطويل.
[سورة الحج (22): آية 13]
يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ
الْعَشِيرُ (13)
قوله تعالى: (يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ) أي هذا الذي انقلب
على وجهه يدعو من ضره أدنى من نفعه، أي في الآخرة لأنه بعبادته دخل النار، ولم ير
منه نفعا أصلا، ولكنه قال: ضره أقرب من نفعه ترفيعا للكلام، كقوله تعالى:"
وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ" «1» [سبأ:
24]. وقيل: يعبدونهم توهم أنهم يشفعون لهم غدا، كما قال الله تعالى:
__________
(1). راجع ج 14 ص 298.
"
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ
وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ 10: 18" «1» [يونس: 18].
وقال تعالى:" ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى
" «2» [الزمر: 3]. وقال الفراء والكسائي والزجاج: معنى الكلام القسم
والتأخير، أي يدعو والله لمن ضره أقرب من نفعه. فاللام مقدمة في غير موضعها.
و" مِنْ" في موضع نصب ب" يَدْعُوا" واللام جواب القسم.
و" ضَرُّهُ" مبتدأ و" أَقْرَبُ" خبره. وضعف النحاس تأخير
اللام وقال: وليس للأم من التصرف ما يوجب أن يكون فيها تقديم ولا تأخير. قلت: حق
اللام التقديم وقد تؤخر، قال الشاعر:
خالي لانت ومن جرير خال ... ينل العلاء ويكرم الاخوالا
أي لخالي أنت، وقد تقدم. النحاس: وحكى لنا علي بن سليمان عن محمد بن يزيد قال: في
الكلام حذف، والمعنى يدعو لمن ضره أقرب من نفعه إلها. قال النحاس: وأحسب هذا القول
غلطا على محمد بن يزيد، لأنه لا معنى له، لان ما بعد اللام مبتدأ فلا يجوز نصب
إله، وما أحسب مذهب محمد بن يزيد إلا قول الأخفش، وهو أحسن ما قيل في الآية عندي،
والله أعلم، قال:" يَدْعُوا" بمعنى يقول. و" مِنْ" مبتدأ
وخبره محذوف، والمعنى يقول لمن ضره أقرب من نفعه إلهه. قلت: وذكر هذا القول
القشيري رحمه الله عن الزجاج والمهدوي عن الأخفش، وكمل إعرابه فقال:"
يَدْعُوا" بمعنى يقول، و" مِنْ" مبتدأ، و" ضَرُّهُ"
مبتدأ ثان، و" أَقْرَبُ" خبره، والجملة صلة" مِنْ"،
وخبر" مِنْ" محذوف، والتقدير يقول لمن ضره أقرب من نفعه إلهه، ومثله قول
عنترة:
يدعون عنتر والرماح كأنها ... أشطان بئر في لبان الأدهم «3»
قال القشيري: والكافر الذي يقول الصنم معبودي لا يقول ضره أقرب من نفعه، ولكن
المعنى يقول الكافر لمن ضره أقرب من نفعه في قول المسلمين معبودي وإلهي. وهو كقوله
__________
(1). راجع ج 8 ص 321.
(2). راجع ج 15 ص 232.
(3). الأشطان: جمع شطن، وهو حيل البئر. واللبان (بفتح اللام): الصدر. والأدهم:
الفرس. يريد أن الرماح في صدر هذا الفرس بمنزلة حبال البئر من الدلاء، لان البئر
إذا كانت كثيرة الجرفة اضطربت الدلو فيها فيجعل لها حبلان لئلا تضطرب. (عن شرح
المعلقات).
تعالى:"
يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ" «1» [الزخرف: 49]، أي يا أيها
الساحر عند أولئك الذين يدعونك ساحرا. وقال الزجاج: يجوز أن يكون"
يَدْعُوا" في موضع الحال، وفية هاء محذوفة، أي ذلك هو الضلال البعيد يدعوه،
أي في حال دعائه إياه، ففي" يَدْعُوا" هاء مضمرة، ويوقف على هذا
على" يَدْعُوا". وقوله:" لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ
نَفْعِهِ" كلام مستأنف مرفوع بالابتداء، وخبره" لَبِئْسَ الْمَوْلى
"، وهذا لان اللام لليمين والتوكيد فجعلها أول الكلام. قال الزجاج ويجوز أن
يكون" ذلِكَ" بمعنى الذي، ويكون في محل النصب بوقوع"
يَدْعُوا" عليه، أي الذي هو [في «2»] الضلال البعيد يدعو، كما قال:"
وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى 20: 17" «3» أي ما الذي. ثم قوله"
لَمَنْ ضَرُّهُ" كلام مبتدأ، و" لَبِئْسَ الْمَوْلى " خبر المبتدأ،
وتقدير الآية على هذا: يدعو الذي هو الضلال البعيد، قدم المفعول وهو الذي، كما
تقول: زيدا يضرب، واستحسنه أبو علي. وزعم الزجاج أن النحويين أغفلوا هذا القول،
وأنشد:
عدس ما لعباد عليك إمارة ... نجوت وهذا تحملين طليق «4»
أي والذي. وقال الزجاج أيضا والفراء: يجوز أن يكون" يَدْعُوا" مكررة على
ما قبلها، على جهة تكثير هذا الفعل الذي هو الدعاء، ولا تعديه إذ قد عديته أولا،
أي يدعو من دون الله ما لا ينفعه ولا يضره يدعو، مثل ضربت زيدا ضربت، ثم حذفت يدعو
الآخرة اكتفاء بالأولى. قال الفراء: ويجوز" لَمَنْ ضَرُّهُ" بكسر اللام،
أي يدعو إلى من ضره أقرب من نفعه، قال الله عز وجل:" بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى
لَها" «5» أي إليها. وقال الفراء أيضا والقفال: اللام صلة، أي يدعو من ضره
أقرب من نفعه، أي يعبده. وكذلك هو في قراءة عبد الله بن مسعود. (لَبِئْسَ
الْمَوْلى ) أي في التناصر (وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ) أي المعاشر والصاحب والخليل.
مجاهد: يعني الوثن.
__________
(1). راجع ج 16 ص 96.
(2). من ك.
(3). راجع ج 11 ص 186.
(4). هذا البيت أول أبيات ليزيد بن ربيعة بن مفرغ الحميري. وعدس: زجر للبغل ليسرع.
وعباد هو ابن زياد أخو عبيد الله بن زياد الذي قاتل الحسين بن علي رضي الله عنهما
في كربلاء. هجا ابن مفرغ هذا عبادا فحقد عليه وجفاه، فأخذه أخوه عبيد الله وحبسه
وعذبه، فلما طال حبسه دخل أهل اليمن إلى معاوية فشفوا فيه فأطلق سراحه. (راجع
الشعر والشعراء لابن قتيبة وخزانة الأدب في الشاهد الثالث بعد الثلاثمائة والثامن
والعشرين بعد الأربعمائة
(5). راجع ج 20 ص 149.
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (14)
[سورة
الحج (22): آية 14]
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (14)
قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ
جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) لما ذكر حال المشركين وحال
المنافقين والشياطين ذكر حال المؤمنين في الآخرة أيضا. (إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما
يُرِيدُ) أي يثيب من يشاء ويعذب من يشاء، فللمؤمنين الجنة بحكم وعده الصدق وبفضله،
وللكافرين النار بما سبق من عدله، لا أن فعل الرب معلل بفعل العبيد.
[سورة الحج (22): آية 15]
مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ
فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ
يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ (15)
قوله تعالى: (مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا
وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ) قال أبو جعفر النحاس: من
أحسن ما قيل فيها أن المعنى من كان يظن أن لن ينصر الله محمدا صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنه يتهيأ له أن يقطع النصر الذي أوتيه. (فَلْيَمْدُدْ
بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ) أي فليطلب حيلة يصل بها إلى السماء. (ثُمَّ لْيَقْطَعْ)
أي ثم ليقطع النصر إن تهيأ له. (فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ) وحيلته
ما يغيظه من نصر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. والفائدة في الكلام أنه
إذا لم يتهيأ له الكيد والحيلة بأن يفعل مثل هذا لم يصل إلى قطع النصر. وكذا قال
ابن عباس: إن الكناية في" يَنْصُرَهُ اللَّهُ" ترجع إلى محمد صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو وإن لم يجر ذكره فجميع الكلام دال عليه، لان
الايمان هو الايمان بالله وبمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والانقلاب عن
الدين انقلاب عن الدين الذي أتى به محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أي من
كان يظن ممن يعادي محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومن يعبد الله على حرف
أنا لا ننصر محمدا فليفعل كذا وكذا. وعن ابن عباس أيضا أن الهاء تعود على"
مَنْ" والمعنى: من كان يظن أن الله لا يرزقه فليختنق، فليقتل نفسه، إذ لا خير
في حياة تخلو من عون الله. والنصر على هذا القول الرزق،
وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16)
تقول
العرب: من ينصرني نصره الله، أي من أعطاني أعطاه الله. ومن ذلك قول العرب: أرض
منصورة، أي ممطورة. قال الفقعسي: «1»
وإنك لا تعطي امرأ فوق حقه ... ولا تملك الشق الذي الغيث ناصره
وكذا روى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال:" مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ
يَنْصُرَهُ اللَّهُ" أي لن يرزقه. وهو قول أبي عبيدة. وقيل: إن الهاء تعود
على الدين، والمعنى: من كان يظن أن لن ينصر الله دينه. (فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ) أي
بحبل. والسبب ما يتوصل به إلى الشيء." إِلَى السَّماءِ" إلى سقف البيت.
ابن زيد: هي السماء المعروفة. وقرا الكوفيون" ثُمَّ لْيَقْطَعْ" بإسكان اللام.
قال النحاس: وهذا بعيد في العربية، لان" ثُمَّ" ليست مثل الواو والفاء،
لأنها يوقف، عليها وتنفرد. وفي قراءة عبد الله:" فليقطعه ثم لينظر هل يذهبن
كيده ما يغيظ". قيل:" ما" بمعنى الذي، أي هل يذهبن كيده الذي
يغيظه، فحذف الهاء ليكون أخف. وقيل:" ما" بمعنى المصدر، أي هل يذهبن
كيده غيظه.
[سورة الحج (22): آية 16]
وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ
(16)
قوله تعالى: (وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ) يعني القرآن. (وَأَنَّ
اللَّهَ) أي وكذلك أن الله (يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ)، علق وجود الهداية بإرادته، فهو
الهادي لا هادي سواه.
[سورة الحج (22): آية 17]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى
وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ
الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17)
قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) أي بالله وبمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ. (وَالَّذِينَ هادُوا) اليهود، وهم المنتسبون إلى ملة موسى عليه السلام.
(وَالصَّابِئِينَ) هم قوم يعبدون النجوم.
__________
(1). في الأصول الفقيمي والتصويب عن تفسير الطبري.
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18)
(وَالنَّصارى
) هم المنتسبون إلى ملة عيسى. (وَالْمَجُوسَ) هم عبد ة النيران القائلين أن للعالم
أصلين: نور وظلمة. قال قتادة: الأديان خمسة، أربعة للشيطان وواحد للرحمن. وقيل: المجوس
في الأصل النجوس لتدينهم باستعمال النجاسات، والميم والنون يتعاقبان كالغيم
والغين، والأيم والأين. وقد مضى في البقرة هذا كله مستوفى «1». (وَالَّذِينَ
أَشْرَكُوا) هم العرب عبدة الأوثان. (إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ
الْقِيامَةِ) أي يقضي ويحكم، فللكافرين النار، وللمؤمنين الجنة. وقيل: هذا الفصل
بأن يعرفهم المحق من المبطل بمعرفة ضرورية، واليوم يتميز المحق عن المبطل بالنظر
والاستدلال. (إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) أي من أعمال خلقه وحركاتهم
وأقوالهم، فلا يعزب عنه شي منها، سبحانه! وقوله" إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ
بَيْنَهُمْ" خبر" إِنَّ" في قوله" إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا" كما تقول: إن زيدا إن الخير عنده. وقال الفراء: ولا يجوز في الكلام
إن زيدا إن أخاه منطلق، وزعم أنه إنما جاز في الآية لان في الكلام معنى المجازاة،
أي من آمن ومن تهود أو تنصر أو صبأ يفصل بينهم، وحسابهم على الله عز وجل. ورد أبو
إسحاق على الفراء هذا القول، واستقبح قوله: لا يجوز إن زيدا إن أخاه منطلق، قال:
لأنه لا فرق بين زيد وبين الذين، و" إن" تدخل على كل مبتدأ فتقول إن
زيدا هو منطلق، ثم تأتي بإن فتقول: إن زيدا إنه منطلق. وقال الشاعر:
إن الخليفة إن الله سربله ... سربال عز به ترجى الخواتيم «2»
[سورة الحج (22): آية 18]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي
الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ
وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَمَنْ
يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (18)
__________ (1). راجع ج 1 ص 433.
(2). ويروى:" تزجي" بالزاي والجيم، والإزجاء السوق. والخواتيم جمع
الخاتام لغة في الخاتم. يريد أن سلاطين الآفاق يرسلون إليه خواتمهم خوفا منه فيضاف
ملكهم إلى ملكه. وهذا البيت من قصيدة لجرير يمدح بها عبد العزيز بن الوليد بن عبد
الملك. (عن خزانة الأدب). [.....]
قوله
تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي
الْأَرْضِ) هذه رؤية القلب، أي ألم تر بقلبك وعقلك. وتقدم معنى السجود في"
البقرة"، «1» وسجود الجماد في" النحل"»
." وَالشَّمْسُ" معطوفة على" مَنْ". وكذا (وَالْقَمَرُ
وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ). ثم
قال: (وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ) وهذا مشكل من الاعراب، كيف لم ينصب
ليعطف ما عمل فيه الفعل على ما عمل فيه الفعل، مثل:" وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ
لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً «3»"؟ [الإنسان: 31] فزعم الكسائي والفراء أنه لو
نصب لكان حسنا، ولكن اختير الرفع لان المعنى وكثير أبى السجود، فيكون ابتداء
وخبرا، وتم الكلام عند قوله:" وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ". ويجوز أن يكون
معطوفا، على أن يكون السجود التذلل والانقياد لتدبير الله عز وجل من ضعف وقوه وصحة
وسقم وحسن وقبح، وهذا يدخل فيه كل شي. ويجوز أن ينتصب على تقدير: وأهان كثيرا حق
عليه العذاب، ونحوه. وقيل: تم الكلام عند قوله" وَالدَّوَابُّ" ثم ابتدأ
فقال:" وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ" في الجنة" وَكَثِيرٌ حَقَّ
عَلَيْهِ الْعَذابُ". وكذا روي عن ابن عباس أنه قال: (المعنى وكثير من الناس
في الجنة وكثير حق عليه العذاب، ذكره ابن الأنباري. وقال أبو العالية: ما في
السموات نجم ولا قمر ولا شمس إلا يقع ساجد الله حين يغيب، ثم لا ينصرف حتى يؤذن له
فيرجع من مطلعه. قال القشيري: وورد هذا في خبر مسند في حق الشمس، فهذا سجود حقيقي،
ومن ضرورته تركيب الحياة والعقل في هذا الساجد. قلت: الحديث المسند الذي أشار إليه
خرجه مسلم، وسيأتي في سورة" يس" عند قوله تعالى:" وَالشَّمْسُ
تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها" «4». [يس: 38]. وقد تقدم في البقرة معنى السجود
لغة ومعنى. قوله تعالى: (وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ) أي من
أهانه بالشقاء والكفر لا يقدر أحد على دفع الهوان عنه. وقال ابن عباس: إن من تهاون
بعبادة الله صار إلى النار. (إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) يريد أن مصيرهم
إلى النار فلا اعتراض لاحد عليه. وحكى الأخفش والكسائي والفراء:" وَمَنْ
يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ" أي إكرام.
__________
(1). راجع ج 1 ص 291.
(2). راجع ج 10 ص 112.
(3). راجع ج 19 ص 150.
(4). راجع ج 15 ص 26 فما بعد.
هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21)
[سورة
الحج (22): الآيات 19 الى 21]
هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ
ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ
ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21)
قوله تعالى: (هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ) خرج مسلم عن قيس بن عباد
قال: سمعت أبا ذر يقسم قسما إن" هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي
رَبِّهِمْ" إنها نزلت في الذين برزوا يوم بدر: حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث
رضى الله عنهم وعتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة. وبهذا الحديث ختم مسلم
رحمه الله كتابه. وقال ابن عباس: نزلت هذه الآيات الثلاث على النبي صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمدينة في ثلاثة نفر من المؤمنين وثلاثة نفر كافرين، وسماهم،
كما ذكر أبو ذر. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: إني لأول من يجثو للخصومة بين
يدي الله يوم القيامة، يريد قصته في مبارزته هو وصاحباه، ذكره البخاري. وإلى هذا
القول ذهب هلال بن يساف وعطاء بن يسار وغيرهما. وقال عكرمة: المراد بالخصمين الجنة
والنار، اختصمتا فقالت النار: خلقني لعقوبته. وقالت الجنة: خلقني لرحمته. قلت: وقد
ورد بتخاصم الجنة والنار حديث عن أبى هريرة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (احتجت الجنة والنار فقالت هذه يدخلني الجبارون والمتكبرون
وقالت هذه يدخلني الضعفاء والمساكين فقال الله تعالى لهذه أنت عذابي أعذب بك من
أشاء وقال لهذه أنت رحمتي أرحم بك من أشاء ولكل واحدة منكما ملؤها (. خرجه البخاري
ومسلم والترمذي وقال: حديث حسن صحيح. وقال ابن عباس أيضا: هم أهل الكتاب قالوا
للمؤمنين: نحن أولى بالله منكم، وأقدم منكم كتابا، ونبينا قبل نبيكم. وقال
المؤمنون: نحن أحق بالله منكم، آمنا بمحمد وآمنا بنبيكم وبما أنزل إليه من كتاب،
وأنتم تعرفون نبينا وتركتموه وكفرتم به حسدا، فكانت هذه خصومتهم، وأنزلت فيهم هذه
الآية. وهذا قول قتادة، والقول الأول أصح رواه البخاري عن حجاج بن منهال عن هشيم
عن أبي هاشم عن أبي مجلز عن
قيس
بن عباد عن أبي ذر، ومسلم عن عمرو بن زرارة عن هشيم، ورواه سليمان التيمي عن أبي
مجلز عن قيس بن عباد عن علي قال. فينا نزلت هذه الآية وفي مبارزتنا يوم بدر"
هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ"- إلى قوله-" عَذابَ
الْحَرِيقِ". وقرا ابن كثير:" هذان خصمان" بتشديد النون من"
هذان". وتأول الفراء الخصمين على أنهما فريقان أهل دينين، وزعم أن الخصم
الواحد المسلمون والآخر اليهود والنصارى، اختصموا في دين ربهم، قال: فقال"
اخْتَصَمُوا" لأنهم جمع، قال: ولو قال" اختصما" لجاز. قال النحاس:
وهذا تأويل من لا دراية له بالحديث ولا بكتب أهل التفسير، لان الحديث في هذه الآية
مشهور، رواه سفيان الثوري وغيره عن أبي هاشم عن أبي مجلز عن قيس بن عباد قال: سمعت
أبا ذر يقسم قسما أن هذه الآية نزلت في حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب
وعتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة. وهكذا روى أبو عمرو بن العلاء عن مجاهد
عن ابن عباس. وفية قول رابع أنهم المؤمنون كلهم والكافرون كلهم من أي ملة كانوا،
قاله مجاهد والحسن وعطاء بن أبي رباح وعاصم بن أبي النجود والكلبي وهذا القول
بالعموم يجمع المنزل فيهم وغيرهم. وقيل: نزلت في الخصومة في البعث والجزاء، إذ قال
به قوم وأنكره قوم. (فَالَّذِينَ كَفَرُوا) يعني من الفرق الذين تقدم ذكرهم.
(قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ) أي خيطت وسويت، وشبهت النار بالثياب لأنها
لباس لهم كالثياب. وقوله:" قُطِّعَتْ" أي تقطع لهم في الآخرة ثياب من
نار، وذكر بلفظ الماضي لان ما كان من أخبار الآخرة فالموعود منه كالواقع المحقق،
قال الله تعالى:" وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ
قُلْتَ لِلنَّاسِ" «1» [المائدة: 116] أي يقول الله تعالى. ويحتمل أن يقال قد
أعدت الآن تلك الثياب لهم ليلبسوها إذا صاروا إلى النار. وقال سعيد بن جبير:"
مِنْ نارٍ" من نحاس، فتلك الثياب من نحاس قد أذيبت وهي السرابيل المذكورة
في" قطر آن" «2» [إبراهيم: 50] وليس في الآنية شي إذا حمي
__________
(1). راجع ج 6 ص 374.
(2). راجع ج 9 ص 385، والقطر النحاس المذاب والاني الذي انتهى إلى حره.
يكون
أشد حرا منه. وقيل: المعنى أن النار قد أحاطت بهم كإحاطة الثياب المقطوعة إذا
لبسوها عليهم، فصارت من هذا الوجه ثيابا لأنها بالإحاطة كالثياب، مثل:"
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً 10" «1» [النبأ: 10]. (يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ
رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ) أي الماء الحار المغلي بنار جهنم. وروى الترمذي عن أبي
هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (إن الحميم ليصب على
رؤوسهم فينفذ الحميم حتى يخلص إلى جوفه فيسلت ما في جوفه حتى يمرق من قدميه وهو
الصهر ثم يعاد كما كان (. قال: هذا حديث حسن صحيح غريب.) يُصْهَرُ 20) يذاب. (بِهِ
ما فِي بُطُونِهِمْ) 20 والصهر إذابة الشحم. والصهارة ما ذاب منه، يقال: صهرت
الشيء فانصهر، أي أذبته فذاب، فهو صهير. قال ابن أحمر يصف فرخ قطاة:
تروي لقى ألقي في صفصف ... تصهره الشمس فما ينصهر «2»
أي تذيبه الشمس فيصبر على ذلك. (وَالْجُلُودُ) 20 أي وتحرق الجلود، أو تشوى
الجلود، فإن الجلود لا تذاب، ولكن يضم في كل شي ما يليق به، فهو كما تقول: أتيته
فأطعمني ثريدا، إي والله ولبنا قارصا «3»، أي وسقاني لبنا. وقال الشاعر:
علفتها تبنا وماء باردا
(وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ) أي يضربون بها ويدفعون، الواحدة مقمعة، ومقمع
أيضا كالمحجن، يضرب به على رأس الفيل. وقد قمعته إذا ضربته بها. وقمعته وأقمعته
بمعنى، أي قهرته وأذللته فانقمع. قال ابن السكيت: أقمعت الرجل عنى إقماعا إذا طلع
عليك فرددته عنك. وقيل: المقامع المطارق، وهي المرازب أيضا. وفي الحديث (بيد كل ملك
من خزنة جهنم مرزبة لها شعبتان فيضرب الضربة فيهوي بها سبعين ألفا (. وقيل:
المقامع سياط من نار، وسميت بذلك لأنها تقمع المضروب، أي تذلله.
__________
(1). راجع ج 19 ص 169 فما بعد.
(2). تروى تسوق إليه الماء، أي تصير له كالراوية. واللقى (بالفتح): الشيء الملقى
لهوانه. والصفصف: المستوي من الأرض.
(3). القارص: الحامض من ألبان الإبل خاصة. وقيل: القارص اللبن الذي يحذي اللسان،
ولم يخصص.
كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22)
[سورة
الحج (22): آية 22]
كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا
عَذابَ الْحَرِيقِ (22)
قوله تعالى: (كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها) أي من النار. (أُعِيدُوا
فِيها) بالضرب بالمقامع. وقال أبو ظبيان: ذكر لنا أنهم يحاولون الخروج من النار
حين تجيش بهم وتفور فتلقي من فيها إلى أعلى أبوابها فيريدون الخروج فتعيدهم الخزان
إليها بالمقامع. وقيل: إذا اشتد غمهم فيها فروا، فمن خلص منهم إلى شفيرها إعادتهم
الملائكة فيها بالمقامع، ويقولون لهم: (ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) أي المحرق، مثل
الأليم والوجيع. وقيل: الحريق الاسم من الاحتراق. تحرق الشيء بالنار واحترق،
والاسم الحرقة والحريق. والذوق مماسة يحصل معها إدراك الطعم، وهو هنا توسع،
والمراد به إدراكهم الألم.
[سورة الحج (22): آية 23]
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ
وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (23)
قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ
جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) لما ذكر أحد الخصمين وهو الكافر ذكر
حال الخصم الآخر وهو المؤمن. (يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ)"
مِنْ" صلة «1». والأساور جمع أسورة، وأسورة واحدها سوار، وفية ثلاث لغات: ضم
السين وكسرها وإسوار. قال المفسرون: لما كانت الملوك تلبس في الدنيا الأساور والتيجان
جعل الله ذلك لأهل الجنة، وليس أحد من أهل الجنة إلا وفي يده ثلاثة أسورة: سوار من
ذهب، وسوار من فضة، وسوار من لؤلؤ. قال هنا وفي فاطر «2»:
__________
(1). هذا على مذهب الأخفش والكوفيين الذين يجيزون زيادة" مِنْ" في
الإيجاب. أما الذين لا يجيزون زيادتها في الإيجاب فقال بعضهم إنها للتبعيض إنها
للابتداء، وبعضهم إنها بيانية. (راجع البحر المحيط) وروح المعاني في الكلام عن هذه
الآية.)
(2). راجع ج 14 ص ...
"
مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً" [فاطر: 33] وقال في سورة الإنسان
«1»:" وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ" [الإنسان: 21]. وفي صحيح مسلم
من حديث أبي هريرة سمعت خليلي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: (تبلغ
الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء). وقيل: تحلى النساء بالذهب والرجال بالفضة.
وفية نظر، والقرآن يرده. (وَلُؤْلُؤاً) قرأ نافع وابن القعقاع وشيبة وعاصم هنا وفي
سورة الملائكة «2»:" لُؤْلُؤاً" بالنصب، على معنى ويحلون لؤلؤا،
واستدلوا بأنها مكتوبة في جميع المصاحف هنا بألف. وكذلك قرأ يعقوب والجحدري وعيسى
بن عمر بالنصب هنا والخفض في" فاطر" اتباعا للمصحف، ولأنها كتبت هاهنا
بألف وهناك بغير ألف. الباقون «3» بالخفض في الموضعين. وكان أبو بكر لا يهمز"
اللُّؤْلُؤُ" في كل القرآن، وهو ما يستخرج من البحر من جوف الصدف. قال
القشيري: والمراد ترصيع السوار باللؤلؤ، ولا يبعد أن يكون في الجنة سوار من لؤلؤ
مصمت «4». قلت: وهو ظاهر القرآن بل نصه. وقال ابن الأنباري: من قرأ" لؤلؤ"
بالخفض وقف عليه ولم يقف على الذهب. وقال السجستاني: من نصب" اللؤلؤ"
فالوقف الكافي" مِنْ ذَهَبٍ"، لان المعنى ويحلون لؤلؤ. قال ابن
الأنباري: وليس كما قال، لأنا إذا خفضنا" اللؤلؤ" نسقناه على لفظ
الأساور، وإذا نصبناه نسقناه على تأويل الأساور، وكأنا قلنا: يحلون فيها أساور ولؤلؤا،
فهو في النصب بمنزلته في الخفض، فلا معنى لقطعه من «5» الأول. قوله تعالى:
(وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ) أي وجميع ما يلبسونه من فرشهم ولباسهم وستورهم حرير،
وهو أعلى مما في الدنيا بكثير. وروى النسائي عن أبي هريرة أن النبي صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة ومن شرب
الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة ومن شرب في آنية الذهب والفضة لم يشرب فيها
في الآخرة- ثم قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لباس أهل الجنة
وشراب أهل الجنة وآنية أهل الجنة (. فإن قيل: قد سوى النبي صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين هذه الأشياء الثلاثة وأنه يحرمها في الآخرة، فهل يحرمها
__________
(1). راجع ج 19 ص 141.
(2). راجع ج 14 ص ....
(3). الذي في المصحف طبعه الحكومة المصرية أنها بالألف في الموضعين. [.....]
(4). المصمت: الذي لا يخالطه غيره.
(5). في ك: عن.
وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (24)
إذا
دخل الجنة؟ قلنا: نعم! إذا لم يتب منها حرمها في الآخرة وإن دخل الجنة، لاستعجاله
ما حرم الله عليه في الدنيا. لا يقال: إنما يحرم ذلك في الوقت الذي يعذب في النار
أو بطول مقامه في الموقف، فأما إذا دخل الجنة فلا، لان حرمان شي من لذات الجنة لمن
كان في الجنة نوع عقوبة ومؤاخذة، والجنة ليست بدار عقوبة، ولا مؤاخذة فيها بوجه.
فإنا نقول: ما ذكرتموه محتمل، لولا ما جاء ما يدفع هذا الاحتمال ويرده من ظاهر
الحديث الذي ذكرناه. وما رواه الأئمة من حديث ابن عمر عن النبي صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (من شرب الخمر في الدنيا ثم لم يتب منها حرمها في الآخرة).
والأصل التمسك بالظاهر حتى يرد نص يدفعه، بل قد ورد نص على صحة ما ذكرناه، وهو ما
رواه أبو داود الطيالسي في مسنده: حدثنا هشام عن قتادة عن داود السراج عن أبي سعيد
الخدري قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (من لبس الحرير في
الدنيا لم يلبسه في الآخرة وإن دخل الجنة لبسه أهل الجنة ولم يلبسه هو). وهذا نص
صريح وإسناده صحيح. فإن كان (وإن دخل الجنة لبسه أهل الجنة ولم يلبسه هو) من قول
النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهو الغاية في البيان، وإن كان من كلام
الراوي على ما ذكر فهو أعلم بالمقال وأقعد بالحال، ومثله لا يقال بالرأي، والله
أعلم. وكذلك (من شرب الخمر ولم يتب) و(من استعمل آنية الذهب والفضة) وكما لا يشتهي
منزلة من هو أرفع منه، وليس ذلك بعقوبة، كذلك لا يشتهي خمر الجنة ولا حريرها ولا
يكون ذلك عقوبة. وقد ذكرنا هذا كله في كتاب التذكرة مستوفي، والحمد لله، وذكرنا
فيها أن شجر الجنة وثمارها يتفتق عن ثياب الجنة، وقد ذكرناه في سورة الكهف «1».
[سورة الحج (22): آية 24]
وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ (24)
قوله تعالى: (وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ) أي أرشدوا إلى ذلك. قال
ابن عباس: يريد لا إله إلا الله والحمد لله. وقيل: القرآن، ثم قيل: هذا في الدنيا،
هدوا إلى الشهادة،
__________
(1). راجع ج 10 ص 397.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25)
وقراءة
القرآن. (وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ) أي إلى صراط الله. وصراط الله: دينه
وهو الإسلام. وقيل: هدوا في الآخرة إلى الطيب من القول، وهو الحمد لله، لأنهم
يقولون غدا الحمد لله الذي هدانا لهذا، الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن، فليس في
الجنة لغو ولا كذب فما يقولونه فهو طيب القول. وقد هدوا في الجنة إلى صراط الله،
إذ ليس في الجنة شي من مخالفة أمر الله. وقيل: الطيب من القول ما يأتيهم من الله
من البشارات الحسنة." وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ" أي إلى طريق
الجنة.
[سورة الحج (22): آية 25]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ
الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وَمَنْ
يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (25)
فيه سبع مسائل: الاولى- قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ) أعاد
الكلام إلى مشركي العرب حين صدوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن
المسجد الحرام عام الحديبية، وذلك أنه لم يعلم لهم صد قبل ذلك الجمع، إلا أن يريد
صدهم لافراد من الناس، فقد وقع ذلك في صدر [من «1»] المبعث. والصد: المنع، أي وهم
يصدون. وبهذا حسن عطف المستقبل على الماضي. وقيل: الواو زائدة"
وَيَصُدُّونَ" خبر" إِنَّ". وهذا مفسد للمعنى المقصود، وإنما الخبر
محذوف مقدر عند قوله: (" وَالْبادِ" تقديره: خسروا إذا هلكوا.
وجاء" وَيَصُدُّونَ" مستقبلا إذ هو فعل يديمونه، كما جاء قوله تعالى:"
الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ «2» اللَّهِ" [الرعد:
28]، فكأنه قال: إن الذين كفروا من شأنهم الصد. ولو قال إن الذين كفروا وصدروا
لجاز. قال النحاس: وفي كتابي عن أبي إسحاق قال وجائز أن يكون- وهو الوجه-
الخبر" نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ". قال أبو جعفر: وهذا غلط، ولست
أعرف ما الوجه فيه، لأنه جاء بخبر" إِنَّ" جزما، وأيضا
__________
(1). من ك.
(2). راجع ج 9 ص 314.
فإنه
جواب الشرط، ولو كان خبر" إِنَّ" لبقي الشرط، بلا جواب، ولا سيما والفعل
الذي في الشرط مستقبل فلا بد له من جواب. الثانية- قوله تعالى: (وَالْمَسْجِدِ
الْحَرامِ) قيل: إنه المسجد نفسه، وهو ظاهر القرآن، لأنه لم يذكر غيره. وقيل:
الحرم كله، لان المشركين صدوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وأصحابه عنه عام الحديبية، فنزل خارجا عنه، قال الله تعالى:" وَصَدُّوكُمْ
عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ «1»" [الفتح: 25] وقال:" سُبْحانَ الَّذِي
أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ" [الاسراء: 1]. وهذا
صحيح، لكنه قصد هنا بالذكر المهم المقصود من ذلك. الثالثة- قوله تعالى: (الَّذِي
جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ) أي للصلاة والطواف والعبادة، وهو كقوله تعالى:" إِنَّ
أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ" «2» [آل عمران: 96]. (سَواءً الْعاكِفُ
فِيهِ وَالْبادِ) العاكف: المقيم الملازم. والبادي: أهل البادية ومن يقدم عليهم.
يقول: سواء في تعظيم حرمته وقضاء النسك فيه الحاضر والذي يأتيه من البلاد، فليس
أهل مكة أحق من النازح إليه. وقيل: إن المساواة إنما هي في دوره ومنازله، ليس
المقيم فيها أولى من الطارئ عليها. وهذا على أن المسجد الحرام الحرم كله، وهذا قول
مجاهد ومالك، رواه عنه ابن القاسم. وروي عن عمر وابن عباس وجماعة أن القادم له
النزول حيث وجد، وعلى رب المنزل أن يؤويه شاء أو أبى. وقال ذلك سفيان الثوري
وغيره. وكذلك كان الامر في الصدر الأول، كانت دورهم بغير أبواب حتى كثرت السرقة،
فاتخذ رجل بابا فأنكر عليه عمر وقال: أتغلق بابا في وجه حاج بيت الله تعالى:؟
فقال: إنما أردت حفظ متاعهم من السرقة، فتركه فاتخذ الناس الأبواب. وروي عن عمر بن
الخطاب رضي الله عنه أيضا أنه كان يأمر في الموسم بقلع أبواب دور مكة، حتى يدخلها
الذي يقدم فينزل حيث شاء، وكانت الفساطيط تضرب في الدور. وروى عن مالك أن الدور
ليست كالمسجد ولأهلها الامتناع منها والاستبداد، وهذا هو العمل اليوم. وقال بهذا
جمهور من الامة «3».
__________
(1). راجع ج 16 ص 283.
(2). راجع ج 4 ص 237.
(3). في ك: الأئمة.
وهذا
الخلاف يبنى على أصلين: أحدهما أن دور مكة هل هي ملك لأربابها أم للناس. وللخلاف
سببان: أحدهما هل فتح مكة كان عنوة فتكون مغنومة، لكن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لم يقسمها وأقرها لأهلها ولمن جاء بعدهم، كما فعل عمر رضي الله عنه بأرض
السواد وعفا لهم عن الخراج كما عفا عن سبيهم واسترقاقهم إحسانا إليهم دون سائر
الكفار فتبقى على ذلك لاتباع ولا تكرى، ومن سبق إلى موضع كان أولى به. وبهذا قال
مالك وأبو حنيفة والأوزاعي. أو كان فتحها صلحا- وإليه ذهب الشافعي- فتبقى ديارهم
بأيديهم، وفي أملاكهم يتصرفون كيف شاءوا. وروى عن عمر أنه اشترى دار صفوان بن أمية
بأربعة آلاف وجعلها سجنا، وهو أول من حبس في السجن في الإسلام، على ما تقدم بيانه
في آية المحاربين من سورة" المائدة" «1». وقد روى أن النبي صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حبس في تهمة. وكان طاوس يكره السجن بمكة ويقول: لا
ينبغي لبيت عذاب أن يكون في بيت رحمة. قلت: الصحيح ما قاله مالك، وعليه تدل ظواهر
الاخبار الثابتة بأنها فتحت عنوة. قال أبو عبيد: ولا نعلم مكة يشبهها شي من
البلاد. وروى الدارقطني عن علقمة بن نضلة قال: توفي رسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما وما تدعى رباع مكة إلا السوائب،
من احتاج سكن ومن استغنى أسكن. وزاد في رواية، وعثمان. وروى أيضا عن علقمة بن نضلة
الكناني قال: كانت تدعى بيوت مكة على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما السوائب، لا تباع من احتاج سكن ومن استغنى
أسكن. وروى أيضا عن عبد الله بن عمرو عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قال: (إن الله تعالى حرم مكة فحرام بيع رباعها واكل ثمنها- وقال- من أكل من أجر
بيوت مكة شيئا فإنما يأكل نارا (. قال الدارقطني: كذا رواه أبو حنيفة مرفوعا ووهم
فيه، ووهم أيضا في قوله: عبيد الله «2» بن أبي يزيد وإنما هو ابن أبي زياد القداح،
والصحيح أنه موقوف، وأسند الدارقطني أيضا عن عبد الله بن عمرو قال قال رسول الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مكة مناخ لا تباع رباعها ولا تؤاجر
__________
(1). راجع ج 6 ص 153.
(2). أحد رجال سند الحديث.
بيوتها
(. وروى أبو داود عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت يا رسول الله، ألا أبني لك
بمنى بيتا أو بناء يظلك من الشمس؟ فقال: (لا، إنما هو مناخ من سبق إليه). وتمسك
الشافعي رضي الله عنه بقوله تعالى:" الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ
40" [الحج: 40] فأضافها إليهم. وقال عليه السلام يوم الفتح: (من أغلق بابه
فهو آمن ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن). الرابعة- قرأ جمهور الناس:"
سواء" بالرفع، وهو على الابتداء، و" الْعاكِفُ" خبره. وقيل:
الخبر" سواء" وهو مقدم، أي العاكف فيه والبادي سواء، وهو قول أبي علي:
والمعنى: الذي جعلناه للناس قبلة أو متعبدا العاكف فيه والبادي سواء. وقرا حفص عن
عاصم:" سَواءً" بالنصب، وهي قراءة الأعمش. وذلك يحتمل أيضا وجهين:
أحدهما- أن يكون؟؟ مفعولا ثانيا لجعل، ويرتفع" الْعاكِفُ" به لأنه مصدر،
فأعمل عمل اسم الفاعل لأنه في معنى مستو. والوجه الثاني- أن يكون حالا من الضمير
في جعلناه. وقرأت فرقة:" سَواءً" بالنصب" العاكف" بالخفض، و"
البادي" عطفا على الناس، التقدير: الذي جعلناه للناس العاكف واليادى. وقراءة
ابن كثير في الوقف والوصل بالياء ووقف أبو عمرو بغير ياء ووصل بالياء. وقرا نافع
بغير ياء في الوصل والوقف «1». وأجمع الناس على الاستواء في نفس المسجد الحرام،
واختلفوا في مكة، وقد ذكرناه. الخامسة- (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ)
شرط، وجوابه" نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ". والإلحاد في اللغة: الميل،
إلا أن الله تعالى بين أن الميل بالظلم هو المراد. واختلف في الظلم، فروى علي بن
أبي طلحة عن ابن عباس:" وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ" قال:
الشرك. وقال عطاء: الشرك والقتل. وقيل: معناه صيد حمامه، وقطع شجره، ودخوله غير
محرم. وقال ابن عمر: كنا نتحدث أن الإلحاد فيه أن يقول الإنسان: لا والله! وبلى
والله! وكلا والله! ولذلك كان له فسطاطان، أحدهما في الحل والآخر في الحرم، فكان
إذا أراد الصلاة دخل فسطاط الحرم، وإذا أراد بعض شأنه دخل فسطاط الحل، صيانة للحرم
عن قولهم كلا والله وبلى والله، حين عظم الله الذنب فيه. وكذلك كان لعبد الله بن
عمرو بن العاص فسطاطان أحدهما
__________
(1). أثبتها ورش عن نافع في الوصل دون الوقف.
في
الحل والآخر في الحرم، فإذا أراد أن يعاتب أهله عاتبهم في الحل، وإذا أراد أن يصلي
صلى في الحرم، فقيل له في ذلك فقال: إن كنا لنتحدث أن من الإلحاد في الحرم أن نقول
كلا والله وبلى والله، والمعاصي تضاعف بمكة كما تضاعف الحسنات، فتكون المعصية
معصيتين، إحداهما بنفس المخالفة والثانية بإسقاط حرمة البلد الحرام، وهكذا الأشهر
الحرم سواء. وقد تقدم. وروى أبو داود عن يعلى بن أمية أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (احتكار الطعام في الحرم إلحاد فيه). وهو قول عمر بن
الخطاب. والعموم يأتي على هذا كله. السادسة- ذهب قوم من أهل التأويل منهم الضحاك
وابن زيد إلى أن هذه الآية تدل على أن الإنسان يعاقب على ما ينويه من المعاصي بمكة
وإن لم يعمله. وقد روى نحو ذلك عن ابن مسعود وابن عمر قالوا: لو هم رجل بقتل رجل
بهذا البيت وهو (بعدن أبين) «1» لعذبه الله. قلت: هذا صحيح، وقد جاء هذا المعنى في
سورة" ن وَالْقَلَمِ" [القلم: 1] مبينا، على ما يأتي بيانه «2» هناك إن
شاء الله تعالى. السابعة- الباء في" بِإِلْحادٍ" زائدة كزيادتها في قوله
تعالى:" تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ 20" «3» [المؤمنون: 20]، وعليه حملوا قول
الشاعر:
نحن بنو جعدة أصحاب الفلج «4» ... نضرب بالسيف ونرجو بالفرج
أراد: نرجو الفرج. وقال الأعشى:
ضمنت برزق عيالنا أرماحنا
أي رزق. وقال آخر «5»:
ألم يأتيك والإنباء تنمي ... بما لاقت لبون بني زياد
__________
(1). عدن: مدينة مشهورة واقعة بالقرب من مدخل البحر الأحمر، وتضاف إلى"
أبين" وهي بخلاف عدن.
(2). راجع ج 18 ص 241.
(3). راجع ص 14 من هذا الجزء. [.....]
(4). الفلج (بتحريك ثانية): موضع لبنى جعدة بن قيس بنجد، وهو في أعلى بلاد قيس
(راجع معجم ما استعجمم وكتاب خزانة الأدب في الشاهد التاسع والثمانين بعد
السبعمائة).
(5). القائل هو قيس بن زهير العبسي، شاعر جاهلي. وهو من قصيدة دالية قالها فيما
كان شجر بينه وبين الربيع بن زياد العبسي. (راجع خزانة الأدب في الشاهد السادس
والثلاثين بعد الستمائة).
وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26)
أي
ما لاقت، والباء زائدة، وهو كثير. وقال الفراء: سمعت أعرابيا وسألته عن شي فقال:
أرجو بذاك، أي أرجو ذاك. وقال الشاعر:
بواد يمان ينبت الشث صدره ... وأسفله بالمرخ والشبهان «1»
أي المرخ. وهو قول الأخفش، والمعنى عنده: ومن يرد فيه إلحادا بظلم. وقال الكوفيون:
دخلت الباء لان المعنى بأن يلحد، والباء مع أن تدخل وتحذف. ويجوز أن يكون التقدير:
ومن برد الناس فيه بإلحاد. وهذا الإلحاد والظلم يجمع جميع المعاصي من الكفر إلى
الصغائر، فلعظم حرمة المكان توعد الله تعالى على نية السيئة فيه. ومن نوى سيئة ولم
يعملها لم يحاسب عليها إلا في مكة. هذا قول ابن مسعود وجماعة من الصحابة وغيرهم،
وقد ذكرناه آنفا.
[سورة الحج (22): آية 26]
وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً
وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26)
فيه مسألتان: الاولى- قوله تعالى: (وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ
الْبَيْتِ) أي واذكر إذ بوأنا لإبراهيم، يقال: بوأته منزلا وبوأت له. كما يقال:
مكنتك ومكنت لك، فاللام في قوله:" لِإِبْراهِيمَ" صلة للتأكيد،
كقوله:" رَدِفَ لَكُمْ" «2» [النمل: 72]، وهذا قول الفراء. وقيل:"
بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ" أي أريناه أصله ليبنيه، وكان قد
درس بالطوفان وغيره، فلما جاءت مدة إبراهيم عليه السلام أمره الله ببنيانه، فجاء
إلى موضعه وجعل يطلب أثرا، فبعث الله ريحا فكشفت عن أساس آدم عليه السلام، فرتب
قواعده عليه، حسبما تقدم بيانه في" البقرة" «3». وقيل:" بَوَّأْنا
10: 93" نازلة منزلة فعل يتعدى باللام، كنحو جعلنا، أي جعلنا لإبراهيم مكان
البيت مبوأ. وقال الشاعر:
كم من أخ لي ماجد ... بوأته بيدي لحدا»
__________
(1). الشث: شجر طيب الريح مر الطعم يدبغ به. والمرخ: شجر كثير النار. والشبهان:
نبت شائك له ورد لطيف أحمر.
(2). راجع ج 13 ص 230.
(3). راجع ج 2 ص 122.
(4). البيت نت قصيدة لعمرو بن معديكرب الزبيدي.
وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27)
الثانية-
(أَنْ لا تُشْرِكْ) هي مخاطبة لإبراهيم عليه السلام في قول الجمهور. وقرا
عكرمة:" أن لا يشرك" بالياء، على نقل معنى القول الذي قيل له. قال أبو
حاتم: ولا بد من نصب الكاف على هذه القراءة، بمعنى لئلا يشرك. وقيل: إن"
أَنْ" مخففة من الثقيلة. وقيل مفسرة. وقيل زائدة، مثل:" فَلَمَّا أَنْ
جاءَ الْبَشِيرُ" «1» [يوسف: 96]. وفي الآية طعن على من أشرك من قطان البيت،
أي هذا كان الشرط على أبيكم فمن بعده وأنتم، فلم تفوا بل أشركتم. وقالت فرقة:
الخطاب من قوله:" أَنْ لا تُشْرِكْ" لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وأمر بتطهير البيت والأذان بالحج. والجمهور على أن ذلك لإبراهيم، وهو
الأصح. وتطهير البيت عام في الكفر والبدع وجميع الأنجاس والدماء. وقيل: عنى به
التطهير عن الأوثان، كما قال تعالى:" فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ
الْأَوْثانِ 30" «2» [الحج: 30]، وذلك أن جرهما والعمالقة كانت لهم أصنام في
محل البيت وحوله قبل أن يبنيه إبراهيم عليه السلام. وقيل: المعنى نزه بيتي عن أن
يعبد فيه صنم. وهذا أمر بإظهار التوحيد فيه. وقد مضى ما للعلماء في تنزيه المسجد
الحرام وغيره من المساجد بما فيه كفاية في سورة" براءة" «3». والقائمون
هم المصلون. وذكر تعالى من أركان الصلاة أعظمها، وهو القيام والركوع والسجود.
[سورة الحج (22): آية 27]
وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ
يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27)
فيه سبع مسائل: الاولى- قوله تعالى: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ) قرأ
جمهور الناس:" وَأَذِّنْ" بتشديد الذال. وقرا الحسن بن أبي الحسن وابن
محيصن:" وآذن" بتخفيف الذال ومد الالف. ابن عطية: وتصحف هذا على بن جني،
فإنه حكى عنهما" وآذن" على أنه فعل ماض، وأعرب على ذلك بأن جعله عطفا
على" بَوَّأْنا 10: 93". والأذان الاعلام، وقد تقدم في"
براءة" «4».
__________
(1). راجع ج 9 ص 259.
(2). راجع ص 53 من هذا الجزء فما بعد.
(3). راجع ج 8 ص 104.
(4). راجع ج 8 ص 69.
الثانية- لما فرغ إبراهيم عليه السلام من بناء البيت، وقيل له: أذن في الناس بالحج، قال: يا رب! وما يبلغ صوتي؟ قال: أذن وعلى الإبلاغ، فصعد إبراهيم خليل الله جبل أبي قبيس وصاح: يا أيها الناس! إن الله قد أمركم بحج هذا البيت ليثيبكم به الجنة ويجيركم من عذاب النار، فحجوا، فأجابه من كان في أصلاب الرجال وأرحام النساء: لبيك اللهم لبيك! فمن أجاب يومئذ حج على قدر الإجابة، إن أجاب مرة فمرة، وإن أجاب مرتين فمرتين، وجرت التلبية على ذلك، قاله ابن عباس وابن جبير. وروى عن أبي الطفيل قال قال لي ابن عباس: (أتدرى ما كان أصل التلبية؟ قلت لا! قال: لما أمر إبراهيم عليه السلام أن يؤذن في الناس بالحج خفضت الجبال رءوسها ورفعت له القرى، فنادى في الناس بالحج فأجابه كل شي: لبيك اللهم لبيك. وقيل: إن الخطاب لإبراهيم عليه السلام تم عند قوله:" السُّجُودِ"، ثم خاطب الله عز وجل محمدا عليه الصلاة والسلام فقال:" وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ" أي أعلمهم أن عليهم الحج. وقول ثالث- إن الخطاب من قوله:" أَنْ لا تُشْرِكْ" مخاطبة للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وهذا قول أهل النظر، لان القرآن أنزل على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكل ما فيه من المخاطبة فهي له إلا أن يدل دليل قاطع على غير ذلك. وهاهنا دليل آخر يدل على أن المخاطبة للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو" أَنْ لا تُشْرِكْ بِي" بالتاء، وهذا مخاطبة لمشاهد، وإبراهيم عليه السلام غائب، فالمعنى على هذا: وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت فجعلنا لك الدلائل على توحيد الله تعالى وعلى أن إبراهيم كان يعبد الله وحده. وقرا جمهور الناس:" بِالْحَجِّ" بفتح الحاء. وقرا ابن أبي إسحاق في كل القرآن بكسرها. وقيل: إن نداء إبراهيم من جملة ما أمر به من شرائع الدين. والله أعلم. الثالثة- قوله تعالى: (يَأْتُوكَ رِجالًا وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ) وعده إجابة الناس إلى حج البيت ما بين راجل وراكب، وإنما قال" يَأْتُوكَ" وإن كانوا يأتون الكعبة لان المنادى إبراهيم، فمن أتى الكعبة حاجا فكأنما أتى إبراهيم، لأنه أجاب نداءه، وفية تشريف إبراهيم. ابن عطية:" رِجالًا" جمع راجل مثل تاجر وتجار، وصاحب وصحاب. وقيل: الرجال
جمع
رجل، والرجل جمع، راجل مثل تجار وتجر وتاجر، وصحاب وصحب وصاحب. وقد يقال في الجمع:
رجال بالتشديد، مثل كافر وكفار. وقرا ابن أبي إسحاق وعكرمة" رجالا" بضم
الراء وتخفيف الجيم، وهو قليل في أبنية الجمع، ورويت عن مجاهد. وقرا مجاهد"
رجالي" على وزن فعالي، فهو مثل كسالى. قال النحاس: في جمع راجل خمسة أوجه،
ورجالة مثل ركاب، وهو الذي روى عن عكرمة، ورجال مثل قيام، ورجلة، ورجل، ورجالة.
الذي روى عن مجاهد رجالا غير معروف، والأشبه به أن يكون غير منون مثل كسالى
وسكارى، ولو نون لكان على فعال، وفعال في الجمع قليل. وقدم الرجال على الركبان في
الذكر لزيادة تعبهم في المشي. (وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ) لان معنى"
ضامِرٍ" معنى ضوامر. قال الفراء: ويجوز" يأتي" على اللفظ. والضامر:
البعير المهزول الذي أتعبه السفر، يقال: ضمر يضمر ضمورا، فوصفها الله تعالى بالمآل
الذي انتهت عليه إلى مكة. وذكر سبب الضمور فقال:" يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ
عَمِيقٍ" أي أثر فيها طول السفر. ورد الضمير إلى الإبل تكرمة لها لقصدها الحج
مع أربابها، كما قال:" وَالْعادِياتِ ضَبْحاً 100: 1" «1» [العاديات: 1]
في خيل الجهاد تكرمة لها حين سعت في سبيل الله. الرابعة- قال بعضهم: إنما
قال" رِجالًا" لان الغالب خروج الرجال إلى الحج دون الإناث، فقوله"
رِجالًا" من قولك: هذا رجل، وهذا فيه بعد، لقوله" وَعَلى كُلِّ
ضامِرٍ" يعني الركبان، فدخل فيه الرجال والنساء. ولما قال تعالى:"
رِجالًا" وبدأ بهم دل ذلك على أن حج الراجل أفضل من حج الراكب. قال ابن عباس:
ما آسى على شي فاتني إلا أن لا أكون حججت ماشيا، فإني سمعت الله عز وجل
يقول:" يَأْتُوكَ رِجالًا". وقال ابن أبي نجيح: حج إبراهيم وإسماعيل
عليهما السلام ماشيين. وقرا أصحاب ابن مسعود:" يأتون" وهي قراءة ابن أبي
عبلة والضحاك، والضمير للناس. الخامسة- لا خلاف في جواز الركوب والمشي، واختلفوا
في الأفضل منهما، فذهب مالك والشافعي في آخرين إلى أن الركوب أفضل، اقتداء بالنبي
صلى الله عليه و
- سلم ولكثرة
__________
(1). راجع ج 20 ص 153.
النفقة
ولتعظيم شعائر الحج بأهبة الركوب. وذهب غيرهم إلى أن المشي أفضل لما فيه من المشقة
على النفس، ولحديث أبي سعيد قال: حج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وأصحابه مشاة من المدينة إلى مكة، وقال: (اربطوا أوساطكم بأزركم) ومشى خلط «1»
الهرولة، خرجه ابن ماجة في سننه. ولا خلاف في أن الركوب عند مالك في المناسك كلها
أفضل، للاقتداء بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. السادسة- استدل بعض
العلماء بسقوط ذكر البحر من هذه الآية على أن فرض الحج بالبحر ساقط. قال مالك في
الموازية: لا أسمع للبحر ذكرا، وهذا تأنس، لا أنه يلزم من سقوط ذكره سقوط الفرض
فيه، وذلك أن مكة ليست في ضفة بحر فيأتيها الناس في السفن، ولا بد لمن ركب البحر
أن يصير في إتيان مكة إما راجلا وإما على ضامر، فإنما ذكرت حالتا الوصول، وإسقاط
فرض الحج بمجرد البحر ليس بالكثير ولا بالقوى. فأما إذا اقترن به عدو وخوف أو هول
شديد أو مرض يلحق شخصا، فمالك والشافعي وجمهور الناس على سقوط الوجوب بهذه
الاعذار، وأنه ليس بسبيل يستطاع. قال ابن عطية: وذكر صاحب الاستظهار في هذا المعنى
كلاما، ظاهره أن الوجوب لا يسقط بشيء من هذه الاعذار، وهذا ضعيف. قلت: وأضعف من
ضعيف، وقد مضى في" البقرة" «2» بيانه. والفج: الطريق الواسعة، والجمع
فجاج. وقد مضى في" الأنبياء" «3». والعميق معناه البعيد. وقراءة
الجماعة" يَأْتِينَ". وقرا أصحاب عبد الله" يأتون" وهذا
للركبان و" يَأْتِينَ" للجمال، كأنه. قال: وعلى إبل ضامرة يأتين (مِنْ
كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) أي بعيد، ومنه بئر عميقة أي بعيدة القعر، ومنه:
وقاتم الأعماق خاوى المخترق «4»
__________
(1). خلط الهرولة (بالكسر) أي شيئا مخلوطا بالهرولة، بأن يمشى حينا ويهرول حينا أو
معتدلا.
(2). راجع ج 2 ص 3. 195
(3). راجع ج 11 ص 285. [.....]
(4). هذا أول أرجوزة من أراجيز رؤية بن العجاج، وبعده:
مشتبه الاعلام لماع الخفق
لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)
السابعة-
واختلفوا في الواصل إلى البيت، هل يرفع يديه عند رؤيته أم لا، فروى أبو داود قال،
سئل جابر بن عبد الله عن الرجل يرى البيت ويرفع يديه فقال: ما كنت أرى أن أحدا
يفعل هذا إلا اليهود، وقد حججنا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فلم نكن نفعله. وروى ابن عباس رضى الله عنهما عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أنه قال: (ترفع الأيدي في سبع مواطن افتتاح الصلاة واستقبال البيت
والصفا والمروة والموقفين والجمرتين). وإلى حديث ابن عباس هذا ذهب الثوري وابن
المبارك وأحمد وإسحاق وضعفوا حديث جابر، لان مهاجرا المكي راوية مجهول. وكان ابن
عمر يرفع يديه عند رؤية البيت. وعن ابن عباس مثله.
[سورة الحج (22): الآيات 28 الى 29]
لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ
مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها
وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا
نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)
فيه ثلاث وعشرون مسألة: الاولى- قوله تعالى: (لِيَشْهَدُوا) أي أذن بالحج يأتوك
رجالا وركبانا ليشهدوا، أي ليحضروا. والشهود الحضور. (مَنافِعَ لَهُمْ) أي المناسك،
كعرفات والمشعر الحرام. وقيل المغفرة. وقيل التجارة. وقيل هو عموم، أي ليحضروا
منافع لهم، أي ما يرضي الله تعالى من أمر الدنيا والآخرة، قال مجاهد وعطاء واختاره
ابن العربي، فإنه يجمع ذلك كله من نسك وتجارة ومغفرة ومنفعة دنيا وأخرى. ولا خلاف
في أن المراد بقوله:" لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ
رَبِّكُمْ" «1» [البقرة: 198] التجارة. الثانية- (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ
فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ) قد مضى في" البقرة" الكلام في الأيام
المعلومات والمعدودات «2». والمراد بذكر اسم الله ذكر التسمية عند الذبح والنحر،
مثل
__________
(1). راجع ج 2 ص 413.
(2). راجع ج 3 ص 1.
قولك:
باسم الله والله أكبر، اللهم منك ولك. ومثل قولك عند الذبح" إِنَّ صَلاتِي
وَنُسُكِي" «1» [الانعام: 162] الآية. وكان الكفار يذبحون على أسماء أصنامهم،
فبين الرب أن الواجب الذبح على اسم الله، وقد مضى في" الانعام".
الثالثة- واختلف العلماء في وقت الذبح يوم النحر، فقال مالك رضي الله عنه: بعد
صلاة الامام وذبحه، إلا أن يؤخر تأخيرا يتعدى فيه فيسقط الاقتداء به. وراعى أبو
حنيفة الفراغ من الصلاة دون ذبح. والشافعي دخول وقت الصلاة ومقدار ما توقع فيه
الخطبتين فاعتبر الوقت دون الصلاة. هذه رواية المزني عنه، وهو قول الطبري. وذكر
الربيع عن البويطي قال قال الشافعي: ولا يذبح أحد حتى يذبح الامام إلا أن يكون ممن
لا يذبح، فإذا صلى وفرغ من الخطبة حل الذبح. وهذا كقول مالك. وقال أحمد: إذا انصرف
الامام فاذبح. وهو قول إبراهيم. وأصح هذه الأقوال قول مالك، لحديث جابر بن عبد
الله قال: صلى بنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم النحر
بالمدينة، فتقدم رجال ونحروا وظنوا أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد
نحر، فأمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من كان نحر أن يعيد بنحر آخر،
ولا ينحروا حتى ينحر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرجه مسلم والترمذي
وقال: وفي الباب عن جابر وجندب وأنس وعويمر بن أشقر وابن عمر وأبي زيد الأنصاري،
وهذا حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند أهل العلم ألا يضحى بالمصر حتى يضحى
الامام. وقد احتج أبو حنيفة بحديث البراء، وفية: (ومن ذبح بعد الصلاة فقد تم نسكه
وأصاب سنة المسلمين). خرجه مسلم أيضا. فعلق الذبح على الصلاة ولم يذكر الذبح،
وحديث جابر يقيده. وكذلك حديث البراء أيضا، قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلى ثم نرجع فننحر فمن فعل
ذلك فقد أصاب سنتنا) الحديث. وقال أبو عمر بن عبد البر: لا أعلم خلافا بين العلماء
أن من ذبح قبل الصلاة وكان من أهل المصر أنه غير مضح، لقوله عليه السلام: (من ذبح
قبل الصلاة فتلك شاة لحم).
__________ (1). راجع ج 7 ص 152 وص 72 فما بعد.
الرابعة-
وأما أهل البوادي ومن لا أمام له فمشهور مذهب مالك [أنه «1»] يتحرى وقت ذبح
الامام، أو أقرب الأئمة إليه. وقال ربيعة وعطاء فيمن لا إمام له: إن ذبح قبل طلوع
الشمس لم يجزه، ويجزيه إن ذبح بعده. وقال أهل الرأى يجزيهم من بعد الفجر. وهو قول
ابن المبارك، ذكره عنه الترمذي. وتمسكوا بقوله تعالى:" وَيَذْكُرُوا اسْمَ
اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ
الْأَنْعامِ". فأضاف النحر إلى اليوم. وهل اليوم من طلوع الفجر أو من طلوع
الشمس، قولان. ولا خلاف أنه لا يجزى ذبح الأضحية قبل طلوع الفجر من يوم النحر.
الخامسة- واختلفوا كم أيام النحر؟ فقال مالك: ثلاثة، يوم النحر ويومان بعده. وبه
قال أبو حنيفة والثوري وأحمد بن حنبل، وروى ذلك عن أبي هريرة وأنس بن مالك من غير
اختلاف عنهما. وقال الشافعي: أربعة، يوم النحر وثلاثة بعده. وبه قال الأوزاعي،
وروى ذلك عن على رضى الله عنه وابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم، وروى عنهم أيضا
مثل قول مالك وأحمد. وقيل: هو يوم النحر خاصة وهو العاشر من ذى الحجة، وروى عن ابن
سيرين. وعن سعيد بن جبير وجابر بن زيد أنهما قالا: النحر في الأمصار يوم واحد وفي
منى ثلاثة أيام. وعن الحسن البصري في ذلك ثلاث روايات: إحداها كما قال مالك،
والثانية كما قال الشافعي، والثالثة إلى آخر يوم من ذى الحجة، فإذا أهل هلال
المحرم فلا أضحى. قلت: وهو قول سليمان بن يسار وأبي سلمة بن عبد الرحمن، ورويا
حديثا مرسلا مرفوعا خرجه الدارقطني: الضحايا إلى هلال ذى الحجة، ولم يصح، ودليلنا
قوله تعالى:" فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ" الآية، وهذا جمع قلة، لكن
المتيقن منه الثلاثة، وما بعد الثلاثة غير متيقن فلا يعمل به. قال أبو عمر بن عبد
البر: أجمع العلماء على أن يوم النحر يوم أضحى، وأجمعوا على أن لا أضحى بعد انسلاخ
ذى الحجة، ولا يصح عندي في هذا إلا قولان: أحدهما- قول مالك والكوفيين. والآخر-
قول الشافعي والشاميين، وهذان القولان مرويان
__________
(1). من ك.
عن
الصحابة فلا معنى للاشتغال بما خالفهما، لان ما خالفهما لا أصل له في السنة ولا في
قول الصحابة، وما خرج عن هذين فمتروك لهما. وقد روى عن قتادة قول سادس، وهو أن
الأضحى يوم النحر وستة أيام بعده، وهذا أيضا خارج عن قول الصحابة فلا معنى له.
السادسة- واختلفوا في ليالي النحر هل تدخل مع الأيام فيجوز فيها الذبح أولا، فروى
عن مالك في المشهور أنها لا تدخل فلا بجوز الذبح بالليل. وعليه جمهور أصحابه
وأصحاب الرأى، لقوله تعالى:" وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ"
فذكر الأيام، وذكر الأيام دليل على أن الذبح في الليل لا يجوز. وقال أبو حنيفة
والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور: الليالي داخلة في الأيام ويجزى الذبح فيها. وروى
عن مالك وأشهب نحوه، ولاشهب تفريق بين الهدى والضحية، فأجاز الهدى ليلا ولم يجز
الضحية ليلا. السابعة- قوله تعالى:" عَلى ما رَزَقَهُمْ" أي على ذبح ما
رزقهم. (مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) والانعام هنا الإبل والبقر والغنم. وبهيمة
الانعام هي الانعام، فهو كقولك صلاة الاولى، ومسجد الجامع. الثامنة- (فَكُلُوا
مِنْها) أمر معناه الندب عند الجمهور. ويستحب للرجل أن يأكل من هديه وأضحيته وأن
يتصدق بالأكثر، مع تجويزهم الصدقة بالكل واكل الكل. وشذت طائفة فأوجبت الأكل
والإطعام بظاهر الآية «1»، ولقوله عليه السلام: (فكلوا وادخروا وتصدقوا). قال
الكيا: قوله تعالى" فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا" يدل على أنه لا يجوز
بيع جميعه ولا التصدق بجميعه. التاسعة- دماء الكفارات لا يأكل منها أصحابها.
ومشهور مذهب مالك رضي الله عنه أنه لا يأكل من ثلاث: جزاء الصيد، ونذر المساكين
وفدية الأذى، ويأكل مما سوى ذلك إذا بلغ محله، واجبا كان أو تطوعا. ووافقه على ذلك
جماعة من السلف وفقهاء الأمصار. العاشرة- فإن أكل مما منع منه فهل يغرم قدر ما أكل
أو يغرم هديا كاملا، قولان في مذهبنا، وبالأول قال ابن الماجشون. قال ابن العربي:
وهو الحق، لا شي عليه غيره.
__________
(1). في ب وج وك: بظاهر الامر.
وكذلك
لو نذر هديا للمساكين فيأكل منه بعد أن بلغ محله لا يغرم إلا ما أكل- خلافا
للمدونة- لان النحر قد وقع، والتعدي إنما هو على اللحم، فيغرم قدر ما تعدى فيه.
قوله «1» تعالى: (وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ) يدل على وجوب إخراج النذر إن كان دما
أو هديا أو غيره، ويدل ذلك على أن النذر لا يجوز أن يأكل منه وفاء بالنذر، وكذلك
جزاء الصيد وفدية الأذى، لان المطلوب أن يأتي به كاملا من غير نقص لحم ولا غيره،
فإن أكل من ذلك كان عليه هدى كامل. والله أعلم. الحادية عشرة- هل يغرم قيمة اللحم أو
يغرم طعاما، ففي كتاب محمد عن عبد الملك أنه يغرم طعاما. والأول أصح، لان الطعام
إنما هو في مقابلة الهدى كله عند تعذره عبادة، وليس حكم التعدي حكم العبادة.
الثانية- فإن عطب من هذا الهدى المضمون الذي هو جزاء الصيد وفدية الأذى ونذر
المساكين شي قبل محله أكل منه صاحبه وأطعم منه الأغنياء والفقراء ومن أحب، ولا
يبيع من لحمه ولا جلده ولا من قلائده شيئا. قال إسماعيل بن إسحاق: لان الهدى
المضمون إذا عطب قبل أن يبلغ محله كان عليه بدله، لذلك جاز أن يأكل منه صاحبه
ويطعم. فإذا عطب الهدى التطوع قبل أن يبلغ محله لم يجز أن يأكل منه ولا يطعم، لأنه
لما لم يكن عليه بدله خيف أن يفعل ذلك بالهدى وينحر من غير أن يعطب، فاحتيط على
الناس، وبذلك مضى العمل. وروى أبو داود عن ناجية الأسلمي أن رسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث معه بهدى وقال: (إن عطب منها شي فانحره ثم اصبغ
نعله في دمه ثم خل بينه وبين الناس). وبهذا الحديث قال مالك والشافعي في أحد
قوليه، وأحمد وإسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأى ومن اتبعهم في الهدى التطوع: لا يأكل
منها سائقها شيئا، ويخلى بينها وبين الناس يأكلونها. وفي صحيح مسلم: (ولا تأكل
منها أنت ولا أحد من أهل رفقتك). وبظاهر هذا النهى قال ابن عباس والشافعي في قوله
الأخر، واختاره ابن المنذر، فقالا: لا يأكل منها [سائقها] ولا أحد من أهل رفقته.
قال أبو عمر قوله عليه السلام (ولا يأكل منها ولا أحد من أهل رفقتك) لا يوجد إلا
في حديث ابن عباس. وليس ذلك
__________
(1). كذا في جميع الأصول. والمتبادر أنه استدلال للقول الثاني. فليتأمل.
في
حديث هشام بن عروة عن أبيه عن ناجية. وهو عندنا أصح من حديث ابن عباس، وعليه العمل
عند الفقهاء. ويدخل في قوله عليه السلام: (خل بينها وبين الناس) أهل رفقته وغيرهم.
وقال الشافعي وأبو ثور: ما كان من الهدى أصله واجبا فلا يأكل منه، وما كان تطوعا
ونسكا أكل منه وأهدى وادخر وتصدق. والمتعة والقرآن عنده نسك. ونحوه مذهب الأوزاعي.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: يأكل من هدى المتعة والتطوع، ولا يأكل مما سوى ذلك مما
وجب بحكم الإحرام. وحكى عن مالك: لا يأكل من دم الفساد. وعلى قياس هذا لا يأكل من
دم الجبر، كقول الشافعي والأوزاعي. تمسك مالك بأن جزاء الصيد جعله الله للمساكين
بقوله تعالى:" أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ" «1» [المائدة: 95].
وقال في فدية الأذى:" فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ
نُسُكٍ" «2» [البقرة: 196]. وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لكعب بن
عجرة: (أطعم ستة مساكين مدين لكل مسكين أو صم ثلاثة أيام أو انسك شاة). ونذر
المساكين مصرح به، وأما غير ذلك من الهدايا فهو باق على أصل قوله:"
وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ"- إلى قوله-"
فَكُلُوا مِنْها" [الحج: 36]. وقد أكل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وعلى رضي الله عنه من الهدى الذي جاء به وشربا من مرقة، وكان عليه
السلام قارنا في أصح الأقوال والروايات، فكان هديه على هذا واجبا، فما تعلق به أبو
حنيفة غير صحيح. والله أعلم. وإنما أذن الله سبحانه من الأكل من الهدايا لأجل أن
العرب كانت لا ترى أن تأكل من نسكها، فأمر الله سبحانه وتعالى نبيه صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمخالفتهم، فلا جرم كذلك شرع وبلغ، وكذلك فعل حين أهدى وأحرم
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. الثالثة عشرة- (فَكُلُوا مِنْها) قال بعض
العلماء: قوله تعالى" فَكُلُوا مِنْها" ناسخ لفعلهم، لأنهم كانوا يحرمون
لحوم الضحايا على أنفسهم ولا يأكلون منها- كما قلناه في الهدايا- فنسخ الله ذلك
بقوله:" فَكُلُوا مِنْها" وبقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: (من ضحى فليأكل من أضحيته) ولأنه عليه السلام أكل من أضحيته وهديه.
وقال الزهري: من السنة أن تأكل أولا من الكبد.
__________
(1). قراءة نافع راجع ج 6 ص 302.
(2). راجع ج 2 ص 365 فما بعد.
الرابعة
عشرة- ذهب أكثر العلماء إلى أنه يستحب أن يتصدق بالثلث ويطعم الثلث ويأكل هو واهلة
الثلث. وقال ابن القاسم عن مالك: ليس عندنا في الضحايا قسم معلوم موصوف. قال مالك
في حديثه: وبلغني عن ابن مسعود، وليس عليه العمل. روى الصحيح وأبو داود قال: ضحى
رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشاة ثم قال: (يا ثوبان، أصلح لحم
هذه الشاة) قال: فما زلت أطعمه منها حتى قدم المدينة. وهذا نص في الفرض. واختلف
قول الشافعي، فمرة قال: يأكل النصف ويتصدق بالنصف لقوله تعالى:" فَكُلُوا
مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ" فذكر شخصين. وقال مرة: يأكل ثلثا
ويهدى ثلثا ويطعم ثلثا، لقوله تعالى:" فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ
وَالْمُعْتَرَّ" [الحج: 36] فذكر ثلاثة. الخامسة عشرة- المسافر يخاطب
بالأضحية كما يخاطب بها الحاضر، إذ الأصل عموم الخطاب بها، وهو قول كافة العلماء.
وخالف في ذلك أبو حنيفة والنخعي، وروى عن على، والحديث حجة عليهم. واستثنى مالك من
المسافرين الحاج بمنى، فلم ير عليه أضحية، وبه قال النخعي. وروى ذلك عن الخليفتين
أبي بكر وعمر وجماعة من السلف رضي الله عنهم، لان الحاج إنما هو مخاطب في الأصل
بالهدى. فإذا أراد أن يضحى جعله هديا، والناس غير الحاج إنما أمروا بالأضحية
ليتشبهوا بأهل منى فيحصل لهم حظ من أجرهم. السادسة عشرة- اختلف العلماء في الادخار
على أربعة أقوال. روى عن على وابن عمر رضي الله عنهما من وجه صحيح أنه لا يدخر من
الضحايا بعد ثلاث. وروياه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وسيأتي.
وقالت جماعة: ما روى من النهى عن الادخار منسوخ، فيدخر إلى أي وقت أحب. وبه قال
أبو سعيد الخدري وبريدة الأسلمي. وقالت فرقة: يجوز الأكل منها مطلقا. وقالت طائفة:
إن كانت بالناس حاجة إليها فلا يدخر، لان النهى إنما كان لعلة وهى قوله عليه
السلام: (إنما نهيتكم من أجل الدافة التي دفت) «1» ولما ارتفعت ارتفع المنع
المتقدم لارتفاع موجبه، لا لأنه منسوخ. وتنشأ هنا مسألة أصولية وهى:
__________
(1). الدافة: القوم يسيرون جماعة سيرا ليس بالشديد. والدافة: قوم من الاعراب
يريدون المصر، يريد أنهم قوم قدموا المدينة عند الأضحى، فنهاهم عن ادخار لحوم
الأضاحي ليفرقوها ويتصدفوا بها فينتفع أولئك القادمون بها. (ابن الأثير).
السابعة
عشرة- وهي الفرق بين رفع الحكم بالنسخ ورفعه لارتفاع علته. أعلم أن المرفوع بالنسخ
لا يحكم به أبدا، والمرفوع لارتفاع علته يعود الحكم لعود العلة، فلو قدم على أهل
بلدة ناس محتاجون في زمان الأضحى، ولم يكن عند أهل ذلك البلد سعة يسدون بها فاقتهم
إلا الضحايا لتعين عليهم ألا يدخروها فوق ثلاث كما فعل النبي صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. الثامنة عشرة- الأحاديث الواردة في هذا الباب بالمنع والإباحة
صحاح ثابتة. وقد جاء المنع والإباحة معا، كما هو منصوص في حديث عائشة وسلمة بن
الأكوع وأبى سعيد الخدري رواها الصحيح. وروى الصحيح عن أبى عبيد مولى ابن أزهر أنه
شهد العيد مع عمر ابن الخطاب قال: ثم صليت العيد مع على بن أبى طالب رضي الله عنه،
قال: فصلى لنا قبل الخطبة ثم خطب الناس فقال: إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد نهاكم أن تأكلوا لحوم نسككم فوق ثلاث ليال فلا تأكلوها.
وروى عن ابن عمر أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد نهى أن تؤكل
لحوم الأضاحي فوق «1» ثلاث. قال سالم: فكان ابن عمر لا يأكل لحوم الأضاحي فوق
ثلاث. وروى أبو داود عن نبيشة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: (إنا كنا نهيناكم عن لحومها فوق ثلاث لكي تسعكم جاء الله بالسعة فكلوا
وادخروا واتجروا ألا وإن هذه الأيام أيام أكل وشرب وذكر لله عز وجل (. قال أبو
جعفر النحاس: وهذا القول أحسن ما قيل في هذا حتى تتفق الأحاديث ولا تتضاد، ويكون
قول أمير المؤمنين على ابن أبي طالب وعثمان محصور، لان الناس كانوا في شدة
محتاجين، ففعل كما فعل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين قدمت
الدافة. والدليل على هذا ما حدثنا إبراهيم بن شريك قال: حدثنا أحمد قال حدثنا ليث
قال حدثني الحارث بن يعقوب عن يزيد بن أبي يزيد عن امرأته أنها سألت عائشة رضي
الله عنها عن لحوم الأضاحي فقالت: قدم علينا على بن أبي طالب من سفر فقدمنا إليه
منه، فأبى أن يأكل حتى يسأل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فسأله
فقال: (كل من ذى الحجة إلى ذى الحجة). وقال الشافعي: من قال بالنهي عن الادخار بعد
ثلاث لم يسمع الرخصة. ومن قال بالرخصة مطلقا لم يسمع النهى عن الادخار. ومن قال
بالنهي
__________
(1). في ك: بعد.
والرخصة
سمعهما جميعا فعمل بمقتضاهما. والله أعلم. وسيأتي في سورة" الكوثر" «1»
الاختلاف في وجوب الأضحية وندبيتها وأنها ناسخة لكل ذبح تقدم، إن شاء الله تعالى.
التاسعة عشرة- قوله تعالى: (وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ)"
الفقير" من صفة البائس، وهو الذي ناله البؤس وشدة الفقر، يقال: بئس يبأس بأسا
إذا افتقر، فهو بائس. وقد يستعمل فيمن نزلت به نازلة دهر وإن لم يكن فقيرا، ومنه
قوله عليه السلام: (لكن البائس سعد «2» بن خولة). ويقال رجل بئيس أي شديد. وقد بؤس
يبؤس بأسا إذ اشتد، ومنه قوله تعالى:" وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا
بِعَذابٍ بَئِيسٍ" «3» [الأعراف: 165] أي شديد. وكلما كان التصدق بلحم
الأضحية أكثر كان الأجر أوفر. وفي القدر الذي يجوز أكله خلاف قد ذكرناه، فقيل.
النصف، لقوله:" فَكُلُوا، مِنْها وَأَطْعِمُوا" وقيل: الثلثان، لقوله:
(ألا فكلوا وادخروا واتجروا) أي اطلبوا الأجر بالإطعام. واختلف في الأكل والإطعام،
فقيل: واجبان. وقيل مستحبان. وقيل: بالفرق بين الأكل والإطعام، فالأكل مستحب
والإطعام واجب، وهو قول الشافعي. الموفية عشرين- قوله تعالى: (ثُمَّ لْيَقْضُوا
تَفَثَهُمْ) أي ثم ليقضوا بعد نحر الضحايا والهدايا ما بقي عليهم من أمر الحج،
كالحلق ورمى الجمار وإزالة شعث ونحوه. قال ابن عرفة: أي ليزيلوا عنهم أدرانهم.
وقال الأزهري: التفث الأخذ من الشارب وقص الاظفار ونتف الإبط وحلق العانة، وهذا
عند الخروج من الإحرام. وقال النضر بن شميل: التفث في كلام العرب إذهاب الشعث،
وسمعت الأزهري يقول: التفث في كلام العرب لا يعرف إلا من قول ابن عباس واهل
التفسير. وقال الحسن: هو إزالة قشف الإحرام. وقيل: التفث مناسك الحج كلها، رواه
ابن عمر وابن عباس. قال ابن العربي: لو صح عنهما لكان حجة لشرف الصحبة والإحاطة
باللغة، قال: وهذه اللفظة غريبة لم يجد أهل العربية فيها شعرا ولا أحاطوا بها
خبرا، لكني تتبعت التفث لغة فرأيت أبا عبيدة معمر بن المثنى قال:
__________
(1). راجع ج 20 ص 216.
(2). رثى له النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن مات بمكة. يعنى في الأرض
التي هاجر منها: (راجع ترجمته في كتاب الاستيعاب).
(3). راجع ج 7 ص 308 [.....]
إنه
قص الاظفار واخذ الشارب وكل ما يحرم على المحرم إلا النكاح. قال: ولم يجئ فيه شعر
يحتج به. وقال صاحب العين: التفث هو الرمي والحلق والتقصير والذبح وقص الاظفار
والشارب والإبط. وذكر الزجاج والفراء نحوه، ولا أراه أخذوه إلا من قول العلماء.
وقال قطرب: تفث الرجل إذا كثر وسخه. قال أمية بن أبي الصلت:
حفوا رؤوسهم لم يحلقوا تفثا ... ولم يسلوا لهم قملا وصئبانا
وما أشار إليه قطرب هو الذي قاله ابن وهب عن مالك، وهو الصحيح في التفث. وهذه صورة
إلقاء التفث لغة، وأما حقيقته الشرعية فإذا نحر الحاج أو المعتمر هديه وحلق رأسه
وأزال وسخه وتطهر وتنقى ولبس فقد أزال تفثه ووفى نذره، والنذر ما لزم الإنسان
والتزمه. قلت: ما حكاه عن قطرب وذكر من الشعر قد ذكره في تفسيره الماوردي. وذكر
بيتا آخر فقال:
قضوا تفثا ونحبا «1» ثم ساروا ... إلى نجد وما انتظروا عليا
وقال الثعلبي: واصل التفث في اللغة الوسخ، تقول العرب للرجل تستقذره: ما أتفثك أي
ما أوسخك وأقذرك. قال أمية بن أبى الصلت:
ساخين «2» آباطهم لم يقذفوا تفثا ... وينزعوا عنهم قملا وصئبانا
الماوردي: قيل لبعض الصلحاء: ما المعنى في شعث المحرم؟ قال: ليشهد الله تعالى منك
الاعراض عن العناية بنفسك فيعلم صدقك في بذلها لطاعته. الحادية والعشرون-
(وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ) أمروا بوفاء النذر مطلقا إلا ما كان معصية، لقوله عليه
السلام: (لا وفاء لنذر في معصية الله)، وقوله: (من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن
نذر أن يعصيه فلا يعصه). (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) الطواف
المذكور في هذه الآية هو طواف الإفاضة الذي هو من واجبات الحج. قال الطبري: لا
خلاف بين المتأولين في ذلك.
__________
(1). من معاني النحب: الحاجة والنذر.
(2). ساخين: تاركين.
الثانية والعشرون- للحج ثلاثة أطواف: طواف القدوم، وطواف الإفاضة، وطواف الوداع. قال إسماعيل بن إسحاق: طواف القدوم سنة، وهو ساقط عن المراهق وعن المكي وعن كل من يحرم بالحج من مكة. قال: والطواف الواجب الذي لا يسقط بوجه من الوجوه، وهو طواف الإفاضة الذي يكون بعد عرفة، قال الله تعالى:" ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ". قال: فهذا هو الطواف المفترض في كتاب الله عز وجل، وهو الذي يحل به الحاج من إحرامه كله. قال الحافظ أبو عمر: ما ذكره إسماعيل في طواف الإفاضة هو قول مالك عند أهل المدينة، وهى رواية ابن وهب وابن نافع وأشهب عنه. وهو قول جمهور أهل العلم من فقهاء أهل الحجاز والعراق. وقد روى ابن القاسم وابن عبد الحكم عن مالك أن طواف القدوم واجب. وقال ابن القاسم في غير موضع من المدونة ورواه أيضا عن مالك: الطواف الواجب طواف القادم مكة. وقال: من نسى الطواف في حين دخوله مكة أو نسى شوطا منه، أو نسى السعي أو شوطا منه حتى رجع إلى بلده ثم ذكره، فإن لم يكن أصاب النساء رجع إلى مكة حتى يطوف بالبيت ويركع ويسعى بين الصفا والمروة، ثم يهدى. وإن أصاب النساء رجع فطاف وسعي، ثم اعتمر وأهدى. وهذا كقوله فيمن نسى طواف الإفاضة سواء. فعلى هذه الرواية الطوافان جميعا واجبان، والسعى أيضا. وأما طواف الصدر وهو المسمى بطواف الوداع فروى ابن القاسم وغيره عن مالك فيمن طاف طواف الإفاضة على غير وضوء: أنه يرجع من بلده فيفيض إلا أن يكون تطوع بعد ذلك. وهذا مما أجمع عليه مالك وأصحابه، وأنه يجزيه تطوعه عن الواجب المفترض عليه من طوافه. وكذلك أجمعوا أن من فعل في حجه شيئا تطوع به من عمل الحج، وذلك الشيء واجب في الحج قد جاز وقته، فإن تطوعه ذلك يصير للواجب لا للتطوع بخلاف الصلاة. فإذا كان التطوع ينوب عن الفرض في الحج كان الطواف لدخول مكة أحرى أن ينوب عن طواف الإفاضة، إلا ما كان من الطواف بعد رمى جمرة العقبة يوم النحر أو بعده للوداع. ورواية ابن عبد الحكم عن مالك بخلاف ذلك، لان فيها أن طواف
الدخول
مع السعي ينوب عن طواف الإفاضة لمن رجع إلى بلده مع الهدى، كما ينوب طواف الإفاضة
مع السعي لمن لم يطف ولم يسع حين دخوله مكة مع الهدى أيضا عن طواف القدوم. ومن قال
هذا قال: إنما قيل لطواف الدخول واجب ولطواف الإفاضة واجب لان بعضهما، ينوب عن
بعض، ولأنه قد روى عن مالك أنه يرجع من نسى أحدهما من بلده على ما ذكرنا، ولان
الله عز وجل لم يفترض على الحاج إلا طوافا واحدا بقوله:" وَأَذِّنْ فِي
النَّاسِ بِالْحَجِّ"، وقال في سياق الآية:" وَلْيَطَّوَّفُوا
بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ" والواو عندهم في هذه الآية وغيرها لا توجب رتبة إلا
بتوقيف. وأسند الطبري عن عمرو ابن أبي سلمة قال: سألت زهيرا عن قوله تعالى:"
وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ" فقال: هو طواف الوداع. وهذا يدل
على أنه واجب، وهو أحد قولي الشافعي، لأنه عليه السلام رخص للحائض أن تنفر دون أن
تطوفه، ولا يرخص إلا في الواجب. الثالثة والعشرون- اختلف المتأولون في وجه صفة
البيت بالعتيق، فقال مجاهد والحسن: العتيق القديم. يقال: سيف عتيق، وقد عتق أي
قدم، وهذا قول يعضده النظر. وفي الصحيح (أنه أول مسجد وضع في الأرض). وقيل: عتيقا
لان الله أعتقه من أن يتسلط عليه جبار بالهوان إلى انقضاء الزمان، قال معناه ابن
الزبير ومجاهد. وفى الترمذي عن عبد الله بن الزبير قال قال رسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إنما سمى البيت العتيق لأنه لم يظهر عليه جبار) قال:
هذا حديث حسن صحيح «1»، وقد روى عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مرسلا. فإن ذكر ذاكر الحجاج بن يوسف ونصبه المنجنيق على الكعبة حتى كسرها قيل له:
إنما أعتقها عن كفار الجبابرة، لأنهم إذا أتوا بأنفسهم متمردين ولحرمة البيت غير
معتقدين، وقصدوا الكعبة بالسوء فعصمت منهم ولم تنلها أيديهم، كان ذلك دلالة على أن
الله عز وجل صرفهم عنها قسرا. فأما المسلمون الذين اعتقدوا حرمتها فإنهم إن كفوا
عنها لم يكن في ذلك من الدلالة على منزلتها عند الله مثل ما يكون منها في كف
الاعداء، فقصر الله تعالى هذه الطائفة
عن الكف بالنهي والوعيد، ولم يتجاوزه إلى الصرف بالإلجاء والاضطرار،
__________
(1). في ب وج وط وك: عريب.
ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31)
وجعل
الساعة موعدهم، والساعة أدهى وأمر. وقالت طائفة: سمى عتيقا لأنه لم يملك موضعه قط.
وقالت فرقة: سمى عتيقا لان الله عز وجل يعتق فيه رقاب المذنبين من العذاب. وقيل:
سمى عتيقا لأنه أعتق من غرق الطوفان، قاله ابن جبير. وقيل: العتيق الكريم. والعتق
الكرم. قال طرفة يصف أذن الفرس:
مؤللتان تعرف العتق فيهما ... كسامعتي مذعورة وسط ربرب «1»
وعتق الرقيق: الخروج من ذل الرق إلى كرم الحرية. ويحتمل أن يكون العتيق صفة مدح
تقتضي جودة الشيء، كما قال عمر: حملت على فرس عتيق، الحديث. والقول الأول أصح
للنظر والحديث الصحيح. قال مجاهد: خلق الله البيت قبل الأرض بألفي عام، وسمي عتيقا
لهذا، والله أعلم.
[سورة الحج (22): الآيات 30 الى 31]
ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ
وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا
الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفاءَ لِلَّهِ
غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ
السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ
(31)
فيه ثمان مسائل: الاولى- قوله تعالى:" ذلِكَ" يحتمل أن يكون في موضع رفع
بتقدير: فرضكم ذلك، أو الواجب ذلك. ويحتمل أن يكون في موضع نصب بتقدير: امتثلوا
ذلك، ونحو هذه الإشارة البليغة قول زهير:
هذا وليس كمن يعيا بخطته ... وسط الندى إذا ما قائل نطقا
__________
(1). المؤلل: المحدد. والربرب: القطيع من بقر الوحش، وقيل الظباء. وهذه الرواية في
البيت مخالفة لما في ديوانه ومعلقته. والرواية فيهما:
مؤللتان تعرف العتق فيهما ... كسامعتي شاة بحومل مفرد
ويريد بالشاة هنا الثور الوحشي.
والحرمات
المقصودة هنا هي أفعال الحج المشار إليها في قوله:" ثُمَّ لْيَقْضُوا
تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ"، ويدخل في ذلك تعظيم المواضع، قاله ابن
زيد وغيره. ويجمع ذلك أن تقول: الحرمات امتثال الامر من فرائضه وسننه. وقوله:
(فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ) 30 أي التعظيم خير له عند ربه من التهاون
بشيء منها. وقيل: ذلك التعظيم خير من خيراته ينتفع به، وليست للتفضيل وإنما هي عدة
بخير. الثانية- قوله تعالى: (وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ) 30 أن تأكلوها: وهى
الإبل والبقر والغنم. (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) أي في الكتاب من المحرمات،
وهى الميتة والموقوذة وأخواتها. ولهذا اتصال بأمر الحج، فإن في الحج الذبح، فبين
ما يحل ذبحه واكل لحمه. وقيل:" إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي
الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ" «1» الثالثة- قوله تعالى: (فَاجْتَنِبُوا
الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) 30 الرجس: الشيء القذر. الوثن: التمثال من خشب أو
حديد أو ذهب أو فضة ونحوها، وكانت العرب تنصبها وتعبدها. والنصارى تنصب الصليب
وتعبده وتعظمه فهو كالتمثال أيضا. وقال عدى ابن حاتم: أتيت النبي صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفي عنقي صليب من ذهب فقال: (ألق هذا الوثن عنك) أي الصليب،
وأصله من وثن الشيء أي أقام في مقامه. وسمي الصنم وثنا لأنه ينصب ويركز في مكان
فلا يبرح عنه. يريد اجتنبوا عبادة الأوثان، روى عن ابن عباس وابن جريج. وسماها
رجسا لأنها سبب الرجز وهو العذاب. وقيل: وصفها بالرجس، والرجس النجس فهي نجسة
حكما. وليست النجاسة وصفا ذاتيا للأعيان وإنما هي وصف شرعي من أحكام الايمان، فلا
تزال إلا بالايمان كما لا تجوز الطهارة إلا بالماء. الرابعة- (مَنْ) في قوله:"
مِنَ الْأَوْثانِ 30" قيل: إنها لبيان الجنس، فيقع نهيه عن رجس «2» الأوثان
فقط، ويبقى سائر الأرجاس نهيها في غير هذا الموضع. ويحتمل أن تكون لابتداء الغاية،
فكأنهم نهاهم عن الرجس عاما ثم عين لهم مبدأه الذي منه يلحقهم، إذ عبادة الوثن
جامعة لكل فساد ورجس. ومن قال إن" مَنْ" للتبعيض، قلب معنى الآية
وأفسده.
__________
(1). راجع ج 6 ص 31.
(2). في ك: جنس الأوثان.
الخامسة-
قوله تعالى: (وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) 30 والزور: الباطل والكذب. وسمي زورا
لأنه أميل عن الحق، ومنه" تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ" «1»، [الكهف: 17]،
ومدينة زوراء، أي مائلة. وكل ما عدا الحق فهو كذب وباطل وزور. وفي الخبر أنه عليه
السلام قام خطيبا فقال: (عدلت شهادة الزور الشرك بالله) قالها مرتين أو ثلاثا.
يعنى أنها قد جمعت مع عبادة الوثن في النهى عنها. السادسة- هذه الآية تضمنت الوعيد
على الشهادة بالزور، وينبغي للحاكم إذا عثر على الشاهد بالزور أن يعززه وينادى
عليه ليعرف لئلا يغتر بشهادته أحد. ويختلف الحكم في شهادته إذا تاب، فإن كان من
أهل العدالة المشهور بها المبرز فيها لم تقبل، لأنه لا سبيل إلى علم حاله في
التوبة، إذ لا يستطيع أن يفعل من القربات أكثر مما هو عليه. وإن كان دون ذلك فشمر
في العبادة وزادت حاله في التقى قبلت شهادته. وفي الصحيح عن النبي صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: (إن أكبر الكبائر الاشراك بالله وعقوق الوالدين
وشهادة الزور وقول الزور). وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
متكئا فجلس فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت. السابعة- (حُنَفاءَ لِلَّهِ) معناه
مستقيمين أو مسلمين مائلين إلى الحق. ولفظة" حُنَفاءَ" من الأضداد تقع
على الاستقامة وتقع على الميل. و" حُنَفاءَ" نصب على الحال. وقيل:"
حُنَفاءَ" حجاجا، وهذا تخصيص لا حجة معه. الثامنة- قوله تعالى: (وَمَنْ
يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ) أي هو يوم القيامة بمنزلة
من لا يملك لنفسه نفعا ولا يدفع عن نفسه ضرا ولا عذابا، فهو بمنزلة من خر من
السماء، فهو لا يقدر أن يدفع عن نفسه. ومعنى، (فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ) أي تقطعه
بمخالبها. وقيل: هذا عند خروج روحه وصعود الملائكة بها إلى سماء الدنيا، فلا يفتح
لها فيرمى بها إلى الأرض، كما في حديث البراء، وقد ذكرناه في التذكرة. والسحيق:
البعيد، ومنه قوله تعالى:" فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ" «2»
[الملك: 11]، وقوله عليه الصلاة والسلام: (فسحقا فسحقا).
__________
(1). راجع ج 10 ص 368.
(2). راجع ج 18 ص 212.
ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33)
[سورة
الحج (22): الآيات 32 الى 33]
ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32)
لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ
الْعَتِيقِ (33)
فيه سبع مسائل: الاولى- قوله تعالى: (ذلِكَ) فيه ثلاثة أوجه. قيل: يكون في موضع
رفع بالابتداء، أي ذلك أمر الله. ويجوز أن يكون في موضع رفع على خبر ابتداء محذوف.
ويجوز أن يكون في موضع نصب، أي اتبعوا ذلك. الثانية- قوله تعالى: (وَمَنْ
يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ) الشعائر جمع شعيرة، وهو كل شي لله تعالى فيه أمر أشعر
به وأعلم، ومنه شعار القوم في الحرب، أي علامتهم التي يتعارفون بها. ومنه إشعار
البدنة وهو الطعن في جانبها الأيمن حتى يسيل الدم فيكون علامة، فهي تسمى شعيرة
بمعنى المشعورة. فشعائر الله أعلام دينه لا سيما ما يتعلق بالمناسك. وقال قوم:
المراد هنا تسمين البدن والاهتمام بأمرها والمغالاة بها، قاله ابن عباس ومجاهد
وجماعة. وفية إشارة لطيفة، وذلك أن أصل شراء البدن ربما يحمل على فعل ما لا بد
منه، فلا يدل على الإخلاص فإذا عظمها مع حصول الاجزاء بما دونه فلا يظهر له عمل
إلا تعظيم الشرع، وهو من تقوى القلوب. والله أعلم. الثالثة- الضمير في"
إنها" عائد على الفعلة التي يتضمنها الكلام: ولو قال فإنه لجاز. وقيل: إنها
راجعة إلى الشعائر، أي فإن تعظيم الشعائر، فحذف المضاف لدلالة الكلام عليه، فرجعت
الكناية إلى الشعائر. الرابعة- قوله تعالى:" فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ"
قرئ" الْقُلُوبِ" بالرفع على أنها فاعلة بالمصدر الذي هو"
تَقْوَى" وأضاف التقوى إلى القلوب «1» لان حقيقة التقوى في القلب، ولهذا قال
عليه الصلاة والسلام في صحيح الحديث: (التقوى هاهنا) وأشار إلى صدره. الخامسة-
قوله تعالى: (لَكُمْ فِيها مَنافِعُ) يعني البدن من الركوب والدر والنسل والصوف
وغير ذلك، إذا لم يبعثها ربها هديا، فإذا بعثها فهو الأجل المسمى، قاله ابن عباس.
__________
(1). في الأصول:" وأضاف إلى القلب".
فإذا صارت بدنا هديا فالمنافع فيها أيضا ركوبها عند الحاجة، وشرب لبنها بعد ري فصيلها. وفي الصحيح عن أبى هريرة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى رجلا يسوق بدنة فقال: (اركبها) فقال: إنها بدنة. فقال: (اركبها) قال: إنها بدنة. قال: (اركبها ويلك) في الثانية أو الثالثة. وروى عن جابر بن عبد الله وسيل عن ركوب الهدى فقال: سمعت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: (اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها حتى تجد ظهرا). والأجل المسمى على هذا القول نحرها، قاله عطاء بن أبى رباح. السادسة- ذهب بعض العلماء إلى وجوب ركوب البدنة لقوله عليه الصلاة والسلام: (اركبها). وممن أخذ بظاهره أحمد وإسحاق واهل الظاهر. وروى ابن نافع عن مالك: لا بأس بركوب البدنة ركوبا غير فادح. والمشهور أنه لا يركبها إلا إن اضطر إليها لحديث جابر فإنه مقيد والمقيد يقضى على المطلق. وبنحو ذلك قال الشافعي وأبو حنيفة. ثم إذا ركبها عنده الحاجة نزل، قاله إسماعيل القاضي. وهو الذي يدل عليه مذهب مالك، وهو خلاف ما ذكره ابن القاسم أنه لا يلزمه النزول، وحجته إباحة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ له الركوب فجاز له استصحابه. وقوله: (إذا ألجئت إليها حتى تجد ظهرا) يدل على صحة ما قاله الامام الشافعي وأبو حنيفة رضى الله عنهما، وما حكاه إسماعيل عن مذهب مالك. وقد جاء صريحا أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى رجلا يسوق بدنة وقد جهد، فقال: (اركبها). وقال أبو حنيفة والشافعي: إن نقصها الركوب المباح فعليه قيمة ذلك ويتصدق به. السابعة- قوله تعالى: (ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) يريد أنها تنتهي إلى البيت، وهو الطواف. فقوله:" مَحِلُّها" مأخوذ من إحلال المحرم. والمعنى أن شعائر الحج كلها من الوقوف بعرفة ورمى الجمار والسعى ينتهى إلى طواف الإفاضة بالبيت العتيق. فالبيت على هذا التأويل مراد بنفسه، قاله مالك في الموطأ. وقال عطاء: ينتهى إلى مكة. وقال الشافعي: إلى الحرم. وهذا بناء على أن الشعائر هي البدن، ولا وجه لتخصيص الشعائر مع عمومها وإلغاء خصوصية ذكر البيت. والله أعلم.
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34)
[سورة
الحج (22): آية 34]
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلى ما
رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ
أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34)
قوله تعالى: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً) لما ذكر تعالى الذبائح بين
أنه لم يخل منها أمة، والامة القوم المجتمعون على مذهب واحد، أي ولكل جماعة مؤمنة
جعلنا منسكا. والمنسك الذبح وإراقة الدم، قاله مجاهد. يقال: نسك إذا ذبح ينسك
نسكا. والذبيحة نسيكة، وجمعها نسك، ومنه قوله تعالى:" أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ
نُسُكٍ"»
[البقرة: 196]. والنسك أيضا الطاعة. وقال الأزهري في قوله تعالى:" وَلِكُلِّ
أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً": إنه يدل على موضع النحر في هذا الموضع، أراد
مكان نسك. ويقال: منسك ومنسك، لغتان، وقرى بهما. قرأ الكوفيون إلا عاصما بكسر
السين، الباقون بفتحها. وقال الفراء: المنسك في كلام العرب الموضع المعتاد في خير
أو شر. وقيل مناسك الحج لترداد الناس إليها من الوقوف بعرفة ورمى الجمار والسعى.
وقال ابن عرفة في قوله:" وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً": أي مذهبا
من طاعة الله تعالى، يقال: نسك نسك «2» قومه إذا سلك مذهبهم. وقيل: منسكا عيدا،
قاله الفراء. وقيل: حجا، قاله قتادة. والقول الأول أظهر، لقوله تعالى:
(لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) أي
على ذبح ما رزقهم. فأمر تعالى عند الذبح بذكره وأن يكون الذبح له، لأنه رازق ذلك.
ثم رجع اللفظ من الخبر عن الأمم إلى إخبار الحاضرين بما معناه فالإله واحد
لجميعكم، فكذلك الامر في الذبيحة إنما ينبغي أن تخلص له. فوله تعالى: (فَلَهُ
أَسْلِمُوا) معناه لحقه ولوجهه وإنعامه آمنوا وأسلموا. ويحتمل أن يريد الاستسلام،
أي له أطيعوا وانقادوا. قوله تعالى: (وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ) المخبت: المتواضع
الخاشع من المؤمنين. والخبت ما انخفض من الأرض، أي بشرهم بالثواب الجزيل. قال عمرو
بن أوس: المخبتون الذين لا يظلمون، وإذا ظلموا لم ينتصروا «3». وقال مجاهد فيما
روى عنه سفيان عن ابن أبى نجيح: المخبتون المطمئنون بأمر الله عز وجل.
__________
(1). راجع ج 2 ص 365 فما بعد.
(2). مثلثة النون، وبضمتين.
(3). الانتصار: الانتقام.
الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (35)
[سورة
الحج (22): آية 35]
الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما
أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (35)
فيه مسألتان: الاولى: قوله تعالى: (وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) أي خافت وحذرت مخالفته.
فوصفهم بالخوف والوجل عند ذكره، وذلك لقوة يقينهم ومراعاتهم لربهم، وكأنهم بين
يديه، ووصفهم بالصبر وإقامة الصلاة وإدامتها. وروى أن هذه الآية قوله:"
وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ" نزلت في أبى بكر وعمر وعلى رضوان الله عليهم. وقرا
الجمهور:" الصَّلاةِ" بالخفض على الإضافة، وقرا أبو عمرو:"
الصلاة" بالنصب على توهم النون، وأن حذفها للتخفيف لطول الاسم. وأنشد سيبويه:
الحافظو عورة العشيرة «1» ...
الثانية- هذه الآية نظير قوله تعالى:" إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ
إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ
زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ" «2» [الأنفال: 2]،
وقوله تعالى:" اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً
مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ
تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ" «3» [الزمر: 23].
هذه حالة العارفين بالله، الخائفين من سطوته وعقوبته، لا كما يفعله جهال العوام
والمبتدعة الطغام من الزعيق والزئير، ومن النهاق الذي يشبه نهاق الحمير، فيقال لمن
تعاطى ذلك وزعم أن ذلك وجد وخشوع: إنك لم تبلغ أن تساوى حال رسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا حال أصحابه في المعرفة بالله تعالى والخوف منه
والتعظيم لجلاله، ومع ذلك فكانت حالهم عند المواعظ الفهم عن الله والبكاء خوفا من
الله. وكذلك وصف الله تعالى أحوال أهل المعرفة عند سماع ذكره وتلاوة كتابه، ومن لم
يكن كذلك فليس على هديهم ولا على طريقتهم، قال الله تعالى:
__________
(1). البيت بتمامه:
الحافظو عورة العشيرة لا ... يأتيهم من ورا انا نطف
(2). راجع ج 7 ص 365. [.....]
(3). راجع ج 15 ص 248.
وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36)
"
وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ
الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا
مَعَ الشَّاهِدِينَ «1»" [المائدة: 83]. فهذا وصف حالهم وحكاية مقالهم، فمن
كان مستنا فليستن، ومن تعاطى أحوال المجانين والجنون فهو من أخسهم حالا، والجنون
فنون. روى الصحيح عن أنس بن مالك أن الناس سألوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ حتى أحفوه «2» في المسألة، فخرج ذات يوم فصعد المنبر فقال: (سلوني لا
تسألوني عن شي إلا بينته لكم ما دمت في مقامي هذا) فلما سمع ذلك القوم ارموا «3»
ورهبوا أن يكون بين [يدي «4»] أمر قد حضر. قال أنس: فجعلت ألتفت يمينا وشمالا فإذا
كل إنسان لأف رأسه في ثوبه يبكى. وذكر الحديث. وقد مضى القول في هذه المسألة بأشبع
من هذا في سورة" الأنفال" «5» والحمد لله.
[سورة الحج (22): آية 36]
وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ
فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا
مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ
لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36)
فيه عشر مسائل: الاولى- قوله تعالى: (وَالْبُدْنَ) وقرا ابن أبى إسحاق:"
وَالْبُدْنَ" لغتان، واحدتها بدنة. كما يقال: ثمرة وثمر وثمر، وخشبة وخشب
وخشب. وفى التنزيل:" وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ" «6» وقرى:" ثمر"
لغتان. وسميت بدنة لأنها تبدن، والبدانة السمن. وقيل: إن هذا الاسم خاص بالإبل. وقيل:
البدن جمع" بدن" بفتح الباء والدال. ويقال: بدن الرجل (بضم الدال) إذا
سمن. وبدن (بتشديدها) إذا كبر وأسن. وفى الحديث (إنى قد بدنت) أي كبرت وأسننت.
وروى (بدنت) وليس له معنى، لأنه خلاف صفته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
ومعناه كثرة اللحم. يقال: بدن الرجل يبدن بدنا وبدانة فهو بادن، أي ضخم.
__________
(1). راجع ج 6 ص 258.
(2). أي أكثروا عليه. وأحفى في السؤال وألحف بمعنى ألح.
(3). أرم الرجل: سكت، فهو مرم.
(4). الزيادة عن صحيح مسلم.
(5). راجع ج 7 ص 366.
(6). راجع ج 10 ص 298
الثانية- اختلف العلماء في البدن هل تطلق على غير الإبل من البقر أم لا، فقال ابن مسعود وعطاء والشافعي: لا. وقال مالك وأبو حنيفة: نعم. وفائدة الخلاف فيمن نذر بدنة فلم يجد البدنة أو لم يقدر عليها وقدر على البقرة، فهل تجزيه أم لا، فعلى مذهب الشافعي وعطاء لا تجزيه. وعلى مذهب مالك تجزيه. والصحيح ما ذهب إليه الشافعي وعطاء، لقوله عليه السلام في الحديث الصحيح في يوم الجمعة: (من راح في الساعة الاولى فكأنما قرب بدنة ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة) الحديث. فتفريقه عليه السلام بين البقرة والبدنة يدل على أن البقرة لا يقال عليها بدنة، والله أعلم. وأيضا قوله تعالى:" فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها" يدل على ذلك، فإن الوصف خاص بالإبل. والبقر يضجع ويذبح كالغنم، على ما يأتي. ودليلنا أن البدنة مأخوذة من البدانة وهو الضخامة، والضخامة توجد فيهما جميعا. وأيضا فإن البقرة في التقرب إلى الله تعالى بإراقة الدم بمنزلة الإبل، حتى تجوز البقرة في الضحايا على سبعة كالإبل. وهذا حجة لابي حنيفة حيث وافقه الشافعي على ذلك، وليس ذلك في مذهبنا. وحكى ابن شجرة أنه يقال في الغنم بدنة، وهو قول شاذ. والبدن هي الإبل التي تهدى إلى الكعبة. والهدى عام في الإبل والبقر والغنم. الثالثة- قوله تعالى: (مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ) نص في أنها بعض الشعائر. وقوله: (لَكُمْ فِيها خَيْرٌ) يريد به المنافع التي تقدم ذكرها. والصواب عمومه في خير الدنيا والآخرة. الرابعة- قوله تعالى: (فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ) أي انحروها على اسم الله. و" صَوافَّ" أي قد صفت قوائمها. والإبل تنحر قياما معقولة. واصل هذا الوصف في الخيل، يقال: صفن الفرس فهو صافن إذا قام على ثلاث قوائم وثني سنبك الرابعة، والسنبك طرف الحافر. والبعير إذا أرادوا نحره تعقل إحدى يديه فيقوم على ثلاث قوائم. وقرا الحسن والأعرج ومجاهد وزيد بن أسلم وأبو موسى الأشعري:" صوافي" أي خوالص لله عز وجل لا يشركون به في التسمية على نحرها أحدا. وعن الحسن أيضا" صواف" بكسر الفاء وتنوينها مخففة، وهى بمعنى التي قبلها، لكن حذفت الياء تخفيفا على غير قياس.
و"
صَوافَّ" قراءة الجمهور بفتح الفاء وشدها، من صف يصف. وواحد صواف صافة، وواحد
صوافي صافية. وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وأبو جعفر محمد بن على"
صوافن" بالنون جمع صافنة. ولا يكون واحدها صافنا، لان فاعلا «1» لا يجمع على
فواعل إلا في حروف مختصة لا يقاس عليها، وهى فارس وفوارس، وهالك وهوالك، وخالف
وخوالف «2». والصافنة هي التي قد رفعت إحدى يديها بالعقل لئلا تضطرب. ومنه قوله
تعالى:" الصَّافِناتُ الْجِيادُ «3»" [ص: 31]. وقال عمرو بن كلثوم:
تركنا الخيل عاكفة عليه ... مقلدة أعنتها صفونا
ويروى:
تظل جياده نوحا عليه ... مقلدة أعنتها صفونا
وقال آخر:
ألف الصفون فما يزال كأنه ... مما يقوم على الثلاث كسيرا
وقال أبو عمرو الجرمي: الصافن عرق في مقدم الرجل، فإذا ضرب على الفرس رفع رجله.
وقال الأعشى:
وكل كميت كجذع السحو ... ق يرنو القناء إذا ما صفن
الخامسة- قال ابن وهب: أخبرني ابن أبى ذئب أنه سأل ابن شهاب عن الصواف فقال:
تقيدها ثم تصفها. وقال لي مالك بن أنس مثله. وكان العلماء على استحباب ذلك، إلا
أبا حنيفة والثوري فإنهما أجازا أن تنحر باركة وقياما. وشذ عطاء فخالف واستحب
نحرها باركة. والصحيح ما عليه الجمهور، لقوله تعالى:" فَإِذا وَجَبَتْ
جُنُوبُها" معناه سقطت بعد نحرها، ومنه وجبت الشمس. وفى صحيح مسلم عن زياد بن
جبير أن ابن عمر أتى على رجل وهو ينحر بدنته باركة فقال: ابعثها قائمة مقيدة سنة
نبيكم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وروى أبو داود عن أبى الزبير عن جابر،
وأخبرني عبد الرحمن بن سابط أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه
كانوا ينحرون البدنة معقولة اليسرى قائمة على ما بقي من قوائمها.
__________
(1)." فاعل" الذي لا يجمع على" فواعل" إذا كان وصفا لمذكر
عاقل، أما" صافن" فليس وصفا لعاقل.
(2). في شرح الأشموني على ألفية ابن مالك أنها فارس وناكس وهالك وغائب وشاهد.
(3). راجع ج 15 ص 192.
السادسة-
قال مالك: فإن ضعف إنسان أو تخوف أن تنفلت بدنته فلا أرى بأسا أن ينحرها معقولة.
والاختيار أن تنحر الإبل قائمة غير معقولة، إلا أن يتعذر ذلك فتعقل ولا تعرقب إلا
أن يخاف أن يضعف عنها ولا يقوى عليها. ونحرها باركة أفضل من أن تعرقب. وكان ابن
عمر يأخذ الحربة بيده في عنفوان أيده فينحرها في صدرها ويخرجها على سنامها، فلما
أسن كان ينحرها باركة لضعفه، ويمسك معه الحربة رجل آخر، وآخر بخطامها. وتضجع البقر
والغنم. السابعة- ولا يجوز النحر قبل الفجر من يوم النحر بإجماع. وكذلك الأضحية لا
تجوز قبل الفجر. فإذا طلع الفجر حل النحر بمنى، وليس عليهم انتظار نحر إمامهم،
بخلاف الأضحية في سائر البلاد. والمنحر منى لكل حاج، ومكة لكل معتمر. ولو نحر
الحاج بمكة والمعتمر بمنى لم يحرج واحد منهما، إن شاء الله تعالى. الثامنة- قوله
تعالى: (فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها) يقال: وجبت الشمس إذا سقطت، ووجب الحائط إذا
سقط. قال قيس بن الخطيم:
أطاعت بنو عوف أميرا نهاهم ... عن السلم حتى كان أول واجب
وقال أوس بن حجر:
ألم تكسف الشمس والبدر وال ... كواكب للجبل الواجب «1»
فقوله تعالى:" فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها" يريد إذا سقطت على جنوبها
ميتة. كنى عن الموت بالسقوط على الجنب كما كنى عن النحر والذبح بقوله تعالى:"
فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها". والكنايات في أكثر المواضع أبلغ من
التصريح. قال الشاعر:
فتركته جزر السباع ينشنه ... ما بين قلة رأسه والمعصم «2»
__________
(1). هذه رواية البيت كما في ديوانه. وروايته في الأصول:
ألم تكسف الشمس ضوء النهار ... والبدر للجبل الواجب
ويريد بالجبل: فضالة بن كلدة. وهو من قصيدة يرثيه بها، وفيها:
لهلك فضالة لا تستوي ال ... فقود ولا خلة الذاهب
(2). البيت من معلقة عترة. والجزر: جمع جزرة، وهي الشاة والناقة تذبح وتنحر.
وقال
عنترة:
وضربت قرني كبشها فتجدلا «1»
أي سقط مقتولا إلى الجدالة، وهى الأرض، ومثله كثير. والوجوب للجنب بعد النحر علامة
نزف الدم وخروج الروح منها، وهو وقت الأكل، أي وقت قرب الأكل، لأنها إنما تبتدأ
بالسلخ وقطع شي من الذبيحة ثم يطبخ. ولا تسلخ حتى تبرد لان ذلك من باب التعذيب،
ولهذا قال عمر رضى الله عنه: لا تعجلوا الأنفس أن تزهق. التاسعة- قوله تعالى:
(فَكُلُوا مِنْها) أمر معناه الندب. وكل العلماء يستحب أن يأكل الإنسان من هدية،
وفية أجر وامتثال، إذا كان أهل الجاهلية لا يأكلون من هديهم كما تقدم. وقال أبو
العباس بن شريح: الأكل والإطعام مستحبان، وله الاقتصار على أيهما شاء. وقال
الشافعي: الأكل مستحب والإطعام واجب، فإن أطعم جميعها أجزأه وإن أكل جميعها لم
يجزه، وهذا فيما كان تطوعا، فأما واجبات الدماء فلا يجوز أن يأكل منها شيئا حسبما
تقدم بيانه. العاشرة- قوله تعالى: (وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ) قال
مجاهد وإبراهيم والطبري: قوله:" وَأَطْعِمُوا" أمر إباحة. و"
الْقانِعَ" السائل. يقال: قنع الرجل يقنع قنوعا إذا سأل، بفتح النون في
الماضي وكسرها في المستقبل «2»، يقنع قناعة فهو قنع، إذا تعفف واستغنى ببلغته ولم
يسأل، مثل حمد يحمد- قناعة وقنعا وقنعانا، قاله الخليل. ومن الأول قول الشماخ:
لمال المرء يصلحه فيغنى ... مفاقره أعف من القنوع
وقال ابن السكيت: من العرب من ذكر القنوع بمعنى القناعة، وهي الرضا والتعفف وترك
المسألة. وروى عن أبى رجاء أنه قرأ" وأطعموا القنع" ومعنى هذا مخالف
للأول.
__________
(1). هذا صدر بيت، وعجزه كما في ديوانه:
وحملت مهري وسطها فمضاها
(2). هذه اللغة لم تجدها في المعاجم، على أن في العبارة ها هنا اضطرابا. والذي في
كتب اللغة أنه يقال: قنع الرجل يقنع (بفتح النون فيهما) قنوعا إذا سأل. وقنع يقنع
(بكسر النون في الماضي وفتحها في المستقيل) قناعة وقنعا وقنعانا- كما ذكر المؤلف-
إذا رضى. راجع معاجم اللغة. [.....]
لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37)
يقال:
قنع الرجل فهو قنع إذا رضى. وأما المعتر فهو الذي يطيف بك يطلب ما عندك، سائلا كان
أو ساكتا. وقال محمد بن كعب القرظي ومجاهد وإبراهيم والكلبي والحسن ابن أبى الحسن:
المعتر المعترض من غير سؤال. قال زهير:
على مكثريهم رزق من يعتريهم ... وعند المقلين السماحة والبذل
وقال مالك: أحسن ما سمعت أن القانع الفقير، والمعتر الزائر. وروى عن الحسن أنه
قرأ:" والمعترى" ومعناه كمعنى المعتر. يقال: اعتره واعتراه وعره وعراه
إذا تعرض لما عنده أو طلبه، ذكره النحاس.
[سورة الحج (22): آية 37]
لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ
كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَبَشِّرِ
الْمُحْسِنِينَ (37)
فيه خمس مسائل: الاولى- قوله تعالى: (لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها) قال ابن
عباس: كان أهل الجاهلية يضرجون البيت بدماء البدن، فأراد المسلمون أن يفعلوا ذلك
فنزلت الآية. والنيل لا يتعلق بالبارئ تعالى، ولكنه عبر عنه تعبيرا مجازيا عن
القبول، المعنى: لن يصل إليه. وقال ابن عباس: لن يصعد إليه. ابن عيسى: لن يقبل
لحومها ولا دماءها، ولكن يصل إليه التقوى منكم، أي ما أريد به وجهه، فذلك الذي
يقبله ويرفع إليه ويسمعه ويثيب عليه، ومنه الحديث (إنما الأعمال بالنيات).
والقراءة" لَنْ يَنالَ اللَّهَ" و" يَنالُهُ" بالياء فيهما.
وعن يعقوب بالتاء فيهما، نظرا إلى اللحوم. الثانية- قوله تعاب: (كَذلِكَ سَخَّرَها
لَكُمْ) من سبحانه علينا بتذليلها وتمكيننا من تصريفها وهى أعظم منا أبدانا وأقوى
منا أعضاء، ذلك ليعلم العبد أن الأمور ليست على ما يظهر إلى العبد من التدبير،
وإنما هي بحسب ما يريدها «1» العزيز القدير، فيغلب الصغير الكبير ليعلم الخلق أن
الغالب هو الله الواحد القهار فوق عباده.
__________
(1). في ك: يدبرها. (12- 5)
الثالثة-
قوله تعالى: (لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ) ذكر سبحانه ذكر اسمه عليها
من الآية قبلها فقال عز من قائل:" فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها"
وذكر هنا التكبير. وكان ابن عمر رضى الله عنهما يجمع بينهما إذا نحر هديه فيقول:
بسم الله والله أكبر، وهذا من فقهه رضى الله عنه. وفى الصحيح عن أنس قال: ضحى رسول
الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بكبشين أملحين «1» أقرنين. قال: ورأيته
يذبحهما بيده، ورأيته واضعا قدمه على صفاحهما «2»، وسمي وكبر. وقد اختلف العلماء
في هذا، فقال أبو ثور: التسمية متعينة كالتكبير في الصلاة، وكافه العلماء على
استحباب ذلك. فلو قال ذكرا آخر فيه اسم من أسماء الله تعالى وأراد به التسمية جاز.
وكذلك لو قال: الله أكبر فقط، أولا إله إلا الله، قاله ابن حبيب. فلو لم يرد
التسمية لم يجز عن التسمية ولا تؤكل؟ قاله الشافعي ومحمد بن الحسن. وكره كافة
العلماء من أصحابنا وغيرهم الصلاة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عند التسمية في الذبح أو ذكره، وقالوا: لا يذكر هنا إلا الله وحده. وأجاز الشافعي
الصلاة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند الذبح. الرابعة- ذهب
الجمهور إلى أن قول المضحي: اللهم تقبل منى، جائز. وكره ذلك أبو حنيفة، والحجة
عليه ما رواه الصحيح عن عائشة رضى الله عنها، وفية: ثم قال (باسم الله اللهم تقبل
من محمد وآل محمد ومن أمة محمد) ثم ضحى به. واستحب بعضهم أن يقول ذلك بنص الآية"
رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ «3»"
[البقرة: 127]. وكره مالك قولهم: اللهم منك وإليك، وقال: هذه بدعة. وأجاز ذلك ابن
حبيب من أصحابنا والحسن، والحجة لهما ما رواه أبو داود عن جابر بن عبد الله قال:
ذبح النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم الذبح كبشين أقرنين موجوءين «4»
أملحين، فلما وجههما قال: (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ
وَالْأَرْضَ حَنِيفاً- وقرا إلى قوله: وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ «5»- اللهم
منك ولك «6» عن محمد وأمته باسم الله والله أكبر) ثم ذبح. فلعل مالكا لم يبلغه هذا
الخبر، أو لم يصح عنده، أو رأى العمل يخالفه. وعلى هذا يدل قوله: إنه بدعة. والله
أعلم.
__________
(1). الأملح: الذي بياضه أكثر من سواده. وقيل: النفي البياض.
(2). الصفاح (بكسر الصاد) الجوانب، المراد الجانب الواحد من وجه الأضحية، وإنما
ثنى إشارة إلى أنه فعل ذلك في كل منهما.
(3). راجع ج 2 ص 120.
(4). أي خصيين.
(5). كذا في كل الأصول. راجع ج 7 ص 28 وص 152.
(6). في الأصول: وإليك.
إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38)
الخامسة-
قوله تعالى: (وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ) روى أنها نزلت في الخلفاء الاربعة، حسبما
تقدم في الآية التي قبلها. فأما ظاهر اللفظ فيقتضي العموم في كل محسن.
[سورة الحج (22): آية 38]
إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ
كَفُورٍ (38)
روى أنها نزلت بسبب المؤمنين لما كثروا بمكة وآذاهم الكفار وهاجر من هاجر إلى أرض
الحبشة، أراد بعض مؤمنى مكة أن يقتل من أمكنه من الكفار ويغتال ويغدر ويحتال،
فنزلت هذه الآية إلى قوله:" كَفُورٍ". فوعد فيها سبحانه بالمدافعة ونهى
أفصح نهى عن الخيانة والغدر. وقد مضى في" الأنفال" «1» التشديد في
الغدر، وأنه (ينصب للغادر لواء عند استه بقدر غدرته يقال هذه غدرة فلان) «2».
وقيل: المعنى يدفع عن المؤمنين بأن يديم توفيقهم حتى يتمكن الايمان من قلوبهم، فلا
تقدر الكفار على إمالتهم عن دينهم، وإن جرى إكراه فيعصمهم حتى لا يرتدوا بقلوبهم.
وقيل: يدفع عن المؤمنين بإعلائهم بالحجة. ثم قتل كافر مؤمنا نادر، وإن فيدفع الله
عن ذلك المؤمن بأن قبضه إلى رحمته. وقرا نافع" يُدافِعُ"" ولولا
دفاع". وقرا أبو عمرو وابن كثير" يدفع"" وَلَوْ لا
دَفْعُ". وقرا عاصم وحمزة والكسائي" يُدافِعُ"" وَلَوْ لا
دَفْعُ اللَّهِ". ويدافع بمعنى يدفع، مثل عاقبت اللص، وعافاه الله، والمصدر
دفعا. حكى الزهراوي أن" دفاعا" مصدر دفع، كحسب حسابا.
[سورة الحج (22): آية 39]
أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى
نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39)
فيه مسألتان: الاولى- قوله تعالى:" أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ" قيل:
هذا بيان قوله:" إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا" أي
يدفع عنهم غوائل الكفار بأن يبيح لهم القتال وينصرهم، وفية إضمار، أي
__________
(1). راجع ج 8 ص 33.
(2). في ك:" فلان بن فلان".
الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)
أذن
للذين يصلحون للقتال في القتال، فحذف لدلالة الكلام على المحذوف. وقال الضحاك:
استأذن أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قتال الكفار إذ
آذوهم بمكة، فأنزل الله" إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ
كَفُورٍ" فلما هاجر نزلت" أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ
ظُلِمُوا". وهذا ناسخ لكل ما في القرآن من إعراض وترك صفح «1». وهى أول آية
نزلت في القتال «2». قال ابن عباس وابن جبير: نزلت عند هجرة رسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى المدينة. وروى النسائي والترمذي عن ابن عباس قال:
لما أخرج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من مكة قال أبو بكر: أخرجوا
نبيهم ليهلكن، فأنزل الله تعالى" أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ
ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ" فقال أبو بكر: لقد علمت
أنه سيكون قتال. فقال: هذا حديث حسن. وقد روى غير واحد عن سفيان عن الأعمش عن مسلم
البطين عن سعيد بن جبير مرسلا، وليس فيه: عن ابن عباس. الثانية- في هذه الآية دليل
على أن الإباحة من الشرع، خلافا للمعتزلة، لان قوله:" أُذِنَ" معناه
أبيح، وهو لفظ موضوع في اللغة لاباحة كل ممنوع. وقد تقدم هذا المعنى في"
البقرة" وغير موضع. وقرى" أذن" بفتح الهمزة، أي أذن الله."
يقاتلون" بكسر التاء أي يقاتلون عدوهم. وقرى" يُقاتَلُونَ" بفتح
التاء، أي يقاتلهم المشركون وهم المؤمنون. ولهذا قال:" بِأَنَّهُمْ
ظُلِمُوا" أي أخرجوا من ديارهم.
[سورة الحج (22): آية 40]
الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا
رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْ لا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ
لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ
اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ
لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)
__________
(1). في ك، وصفح.
(2). يلاحظ أن الذي تقدم في الجزء الثاني ص 347 عند قوله تعالى:" وَقاتِلُوا
فِي سَبِيلِ اللَّهِ ... 190" خلاف ما هنا.
فيه
ثمان مسائل: الاولى- قوله تعالى: (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) 40 هذا
أحد ما ظلموا به، وإنما أخرجوا لقولهم: ربنا الله وحده. فقوله:" إِلَّا أَنْ
يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ 40" استثناء منقطع، أي لكن لقولهم ربنا الله،
قاله سيبويه. وقال الفراء يجوز أن تكون في موضع خفض، يقدرها مردودة على الباء، وهو
قول أبى إسحاق الزجاج، والمعنى عنده: الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا بأن
يقولوا ربنا الله، أي أخرجوا بتوحيدهم، أخرجهم أهل الأوثان. و" الَّذِينَ
أُخْرِجُوا 40" في موضع خفض بدلا من قوله:" لِلَّذِينَ
يُقاتَلُونَ". الثانية- قال ابن العربي: قال علماؤنا كان رسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل بيعة العقبة لم يؤذن له في الحرب ولم تحل له
الدماء، إنما يؤمر بالدعاء إلى الله والصبر على الأذى والصفح عن الجاهل مدة عشرة
أعوام، لإقامة حجة الله تعالى عليهم، ووفاء بوعده الذي امتن به بفضله في
قوله:" وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا" «1»
[الاسراء: 15]. فاستمر الناس في الطغيان وما استدلوا بواضح البرهان، وكانت قريش قد
اضطهدت من اتبعه من قومه من المهاجرين حتى فتنوهم عن دينهم ونفوهم عن بلادهم،
فمنهم من فر إلى أرض الحبشة: ومنهم من خرج إلى المدينة، ومنهم من صبر على الأذى.
فلما عتت قريش على الله تعالى وردوا أمره وكذبوا نبيه عليه السلام، وعذبوا من آمن
به ووحده وعبده، وصدق نبيه عليه السلام واعتصم بدينه، أذن «2» الله لرسوله في
القتال والامتناع والانتصار ممن ظلمهم، وأنزل" أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ
بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا"- إلى قوله-" الْأُمُورِ". الثالثة- في هذه
الآية دليل على أن نسبة الفعل الموجود من الملجأ المكره إلى الذي ألجأه وأكرهه،
لان الله تعالى نسب الإخراج إلى الكفار، لان الكلام في معنى تقدير الذنب وإلزامه.
وهذه الآية مثل قوله تعالى:" إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا 40"
[التوبة: 40] والكلام فيهما واحد، وقد تقدم في" براءة"»
والحمد لله.
__________
(1). راجع ج 10 ص 231.
(2). هذا دليل قاطع بأن الجهاد شرع لحماية الدعوة.
(3). راجع ج 8 ص 143. [.....]
الرابعة-
قوله تعالى «1»: (وَلَوْ لا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) أي لولا
ما شرعه الله تعالى للأنبياء والمؤمنين من قتال الاعداء، لاستولى أهل الشرك وعطلوا
ما بينته «2» أرباب الديانات من مواضع العبادات، ولكنه دفع بأن أوجب القتال ليتفرغ
أهل الدين للعبادة. فالجهاد أمر متقدم في الأمم، وبه صلحت الشرائع واجتمعت
المتعبدات، فكأنه قال: أذن في القتال، فليقاتل المؤمنون. ثم قوى هذا الامر في
القتال بقوله:" وَلَوْ لا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ" الآية، أي لولا
القتال والجهاد لتغلب على الحق في كل أمة. فمن استبشع من النصارى والصابئين الجهاد
فهو مناقض لمذهبه، إذ لولا القتال لما بقي الدين الذي يذب عنه. وأيضا هذه المواضع
التي اتخذت قبل تحريفهم وتبديلهم، وقبل نسخ تلك الملل بالإسلام إنما ذكرت لهذا
المعنى، أي لولا هذا الدفع لهدم في زمن موسى الكنائس، وفى زمن عيسى الصوامع
والبيع، وفى زمن محمد عليه السلام المساجد. (لَهُدِّمَتْ) 40 «3» من هدمت البناء
أي نقضته فانهدم. قال ابن عطية: هذا أصوب ما قيل في تأويل الآية. وروى عن على بن
أبى طالب رضى الله عنه أنه قال: ولولا دفع الله بأصحاب محمد صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الكفار عن التابعين فمن بعدهم. وهذا وإن كان فيه دفع قوم بقوم
إلا أن معنى القتال أليق، كما تقدم. وقال مجاهد لولا دفع الله ظلم قوم بشهادة
العدول. وقالت فرقة: ولولا دفع الله ظلم الظلمة بعدل الولاة. وقال أبو الدرداء:
لولا أن الله عز وجل يدفع بمن في المساجد عمن ليس في المساجد، وبمن يغزو عمن لا
يغزو، لأتاهم العذاب. وقالت فرقة: ولولا دفع الله العذاب بدعاء الفضلاء والأخيار
إلى غير ذلك من التفصيل المفسر لمعنى الآية، وذلك أن الآية ولا بد تقتضي مدفوعا؟
من الناس ومدفوعا عنه، فتأمله. الخامسة- قال بن خويز منداد: تضمنت هذه الآية المنع
من هدم كنائس أهل الذمة وبيعهم وبيوت نيرانهم، ولا يتركون أن يحدثوا ما لم يكن،
ولا يزيدون في البنيان لا سعة ولا ارتفاعا، ولا ينبغي للمسلمين أن يدخلوها ولا
يصلوا فيها، ومتى أحدثوا زيادة وجب نقضها. وينقض ما وجد في بلاد الحرب من البيع
والكنائس. وإنما لم ينقض
__________
(1). من ب.
(2). كذا في ب وز وط وك. وفى اوج" بينته".
(3). بالتخفيف قراءة نافع.
ما
في بلاد الإسلام لأهل الذمة، لأنها جرت مجرى بيوتهم وأموالهم التي عاهدوا عليها في
الصيانة. ولا يجوز أن يمكنوا من الزيادة لان في ذلك إظهار أسباب الكفر. وجائز أن
ينقض المسجد ليعاد بنيانه، وقد فعل ذلك عثمان رضى الله عنه بمسجد النبي صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. السادسة- قرئ" لهدمت" بتخفيف الدال
وتشديدها. (صَوامِعُ) 40 جمع صومعة، وزنها فوعلة، وهى بناء مرتفع حديد الأعلى،
يقال: صمع الثريدة أي رفع رأسها وحدده. ورجل أصمع القلب أي حاد الفطنة. والأصمع من
الرجال الحديد القول. وقيل: هو الصغير الاذن من الناس وغيرهم. وكانت قبل الإسلام
مختصة برهبان النصارى وبعباد الصابئين- قاله قتادة- ثم استعمل في مئذنة المسلمين.
والبيع. جمع بيعة، وهى كنيسة النصارى. وقال الطبري: قيل هي كنائس اليهود، ثم أدخل
عن مجاهد ما لا يقتضى ذلك. (وَصَلَواتٌ) قال الزجاج والحسن: هي كنائس اليهود، وهى
بالعبرانية صلوتا. وقال أبو عبيدة: الصلوات بيوت تبنى للنصارى في البراري يصلون
فيها في أسفارهم، تسمى صلوتا فعربت فقيل صلوات. وفى" صَلَواتٌ" تسع قراءات
ذكرها ابن عطية: صلوات، صلوات، صلوات، صلولى على وزن فعولى، صلوب بالباء بواحدة
جمع صليب، صلوث بالثاء المثلثة على وزن فعول، صلوات بضم الصاد واللام وألف بعد
الواو، صلوثا بضم الصاد واللام وقصر الالف بعد الثاء المثلثة، [صلويثا بكسر الصاد
وإسكان اللام وواو مكسورة بعدها ياء بعدها ثاء منقوطة بثلاث بعدها ألف «1»]. وذكر
النحاس: وروى عن عاصم الجحدري أنه قرأ" وصلوب". وروى عن الضحاك"
وصلوث" بالثاء معجمة بثلاث، ولا أدرى أفتح الصاد أم ضمها. قلت: فعلى هذا تجئ
هنا عشر قراءات. وقال ابن عباس: الصلوات الكنائس. أبو العالية: الصلوات مساجد
الصابئين. ابن زيد: هي صلوات المسلمين تنقطع إذا دخل عليهم العدو وتهدم المساجد،
فعلى هذا استعير الهدم للصلوات من حيث تعطل، أو أراد موضع صلوات فحذف المضاف. وعلى
قول ابن عباس والزجاج وغيرهم يكون الهدم
__________
(1). ما بين المربعات عبارة أبى حيان. والذي في اوج وب: صلوثيا بكسر الصاد والثاء
المثلثة.
الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)
حقيقة.
وقال الحسن: هدم الصلوات تركها، قطرب: هي الصوامع الصغار ولم يسمع لها واحد. وذهب
خصيف إلى أن القصد بهذه الأسماء تقسيم متعبدات الأمم. فالصوامع للرهبان، والبيع
للنصارى، والصلوات لليهود، والمساجد للمسلمين. قال ابن عطية: والأظهر أنها قصد بها
المبالغة في ذكر المتعبدات. وهذه الأسماء تشترك الأمم في مسمياتها، إلا البيعة
فإنها مختصة بالنصارى في لغة العرب. ومعاني هذه الأسماء هي في الأمم التي لها «1»
كتاب على قديم الدهر. ولم يذكر في هذه الآية المجوس ولا أهل الاشراك، لان هؤلاء
ليس لهم ما يجب حمايته، ولا يوجد ذكر الله إلا عند أهل الشرائع. وقال النحاس:"
يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ 40" الذي يجب في كلام العرب على حقيقة النظر
أن يكون" يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ 40" عائدا على المساجد لا على
غيرها، لان الضمير يليها، ويجوز أن يعود على" صَوامِعُ 40" وما بعدها،
ويكون المعنى وقت شرائعهم وإقامتهم الحق. السابعة- فإن قيل: لم قدمت مساجد أهل
الذمة ومصلياتهم على مساجد المسلمين؟ قيل: لأنها أقدم بناء. وقيل: لقربها من الهدم
وقرب المساجد من الذكر، كما أخر السابق في قوله:" فَمِنْهُمْ ظالِمٌ
لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ" «2» [فاطر:
32]. الثامنة- قوله تعالى: (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ) 40 أي من
ينصر دينه ونبيه. (إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ) 40 أي قادر. قال الخطابي: القوى يكون
بمعنى القادر، ومن قوى على شي فقد قدر عليه. (عَزِيزٌ) أي جليل شريف، قاله الزجاج.
وقيل الممتنع الذي لا يرام، وقد بيناهما في الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله
الحسنى.
[سورة الحج (22): آية 41]
الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا
الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ
عاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)
قال الزجاج:" الَّذِينَ" في موضع نصب ردا على" مِنْ"، يعنى في
قوله:" وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ 40". وقال غيره:"
الَّذِينَ" في موضع خفض ردا على قوله:" أُذِنَ لِلَّذِينَ
يُقاتَلُونَ"
__________
(1). في ج وك: لهم.
(2). راجع ج 14 ص ....
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42)
ويكون"
الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ" أربعة من أصحاب رسول الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يكن في الأرض غيرهم. وقال ابن عباس: (المراد
المهاجرون والأنصار والتابعون بإحسان. وقال قتادة: هم أصحاب محمد صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقال عكرمة: هم أهل الصلوات الخمس. وقال الحسن وأبو العالية:
هم هذه الامة إذا فتح الله عليهم أقاموا الصلاة. وقال ابن أبى نجيح: يعنى الولاة.
وقال الضحاك: هو شرط شرطه الله عز وجل على من آتاه الملك، وهذا حسن. قال سهل بن
عبد الله: الامر بالمعروف والنهى عن المنكر واجب على السلطان وعلى العلماء الذين
يأتونه. وليس على الناس أن يأمروا السلطان، لان ذلك لازم له واجب عليه، ولا يأمروا
العلماء فإن الحجة قد وجبت عليهم.
[سورة الحج (22): الآيات 42 الى 44]
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ
(42) وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ
مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (44)
هذا تسلية للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتعزية، أي كان قبلك أنبياء
كذبوا فصبروا إلى أن أهلك الله المكذبين، فاقتد بهم واصبر. (وَكُذِّبَ مُوسى ) أي
كذبه فرعون وقومه. فأما بنو إسرائيل فما كذبوه، فلهذا لم يعطفه على ما قبله فيكون
وقوم موسى. (فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ) أي أخرت عنهم العقوبة. (ثُمَّ
أَخَذْتُهُمْ) فعاقبتهم. (فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) استفهام بمعنى التغيير، أي فانظر
كيف كان تغييري ما كانوا فيه من النعم بالعذاب والهلاك، فكذلك أفعل بالمكذبين من
قريش. قال الجوهري: النكير والإنكار تغيير المنكر، والمنكر واحد المناكير.
[سورة الحج (22): آية 45]
فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى
عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45)
قوله
تعالى: (فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها) أي أهلكنا أهلها. وقد مضى
في" آل عمران" «1» الكلام في كأين. (وَهِيَ ظالِمَةٌ) أي بالكفر.
(فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها) تقدم في الكهف «2». (وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ
وَقَصْرٍ مَشِيدٍ) قال الزجاج:" وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ" معطوف على"
مِنْ قَرْيَةٍ" أي ومن أهل قرية ومن أهل بئر. والفراء يذهب إلى أن"
وَبِئْرٍ" معطوف على" عُرُوشِها". وقال الأصمعي: سألت نافع بن أبى
نعيم أيهمز البئر والذئب؟ فقال: إن كانت العرب تهمزهما فاهمزهما. وأكثر الرواة عن
نافع بهمزهما، إلا ورشا فإن روايته عنه بغير همز فيهما، والأصل الهمز. ومعنى"
مُعَطَّلَةٍ" متروكة، قاله الضحاك. وقيل: خالية من أهلها لهلاكهم. وقيل:
غائرة الماء. وقيل: معطلة من دلائها وأرشيتها، والمعنى متقارب. (وَقَصْرٍ مَشِيدٍ)
قال قتادة والضحاك ومقاتل: رفيع طويل. قال غدى بن زيد:
شاده مرمرا وجلله كل ... سا فللطير في ذراه وكور
أي رفعه. وقال سعيد بن جبير وعطاء وعكرمة ومجاهد: مجصص، من الشيد وهو الجص. قال
الراجز «3»:
لا تحسبني وإن كنت امرأ غمرا ... كحينة الماء بين الطين والشيد
وقال امرؤ القيس:
ولا أطما إلا مشيدا بجندل «4»
وقال ابن عباس: (مَشِيدٍ) أي حصين، وقاله الكلبي. وهو مفعل بمعنى مفعول كمبيع
بمعنى مبيوع. وقال الجوهري: والمشيد المعمول بالشيد. والشيد (بالكسر): كل شي طليت
به الحائط من جص أو بلاط، وبالفتح المصدر. تقول: شاده يشيده شيدا جصصه. والمشيد
(بالتشديد) المطول. وقال الكسائي:" المشيد" للواحد، من قوله
تعالى:" وَقَصْرٍ مَشِيدٍ"، والمشيد للجمع، من قوله تعالى:" فِي
بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ" «5». [النساء: 78]. وفى الكلام مضمر
__________ (1). راجع ج 4 ص 228.
(2). راجع ج 10 ص 410.
(3). البيت للشماخ. كما في اللسان من البسيط وليس برجز. والغمر (بفتح الغين وكسر
الميم) لغة في الغمر (بضم الغين وسكون الميم) وهو الغر الذي لم يجرب الأمور.
(4). هذا عجز البيت. وصدره:
وتيهاء لم يترك بها جذع نخلة
(5). راجع ج 5 ص 282.
محذوف
تقديره: وقصر مشيد مثلها معطل. ويقال: إن هذه البئر والقصر بحضرموت معروفان،
فالقصر مشرف على قلة جبل لا يرتقى إليه بحال، والبئر في سفحه لا تقر الريح شيئا
سقط فيه إلا أخرجته. وأصحاب القصور ملوك الحضر، وأصحاب الأبار ملوك البوادي، أي
فأهلكنا هؤلاء وهؤلاء. وذكر الضحاك وغيره فيما ذكر الثعلبي وأبو بكر محمد بن الحسن
المقرئ وغيرهما: أن البئر الرس، وكانت بعدن باليمن بحضرموت، في بلد يقال له حضوراء
نزل بها أربعة آلاف ممن آمن بصالح، ونجوا من العذاب ومعهم صالح، فمات صالح فسمى
المكان حضرموت، لان صالحا لما حضره مات فبنوا حضوراء وقعدوا على هذه البئر، وأمروا
عليهم رجلا يقال له العلس بن جلاس بن سويد، فيما ذكر الغزنوي. الثعلبي: جلهس بن
جلاس. وكان حسن السيرة فيهم عادلا عليهم، وجعلوا وزيره سنحاريب بن سوادة، فأقاموا
دهرا وتناسلوا حتى كثروا، وكانت البئر تسقى المدينة كلها وباديتها وجميع ما فيها
من الدواب والغنم والبقر وغير ذلك، لأنها كانت لها بكرات كثيرة منصوبة عليها،
ورجال كثيرون موكلون بها، وأبازن (بالنون) من رخام وهى شبه الحياض كثيرة تملا
للناس، وأخر للدواب، وأخر للبقر، وأخر للغنم. والقوام يسقون عليها بالليل والنهار
يتداولون، ولم يكن لهم ماء غيرها. وطال عمر الملك الذي أمروه، فلما جاءه الموت طلى
بدهن لتبقى صورته لا تتغير، وكذلك كانوا يفعلون إذا مات منهم الميت وكان ممن يكرم
عليهم. فلما مات شق ذلك عليهم ورأوا أن أمرهم فسد، وضجوا جميعا بالبكاء، واغتنمها
الشيطان منهم فدخل في جثة الملك بعد موته بأيام كثيرة، فكلمهم وقال: إنى لم أمت
ولكن تغيبت عنكم حتى أرى صنيعكم، ففرحوا أشد الفرح وأمر خاصته أن يضربوا له حجابا
بينه وبينهم ويكلمهم من ورائه لئلا يعرف الموت في صورته. فنصبوا صنما من وراء
الحجاب لا يأكل ولا يشرب. وأخبرهم أنه لا يموت أبدا وأنه إلههم «1»، فذلك كله
يتكلم به الشيطان على لسانه، فصدق كثير منهم وارتاب بعضهم، وكان المؤمن المكذب
منهم أقل من المصدق له، وكلما تكلم ناصح لهم زجر وقهر. فأصفقوا «2» على عبادته،
فبعث الله إليهم نبيا كان الوحى ينزل عليه في النوم دون اليقظة، كان اسمه
__________
(1). في ب وك: وأنه إله لهم.
(2). أصفقوا على الامر: اجتمعوا عليه.
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)
حنظلة
بن صفوان، فأعلمهم أن الصورة صنم لا روح له، وأن الشيطان قد أضلهم، وأن الله لا
يتمثل بالخلق، وأن الملك لا يجوز أن يكون شريكا لله، ووعظهم ونصحهم وحذرهم سطوة
ربهم ونقمته، فآذوه وعادوه وهو يتعهدهم بالموعظة ولا يغبهم بالنصيحة، حتى قتلوه في
السوق وطرحوه في بئر، فعند ذلك أصابتهم النقمة، فباتوا شباعا رواء من الماء
وأصبحوا والبئر قد غار ماؤها وتعطل رشاؤها، فصاحوا بأجمعهم وضج النساء والولدان،
وضجت البهائم عطشا، حتى عمهم الموت وشملهم الهلاك، وخلفتهم في أرضهم السباع، وفى
منازلهم الثعالب والضباع، وتبدلت جناتهم وأموالهم بالسدر «1» وشوك العضاه «2»
والقتاد «3»، فلا يسمع فيها إلا عزيف الجن وزئير الأسد، نعوذ بالله من سطواته، ومن
الإصرار على ما يوجب نقماته. قال السهيلي. وأما القصر المشيد فقصر بناه شداد بن
عاد بن إرم، لم يبن في الأرض مثله- فيما ذكروا وزعموا- وحاله أيضا كحال هذه البئر
المذكورة في إيحاشه بعد الأنيس، وإقفاره بعد العمران، وإن أحدا لا يستطيع أن يدنو
منه على أميال، لما يسمع فيه من عزيف الجن والأصوات المنكرة بعد النعيم والعيش
الرغد وبهاء الملك وانتظام الأهل كالسلك فبادوا وما عادوا، فذكرهم الله تعالى في
هذه الآية موعظة وعبرة وتذكرة، وذكرا وتحذيرا من مغبة المعصية وسوء عاقبة
المخالفة، نعوذ بالله من ذلك ونستجير به من سوء المآل. وقيل: إن الذي أهلكهم بخت
نصر على ما تقدم في سورة" الأنبياء" في قوله:" وَكَمْ قَصَمْنا
مِنْ قَرْيَةٍ" «4» [الأنبياء: 11]. فتعطلت بئرهم وخربت قصورهم.
[سورة الحج (22): آية 46]
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ
آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى
الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)
__________
(1). السدر من الشجر، وهو سدران: أحدهما برى لا ينتفع بثمره ولا يصلح ورقه للغسول
ثمره عفص لا يسوغ في الخلق، والعرب تسميه الضال. والسدر الثاني: ينبت الماء وثمره
النبق وورقه غسول. [.....]
(2). العضاه: كل شجر يعظم وله شوك، واحدها عضاهة وعضهة وعضة.
(3). القتاد: شجر صلب له شوك كالإبر.
(4). راجع ج 11 ص 274.
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47)
قوله
تعالى: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) يعنى كفار مكة فيشاهدوا هذه القرى
فيتعظوا، ويحذروا عقاب الله أن ينزل بهم كما نزل بمن قبلهم. (فَتَكُونَ لَهُمْ
قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها) أضاف العقل إلى القلب لأنه محله كما أن السمع محله
الاذن. وقد قيل: إن العقل محله الدماغ، وروى عن أبى حنيفة، وما أراها عنه صحيحة.
(فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ) قال الفراء: الهاء عماد، ويجوز أن يقال فإنه،
وهى قراءة؟؟ عبد الله بن مسعود، والمعنى واحد، التذكير على الخبر، والتأنيث على
الأبصار أو القصة، أي فإن الأبصار لا تعمى، أو فإن القصة. (لا تَعْمَى الْأَبْصارُ)
أي أبصار العيون ثابتة لهم. (وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ)
أي عن درك الحق والاعتبار. وقال قتادة: البصر الناظر جعل بلغة ومنفعة، والبصر
النافع في القلب. وقال مجاهد: لكل عين أربع أعين، يعنى لكل إنسان أربع أعين: عينان
في رأسه لدنياه، وعينان في قلبه لآخرته، فإن عميت عينا رأسه وأبصرت عينا قلبه فلم
يضره عماه شيئا، وإن أبصرت عينا رأسه وعميت عينا قلبه فلم ينفعه نظره شيئا. وقال
قتادة وابن جبير: نزلت هذه الآية في ابن أم مكتوم الأعمى. قال ابن عباس ومقاتل:
لما نزل:" ومن كان في هذه أعمى" «1» [الاسراء: 72] قال ابن أم مكتوم: يا
رسول الله، فأنا في الدنيا أعمى أفأكون في الآخرة أعمى؟ فنزلت:" فَإِنَّها لا
تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ". أي
من كان في هذه أعمى بقلبه عن الإسلام فهو في الآخرة في النار.
[سورة الحج (22): آية 47]
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ
يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47)
قوله تعالى: (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ) نزلت في النضر بن الحارث، وهو
قوله:" فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ 70" «2»
[الأعراف: 70]. وقيل: نزلت في أبى جهل بن هشام، وهو قوله:" اللَّهُمَّ إِنْ
كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ" «3» [الأنفال: 32]. (وَلَنْ يُخْلِفَ
اللَّهُ وَعْدَهُ) أي في إنزال العذاب. قال الزجاج: استعجلوا العذاب فأعلمهم الله
أنه لا يفوته شي، وقد نزل بهم في الدنيا يوم بدر.
__________
(1). راجع ج 10 ص 298.
(2). راجع ج 7 ص 237.
(3). راجع ج 7 ص 398.
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (51)
قوله
تعالى: (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) قال
ابن عباس ومجاهد: يعنى من الأيام التي خلق الله فيها السموات والأرض. عكرمة: يعنى
من أيام الآخرة، أعلمهم الله إذ استعجلوه بالعذاب في أيام قصيرة أنه يأتيهم به في
أيام طويلة. قال الفراء: هذا وعيد لهم بامتداد عذابهم في الآخرة، أي يوم من الأيام
عذابهم في الآخرة ألف سنة. وقيل: المعنى وإن يوما في الخوف والشدة في الآخرة كألف
سنة من سنى الدنيا فيها خوف وشدة، وكذلك يوم النعيم قياسا. وقرا ابن كثير وحمزة
والكسائي:" مما يعدون" بالياء المثناة تحت، واختاره أبو عبيد لقوله:"
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ". والباقون بالتاء على الخطاب، واختاره أبو حاتم.
[سورة الحج (22): آية 48]
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها
وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48)
قوله تعالى: (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها) أي أمهلتها مع عتوها.
(ثُمَّ أَخَذْتُها) أي بالعذاب. (وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ).
[سورة الحج (22): الآيات 49 الى 51]
قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49) فَالَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50) وَالَّذِينَ
سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (51)
قوله تعالى: (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ) يعنى أهل مكة. (إِنَّما أَنَا لَكُمْ
نَذِيرٌ) أي منذر مخوف. وقد تقدم في البقرة الإنذار «1» في أولها. (مُبِينٌ) أي
أبين لكم ما تحتاجون إليه من أمر دينكم. (فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) 50 يعنى الجنة. (وَالَّذِينَ
سَعَوْا فِي آياتِنا) أي في إبطال آياتنا. (مُعاجِزِينَ) أي مغالبين مشاقين، قاله
ابن عباس. الفراء: معاندين. وقال عبد الله بن الزبير: مثبطين عن الإسلام. وقال
__________
(1). راجع ج 1 ص 184.
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52)
الأخفش:
معاندين مسابقين. الزجاج: أي ظانين أنهم يعجزوننا لأنهم ظنوا أن لا بعث، وظنوا أن
الله لا يقدر عليهم، وقاله قتادة. وكذلك معنى قراءة ابن كثير وأبى عمرو"
معجزين" بلا ألف مشددا. ويجوز أن يكون معناه أنهم يعجزون المؤمنين في الايمان
بالنبي عليه السلام وبالآيات، قاله السدى. وقيل: أي ينسبون من اتبع محمدا صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى العجز، كقولهم: جهلته وفسقته. (أُولئِكَ أَصْحابُ
الْجَحِيمِ) 10.
[سورة الحج (22): آية 52]
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنَّى
أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ
ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52)
فيه ثلاث مسائل: الاولى- قوله تعالى:" تَمَنَّى" أي قرأ وتلا. و(أَلْقَى
الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) أي قراءته وتلاوته. وقد تقدم في البقرة «1». قال
ابن عطية: وجاء عن ابن عباس أنه كان يقرأ:" وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا
نبى ولا محدث" ذكره مسلمة بن القاسم بن عبد الله، ورواه سفيان عن عمرو بن
دينار عن ابن عباس. قال مسلمة: فوجدنا المحدثين «2» معتصمين بالنبوة- على قراءة
ابن عباس- لأنهم تكلموا بأمور عالية من أنباء الغيب خطرات، ونطقوا بالحكمة الباطنة
فأصابوا فيما تكلموا وعصموا فيما نطقوا، كعمر بن الخطاب في قصة سارية «3»، وما
تكلم به من البراهين العالية.
__________
(1). راجع ج 2 ص 5.
(2). المحدثون (بفتح الدال وتشديدها) قال ابن الأثير: إنهم الملهمون، والملهم هم
الذي يلقى في نفسه الشيء فيخبر به حدسا وفراسة، وهو نوع يختص به الله عز وجل من
يشاء من عباده الذين اصطفى مثل عمر، كأنهم حدثوا بشيء فقالوه.
(3). هو سارية بن زنيم بن عبد الله. وكان من قصته أن عمر رضى الله عنه أمره على
جيش وسيره إلى فارس سنة ثلاث وعشرين، فوقع في خاطر سيدنا عمر وهو يخطب يوم الجمعة
أن الجيش المذكور لاقى العدو وهم في بطن واد وقد هموا بالهزيمة، وبالقرب منهم جبل،
فقال في أثناء خطبته: يا سارية، الجبل الجبل! ورفع صوته، فألقاه الله في سمع سارية
فانحار بالناس إلى الجبل وقاتلوا العدو من جانب واحد، ففتح الله عليهم. (راجع
ترجمته في كتب الصحابة).
قلت:
وقد ذكر هذا الخبر أبو بكر الأنباري في كتاب الرد له، وقد حدثني أبى رحمه الله
حدثنا على بن حرب حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قرأ"
وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبى ولا محدث" قال أبو بكر: فهذا حديث لا
يؤخذ به على أن ذلك قرآن. والمحدث هو الذي يوحى إليه في نومه، لان رؤيا الأنبياء
وحى. الثانية- قال العلماء: إن هذه الآية مشكلة من جهتين: إحداهما- أن قوما يرون
أن الأنبياء صلوات الله عليهم فيهم مرسلون وفيهم غير مرسلين. وغيرهم يذهب إلى أنه
لا يجوز أن يقال نبى حتى يكون مرسلا. والدليل على صحة هذا قوله تعالى:" وَما
أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ" فأوجب للنبي صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرسالة. وأن معنى" نَبِيٍّ" أنبأ عن الله
عز وجل، ومعنى أنبأ عن الله عز وجل الإرسال بعينه. وقال الفراء: الرسول الذي أرسل
إلى الخلق بإرسال جبريل عليه السلام إليه عيانا، والنبي الذي تكون نبوته إلهاما أو
مناما، فكل رسول نبى وليس كل نبى رسولا. قال المهدوي: وهذا هو الصحيح، أن أكل رسول
نبى وليس كل نبى رسولا. وكذا ذكر القاضي عياض في كتاب الشفا قال: والصحيح والذي
عليه الجم الغفير أن كل رسول نبى وليس كل نبى رسولا، واحتج بحديث أبى ذر، وأن
الرسل من الأنبياء ثلاثمائة وثلاثة عشر، أولهم آدم وآخرهم محمد صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «1». والجهة الأخرى التي فيها الاشكال وهى: الثالثة- الأحاديث
المروية في نزول هذه الآية، وليس منها شي يصح. وكان مما تموه به الكفار على عوامهم
قولهم: حق الأنبياء ألا يعجزوا عن شي، فلم لا يأتينا محمد بالعذاب وقد بالغنا في
عداوته؟ وكانوا يقولون أيضا: ينبغي ألا يجرى عليهم سهو وغلط، فبين الرب سبحانه
أنهم بشر، والآتي بالعذاب هو الله تعالى على ما يريد، ويجوز على البشر السهو
والنسيان والغلط إلى أن يحكم الله آياته وينسخ حيل الشيطان. روى الليث عن يونس عن
الزهري عن أبى بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام قال: قرأ رسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" وَالنَّجْمِ إِذا هَوى " [النجم: 1] فلما
بلغ" أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى. وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى
20- 19" «2» [النجم: 20- 19]
__________
(1). في ج: حديث حسن.
(2). راجع ج 17 ص 99.
سها
فقال: (إن شفاعتهم ترتجى) فلقيه المشركون والذين في قلوبهم مرض فسلموا عليه
وفرحوا، فقال: (إن ذلك من الشيطان) فأنزل الله تعالى:" وَما أَرْسَلْنا مِنْ
قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ" الآية. قال النحاس: وهذا حديث منقطع
وفية هذا الامر العظيم. وكذا حديث قتادة وزاد فيه (وإنهن لهن «1» الغرانيق العلا).
وأفظع «2» من هذا ما ذكره الواقدي عن كثير بن زيد عن المطلب بن عبد الله قال: سجد
المشركون كلهم إلا الوليد بن المغيرة فإنه أخذ ترابا من الأرض فرفعه إلى جبهته
وسجد عليه، وكان شيخا كبيرا. ويقال: إنه أبو أحيحة سعيد بن العاص، حتى نزل جبريل
عليه السلام فقرأ عليه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال له: (ما
جئتك به)! وأنزل الله:" لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً
قَلِيلًا" «3» [الاسراء: 74]. قال النحاس: وهذا حديث منكر منقطع ولا سيما من
حديث الواقدي. وفى البخاري أن الذي أخذ قبضة من تراب ورفعها إلى جبهته هو أمية بن
خلف. وسيأتي تمام كلام النحاس على الحديث- إن شاء الله- آخر الباب. قال ابن عطية:
وهذا الحديث الذي فيه هي الغرانيق العلا وقع في كتب التفسير ونحوها، ولم يدخله
البخاري ولا مسلم، ولا ذكره في علمي مصنف مشهور، بل يقتضى مذهب أهل الحديث أن الشيطان
ألقى، ولا يعينون هذا السبب ولا غيره. ولا خلاف أن إلقاء الشيطان إنما هو لألفاظ
مسموعة، بها وقعت الفتنة. ثم اختلف الناس في صورة هذا الإلقاء، فالذي في التفاسير
وهو مشهور القول أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تكلم بتلك الألفاظ
على لسانه. وحدثني أبى رضى الله عنه أنه لقى بالشرق من شيوخ العلماء والمتكلمين من
قال: هذا لا يجوز على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو المعصوم في
التبليغ، وإنما الامر أن الشيطان نطق بلفظ أسمعه الكفار عند قول النبي صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى. وَمَناةَ
الثَّالِثَةَ الْأُخْرى «4» 20- 19" [النجم: 20- 19] وقرب صوته من صوت النبي
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى التبس الامر على المشركين، وقالوا: محمد
قرأها. وقد روى نحو هذا التأويل عن الامام أبى المعالي. وقيل: الذي ألقى شيطان
الانس، كقوله عز وجل:" وَالْغَوْا فِيهِ «5»" [فصلت: 26]. قتادة: هو ما
تلاه ناعسا.
__________
(1). في ك: لمن.
(2). كذا في ب. [.....]
(3). راجع ج 10 ص 300.
(4). راجع ج 17 ص 99.
(5). راجع ج 15 ص 355 فما بعد.
وقال
القاضي عياض في كتاب الشفا بعد أن ذكر الدليل على صدق النبي صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأن الامة أجمعت فيما طريقه البلاغ أنه معصوم فيه من الاخبار
عن شي بخلاف ما هو عليه، لا قصدا ولا عمدا ولا سهوا أو غلطا: اعلم أكرمك الله أن
لنا في الكلام على مشكل هذا الحديث مأخذين: أحدهما- في توهين أصله، والثاني على
تسليمه. أما المأخذ الأول فيكفيك أن هذا حديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة، ولا رواه
بسند [صحيح»
] سليم متصل ثقة، وإنما أولع به وبمثله المفسرون والمؤرخون المولعون بكل غريب،
المتلقفون من الصحف كل صحيح وسقيم. قال أبو بكر البزار: وهذا الحديث لا نعلمه يروى
عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإسناد متصل يجوز ذكره، إلا ما رواه
شعبة عن أبى بشر عن سعيد ابن جبير عن ابن عباس فيما أحسب، والشك في الحديث أن
النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان بمكة ... وذكر القصة. ولم يسنده عن
شعبة إلا أمية بن خالد، وغيره يرسله عن سعيد بن جبير. وإنما يعرف عن الكلبي عن أبى
صالح عن ابن عباس، فقد بين لك أبو بكر رحمه الله أنه لا يعرف من طريق يجوز ذكره
سوى هذا، وفية من الضعف ما نبه عليه مع وقوع الشك فيه الذي ذكرناه، الذي لا يوثق
به ولا حقيقة معه. وأما حديث الكلبي فمما لا تجوز الرواية عنه ولا ذكره لقوة ضعفه
وكذبه، كما أشار إليه البزار رحمه الله. والذي منه في الصحيح: أن النبي صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قرأ:" والنجم" بمكة فسجد وسجد معه المسلمون
والمشركون والجن والانس، هذا توهينه من طريق النقل. وأما المأخذ الثاني فهو مبنى
على تسليم الحديث لو صح. وقد أعاذنا الله من صحته، ولكن على كل حال فقد أجاب أئمة
المسلمين عنه بأجوبة، منها الغث والسمين. والذي يظهر ويترجح في تأويله على تسليمه
أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان كما أمره ربه يرتل القرآن ترتيلا،
ويفصل الآي تفصيلا في قراءته، كما رواه الثقات عنه، فيمكن ترصد الشيطان لتلك
السكتات ودسه فيها ما اختلقه من تلك الكلمات، محاكيا نغمة النبي صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بحيث يسمعه من دنا إليه من الكفار، فظنوها من قول النبي صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأشاعوها.
__________
(1). من ك.
ولم
يقدح ذلك عند المسلمين لحفظ السورة قبل ذلك على ما أنزلها الله، وتحققهم من حال
النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ذم الأوثان وعيبها ما عرف منه، فيكون
ما روى من حزن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لهذه الإشاعة والشبهة وسبب
هذه الفتنة، وقد قال الله تعالى:" وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ
رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ «1»" الآية. قلت: وهذا التأويل أحسن ما قيل في هذا. وقد
قال سليمان بن حرب: إن" فِي 10" بمعنى عنده، أي ألقى الشيطان في قلوب
الكفار عند تلاوة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كقوله عز وجل:"
وَلَبِثْتَ فِينا «2»" [الشعراء: 18] أي عندنا. وهذا هو معنى ما حكاه ابن
عطية عن أبيه عن علماء الشرق، وإليه أشار القاضي أبو بكر بن العربي، وقال قبله: إن
هذه الآية نص في غرضنا، دليل على صحة مذهبنا أصل في براءة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مما ينسب إليه أنه قاله، وذلك أن الله تعالى قال:" وَما أَرْسَلْنا
مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى
الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ" أي في تلاوته. فأخبر الله تعالى أن من سنته
في رسله وسيرته في أنبيائه إذا قالوا عن الله تعالى قولا زاد الشيطان فيه من قبل
نفسه كما يفعل سائر المعاصي. تقول: ألقيت في الدار كذا، وألقيت في الكيس كذا، فهذا
نص في الشيطان أنه زاد في الذي قاله النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لا
أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تكلم به. ثم ذكر معنى كلام عياض إلى
أن قال: وما هدى لهذا إلا الطبري لجلالة قدره وصفاء فكره وسعة باعه في العلم، وشدة
ساعده في النظر، وكأنه أشار إلى هذا الغرض، وصوب على هذا المرمي، وقرطس بعد ما ذكر
في ذلك روايات كثيرة كلها باطل لا أصل لها، ولو شاء ربك لما رواها أحد ولا سطرها،
ولكنه فعال لما يريد. وأما غيره من التأويلات مما حكاه قوم أن الشيطان أكرهه حتى
قال كذا فهو محال، إذ ليس للشيطان قدرة على سلب الإنسان الاختيار، قال الله تعالى
مخبرا عنه:" وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ
دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي «3»" [إبراهيم: 22]، ولو كان للشيطان هذه
القدرة لما بقي لاحد
__________
(1). راجع كتاب الشفا للقاضي عياض ج 2 ص 116، 131 طبع الاستانة.
(2). راجع ج 13 ص 93.
(3). راجع ج 9 ص 356.
من
بنى آدم قوة في طاعة، ومن توهم أن للشيطان هذه القوة فهو قول الثنوية والمجوس في
أن الخير من الله والشر من الشيطان. ومن قال جرى ذلك على لسانه سهوا قال: لا يبعد
أنه كان سمع الكلمتين من المشركين وكانتا على حفظه فجرى عند قراءة السورة ما كان
في حفظه سهوا، وعلى هذا يجوز السهو عليهم ولا يقرون عليه، وأنزل الله عز وجل هذه
الآية تمهيدا لعذره وتسلية له، لئلا يقال: إنه رجع عن بعض قراءته، وبين أن مثل هذا
جرى على الأنبياء سهوا، والسهو إنما ينتفي عن الله تعالى، وقد قال ابن عباس: إن
شيطانا يقال له الأبيض كان قد أتى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في
صورة جبريل عليه السلام وألقى في قراءة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
تلك الغرانيق العلا، وأن شفاعتهن لترتجي. وهذا التأويل وإن كان أشبه مما قبله
فالتأويل الأول عليه المعول، فلا يعدل عنه إلى غيره لاختيار العلماء المحققين
إياه، وضعف الحديث مغن عن كل تأويل، والحمد لله. ومما يدل على ضعفه أيضا وتوهينه
من الكتاب قوله تعالى:" وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ «1»" [الاسراء:
73] الآيتين، فإنهما تردان الخبر الذي رووه، لان الله تعالى ذكر أنهم كادوا
يفتنونه حتى يفترى، وأنه لولا أن ثبته لكان يركن إليهم. فمضمون هذا ومفهومه أن
الله تعالى عصمه من أن يفترى وثبته حتى لم يركن إليهم قليلا فكيف كثيرا، وهم يروون
في أخبارهم الواهية أنه زاد على الركون والافتراء بمدح آلهتهم، وأنه قال عليه
الصلاة والسلام: افتريت على الله وقلت ما لم يقل. وهذا ضد مفهوم الآية، وهى تضعف
الحديث لو صح، فكيف ولا صحة له. وهذا مثل قوله تعالى:" وَلَوْ لا فَضْلُ
اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما
يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ
" «2» [النساء: 113]. قال القشيري: ولقد طالبته قريش وثقيف إذ مر بآلهتهم أن
يقبل بوجهه إليها، ووعدوه بالايمان به إن فعل ذلك، فما فعل! ولا كان ليفعل! قال
ابن الأنباري: ما قارب الرسول ولا ركن. وقال الزجاج: أي كادوا، ودخلت إن واللام
للتأكيد. وقد قيل: إن معنى" تَمَنَّى" حدث، لا" تلا". روى عن
على بن أبى طلحة عن ابن عباس في قوله عز وجل: (إِلَّا إِذا تَمَنَّى) قال: إلا إذا
حدث" أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ)" قال: في حديثه
__________
(1). راجع ج 10 ص 299.
(2). راجع ج 5 ص 381 فما بعد.
(فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ) قال: فيبطل الله ما يلقى الشيطان. قال النحاس: وهذا من أحسن ما قيل في الآية وأعلاه وأجله. وقد قال أحمد بن محمد بن حنبل بمصر صحيفة في التفسير، رواها على بن أبى طلحة لو رحل رجل فيها إلى مصر قاصدا ما كان كثيرا. والمعنى عليه: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا حدث نفسه ألقى الشيطان في حديثه على جهة الحيلة فيقول: لو سألت الله عز وجل أن يغنمك ليتسع المسلمون، ويعلم الله عز وجل أن الصلاح في غير ذلك، فيبطل ما يلقى الشيطان كما قال ابن عباس رضى الله عنهما. وحكى الكسائي والفراء جميعا:" تَمَنَّى" إذا حدث نفسه، وهذا هو المعروف في اللغة. وحكيا أيضا" تَمَنَّى" إذا تلا. وروى عن ابن عباس أيضا وقاله مجاهد والضحاك وغيرهما. وقال أبو الحسن ابن مهدى: ليس هذا التمني من القرآن والوحى في شي، وإنما كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا صفرت يداه من المال، وراي ما بأصحابه من سوء الحال، تمنى الدنيا بقلبه ووسوسة الشيطان. وذكر المهدوي عن ابن عباس أن المعنى: إذا حدث ألقى الشيطان في حديثه، وهو اختيار الطبري. قلت: قوله تعالى:" لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً" الآية، يرد حديث النفس، وقد قال ابن عطية: لا خلاف أن إلقاء الشيطان إنما هو لألفاظ مسموعة، بها وقعت الفتنة، فالله أعلم. قال النحاس: ولو صح الحديث واتصل إسناده لكان المعنى فيه صحيحا، ويكون معنى سها أسقط، ويكون تقديره: أفرأيتم اللات والعزى، وتم الكلام، ثم أسقط (والغرانيق العلا) يعنى الملائكة (فإن شفاعتهم) يعود الضمير على الملائكة. وأما من روى: فإنهن الغرانيق العلا، ففي روايته أجوبة، منها أن يكون القول محذوفا كما تستعمل العرب في أشياء كثيرة، ويجوز أن يكون بغير حذف، ويكون توبيخا، لان قبله" أفرأيتم" ويكون هذا احتجاجا عليهم، فإن كان في الصلاة فقد كان الكلام مباحا في الصلاة. وقد روى في هذه القصة أنه كان مما يقرأ: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى. وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى . والغرانقة العلا. وأن شفاعتهن لترتجي. روى معناه عن مجاهد. وقال الحسن: أراد بالغرانيق العلا الملائكة، وبهذا فسر الكلبي الغرانقة أنها الملائكة. وذلك أن الكفار كانوا يعتقدون [أن ] الأوثان والملائكة بنات
لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53)
الله،
كما حكى الله تعالى عنهم، ورد عليهم في هذه السورة بقوله:" أَلَكُمُ
الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى " «1» فأنكر الله كل هذا من قولهم. ورجاء الشفاعة
من الملائكة صحيح، فلما تأوله المشركون على أن المراد بهذا الذكر آلهتهم ولبس
عليهم الشيطان بذلك، نسخ الله ما ألقى الشيطان، وأحكم الله آياته، ورفع تلاوة تلك
اللفظتين اللتين وجد الشيطان بهما سبيلا للتلبيس، كما نسخ كثير من القرآن، ورفعت
تلاوته. قال القشيري: وهذا غير سديد، لقوله:" فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي
الشَّيْطانُ" أي يبطله، وشفاعة الملائكة غير باطلة. (والله عليم حكيم)"
عَلِيمٌ" بما أوحى إلى نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ." حَكِيمٌ"
في خلقه.
[سورة الحج (22): آية 53]
لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ
وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (53)
قوله تعالى: (لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً) أي ضلالة. (لِلَّذِينَ
فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) أي شرك ونفاق. (وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ) فلا تلين لأمر
الله تعالى. قال الثعلبي: وفي الآية دليل على أن الأنبياء يجوز عليهم السهو
والنسيان والغلط بوسواس الشيطان أو عند شغل القلب حتى يغلط، ثم ينبه ويرجع إلى
الصحيح، وهو معنى قوله:" فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ
يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ". ولكن إنما يكون الغلط على حسب ما يغلط أحدنا،
فأما ما يضاف إليه من قولهم: تلك الغرانيق العلا، فكذب على النبي صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لان فيه تعظيم الأصنام، ولا يجوز ذلك على الأنبياء، كما لا
يجوز أن يقرأ بعض القرآن ثم ينشد شعرا ويقول: غلطت وظننته قرآنا. (وَإِنَّ
الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) أي الكافرين لفي خلاف وعصيان ومشاقة لله عز
وجل ولرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقد تقدم في" البقرة
«2»" والحمد لله وحده.
[سورة الحج (22): آية 54]
وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ
فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ
آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (54)
__________
(1). راجع ج 17 ص 102.
(2). راجع ج 2 ص 143.
وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55)
قوله
تعالى: (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) أي من المؤمنين. وقيل: أهل
الكتاب. (أَنَّهُ) أي أن الذي أحكم من آيات القرآن هو (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ
فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ) أي تخشع وتسكن. وقيل: تخلص.
(وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا) قرأ أبو حيوة:" وَإِنَّ اللَّهَ
لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا" بالتنوين. (إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي يثبتهم على
الهداية.
[سورة الحج (22): آية 55]
وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ
السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55)
قوله تعالى: (وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ) يعنى في شك من
القرآن، قاله ابن جريج. وغيره: من الدين، وهو الصراط المستقيم. وقيل: مما ألقى
الشيطان على لسان محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويقولون: ما باله ذكر
الأصنام بخير ثم ارتد عنها. وقرا أبو عبد الرحمن السلمى:" في مرية" بضم
الميم. والكسر أعرف، ذكره النحاس. (حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ) أي القيامة.
(بَغْتَةً) أي فجأة. (أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ) قال الضحاك: عذاب
يوم لا ليلة له وهو يوم القيامة. النحاس: سمى يوم القيامة عقيما لأنه ليس يعقب
بعده يوما مثله، وهو معنى قول الضحاك. والعقيم في اللغة عبارة عمن لا يكون له ولد،
ولما كان الولد يكون بين الأبوين وكانت الأيام تتوالى قبل وبعد، جعل الاتباع فيها
بالبعدية كهيئة الولادة، ولما لم يكن بعد ذلك اليوم يوم وصف بالعقيم. وقال ابن
عباس ومجاهد وقتادة: المراد عذاب يوم بدر، ومعنى عقيم لا مثل له في عظمه، لان الملائكة
قاتلت فيه. ابن جريج: لأنهم لم ينظروا فيه إلى الليل، بل قتلوا قبل المساء فصار
يوما لا ليلة له. وكذلك يكون معنى قول الضحاك أنه يوم القيامة، لأنه لا ليلة له.
وقيل: لأنه لم يكن فيه رأفة ولا رحمة، وكان عقيما من كل خير، ومنه قوله
تعالى:" إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ «1»"
[الذاريات: 41] أي التي لا خير فيها ولا تأتى بمطر ولا رحمة.
__________
(1). راجع ج 17 ص 50.
الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (57) وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59)
[سورة
الحج (22): الآيات 56 الى 57]
الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا
بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (57)
قوله تعالى: (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ) يعنى يوم القيامة
هو لله وحده لا منازع له فيه ولا مدافع. والملك هو اتساع المقدر ولمن له تدبير
الأمور. ثم بين حكمه فقال: (فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي
جَنَّاتِ النَّعِيمِ. وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ
لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ.) قلت: وقد يحتمل أن تكون الإشارة ب" يَوْمَئِذٍ"
ليوم بدر، وقد حكم فيه بإهلاك الكافر وسعادة المؤمن، وقد قال عليه السلام لعمر:
(وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم).
[سورة الحج (22): الآيات 58 الى 59]
وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا
لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ
الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ
لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59)
أفرد ذكر المهاجرين الذين ماتوا وقتلوا تفضيلا لهم وتشريفا على سائر الموتى. وسبب
نزول هذه الآية أنه لما مات بالمدينة عثمان بن مظعون وأبو سلمة بن عبد الأسد قال
بعض الناس: من قتل في سبيل الله أفضل ممن مات حتف أنفه، فنزلت هذه الآية مسوية
بينهم، وأن الله يرزق جميعهم رزقا حسنا. وظاهر الشريعة يدل على أن المقتول أفضل.
وقد قال بعض أهل العلم: إن المقتول في سبيل الله والميت في سبيل الله شهيد، ولكن
للمقتول مزية ما أصابه في ذات الله. وقال بعضهم: هما سواء، واحتج بالآية، وبقوله
تعالى:" وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ
ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ
ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60)
أَجْرُهُ
عَلَى اللَّهِ 100
" «1» [النساء: 100]، وبحديث أم حرام، فإنها صرعت عن دابتها فماتت ولم تقتل
فقال لها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أنت من الأولين)، وبقول النبي
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث عبد الله ابن عتيك: (من خرج من بيته
مهاجرا في سبيل الله فخر عن دابته فمات أو لدغته حية فمات أو مات حتف أنفه فقد وقع
أجره على الله ومن مات قعصا «2» فقد استوجب المآب (. وذكر ابن المبارك عن فضالة بن
عبيد في حديث ذكر فيه رجلين أحدهما أصيب في غزاة بمنجنيق فمات والآخر مات هناك،
فجلس فضالة عند الميت فقيل له: تركت الشهيد ولم تجلس عنده؟ فقال: ما أبالي من أي
حفرتيهما بعثت، ثم تلا قوله تعالى:" وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ
اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا" الآية كلها. وقال سليمان بن عامر: كان
فضالة برودس أميرا على الأرباع فخرج بجنازتى رجلين: أحدهما قتيل والآخر متوفى،
فرأى ميل الناس مع جنازة القتيل إلى حفرته، فقال: أراكم أيها الناس تميلون مع
القتيل! فوالذي نفسي بيده ما أبالي من أي حفرتيهما بعثت، اقرءوا قوله تعالى:"
وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا". كذا
ذكره الثعلبي في تفسيره، وهو معنى ما ذكره ابن المبارك. واحتج من قال: إن للمقتول
زيادة فضل بما ثبت عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه سئل: أي
الجهاد أفضل؟ قال: (من أهريق دمه وعقر جواده). وإذا كان من أهريق دمه وعقر جواده
أفضل الشهداء علم أنه من لم يكن بتلك الصفة مفضول. قرأ ابن عامر واهل الشام:"
قتلوا" بالتشديد على التكثير. الباقون بالتخفيف." (لَيُدْخِلَنَّهُمْ
مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ)" أي الجنان. قراءة أهل المدينة" مدخلا"
بفتح الميم، أي دخولا. وضمها الباقون، وقد مضى في" سبحان «3»". (وَإِنَّ
اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ) قال ابن عباس: عليم بنياتهم، حليم عن عقابهم.
[سورة الحج (22): آية 60]
ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ
لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60)
__________
(1). راجع ج 5 ص 347 فما بعد.
(2). القعص: أن يضرب الإنسان فيموت مكانه. وأراد بوجوب المآب حسن المرجع بعد
الموت. [.....]
(3). راجع ج 10 ص 313.
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61)
قوله
تعالى: ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ 60 (" ذلِكَ" في موضع رفع، أي ذلك الامر
الذي قصصنا عليك. قال مقاتل: نزلت في قوم من مشركي مكة لقوا قوما من المسلمين
لليلتين بقيتا من المحرم فقالوا: إن أصحاب محمد يكرهون القتال في الشهر الحرام
فاحملوا عليهم، فناشدهم المسلمون ألا يقاتلوهم في الشهر الحرام، فأبى المشركون إلا
القتال، فحملوا عليهم فثبت المسلمون ونصرهم الله على المشركين، وحصل في أنفس
المسلمين من القتال في الشهر الحرام شي، فنزلت هذه الآية. وقيل: نزلت في قوم من
المشركين، مثلوا بقوم من المسلمين قتلوهم يوم أحد فعاقبهم رسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمثله. فمعنى" مَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ
بِهِ 60" أي من جازى الظالم بمثل ما ظلمه، فسمى جزاء العقوبة عقوبة لاستواء
الفعلين في الصورة، فهو مثل:" وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها
40" «1» [الشورى: 40]. ومثل:" فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا
عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ" «2» [البقرة: 194]. وقد تقدم.
(ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ) 60 أي بالكلام والإزعاج من وطنه، وذلك أن المشركين كذبوا
نبيهم وآذوا من آمن به وأخرجوه وأخرجوهم من مكة، وظاهروا على إخراجهم. (لَيَنْصُرَنَّهُ
اللَّهُ) 60 أي لينصرن الله محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه، فإن
الكفار بغوا عليهم. (إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) 60 أي عفا عن المؤمنين
ذنوبهم وقتالهم في الشهر الحرام وستر.
[سورة الحج (22): آية 61]
ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي
اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61)
قوله تعالى: (ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ) أي ذلك الذي
قصصت عليك من نصر المظلوم هو بأنى أنا الذي أولج الليل في النهار فلا يقدر أحد على
ما أقدر عليه، أي من قدر على هذا قدر على أن ينصر عبده. وقد مضى في" آل
عمران" معنى يولج الليل في النهار «3». (وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ)
يسمع الأقوال ويبصر الافعال، فلا يعزب عنه مثقال ذرة ولا دبيب نملة إلا يعلمها
ويسمعها ويبصرها.
__________
(1). راجع ج 16 ص 38 فما بعد.
(2). راجع ج 2 ص 354.
(3). راجع ج 4 ص 56.
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62)
[سورة
الحج (22): آية 62]
ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ
الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62)
قوله تعالى: (ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ) أي ذو الحق، فدينه الحق
وعبادته حق. والمؤمنون يستحقون منه النصر بحكم وعده الحق. (وَأَنَّ ما يَدْعُونَ
مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ) أي الأصنام التي لا استحقاق لها في العبادات. وقرا
نافع وابن كثير وابن عامر وأبو بكر" وأن ما تدعون" بالتاء على الخطاب،
واختاره أبو حاتم. الباقون بالياء على الخبر هنا وفي لقمان «1»، واختاره أبو عبيد.
(وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ) أي العالي على كل شي بقدرته، والعالي عن
الأشباه والأنداد، المقدس عما يقول الظالمون من الصفات التي لا تليق بجلاله.
(الْكَبِيرُ) أي الموصوف بالعظمة والجلال وكبر الشأن. وقيل: الكبير ذو الكبرياء
والكبرياء عبارة عن كمال الذات، أي له الوجود المطلق أبدا وأزلا، فهو الأول
القديم، والآخر الباقي بعد فناء خلقه.
[سورة الحج (22): آية 63]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ
مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63)
قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ- مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ
الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً) دليل على كمال قدرته، أي من قدر على هذا قدر على إعادة
الحياة بعد الموت، كما قال الله عز وجل:" فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا
الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ «2»" [فصلت: 39]. ومثله كثير."
فَتُصْبِحُ" ليس بجواب فيكون منصوبا، وإنما هو خبر عند الخليل وسيبويه. قال
الخليل: المعنى انتبه! أنزل الله من السماء ماء فكان كذا وكذا، كما قال:
ألم تسأل الربع القواء فينطق ... وهل تخبرنك اليوم بيداء سملق «3»
__________
(1). راجع ج 14 ص 78.
(2). راجع ص 6 من هذا الجزء.
(3). البيت لجميل بن عبد الله صاحب بثينة. والقواء (بفتح القاف): القفر. والبيداء:
القفر أيضا، الذي يبيد من سلك فيه. والسملق (بفتح السين وسكون الميم وفتح اللام):
الأرض التي لا تنبت، وهى السهلة المستوية. (شواهد العيني).
لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64)
معناه
قد سألته فنطق. وقيل استفهام تحقيق، أي قد رأيت، فتأمل كيف تصبح! أو عطف لان
المعنى ألم تر أن الله ينزل. وقال الفراء:" أَلَمْ تَرَ" خبر، كما تقول
في الكلام: اعلم أن الله عز وجل ينزل من السماء ماء. (فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً)
أي ذات خضرة، كما تقول: مبقلة ومسبعة، أي ذات بقل وسباع. وهو عبارة عن استعجالها
إثر نزول الماء بالنبات واستمرارها كذلك عادة. قال ابن عطية: وروى عن عكرمة أنه
قال: هذا لا يكون إلا بمكة وتهامة. ومعنى هذا: أنه أخذ قوله:"
فَتُصْبِحُ" مقصودا به صباح ليلة المطر وذهب إلى أن ذلك الاخضرار يتأخر في
سائر البلاد، وقد شاهدت هذا بسوس الأقصى نزل المطر ليلا بعد قحط أصبحت تلك الأرض
الرملة التي نسفتها الرياح قد اخضرت بنبات ضعيف رقيق. (إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ
خَبِيرٌ) قال ابن عباس:" خَبِيرٌ" بما ينطوي عليه العبد من القنوط عند
تأخير المطر." لَطِيفٌ 10" بأرزاق عباده. وقيل:" لَطِيفٌ 10"
باستخراج النبات من الأرض،" خَبِيرٌ" بحاجتهم وفاقتهم.
[سورة الحج (22): آية 64]
لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ
الْحَمِيدُ (64)
قوله تعالى: (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) خلقا وملكا، وكل محتاج
إلى تدبيره وإتقانه. (وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) فلا يحتاج
إلى شي، وهو المحمود في كل حال.
[سورة الحج (22): آية 65]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي
فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ
إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (65)
قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ) ذكر
نعمة أخرى، فأخبر أنه سخر لعباده ما يحتاجون إليه من الدواب والشجر والأنهار.
(وَالْفُلْكَ) أي وسخر لكم الفلك في حال جريها. وقرا أبو عبد الرحمن الأعرج:"
والفلك" رفعا على الابتداء وما بعده خبره.
وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ (66)
الباقون
بالنصب نسقا على قوله:" ما فِي الْأَرْضِ". (وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ
تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ) أي كراهية أن تقع. وقال الكوفيون: لئلا تقع. وإمساكه لها
خلق السكون فيها حالا بعد حال. (إِلَّا بِإِذْنِهِ) أي إلا بإذن الله لها بالوقوع،
فتقع بإذنه، أي بإرادته وتخليته «1». (إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ)
أي في هذه الأشياء التي سخرها لهم.
[سورة الحج (22): آية 66]
وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ
لَكَفُورٌ (66)
قوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ) أي بعد أن كنتم نطفا. (ثُمَّ
يُمِيتُكُمْ) عند انقضاء آجالكم. (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) أي للحساب والثواب والعقاب.
(إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ) أي لجحود لما ظهر من الآيات الدالة على قدرته
ووحدانيته. قال ابن عباس: يريد الأسود ابن عبد الأسد وأبا جهل بن هشام والعاص بن
هشام وجماعة من المشركين. وقيل: إنما قال ذلك لان الغالب على الإنسان كفر النعم،
كما قال تعالى:" وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ «2»" [سبأ: 13].
[سورة الحج (22): آية 67]
لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ
وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ (67)
قوله تعالى: (لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً) أي شرعا. (هُمْ ناسِكُوهُ) أي
عاملون به. (فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ) أي لا ينازعنك أحد منهم فيما يشرع
لأمتك، فقد كانت الشرائع في كل عصر. وروت فرقة أن هذه الآية نزلت بسبب جدال الكفار
في أمر الذبائح، وقولهم للمؤمنين: تأكلون ما ذبحتم ولا تأكلون ما ذبح الله من
الميتة، فكان ما قتل الله أحق أن تأكلوه مما قتلتم أنتم بسكاكينكم، فنزلت الآية
بسبب هذه المنازعة. وقد مضى هذا في" الانعام «3»" والحمد لله. وقد تقدم
في هذه السورة ما للعلماء في قوله تعالى:" مَنْسَكاً «4»" [الحج: 34].
وقوله:" هُمْ ناسِكُوهُ" يعطى أن المنسك المصدر، ولو كان الموضع لقال هم
ناسكون فيه.
__________
(1). كذا في ب وط وك وى. وفى أوج: بحيلنه.
(2). راجع ج 14 ص 276.
(3). راجع ج 7 ص 72.
(4). ص 58 من هذا الجزء.
وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69)
وقال
الزجاج:" فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ" أي فلا يجادلنك، ودل على
هذا" وَإِنْ جادَلُوكَ". ويقال: قد نازعوه فكيف قال فلا ينازعنك،
فالجواب أن المعنى فلا تنازعهم أنت. نزلت الآية قبل الامر بالقتال، تقول: لا
يضاربنك فلان فلا تضاربه أنت، فيجري هذا في باب المفاعلة. ولا يقال: لا يضربنك زيد
وأنت تريد لا تضرب زيدا. وقرا أبو مجلز:" فلا ينزعنك في الامر" أي لا
يستخفنك «1» ولا يغلبنك عن دينك. وقراءة الجماعة من المنازعة. ولفظ النهى في
القراءتين للكفار، والمراد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (وَادْعُ
إِلى رَبِّكَ) أي إلى توحيده ودينه والايمان به. (إنك لعلى هدى) أي دين. (مستقيم)
أي قويم لا اعوجاج فيه.
[سورة الحج (22): الآيات 68 الى 69]
وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ
بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69)
قوله تعالى: (وَإِنْ جادَلُوكَ) أي خاصموك يا محمد، يريد مشركي مكة. (فَقُلِ
اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ) يريد من تكذيبهم محمدا صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عن ابن عباس. وقال مقاتل: هذه الآية نزلت على النبي صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة الاسراء وهو في السماء السابعة لما رأى من آيات
ربه الكبرى، فأوحى الله إليه:" وَإِنْ جادَلُوكَ" بالباطل فدافعهم
بقولك:" اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ" من الكفر والتكذيب، فأمره
الله تعالى بالاعراض عن مماراتهم صيانة له عن الاشتغال بتعنتهم، ولا جواب لصاحب
العناد. (اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) يريد بين النبي صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقومه. (فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) يريد في
خلافكم آياتي، فتعرفون حينئذ الحق من الباطل. مسألة- في هذه الآية أدب حسن علمه
الله عباده في الرد على من جادل تعنتا ومراء ألا يجاب ولا يناظر ويدفع بهذا القول
الذي علمه الله لنبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقد قيل: إن هذه الآية
منسوخة بالسيف، يعنى السكوت عن مخالفه والاكتفاء بقوله:" اللَّهُ يَحْكُمُ
بَيْنَكُمْ".
__________
(1). كذا في أوب وج وط وك وى.
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70)
[سورة
الحج (22): آية 70]
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ
فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70)
قوله تعالى: (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ
وَالْأَرْضِ) 70 أي وإذ قد علمت يا محمد هذا وأيقنت فاعلم أنه يعلم أيضا ما أنتم
مختلفون فيه فهو يحكم بينكم. وقد قيل: إنه استفهام تقرير للغير. (إِنَّ ذلِكَ فِي
كِتابٍ) 70 أي ما يجرى في العالم فهو مكتوب عند الله في أم الكتاب. (إِنَّ ذلِكَ
عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) أي إن الفصل بين المختلفين على الله يسير. وقيل: المعنى إن
كتاب القلم الذي أمره أن يكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة على الله يسير.
[سورة الحج (22): آية 71]
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَما لَيْسَ
لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71)
قوله تعالى: (وَيَعْبُدُونَ) يريد كفار قريش. (مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لَمْ
يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً) أي حجة وبرهانا، وقد تقدم في" آل عمران" «1».
(وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ).
[سورة الحج (22): آية 72]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ
كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ
آياتِنا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ
الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72)
قوله تعالى: (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ) يعنى القرآن. (تَعْرِفُ
فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ) أي الغضب والعبوس. (يَكادُونَ
يَسْطُونَ) أي يبطشون. والسطوة شدة البطش، يقال: سطا به يسطو إذا بطش به، كان ذلك
بضرب أو بشتم، وسطا
__________
(1). راجع ج 4 ص 232.
يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73)
عليه.
(بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا) وقال ابن عباس: يسطون يبسطون إليهم
أيديهم. محمد بن كعب: أي يقعون بهم. الضحاك: أي يأخذونهم أخذا باليد، والمعنى
واحد. واصل السطو القهر. والله ذو سطوات، أخذات شديدة. (قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ
بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ) أي أكره من هذا القرآن الذي تسمعون هو النار.
فكأنهم قالوا: ما الذي هو شر، فقيل هو النار. وقيل: أي هل أنبئكم بشر مما يلحق
تالى القرآن منكم هو النار، فيكون هذا وعيدا لهم على سطواتهم بالذين يتلون القرآن.
ويجوز في" النَّارُ" الرفع والنصب والخفض، فالرفع على هو النار، أو هي
النار. والنصب بمعنى أعنى، أو على إضمار فعل مثل الثاني، أو يكون محمولا على
المعنى، أي أعرفكم بشر من ذلكم النار. والخفض على البدل. (وَعَدَهَا اللَّهُ
الَّذِينَ كَفَرُوا) في القيامة. (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي الموضع الذي يصيرون
إليه وهو النار.
[سورة الحج (22): آية 73]
يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ
مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ
يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ
وَالْمَطْلُوبُ (73)
قوله تعالى: (يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ) هذا متصل
بقوله:" وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ
سُلْطاناً". وإنما قال:" ضُرِبَ مَثَلٌ" لان حجج الله تعالى عليهم
بضرب الأمثال أقرب إلى أفهامهم. فإن قيل: فأين المثل المضروب، ففيه وجهان: الأول-
قال الأخفش: ليس ثم مثل، وإنما المعنى ضربوا لله مثلا فاستمعوا قولهم، يعنى أن الكفار
جعلوا لله مثلا بعبادتهم غيره، فكأنه قال جعلوا لي شبيها في عبادتي فاستمعوا خبر
هذا الشبيه. الثاني- قول القتبي: وأن المعنى يا أيها الناس، مثل من عبد آلهة لم
تستطع أن تخلق ذبابا وإن سلبها الذباب شيئا لم تستطع أن تستنقذه منه. وقال النحاس:
المعنى ضرب الله عز وجل ما يعبد من دونه مثلا، قال: وهذا من أحسن ما قيل فيه، أي
بين الله لكم شبها
مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74)
ولمعبودكم.
(إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ) قراءة العامة"
تَدْعُونَ" بالتاء. وقرا السلمى وأبو العالية ويعقوب:" يدعون"
بالياء على الخبر. والمراد الأوثان الذين عبدوهم من دون الله، وكانت حول الكعبة
«1»، وهي ثلاثمائة وستون صنما. وقيل: السادة الذين صرفوهم عن طاعة الله عز وجل.
وقيل: الشياطين حملوهم على معصية الله تعالى، والأول أصوب. (لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً)
الذباب اسم واحد للذكر والأنثى، والجمع القليل أذبة والكثير ذبان، على مثل غراب
وأغربه وغربان، وسمي به لكثرة حركته. الجوهري: والذباب معروف الواحدة ذبابة، ولا
تقل ذبانة. والمذبة ما يذب به الذباب. وذباب أسنان الإبل حدها. وذباب السيف طرفه
الذي يضرب به. وذباب العين إنسانها. والذبابة البقية من الدين. وذبب النهار إذا لم
يبق منه إلا بقية. والتذبذب التحرك. والذبذبة نوس الشيء المعلق في الهواء. والذبذب
الذكر لتردده. وفي الحديث (من وقى شر ذبذبه). [وهذا مما لم يذكره، أعنى قوله: وفي
الحديث «2»]. (وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ)
الاستنقاذ والإنقاذ التخليص. قال ابن عباس: كانوا يطلون أصنامهم بالزعفران فتجف
فيأتي فيختلسه. وقال السدى: كانوا يجعلون للأصنام طعاما فيقع عليه الذباب فيأكله.
(ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) قيل: الطالب الآلهة والمطلوب الذباب. وقيل
بالعكس. وقيل: الطالب عابد الصنم والمطلوب الصنم، فالطالب يطلب إلى هذا الصنم
بالتقرب إليه، والصنم المطلوب إليه. وقد قيل:" وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ
شَيْئاً" راجع إلى ألمه في قرص «3» أبدانهم حتى يسلبهم الصبر لهم والوقار
معها. وخص الذباب لأربعة أمور تخصه: لمهانته وضعفه ولاستقذاره وكثرته، فإذا كان
هذا الذي هو أضعف الحيوان وأحقره لا يقدر من عبدوه من دون الله عز وجل على خلق
مثله ودفع أذيته فكيف يجوز أن يكونوا آلهة معبودين وأربابا مطاعين. وهذا من أقوى
حجة وأوضح برهان.
[سورة الحج (22): آية 74]
ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74)
__________
(1). في ك: حول البيت. [.....]
(2). ما نقله المؤلف رحمه الله عن الجوهري مذكور كله في الصحاح إلى قوله:"
... شر ذبذبه". والذي يبدو أن نسخة المصنف من الجوهري غير مشتملة على هذه
الجمل. وفى ج: وفى التنزيل يدل وفى الحديث.
(3). في ب وك: قرض. (12- 7)
اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75)
قوله
تعالى: (ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ) أي ما عظموه حق عظمته، حيث جعلوا هذه
الأصنام شركاء له. وقد مضى في" الانعام «1»". (إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ
عَزِيزٌ) 40 تقدم.
[سورة الحج (22): الآيات 75 الى 76]
اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ
سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَإِلَى
اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76)
قوله تعالى: (اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ) ختم
السورة بأن الله اصطفى محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لتبليغ الرسالة،
أي ليس بعثه محمدا أمرا بدعيا. وقيل: إن الوليد بن المغيرة قال: أو أنزل عليه
الذكر من بيننا، فنزلت الآية. وأخبر أن الاختيار إليه سبحانه وتعالى. (إِنَّ
اللَّهَ سَمِيعٌ) لأقوال عباده (بَصِيرٌ) بمن يختاره من خلقه لرسالته. (يَعْلَمُ
ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) يريد ما قدموا. (وَما خَلْفَهُمْ) يريد ما خلفوا، مثل قوله
في يس:" إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا «2»"
[يس: 12] يريد ما بين أيديهم" وَآثارَهُمْ" يريد ما خلفوا. (وَإِلَى
اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) 210.
[سورة الحج (22): آية 77]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا
الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77)
قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا) تقدم في أول
السورة أنها فضلت بسجدتين، وهذه السجدة الثانية لم يرها مالك وأبو حنيفة من
العزائم، لأنه قرن الركوع بالسجود، وأن المراد بها الصلاة المفروضة، وخص الركوع
والسجود تشريفا للصلاة. وقد مضى القول في الركوع والسجود مبينا في" البقرة
«3»" والحمد لله وحده. قوله تعالى: (وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ) أي امتثلوا أمره.
(وَافْعَلُوا الْخَيْرَ) ندب فيما عدا الواجبات التي صح وجوبها من غير هذا الموضع.
__________
(1). راجع ج 7 ص 36.
(2). راجع ج 15 ص 11.
(3). راجع ج 1 ص 344.
وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)
[سورة
الحج (22): آية 78]
وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ
فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ
الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ
وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ
وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ
(78)
قوله تعالى: (وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ) قيل: عنى به جهاد الكفار.
وقيل: هو إشارة إلى امتثال جميع ما أمر الله به، والانتهاء عن كل ما نهى الله عنه،
أي جاهدوا أنفسكم في طاعة الله وردوها عن الهوى، وجاهدوا الشيطان في رد وسوسته،
والظلمة في رد ظلمهم، والكافرين في رد كفرهم. قال ابن عطية: وقال مقاتل وهذه الآية
منسوخة بقوله تعالى:" فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ «1»"
[التغابن: 16]. وكذا قال هبة الله: إن قوله:" حَقَّ جِهادِهِ" وقوله في
الآية الأخرى." حَقَّ تُقاتِهِ «2» 10" [آل عمران: 102] منسوخ بالتخفيف
إلى الاستطاعة في هذه الأوامر. ولا حاجة إلى تقدير النسخ، فإن هذا هو المراد من
أول الحكم، لان" حق جهاده" ما ارتفع عنه الحرج. وقد روى سعيد بن المسيب
قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (خير دينكم أيسره). وقال
أبو جعفر النحاس. وهذا مما لا يجوز أن يقع فيه نسخ، لأنه واجب على الإنسان، كما
روى حيوة بن شريح يرفعه إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
(المجاهد من جاهد نفسه لله عز وجل) وكما روى أبو غالب عن أبى أمامة أن رجلا سأل
النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أي الجهاد أفضل؟ عند الجمرة الاولى فلم
يجبه، ثم سأله عند الجمرة الثانية فلم يجبه، ثم سأله عند جمرة العقبة، فقال النبي
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أين السائل)؟ فقال: أنا ذا، فقال عليه
السلام: (كلمة عدل عند سلطان جائر).
__________
(1). راجع ج 18 ص 144.
(2). راجع ج 4 ص 157.
قوله
تعالى: (هُوَ اجْتَباكُمْ) أي اختاركم للذب عن دينه والتزام أمره، وهذا تأكيد
للأمر بالمجاهدة، أي وجب عليكم أن تجاهدوا لان الله اختاركم له. قوله تعالى: (وَما
جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) فيه ثلاث مسائل: الاولى- قوله تعالى:
(مِنْ حَرَجٍ) أي من ضيق. وقد تقدم في" الانعام»
". وهذه الآية تدخل في كثير من الأحكام، وهي مما خص الله بها هذه الامة. روى
معمر عن قتادة قال: أعطيت هذه الامة ثلاثا لم يعطها إلا نبى: كان يقال للنبي اذهب
فلا حرج عليك، وقيل لهذه الامة:" وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ
حَرَجٍ". والنبي شهيد على أمته، وقيل لهذه الامة:" لِتَكُونُوا شُهَداءَ
عَلَى النَّاسِ". ويقال للنبي: سل تعطه، وقيل لهذه الامة:" ادْعُونِي
أَسْتَجِبْ لَكُمْ «2» 40: 60". الثانية- واختلف العلماء في هذا الحرج الذي
رفعه الله تعالى، فقال عكرمة: هو ما أحل من النساء مثنى وثلاث ورباع، وما ملكت
يمينك. وقيل: المراد قصر الصلاة، والإفطار للمسافر، وصلاة الإيماء لمن لا يقدر على
غيره، وحط الجهاد عن الأعمى والأعرج والمريض والعديم الذي لا يجد ما ينفق في غزوه،
والغريم ومن له والدان، وحط الإصر الذي كان على بنى إسرائيل. وقد مضى تفصيل أكثر
هذه الأشياء «3». وروى عن ابن عباس والحسن البصري أن هذه في تقديم الأهلة وتأخيرها
في الفطر والأضحى والصوم، فإذا أخطأت الجماعة هلال ذى الحجة فوقفوا قبل يوم عرفة
بيوم أو وقفوا يوم النحر أجزأهم، على خلاف فيه بيناه في كتاب المقتبس في شرح موطأ
مالك بن أنس رضى الله عنه. وما ذكرناه هو الصحيح في الباب. وكذلك الفطر والأضحى،
لما رواه حماد بن زيد عن أيوب عن محمد بن المنكدر عن أبى هريرة قال قال رسول الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (فطركم يوم تفطرون وأضحاكم يوم تضحون). خرجه
أبو داود والدارقطني، ولفظه ما ذكرناه. والمعنى: باجتهادكم من غير حرج يلحقكم. وقد
روى الأئمة أنه عليه السلام سئل يوم النحر عن أشياء، فما يسأل عن
__________
(1). راجع ج 7 ص 80 وص 300.
(2). راجع ج 15 ص 326.
(3). راجع ج 2 ص 155 وج 3 ص 430.
أمر
مما ينسى المرء أو يجهل من تقديم الأمور بعضها قبل بعض وأشباهها إلا قال فيها:
(أفعل ولا حرج). الثالثة- قال العلماء: رفع الحرج إنما هو لمن استقام على منهاج
الشرع، وأما السلابة والسراق وأصحاب الحدود فعليهم الحرج، وهم جاعلوه على أنفسهم
بمفارقتهم الدين، وليس في الشرع أعظم حرجا من إلزام ثبوت رجل لاثنين في سبيل الله
تعالى، ومع صحة اليقين وجودة العزم ليس بحرج. قوله تعالى: (مِلَّةَ أَبِيكُمْ) قال
الزجاج: المعنى اتبعوا ملة أبيكم. الفراء: انتصب على تقدير حذف الكاف، كأنه قال
كملة. وقيل: المعنى وافعلوا الخير فعل أبيكم، فأقام الفعل مقام الملة. وإبراهيم هو
أبو العرب قاطبة. وقيل: الخطاب لجميع المسلمين، وإن لم يكن الكل من ولده، لان حرمة
إبراهيم على المسلمين كحرمة الوالد على الولد. (هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ
مِنْ قَبْلُ) قال ابن زيد والحسن:" هُوَ" راجع إلى إبراهيم، والمعنى: هو
سماكم المسلمين من قبل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (وَفِي هذا) أي
وفي حكمه أن من اتبع محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهو مسلم. قال ابن
زيد: وهو معنى قوله:" رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ
ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ «1»" [البقرة: 128]. قال النحاس: وهذا
القول مخالف لقول عظماء «2» الامة. روى علي بن أبى طلحة عن ابن عباس قال: سماكم
الله عز وجل المسلمين من قبل، أي في الكتب المتقدمة وفي هذا القرآن، قاله مجاهد
وغيره. (لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ) أي بتبليغه إياكم.
(وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) أن رسلهم قد بلغتهم، كما تقدم في"
البقرة «3»". (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا
بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) قد تقدم «4»
مستوفى والحمد لله [رب العالمين «5»].
__________
(1). راجع ج 2 ص 126 فما بعد.
(2). في ك: علماء.
(3). راجع ج 2 ص 126 ص 153 فما بعد.
(4). راجع ج 1 ص ج 4 ص 156. [.....]
(5). من ك.
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11)
[سورة
المؤمنون 22]
سورة المؤمنون مكية كلها في قول الجميع بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة المؤمنون (23): الآيات 1 الى 11]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (2)
وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ
فاعِلُونَ (4)
وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (5) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما
مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ
ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ
وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ (9)
أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها
خالِدُونَ (11)
فيه تسع مسائل: الاولى- قوله تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) روى البيهقي
من حديث أنس عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: (لما خلق الله
جنة عدن وغرس أشجارها بيده قال لها تكلمي فقالت قد أفلح المؤمنون). وروى النسائي
عن عبد الله بن السائب قال: حضرت رسول الله صلى يوم الفتح فصلى في قبل الكعبة،
فخلع نعليه فوضعهما عن يساره فافتتح سورة المؤمنون، فلما جاء ذكر موسى أو عيسى
عليهما السلام أخذته سلعة فركع. خرجه مسلم بمعناه. وفي الترمذي عن عمر بن الخطاب
رضى الله عنه قال: كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا أنزل عليه
الوحى سمع عند وجهه كدوي النحل، وأنزل عليه يوما فمكثنا [عنده «1»] ساعة فسرى عنه
فاستقبل القبلة فرفع يديه وقال: (اللهم زدنا ولا تنقصنا وأرضنا وأرض عنا- ثم قال-
__________
(1). من ك.
(
أنزل
على عشر آيات من أقامهن دخل الجنة- ثم قرأ- قد أفلح المؤمنون) حتى ختم عشر آيات،
صححه ابن العربي. وقال النحاس: معنى" من أقامهن" من أقام عليهن ولم
يخالف ما فيهن، كما تقول: فلان يقوم بعمله. ثم نزل بعد هذه الآيات فرض الوضوء
والحج فدخل معهن. وقرا طلحة بن مصرف:" قد أفلح المؤمنون" بضم الالف على
الفعل المجهول، أي أبقوا في الثواب والخير. وقد مضى في أول" البقرة" من
الفلاح لغة ومعنى «1»، والحمد لله وحده. الثانية- قوله تعالى: (خاشِعُونَ) روى
المعتمر عن خالد عن محمد بن سيرين قال: كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ينظر إلى السماء في الصلاة، فأنزل الله عز وجل هذه الآية"
الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ". فجعل رسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينظر حيث يسجد. وفي رواية هشيم: كان المسلمون يلتفتون في
الصلاة وينظرون حتى أنزل الله تعالى:" قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ.
الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ"، فأقبلوا على صلاتهم وجعلوا ينظرون
أمامهم. وقد تقدم ما للعلماء في حكم المصلى إلى حيث ينظر في" البقرة"
عند قوله:" فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ «2»"
[البقرة: 144]. وتقدم أيضا معنى الخشوع لغة ومعنى في البقرة أيضا عند قوله
تعالى:" وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ «3»" [البقرة:
45]. والخشوع محله القلب، فإذا خشع خشعت الجوارح كلها لخشوعه، إذ هو ملكها، حسبما
بيناه أول البقرة. وكان الرجل من العلماء إذا أقام الصلاة وقام إليها يهاب الرحمن
أن يمد بصره إلى شي وأن يحدث نفسه بشيء من الدنيا. وقال عطاء: هو ألا يعبث بشيء من
جسده في الصلاة. وأبصر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجلا يعبث بلحيته
في الصلاة فقال: (لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه). وقال أبو ذر قال النبي صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (إذا قام أحدكم إلى الصلاة فإن الرحمة تواجهه فلا
يحركن الحصى". رواه الترمذي. وقال الشاعر:
__________
(1). راجع ج 1 ص 181.
(2). راجع ج 2 ص 158.
(3). راجع ج 1 374.
ألا
في الصلاة الخير والفضل أجمع ... لان بها الآراب «1» لله تخضع
وأول فرض من شريعة ديننا ... وآخر ما يبقى إذا الدين يرفع
فمن قام للتكبير لاقنه رحمة ... وكان كعبد باب مولاه يقرع
وصار لرب العرش حين صلاته ... نجيا فيا طوباه لو كان يخشع
وروى أبو عمران «2» الجوني قال: قيل لعائشة ما كان خلق رسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قالت: أتقرءون سورة المؤمنين؟ قيل نعم. قالت: اقرءوا، فقرئ
عليها:" قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ"- حتى بلغ-"
يُحافِظُونَ". وروى النسائي عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: كان رسول الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يلحظ في صلاته يمينا وشمالا، ولا يلوى عنقه خلف
ظهره. وقال كعب بن مالك في حديثه الطويل: ثم أصلى قريبا منه- يعنى من النبي صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إلى وإذا
التفت نحوه أعرض عنى ... الحديث، ولم يأمره بإعادة. الثالثة- اختلف الناس في
الخشوع، هل هو من فرائض الصلاة أو من فضائلها ومكملاتها على قولين. والصحيح الأول،
ومحله القلب، وهو أول عمل يرفع من الناس، قاله عبادة بن الصامت، رواه الترمذي من
حديث جبير بن نفير عن أبى الدرداء، وقال: هذا حديث حسن غريب. وقد خرجه النسائي من
حديث جبير بن نفير أيضا عن عوف بن مالك الأشجعي من طريق صحيحة «3». قال أبو عيسى:
ومعاوية «4» بن صالح ثقة عند أهل الحديث، ولا نعلم أحدا تكلم فيه غير يحيى بن سعيد
القطان. قلت: معاوية بن صالح أبو عمرو ويقال أبو عمر الحضرمي الحمصي قاضى الأندلس،
سئل عنه أبو حاتم الرازي فقال: صالح الحديث، يكتب حديثه ولا يحتج به. واختلف فيه
قول يحيى بن معين، ووثقه عبد الرحمن بن مهدى أحمد بن حنبل وأبو زرعة الرازي، واحتج
به مسلم في صحيحه. وتقدم في" البقرة" معنى اللغو والزكاة فلا معنى
للإعادة «5». وقال
__________
(1). الآراب: جمع الارب (بكسر فسكون) وهو العضو.
(2). كذا في أوب وج وط وك.
(3). كذا في كل الأصول وهى لغة الحجاز والتذكير لغة نجد وبها جاء القرآن.
(4). هو أحد رجال سند الحديث المتقدم.
(5). راجع ج 1 ص 343، ج 3 ص 99.
الضحاك:
إن اللغو هنا الشرك. وقال الحسن: إنه المعاصي كلها. فهذا قول جامع يدخل فيه قول من
قال هو: الشرك، وقول من قال هو الغناء، كما روى مالك بن أنس عن محمد ابن المنكدر،
على ما يأتي في" لقمان" بيانه «1». ومعنى" فاعِلُونَ" أي
مؤدون، وهى فصيحة، وقد جاءت في كلام العرب. قال أمية بن أبى الصلت:
المطعمون الطعام في السنة الأز ... مه والفاعلون للزكوات
الرابعة- قوله تعالى: (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ) قال ابن العربي:"
من غريب القرآن أن هذه الآيات العشر عامة في الرجال والنساء، كسائر ألفاظ القرآن
التي هي محتملة لهم فإنها عامة فيهم، إلا قوله" وَالَّذِينَ هُمْ
لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ" فإنما خاطب بها الرجال خاصة دون الزوجات، بدليل
قوله:" إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ". وإنما
عرف حفظ المرأة فرجها من أدلة أخرى كآيات الإحصان عموما وخصوصا وغير ذلك من
الادلة". قلت: وعلى هذا التأويل في الآية فلا يحل لامرأة أن يطأها من تملكه
إجماعا من العلماء، لأنها غير داخلة في الآية، ولكنها لو أعتقته بعد ملكها له جاز
له أن يتزوجها كما يجوز لغيره عند الجمهور. وروى عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة
والشعبي والنخعي أنها لو أعتقته حين ملكته كانا على نكاحهما. قال أبو عمر: ولا يقل
هذا أحد من فقهاء الأمصار، لان تملكها عندهم يبطل النكاح بينهما، وليس ذلك بطلاق
وإنما هو فسخ للنكاح، وأنها لو أعتقته بعد ملكها له لم يراجعها إلا بنكاح جديد ولو
كانت في عدة منه. الخامسة- قال محمد بن عبد الحكم: سمعت حرملة بن عبد العزيز قال:
سألت مالكا عن الرجل يجلد عميرة، فتلا هذه الآية:" وَالَّذِينَ هُمْ
لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ"- إلى قوله-" العادُونَ". وهذا لأنهم
يكنون عن الذكر بعميرة، وفية يقول الشاعر:
إذا حللت بواد لا أنيس به ... فاجلد عميرة لا داء ولا حرج
ويسميه أهل العراق الاستمناء، وهو استفعال من المنى. وأحمد بن حنبل على ورعه
يجوزه، ويحتج بأنه إخراج فضلة من البدن فجاز عند الحاجة، أصله الفصد والحجامة.
وعامة
__________
(1). راجع ج 14 ص 51 فما بعد.
العلماء
على تحريمه. وقال بعض العلماء: إنه كالفاعل بنفسه، وهى معصية أحدثها الشيطان
وأجراها بين الناس حتى صارت قيلة، ويا ليتها لم تقل، ولو قام الدليل على جوازها
لكان ذو المروءة يعرض عنها لدناءتها. فإن قيل: إنها خير من نكاح الامة، قلنا: نكاح
الامة ولو كانت كافرة على مذهب بعض العلماء خير من هذا، وإن كان قد قال به قائل
أيضا، ولكن الاستمناء ضعيف في الدليل، عار بالرجل الدنيء «1» فكيف بالرجل الكبير.
السادسة- قوله تعالى: (إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ) قال الفراء: أي من أزواجهم
اللاتي أحل الله لهم لا يجاوزون «2». (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) في موضع خفض
معطوفة على" أَزْواجِهِمْ 240" و" ما" مصدرية. وهذا يقتضى
تحريم الزنى، وما قلناه من الاستنماء، ونكاح المتعة، لان المتمتع بها لا تجرى مجرى
الزوجات، لا ترث ولا تورث، ولا يلحق به ولدها، ولا يخرج من نكاحها بطلاق يستأنف
لها، وإنما يخرج بانقضاء المدة التي عقدت عليها وصارت كالمستأجرة. ابن العربي: إن
قلنا إن نكاح المتعة جائز فهي زوجة إلى أجل ينطلق عليها اسم الزوجية. وإن قلنا
بالحق الذي أجمعت عليه الامة من تحريم نكاح المتعة لما كانت زوجة فلم تدخل في
الآية. قلت: وفائدة هذا الخلاف هل يجب الحد ولا يلحق الولد كالزنى الصريح، أو يدفع
الحد للشبهة ويلحق الولد؟ قولان لأصحابنا. وقد كان للمتعة في التحليل والتحريم
أحوال، فمن ذلك أنها كانت مباحة ثم حرمها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
زمن خيبر، ثم حللها في غزاة الفتح، ثم حرمها بعد، قاله ابن خويز منداد من أصحابنا
وغيره، وإليه أشار ابن العربي. وقد مضى في" النساء" القول فيها مستوفى
«3». السابعة- قوله تعالى: (فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ
العادُونَ) فسمى من نكح ما «4» لا يحل عاديا، وأوجب عليه الحد لعدوانه، واللائط
عاد قرآنا ولغة، بدليل قوله تعالى:" بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ"
[الشعراء: 166] وكما تقدم في" الأعراف «5»"، فوجب أن يقام الحد عليهم،
وهذا ظاهر لا غبار عليه.
__________
(1). في ب: البهي.
(2). في ب وط: يجاوزن.
(3). راجع ج 5 ص 129. [.....]
(4). في ك: من لا تحل.
(5). راجع ج 7 ص 242 فما بعد.
قلت: فيه نظر، ما لم يكن جاهلا أو متأولا، وإن كان الإجماع منعقدا على أن قوله تعالى:" وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ. إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ" خص به الرجال دون النساء، فقد روى معمر عن قتادة قال: تسررت امرأة غلامها، فذكر ذلك لعمر فسألها: ما حملك على ذلك؟ قالت: كنت أراه يحل لي بملك يميني كما يحل للرجل المرأة بملك اليمين، فاستشار عمر في رجمها أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالوا: تأولت كتاب الله عز وجل على غير تأويله: لا رجم عليها. فقال عمر: لا جرم! والله لا أحلك لحر بعده أبدا. عاقبها بذلك ودرأ الحد عنها، وام العبد ألا يقربها. وعن أبى بكر بن عبد الله أنه سمع أباه يقول: أنا حضرت عمر بن عبد العزيز جاءته امرأة بغلام لها وضي فقالت: إنى استسررته فمنعني بنو عمى عن ذلك، وإنما أنا بمنزلة الرجل تكون له الوليدة فيطؤها، فإنه عنى بنى عمى، فقال عمر: أتزوجت قبله؟ قالت نعم، قال أما والله لولا منزلتك من الجهالة لرجمتك بالحجارة، ولكن اذهبوا به فبيعوه إلى من يخرج به إلى غير بلدها. و" وَراءَ 10" بمعنى سوى، وهو مفعول ب" ابْتَغى " أي من طلب سوى الأزواج والولائد المملوكة له. وقال الزجاج: أي فمن ابتغى ما بعد ذلك، فمفعول الابتغاء محذوف، و" وَراءَ 10" ظرف. و" ذلِكَ" يشار به إلى كل مذكور مؤنثا كان أو مذكرا. (فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ) أي المجاوزون الحد، من عدا أي جاوز الحد وجازة. الثامنة- قوله تعالى: (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ) والذين هم على صلواتهم يحافظون) قرأ الجمهور:" لِأَماناتِهِمْ" بالجمع. وابن كثير بالإفراد. والأمانة والعهد يجمع كل ما يحمله الإنسان من أمر دينه ودنياه قولا فعلا. وهذا يعم معاشرة الناس والمواعيد وغير ذلك، وغاية ذلك حفظه والقيام به. والأمانة أعم من العهد، وكل عهد فهو أمانة فيما تقدم فيه قول أو فعل أو معتقد. التاسعة- قرأ الجمهور:" صَلَواتِهِمْ" وحمزة والكسائي" صلاتهم" بالإفراد، وهذا الافراد اسم جنس فهو في معنى الجميع. والمحافظة على الصلاة إقامتها والمبادرة إليها أوائل
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14)
أوقاتها،
وإتمام ركوعها وسجودها. وقد تقدم في" البقرة «1»" مستوفى. ثم قال:
(أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ) 10 أي من عمل بما ذكر في هذه الآيات فهم الوارثون،
أي يرثون منازل أهل النار من الجنة. وفي الخبر عن أبى هريرة رضى الله عنه عن النبي
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إن الله تعالى جعل لكل إنسان مسكنا في الجنة
ومسكنا في النار فأما المؤمنون فيأخذون منازلهم ويرثون منازل الكفار ويجعل الكفار
في منازلهم في النار (. خرجه ابن ماجة بمعناه. عن أبى هريرة أيضا قال قال رسول
الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:) ما منكم من أحد إلا وله منزلان منزل في
الجنة ومنزل في النار فإذا مات فدخل النار ورث أهل الجنة منزله فذلك قوله
تعالى:" أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ 10" (. إسناده صحيح. ويحتمل أن يسمى
الحصول على الجنة وراثة من حيث حصولها دون غيرهم، فهو اسم مستعار على الوجهين.
والفردوس ربوة الجنة وأوسطها وأفضلها. خرجه الترمذي من حديث الربيع بنت النضر أم
حارثة، وقال: حديث حسن صحيح. وفي صحيح «2» مسلم (فإذا سألتم الله فسلوه الفردوس
فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة ومنه تفجر أنهار الجنة). قال أبو حاتم محمد بن حبان:
قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فإنه أوسط الجنة) يريد أن الفردوس في وسط
الجنان في العرض وهو أعلى الجنة، يريد في الارتفاع. وهذا كله يصحح قول أبى هريرة:
إن الفردوس جبل الجنة التي تتفجر منه أنهار الجنة. واللفظة فيما قال مجاهد: رومية
عربت. وقيل: هي فارسية عربت. وقيل: حبشية، وإن ثبت ذلك فهو وفاق بين اللغات. وقال
الضحاك: هو عربي وهو الكرم، والعرب تقول للكروم فراديس. (هُمْ فِيها خالِدُونَ)
فأنث على معنى الجنة.
[سورة المؤمنون (23): الآيات 12 الى 14]
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْناهُ
نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً
فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا
الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ
الْخالِقِينَ (14)
__________
(1). راجع ج 1 ص 164 فما بعد.
(2). كذا في ب وج وك.
فيه
خمس مسائل: الاولى- قوله تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ) الإنسان هنا آدم
عليه الصلاة والسلام، قاله قتادة وغيره، لأنه استل من الطين. ويجيء الضمير في
قوله: (ثُمَّ جَعَلْناهُ) عائدا على ابن آدم، وإن كان لم يذكر لشهرة الامر، فإن
المعنى لا يصلح إلا له. نظير ذلك" حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ «1»" [ص:
32]. وقيل: المراد بالسلالة ابن آدم، قاله ابن عباس وغيره. والسلالة على هذا صفوة
الماء، يعنى المنى. والسلالة فعالة من السل وهو استخراج الشيء من الشيء، يقال:
سللت الشعر من العجين، والسيف من الغمد فانسل، ومنه قوله:
فسلي ثيابي من ثيابك تنسل «2»
فالنطفة سلالة، والولد سليل وسلالة، عنى به الماء يسل من الظهر سلا. قال الشاعر:
فجاءت به عضب الأديم غضنفرا ... سلالة فرج كان غير حصين «3»
وقال آخر:
وما هند إلا مهرة عربية ... سليلة أفراس تجللها بغل «4»
وقوله:" مِنْ طِينٍ)" أي أن الأصل آدم وهو من طين. قلت: أي من طين خالص،
فأما ولده فهو من طين ومنى، حسبما بيناه في أول سورة الانعام «5». وقال الكلبي:
السلالة الطين إذا عصرته انسل من بين أصابعك، فالذي يخرج هو السلالة. الثانية-
قوله تعالى: (نُطْفَةً) قد مضى القول في النطفة والعلقة والمضغة وما في ذلك من
الأحكام في أول الحج «6»، والحمد لله على ذلك. الثالثة- قوله تعالى: (ثُمَّ
أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) اختلف الناس في الخلق الأخر، فقال ابن عباس والشعبي
وأبو العالية والضحاك وابن زيد: هو نفخ الروح فيه بعد أن كان
__________
(1). راجع ج 15 ص 195 فما بعد.
(2). هذا عجز بيت من معلقة امرئ القيس. وصدره:
وإن تك قد ساءتك منى خليقة
(3). البيت لحسان بن ثابت.
(4). نسب صاحب لسان العرب هذا البيت لهند بنت النعمان (مادة سلل). وتجللها: علاها.
وقوله:" بغل" قال ابن برى: وذكر بعضهم أنها تصحيف، وأن صوابه"
نغل" بالنون وهو الخسيس من الناس والدواب، وفى ب وجوك: تحللها. بالمهملة وهو
المشهور.
(5). راجع ج 6 ص 387.
(6). راجع ص 6 من هذا الجزء.
جمادا.
وعن ابن عباس: خروجه إلى الدنيا. وقال قتادة عن فرقة: نبات شعره. الضحاك: خروج
الأسنان ونبات الشعر. مجاهد: كمال شبابه، وروى عن ابن عمر. والصحيح أنه عام في هذا
وفي غيره من النطق والإدراك وحسن المحاولة وتحصيل المعقولات إلى أن يموت. الرابعة-
قوله تعالى: (فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) يروى أن عمر بن الخطاب
لما سمع صدر الآية إلى قوله:" خلقا آخر" قال فتبارك الله أحسن الخالقين،
فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (هكذا أنزلت). وفي مسند
الطيالسي: ونزلت" وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ
طِينٍ" الآية، فلما نزلت قلت أنا: تبارك الله أحسن الخالقين، فنزلت:"
فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ". ويروى أن قائل ذلك معاذ بن جبل. وروى
أن قائل ذلك عبد الله بن أبى سرح، وبهذا السبب ارتد وقال: اتى بمثل ما يأتي محمد،
وفية نزل" وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ
أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما
أَنْزَلَ اللَّهُ" [الانعام: 93] على ما تقدم بيانه في" الانعام
«1»". وقوله تعالى:" فَتَبارَكَ" تفاعل من البركة. (أَحْسَنُ
الْخالِقِينَ) أتقن الصانعين. يقال لمن صنع شيئا خلقه، ومنه قول الشاعر:
ولانت تفرى ما خلقت وبع ... ض القوم يخلق ثم لا يفرى»
وذهب بعض الناس إلى نفى هذه اللفظة عن الناس، وإنما يضاف الخلق إلى الله تعالى.
وقال ابن جريح: إنما قال:" أَحْسَنُ الْخالِقِينَ" لأنه تعالى قد أذن
لعيسى عليه السلام أن يخلق، واضطرب بعضهم في ذلك. ولا تنفى اللفظة عن البشر في
معنى الصنع، وإنما هي منفية بمعنى الاختراع والإيجاد من العدم. الخامسة «3»: من هذه
الآية قال ابن عباس لعمر حين سأل مشيخة الصحابة عن ليلة القدر فقالوا: الله أعلم،
فقال عمر: ما تقول يا ابن عباس؟ فقال: يا أمير المؤمنين إن الله تعالى خلق السموات
سبعا والأرضين سبعا، وخلق ابن آدم من سبع وجعل رزقه في سبع، فأراها
__________
(1). راجع ج 7 ص 39.
(2). البيت لزهير بن أبى سلمى يمدح هرم بن سنان. والفري: القطع.
(3). كذا في ك وز. وفى ب وج وط: مسألة.
ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15)
في
ليلة سبع وعشرين. فقال عمر رضى الله عنه أعجز «1» كم أن تأتوا بمثل ما أتى هذا
الغلام الذي لم تجتمع شئون رأسه. وهذا الحديث بطوله في مسند ابن أبى شيبة. فأراد
ابن عباس" خلق ابن آدم من سبع" بهذه الآية «2»، وبقوله:" وجعل رزقه
في سبع" قوله:" فأنبتنا فيها «3» حبا. وعنبا وقضبا. وزيتونا ونخلا.
وحدائق غلبا. وفاكهة وأبا" [عبس: 31- 27] الآية. السبع منها لابن آدم، والأب
للانعام. والقضب يأكله ابن آدم ويسمن منه النساء، هذا قول. وقيل: القضب البقول
لأنها تقضب، فهي رزق ابن آدم. وقيل: القضب والأب للانعام، والست الباقية لابن آدم،
والسابعة هي للانعام، إذ هي من أعظم رزق ابن آدم.
[سورة المؤمنون (23): الآيات 15 الى 16]
ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ
الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ (16)
قوله تعالى: (ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ) أي بعد الخلق والحياة.
النحاس: ويقال في هذا المعنى لمائتون. ثم أخبر بالبعث بعد الموت فقال: (ثُمَّ
إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ).
[سورة المؤمنون (23): آية 17]
وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ
غافِلِينَ (17)
قوله تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ) قال أبو عبيدة: أي
سبع سموات. وحكى عنه أنه يقال: طارقت الشيء، أي جعلت بعضه فوق بعض، فقيل للسموات
طرائق لان بعضها فوق بعض. والعرب تسمى كل شي فوق شي طريقة. وقيل: لأنها طرائق
الملائكة. (وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ) قال بعض العلماء: أي عن خلق
السماء. وقال أكثر المفسرين: أي عن الخلق كلهم من أن تسقط عليهم فتهلكهم. قلت: ويحتمل
أن يكون المعنى" وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ" أي في القيام
بمصالحهم وحفظهم «4»، وهو معنى الحي القيوم، على ما تقدم «5».
__________
(1). في الدر المنثور:" أعجزتم أن تقولوا كما قال هذا الغلام". [.....]
(2). كذا في الأصول، وسياق الكلام يقتضى أن تكون العبارة هكذا: فأراد ابن عباس
بقوله:" خلق ابن آدم من سبع هذه الآية ..." إلخ.
(3). راجع ج 19 ص 218 فما بعد.
(4). مذا في ك. وفى ب وج بالإفراد.
(5). راجع ج 3 ص 271.
وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18)
[سورة
المؤمنون (23): آية 18]
وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا
عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ (18)
فيه أربع مسائل: الاولى- هذه الآية من نعم الله تعالى على خلقه ومما امتن به
عليهم، ومن أعظم المنن الماء الذي هو حياة الأبدان ونماء الحيوان. والماء المنزل
من السماء على قسمين: هذا الذي ذكر الله سبحانه وتعالى وأخبر بأنه استودعه في
الأرض، وجعله فيها مختزنا لسقى الناس يجدونه عند الحاجة إليه، وهو ماء الأنهار
والعيون وما يستخرج من الأبار. وروى عن ابن عباس وغيره أنه إنما أراد الأنهار
الاربعة: سبحان وجيحان ونيل مصر والفرات. وقال مجاهد: ليس في الأرض ماء إلا وهو من
السماء. وهذا ليس على إطلاقه، وإلا فالأجاج ثابت في الأرض، فيمكن أن يقيد قوله
بالماء العذب، ولا محالة أن الله تعالى قد جعل في الأرض ماء وأنزل من السماء ماء.
وقد قيل: إن قوله:" وأنزلنا من السماء ماء" إشارة إلى الماء العذب، وأن
أصله من البحر، رفعه الله تعالى بلطفه وحسن تقديره من البحر إلى السماء، حتى طاب
بذلك الرفع والتصعيد، ثم أنزله إلى الأرض لينتفع به، ولو كان الامر إلى ماء البحر لما
انتفع به من ملوحته. الثانية- قوله تعالى: (بِقَدَرٍ) أي على مقدار مصلح، لأنه لو
كثر أهلك، ومنه قوله تعالى:" وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ
وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ «1»" [الحجر: 21]. (وَإِنَّا
عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ) يعنى الماء المختزن. وهذا تهديد ووعيد، أي في
قدرتنا إذهابه وتغويره، ويهلك الناس بالعطش وتهلك مواشيهم، وهذا كقوله
تعالى:" قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً 30"- أي
غائرا-" فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ «2» 30" [الملك: 30]. الثالثة-
ذكر النحاس: قرئ على أبى يعقوب إسحاق بن إبراهيم بن يونس عن جامع بن سوادة فال:
حدثنا سعيد بن سابق قال حدثنا مسلمة بن على عن مقاتل بن حيان
__________
(1). راجع ج 10 ص 14.
(2). راجع ج 18 ص 222.
فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (19)
عن
عكرمة عن ابن عباس رضى الله عنهما عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قال: (أنزل الله عز وجل من الجنة إلى الأرض خمسة أنهار سيحون وهو نهر الهند،
وجيحون وهو نهر بلخ، ودجلة والفرات وهما نهرا العراق، والنيل وهو نهر مصر، أنزلها
الله تعالى من عين واحدة من عيون الجنة في أسفل درجة من درجاتها على جناحي جبريل
عليه السلام فاستودعها الجبال وأجراها في الأرض وجعل فيها منافع للناس في أصناف
معايشهم وذلك قوله جل ثناؤه:" وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في
الأرض" فإذا كان عند خروج يأجوج ومأجوج أرسل الله عز وجل جبريل فرفع من الأرض
القرآن والعلم وجميع الأنهار الخمسة فيرفع ذلك إلى السماء فذلك قوله تعالى:"
وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ" فإذا رفعت هذه الأشياء من الأرض فقد
أهلها خير الدين والدنيا (. الرابعة- كل ما نزل من السماء مختزنا كان أو غير مختزن
فهو طاهر مطهر يغتسل به ويتوضأ منه، على ما يأتي في" الفرقان «1»"
بيانه.
[سورة المؤمنون (23): آية 19]
فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ
كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (19)
فيه مسألتان: الاولى- قوله تعالى: (فَأَنْشَأْنا) أي جعلنا ذلك سبب النبات،
وأوجدناه به وخلقناه. وذكر تعالى النخيل والأعناب، لأنها ثمرة الحجاز بالطائف
والمدينة وغيرهما، قاله الطبري. ولأنها أيضا أشرف الثمار، فذكرها تشريفا لها
وتنبيها عليها. (لَكُمْ فِيها) 10 أي في الجنات. (فَواكِهُ) من غير الرطب والعنب.
ويحتمل أن يعود على النخيل والأعناب خاصة إذ فيها مراتب وأنواع، والأول أعم لسائر
الثمرات. الثانية- من حلف ألا يأكل فاكهة، ففي الرواية عندنا يحنث بالباقلاء
الخضراء وما أشبهها. وقال أبو حنيفة، لا يحنث بأكل القثاء والخيار والجزر، لأنها
من القبول لا من الفاكهة. وكذلك الجوز واللوز والفستق، لان هذه الأشياء لا تعد من
الفاكهة.
__________
(1). راجع ج 13 ص 39.
وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20)
وإن
أكل تفاحا أو خوخا أو مشمشا أو تينا أو إجاصا يحنث. وكذلك البطيخ، لان هذه الأشياء
كلها تؤكل على جهة التفكه قبل الطعام وبعده، فكانت فاكهة. وكذلك يابس هذه الأشياء
إلا البطيخ اليابس لان ذلك لا يؤكل إلا في بعض البلدان. ولا يحنث بأكل البطيخ
الهندي لأنه لا يعد من الفواكه. وإن أكل عنبا أو رمانا أو رطبا لا يحنث. وخالفه
صاحباه فقالا يحنث، لان هذه الأشياء من أعز الفواكه، وتؤكل على وجه التنعم.
والافراد لها بالذكر في كتاب الله عز جل لكمال معانيها، كتخصيص جبريل وميكائيل من
الملائكة. واحتج أبو حنيفة بأن قال: عطف هذه الأشياء على الفاكهة مرة فقال:"
فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ «1»" [الرحمن: 68] ومرة عطف الفاكهة
على هذه الأشياء فقال:" وَفاكِهَةً «2» وَأَبًّا 80: 31" [عبس: 31]
والمعطوف غير المعطوف عليه، ولا يليق بالحكمة ذكر الشيء الواحد بلفظين مختلفين في
موضع المنة. والعنب والرمان يكتفى بهما في بعض البلدان فلا يكون فاكهة، ولان ما
كان فاكهة لا فرق بين رطبه ويابسه، ويابس هذه الأشياء لا يعد فاكهة فكذلك رطبها.
[سورة المؤمنون (23): آية 20]
وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ
لِلْآكِلِينَ (20)
فيه ست مسائل: الاولى- قوله تعالى: (وَشَجَرَةً) 20 شجرة عطف على جنات. وأجاز
الفراء الرفع لأنه لم يظهر الفعل، بمعنى وثم شجرة، ويريد بها شجرة الزيتون.
وأفردها بالذكر لعظيم منافعها في أرض الشام والحجاز وغيرهما من البلاد، وقلة
تعاهدها بالسقي والحفر وغير ذلك من المراعاة في سائر الأشجار. (تَخْرُجُ) في موضع
الصفة. (مِنْ طُورِ سَيْناءَ) 20 أي أنبتها الله في الأصل من هذا الجبل الذي بارك
الله فيه. وطور سيناء من أرض الشام وهو الجبل الذي كلم الله عليه موسى عليه
السلام، قاله ابن عباس وغيره، وقد تقدم في البقرة والأعراف «3». والطور الجبل في
كلام العرب. وقيل: هو مما عرب من كلام العجم. وقال ابن زيد: هو جبل
__________
(1). راجع ج 17 ص 185.
(2). راجع ج 19 ص 220.
(3). راجع ج 3 ص 264، ج 7 ص 287.
بيت
المقدس ممدود من مصر إلى أيلة «1». واختلف في سيناء، فقال قتادة: معناه الحسن،
ويلزم على هذا التأويل أن ينون الطور على النعت. وقال مجاهد: معناه مبارك. وقال
معمر عن فرقة: معناه شجر، ويلزمهم أن ينونوا الطور. وقال الجمهور: هو اسم الجبل،
كما تقول جبل أحد. وعن مجاهد أيضا: سيناء حجر بعينه أضيف الجبل إليه لوجوده عنده.
وقال مقاتل: كل جبل يحمل الثمار فهو سيناء، أي حسن. وقرا الكوفيون بفتح السين على
وزن فعلاء، وفعلاء في كلام العرب كثير، يمنع من الصرف في المعرفة والنكرة، لان في
آخرها ألف التأنيث، وألف التأنيث ملازمة لما هي فيه، وليس في الكلام فعلاء، ولكن
من قرأ سيناء بكسر السين جعله فعلا لا، فالهمزة فيه كهمزة حرباء، ولم يصرف في هذه
الآية لأنه جعل اسم بقعة. وزعم الأخفش أنه اسم أعجمي. الثانية- قوله تعالى:
(تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ) 20 قرأ الجمهور" تَنْبُتُ" بفتح التاء وضم
الباء، والتقدير: تنبت ومعها الدهن، كما تقول: خرج زيد بسلاحه. وقرا ابن كثير وأبو
عمرو بضمء التاء وكسر الباء. واختلف في التقدير على هذه القراءة، فقال أبو على
الفارسي: التقدير تنبت جناها ومعه الدهن، فالمفعول محذوف. وقيل: الباء زائدة،
مثل:" وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ «2»" [البقرة:
195] وهذا مذهب أبى عبيدة. وقال الشاعر:
نضرب بالسيف ونرجو بالفرج
وقال آخر:
هن الحرائر لا ربات أخمرة «3» ... سود المحاجر لا يقرأن بالسور
ونحو هذا قال أبو على أيضا، وقد تقدم. وقيل: نبت وأنبت بمعنى، فيكون المعنى كما
مضى في قراءة الجمهور، وهو مذهب الفراء وأبى إسحاق، ومنه قول زهير:
حتى إذا أنبت البقل
__________
(1). أيلة: تعرف اليوم باسم" العقبة".
(2). راجع ج 2 ص 361.
(3). كذا في الأصول ولسان العرب مادة" سور" بالخاء المعجمة. وأورده صاحب
خزانة الأدب بالحاء المهملة، قال:" والأحمرة جمع حمار (بالحاء المهملة) جمع
قلة، وخص الحمير لأنها رذال المال وشره ... وقد صحف الدما مبنى هذه الكلمة بالخاء
المعجمة، وقال والاخمرة جمع خمار، وهو ما تستر به المرأة رأسها". (راجع
الشاهد الخامس بعد السبعمائة من الخزانة)
والأصمعي
ينكر أنبت، ويتهم قصيدة زهير التي فيها:
رأيت ذوى الحاجات حول بيوتهم ... قطينا بها حتى إذا أنبت البقل
أي نبت. وقرا الزهري والحسن والأعرج:" تنبت بالدهن" برفع التاء ونصب
الباء. قال ابن جنى والزجاج: هي باء الحال، أي تنبت ومعها دهنها. وفي قراءة ابن
مسعود:" تخرج بالدهن" وهى باء الحال. ابن درستويه: الدهن الماء اللين،
تنبت من الإنبات. وقرا زر بن حبيش:" تنبت- بضم التاء وكسر الباء- الدهن"
بحذف الباء ونصبه. وقرا سليمان بن عبد الملك والأشهب:" بالدهان".
والمراد من الآية تعديد نعمة الزيت على الإنسان، وهى من أركان النعم التي لا غنى
بالصحة عنها. ويدخل في معنى الزيتون «1» شجر الزيت كله على اختلافه بحسب الأقطار.
الثالثة- قوله تعالى: (وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ) 20 قراءة الجمهور. وقرأت
فرقة:" وأصباغ" بالجمع. وقرا عامر بن عبد قيس:" وَمَتاعاً"،
ويراد به الزيت الذي يصطبغ به الأكل، يقال: صبغ وصباغ، مثل دبغ ودباغ، ولبس ولباس.
وكل إدام يؤتدم به فهو صبغ، حكاه الهروي وغيره. واصل الصبغ ما يلون به الثوب، وشبه
الإدام به لان الخبز يلون «2» بالصبغ إذا غمس فيه. وقال مقاتل: الأدم الزيتون،
والدهن الزيت. وقد جعل الله تعالى في هذه الشجرة أدما ودهنا، فالصبغ على هذا
الزيتون. الرابعة- لا خلاف أن كل ما يصطبغ فيه من المائعات كالزيت والسمن والعسل
والرب والخل وغير ذلك من الأمراق أنه إدام. وقد نص رسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الخل فقال: (نعم الإدام الخل) رواه تسعة من الصحابة، سبعة
رجال وامرأتان. وممن رواه في الصحيح جابر وعائشة وخارجة وعمر وابنه عبيد الله وابن
عباس وأبو هريرة وسمرة ابن جندب وأنس وام هانئ. الخامسة- واختلف فيما كان جامدا
كاللحم والتمر والزيتون وغير ذلك من الجوامد، فالجمهور أن ذلك كله إدام، فمن حلف
ألا يأكل إداما فأكل لحما أو جبنا حنث. وقال أبو حنيفة: لا يحنث، وخالفه صاحباه.
وقد روى عن أبى يوسف مثل قول أبى حنيفة. والبقل ليس بادام في قولهم جميعا. وعن
الشافعي في التمر وجهان، والمشهور أنه ليس بادام لقوله في التنبيه.
__________
(1). في ب وج وز وط وك: في معنى الزيتونة. [.....]
(2). في ك: يلوث.
وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (21) وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (23) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (24) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (26) فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27)
وقيل
يحنث، والصحيح أن هذا كله إدام. وقد روى أبو داود عن يوسف بن عبد الله ابن سلام
قال: رأيت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخذ كسرة من خبز شعير فوضع
عليها تمرة فقال: (هذا إدام هذه). وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (سيد
إدام الدنيا والآخرة اللحم). ذكره أبو عمر. وترجم البخاري (باب الإدام) وساق حديث
عائشة، ولان الإدام مأخوذ من المؤادمة وهى الموافقة، وهذه الأشياء توافق الخبز
فكان إداما. وفي الحديث عنه عليه السلام: (ائتدموا ولو بالماء). ولابي حنيفة أن
حقيقة الإدام الموافقة في الاجتماع على وجه لا يقبل الفصل، كالخل والزيت ونحوهما،
وأما اللحم والبيض وغيرهما لا يوافق الخبز بل يجاوزه «1» كالبطيخ والتمر والعنب.
والحاصل: أن كل ما يحتاج في الأكل إلى موافقة الخبز كان إداما، وكل ما لا يحتاج
ويؤكل على حدة لا يكون إداما، والله أعلم. السادسة- روى الترمذي من حديث عمر بن
الخطاب رضى الله عنه قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (كلوا
الزيت وادهنوا به فإنه من شجرة مباركة). هذا حديث لا يعرف إلا من حديث عبد الرزاق،
وكان يضطرب فيه، فربما يذكر فيه عن عمر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وربما رواه على الشك فقال: أحسبه عن عمر عن النبي صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وربما قال: عن زيد بن أسلم عن أبيه عن النبي صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقال مقاتل: خص الطور بالزيتون لان أول الزيتون نبت منها.
وقيل: إن الزيتون أول شجرة نبتت في الدنيا بعد الطوفان. والله أعلم.
[سورة المؤمنون (23): الآيات 21 الى 27]
وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها
وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (21) وَعَلَيْها وَعَلَى
الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا
قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (23)
فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ
مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ
مَلائِكَةً ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (24) إِنْ هُوَ إِلاَّ
رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25)
قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (26) فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ
الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ
فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ
عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ
(27)
__________
(1). كذا في الأصول من المجاورة.
قوله
تعالى: (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي
بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ. وَعَلَيْها
وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ) تقدم القول فيهما في" النحل «1» والحمد لله.
وفي هود «2» قصة السفينة ونوح، وركوب البحر في غير موضع «3». قوله تعالى:َ-
عَلَيْها)
أي وعلى الانعام في البر.َ- عَلَى الْفُلْكِ)
في البحر.ُحْمَلُونَ)
وإنما يحمل في البر على الإبل فيجوز أن ترجع الكناية إلى بعض النعام. وروى أن رجلا
ركب بقرة في الزمان الأول فأنطقها الله تعالى معه فقالت: إنا لم نخلق لهذا! وإنما
خلقت للحرث. قوله تعالى: (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) قرئ بالخفض ردا على
اللفظ، وبالرفع ردا على المعنى. وقد مضى في" الأعراف «4»" قوله تعالى:
(ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ) أي يسودكم
ويشرف عليكم بأن يكون متبوعا ونحن له تبع. (وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ
مَلائِكَةً) أي لو شاء الله ألا يعبد شي سواه لجعل رسوله ملكا. (ما سَمِعْنا
بِهذا) أي بمثل دعوته. وقيل: ما سمعنا بمثله بشرا، أتى «5» برسالة ربه. (فِي
آبائِنَا الْأَوَّلِينَ) أي في الأمم الماضية، قاله ابن عباس. والباء في"
بِهذا" زائدة، أي ما سمعنا هذا كائنا في ءابائنا الأولين، ثم عطف بعضهم على
بعض فقالوا. (إِنْ هُوَ) 90
__________
(1). راجع ج 10 ص 68، 89.
(2). راجع ج 9 ص 30.
(3). راجع ج 2 ص 195.
(4). راجع ج 7 ص 233.
(5). كذا في ج وك. وفى ط وب وى: أي.
فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28)
يعنون
نوحا (إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ) أي جنون لا يدرى ما يقول. (فَتَرَبَّصُوا بِهِ
حَتَّى حِينٍ) أي انتظروا موته. وقيل: حتى يستبين جنونه. وقال الفراء: ليس يراد
بالحين ها هنا وقت بعينه، إنما هو كقوله: دعه إلى يوم ما. فقال حين تمادوا على
كفرهم: (رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ) أي انتقم ممن لم يطعني ولم يسمع رسالتي.
(فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ) أي أرسلنا إليه رسلا من السماء (أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ)
على ما تقدم بيانه. قوله تعالى: (فَاسْلُكْ فِيها) أي أدخل فيها واجعل فيها، يقال:
سلكته في كذا وأسلكته فيه إذا أدخلته. قال عبد مناف بن ربع الهذلي:
حتى إذا أسلكوهم في قتائدة ... شلا كما تطرد الجمالة الشردا «1»
. (مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) 40 قرأ حفص:" من كل" بالتنوين،
الباقون بالإضافة، وقد ذكر «2». وقال الحسن: لم يحمل نوح في السفينة إلا ما يلد
ويبيض، فأما البق والذباب والدود فلم يحمل شيئا منها، وإنما خرج من الطين. وقد مضى
القول في السفينة والكلام فيها مستوفى، والحمد لله.
[سورة المؤمنون (23): آية 28]
فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ
لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28)
قوله تعالى: (فَإِذَا اسْتَوَيْتَ) أي علوت. (أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى
الْفُلْكِ) راكبين. (فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) أي احمدوا الله على تخليصه إياكم.
(مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) ومن الغرق. والحمد لله: كلمة كل شاكر لله. وقد مضى
في الفاتحة بيانه «3».
[سورة المؤمنون (23): آية 29]
وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ
(29)
قوله تعالى: (وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبارَكاً) قراءة العامة:"
مُنْزَلًا" بضم الميم وفتح الزاي، على المصدر الذي هو الانزال، أي أنزلني
إنزالا مباركا. وقرا زر بن حبيش وأبو بكر
__________
(1). قنائدة: موضع بعينه. والثل: الطرد. والشرد: جمع شرود.
(2). راجع ج 9 ص 34.
(3). راجع ج 1 ص 131.
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30) ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (32)
عن
عاصم والمفضل:" منزلا" بفتح الميم وكسر الزاي على الموضع، أي أنزلني
موضعا مباركا. الجوهري: المنزل (بفتح الميم والزاي) النزول وهو الحلول، تقول: نزلت
نزولا ومنزلا. وقال:
أأن ذكرتك الدار منزلها جمل ... بكيت فدم العين منحدر سجل
نصب" المنزل" لأنه مصدر «1». وأنزله غيره واستنزله بمعنى. ونزله تنزيلا،
والتنزيل أيضا الترتيب. قال ابن عباس ومجاهد: هذا حين خرج من السفينة، مثل قوله
تعالى:" اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ
مَعَكَ «2»" [هود: 48]. وقيل: حين دخلها، فعلى هذا يكون قوله:"
مُبارَكاً" يعنى بالسلامة والنجاة. قلت: وبالجملة فالآية تعليم من الله عز
وجل لعباده إذا ركبوا وإذا نزلوا أن يقولوا هذا، بل وإذا دخلوا بيوتهم وسلموا
قالوا. وروى عن على رضى الله عنه أنه كان إذا دخل المسجد قال: اللهم أنزلني منزلا
مباركا وأنت خير المنزلين.
[سورة المؤمنون (23): آية 30]
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30)
قوله تعالى: (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) 10: 67 أي في أمر نوح والسفينة وإهلاك
الكافرين." لَآياتٍ" أي دلالات على كمال قدرة الله تعالى، وأنه ينصر
أنبياءه ويهلك أعداءهم. (وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ) 30 أي ما كنا إلا مبتلين
الأمم قبلكم، أي مختبرين لهم بإرسال الرسل إليهم ليظهر المطيع والعاصي فيتبين
للملائكة حالهم، لا أن يستجد الرب علما. وقيل: أي نعاملهم معاملة المختبرين. وقد
تقدم هذا المعنى في" البقرة «3»" وغيرها. وقيل:" إِنْ كُنَّا"
أي وقد كنا.
[سورة المؤمنون (23): الآيات 31 الى 32]
ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ
رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا
تَتَّقُونَ (32)
__________
(1). يلاحظ أن" منزلها" بالنصب مفعول ثان لذكرتك." جمل" فاعل
بالمصدر، وهو المنزل
(2). راجع ج 9 ص 48.
(3). راجع ج 2 ص 173.
وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (34) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35)
قوله
تعالى: (ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ) أي من بعد هلاك قوم نوح. (قَرْناً
آخَرِينَ) قيل: هم قوم عاد. (فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ) يعنى هودا،
لأنه ما كانت أمة أنشئت في إثر قوم نوح إلا عاد. وقيل: هم قوم ثمود"
فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولًا" يعنى صالحا. قالوا: والدليل عليه قوله تعالى
آخر الآية:" فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ" [المؤمنون: 41]، نظيرها:"
وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ «1»" [هود: 67]. قلت: وممن أخذ
بالصيحة أيضا أصحاب مدين قوم شعيب، فلا يبعد أن يكونوا هم، والله أعلم."
مِنْهُمْ" أي من عشيرتهم، يعرفون مولده ومنشؤه ليكون سكونهم إلى قوله أكثر.
[سورة المؤمنون (23): الآيات 33 الى 35]
وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ
الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ
مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ
(33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (34)
أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ
مُخْرَجُونَ (35)
قوله تعالى: (وَقالَ الْمَلَأُ) 90 أي الاشراف والقادة والرؤساء. (مِنْ قَوْمِهِ
الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا «2» بِلِقاءِ الْآخِرَةِ) يريد بالبعث والحساب.
(وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) أي وسعنا عليهم نعم الدنيا حتى بطروا
وصاروا يؤتون بالترفة، وهى مثل التحفة. (ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ
مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ) فلا فضل له عليكم لأنه
محتاج إلى الطعام والشراب كأنتم. وزعم الفراء أن معنى:" وَيَشْرَبُ مِمَّا
تَشْرَبُونَ" على حذف من، أي مما تشربون منه، وهذا لا يجوز عند البصريين ولا
يحتاج إلى حذف البتة، لان" ما" إذا كان مصدرا لم يحتج إلى عائد، فإن
جعلتها بمعنى الذي حذفت المفعول ولم يحتج إلى إضمار من. (وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ
بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ) يريد لمغبونون بترككم آلهتكم
واتباعكم إياه
__________
(1). راجع ج 9 ص 59. [.....]
(2). في ب وج وك" كَذَّبُوا"" بِآياتِنا وَلِقاءِ".
هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36)
من
غير فضيلة له عليكم. (أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً
أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ) أي مبعوثون من قبوركم. و" إِنَّ" الاولى في موضع
نصب بوقوع" يَعِدُكُمْ" عليها، والثانية بدل منها، هذا مذهب سيبويه.
والمعنى: أيعدكم أنكم مخرجون إذا متم. قال الفراء: وفي قراءة عبد الله"
أيعدكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون"، وهو كقولك: أظن إن خرجت أنك
نادم. وذهب الفراء والجرمي وأبو العباس المبرد إلى أن الثانية مكررة للتوكيد، لما
طال الكلام كان تكريرها حسنا. وقال الأخفش: المعنى أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم
ترابا وعظاما يحدث إخراجكم، ف" إِنَّ" الثانية في موضع رفع بفعل مضمر، كما
تقول: اليوم القتال، فالمعنى اليوم يحدث القتال. وقال أبو إسحاق: ويجوز"
أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ
مُخْرَجُونَ"، لان معنى" أَيَعِدُكُمْ" أيقول إنكم.
[سورة المؤمنون (23): آية 36]
هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ (36)
قال ابن عباس: هي كلمة للبعد، كأنهم قالوا بعيد ما توعدون، أي إن هذا لا يكون ما
يذكر من البعث. وقال أبو على: هي بمنزلة الفعل، أي بعد ما توعدون. وقال ابن
الأنباري: وفي" هيهات" عشر لغات: هيهات لك (بفتح التاء) وهى قراءة
الجماعة. وهيهات لك (بخفض التاء)، ويروى عن أبى جعفر بن القعقاع" وهيهات لك
(بالخفض والتنوين) يروى عن عيسى بن عمر. وهيهات لك (برفع التاء)، الثعلبي: وبها
قرأ نصر بن عاصم وأبو العالية. وهيهات لك (بالرفع والتنوين) وبها قرأ أبو حيوة
الشامي، ذكره الثعلبي أيضا. وهيهاتا لك (بالنصب والتنوين) قال الأحوص:
تذكرت أياما مضين من الصبا ... وهيهات هيهاتا إليك رجوعها
واللغة السابعة: أيهات أيهات، وأنشد الفراء:
فأيهات أيهات العقيق ومن به ... وأيهات خل بالعقيق نواصله
قال المهدوي: وقرا عيسى الهمداني" هَيْهاتَ هَيْهاتَ" بإسكان. قال ابن
الأنباري: ومن العرب من يقول:" إيهان" بالنون، ومنهم من يقول"
أيها" بلا نون. وأنشد الفراء:
إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37)
ومن
دوني الأعيان والقنع كله ... وكتمان أيها ما أشت وأبعدا»
فهذه عشر لغات. فمن قال:" هَيْهاتَ" بفتح التاء جعله مثل أين وكيف.
وقيل: لأنهما أداتان مركبتان مثل خمسة عشر وبعلبك ورام هرمز، وتقف على الثاني
بالهاء، كما تقول: خمس عشرة وسبع عشرة. وقال الفراء: نصبها كنصب ثمت وربت، ويجوز
أن يكون الفتح اتباعا للألف والفتحة التي قبلها. ومن كسره جعله مثل أمس وهؤلاء. قال:
وهيهات هيهات «2» إليك رجوعها
قال الكسائي: ومن كسر التاء وقف عليها بالهاء، فيقول هيهاه. ومن نصبها وقف بالتاء
وإن شاء بالهاء. ومن ضمها فعلى مثل منذ وقط وحيث. ومن قرأ:" هيهات"
بالتنوين فهو جمع ذهب به إلى التنكير «3»، كأنه قال بعدا بعدا. وقيل: خفض ونون
تشبيها بالأصوات بقولهم: غاق وطاق. وقال الأخفش: يجوز في" هَيْهاتَ" أن
تكون جماعة فتكون التاء التي فيها تاء الجميع التي للتأنيث. ومن قرأ:"
هَيْهاتَ" جاز أن يكون أخلصها اسما معربا فيه معنى البعد، ولم يجعله اسما
للفعل فيبنيه. وقيل: شبه التاء بتاء الجمع، كقوله تعالى:" فَإِذا أَفَضْتُمْ
مِنْ عَرَفاتٍ «4»" [البقرة: 198]. قال الفراء: وكأني أستحب الوقف على التاء،
لان من العرب من يخفض التاء على كل حال، فكأنها مثل عرفات وملكوت وما أشبه ذلك.
وكان مجاهد وعيسى بن عمر وأبو عمرو بن العلاء والكسائي وابن كثير يقفون عليها"
هيهاه" بالهاء. وقد روى عن أبى عمرو أيضا أنه كان يقف على" هيهات"
بالتاء، وعليه بقية القراء لأنها حرف. قال ابن الأنباري. من جعلهما حرفا واحدا لا
يفرد أحدهما من الأخر، وقف على الثاني بالهاء ولم يقف على الأول، فيقول: هيهات
هيهاه، كما يقول خمس عشره، على ما تقدم. ومن نوى إفراد أحدهما من الأخر وقف فيهما
جميعا بالهاء والتاء، لان أصل الهاء تاء.
[سورة المؤمنون (23): آية 37]
إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ
بِمَبْعُوثِينَ (37)
__________
(1). الأعيان والقنع وكتمان، كلها مواضع. وفى ب وج وك بدل" الأعيان"
الأعيار. وكذا في اللسان مادة أيه. وفى مادة هبه" الاعراض" والكل مواضع.
(2). كذا في الأصول والذي في اللسان: وهيهات هيهاتا- بالفتح والتنوين.
(3). في ب وج وط وك: التكثير.
(4). راجع ج 2 ص 413.
إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (39) قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ (40) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41) ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ (42) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (43) ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (44)
قوله
تعالى: (إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا)" هِيَ" كناية عن الدنيا،
أي ما الحياة إلا ما نحن فيه لا الحياة الآخرة التي تعدنا بعد البعث. (نَمُوتُ
وَنَحْيا) يقال: كيف قالوا نموت ونحيا وهم لا يقرون بالبعث؟ ففي هذا أجوبة، منها
أن يكون المعنى: نكون مواتا، أي نطفا ثم نحيا في الدنيا. وقيل: فيه تقديم وتأخير،
أي إن هي إلا حياتنا الدنيا نحيا فيها ونموت، كما قال:" وَاسْجُدِي
وَارْكَعِي «1»" [آل عمران: 43]. وقيل:" نَمُوتُ" يعنى
الإباء،" وَنَحْيا" يعنى الأولاد. (وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) أي بعد
الموت.
[سورة المؤمنون (23): الآيات 38 الى 41]
إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ
بِمُؤْمِنِينَ (38) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (39) قالَ عَمَّا
قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ (40) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ
فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41)
قوله تعالى: (إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ) يعنون الرسول. إلا رجل (افْتَرى ) أي
اختلق. (عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ. قالَ رَبِّ
انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ) تقدم. (قالَ عَمَّا قَلِيلٍ) 40 أي عن قليل، و"
ما" زائدة مؤكدة. (لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ) 40 على كفرهم، واللام لام القسم،
أي والله ليصبحن. (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ) في التفاسير: صاح بهم جبريل عليه
السلام صيحة واحدة مع الريح التي أهلكهم الله تعالى بها فماتوا عن آخرهم.
(فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً) أي هلكى هامدين كغثاء السيل، وهو ما يحمله من بالي الشجر
من الحشيش والقصب مما يبس وتفتت. (فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي هلاكا
لهم. وقيل بعدا لهم من رحمة الله، وهو منصوب على المصدر. ومثله سقيا له ورعيا.
[سورة المؤمنون (23): الآيات 42 الى 44]
ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ (42) ما تَسْبِقُ مِنْ
أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (43) ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا
كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْناهُمْ
أَحادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (44)
__________
(1). راجع ج 4 ص 84 فما بعد.
قوله
تعالى: (ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ) أي من بعد هلاك هؤلاء. (قُرُوناً) أي
أمما. (آخَرِينَ) قال ابن عباس: يريد بنى إسرائيل، وفي الكلام حذف: فكذبوا
أنبياءهم فأهلكناهم." (ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها)" مِنْ"
صلة، أي ما تسبق أمة الوقت المؤقت لها ولا تتأخره، مثل قوله تعالى:" فَإِذا
جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ «1»"
[الأعراف: 34]. ومعنى (تَتْرا) تتواتر، ويتبع بعضهم بعضا ترغيبا وترهيبا. قال
الأصمعي: وأترت كتبي عليه أتبعت بعضها بعضا، إلا أن بين كل كل واحد وبين الأخر
مهلة. وقال غيره: المواترة التتابع بغير مهلة. وقرا ابن كثير وأبو عمرو:"
تترى" بالتنوين على أنه مصدر أدخل فيه التنوين على فتح الراء، كقولك: حمدا وشكرا،
فالوقف على هذا على الالف المعوضة من التنوين. ويجوز أن يكون ملحقا بجعفر، فيكون
مثل أرطى وعلقى، كما قال:
يستن في علقى وفي مكور
فإذا وقف على هذا الوجه جازت الإمالة، على أن ينوي الوقف على الالف الملحقة. وقرا
ورش بين اللفظتين، مثل سكرى وغضبى، وهو اسم جمع، مثل شتى وأسرى. وأصله وترى من
المواترة والتواتر، فقلبت الواو تاء، مثل التقوى والتكلان وتجاه ونحوها. وقيل: هو
[من «2»] الوتر وهو الفرد، فالمعنى أرسلناهم فردا فردا. النحاس: وعلى هذا
يجوز" تترا" بكسر التاء الاولى، وموضعها نصب على المصدر، لان معنى"
ثُمَّ أَرْسَلْنا" واترنا. ويجوز أن يكون في موضع الحال أي متواترين.
(فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً) أي بالهلاك. (وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ) جمع
أحدوثة وهى ما يتحدث به، كأعاجيب جمع أعجوبة، وهى ما يتعجب منه. قال الأخفش: إنما
يقال هذا في الشر" جَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ" ولا يقال في الخير، كما
يقال: صار فلان حديثا أي عبرة ومثلا، كما قال في آية أخرى:" فَجَعَلْناهُمْ
أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ «3»" [سبأ: 19]. قلت: وقد يقال
فلان حديث حسن، إذا كان مقيدا بذكر ذلك، ومنه قول ابن دريد:
وإنما المرء حديث بعده ... فكن حديثا حسنا لمن وعى
__________
(1). راجع ج 7 ص 201.
(2). من ب وط وك.
(3). راجع ج 14 ص 290.
ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (45)
[سورة
المؤمنون (23): الآيات 45 الى 48]
ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (45) إِلى
فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ (46) فَقالُوا
أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ (47)
فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48)
قوله تعالى: (ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ
مُبِينٍ) تقدم «1». ومعنى (عالِينَ) متكبرين قاهرين لغيرهم بالظلم، كما قال
تعالى:" إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ «2»" [القصص: 4] (فَقالُوا
أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا) الآية، تقدم أيضا. ومعنى (مِنَ الْمُهْلَكِينَ)
أي بالغرق في البحر.
[سورة المؤمنون (23): آية 49]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49)
قوله تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) يعنى التوراة، وخص موسى بالذكر
لان التوراة أنزلت عليه في الطور، وهارون خليفة في قومه. ولو قال:" ولقد
آتيناهما" جاز «3» كما قال:" وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ
الْفُرْقانَ «4»" [الأنبياء: 48].
[سورة المؤمنون (23): آية 50]
وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ
قَرارٍ وَمَعِينٍ (50)
قوله تعالى: (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً) 50 تقدم في"
الأنبياء «5»" القول فيه. (وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ
وَمَعِينٍ) 50 الربوة المكان المرتفع من الأرض، وقد تقدم في" البقرة
«6»". والمراد بها ها هنا في قول أبى هريرة فلسطين. وعنه أيضا الرملة «7»،
وروى عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقال ابن عباس وابن المسيب وابن
سلام: دمشق. وقال كعب وقتادة: بيت المقدس. قال كعب: وهى أقرب الأرض إلى السماء
بثمانية عشر ميلا. قال:
فكنت هميدا تحت رمس بربوة ... تعاورني «8» ريح جنوب وشمال
__________
(1). راجع ج 9 ص 93.
(2). راجع ج 13 ص 48.
(3). أي في غير القرآن.
(4). راجع ج 11 ص 295،.
(5). راجع ج 11 وص 337. [.....]
(6). راجع ج 3 ص 315.
(7). الرملة مدينة عظيمة بفلسطين وكانت قصبتها، وكانت رباطا للمسلمين.
(8). في ب وط وك: تعاودي.
يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51)
وقال
ابن زيد: مصر. وروى سالم الأفطس عن سعيد بن جبير:" وَآوَيْناهُما إِلى
رَبْوَةٍ 50" قال: النشز من الأرض. (ذاتِ قَرارٍ) 50 أي مستوية يستقر عليها.
وقيل: ذات ثمار، ولأجل الثمار يستقر فيها الساكنون. (وَمَعِينٍ) 50 ماء جار ظاهر
للعيون. يقال: معين ومعن، كما يقال: رغيف ورغف، قاله على بن سليمان. وقال الزجاج:
هو الماء الجاري في العيون، فالميم على هذا زائدة كزيادتها في مبيع، وكذلك الميم
زائدة في قول من قال إنه الماء الذي يرى بالعين. وقيل: إنه فعيل بمعنى مفعول. قال
على بن سليمان: يقال معن الماء إذا جرى فهو معين ومعيون. ابن الاعرابي: معن الماء
يمعن معونا إذا جرى وسهل، وأمعن أيضا وأمعنته، ومياه معنان.
[سورة المؤمنون (23): آية 51]
يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما
تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51)
فيه ثلاث مسائل: الاولى- روى الصحيح عن أبى هريرة قال قال رسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا وإن الله
أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال:" يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ
الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ" وقال
تعالى:" يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما
رَزَقْناكُمْ «1»" [البقرة: 172]- ثم ذكر «2»- الرجل «3» يطيل السفر أشعث
أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي
بالحرام فأنى يستجاب لذلك (. الثانية- قال بعض العلماء: والخطاب في هذه الآية
للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأنه أقامه مقام الرسل، كما قال:"
الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ «4»" [آل عمران: 173] يعنى نعيم بن مسعود.
وقال
__________
(1). راجع ج 2 ص 215.
(2). هذه الجملة من كلام الراوي، والضمير فيه للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ.
(3). الرجل، بالرفع مبتدأ، مذكور على وجه الحكاية من لفظ سيدنا رسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ويجوز أن ينصب على أنه مفعول" ذكر".
(4). راجع ج 4 ص 279.
وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54)
الزجاج:
هذه مخاطبة للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ودل الجمع على أن الرسل كلهم
كذا أمروا، أي كلوا من الحلال. وقال الطبري: الخطاب لعيسى عليه السلام، روى أنه
كان يأكل من غزل أمه. والمشهور عنه أنه كان يأكل من بقل البرية. ووجه خطابه لعيسى
ما ذكرناه من تقديره لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تشريفا له. وقيل: إن
هذه المقالة خوطب بها كل نبى، لان هذه طريقتهم التي ينبغي لهم الكون عليها. فيكون
المعنى: وقلنا يا أيها الرسل كلوا من الطيبات، كما تقول لتاجر: يا تجار ينبغي أن
تجتنبوا الربا، فأنت تخاطبه بالمعنى. وقد اقترن بذلك أن هذه المقالة تصلح لجميع
صنفه، فلم يخاطبوا قط مجتمعين صلوات الله عليهم أجمعين، وإنما خوطب كل واحد في
عصره. قال الفراء: هو كما تقول للرجل الواحد، كفوا عنا أذاكم. الثالثة- سوى الله
تعالى بين النبيين والمؤمنين في الخطاب بوجوب أكل الحلال وتجنب الحرام، ثم شمل
الكل في الوعيد الذي تضمنه قوله تعالى:" إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ
عَلِيمٌ" صلى الله على رسله وأنبيائه. وإذا كان هذا معهم فما ظن كل الناس
بأنفسهم. وقد مضى القول في الطيبات والرزق في غير موضع «1»، والحمد لله. وفي قوله
عليه السلام (يمد يديه) دليل على مشروعية مد اليدين عند الدعاء إلى السماء، وقد
مضى الخلاف في هذا والكلام فيه والحمد لله «2». وقوله عليه السلام (فأنى يستجاب
لذلك) على جهة الاستبعاد، أي أنه ليس أهلا لاجابة دعائه لكن يجوز أن يستجيب الله
له تفضلا ولطفا وكرما.
[سورة المؤمنون (23): الآيات 52 الى 54]
وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52)
فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ
فَرِحُونَ (53) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54)
__________
(1). راجع ج 1 ص 177.
(2). راجع ج 7 ص 198، وص 223.
فيه
أربع مسائل: الاولى- قوله تعالى: (وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً)
المعنى: هذا الذي تقدم ذكره هو دينكم وملتكم فالتزموه. والامة هنا الدين، وقد تقدم
محامله «1»، ومنه قوله تعالى:" إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ
«2»" [الزخرف: 22] أي على دين. وقال النابغة:
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة ... وهل يأثمن ذو أمة وهو طائع
الثانية- قرئ" وَإِنَّ هذِهِ" بكسر" إِنَّ" على القطع،
وبفتحها وتشديد النون. قال الخليل: هي في موضع نصب لما زال الخافض، أي أنا عالم
بأن هذا دينكم الذي أمرتكم أن تؤمنوا به. وقال الفراء:" أن" متعلقة بفعل
مضمر تقديره: واعلموا أن هذه أمتكم. وهى عند سيبويه متعلقة بقوله"
فاتقون"، والتقدير فاتقون لان أمتكم واحدة. وهذا كقوله تعالى:" وَأَنَّ
الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً «3»" [الجن: 18]، أي
لان المساجد لله فلا تدعوا معه غيره. وكقوله:" لِإِيلافِ قُرَيْشٍ «4» 10:
1" [قريش: 1]، أي فليعبدوا رب هذا البيت لإيلاف قريش. الثالثة- وهذه الآية
تقوى أن قوله تعالى:" يا أَيُّهَا الرُّسُلُ" إنما هو مخاطبة لجميعهم،
وأنه بتقدير حضورهم. وإذا قدرت" يا أَيُّهَا الرُّسُلُ" مخاطبة لمحمد
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قلق «5» اتصال هذه الآية واتصال قوله:"
فَتَقَطَّعُوا". أما أن قوله:" وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ" وإن
كان قيل للأنبياء فأممهم داخلون فيه بالمعنى، فيحسن بعد ذلك اتصال.
(فَتَقَطَّعُوا) أي افترقوا، يعنى الأمم، أي جعلوا دينهم أديانا بعد ما أمروا
بالاجتماع. ثم ذكر تعالى ن كلا منهم معجب برأيه وضلالته وهذا غاية الضلال.
الرابعة- هذه الآية تنظر إلى قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ألا إن من
قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملة وإن هذه الامة ستفترق على ثلاث
وسبعين ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة وهى الجماعة) الحديث. خرجه أبو
داود، ورواه
__________ (1). راجع ج 2 ص 127 وج 3 ص 30.
(2). راجع ج 16 ص 74.
(3). راجع ج 19 ص 19.
(4). راجع ج 20 ص 200.
(5). كذا في ب وج وك والمعنى المراد واضح، وهوان هذا التقدير يقلق ويقطع الاتصال
بين الاثنين. [.....]
أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56)
الترمذي
وزاد: قالوا ومن هي يا رسول الله؟ قال: (ما أنا عليه وأصحابي) خرجه من حديث عبد
الله بن عمرو. وهذا يبين أن الافتراق المحذر منه في الآية والحديث إنما هو في أصول
الدين وقواعده، لأنه قد أطلق عليها مللا، وأخبر أن التمسك بشيء من تلك الملل موجب
لدخول النار. ومثل هذا لا يقال في الفروع، فإنه لا يوجب تعديد الملل ولا عذاب
النار، قال الله تعالى:" لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً
«1»" [المائدة: 48]. قوله تعالى: (زُبُراً) يعنى كتبا وضعوها وضلالات ألفوها،
قاله ابن زيد. وقيل: إنهم فرقوا الكتب فاتبعت فرقة الصحف وفرقة التوراة وفرقة
الزبور وفرقة الإنجيل، ثم حرف الكل وبدل، قاله قتادة. وقيل: أخذ كل فريق منهم كتابا
آمن به وكفر بما سواه. و" زُبُراً" بضم الباء قراءة نافع، جمع زبور.
والأعمش وأبو عمرو بخلاف عنه" زبرا" بفتح الباء، أي قطعا كقطع الحديد،
كقوله تعالى:" آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ «2»" [الكهف: 96]. (كُلُّ
حِزْبٍ) أي فريق وملة. (بِما لَدَيْهِمْ) أي عندهم من الدين. (فَرِحُونَ) أي
معجبون به. وهذه الآية مثال لقريش خاطب محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
في شأنهم متصلا بقوله:" فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ" أي فذر هؤلاء
الذين هم بمنزلة من تقدم، ولا يضيق صدرك بتأخير العذاب عنهم، فلكل شي وقت. والغمرة
في اللغة ما يغمرك ويعلوك، وأصله الستر، ومنه الغمر الحقد لأنه يغطى القلب. والغمر
الماء الكثير لأنه يغطى الأرض. وغمر الرداء الذي يشمل الناس بالعطاء، قال:
غمر الرداء إذا تبسم ضاحكا ... غلقت لضحكته رقاب المال
المراد هنا الحيرة والغفلة والضلالة. ودخل فلان في غمار الناس، أي في زحمتهم.
وقوله تعالى: (حَتَّى حِينٍ) قال مجاهد: حتى الموت، فهو تهديد لا توقيت، كما يقال:
سيأتي لك يوم.
[سورة المؤمنون (23): الآيات 55 الى 56]
أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ (55) نُسارِعُ لَهُمْ
فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ (56)
__________
(1). راجع ج 6 ص 210.
(2). راجع ج 11 ص 60.
إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60)
قوله
تعالى: (أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ)"
ما" بمعنى الذي، أي أيحسبون يا محمد أن الذي نعطيهم في الدنيا من المال
والأولاد هو ثواب لهم، إنما هو استدراج وإملاء، ليس إسراعا في الخيرات. وفي
خبر" أِنَّ" ثلاثة أقوال، منها أنه محذوف. وقال الزجاج: المعنى نسارع
لهم به في الخيرات، وحذفت به. وقال هشام الضرير قولا دقيقا، قال:"
أَنَّما" هي الخيرات، فصار المعنى: نسارع لهم فيه، ثم أظهر فقال" فِي الْخَيْراتِ"،
ولا حذف فيه على هذا التقدير. ومذهب الكسائي أن" إِنَّما" حرف واحد فلا
يحتاج إلى تقدير حذف، ويجوز الوقف على قوله:" وَبَنِينَ". ومن
قال:" أَنَّما" حرفان فلا بد من ضمير يرجع من الخبر إلى اسم"
أَنَّ" ولم يتم الوقف على" وَبَنِينَ". وقال السختياني: لا يحسن
الوقف على" وَبَنِينَ"، لان" يَحْسَبُونَ 30" يحتاج إلى
مفعولين، فتمام المفعولين" فِي الْخَيْراتِ" قال ابن الأنباري: وهذا
خطأ، لان" إِنَّ" كافية من اسم أن وخبرها ولا يجوز أن يؤتى بعد"
إِنَّ" بمفعول ثان. وقرا أبو عبد الرحمن السلمى وعبد الرحمن بن أبى
بكرة" يسارع" بالياء، على أن يكون فاعله إمدادنا. وهذا يجوز أن يكون على
غير حذف، أي يسارع لهم الامداد. ويجوز أن يكون فيه حذف، ويكون المعنى يسارع الله
لهم. وقرى" يسارع لهم في الخيرات" وفية ثلاثة أوجه: أحدها على حذف به.
ويجوز أن يكون يسارع الامداد. ويجوز أن يكون" لَهُمْ" اسم ما لم يسم فاعله،
ذكره النحاس. قال المهدوي: وقرا الحر النحوي" نسرع لهم في الخيرات" وهو
معنى قراءة الجماعة. قال الثعلبي: والصواب قراءة العامة، لقوله:"
نمدهم". (بَلْ لا يَشْعُرُونَ) أن ذلك فتنة لهم واستدراج.
[سورة المؤمنون (23): الآيات 57 الى 60]
إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ
بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ
(59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى
رَبِّهِمْ راجِعُونَ (60)
قوله
تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ) لما فرغ من
ذكر الكفرة وتوعدهم عقب ذلك بذكر المؤمنين المسارعين في الخيرات ووعدهم، وذكر ذلك
بأبلغ صفاتهم. و(مُشْفِقُونَ) خائفون وجلون مما خوفهم الله تعالى. (وَالَّذِينَ
هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا
يُشْرِكُونَ. وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) 60- 58 قال
الحسن: يؤتون الإخلاص ويخافون ألا يقبل منهم. وروى الترمذي عن عائشة رضى الله عنها
زوج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالت: سألت رسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن هذه الآية" وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا
وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ 60" قالت عائشة: أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟
قال: (لا يا بنت الصديق ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون وهم يخافون ألا يقبل
منهم أولئك الذين يسارعون في الخيرات (. وقال الحسن: لقد أدركنا «1» أقواما كانوا
من حسناتهم أن ترد عليهم أشفق منكم على سيئاتكم أن تعذبوا عليها. وقرأت عائشة رضى
الله عنها وابن عباس والنخعي:" والذين يأتون ما أتوا" «2» مقصورا من
الإتيان. قال الفراء: ولو صحت هذه القراءة عن عائشة لم تخالف قراءة الجماعة، لان
الهمز من العرب من يلزم فيه الالف في كل الحالات إذا كتب، فيكتب سئل الرجل بألف
بعد السين، ويستهزئون بألف بين الزاي والواو، وشئ وشئ بألف بعد الياء، فغير مستنكر
في مذهب هؤلاء أن يكتب" يُؤْتُونَ" بألف بعد الياء، فيحتمل هذا اللفظ بالبناء
على هذا الخط قراءتين" يُؤْتُونَ ما آتَوْا 60" و" يأتون ما
أتوا". وينفرد ما عليه الجماعة باحتمال تأويلين: أحدهما- الذين يعطون ما
أعطوا من الزكاة والصدقة وقلوبهم خائفة. والآخر- والذين يؤتون الملائكة الذين
يكتبون الأعمال على العباد ما آتوا وقلوبهم وجلة، فحذف مفعول في هذا الباب لوضوح
معناه، كما حذف في قوله عز وجل:" فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ
يَعْصِرُونَ" [يوسف: 49] والمعنى يعصرون السمسم والعنب، فاختزل المفعول لوضوح
تأويله. ويكون الأصل في الحرف على هجائه الوجود في الامام" يأتون" بألف
مبدلة من الهمزة فكتبت الالف
__________
(1). في ب وك: أدركت.
(2). راجع ج 9 ص 204 فما بعد.
أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61)
واوا
لتآخى حروف المد واللين في الخفاء، حكاه ابن الأنباري. قال النحاس: المعروف من
قراءة ابن عباس" والذين يأتون ما أتوا" وهي القراءة المروية عن النبي
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعن عائشة رضى الله عنها، ومعناها يعملون ما
عملوا، كما روى في الحديث. والوجل نحو الإشفاق والخوف، فالتقى والتائب خوفه أمر
العاقبة وما يطلع عليه بعد الموت. وفي قوله: (أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ)
60 تنبيه على الخاتمة. وفي صحيح البخاري (وإنما الأعمال بالخواتيم). وأما المخلط
فينبغي له أن يكون تحت خوف من أن ينفذ عليه الوعيد بتخليطه. وقال أصحاب الخواطر:
وجل العارف من طاعته أكثر وجلا من وجله من مخالفته، لان المخالفة تمحوها التوبة،
والطاعة تطلب بتصحيح الغرض «1». (أَنَّهُمْ) أي لأنهم، أو من أجل (أَنَّهُمْ إِلى
رَبِّهِمْ راجِعُونَ) 60.
[سورة المؤمنون (23): آية 61]
أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ (61)
قوله تعالى: (أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) أي في الطاعات، كي ينالوا
بذلك أعلى الدرجات والغرفات. وقرى:" يسرعون" في الخيرات، أي يكونوا
سراعا إليها. ويسارعون على معنى يسابقون من سابقهم إليها، فالمفعول محذوف. قال
الزجاج: يسارعون أبلغ من يسرعون. (وَهُمْ لَها سابِقُونَ) أحسن ما قيل فيه: أنهم
يسبقون إلى أوقاتها. ودل بهذا أن الصلاة في أول الوقت أفضل، كما تقدم في"
البقرة»
" وكل من تقدم في شي فهو سابق إليه، وكل من تأخر عنه فقد سبقه وفاته، فاللام
في" لَها" على هذا القول بمعنى إلى، كما قال:" بِأَنَّ رَبَّكَ
أَوْحى «3» لَها" [الزلزلة: 5] أي أوحى إليها. وأنشد سيبويه:
تجانف عن جو اليمامة ناقتي ... وما قصدت من أهلها لسوايكا «4»
وعن ابن عباس في معنى" وَهُمْ لَها سابِقُونَ" سبقت لهم من الله
السعادة، فلذلك سارعوا في الخيرات. وقيل: المعنى وهم من أجل الخيرات سابقون.
__________
(1). كذا في ب وج وفى ك وط: الغرض وفى ا: الفرض.
(2). راجع ج 2 ص 165.
(3). راجع ج 20 ص 148 فما بعد.
(4). البيت للأعشى. والتجانف: الانحراف والجو ما اتسع من الأدوية.
وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (63) حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ (65)
[سورة
المؤمنون (23): آية 62]
وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ
وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (62)
قوله تعالى: وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ
بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (62) قوله تعالى: (وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً
إِلَّا وُسْعَها) قد مضى في" البقرة «1»" وأنه ناسخ لجميع ما ورد في
الشرع من تكليف ما لا يطاق. (وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ) أظهر ما قيل
فيه: إنه أراد كتاب إحصاء الأعمال الذي ترفعه الملائكة، وأضافه إلى نفسه لان
الملائكة كتبت فيه أعمال العباد بأمره، فهو ينطق بالحق. وفي هذا تهديد وتأييس من الحيف
والظلم. ولفظ النطق يجوز في الكتاب، والمراد أن النبيين تنطق بما فيه. والله أعلم.
وقيل: عنى اللوح المحفوظ، وقد أثبت فيه كل شي، فهم لا يجاوزون ذلك. وقيل: الإشارة
بقوله:" وَلَدَيْنا كِتابٌ" القرآن، فالله أعلم، وكل محتمل والأول أظهر.
[سورة المؤمنون (23): الآيات 63 الى 65]
بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ
لَها عامِلُونَ (63) حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ
يَجْأَرُونَ (64) لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ (65)
قوله تعالى: بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ
ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ (63) حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ
إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا
تُنْصَرُونَ (65) قوله تعالى: (بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا) قال
مجاهد: أي في غطاء وغفلة وعماية عن القرآن. ويقال: غمره الماء إذا غطاه. ونهر غمر
يغطى من دخله. ورجل غمر يغمره آراء الناس «2». وقيل:" غَمْرَةٍ" لأنها
تغطى الوجه. ومنه دخل في غمار الناس وخمارهم، أي فيما يغطيه من الجمع. وقيل:"
بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ" أي في حيرة وعمى، أي مما وصف من أعمال البر
في الآيات المتقدمة، قال قتادة. أو من الكتاب الذي ينطق بالحق. (وَلَهُمْ أَعْمالٌ
مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ) قال قتادة ومجاهد: أي لهم خطايا لا بد أن
يعملوها من دون الحق. وقال الحسن وابن زيد: المعنى ولهم أعمال رديئة لم يعملوها من
__________
(1). راجع ج 3 ص 427.
(2). كذا في الأصول. والذي في كتب اللغة:" ورجل غمر وغمر لا تجربة له بحرب
ولا أمر، ولم تحنكه التجارب.==
ج18. الجامع لأحكام القرآن = تفسير القرطبي أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي شمس الدين
القرطبي (المتوفى : 671هـ)
قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (67)
دون
ما هم عليه، لا بد أن يعملوها دون أعمال المؤمنين، فيدخلون بها النار، لما سبق لهم
من الشقوة. ويحتمل ثالثا- أنه ظلم الخلق مع الكفر بالخالق، ذكره الماوردي. والمعنى
متقارب. (حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ) يعني بالسيف يوم بدر،
قاله ابن عباس. وقال الضحاك: يعنى بالجوع حين قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: (اللهم أشدد وطأتك على مضر الله اجعلها عليهم سنين كسنى يوسف).
فابتلاهم الله بالقحط والجوع حتى أكلوا العظام والميتة والكلاب والجيف، وهلك
الأموال والأولاد. (إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ) أي يضجون ويستغيثون. واصل الجؤار رفع
الصوت بالتضرع كما يفعل الثور. وقال الأعشى «1» يصف بقرة:
فطافت ثلاثا بين يوم وليلة ... وكان النكير أن تضيف وتجارا
قال الجوهري: الجؤار مثل الخوار، يقال: جأر الثور يجأر أي صاح. وقرا بعضهم:"
عجلا جسدا له جؤار «2»" حكاه الأخفش. وجار الرجل إلى الله عز وجل تضرع
بالدعاء. قتادة: يصرخون بالتوبة فلا تقبل منهم. قال:
يراوح من صلوات المليك ... فطورا سجودا وطورا جؤارا
وقال ابن جريج:" حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ" هم
الذين قتلوا ببدر" إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ" هم الذين بمكة، فجمع بين
القولين المتقدمين، وهو حسن. (لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا) أي من
عذابنا. (لا تُنْصَرُونَ) لا تمنعون ولا ينفعكم جزعكم. وقال الحسن: لا تنصرون
بقبول التوبة. وقيل: معنى هذا النهى الاخبار، أي إنكم إن تضرعتم لم ينفعكم.
[سورة المؤمنون (23): الآيات 66 الى 67]
قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ
(66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ (67)
قوله تعالى: قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ
تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ (67)
__________
(1). راجع هامش ص 115 من ج 10.
(2). راجع ج 7 ص 284.
قوله
تعالى: (قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ
تَنْكِصُونَ) الآيات يريد بها القرآن." تُتْلى عَلَيْكُمْ 10" أي تقرأ.
قال الضحاك: قبل أن تعذبوا بالقتل و" تَنْكِصُونَ" ترجعون وراءكم.
مجاهد: تستأخرون، وأصله أن ترجع القهقرى. قال الشاعر:
زعموا بأنهم على سبل النجا ... ة وإنما نكص على الأعقاب «1»
وهو هنا استعارة للاعراض عن الحق. وقرا على بن أبى طالب رضى الله عنه" عَلى
أَدْبارِكُمْ" بدل" عَلى أَعْقابِكُمْ"،" تَنْكِصُونَ"
بضم الكاف. (مُسْتَكْبِرِينَ) حال، والضمير في" بِهِ" قال الجمهور: هو
عائد على الحرم أو المسجد أو البلد الذي هو مكة، وإن لم يتقدم له ذكر لشهرته في
الامر، أي يقولون نحن أهل الحرم فلا نخاف. وقيل: المعنى أنهم يعتقدون في نفوسهم أن
لهم بالمسجد والحرم أعظم الحقوق على الناس والمنازل، فيستكبرون لذلك، وليس
الاستكبار من الحق. وقالت فرقة: الضمير عائد عل القرآن من حيث ذكرت الآيات،
والمعنى: يحدث لكم سماع آياتي كبرا وطغيانا فلا تؤمنوا به. قال ابن عطية: وهذا قول
جيد. النحاس: والقول الأول أولى، والمعنى: أنهم يفتخرون بالحرم ويقولون نحن أهل
حرم الله تعالى. قوله تعالى: (سامِراً تَهْجُرُونَ) فيه أربع مسائل: الاولى- قوله
تعالى: (سامِراً تَهْجُرُونَ)
" سامِراً" نصب على الحال، ومعناه سمارا، وهم الجماعة يتحدثون بالليل،
مأخوذ من السمر وهو ظل القمر، ومنه سمرة اللون. وكانوا يتحدثون حول الكعبة في سمر
القمر، فسمى التحدث به. قال الثوري: يقال لظل القمر السمر، ومنه السمرة في اللون،
ويقال له: الفخت، ومنه قيل: فاختة. وقرا أبو رجاء" سمارا" وهو جمع سامر،
كما قال:
الست ترى السمار والناس أحوالي «2»
__________
(1). في الأصول:" إنهم" والبيت لا يتزن إلا بدخول الباء، وهى هنا زائدة،
كقول النابغة:
زعم الغداف بأن رحلتنا غدا
والبيت في ط وك من الخفيف:
زعمو أنهم على سبل ال ... ق وأنا نكص على الأعقاب
(2). هذا عجز بيت لامرئ القيس. وصدره:
فقالت سباك الله إنك فاضحي
[.....]
وفي
حديث قيلة: إذا جاء زوجها «1» من السامر، يعنى من القوم الذين يسمرون بالليل، فهو
اسم مفرد بمعنى الجمع، كالحاضر وهم القوم النازلون على الماء، والباقر جمع البقر،
والجامل جمع الإبل، ذكورتها وإناثها، ومنه قوله تعالى:" ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا
«2»" [الحج: 5] أي أطفالا. يقال: قوم سمر وسمر وسامر، ومعناه سهر الليل،
مأخوذ من السمر وهو ما يقع على الأشجار من ضوء القمر. قال الجوهري: السامر أيضا
السمار، وهم القوم الذين يسمرون، كما يقال للحاج: حجاج، وقول الشاعر:
وسامر طال فيه اللهو والسمر
كأنه سمى المكان الذي يجتمع فيه للسمر بذلك. وقيل: وحد سامرا وهو بمعنى السمار،
لأنه وضع موضع الوقت، كقول الشاعر:
من دونهم إن جئتهم سمرا ... عزف القيان ومجلس غمر
فقال: سمرا، لان معناه: إن جئتهم ليلا وجدتهم وهم يسمرون. وابنا سمير: الليل
والنهار، لأنه يسمر فيهما، يقال: لا أفعله ما سمر ابنا سمير أبدا. ويقال، السمير
الدهر، وابناه الليل والنهار. ولا أفعله السمر والقمر، أي ما دام الناس يسمرون في
ليلة قمراء. ولا أفعله سمير الليالي. قال الشنفري:
هنالك لا أرجو حياة تسرني ... سمير الليالي مبسلا بالجرائر
والسمار (بالفتح) اللبن الرقيق. وكانت العرب تجلس للسمر تتحدث، وهذا أوجب معرفتها
بالنجوم، لأنها تجلس في الصحراء فترى الطوالع من الغوارب. وكانت قريش تسمر حول
الكعبة مجالس في أباطيلها وكفرها: فعابهم الله بذلك. و" تَهْجُرُونَ"
قرئ بضم التاء وكسر الجيم من أهجر، إذا نطق بالفحش. وبنصب التاء وضم الجيم من هجر
المريض إذا هذى. ومعناه: يتكلمون بهوس وسيء من القول في النبي صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفي القرآن، عن ابن عباس وغيره: الثانية- روى سعيد بن جبير عن
ابن عباس قال: إنما كره السمر حين نزلت هذه الآية:" مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً
تَهْجُرُونَ"، يعنى أن الله تعالى ذم أقواما يسمرون في غير
__________
(1). في ب وك: زوجنا.
(2). راجع ص 6 من هذا الجزء
طاعة
الله تعالى، إما في هذيان وإما في أذائه. وكان الأعمش يقول: إذا رأيت الشيخ ولم
يكتب الحديث فاصفعه فإنه من شيوخ القمر، يعنى يجتمعون في ليالي القمر فيتحدثون
بأيام الخلفاء والأمراء ولا يحسن أحدهم يتوضأ للصلاة. الثالثة- روى مسلم عن أبى
برزة قال: كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يؤخر العشاء إلى ثلث الليل
ويكره النوم قبلها والحديث بعدها. قال العلماء: أما الكراهية للنوم قبلها فلئلا يعرضها
للفوات عن كل وقتها أو أفضل وقتها، ولهذا قال عمر: فمن نام فلا نامت عينه، ثلاثا.
وممن كره النوم قبلها عمر وابنه عبد الله وابن عباس وغيرهم، وهو مذهب مالك. ورخص
فيه بعضهم، منه على وأبو موسى وغيرهم، وهو مذهب الكوفيين. وشرط بعضهم أن يجعل معه
من يوقظه للصلاة. وروى عن ابن عمر مثله وإليه ذهب الطحاوي. وأما كراهية الحديث
بعدها فلان الصلاة قد كفرت خطاياه فينام على سلامة، وقد ختم الكتاب صحيفته
بالعبادة، فإن هو سمر وتحدث فيملؤها بالهوس ويجعل خاتمتها اللغو والباطل، وليس هذا
من فعل المؤمنين. وأيضا فإن السمر في الحديث مظنة غلبة النوم آخر الليل فينام عن
قيام آخر الليل، وربما ينام عن صلاة الصبح. وقد قيل: إنما يكره السمر بعدها لما
روى جابر بن عبد الله قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(إياكم والسمر بعد هدأة الرجل فإن أحدكم لا يدرى ما يبث الله تعالى من خلقه أغلقوا
الأبواب وأوكوا السقاء وخمروا الإناء وأطفئوا المصابيح (. وروى عن عمر أنه كان
يضرب الناس على الحديث بعد العشاء، ويقول: أسمرا أول الليل ونوما آخره! أريحوا
كتابكم. حتى أنه روى عن ابن عمر أنه قال: من قرض بيت شعر بعد العشاء لم تقبل له
صلاة حتى يصبح. وأسنده شداد بن أوس إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقد قيل: إن الحكمة في كراهية الحديث بعدها إنما هو لما أن الله تعالى جعل الليل
سكنا، أي يسكن فيه، فإذا تحدث الإنسان فيه فقد جعله في النهار الذي هو متصرف
المعاش، فكأنه قصد إلى مخالفة حكمة الله تعالى التي أجرى عليها وجوده فقال:"
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ
النَّهارَ نُشُوراً" «1» [الفرقان: 47].
__________
(1). راجع ج 13 ص 38.
أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68)
الرابعة-
هذه الكراهة إنما تختص بما لا يكون من قبيل القرب والاذكار وتعليم العلم، ومسامرة
الأهل بالعلم وبتعليم المصالح وما شابه ذلك، فقد ورد عن النبي صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعن السلف ما يدل على جواز ذلك، بل على ندبيته. وقد قال البخاري:
(باب السمر في الفقه والخير بعد العشاء) وذكر أن قرة بن خالد قال: انتظرنا الحسن
وراث «1» علينا حتى جاء قريبا من وقت قيامه، فجاء فقال: دعانا جيراننا هؤلاء. ثم
قال أنس: انتظرنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذات ليلة حتى كان
شطر الليل فجاء فصلى ثم خطبنا فقال: (إن الناس قد صلوا وإنكم لم تزالوا في صلاة ما
انتظرتم الصلاة). قال الحسن: فإن القوم لا يزالون في خير ما انتظروا الخير. قال:
(باب السمر مع الضيف والأهل) وذكر حديث أبى بكر بن عبد الرحمن أن أصحاب الصفة
كانوا فقراء ... الحديث. أخرجه مسلم أيضا. وقد جاء في حراسة الثغور وحفظ العساكر
بالليل من الثواب الجزيل والأجر العظيم ما هو مشهور في الاخبار. وقد مضى من ذلك
جملة في آخر" آل عمران «2»" والحمد لله وحده.
[سورة المؤمنون (23): آية 68]
أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ
الْأَوَّلِينَ (68)
قوله تعالى: (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ) يعنى القرآن، وهو كقوله
تعالى:" أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ «3»" [النساء: 82]. وسمي
القرآن قولا لأنهم خوطبوا به. (أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ
الْأَوَّلِينَ) فأنكروه وأعرضوا عنه. وقيل:" أَمْ" بمعنى بل، أي بل
جاءهم ما لا عهد لآبائهم به، فلذلك أنكروه وتركوا التدبر له. قاله ابن عباس: وقيل:
المعنى أم جاءهم أمان من العذاب، وهو شي لم يأت آباءهم الأولين فتركوا الأعز.
[سورة المؤمنون (23): آية 69]
أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69)
__________
(1). راث: أبطأ.
(2). راجع ج 4 ص 323 فما بعد.
(3). راجع ج 5 ص 288 فما بعد.
أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (70)
هذا
تستعمله العرب على معنى التوقيف والتقبيح، فيقولون: الخير أحب إليك أم الشر، أي قد
أخبرت الشر فتجنبه، وقد عرفوا رسولهم وأنه من أهل الصدق والأمانة، ففي اتباعه
النجاة والخير لولا العنت. قال سفيان: بلى! قد عرفوه ولكنهم حسدوه!
[سورة المؤمنون (23): آية 70]
أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ
كارِهُونَ (70)
قوله تعالى: (أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ) 70 أي أم يحتجون في ترك الايمان به
بأنه مجنون، فليس هو هكذا! لزوال أمارات الجنون عنه. (بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ)
70 يعنى القرآن والتوحيد الحق والدين الحق. (وَأَكْثَرُهُمْ) 110 أي كلهم
(لِلْحَقِّ كارِهُونَ) 70 حسدا وبغيا وتقليدا.
[سورة المؤمنون (23): آية 71]
وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ
فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71)
قوله تعالى: (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ)" الْحَقُّ" هنا هو الله سبحانه
وتعالى، قاله الأكثرون، منهم مجاهد وابن جريج وأبو صالح وغيرهم. وتقديره في
العربية: ولو اتبع صاحب الحق، قاله النحاس. وقد قيل: هو مجاز، أي لو وافق الحق
أهواءهم، فجعل موافقته اتباعا مجازا، أي لو كانوا يكفرون بالرسل ويعصون الله عز
وجل ثم لا يعاقبون ولا يجازون على ذلك إما عجزا وإما جهلا لفسدت السموات والأرض.
وقيل: المعنى ولو كان الحق ما يقولون من اتخاذ آلهة مع الله تعالى لتنافت الآلهة،
وأراد بعضهم ما لا يريده بعض، فاضطرب التدبير وفسدت السموات والأرض، وإذا فسدتا
فسد من فيهما. وقيل:" لَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ" أي بما
يهواه الناس ويشتهونه لبطل نظام العالم، لان شهوات الناس تختلف وتتضاد، وسبيل الحق
أن يكون متبوعا، وسبيل الناس الانقياد للحق. وقيل:" الْحَقُّ" القرآن،
أي لو نزل القرآن بما يحبون لفسدت السموات والأرض. (وَمَنْ فِيهِنَّ) إشارة إلى من
يعقل من ملائكة السموات وإنس الأرض وجنها، الماوردي. وقال الكلبي: يعنى وما بينهما
من
أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72)
خلق،
وهى قراءة ابن مسعود" لفسدت السموات والأرض وما بينهما". فيكون على
تأويل الكلبي وقراءة ابن مسعود محمولا على فساد من يعقل وما لا يعقل من حيوان
وجماد. وظاهر التنزيل في قراءة الجمهور يكون محمولا على فساد ما يعقل من الحيوان،
لان ما لا يعقل تابع لما يعقل في الصلاح والفساد، فعلى هذا ما يكون من الفساد يعود
على من في السموات من الملائكة بأن جعلت أربابا وهى مربوبة، وعبدت وهى مستعبدة.
وفساد الانس يكون على وجهين: أحدهما- باتباع الهوى، وذلك مهلك. الثاني- بعبادة غير
الله، وذلك كفر. وأما فساد ما عدا ذلك فيكون على وجه التبع، لأنهم مدبرون بذوي
العقول فعاد فساد المدبرين عليهم. قوله تعالى: (بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ)
أي بما فيه شرفهم وعزهم، قاله السدى وسفيان. وقال قتادة: أي بما لهم فيه ذكر
ثوابهم وعقابهم. ابن عباس: أي ببيان الحق وذكر ما لهم به حاجة من أمر الدين. (فهم
عن ذكرهم معرضون).
[سورة المؤمنون (23): آية 72]
أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ
(72)
قوله تعالى: (أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً) أي أجرا على ما جئتهم به، قاله الحسن
وغيره. (فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ) وقرا حمزة والكسائي والأعمش ويحيى بن
وثاب:" خراجا" بألف. الباقون بغير ألف. وكلهم قد قرءوا"
فَخَراجُ" بالألف إلا ابن عامر وأبا حيوة فإنهما قرأ بغير الالف. والمعنى: أم
تسألهم رزقا فرزق ربك خير. (وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) أي ليس يقدر أحد أن يرزق
مثل رزقه، ولا ينعم مثل إنعامه. وقيل: أي ما يؤتيك الله من الأجر على طاعتك له
والدعاء إليه خير من عرض الدنيا، وقد عرضوا عليك أموالهم حتى تكون كأعين رجل من
قريش فلم تجبهم إلى ذلك، قال معناه الحسن. والخرج والخراج واحد، إلا أن اختلاف
الكلام أحسن، قاله الأخفش. وقال أبو حاتم: الخرج الجعل، والخراج العطاء.
وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (73)
المبرد:
الخرج المصدر، والخراج الاسم. وقال النضر بن شميل: سألت أبا عمرو بن العلاء عن
الفرق بين الخرج والخراج فقال: الخراج ما لزمك، والخرج ما تبرعت به. وعنه أن الخرج
من الرقاب، والخراج من الأرض. ذكر الأول الثعلبي والثاني الماوردي.
[سورة المؤمنون (23): الآيات 73 الى 74]
وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) وَإِنَّ الَّذِينَ لا
يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ (74)
قوله تعالى: (وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي إلى دين قويم.
والصراط في اللغة الطريق، فسمى الدين طريقا لأنه يؤدى إلى الجنة فهو طريق إليها.
(وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) 10 أي بالبعث. (عَنِ الصِّراطِ
لَناكِبُونَ) قيل: هو مثل الأول. وقيل: إنهم عن طريق الجنة لناكبون حتى يصيروا إلى
النار. نكب عن الطريق ينكب نكوبا إذا عدل عنه ومال إلى غيره، ومنه نكبت الريح إذا
لم تستقم على مجرى. وشر الريح النكباء.
[سورة المؤمنون (23): آية 75]
وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ
يَعْمَهُونَ (75)
قوله تعالى: (وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ) أي لو رددناهم
إلى الدنيا ولم ندخلهم النار وامتحناهم (لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ) قال السدى:
في معصيتهم. (يَعْمَهُونَ) قال الأعمش: يترددون. وقال ابن جريج:" وَلَوْ
رَحِمْناهُمْ" يعنى في الدنيا" وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ"
أي من قحط وجوع" لَلَجُّوا" أي لتمادوا" فِي طُغْيانِهِمْ"
وضلالتهم وتجاوزهم الحد" يَعْمَهُونَ" يتذبذبون ويخبطون.
[سورة المؤمنون (23): آية 76]
وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما
يَتَضَرَّعُونَ (76)
حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77)
قوله
تعالى: (وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ) قال الضحاك: بالجوع. وقيل: بالأمراض
والحاجة والجوع. وقيل: بالقتل والجوع. (فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ) أي ما
خضعوا. (وَما يَتَضَرَّعُونَ) أي ما يخشعون لله عز وجل في الشدائد تصيبهم. قال ابن
عباس: نزلت في قصة ثمامة بن أثال لما أسرته السرية وأسلم وخلى رسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سبيله، حال بين مكة وبين الميرة وقال: والله لا يأتيكم
من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
واخذ الله قريشا بالقحط والجوع حتى أكلوا الميتة والكلاب والعلهز، قيل: وما
العلهز؟ قال: كانوا يأخذون الصوف والوبر فيبلونه بالدم ثم يشوونه ويأكلونه. فقال
له أبو سفيان: أنشدك الله والرحم! أليس تزعم أن الله بعثك رحمة للعالمين؟ قال (بلى).
قال: فوالله ما أراك إلا قتلت الإباء بالسيف، وقتلت الأبناء بالجوع، فنزل
قوله:" وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي
طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ".
[سورة المؤمنون (23): آية 77]
حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ
مُبْلِسُونَ (77)
قوله تعالى: (حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ) قال
عكرمة: هو باب من أبواب جهنم، عليه من الخزنة أربعمائة ألف، سود وجوههم، كالحة
أنيابهم، وقد قلعت الرحمة من قلوبهم، إذا بلغوه فتحه الله عز وجل عليهم. وقال ابن
عباس: هو قتلهم بالسيف يوم بدر. مجاهد: هو القحط الذي أصابهم حتى أكلوا العلهز من
الجوع، على ما تقدم. وقيل: فتح مكة. (إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ) أي يأيسون
متحيرون لا يدرون ما يصنعون، كالآئس من الفرج ومن كل خير. وقد تقدم في"
الانعام «1»".
[سورة المؤمنون (23): آية 78]
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً
ما تَشْكُرُونَ (78)
__________
(1). راجع ج 6 ص 426.
وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (80) بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (81) قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83) قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89)
قوله
تعالى: (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ) عرفهم كثرة نعمه
وكمال قدرته. (قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ) 10 أي ما تشكرون إلا شكرا قليلا. وقيل: أي
لا تشكرون البتة.
[سورة المؤمنون (23): آية 79]
وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79)
قوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ) أي أنشأ كم وبثكم وخلقكم.
(وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) أي تجمعون للجزاء.
[سورة المؤمنون (23): الآيات 80 الى 89]
وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَفَلا
تَعْقِلُونَ (80) بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ (81) قالُوا أَإِذا
مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنا
نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83)
قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84)
سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ
السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا
تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا
يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ
فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89)
قوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ
وَالنَّهارِ) 80 أي جعلهما مختلفين، كقولك: لك الأجر والصلة، أي إنك تؤجر وتوصل،
قاله الفراء. وقيل: اختلافهما نقصان أحدهما وزيادة الأخر. وقيل: اختلافهما في
النور والظلمة. وقيل: تكررهما يوما بعد ليلة وليلة بعد يوم. ويحتمل خامسا: اختلاف
ما مضى فيهما من سعادة وشقاء وضلال وهدى. (أَفَلا تَعْقِلُونَ) كنه قدرته وربوبيته
ووحدانيته، وأنه لا يجوز أن يكون له شريك من خلقه، وأنه قادر على البعث. ثم عيرهم
بقولهم وأخبر عنهم أنهم
(قالُوا
مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً
أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) هذا لا يكون ولا يتصور. (لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ
وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ) أي من قبل مجيء محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فلم نر له حقيقة. (إِنْ هذا) أي ما هذا (إِلَّا أَساطِيرُ
الْأَوَّلِينَ) أي أباطيلهم وترهاتهم، وقد تقدم هذا كله. قال الله تعالى: (قُلْ)
يا محمد جوابا لهم عما قالوه (لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها) يخبر بربوبيته
ووحدانيته وملكه الذي لا يزول، وقدرته التي لا تحول، ف (سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) ولا
بد لهم من ذلك. ف (قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) أي أفلا تتعظون وتعلمون أن من قدر
على خلق ذلك ابتداء فهو على إحياء الموتى بعد موتهم قادر. (قُلْ مَنْ رَبُّ
السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ
أَفَلا تَتَّقُونَ) يريد أفلا تخافون حيث تجعلون لي ما تكرهون، زعمتم أن الملائكة
بناتي، وكرهتم لأنفسكم البنات. (قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ) يريد
السموات وما فوقها وما بينهن، والأرضين وما تحتهن وما بينهن، وما لا يعلمه أحد إلا
هو. وقال مجاهد:" مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ" خزائن كل شي. الضحاك: ملك كل
شي. والملكوت من صفات المبالغة كالجبروت والرهبوت، وقد مضى في" الانعام
«1»". (وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ) أي يمنع ولا يمنع منه.
وقيل:" يُجِيرُ" يؤمن من شاء." وَلا يُجارُ عَلَيْهِ" أي لا
يؤمن من أخافه. ثم قيل: هذا في الدنيا، أي من أراد الله إهلاكه وخوفه لم يمنعه منه
مانع، ومن أراد نصره وأمنه لم يدفعه من نصره وأمنه دافع. وقيل: هذا في الآخرة، أي
لا يمنعه من مستحق الثواب مانع ولا يدفعه عن مستوجب العذاب دافع. (فَأَنَّى تُسْحَرُونَ)
أي فكيف تخدعون وتصرفون عن طاعته وتوحيده. أو كيف يخيل إليكم أن تشركوا به مالا
يضر ولا ينفع! والسحر هو التخييل. وكل هذا احتجاج على العرب المقرين بالصانع. وقرا
أبو عمرو:" سيقولون الله" في الموضعين الأخيرين، وهى قراءة أهل العراق.
الباقون:" لِلَّهِ"، ولا خلاف في الأول أنه" لله"، لأنه جواب
ل" قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها" فلما تقدمت اللام في"
لِمَنِ" رجعت في الجواب. ولا خلاف أنه
__________
(1). راجع ج 7 ص 23.
بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (90) مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92)
مكتوب
في جميع المصاحف بغير ألف. وأما من قرأ:" سيقولون الله" فلان السؤال
بغير لام فجاء الجواب على لفظه، وجاء في الأول" لِلَّهِ" لما كان السؤال
باللام. وأما من قرأ:" لِلَّهِ" باللام في الأخيرين وليس في السؤال لام
فلان معنى" قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ
الْعَظِيمِ": قل لمن السموات السبع ورب العرش العظيم. فكان الجواب"
لِلَّهِ"، حين قدرت اللام في السؤال. وعلة الثالثة كعلة الثانية. وقال
الشاعر:
إذا قيل من رب المزالف والقرى ... ورب الجياد الجرد قلت لخالد «1»
أي لمن المزالف، [والمزالف: البراغيل وهى البلاد التي بين الريف والبر: الواحدة
مزلفة «2»]. ودلت هذه الآيات على جواز جدال الكفار وإقامة الحجة عليهم. وقد تقدم
في" البقرة «3»". ونبهت على أن من ابتدأ بالخلق والاختراع والإيجاد
والإبداع هو المستحق للألوهية والعبادة.
[سورة المؤمنون (23): الآيات 90 الى 92]
بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (90) مَا اتَّخَذَ اللَّهُ
مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ
وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عالِمِ
الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92)
قوله تعالى: (بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ) 90 أي بالقول الصدق، لا ما تقوله
الكفار من إثبات الشريك ونفى البعث. (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) أن الملائكة بنات
الله. فقال الله تعالى: (مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ)" مِنْ" صلة.
(وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ)" مِنْ" زائدة، والتقدير: ما اتخذ الله
ولدا كما زعمتم، ولا كان معه إله فيما خلق. وفي الكلام حذف، والمعنى: لو كانت معه
آلهة لا نفرد كل إله بخلقه. (وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) أي ولغالب وطلب
القوى الضعيف كالعادة بين الملوك، وكان الضعيف المغلوب لا يستحق الإلهية. وهذا
الذي يدل على نفى الشريك يدل على نفى الولد أيضا، لان الولد ينازع الأب في الملك
منازعة الشريك.
__________
(1). الأجرد من الخيل والدواب: القصير الشعر.
(2). من ب.
(3). راجع ج 3 ص 286.
قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93)
(سُبْحانَ
اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ) تنزيها له عن الولد والشريك. (عالِمِ الْغَيْبِ
وَالشَّهادَةِ) [أي هو «1» عالم الغيب ] (فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) تنزيه
وتقديس. وقرا نافع وأبو بكر وحمزة والكسائي:" عالم" بالرفع على
الاستئناف، أي هو عالم الغيب. الباقون بالجر على الصفة لله. وروى رويس عن
يعقوب:" عالِمِ" إذا وصل خفضا. و" عالم" إذا ابتدأ رفعا.
[سورة المؤمنون (23): الآيات 93 الى 94]
قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي
الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94)
علمه ما يدعو به، أي قل رب، أي يا رب إن أريتني ما يوعدون من العذاب. (فَلا
تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي في نزول العذاب بهم، بل أخرجني منهم.
وقيل: النداء معترض، و" ما" في" إِمَّا" زائدة. وقيل: إن أصل
إما إن ما، ف" إن" شرط و" ما" شرط، فجمع بين الشرطين توكيدا،
والجواب:" فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ"، أي إذا أردت
بهم عقوبة فأخرجني منهم. وكان عليه السلام يعلم أن الله تعالى لا يجعله في القوم
الظالمين إذا نزل بهم العذاب، ومع هذا أمره الرب بهذا الدعاء والسؤال ليعظم أجره
وليكون في كل الأوقات ذاكرا لربه تعالى.
[سورة المؤمنون (23): آية 95]
وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ (95)
نبه على أن خلاف المعلوم مقدور، وقد أراه الله تعالى ذلك فيهم بالجوع والسيف،
ونجاه الله ومن آمن به من ذلك.
[سورة المؤمنون (23): آية 96]
ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ
(96)
قوله تعالى: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ) أمر بالصفح ومكارم
الأخلاق، فما كان منها لهذه الامة فيما بينهم فهو محكم باق في الامة أبدا. وما كان
فيها من [معنى «2»] موادعة الكفار وترك التعرض لهم والصفح عن أمورهم فمنسوخ
بالقتال. (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ) أي من الشرك والتكذيب. وهذا يقتضى أنها
آية موادعة، والله تعالى أعلم.
__________
(1). من ب.
(2). من ب وج وط وك.
وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98)
[سورة
المؤمنون (23): الآيات 97 الى 98]
وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ
أَنْ يَحْضُرُونِ (98)
قوله تعالى: (وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ). فيه
مسألتان: الاولى- قوله تعالى: (مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ) الهمزات هي جمع همزة.
والهمز في اللغة النخس والدفع، يقال: همزة ولمزه ونخسه دفعه. قال الليث: الهمز
كلام من وراء القفا، واللمز مواجهة. والشيطان يوسوس فيهمس في وسواسه في صدر ابن
آدم، وهو قوله:" أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ" أي نزغات
الشياطين الشاغلة عن ذكر الله تعالى. وفي الحديث: كان يتعوذ من همز الشياطين ولمزه
وهمسه. قال أبو الهيثم: إذا أسر الكلام وأخفاه فذلك الهمس من الكلام. وسمي الأسد
هوسا، لأنه يمشى بخفة فلا يسمع صوت وطئه. وقد تقدم في" طه «1»".
الثانية- أمر الله تعالى نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمؤمنين
بالتعوذ من الشيطان في همزاته، وهى سورات الغضب التي لا يملك الإنسان فيها نفسه،
وكأنها هي التي كانت تصيب المؤمنين مع الكفار فتقع المحادة فلذلك اتصلت بهذه
الآية. فالنزغات وسورات الغضب الواردة من الشيطان هي المتعوذ منها في الآية، وقد
تقدم في آخر" الأعراف «2» بيانه مستوفى، وفي أو الكتاب أيضا «3». وروى عن على
بن حرب بن محمد الطائي حدثنا سفيان عن أيوب عن محمد بن حبان أن خالدا كان يؤرق من
الليل، فذكر ذلك للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأمره أن يتعوذ بكلمات
الله التامة من غضب الله وعقابه ومن شر عباده ومن همزات الشياطين وأن يحضرون. وفي
كتاب أبى داود قال عمر: وهمزه الموتة، قال ابن ماجة: الموتة يعنى الجنون. والتعوذ
أيضا من الجنون وكيد. وفي قراءة أبى" رب عائذا بك من همزات الشياطين، وعائذا
بك أن يحضرون، أي يكونوا معى في أموري،
__________
(1). راجع ج 11 ص 247. [.....]
(2). راجع ج 7 ص 347.
(3). راجع ج 1 ص 86.
حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)
فإنهم
إذا حضروا الإنسان كانوا معدين للهمز، وإذا لم يكن حضور فلا همز. وفي صحيح مسلم عن
جابر قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول:" إن
الشيطان يحضر أحدكم عند كل شي من شأنه حتى يحضر عند طعامه فإذا سقطت من أحدكم
اللقمة فليمط ما كان بها من أذى ثم ليأكلها ولا يدعها للشيطان فإذا فرغ فليلعق
أصابعه فإنه لا يدرى في أي طعامه البركة.
[سورة المؤمنون (23): الآيات 99 الى 100]
حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ
صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ
بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)
قوله تعالى: (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ) عاد
الكلام إلى ذكر المشركين، أي قالوا:" أَإِذا مِتْنا"- إلى قوله-"
إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ". ثم احتج عليهم وذكرهم قدرته على
كل شي، ثم قال: هم مصرون على ذلك حتى إذا جاء أحدهم الموت تيقن ضلالته وعاين
الملائكة التي تقبض روحه، كما قال تعالى:" وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى
الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ «1» 50" [الأنفال: 50]. (قالَ رَبِّ
ارْجِعُونِ) تمنى الرجعة كي يعمل صالحا فيما ترك. وقد يكون القول في النفس، قال
الله عز وجل:" وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ
بِما نَقُولُ «2»" [المجادلة: 8]. فأما قوله" ارْجِعُونِ" وهو
مخاطب ربه عز وجل ولم يقل:" ارجعني" جاء على تعظيم الذكر للمخاطب. وقيل:
استغاثوا بالله عز وجل أولا، فقال قائلهم: رب، ثم رجع إلى مخاطبة الملائكة فقال:
ارجعون إلى الدنيا، قاله ابن جريج. وقيل: إن معنى" ارْجِعُونِ" على جهة
التكرير، أي ارجعني ارجعني ارجعني وهكذا. قال المزني في قوله تعالى:"
أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ «3» 50: 24" [ق: 24] قال: معناه ألق ألق. قال الضحاك:
المراد به أهل الشرك. قلت: ليس سؤال الرجعة مختصا بالكافر فقد يسألها المؤمن كما
في آخر سورة المنافقين على ما يأتي «4». ودلت الآية على أن أحدا لا يموت حتى يعرف
اضطرارا أهو من أولياء
__________
(1). راجع ج 8 ص 28.
(2). راجع ج 17 ص 294،.
(3). راجع ج 17 ص 16.
(4). راجع ج 18 ص 130.
الله
أم من أعداء الله، ولولا ذلك لما سأل الرجعة، فيعلموا ذلك قبل نزول الموت وذواقة.
(لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً) 100 قال ابن عباس: يريد أشهد أن لا إله إلا الله.
(فِيما تَرَكْتُ) 100 أي فيما ضيعت وتركت العمل به من الطاعات. وقيل:" فِيما
تَرَكْتُ 100" من المال فأتصدق. و" لَعَلَّ" تتضمن ترددا، وهذا
الذي يسأل الرجعة قد استيقن العذاب، وهو يوطن نفسه على العمل الصالح قطعا من غير
تردد. فالتردد يرجع إما إلى رده إلى الدنيا، وإما إلى التوفيق، أي أعمل صالحا إن
وفقتني، إذ ليس على قطع من وجود القدرة والتوفيق لو رد إلى الدنيا. (كَلَّا) هذه
كلمة رد، أي ليس الامر على ما يظنه من أنه يجاب إلى الرجوع إلى الدنيا، بل هو كلام
يطيح في أدراج الريح. وقيل: لو أجيب إلى ما يطلب لما وفى بما يقول، كما قال:"
وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ «1»" [الانعام: 28]. وقيل:"
كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها 100" ترجع إلى الله تعالى، أي لا خلف
في خبره، وقد أخبر أنه لن يؤخر نفسا إذا جاء أجلها، وأخبر بأن هذا الكافر لا يؤمن.
وقيل:" إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها 100" عند الموت، ولكن لا تنفع.
(وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ) 100 أي ومن أمامهم وبين أيديهم. وقيل: من
خلفهم." بَرْزَخٌ 100" أي حاجز بين الموت والبعث، قاله الضحاك ومجاهد
وابن زيد. وعن مجاهد أيضا أن البرزخ هو الحاجز بين الموت والرجوع إلى الدنيا. وعن
الضحاك: هو ما بين الدنيا والآخرة. ابن عباس: حجاب. السدى: أجل. قتادة: بقية
الدنيا. وقيل: الامهال إلى يوم القيامة، حكاه ابن عيسى. الكلبي: هو الأجل ما بين
النفختين، وبينهما أربعون سنة. وهذه الأقوال متقاربة. وكل حاجز بين شيئين فهو برزخ.
قال الجوهري: البرزخ الحاجز بين الشيئين. والبرزخ ما بين الدنيا والآخرة من وقت
الموت إلى البعث، فمن مات فقد دخل في البرزخ. وقال رجل بحضرة الشعبي: رحم الله
فلانا فقد صار من أهل الآخرة! فقال: لم يصر من أهل الآخرة، ولكنه صار من أهل
البرزخ، وليس من الدنيا ولا من الآخرة. وأضيف" يَوْمِ" إلى"
يُبْعَثُونَ" لأنه ظرف زمان، والمراد بالإضافة المصدر.
__________
(1). راجع ج 6 ص 10.
فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101)
[سورة
المؤمنون (23): آية 101]
فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا
يَتَساءَلُونَ (101)
قوله تعالى: (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ) المراد بهذا النفخ النفخة الثانية.
(فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ) قال ابن عباس: لا
يفتخرون بالأنساب في الآخرة كما يفتخرون بها في الدنيا، ولا يتساءلون فيها كما
يتساءلون في الدنيا، من أي قبيلة أنت ولا من أي نسب، ولا يتعارفون لهول ما أذهلهم.
وعن ابن عباس أن ذلك في النفخة الاولى حين يصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من
شاء الله فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون، ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام
ينظرون، وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون. وسأل رجل ابن عباس عن هذه الآية
وقوله:" فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ «1» 50"
[الصافات: 50] فقال: لا يتساءلون في النفخة الاولى، لأنه لا يبقى على الأرض حي،
فلا أنساب ولا تساؤل. وأما قوله:" فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ
يَتَساءَلُونَ 50" فإنهم إذا دخلوا الجنة تساءلوا. وقال ابن مسعود: إنما عنى
في هذه الآية النفخة الثانية. وقال أبو عمر زاذان: دخلت على ابن مسعود فوجدت أصحاب
الخير واليمنة قد سبقوني إليه، فناديت بأعلى صوت: يا عبد الله بن مسعود! من أجل
أنى رجل أعجمي أدنيت هؤلاء وأقصيتني! فقال: ادنه، فدنوت، حتى ما كان بيني وبينه
جليس فسمعته يقول: يؤخذ بيد العبد أو الامة يوم القيامة فينصب على رءوس الأولين
والآخرين ثم ينادى مناد: هذا فلان بن فلان، ومن كان له حق فليأت إلى حقه، فتفرح
المرأة أن يدور لها الحق على أبيها أو على زوجها أو على أخيها أو على ابنها، ثم
قرأ ابن مسعود:" فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ
10" فيقول الرب سبحانه وتعالى (آت هؤلاء حقوقهم) فيقول: يا رب قد فنيت الدنيا
فمن أين أوتيهم، فيقول الرب للملائكة: (خذوا من حسناته فأعطوا كل إنسان بقدر
طلبته) فإن كان وليا لله فضلت من حسناته مثقال حبة من خردل فيضاعفها الله تعالى
حتى يدخله بها الجنة، ثم قرأ ابن مسعود:
__________
(1). راجع ج 15 ص 81.
فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104) أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105)
"
إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها
وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً «1» 40" [النساء: 40]. وإن كان شقيا
قالت الملائكة: رب! فنيت حسناته وبقي طالبون، فيقول الله تعالى: (خذوا من أعمالهم
فأضيفوها إلى سيئاته وصكوا له صكا إلى جهنم).
[سورة المؤمنون (23): الآيات 102 الى 103]
فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ
مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ
(103)
تقدم الكلام فيهما».
[سورة المؤمنون (23): الآيات 104 الى 105]
تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ (104) أَلَمْ تَكُنْ آياتِي
تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (105)
قوله تعالى: (تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ) 10 ويقال" تنفح" بمعناه:
ومنه:" وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ" «3»
[الأنبياء: 46]. إلا أن" تَلْفَحُ 10" أبلغ بأسا، يقال: لفحته النار
والسموم بحرها أحرقته. ولفحته بالسيف لفحة إذا ضربته به [ضربة «4»] خفيفة. (وَهُمْ
فِيها كالِحُونَ) 10 قال ابن عباس: عابسون. وقال أهل اللغة: الكلوح تكشر في عبوس.
والكالح: الذي قد تشمرت شفتاه وبدت أسنانه. قال الأعمش:
وله المقدم لا مثل له ... ساعة الشدق عن الناب كلح
وقد كلح الرجل كلوحا وكلاحا. وما أقبح كلحته، يراد به الفم وما حواليه. ودهر كالح
أي شديد. وعن ابن عباس أيضا" وَهُمْ فِيها كالِحُونَ 10" يريد كالذي كلح
وتقلصت شفتاه وسال صديده. وقال ابن مسعود: ألم تر إلى الرأس المشيط بالنار، وقد
بدت أسنانه وقلصت شفتاه. وفي الترمذي عن أبى سعيد الخدري عن النبي صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: وَهُمْ فِيها كالِحُونَ 10- (قال- تشويه النار فتقلص شفته
العليا حتى تبلغ وسط رأسه وتسترخي شفته السفلى حتى تضرب سرته) قال: هذا حديث حسن
صحيح غريب.
__________
(1). راجع ج 5 ص 194 فما بعد.
(2). راجع ج 7 ص 166.
(3). راجع ج 11 ص 292 فما بعد.
(4). كذا في معاجم اللغة. وفي الأصول: ضربته حقيقة وهو تحريف.
قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108)
[سورة
المؤمنون (23): الآيات 106 الى 108]
قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ (106)
رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ (107) قالَ اخْسَؤُا
فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ (108)
قوله تعالى: (قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا) 10 قراءة أهل المدينة
وأبى عمرو وعاصم" شِقْوَتُنا 10" وقرا الكوفيون إلا عاصما:"
شقاوتنا". وهذه القراءة مروية عن ابن مسعود والحسن. ويقال: شقاء وشقا، بالمد
والقصر. وأحسن ما قيل في معناه: غلبت علينا لذاتنا وأهواؤنا، فسمى اللذات والاهواء
شقوة، لأنهما يؤديان إليها، كما قال الله عز وجل:" إِنَّ الَّذِينَ
يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ
ناراً «1» 10" [النساء: 10]، لان ذلك يؤديهم إلى النار. وقيل: ما سبق في علمك
وكتب علينا في أم الكتاب من الشقاوة. وقيل: حسن الظن بالنفس وسوء الظن بالخلق.
(وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ) 10 أي كنا في فعلنا ضالين عن الهدى. وليس هذا اعتذار
منهم إنما هو إقرار، ويدل على ذلك قولهم: (رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ
عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ) 10 طلبوا الرجعة إلى الدنيا كما طلبوها عند
الموت." فَإِنْ عُدْنا 10" إلى الكفر" فَإِنَّا ظالِمُونَ 10"
لأنفسنا بالعود إليه فيجابون بعد ألف سنة: (اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) 10
أي ابعدوا في جهنم، كما يقال للكلب: اخسأ، أي أبعد. خسأت الكلب خسئا طردته. وخسأ
الكلب بنفسه خسوءا، يتعدى ولا يتعدى. وانخسأ الكلب أيضا. وذكر ابن المبارك قال:
حدثنا سعيد بن أبى عروبة عن قتادة يذكره عن أبى أيوب عن عبد الله بن عمرو ابن
العاصي قال: إن أهل جهنم يدعون مالكا فلا يجيبهم أربعين عاما، ثم يرد عليهم: إنكم
ماكثون. قال: هانت والله دعوتهم على مالك ورب مالك. قال: ثم يدعون ربهم
فيقولون:" رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ.
رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ 10- 106". قال:
فيسكت عنهم قدر الدنيا مرتين. قال: ثم يرد عليهم اخسئوا فيها. قال: فوالله ما نبس
القوم بعدها بكلمة، وما هو إلا الزفير والشهيق من نار جهنم
__________
(1). راجع ج 5 ص 53
إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (111)
فشبه
أصواتهم بصوت الحمير، أولها زفير وآخرها شهيق. خرجه الترمذي مرفوعا بمعناه من حيث
أبى الدرداء. وقال قتادة: صوت الكفار في النار كصوت الحمار، أوله زفير وآخره شهيق.
وقال ابن عباس: يصير لهم نباح كنباح الكلاب. وقال محمد بن كعب القرظي: بلغني أو
ذكر لي أن أهل النار استغاثوا بالخزنة ... الخبر بطوله، ذكره ابن المبارك، وقد
ذكرناه بكماله في التذكرة، وفي آخره: ثم مكث عنهم ما شاء الله، ثم ناداهم"
أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ 10"
قال: فلما سمعوا صوته قالوا ألان يرحمنا ربنا، فقالوا عند ذلك." رَبَّنا
غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا 10" أي الكتاب الذي كتب علينا" وَكُنَّا
قَوْماً ضالِّينَ. رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ
10- 106" فقال عند ذلك:" اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ 10"
فانقطع عند ذلك الدعاء والرجاء، وأقبل بعضهم على بعض ينبح بعضهم في وجوه بعض،
وأطبقت عليهم.
[سورة المؤمنون (23): الآيات 109 الى 111]
إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا
وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا
حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي
جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ (111)
قوله تعالى: (إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا
فَاغْفِرْ لَنا) 10 الآية. قال مجاهد: هم بلال وخباب وصهيب، وفلان وفلان من ضعفاء
المسلمين، كان أبو جهل وأصحابه يهزءون بهم. (فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا) 110
بالضم قراءة نافع وحمزة والكسائي ها هنا وفي" ص «1»". وكسر الباقون. قال
النحاس: وفرق أبو عمرو بينهما، فجعل المكسورة من جهة التهزؤ، والمضمومة من جهة
السخرة، ولا يعرف هذا التفريق الخليل ولا سيبويه ولا الكسائي ولا الفراء. قال
الكسائي: هما لغتان بمعنى واحد، كما يقال: عصى وعصى، ولجي ولجي. وحكى الثعلبي عن
الكسائي والفراء: الفرق الذي ذكره أبو عمرو، وأن الكسر بمعنى الاستهزاء
__________
(1). راجع ج 15 ص 224 فما بعد. [.....]
قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113) قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114)
والسخرية
بالقول، والضم بمعنى التسخير والاستبعاد بالفعل. وقال المبرد: إنما يؤخذ التفريق
بين المعاني عن العرب، وأما التأويل فلا يكون. والكسر في سخرى في المعنيين جميعا،
لان الضمة تستثقل في مثل هذا. (حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي) 110 أي [حتى «1»]
اشتغلتم بالاستهزاء بهم عن ذكرى. (وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ) 110 استهزاء
بهم، وأضاف الإنساء إلى المؤمنين لأنهم كانوا سببا لاشتغالهم عن ذكره، وتعدى شؤم
استهزائهم بالمؤمنين إلى استيلاء الكفر على قلوبهم. (إِنِّي جَزَيْتُهُمُ
الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا) على أذاكم، وصبروا على طاعتي. (أَنَّهُمْ هُمُ
الْفائِزُونَ) قرأ حمزة والكسائي بكسر الهمزة على ابتداء المدح من الله تعالى لهم:
وفتح الباقون، أي لأنهم هم الفائزون. ويجوز نصبه بوقوع الجزاء عليه، تقديره: إنى
جزيتهم اليوم الفوز بالجنة. قلت: وينظر إلى معنى هذا قوله تعالى في آخر
المطففين:" فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ
" [المطففين: 34] إلى آخر السورة، على ما يأتي بيانه هناك «2» إن شاء الله
تعالى. ويستفاد من هذا: التحذير من السخرية والاستهزاء بالضعفاء والمساكين
والاحتقار لهم، والإزراء عليهم والاشتغال بهم فيما لا يغنى، وأن ذلك مبعد من الله
عز وجل.
[سورة المؤمنون (23): الآيات 112 الى 114]
قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قالُوا لَبِثْنا يَوْماً
أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ (113) قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ
قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114)
قوله تعالى: (قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ) قيل: يعنى في القبور. وقيل: هو
سؤال لهم عن مدة حياتهم في الدنيا. وهذا السؤال للمشركين في عرصات القيامة أو في
النار. (عَدَدَ سِنِينَ) بفتح النون على أنه جمع مسلم، ومن العرب من يخفضها
وينونها. (قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) أنساهم شدة العذاب مدة
مكثهم في القبور. وقيل: لان العذاب رفع عنهم بين النفختين فنسوا ما كانوا فيه من
العذاب في قبورهم. قال ابن عباس: أنساهم ما كانوا فيه من العذاب من النفخة الاولى
إلى الثانية، وذلك أنه ليس من أحد قتله نبى أو قتل نبيا
__________
(1). من ب.
(2). راجع ج 19 ص 265 فما بعد.
أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115)
أو
مات بحضرة نبى إلا عذب من ساعة يموت إلى النفخة الاولى، ثم يمسك عنه العذاب فيكون
كالماء حتى ينفخ الثانية. وقيل: استقصروا مدة لبثهم في الدنيا وفي القبور وراؤه
يسيرا بالنسبة إلى ما هم بصدده. (فَسْئَلِ الْعادِّينَ) أي سل الحساب الذين يعرفون
ذلك فإنا قد نسيناه، أو فاسأل الملائكة الذين كانوا معنا في الدنيا، الأول قول
قتادة، والثاني قول مجاهد، وقرا ابن كثير وحمزة والكسائي:" قل كم لبثتم في
الأرض" على الامر. ويحتمل ثلاثة معان: أحدها- قولوا كم لبثتم، فأخرج الكلام
مخرج الامر للواحد والمراد الجماعة، إذ كان المعنى مفهوما. الثاني- أن يكون أمرا
للملك ليسألهم يوم البعث عن قدر مكثهم في الدنيا. أو أراد قل أيها الكافر كم
لبثتم، وهو الثالث. الباقون" قالَ كَمْ" على الخبر، أي قال الله تعالى
لهم، أو قالت الملائكة لهم كم لبثتم. وقرا حمزة والكسائي أيضا: (قل إن لبثتم إلا
قليلا) الباقون" قالَ 30" على الخبر، على ما ذكر من التأويل الأول، أي
ما لبثتم في الأرض إلا قليلا، وذلك أن مكثهم في القبور وإن طال كان متناهيا. وقيل:
هو قليل بالنسبة إلى مكثهم في النار، لأنه لا نهاية له. (لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ
تَعْلَمُونَ) ذلك.
[سورة المؤمنون (23): آية 115]
أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ
(115)
قوله تعالى: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً) أي مهملين كما خلقت
البهائم لا ثواب لها ولا عقاب عليها، مثل قوله تعالى:" أَيَحْسَبُ
الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً «1»" [القيامة: 36] يريد كالبهائم مهملا
لغير فائدة. قال الترمذي الحكيم أبو عبد الله محمد بن على: إن الله تعالى خلق
الخلق عبيدا ليعبدوه، فيثيبهم على العبادة ويعاقبهم على تركها، فإن عبدوه فهم
اليوم له عبيد أحرار كرام من رق الدنيا، ملوك في دار الإسلام، وإن رفضوا العبودية
فهم اليوم عبيد أباق سقاط لئام، وغدا أعداء في السجون بين أطباق النيران. و"
عَبَثاً" نصب على الحال عند سيبويه وقطرب. وقال أبو عبيدة: هو نصب على المصدر
أو لأنه مفعول له. (وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) فتجازون بأعمالكم. قرأ
حمزة والكسائي" ترجعون" بفتح التاء وكسر الجيم من الرجوع.
__________
(1). راجع ج 19 ص 114 فما بعد.
فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118)
[سورة
المؤمنون (23): آية 116]
فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ
الْكَرِيمِ (116)
قوله تعالى: (فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ) 20: 114 أي تنزه وتقدس الله
الملك الحق عن الأولاد والشركاء والأنداد، وعن أن يخلق شيئا عبثا أو سفها، لأنه
الحكيم. (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) ليس في القرآن غيرها.
وقرا ابن محيصن وروى عن ابن كثير" الْكَرِيمِ" بالرفع نعتا لله «1».
[سورة المؤمنون (23): الآيات 117 الى 118]
وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما
حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (117) وَقُلْ رَبِّ
اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118)
قوله تعالى: (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ) أي
لا حجة له عليه (فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ) أي هو يعاقبه ويحاسبه."
إِنَّهُ" الهاء ضمير الامر والشأن. (لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) وقرا الحسن
وقتادة:" لا يُفْلِحُ"- بالفتح- من كذب وجحد ما جئت به وكفر نعمتي. ثم
أمر نبيه عليه الصلاة والسلام بالاستغفار لتقتدى به الامة. وقيل: أمره بالاستغفار
لامته. وأسند الثعلبي من حديث ابن لهيعة عن عبد الله بن هبيرة عن حنش ابن عبد الله
الصنعاني عن عبد الله بن مسعود أنه مر بمصاب مبتلى فقرأ في أذنه:"
أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً" حتى ختم السورة فبرأ. فقال
رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ماذا قرأت في أذنه)؟ فأخبره، فقال:
(والذي نفسي بيده لو أن رجلا موقنا قرأها على جبل لزال).
__________
(1). في روح المعاني:" الكريم" بالرفع على أنه صفة الرب، وجوز أن يكون
صفة للعرش على القطع".
سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1)
[سورة
النور]
سورة النور مدنية بالإجماع بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة النور (24): آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ
لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1)
مقصود هذه السورة ذكر أحكام العفاف والستر. وكتب عمر رضى الله عنه إلى أهل الكوفة:
علموا نساءكم سورة النور. وقالت عائشة رضى الله عنها: (لا تنزلوا النساء الغرف ولا
تعلموهن الكتابة وعلموهن سورة النور والغزل.) وفرضناها) قرئ بتخفيف الراء، أي
فرضنا عليكم وعلى من بعدكم ما فيها من الأحكام. وبالتشديد: أي أنزلنا فيها فرائض
مختلفة. وقرا أبو عمرو:" وفرضناها" بالتشديد أي قطعناها في الانزال نجما
نجما. والفرض القطع، ومنه فرضة القوس. وفرائض الميراث وفرض النفقة. وعنه
أيضا:" فرضناها" فصلناها وبيناها. وقيل: هو على التكثير، لكثرة ما فيها
من الفرائض. والسورة في اللغة اسم للمنزلة الشريفة، ولذلك سميت السورة من القرآن
سورة. قال زهير «1»:
ألم تر أن الله أعطاك سورة ... ترى كل ملك دونها يتذبذب
وقد مضى في مقدمة الكتاب «2» القول فيها. وقرى:" سُورَةٌ" بالرفع على
أنها مبتدأ وخبرها" أَنْزَلْناها"، قاله أبو عبيدة والأخفش. وقال الزجاج
والفراء والمبرد:" سُورَةٌ" بالرفع لأنها خبر الابتداء، لأنها نكرة ولا
يبتدأ بالنكرة في كل موضع، أي هذه سورة. ويحتمل أن يكون قوله:" سُورَةٌ"
ابتداء وما بعدها صفة لها أخرجتها عن حد النكرة المحضة فحسن الابتداء لذلك، ويكون
الخبر في قوله:" الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي". وقرى" سورة"
بالنصب، على تقدير أنزلنا سورة أنزلناها. وقال الشاعر «3»:
__________
(1). كذا في الأصول. والمعروف أن هذا البيت للنابغة الذبيانى من قصيدة يمدح بها
النعمان ويعتذر.
(2). راجع ج 1 ص 65.
(3). هو الربيع بن ضبيع بن وهب (عن شرح الشواهد الكبرى للعينى).
الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2)
والذئب
أخشاه إن مررت به ... وحدي وأخشى الرياح والمطرا
أو تكون منصوبة بإضمار فعل أي أنل سورة. وقال الفراء: هي حال من الهاء والألف والحال
من المكنى يجوز أن يتقدم عليه.
[سورة النور (24): آية 2]
الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ
وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ
بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ (2)
فيه اثنان «1» وعشرون مسألة: الاولى- (قوله تعالى:) (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي)
كان الزنى في اللغة معروفا قبل الشرع، مثل اسم السرقة والقتل. وهو اسم لوطي الرجل
امرأة في فرجها من غير نكاح ولا شبهة نكاح بمطاوعتها. وإن شئت قلت: هو إدخال فرج
في فرج مشتهى طبعا محرم شرعا، فإذا كان ذلك وجب الحد. وقد مضى الكلام في حد الزنى
وحقيقته وما للعلماء في ذلك. وهذه الآية ناسخة لأية الحبس وآية الأذى اللتين في
سورة [النساء «2»] باتفاق. الثانية- قوله تعالى: (مِائَةَ جَلْدَةٍ) هذا حد الزاني
الحر البالغ البكر، وكذلك الزانية البالغة البكر الحرة. وثبت بألسنة تغريب عام،
على الخلاف في ذلك. وأما المملوكات فالواجب خمسون جلدة، لقوله تعالى:" فَإِنْ
أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ
«3»" [النساء: 25] وهذا في الامة، ثم العبد في معناها. وأما المحصن من
الأحرار فعليه الرجم دون الجلد. ومن العلماء من يقول: يجلد مائة ثم يرجم. وقد مضى
هذا كله ممهدا في [النساء] فأغنى عن إعادته، والحمد لله. الثالثة- قرأ
الجمهور:" الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي" بالرفع. وقرا عيسى بن عمر
الثقفي" الزانية" بالنصب، وهو أوجه عند سيبويه، لأنه عنده كقولك: زيدا
اضرب. ووجه الرفع عنده:
__________
(1). كذا في ك.
(2). راجع ج 5 ص 82 فما بعد وص 361 فما بعد.
(3). راجع ج 5 ص 82 فما بعد وص 361 فما بعد.
خبر
ابتدأ «1»، وتقديره: فيما يتلى عليكم [حكم «2»] الزانية والزاني. وأجمع الناس على
الرفع وإن كان القياس عند سيبويه النصب. وأما الفراء والمبرد والزجاج فإن الرفع
عندهم هو الأوجه، والخبر في قوله:" فَاجْلِدُوا" لان المعنى: الزانية
والزاني مجلودان بحكم الله وهو قول جيد، وهو قول أكثر النحاة. وإن شئت قدرت الخبر:
ينبغي أن يجلدا. وقرا ابن مسعود" والزان" بغير ياء. الرابعة- ذكر الله
سبحانه وتعالى الذكر والأنثى، والزاني كان يكفى منهما، فقيل: ذكرهما للتأكيد كما
قال تعالى:" وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما «3»"
[المائدة: 38]. ويحتمل أن يكون ذكرهما هنا لئلا يظن ظان أن الرجل لما كان هو
الواطئ والمرأة محل ليست بواطئة فلا يجب عليها حد، فذكرها رفعا لهذا الاشكال الذي
أوقع جماعة من العلماء منهم الشافعي. فقالوا: لا كفارة على المرأة في الوطي في
رمضان، لأنه قال: جامعت أهلي في نهار رمضان، فقال له النبي صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (كفر). فأمره بالكفارة، والمرأة ليس بمجامعه ولا واطئة.
الخامسة- قدمت" الزَّانِيَةُ" في الآية من حيث كان في ذلك الزمان زنى
النساء فاش، وكان لا ماء العرب وبغايا الوقت رايات، وكن مجاهرات بذلك. وقيل: لان
الزنى في النساء أعر وهو لأجل الحبل أضر. وقيل: لان الشهوة في المرأة أكثر وعليها
أغلب، فصدرها تغليظا لتردع شهوتها، وإن كان قد ركب فيها حياء لكنها إذا زنت ذهب
الحياء كله. وأيضا فإن العار بالنساء ألحق إذ موضوعهن الحجب «4» والصيانة فقدم
ذكرهن تغليظا واهتماما. السادسة- الالف واللام في قوله:" الزَّانِيَةُ
وَالزَّانِي" للجنس، وذلك يعطى أنها عامة في جميع الزناة. ومن قال بالجلد مع
الرجم قال: السنة جاءت بزيادة حكم فيقام مع الجلد. وهو قول إسحاق بن راهويه والحسن
بن أبى الحسن، وفعله على بن أبى طالب رضى الله عنه بشراحة، وقد مضى في [النساء
«5»] بيانه. وقال الجمهور: هي خاصة في البكرين، واستدلوا على أنها غير عامة بخروج
العبيد والإماء منها.
__________
(1). في هذه العبارة تساهل، فإن التقدير الذي يقتضى أن يكون مبتدأ محذوف الخير،
كما ذكر ذلك غير واحد من المفسرين.
(2). زيادة من كتب التفسير.
(3). راجع ج 6 ص 159.
(4). في الأصول:" الحجبة" [.....]
(5). راجع ج 5 ص 87.
السابعة-
نص الله سبحانه وتعالى [على ] ما يجب على الزانيين إذا شهد بذلك عليهما على ما
يأتي وأجمع العلماء على القول به. واختلفوا فيما يجب على الرجل يوجد مع المرأة في
ثوب واحد، فقال إسحاق بن راهويه: يضرب كل واحد منهما مائة جلدة. وروى ذلك عن عمر
وعلى، وليس يثبت ذلك عنهما. وقال عطاء وسفيان الثوري: يؤدبان. وبه قال مالك وأحمد،
على قدر مذاهبهم في الأدب. قال ابن المنذر: والأكثر ممن رأيناه يرى على من وجد على
هذه الحال الأدب. وقد مضى في" هود «1»" اختيار ما في هذه المسألة،
والحمد لله وحده. الثامنة- قوله تعالى: (فَاجْلِدُوا) دخلت الفاء لأنه موضع أمر
والامر مضارع للشرط. وقال المبرد: فيه معنى الجزاء، أي إن زنى زان فافعلوا به كذا،
ولهذا دخلت الفاء، وهكذا" السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا
أَيْدِيَهُما «2»". [المائدة: 38]. التاسعة- لا خلاف أن المخاطب بهذا الامر
الامام ومن ناب منابه. وزاد مالك والشافعي: السادة في العبيد. قال الشافعي: في كل
جلد وقطع. وقال مالك: في الجلد دون القطع. وقيل: الخطاب للمسلمين، لان إقامة مراسم
الدين واجبة على المسلمين، ثم الامام ينوب عنهم، إذ لا يمكنهم الاجتماع على إقامة
الحدود. العاشرة- أجمع العلماء على أن الجلد بالسوط يجب. والسوط الذي يجب أن يجلد
به يكون سوطا بين سوطين. لا شديدا ولا لينا. وروى مالك عن زيد بن أسلم أن رجلا
اعترف على نفسه بالزنى على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فدعا
له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بسوط، فأتى بسوط مكسور، فقال:
(فوق هذا) فأتى بسوط جديد لم تقطع ثمرته «3»، فقال: (دون هذا) فأتى بسوط قد ركب به
«4»، ولان. فأمر به رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فجلد ... الحديث.
قال أبو عمر: هكذا روى الحديث مرسلا جميع
__________
(1). في ص 89- 88 ج 9 ذكر بعض أحكام التأديب ولعل المصنف توهم أنه ذكر التفاصيل
وراجع ج 5 ص 86.
(2). راجع ج 6 ص 159.
(3). الثمرة: الطرف يريد أن طرفه محدد لم تنكسر حدته ولم يخلق بعد.
(4). يريد قد انكسرت حدته ولم يخلق ولا بلغ من اللين مبلغا لا يألم من ضرب به.
(راجع الموطأ كتاب الحدود). (12- 11)
رواة
الموطأ ولا أعلمه يستند بهذا اللفظ بوجه من الوجوه، وقد روى معمر عن يحيى ابن أبى
كثير عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مثله سواء. وقد تقدم في"
المائدة" ضرب عمر قدامة «1» في الخمر بسوط تام. يريد وسطا. الحادية عشرة-
اختلف العلماء في تجريد المجلود في الزنى، فقال مالك وأبو حنيفة وغيرهما: يجرد،
ويترك على المرأة ما يسترها دون ما يقيها الضرب. وقال الأوزاعي: الامام مخير إن
شاء جرد وإن شاء ترك. وقال الشعبي والنخعي: لا يجرد ولكن يترك عليه قميص. قال ابن
مسعود: لا يحل في هذه الامة تجريد ولا مد، وبه قال الثوري. الثانية عشرة- اختلف
العلماء في كيفية ضرب الرجال والنساء، فقال مالك: الرجل والمرأة في الحدود كلها
سواء، لا يقام واحد منهما، ولا يجزى عنده إلا في الظهر. وأصحاب الرأى والشافعي
يرون أن يجلد الرجل وهو واقف، وهو قول على بن أبى طالب رضى الله عنه. وقال الليث
[بن سعد «2»] وأبو حنيفة والشافعي: الضرب في الحدود كلها وفي التعزير مجردا قائما
غير ممدود، إلا حد القذف فإنه يضرب وعليه ثيابه. وحكاه المهدوي في التحصيل عن
مالك. وينزع عنه الحشو والفرو. وقال الشافعي: إن كان مده صلاحا مد. الثالثة عشرة-
واختلفوا في المواضع التي تضرب من الإنسان في الحدود، فقال مالك: الحدود كلها لا
تضرب إلا في الظهر، وكذلك التعزير. وقال الشافعي وأصحابه: يتقى الوجه والفرج وتضرب
سائر الأعضاء، وروى عن على. وأشار ابن عمر بالضرب إلى رجلي أمة جلدها في الزنى.
قال ابن عطية: والإجماع في تسليم الوجه والعورة والمقاتل. واختلفوا في ضرب الرأس
فقال الجمهور: يتقى الرأس. وقال أبو يوسف: يضرب الرأس. وروى عن عمر وابنه فقالا:
يضرب الرأس. وضرب عمر رضى الله عنه صبيغا «3» في رأسه وكان تعزيرا لا حدا. ومن حجة
مالك: ما أدرك عليه الناس، وقوله عليه السلام: (البينة وإلا حد في ظهرك) وسيأتي.
__________
(1). في الأصول:" الجارود" وهو تحريف، لان الذي ضربه سيدنا عمر رضى الله
عنه هو قدامة بن مظعون، وقد ذكر المؤلف رحمه الله تعالى قصته في ج 6 ص 297 فراجعه
هناك، وراجع ترجمته في كتب الصحابة.
(2). من ب وج وط وك.
(3). هو صبيغ (كأمير) بن عسل، كان يعنت الناس بالغوامض والسؤالات، فنفاه سيدنا عمر
إلى البصرة.
الرابعة
عشرة- الضرب الذي يجب هو أن يكون مؤلما لا يجرح ولا يبضع، ولا يخرج الضارب يده من
تحت إبطه. وبه قال الجمهور، وهو قول على وابن مسعود رضى الله عنهما. وأتي عمر رضى
الله عنه برجل في حد فأتي بسوط بين سوطين وقال للضارب: اضرب ولا يرى إبطك، وأعط كل
عضو حقه. وأتي رضى الله عنه بشارب فقال: لأبعثنك إلى رجل لا تأخذه فيك هوادة،
فبعثه إلى مطيع بن الأسود العدوى فقال: إذا أصبحت الغد فاضربه الحد، فجاء عمر رضى
الله عنه وهو يضربه ضربا شديدا فقال: قتلت الرجل! كم ضربته؟ فقال ستين، فقال: أقص
عنه بعشرين. قال أبو عبيدة [قوله «1»]:" أقص عنه بعشرين" يقول: اجعل شدة
هذا الضرب الذي ضربته قصاصا بالعشرين التي بقيت ولا تضربه العشرين. وفي هذا الحديث
من الفقه أن ضرب الشارب ضرب خفيف. وقد اختلف العلماء في أشد الحدود ضربا وهى:
الخامسة عشرة- فقال مالك وأصحابه والليت بن سعد: الضرب في الحدود كلها سواء ضرب
غير مبرح، ضرب بين ضربين. وهو قول الشافعي رضى الله عنه. وقال أبو حنيفة وأصحابه:
التعزير أشد الضرب، وضرب الزنى أشد من الضرب في الخمر، وضرب الشارب أشد من ضرب
القذف. وقال الثوري: ضرب الزنى أشد من ضرب القذف، وضرب القذف أشد من ضرب الخمر.
احتج مالك بورود التوقيف على عدد الجلدات، ولم يرد في شي منها تخفيف ولا تثقيل عمن
يجب التسليم له. احتج أبو حنيفة بفعل عمر، فإنه ضرب في التعزير ضربا أشد منه في
الزنى. احتج الثوري بأن الزنى لما كان أكثر عددا في الجلدات استحال أن يكون القذف
أبلغ في النكاية. وكذلك الخمر، لأنه لم يثبت الحد إلا بالاجتهاد، وسبيل مسائل
الاجتهاد لا يقوى قوة مسائل التوقيف. السادسة عشرة- الحد الذي أوجب الله في الزنى
والخمر والقذف وغير ذلك ينبغي أن يقام بين أيدي الحكام، ولا يقيمه إلا فضلاء الناس
وخيارهم يختارهم الامام لذلك. وكذلك كانت الصحابة تفعل كلما وقع لهم شي من ذلك،
رضى الله عنهم. وسبب ذلك أنه
__________
(1). من ب وك.
قيام
بقاعدة شرعية وقربة تعبدية، تجب المحافظة على فعلها وقدرها ومحلها وحالها، بحيث لا
يتعدى شي من شروطها ولا أحكامها، فإن دم المسلم وحرمته عظيمة، فيجب مراعاته بكل ما
أمكن. روى الصحيح عن حضين «1» بن المنذر أبي ساسان قال: شهدت عثمان ابن عفان وأتي
بالوليد قد صلى الصبح ركعتين ثم قال: أزيدكم؟ فشهد عليه رجلان، أحدهما حمران أنه
شرب الخمر، وشهد آخر أنه رآه يتقيأ، فقال عثمان: إنه لم يتقيأ حتى شربها، فقال: يا
على قم فاجلده، فقال على: قم يا حسن فاجلده. فقال الحسن: ول حارها «2» من تولى
قارها (فكأنه وجد عليه) فقال: يا عبد الله بن جعفر، قم فاجلده، فجلده وعلى يعد ...
الحديث. وقد تقدم في المائدة. فانظر قول عثمان للإمام على: قم فاجلده. السابعة
عشرة- نص الله تعالى على عدد الجلد في الزنى والقذف، وثبت التوقيف في الخمر على
ثمانين من فعل عمر في جميع «3» الصحابة- على ما تقدم في المائدة «4»- فلا يجوز أن
يتعدى الحد في ذلك كله. قال ابن العربي:" وهذا ما لم يتابع الناس في الشر ولا
احلولت لهم المعاصي، حتى يتخذوها ضراوة»
ويعطفون عليها بالهوادة فلا يتناهوا عن منكر فعلوه، فحينئذ تتعين الشدة ويزاد الحد
«6» لأجل زيادة الذنب. وقد أتي عمر بسكران في رمضان فضربه مائة، ثمانين حد الخمر
وعشرين لهتك حرمة الشهر. فهكذا يجب أن تركب العقوبات على تغليظ الجنايات وهتك
الحرمات. وقد لعب رجل بصبي فضربه الوالي ثلاثمائة سوط فلم يغير [ذلك «7»] مالك حين
بلغه، فكيف لو رأى زماننا هذا بهتك الحرمات والاستهتار بالمعاصي، والتظاهر
بالمناكر وبيع الحدود واستيفاء العبيد لها في منصب القضاة، لمات كمدا ولم يجالس
أحدا، وحسبنا الله ونعم الوكيل".
__________
(1). بحاء مهملة مضمومة وضاد معجمة.
(2). قال النووي في شرح هذا الحديث" الحار: الشديد المكروه والقار: البارد
الهني الطيب. وهذا مثل من أمثال العرب، ومعناه: ول شدتها وأوساخها من تولى هنيئها
ولذاتها، والضمير عائد إلى الخلافة والولاية، أي كما أن عثمان وأقاربه يتولون هنئ
الخلافة ويختصون به يتولون نكدها وقاذوراتها. ومعناه: ليتول هذا الجلد عثمان بنفسه
أو بعض خاصة أقاربه الأدنين".
(3). أي في حضرتهم.
(4). راجع ج 6 ص 297.
(5). الضراوة: العادة وشدة الشهوة. [.....]
(6). في ب وج وط وك: الجلد.
(7). زيادة عم ابن العربي.
قلت:
ولهذا المعنى- والله أعلم- زيد في حد الخمر حتى انتهى إلى ثمانين. وروى
الدارقطني" حدثنا القاضي الحسين بن إسماعيل حدثنا يعقوب بن إبراهيم الدورقي
حدثنا صفوان بن عيسى حدثنا أسامة بن زيد عن الزهري قال أخبرني عبد الرحمن بن أزهر
قال: رأيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم حنين وهو يتخلل الناس
يسأل عن منزل خالد بن الوليد، فأتى بسكران، قال فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمن عنده فضربوه بما في أيديهم. وقال: وحثا رسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليه التراب. قال: ثم أتى أبو بكر رضى الله عنه
بسكران، قال: فتوخى الذي كان من ضربهم يومئذ، فضرب أربعين. قال الزهري: ثم أخبرني
حميد بن عبد الرحمن عن ابن وبرة الكلبي قال: أرسلني خالد بن الوليد إلى عمر، قال
فأتيته ومعه عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف وعلى وطلحة والزبير وهم معه متكئون
في المسجد فقلت: إن خالد بن الوليد أرسلني إليك وهو يقرأ عليك السلام ويقول: إن
الناس قد انهمكوا في الخمر! وتحاقروا العقوبة فيه، فقال عمر: هم هؤلاء عندك فسلهم.
فقال على: نراه إذا سكر هذى وإذا هذى افترى وعلى المفترى ثمانون، قال فقال عمر:
أبلغ صاحبك ما قال. قال: فجلد خالد ثمانين وعمر ثمانين. قال: وكان عمر إذا أتي
بالرجل الضعيف الذي كانت منه الزلة ضربه أربعين، قال: وجلد عثمان أيضا ثمانين
وأربعين". ومن هذا المعنى قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لو تأخر
الهلال لزدتكم) كالمنكل لهم حين أبوا أن ينتهوا. في رواية (لو مد لنا الشهر
لواصلنا وصالا يدع المتعمقون تعمقهم «1»). وروى حامد بن يحيى عن سفيان عن مسعر عن
عطاء بن أبى مروان أن عليا ضرب النجاشي في الخمر مائة جلدة، ذكره أبو عمرو ولم
يذكر سببه. الثامنة عشر- قوله تعالى: (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي
دِينِ اللَّهِ) أي لا تمتنعوا عن إقامة الحدود شفقة على المحدود، ولا تخففوا الضرب
من غير إيجاع، وهذا قول جماعة أهل التفسير. وقال الشعبي والنخعي وسعيد بن
جبير:" لا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ" قالوا:
__________
(1). الحديث ذكر في صحيح مسلم في (كتاب الصوم. باب النهى عن الوصال الصوم). وصحيح
البخاري في (كتاب الاعتصام. باب ما يكره من التعمق والتنازع ... إلخ).
في
الضرب والجلد. وقال أبو هريرة رضى الله عنه: إقامة حد بأرض خير لأهلها من مطر أربعين
ليلة، ثم قرأ هذه الآية. والرأفة أرق الرحمة. وقرى:" رأفة" بفتح الالف
على وزن فعلة. وقرى:" رآفة" على وزن فعالة، ثلاث لغات، وهى كلها مصادر،
أشهرها الاولى، من رءوف إذا رق ورحم. ويقال: رأفة ورآفة، مثل كأبة وكآبة. وقد رافت
به ورؤفت به. والرءوف من صفات الله تعالى: العطوف الرحيم. التاسعة عشرة- قوله
تعالى: (أي في حكم الله، كما قال تعالى:" ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي
دِينِ الْمَلِكِ «1»" [يوسف: 76] أي في حكمه. وقيل:" فِي دِينِ
اللَّهِ" أي في طاعة الله وشرعه فيما أمركم به من إقامة الحدود. قررهم على
معنى التثبيت والحض بقوله تعالى:" إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ
بِاللَّهِ". وهذا كما تقول لرجل تحضه: إن كنت رجلا فافعل كذا! أي هذه أفعال
الرجال. الموفية عشرين- قوله تعالى: (وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ) قيل: لا يشهد التعذيب إلا من لا يستحق «2» التأديب. قال مجاهد:
رجل فما فوقه إلى ألف. وقال ابن زيد: لا بد من حضور أربعة قياسا على الشهادة على
الزنى، وأن هذا باب منه، وهو قول مالك والليث والشافعي. وقال عكرمة وعطاء: لا بد
من اثنين، وهذا مشهور قول مالك، فرآها موضع شهادة. وقال الزهري: ثلاثة، لأنه أقل
الجمع. الحسن: واحد فصاعدا، وعنه عشرة. الربيع: ما زاد على الثلاثة. وحجة مجاهد
قوله تعالى:" فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ
«3»" [التوبة: 122]، وقوله:" وَإِنْ طائِفَتانِ «4»" [الحجرات: 9]،
ونزلت في تقاتل رجلين، فكذلك قوله تعالى:" وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ". والواحد يسمى طائفة إلى الالف، وقاله ابن عباس
وإبراهيم. وأمر أبو برزة الأسلمي بجارية له قد زنت وولدت فألقى عليها ثوبا، وأمر
ابنه أن يضربها خمسين ضربة غير مبرح ولا خفيف لكن مؤلم، ودعا جماعة ثم تلا:"
وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ".
__________
(1). راجع ج 9 ص 235 فما بعد.
(2). كذا في ج وط وك. وفى ب: إلا من يستحق. ولعله الأشبه.
(3). راجع ج 8 ص 293 فما بعد.
(4). راجع ج 16 ص 315.
الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)
الحادية
والعشرون- اختلف في المراد بحضور الجماعة. هل المقصود بها الأغلاط على الزناة
والتوبيخ بحضرة الناس، وأن ذلك يدع المحدود، ومن شهده وحضره يتعظ به ويزدجر لأجله،
ويشيع حديثه فيعتبر به من بعده، أو الدعاء لهما بالتوبة والرحمة، قولان للعلماء.
الثانية «1» والعشرون- روى عن حذيفة رضى الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (يا معاشر الناس اتقوا الزنى فإن فيه ست خصال ثلاثا في
الدنيا وثلاثا في الآخرة فأما اللواتي في الدنيا فيذهب البهاء ويورث الفقر وينقص
العمر وأما اللواتي في الآخرة فيوجب السخط وسوء الحساب والخلود في النار (. وعن
أنس أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:) إن أعمال أمتي تعرض على
كل جمعة مرتين فاشتد غضب الله على الزناة (. وعن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قال:) إذا كان ليلة النصف من شعبان اطلع الله على أمتي فغفر لكل مؤمن لا
يشرك بالله شيئا إلا خمسة ساحرا وكاهنا وعاقا لوالديه ومدمن خمر ومصرا على الزنى
(.
[سورة النور (24): آية 3]
الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلاَّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا
يَنْكِحُها إِلاَّ زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)
فيه سبع مسائل: الاولى- اختلف العلماء في معنى هذه الآية على ستة أوجه من التأويل:
الأول- أن يكون مقصد الآية تشنيع الزنى وتبشيع أمره، وأنه محرم على المؤمنين. واتصال
هذا المعنى بما قبل حسن بليغ. ويريد بقوله:" لا يَنْكِحُ" أي لا يطأ،
فيكون النكاح بمعنى الجماع. وردد القصة مبالغة وأخذا من كلا الطرفين، ثم زاد تقسيم
المشركة والمشرك من حيث الشرك أعم في المعاصي من الزنى، فالمعنى: الزاني لا يطأ في
وقت زناه إلا زانية من المسلمين، أو من هي أحسن منها من المشركات. وقد روى عن ابن
عباس وأصحابه أن النكاح في هذه الآية الوطي. وأنكر ذلك الزجاج وقال: لا يعرف
النكاح في كتاب الله تعالى إلا
__________
(1). يلاحظ أن الأصول إحدى وعشرون مسألة عداك فاثنتان وعشرون، كما هو مثبت.
بمعنى
التزويج. وليس كما قال، وفي القرآن" حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ
230" [البقرة: 230] وقد بينه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه
بمعنى الوطي، وقد تقدم في [البقرة «1»]. وذكر الطبري ما ينحو إلى هذا التأويل عن
سعيد بن جبير وابن عباس وعكرمة، ولكن غير مخلص ولا مكمل. وحكاه الخطابي عن ابن
عباس، وأن معناه الوطي، أي لا يكون زنى إلا بزانية، ويفيد أنه زنى في الجهتين،
فهذا قول. الثاني- ما رواه أبو داود والترمذي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن
مرثد ابن أبى مرثد كان يحمل الأسارى بمكة، وكان بمكة بغى يقال لها" عناق"
وكانت صديقته، قال: فجئت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقلت: يا رسول
الله، أنكح عناق؟ قال: فسكت عنى، فنزلت:" وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها
إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ"، فدعاني فقرأها على وقال: (لا تنكحها). لفظ أبى
داود، وحديث الترمذي أكمل. قال الخطابي: هذا خاص بهذه المرأة إذ كانت كافرة، فأما
الزانية المسلمة فإن العقد عليها لا يفسخ. الثالث- أنها مخصوصة في رجل من المسلمين
أيضا أستأذن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في نكاح امرأة يقال
لها" أم مهزول" وكانت من بغايا «2» الزانيات، وشرطت أن تنفق عليه، فأنزل
الله تعالى هذه الآية، قاله عمرو بن العاصي ومجاهد. الرابع- أنها نزلت في أهل
الصفة وكانوا قوما من المهاجرين، ولم يكن لهم في المدينة مساكن ولا عشائر فنزلوا
صفة المسجد وكانوا أربعمائة رجل يلتمسون الرزق بالنهار ويأوون إلى الصفة بالليل،
وكان بالمدينة بغايا متعالنات بالفجور، مخاصيب بالكسوة والطعام، فهم أهل الصفة أن
يتزوجوهن فيأووا إلى مساكنهن ويأكلوا من طعامهن وكسوتهن، فنزلت هذه الآية صيانة
لهم عن ذلك، قاله ابن أبى صالح. الخامس- ذكره الزجاج وغيره عن الحسن، وذلك أنه
قال: المراد الزاني المحدود والزانية المحدودة، قال: وهذا حكم من الله، فلا يجوز
لزان محدود أن يتزوج إلا محدودة.
__________
(1). راجع ج 3 ص 146.
(2). في ب وج: بقايا.
وقال
إبراهيم النخعي نحوه. وفي مصنف أبى داود عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لا ينكح الزاني المحدود إلا مثله). وروى أن محدودا
تزوج غير محدودة ففرق على رضى الله عنه بينهما. قال ابن العربي: وهذا معنى لا يصح
نظرا كما لم يثبت نقلا، وهل يصح أن يوقف نكاح من حد من الرجال على نكاح من حد من
النساء فبأي أثر يكون ذلك، وعلى أي أصل يقاس من الشريعة! قلت- وحكى هذا القول
الكيا عن بعض أصحاب الشافعي المتأخرين، وأن الزاني إذا تزوج غير زانية فرق بينهما
لظاهر الآية. قال الكيا: وإن هو عمل بالظاهر فيلزمه عليه أن يجوز للزاني التزوج
بالمشركة، ويجوز للزانية أن تزوج نفسها من مشرك، وهذا في غاية البعد، وهو خروج عن
الإسلام بالكلية، وربما قال هؤلاء إن الآية منسوخة في المشرك خاص دون الزانية.
السادس- أنها منسوخة، روى مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب قال:"
الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا
يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ" قال: نسخت هذه الآية التي بعدها"
وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ «1»" [النور: 32]، وقاله ابن عمرو، قال:
دخلت الزانية في أيامى المسلمين. قال أبو جعفر النحاس: وهذا القول عليه أكثر
العلماء. واهل الفتيا يقولون: إن من زنى بامرأة فله أن يتزوجها ولغيره أن يتزوجها.
وهو قول ابن عمر وسالم وجابر بن زيد «2» وعطاء وطاوس ومالك بن أنس، وهو قول أبى
حنيفة وأصحابه. وقال الشافعي: القول فيها كما قال سعيد بن المسيب، إن شاء الله هي
منسوخة. قال ابن عطية: وذكر الاشراك في هذه الآية يضعف هذه المناحى. قال ابن
العربي: والذي عندي أن النكاح لا يخلو أن يراد به الوطي كما قال ابن عباس أو
العقد، فإن أريد به الوطي فإن معناه: لا يكون زنى إلا بزانية، وذلك عبارة عن أن
الوطأين من الرجل والمرأة من الجهتين، ويكون تقدير الآية: وطئ الزانية لا يقع إلا
من زان أو مشرك، وهذا يؤثر عن ابن عباس، وهو معنى صحيح.
__________
(1). راجع ص 239 من هذا الجزء.
(2). الثابت عن جابر بن زيد تحريم المزني بها عمن زنى بها محققه.
فإن
قيل: فإذا زنى بالغ بصبية، أو عاقل بمجنونة، أو مستيقظ بنائمة فإن ذلك من جهة
الرجل زنى، فهذا زان نكح غير زانية، فيخرج المراد عن بابه الذي تقدم. قلنا: هو زنى
من كل جهة، إلا أن أحدهما سقط فيه الحد والآخر ثبت فيه. وإن أريد به العقد كان
معناه: أن متزوج الزانية التي قد زنت ودخل بها ولم يستبرئها يكون بمنزلة الزاني،
إلا أنه لا حد عليه لاختلاف العلماء في ذلك. وأما إذا عقد عليها ولم يدخل بها حتى
يستبرئها فذلك جائز إجماعا. وقيل: ليس المراد في الآية أن الزاني لا ينكح قط إلا
زانية إذ قد يتصور أن يتزوج غير زانية، ولكن المعنى أن من تزوج بزانية فهو زان،
فكأنه قال: لا ينكح الزانية إلا زان، فقلب الكلام، وذلك أنه لا ينكح الزانية إلا
وهو راض بزناها، وإنما يرضى بذلك إذا كان هو أيضا يزني. الثانية- في هذه الآية
دليل على أن التزوج بالزانية صحيح. وإذا زنت زوجة الرجل لم يفسد النكاح، وإذا زنى
الزوج لم يفسد نكاحه مع زوجته، وهذا على أن الآية منسوخة. وقيل إنها محكمة.
وسيأتي. الثالثة- روى أن رجلا زنى بامرأة في زمن أبى بكر رضى الله عنه فجلدهما مائة
جلدة، ثم زوج أحدهما من الأخر مكانه، ونفاهما سنة. وروى مثل ذلك عن عمر وابن مسعود
وجابر رضى الله عنهم. وقال ابن عباس: أوله سفاح وآخره نكاح. ومثل ذلك مثل رجل سرق
من حائط ثمرة ثم أتى صاحب البستان فاشترى منه ثمرة، فما سرق حرام وما اشترى حلال
«1». وبهذا أخذ الشافعي وأبو حنيفة، ورأوا أن الماء لا حرمة له. وروى عن ابن مسعود
رضى الله عنه أنه قال: إذا زنى الرجل بالمرأة ثم نكحها بعد ذلك فهما زانيان أبدا.
وبهذا أخذ مالك رضى الله عنه، فرأى أنه لا ينكحها حتى يستبرئها من مائه الفاسد،
لان النكاح له حرمة، ومن حرمته ألا يصب على ماء السفاح، فيختلط الحرام بالحلال،
ويمتزج ماء المهانة بماء العزة.
__________
(1). عبارة ابن العربي كما في أحكامه:" مثل رجل سرق ثمرة ثم اشتراها".
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
الرابعة-
قال ابن خويز منداد: من كان معروفا بالزنى أو بغيره من الفسوق معلنا به فتزوج إلى
أهل بيت ستر وغرهم من نفسه فلهم الخيار في البقاء معه أو فراقه، وذلك كعيب من
العيوب، واحتج بقوله عليه السلام: (لا ينكح الزاني المجلود إلا مثله). قال ابن
خويز منداد. وإنما ذكر المجلود لاشتهاره بالفسق، وهو الذي يجب أن يفرق بينه وبين
غيره، فأما من لم يشتهر بالفسق فلا. الخامسة- قال قوم من المتقدمين: الآية محكمة
غير منسوخة، وعند هؤلاء: من زنى فسد النكاح بينه وبين زوجته، وإذا زنت الزوجة فسد
النكاح بينها وبين زوجها. وقال قوم من هؤلاء: لا ينفسخ النكاح بذلك، ولكن يؤمر
الرجل بطلاقها إذا زنت، ولو أمسكها أثم، ولا يجوز التزوج بالزانية ولا من الزاني،
بل لو ظهرت التوبة فحينئذ يجوز النكاح. السادسة- (وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ) أي نكاح أولئك البغايا، فيزعم بعض أهل التأويل أن نكاح أولئك
البغايا حرمه الله تعالى على أمة محمد عليه السلام، ومن أشهرهن عناق «1». السابعة-
حرم الله تعالى الزنى في كتابه، فحيثما زنى الرجل فعليه الحد. وهذا قول مالك
والشافعي وأبى ثور. وقال أصحاب الرأى في الرجل المسلم إذا كان في دار الحارث بأمان
وزني هنالك ثم خرج لم يحد. قال ابن المنذر: دار الحرب ودار الإسلام سواء، ومن زنى
فعليه الحد على ظاهر قوله:" الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ
واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ" [النور: 2].
[سورة النور (24): الآيات 4 الى 5]
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ
فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً
وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (4) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ
وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
__________
(1). في ك: وهذا على أن الآية منسوخة. ولم يظهر له وجه محققه. [.....]
فيه
ست وعشرون مسألة: الاولى- هذه الآية نزلت في القاذفين. قال سعيد بن جبير: كان
سببها ما قيل في عائشة أم المؤمنين رضى الله عنها. وقيل: بل نزلت بسبب القذفة عاما
لا في تلك النازلة. وقال ابن المنذر: لم نجد في أخبار رسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خبرا يدل على تصريح القذف، وظاهر كتاب الله تعالى مستغنى به
دالا على القذف الذي يوجب الحد، واهل العلم على ذلك مجمعون. الثانية- قوله
تعالى:" وَالَّذِينَ يَرْمُونَ" يريد يسبون، واستعير له اسم الرمي لأنه
أذائه بالقول، كما قال النابغة:
وجرح اللسان كجرح اليد
وقال آخر:
رماني بأمر كنت منه ووالدي ... بريئا ومن أجل الطوى رماني «1»
ويسمى قذفا، ومنه الحديث: إن ابن أمية قذف امرأته بشريك بن السحماء، أي رماها.
الثالثة- ذكر الله تعالى في الآية النساء من حيث هن «2» أهم، ورميهن بالفاحشة أشنع
وأنكى للنفوس. وقذف الرجال داخل في حكم الآية بالمعنى، وإجماع الامة على ذلك. وهذا
نحو نصه على تحريم لحم الخنزير ودخل شحمه وغضاريفه، ونحو ذلك بالمعنى والإجماع.
وحكى الزهراوي أن المعنى: والأنفس المحصنات، فهي بلفظها تعم الرجال والنساء، ويدل
على ذلك قوله:" وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ
«3»". [النساء: 24]. وقال قوم: أراد بالمحصنات الفروج، كما قال تعالى:"
وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها «4»" [الأنبياء: 91] فيدخل فيه فروج الرجال
والنساء. وقيل: إنما ذكر المرأة الأجنبية إذا قذفت ليعطف عليها قذف الرجل زوجته،
والله أعلم. وقرا الجمهور:" الْمُحْصَناتُ" بفتح الصاد، وكسرها يحيى بن
وثاب. والمحصنات العفائف في هذا الموضع. وقد مضى في" النساء" ذكر
الإحصان «5» ومراتبه. والحمد لله.
__________
(1). البيت لابن أحمر. والعلوي: البئر.
(2). في الأصول:" من حيث هو أهم". وعبارة البحر المحيط لابي حيان أبين،
وهى:" وخص النساء بذلك وإن كان الرجال يشركونهن في الحكم لان القذف فيهن أشنع
وأنكر للنفوس، ومن حيث هن هوى الرجال" إلخ.
(3). راجع ج 5 ص 120 فما بعد.
(4). راجع ج 11 ص 337 فما بعد.
(5). راجع ج 5 ص 139 فما بعد.
الرابعة-
للقذف شروط عند العلماء تسعة: شرطان في القاذف، وهما العقل والبلوغ، لأنهما أصلا
التكليف، إذ التكليف ساقط دونهما. وشرطان في الشيء المقذوف به، وهو أن يقذف بوطي
يلزمه فيه الحد، وهو الزنى واللواط أو بنفيه من أبيه دون سائر المعاصي. وخمسة في
المقذوف، وهى العقل والبلوغ والإسلام والحرية والعفة عن الفاحشة التي رمى بها، كان
عفيفا من غيرها أم لا. وإنما شرطنا في المقذوف العقل والبلوغ كما شرطنا هما في
القاذف وإن لم يكونا من معاني الإحصان لأجل أن الحد إنما وضع للزجر عن الاذاية
بالمضرة الداخلة على المقذوف، ولا مضرة على من عدم العقل والبلوغ، إذ لا يوصف
اللواط فيهما ولا منهما بأنه زنى. الخامسة- اتفق العلماء على أنه إذا صرح بالزنى
كان قذفا ورميا موجبا للحد، فإن عرض ولم يصرح فقال مالك: هو قذف. وقال الشافعي
وأبو حنيفة: لا يكون قذفا حتى يقول أردت به القذف. والدليل لما قاله مالك هو أن
موضوع الحد في القذف إنما هو لازالة المعرة التي أوقعها القاذف بالمقذوف، فإذا
حصلت المعرة بالتعريض وجب أن يكون قذفا كالتصريح، والمعول على الفهم، وقد قال
تعالى مخبرا عن شعيب:" إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ" [هود:
87] أي السفيه الضال، فعرضوا له بالسب بكلام ظاهر المدح في أحد التأويلات، حسبما
تقدم في هود «1». وقال تعالى في أبى جهل:" ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ
الْكَرِيمُ «2»" [الدخان: 49]. وقال حكاية عن مريم:" يا أُخْتَ هارُونَ
ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ «3» بَغِيًّا" [مريم:
28]، فمدحوا أباها ونفوا عن أمها البغاء أي الزنى، وعرضوا لمريم بذلك، ولذلك قال
تعالى:" وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً
«4»" [النساء: 156]، وكفرهم معروف، والبهتان العظيم هو التعريض لها، أي ما
كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا، أي أنت بخلافهما وقد أتيت بهذا الولد. وقال
تعالى:" قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ
وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ «5»" [سبأ:
24]، فهذا اللفظ قد فهم منه أن المراد به أن الكفار على غير هدى، وأن الله تعالى
ورسوله على الهدى، ففهم من هذا التعريض ما يفهم من صريحه. وقد حبس عمر رضى الله
عنه الحطيئة لما قال:
__________
(1). راجع ج 9 ص 87.
(2). راجع ج 16 ص 151.
(3). راجع ج 11 ص 99.
(4). راجع ج 6 ص 7 فما بعد.
(5). راجع ج 14 ص 298.
دع
المكارم لا ترحل لبغيتها ... واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
لأنه شبهه بالنساء في أنهن يطعمن ويسقين ويكسون. ولما سمع قول النجاشي:
قبيلته لا يغدرون بذمة ... ولا يظلمون الناس حبة خردل
قال: ليت الخطاب كذلك، وإنما أراد الشاعر ضعف القبيلة، ومثله كثير. السادسة
الجمهور من العلماء على أنه لا حد على من قذف رجلا من أهل الكتاب أو امرأة منهم.
وقال الزهري وسعيد بن المسيب وابن أبى ليلى: عليه الحد إذا كان لها ولد من مسلم.
وفية قول ثالث- وهو أنه إذا قذف النصرانية تحت المسلم جلد الحد. قال ابن المنذر:
وجل العلماء مجمعون وقائلون بالقول الأول، ولم أدرك أحدا ولا لقيته يخالف في ذلك.
وإذا قذف النصراني المسلم الحر فعليه ما على المسلم ثمانون جلدة، لا أعلم في ذلك
خلافا «1». السابعة- والجمهور من العلماء على أن العبد إذا قذف حرا يجلد أربعين:
لأنه حد يتشطر بالرق كحد الزنى. وروى عن ابن مسعود وعمر بن عبد العزيز وقبيصة بن
ذؤيب يجلد ثمانين، وجلد أبو بكر بن محمد عبدا قذف حرا ثمانين، وبه قال الأوزاعي.
احتج الجمهور بقول الله تعالى:" فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ
نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ «2»" [النساء: 25]. وقال
الآخرون: فهمنا هناك أن حد الزنى لله تعالى، وأنه ربما كان أخف فيمن قلت نعم الله
عليه، وأفحش فيمن عظمت نعم الله عليه. وأما حد القذف فحق للادمي وجب للجناية على
عرض المقذوف، والجناية لا تختلف بالرق والحرية. وربما قالوا: لو كان يختلف لذكر
كما ذكر من الزنى. قال ابن المنذر: والذي عليه [عوام «3»] علماء الأمصار القول
الأول، وبه أقول. الثامنة- وأجمع العلماء على أن الحر لا يجلد للعبد إذا افترى
عليه، لتباين مرتبتهما، ولقوله عليه السلام: (من قذف مملوكه بالزنى أقيم عليه الحد
يوم القيامة إلا أن يكون كما قال) خرجه البخاري ومسلم. وفي بعض طرقه: (من قذف عبده
بزنى ثم لم يثبت أقيم
__________
(1). في ك: اختلافا.
(2). راجع ج 5 ص 136.
(3). من ج وط وك وى. أي عامة.
عليه
يوم القيامة الحد ثمانون) ذكره الدارقطني. قال العلماء: وإنما كان ذلك في الآخرة
لارتفاع الملك واستواء الشريف والوضيع والحر والعبد، ولم يكن لاحد فضل إلا
بالتقوى، ولما كان ذلك تكافأ الناس في الحدود والحرمة، واقتص من كل واحد لصاحبه
إلا أن يعفو المظلوم عن الظالم. وإنما لم يتكافئوا في الدنيا لئلا تدخل الداخلة
على المالكين من مكافأتهم لهم، فلا تصح لهم حرمة ولا فضل في منزلة، وتبطل فائدة
التسخير، حكمة من الحكيم العليم، لا إله إلا هو. التاسعة- قال مالك والشافعي: من
قذف من يحسبه عبدا فإذا هو حر فعليه الحد، وقاله الحسن البصري واختاره ابن المنذر.
قال مالك: ومن قذف أم الولد حد گ وروى عن ابن عمر وهو قياس قول الشافعي. وقال
الحسن البصري: لا حد عليه. العاشرة- واختلف العلماء فيمن قال لرجل: يا من وطئ بين
الفخذين، فقال ابن القاسم: عليه الحد، لأنه تعريض. وقال أشهب: لا حد فيه، لأنه
نسبة إلى فعل لا يعد زنى إجماعا. الحادية عشرة- إذا رمى صبية يمكن وطؤها قبل
البلوغ بالزنى كان قذفا عند مالك. وقال أبو حنيفة والشافعي وأبو ثور: ليس بقذف،
لأنه ليس بزنى إذ لا حد عليها، ويعزر. قال ابن العربي: والمسألة محتملة مشكلة، لكن
مالك طلب «1» حماية عرض المقذوف، وغيره راعى حماية ظهر القاذف، وحماية عرض المقذوف
أولى، لان القاذف كشف ستره بطرف لسانه فلزمه الحد. قال ابن المنذر: وقال أحمد في
الجارية بنت تسع: يجلد قاذفها، وكذلك الصبى إذا بلغ عشرا ضرب قاذفه. قال إسحاق:
إذا قذف غلاما يطأ مثله فعليه الحد، والجارية إذا جاوزت تسعا مثل ذلك. قال ابن
المنذر: لا يحد من قذف من لم يبلغ، لان ذلك كذب، ويعزر على الأذى. قال أبو عبيد:
في حديث على رضي الله عنه أن امرأة جاءته فذكرت أن زوجها يأتي جاريتها فقال: إن
كنت صادقة رجمناه وإن كنت كاذبة
__________
(1). في ابن العربي:" غلب". [.....]
جلدناك.
فقالت: ردوني إلى أهلي غيرى نغرة «1». قال أبو عبيد: في هذا الحديث من الفقه أن
على الرجل إذا واقع جارية امرأته الحد. وفية أيضا: إذا قذفه بذلك قاذف كان على
قاذفه الحد، ألا تسمع قوله: وإن كنت كاذبة جلدناك. ووجه هذا كله إذا لم يكن الفاعل
جاهلا بما يأتي وبما يقول، فإن كان جاهلا وادعى شبهة درئ عنه الحد في ذلك كله.
وفية أيضا أن رجلا لو قذف رجلا بحضرة حاكم وليس المقذوف بحاضر أنه لا شي على
القاذف حتى يجئ فيطلب حده، لأنه لا يدرى لعله يصدقه، ألا ترى أن عليا عليه السلام
لم يعرض لها. وفية أن الحاكم إذا قذف عنده رجل ثم جاء المقذوف فطلب حقه أخذه
الحاكم بالحد بسماعه، ألا تراه يقول: وإن كنت كاذبة جلدناك، وهذا لأنه من حقوق
الناس. قلت: اختلف هل هو من حقوق الله أو من حقوق الأدميين، وسيأتي. قال أبو عبيد:
قال الأصمعي سألني شعبة عن قوله:" غيرى نغرة" فقلت له: هو مأخوذ من نغر
القدر، وهو غليانها وفورها يقال منه: نغرت تنغر، ونغرت تنغر إذا غلت. فمعناه أنها
أرادت أن جوفها يغلى من الغيظ والغيرة لما لم تجد عنده ما تريد. قال: ويقال منه
رأيت فلانا يتنغر على فلان أي يغلى جوفه عليه غيظا. الثانية عشرة- من قذف زوجة من
أزواج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حد حدين، قاله مسروق. قال ابن
العربي: والصحيح أنه حد واحد، لعموم قوله تعالى:" وَالَّذِينَ يَرْمُونَ
الْمُحْصَناتِ" الآية، ولا يقتضي شرفهن زيادة في حد من قذفهن، لان شرف
المنزلة لا يؤثر في الحدود، ولا نقصها يؤثر في الحد بتنقيص. والله أعلم. وسيأتي
الكلام فيمن قذف عائشة رضي الله عنها، هل يقتل أم لا. الثالثة عشرة- قوله تعالى:
(ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ) الذي يفتقر إلى أربعة شهداء دون سائر
الحقوق هو الزنى، رحمة بعباده وسترا لهم. وقد تقدم في سورة النساء «2».
__________
(1). سيأتي الكلام على هذه الجملة بعد قليل.
(2). راجع ج 5 ص 72.
الرابعة
عشرة- من شرط أداء الشهود الشهادة عند مالك رحمه الله أن يكون ذلك في مجلس واحد،
فإن افترقت لم تكن شهادة. وقال عبد الملك: تقبل شهادتهم مجتمعين ومفترقين. فرأى
مالك أن اجتماعهم تعبد، وبه قال ابن الحسن. وراي عبد الملك أن المقصود أداء
الشهادة واجتماعها وقد حصل، وهو قول عثمان البتي وأبى ثور واختاره ابن المنذر
لقوله تعالى:" ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ" وقوله:"
فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ" [النور: 13] ولم يذكر مفترقين ولا
مجتمعين. الخامسة عشرة- فإن تمت الشهادة إلا أنهم لم يعدلوا، فكان الحسن البصري
والشعبي يريان أن لا حد على الشهود ولا على المشهود، وبه قال أحمد والنعمان ومحمد
بن الحسن. وقال مالك: إذا شهد عليه أربعة بالزنى فإن كان أحدهم مسخوطا «1» عليه أو
عبدا يجلدون جميعا. وقال سفيان الثوري وأحمد وإسحاق في أربعة عميان يشهدون على
امرأة بالزنى: يضربون. السادسة هشرة- فإن رجع أحد الشهود وقد رجم المشهود عليه في
الزنى، فقالت طائفة: يغرم ربع الدية ولا شي على الآخرين. وكذلك قال قتادة وحماد
وعكرمة وأبو هاشم ومالك وأحمد وأصحاب الرأى. وقال الشافعي: إن قال تعمدت ليقتل،
فالاولياء بالخيار إن شاءوا قتلوا وإن شاءوا عفوا وأخذوا ربع الدية، وعليه الحد.
وقال الحسن البصري: يقتل، وعلى الآخرين ثلاثة أرباع الدية. وقال ابن سيرين: إذا
قال أخطأت وأردت غيره فعليه الدية كاملة، وإن قال تعمدت قتل [به»
]، وبه قال ابن شبرمة. السابعة عشرة: واختلف العلماء في حد القذف هل هو من حقوق
الله أو من حقوق الأدميين أو فيه شائبة منهما، الأول- قول أبى حنيفة. والثاني- قول
مالك والشافعي. والثالث- قاله بعض المتأخرين. وفائدة الخلاف أنه إن كان حقا له
تعالى وبلغ الامام أقامه وإن لم يطلب ذلك المقذوف، ونفعت القاذف التوبة فيما بينه
وبين الله تعالى، ويتشطر فيه الحد بالرق كالزنى. وإن كان حقا للآدمي فلا يقيمه
الامام إلا بمطالبة المقذوف، ويسقط بعفوه، ولم تنفع القاذف التوبة حتى يحلله
المقذوف.
__________
(1). كذا في ب وط وك. وفى ج وا: مسقوطا.
(2). من ب وك.
الثامنة
عشرة- قوله تعالى: (بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ) قراءة الجمهور على إضافة الاربعة إلى
الشهداء. وقرا عبد الله «1» بن مسلم بن يسار وأبو زرعة بن عمرو بن جرير"
بأربعة" (بالتنوين)" شهداء". وفية أربعة أوجه: يكون في موضع جر على
النعت لأربعة، أو بدلا. ويجوز أن يكون حالا من نكرة أو تمييزا، وفي الحال والتمييز
نظر، إذ الحال من نكرة، والتمييز مجموع. وسيبويه يرى أنه تنوين العدد، وترك إضافته
إنما يجوز في الشعر. وقد حسن أبو الفتح عثمان ابن جنى هذه القراءة وحبب «2» على قراءة
الجمهور. قال النحاس: ويجوز أن يكون" شُهَداءَ" في موضع نصب، بمعنى ثم
لم يحضروا أربعة شهداء. التاسعة عشرة- حكم شهادة الاربعة أن تكون على معاينة يرون
ذلك كالمرود في المكحلة على ما تقدم في" النساء" «3» في نص الحديث. وأن
تكون في موطن واحد، على قول مالك. وإن اضطرب واحد منهم جلد الثلاثة، كما فعل عمر
في أمر المغيرة بن شعبة، وذلك أنه شهد عليه بالزنى أبو بكرة نفيع بن الحارث وأخوه
نافع، وقال الزهراوي: عبد الله بن الحارث، وزياد أخوهما لام وهو مستلحق معاوية،
وشبل بن معبد البجلي، فلما جاءوا لأداء الشهادة وتوقف زياد ولم يؤدها، جلد عمر
الثلاثة المذكورين. الموفية عشرين- قوله تعالى: (فَاجْلِدُوهُمْ) الجلد الضرب.
والمجالدة والمضاربة في الجلود أو بالجلود، ثم استعير الجلد لغير ذلك من سيف أو
غيره. ومنه قول قيس بن الخطيم:
أجالدهم يوم الحديقة حاسرا ... كأن يدي بالسيف محراق لاعب
(ثَمانِينَ) نصب على المصدر. (جَلْدَةً) تمييز. (وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً
أَبَداً) هذا يقتضى مدة أعمارهم، ثم حكم عليهم بأنهم فاسقون، أي خارجون عن طاعة
الله عز وجل. الحادية والعشرين- قوله تعالى: (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) 160 في
موضع نصب على الاستثناء. ويجوز أن يكون في موضع خفض على البدل. المعنى ولا تقبلوا
لهم شهادة أبدا إلا الذين تابوا وأصلحوا من بعد القذف (فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ). فتضمنت الآية ثلاثة أحكام في القاذف:
__________
(1). في ك: عبد الرحمن. والصواب: عبد الله.
(2). وردت هذا الكلمة مضطربة في نسخ الأصل، ففي ب وك حسب، وفى ط: وحت.
(3). راجع ج 5 ص 73.
جلده،
ورد شهادته أبدا، وفسقه. فالاستثناء غير عامل في جلده بإجماع، إلا ما روى عن
الشعبي على ما يأتي. وعامل في فسقه بإجماع. واختلف الناس في عمله في رد الشهادة،
فقال شريح القاضي وإبراهيم النخعي والحسن البصري وسفيان الثوري وأبو حنيفة: لا
يعمل الاستثناء في رد شهادته، وإنما يزول فسقه عند الله تعالى. وأما شهادة القاذف
فلا تقبل البتة ولو تاب وأكذب نفسه ولا بحال من الأحوال. وقال الجمهور: الاستثناء
عامل في رد الشهادة، فإذا تاب القاذف قبلت شهادته، وإنما كان ردها لعلة الفسق فإذا
زال بالتوبة قبلت شهادته مطلقا قبل الحد وبعده، وهو قول عامة الفقهاء. ثم اختلفوا
في صورة توبته، فمذهب عمر بن الخطاب رضى الله عنه والشعبي وغيره، أن توبته لا تكون
إلا بأن يكذب نفسه في ذلك القذف الذي حد فيه. وهكذا فعل عمر، فإنه قال للذين شهدوا
على المغيرة: من أكذب نفسه أجزت شهادته فيما استقبل، ومن لم يفعل لم أجز شهادته،
فأكذب الشبل بن معبد ونافع بن الحارث بن كلدة أنفسهما وتابا، وأبى أبو بكرة أن
يفعل گ فكان لا يقبل شهادته. وحكى هذا القول النحاس عن أهل المدينة. وقالت فرقة-
منها مالك رحمه الله تعالى وغيره-: توبته أن يصلح ويحسن حاله وإن لم يرجع عن قوله
بتكذيب، وحسبه الندم على قذفه والاستغفار منه وترك العود إلى مثله، وهو قول ابن
جرير. ويروى عن الشعبي أنه قال: الاستثناء من الأحكام الثلاثة، إذا تاب وظهرت
توبته لم يحد وقبلت شهادته وزال عنه التفسيق، لأنه قد صار ممن يرضى من الشهداء،
وقد قال الله عز وجل:" وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ «1» تابَ 20: 82"
[طه: 82] الآية. الثانية والعشرون- اختلف علماؤنا رحمهم الله تعالى متى تسقط شهادة
القاذف، فقال ابن الماجشون: بنفس قذفه. وقال ابن القاسم وأشهب وسحنون: لا تسقط حتى
يجلد، فإن منع من جلده مانع عفو أو غيره لم ترد شهادته. وقال الشيخ أبو الحسن
اللخمي: شهادته في مدة الأجل موقوفة، ورجح «2» القول بأن التوبة إنما تكون
بالتكذيب في القذف، وإلا فأي رجوع لعدل إن قذف وحد وبقي على عدالته.
__________
(1). راجع ج 11 ص 231.
(2). في ك: وترجيح القول بالتوبة إنما يكون إلخ.
الثالثة
والعشرون- واختلفوا أيضا على القول بجواز شهادته بعد التوبة في أي شي تجوز، فقال
مالك رحمه الله تعالى: تجوز في كل شي مطلقا، وكذلك كل من حد في شي من الأشياء،
رواه نافع وابن عبد الحكم عن مالك، وهو قول ابن كنانة. وذكر الوقار «1» عن مالك
أنه لا تقبل شهادته فيما حد فيه خاصة، وتقبل فيما سوى ذلك، وهو قول مطرف وابن
الماجشون. وروى العتبى عن أصبغ وسحنون مثله. قال سحنون: من حد في شي من الأشياء
فلا تجوز شهادته في مثل ما حد فيه. وقال مطرف وابن الماجشون: من حد في قذف أو زنى
فلا تجوز شهادته في شي من وجوه الزنى، ولا في قذف ولا لعان وإن كان عدلا، وروياه
عن مالك. واتفقوا على ولد الزنى أن شهادته لا تجوز في الزنى. الرابعة والعشرون-
الاستثناء إذا تعقب جملا معطوفة عاد إلى جميعها عند مالك والشافعي وأصحابهما. وعند
أبى حنيفة وجل أصحابه يرجع الاستثناء إلى أقرب مذكور وهو الفسق، ولهذا لا تقبل
شهادته، فإن الاستثناء راجع إلى الفسق خاصة لا إلى قبول الشهادة. وسبب الخلاف في
هذا الأصل سببان: أحدهما- هل هذه الجمل في حكم الجملة الواحدة للعطف الذي فيها، أو
لكل جملة حكم نفسها في الاستقلال وحرف العطف محسن لا مشرك، وهو الصحيح في عطف
الجمل، لجواز عطف الجمل المختلفة بعضها على بعض، على ما يعرف من النحو. السبب
الثاني- يشبه «2» الاستثناء بالشرط في عوده إلى الجمل المتقدمة، فإنه يعود إلى
جميعها عند الفقهاء، أو لا يشبه به، لأنه من باب القياس في اللغة وهو فاسد على ما
يعرف في أصول الفقه. والأصل أن كل ذلك محتمل ولا ترجيح، فتعين ما قال القاضي من
الوقف. ويتأيد «3» الاشكال بأنه قد جاء في كتاب الله عز وجل كلا الأمرين، فإن آية
المحاربة فيها عود الضمير إلى الجميع باتفاق، وآية قتل المؤمن خطأ فيها رد
الاستثناء إلى الأخيرة باتفاق، وآية القذف محتملة للوجهين، فتعين الوقف من غير
مين. قال علماؤنا: وهذا نظر
__________
(1). الوقار (كسحاب): لقب ذكريا بن الفقيه المصري.
(2). في ب وك: تشبيه.
(3). في ك: يتأكد.
كلى
أصولي. ويترجح قول مالك والشافعي رحمهما الله من جهة نظر الفقه الجزئي بأن يقال:
الاستثناء راجع إلى الفسق والنهى «1» عن قبول الشهادة جميعا إلا أن يفرق بين ذلك
بخبر يجب التسليم له. وأجمعت الامة على أن التوبة تمحو الكفر، فيجب أن يكون ما دون
ذلك أولى، والله أعلم. قال أبو عبيد: الاستثناء يرجع إلى الجمل السابقة، قال: وليس
من نسب إلى الزنى بأعظم جرما من مرتكب الزنى، ثم الزاني إذا تاب قبلت شهادته، لان
(التائب من الذنب كمن لا ذنب له). وإذا قبل الله التوبة من العبد كان العباد
بالقبول أولى، مع أن مثل هذا الاستثناء موجود في مواضع من القرآن، منها قوله
تعالى:" إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ-"
[المائدة: 33] إلى قوله-" إِلَّا الَّذِينَ تابُوا «2» 160" [المائدة:
34]. ولا شك أن هذا الاستثناء إلى الجميع، وقال الزجاج: وليس القاذف بأشد جرما من
الكافر، فحقه إذا تاب وأصلح أن تقبل شهادته. قال: وقوله" أَبَداً" أي ما
دام قاذفا، كما يقال: لا تقبل شهادة الكافر أبدا، فإن معناه ما دام كافرا. وقال
الشعبي للمخالف في هذه المسألة: يقبل الله توبته ولا تقبلون شهادته! ثم إن كان
الاستثناء يرجع إلى الجملة الأخيرة عند أقوام من الأصوليين فقوله:"
وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ" تعليل لا جملة مستقلة بنفسها، أي لا تقبلوا
شهادتهم لفسقهم، فإذا زال الفسق فلم لا تقبل شهادتهم؟. ثم توبة القاذف إكذابه
نفسه، كما قال عمر لقذفه المغيرة بحضرة الصحابة من غير نكير، مع إشاعة القضية
وشهرتها من البصرة إلى الحجاز وغير ذلك من الأقطار. ولو كان تأويل الآية ما تأوله
الكوفيون لم يجز أن يذهب علم ذلك عن الصحابة، ولقالوا لعمر: لا يجوز قبول توبة
القاذف أبدا، ولم يسعهم السكوت عن القضاء بتحريف تأويل الكتاب، فسقط قولهم، والله
المستعان. الخامسة والعشرون- قال القشيري: ولا خلاف أنه إذا لم يجلد القاذف بأن
مات المقذوف قبل أن يطالب القاذف بالحد، أو لم يرفع إلى السلطان، أو عفا المقذوف،
فالشهادة مقبولة، لان عند الخصم في المسألة النهى عن قبول الشهادة معطوف على
الجلد، قال الله تعالى:
__________
(1). عبارة الأصل:" الاستثناه راجع إلى الفسق والتوبة جميعا ..."
والتصويب عن كتب الفقه.
(2). راجع ج 6 ص 147 فما بعد. [.....]
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10)
"
فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً
أَبَداً". وعند هذا قال الشافعي: هو قبل أن يحد شر منه حين حد، لان الحدود
كفارات فكيف ترد شهادته في أحسن حاليه دون أخسهما. قلت: هكذا قال ولا خلاف. وقد
تقدم عن ابن الماجشون أنه بنفس القذف ترد شهادته. وهو قول الليث والأوزاعي
والشافعي: ترد شهادته وإن لم يحد، لأنه بالقذف يفسق، لأنه من الكبائر فلا تقبل
شهادته حتى تصح براءته بإقرار المقذوف له بالزنى أو بقيام البينة عليه. السادسة
والعشرون- قوله تعالى:" وَأَصْلَحُوا 160
" يريد إظهار التوبة. وقيل: وأصلحوا العمل. (فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ) حيث تابوا وقبل «1» توبتهم.
[سورة النور (24): الآيات 6 الى 10]
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاَّ
أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ
الصَّادِقِينَ (6) وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ
الْكاذِبِينَ (7) وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ
بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (8) وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ
عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9) وَلَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ
وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10)
فيه ثلاثون مسألة: الاولى- قوله تعالى: (وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا
أَنْفُسُهُمْ)" أَنْفُسُهُمْ" بالرفع على البدل. ويجوز النصب على
الاستثناء: وعلى خبر" يَكُنْ". (فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ
شَهاداتٍ) بالرفع قراءة الكوفيين على الابتداء والخبر، أي فشهادة أحدهم التي تزيل
عنه حد القذف أربع شهادات. وقرا أهل المدينة وأبو عمرو:" أربع" بالنصب،
لان معنى" فشهادة" أن يشهد، والتقدير: فعليهم أن يشهد أحدهم أربع
شهادات، أو فالأمر أن يشهد أحدهم أربع شهادات، ولا خلاف في الثاني أنه منصوب
بالشهادة. (وَالْخامِسَةَ) رفع بالابتداء.
__________
(1). من ك.
والخبر"
أَنَّ" وصلتها، ومعنى المخففة كمعنى المثقلة لان معناها أنه. وقرا أبو عبد
الرحمن وطلحة وعاصم في رواية حفص:" والخامسة" بالنصب، بمعنى وتشهد
الشهادة الخامسة. الباقون بالرفع على الابتداء، والخبر في" أَنَّ لَعْنَتَ
اللَّهِ عَلَيْهِ"، أي والشهادة الخامسة قوله: لعنة الله عليه. الثانية- في
سبب نزولها، وهو ما رواه أبو داود عن ابن عباس أن هلال بن أمية قذف امرأته عند
النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشريك بن سحماء فقال النبي صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (البينة أو حد في ظهرك قال: يا رسول الله، إذا رأى
أحدنا رجلا على امرأته يلتمس البينة! فجعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يقول: (البينة وإلا حد في ظهرك) فقال هلال: والذي بعثك بالحق إنى لصادق،
ولينزلن الله في أمرى ما يبرئ ظهري من الحد، فنزلت" وَالَّذِينَ يَرْمُونَ
أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ" فقرأ حتى
بلغ" مِنَ الصَّادِقِينَ 70" الحديث بكماله. وقيل: لما نزلت الآية
المتقدمة في الذين يرمون المحصنات وتناول ظاهرها الأزواج وغيرهم قال سعد بن معاذ:
يا رسول الله، إن وجدت مع امرأتي رجلا أمهله حتى آتى بأربعة! والله لأضربنه بالسيف
غير مصفح عنه. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أتعجبون من
غيرة سعد لأنا أغير منه والله أغير منى). وفي ألفاظ سعد روايات مختلفة، هذا نحو
معناها. ثم جاء من بعد ذلك هلال بن أمية الواقفي فرمى زوجته بشريك بن سحماء البلوى
على ما ذكرناه، وعزم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ضربه حد القذف، فنزلت
هذه الآية عند ذلك، فجمعهما رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في
المسجد وتلاعنا، فتلكأت المرأة عند الخامسة لما وعظت وقيل: إنها موجبة «1»، ثم
قالت: لا أفضح قومي سائر اليوم «2»، فالتعنت، وفرق رسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بينهما، وولدت غلاما كأنه جمل أورق «3»- على النعت المكروه- ثم
كان الغلام بعد ذلك أميرا بمصر، وهو لا يعرف لنفسه أبا. وجاء أيضا عويمر العجلاني
فرمى امرأته ولاعن. والمشهور أن نازلة هلال كانت قبل، وأنها سبب الآية. وقيل:
نازلة عويمر بن أشقر كانت قبل، وهو حديث صحيح مشهور خرجه الأئمة.
__________
(1). أي الشهادة الخامسة موجبة للعذاب الأليم إن كانت كاذبة.
(2). أريد باليوم الجنس أي جمع الأيام.
(3). الأورق من الإبل: الذي في لونه بياض إلى سواد.
قال
أبو عبد الله بن أبى صفرة: الصحيح أن القاذف لزوجه عويمر، وهلال بن أمية خطأ. قال الطبري
يستنكر قوله في الحديث هلال بن أمية: وإنما القاذف عويمر بن زيد «1» بن الجد ابن
العجلاني، شهد أحدا مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رماها بشريك بن
السحماء، والسحماء أمه، قيل لها ذلك لسوادها، وهو ابن عبدة بن الجد بن العجلاني،
كذلك كان يقول أهل الاخبار. وقيل: قرأ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
على الناس في الخطبة يوم الجمعة" والذين يرمون المحصنات" فقال عاصم بن
عدى الأنصاري: جعلني الله فداك! لو أن رجلا منا وجد على بطن امرأته رجلا، فتكلم
فأخبر بما جرى جلد ثمانين، وسماه المسلمون فاسقا فلا تقبل شهادته، فكيف لأحدنا عند
ذلك بأربعة شهداء، وإلى أن يلتمس أربعة شهود فقد فرغ الرجل من حاجته! فقال عليه
السلام: (كذلك أنزلت يا عاصم بن عدى). فخرج عاصم سامعا مطيعا، فاستقبله هلال بن
أمية يسترجع، فقال: ما وراءك؟ فقال: شر! وجدت شريك ابن السحماء على بطن امرأتي
خولة يزني بها، وخولة هذه بنت عاصم بن عدى، كذا في هذا الطريق أن الذي وجد مع
امرأته شريكا هو هلال بن أمية، والصحيح خلافه حسبما تقدم بيانه. قال الكلبي:
والأظهر أن الذي وجد مع امرأته شريكا عويمر العجلاني، لكثرة ما روى أن النبي
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاعن بين العجلاني وامرأته. واتفقوا على أن هذا
الزاني هو شريك ابن عبدة وأمه السحماء، وكان عويمر وخولة بنت قيس وشريك بنى عم
عاصم، وكانت هذه القصة في شعبان سنة تسع من الهجرة، منصرف رسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من تبوك إلى المدينة، قاله الطبري. وروى الدارقطني عن
عبد الله بن جعفر قال: حضرت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين لا
عن بين عويمر العجلاني وامرأته، مرجع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
من غزوة تبوك، وأنكر حملها الذي في بطنها وقال هو لابن السحماء، فقال له رسول الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (هات امرأتك فقد نزل القرآن فيكما)، فلاعن
بينهما بعد العصر عند المنبر على خمل «2». في طريقه الواقدي عن الضحاك بن عثمان عن
عمران بن أبى أنس قال: سمعت عبد الله بن جعفر يقول ...... فذكره.
__________
(1). في أسد الغابة عن الطبري: عويمر بن الحارث بن زيد بن حارثة بن الجد.
(2). الخمل هدب القطيفة ونحوها مما ينسج وتفضل له فضول كحمل الطنفسة.
الثالثة- قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ)" عام في كل رمى، سواء قال: زنيت أو يا زانية أو رأيتها تزني، أو هذا الولد ليس منى، فإن الآية مشتملة عليه. ويجب اللعان إن لم يأت بأربعة شهداء، وهذا قول جمهور العلماء وعامة الفقهاء وجماعة أهل الحديث. وقد روى عن مالك مثل ذلك. وكان مالك يقول: لا يلاعن إلا أن يقول: رأيتك تزني، أو ينفى حملا أو ولدا منها. وقول أبى الزناد ويحيى بن سعيد والبتي مثل قول مالك: إن الملاعنة لا تجب بالقذف وإنما تجب بالرؤية أو نفى الحمل مع دعوى الاستبراء، هذا هو المشهور عند مالك، وقاله ابن القاسم. والصحيح الأول لعموم قوله:" وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ". قال ابن العربي: وظاهر القرآن يكفى لإيجاب اللعان بمجرد القذف من غير رؤية، فلتعولوا عليه، لا سيما وفي الحديث الصحيح: أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا؟ فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (فاذهب فأت بها) ولم يكلفه ذكر الرؤية. وأجمعوا أن الأعمى يلاعن إذا قذف امرأته. ولو كانت الرؤية من شرط اللعان ما لاعن الأعمى، قاله أبو عمر وقد ذكر ابن القصار عن مالك أن لعان الأعمى لا يصح إلا أن يقول: لمست فرجه في فرجها. والحجة لمالك ومن اتبعه ما رواه أبو داود عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: جاء هلال بن أمية وهو أحد الثلاثة الذين تيب عليهم، فجاء من أرضه عشاء فوجد عند أهله رجلا، فرأى بعينه وسمع بأذنه فلم يهجه حتى أصبح، ثم غدا على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله، إنى جئت أهلي عشاء فوجدت عندهم رجلا، فرأيت بعيني وسمعت بأذنى، فكره رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما جاء به واشتد عليه، فنزلت:" وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ" الآية، وذكر الحديث. وهو نص على أن الملاعنة التي قضى فيها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما كانت في الرؤية، فلا يجب أن يتعدى ذلك. ومن قذف امرأته ولم يذكر رؤية حد، لعموم قوله تعالى:" وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ". الرابعة- إذا نفى الحمل فإنه يلتعن، لأنه أقوى من الرؤية ولا بد من ذكر عدم الوطي والاستبراء بعده. واختلف علماؤنا في الاستبراء، فقال المغيرة ومالك في أحد قوليهما:
يجزى
في ذلك حيضة. وقال مالك أيضا: لا ينفيه إلا بثلاث حيض. والصحيح الأول، لان براءة
الرحم من الشغل يقع بها كما في استبراء الامة، وإنما راعينا الثلاث حيض في العدد
لحكم آخر يأتي بيانه في الطلاق إن شاء الله تعالى. وحكى اللخمي عن مالك أنه قال
مرة: لا ينفى الولد بالاستبراء، لان الحيض يأتي على الحمل. وبه قال أشهب في كتاب
ابن المواز، وقاله المغيرة. وقال: لا ينفى الولد إلا بخمس سنين لأنه أكثر مدة
الحمل على ما تقدم. الخامسة- اللعان عندنا يكون في كل زوجين حرين كانا أو عبدين،
مؤمنين أو كافرين، فاسقين أو عدلين. وبه قال الشافعي. ولا لعان بين الرجل وأمته،
ولا بينه وبين أم ولده. وقيل: لا ينتفي ولد الامة عنه إلا بيمين واحدة، بخلاف
اللعان. وقد قيل: إنه إذا نفى ولد أم الولد لاعن. والأول تحصيل مذهب مالك، وهو
الصواب. وقال أبو حنيفة: لا يصح اللعان إلا من زوجين حرين مسلمين، وذلك لان اللعان
عنده شهادة، وعندنا وعند الشافعي يمين، فكل من صحت يمينه صح قذفه ولعانه. واتفقوا
على أنه لا بد أن يكونا مكلفين. وفي قوله «1»:" وجد مع امرأته رجلا".
دليل على أن الملاعنة تجب على كل زوجين، لأنه لم يخص رجلا من رجل ولا امرأة من
امرأة، ونزلت آية اللعان على هذا الجواب فقال:" وَالَّذِينَ يَرْمُونَ
أَزْواجَهُمْ" ولم يخص زوجا من زوج. وإلى هذا ذهب مالك واهل المدينة، وهو قول
الشافعي وأحمد وإسحاق وأبى عبيد وأبى ثور. وأيضا فإن اللعان يوجب فسخ النكاح فأشبه
الطلاق، فكل من يجوز طلاقه يجوز لعانه. واللعان أيمان لا شهادات، قال الله تعالى
وهو أصدق القائلين:" لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما «2» 10"
[المائدة: 107] أي أيماننا. وقال تعالى:" إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا
نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ «3» اللَّهِ" [المنافقون: 1]. ثم قال
تعالى:" اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً «4»" [المجادلة: 16].
__________
(1). أي قول عويمر، أو غيره على الخلاف المتقدم. وفى الأصول:" وفي قوله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجد .... إلخ" وهو تحريف.
(2). راجع ج 6 ص 359.
(3). راجع ج 18 ص 120.
(4). راجع ج 17 ص 303 فما بعد.
وقال
عليه السلام: (لولا الايمان لكان لي ولها شأن). وأما ما احتج به الثوري وأبو حنيفة
فهي حجج لا تقوم على ساق، منها حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو
قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أربعة ليس بينهم لعان ليس
بين الحر والامة لعان وليس بين الحرة والعبد لعان وليس بين المسلم واليهودية لعان
وليس بين المسلم والنصرانية لعان (. أخرجه الدارقطني من طرق ضعفها كلها. وروى عن
الأوزاعي وابن جريج وهما إمامان عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قوله، ولم يرفعه
«1» إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. واحتجوا من جهة النظر أن الأزواج
لما استثنوا من جملة الشهداء بقوله:" وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا
أَنْفُسُهُمْ" وجب ألا يلاعن إلا من تجوز شهادته. وأيضا فلو كانت يمينا ما
رددت، والحكمة في ترديدها قيامها في الاعداد مقام الشهود في الزنى. قلنا: هذا يبطل
بيمين القسامة فإنها تكرر وليست بشهادة إجماعا، والحكمة في تكرارها التغليظ في
الفروج والدماء. قال ابن العربي: والفيصل في أنها يمين لا شهادة أن الزوج يحلف
لنفسه في إثبات دعواه وتخليصه من العذاب، وكيف يجوز لاحد أن يدعى في الشريعة أن
شاهدا يشهد لنفسه بما يوجب حكما على غيره هذا بعيد في الأصل معدوم في النظر.
السادسة- واختلف العلماء في ملاعنة الأخرس، فقال مالك والشافعي: يلاعن، لأنه ممن
يصح طلاقه وظهاره وإيلاؤه، إذا فهم ذلك عنه. وقال أبو حنيفة: لا يلاعن، لأنه ليس
من أهل الشهادة، ولأنه قد ينطق بلسانه فينكر اللعان، فلا يمكننا إقامة الحد عليه.
وقد تقدم هذا المعنى في سورة" مريم" «2» والدليل عليه، والحمد لله.
السابعة- قال ابن العربي: رأى أبو حنيفة عموم الآية فقال: إن الرجل إذا قذف زوجته
بالزنى قبل أن يتزوجها فإنه يلاعن، ونسى أن ذلك قد تضمنه قوله تعالى:"
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ" وهذا رماها محصنة غير زوجة، وإنما يكون
اللعان في قذف يلحق فيه النسب، وهذا قذف لا يلحق فيه نسب فلا يوجب لعانا، كما لو
قذف أجنبية.
__________
(1). في سنن الدارقطني:" يرفعاه".
(2). راجع ج 11 ص 101.
الثامنة-
إذا قذفها بعد الطلاق نظرت، فإن كان هنالك نسب يريد أن ينفيه أو حمل يتبرأ منه
لاعن وإلا لم يلاعن. وقال عثمان البتي: لا يلاعن بحال لأنها ليست بزوجة. وقال أبو
حنيفة: لا يلاعن في الوجهين، لأنها ليست بزوجة. وهذا ينتقض عليه بالقذف قبل
الزوجية كما ذكرناه آنفا، بل هذا أولى، لان النكاح قد تقدم وهو يريد الانتفاء من
النسب وتبرئته من ولد يلحق به فلا بد من اللعان. وإذا لم يكن هنالك حمل يرجى ولا
نسب يخاف تعلقه لم يكن للعان فائدة فلم يحكم به وكان قذفا مطلقا داخلا تحت عموم
قوله تعالى:" وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ" الآية، فوجب عليه
الحد وبطل ما قاله البتي لظهور فساده. التاسعة- لا ملاعنة بين الرجل وزوجته بعد
انقضاء العدة إلا في مسألة واحدة، وهى أن يكون الرجل غائبا فتأتي امرأته بولد في
مغيبه وهو لا يعلم فيطلقها فتنقضي عدتها، ثم يقدم فينفيه فله أن يلاعنها ها هنا
بعد العدة. وكذلك لو قدم بعد وفاتها ونفى الولد لاعن لنفسه وهى ميتة بعد مدة من
العدة، ويرثها لأنها ماتت قبل وقوع الفرقة بينهما. العاشرة- إذا انتفى من الحمل
ووقع ذلك بشرطه لاعن قبل الوضع، وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: لا يلاعن إلا
بعد أن تضع، لأنه يحتمل أن يكون ريحا أو داء من الأدواء. ودليلنا النص الصريح بأن
النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاعن قبل الوضع، وقال: (إن جاءت به كذا
فهو لأبيه وإن جاءت به كذا فهو لفلان) فجاءت به على النعت المكروه. الحادية عشرة-
إذا قذف بالوطي في الدبر [لزوجه «1»] لاعن. وقال أبو حنيفة: لا يلاعن، وبناه على
أصله في أن اللواط لا يوجب الحد. وهذا فاسد، لان الرمي به معرة وقد دخل تحت عموم
قوله تعالى:" وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ" وقد تقدم في"
الأعراف" «2» و" المؤمنون" «3» أنه يجب به الحد.
__________
(1). زيادة يقتضيها المقام.
(2). راجع ج 7 ص 242 فما بعد. [.....]
(3). راجع ص 106 من هذا الجزء.
الثانية
عشرة- قال ابن العربي: من غريب أمر هذا الرجل أنه [قال «1»] إذا قذف زوجته وأمها
بالزنى: إنه إن حد للأم سقط حد البنت، وإن لاعن للبنت لم يسقط حد الام، وهذا لا
وجه له، وما رأيت لهم [فيه ] شيئا يحكى، وهذا باطل جدا، فإنه خص عموم الآية في
البنت وهى زوجة بحد الام من غير أثر ولا أصل قاسه عليه. الثالثة عشرة- إذا قذف
زوجته ثم زنت قبل التعانه فلا حد ولا لعان. وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي وأكثر
أهل العلم. وقال الثوري والمزني: لا يسقط الحد عن القاذف، وزني المقذوف بعد أن قذف
لا يقدح في حصانته المتقدمة ولا يرفعها، لان الاعتبار الحصانة والعفة في حال القذف
لا بعده. كما لو قذف مسلما فارتد المقذوف بعد القذف وقبل أن يحد القاذف لم يسقط
الحد عنه. وأيضا فإن الحدود كلها معتبرة بوقت الوجوب لا وقت الإقامة. ودليلنا هو
أنه قد ظهر قبل استيفاء اللعان والحد معنى لو كان موجودا في ابتداء منع صحة اللعان
ووجوب الحد، فكذلك إذا طرأ في الثاني، كما إذا شهد شاهدان ظاهرهما العدالة فلم
يحكم الحاكم بشهادتهما حتى ظهر فسقهما بأن زنيا أو شربا خمرا فلم يجز للحاكم أن
يحكم بشهادتهما تلك. وأيضا فإن الحكم بالعفة والإحصان يؤخذ من طريق الظاهر لا من
حيت القطع واليقين، وقد قال عليه السلام: (ظهر المؤمن حمى)، فلا يحد القاذف إلا
بدليل قاطع، وبالله التوفيق. الرابعة عشرة- من قذف امرأته وهي كبيرة لا تحمل
تلاعنا، هو لدفع الحد، وهى لدرء العذاب. فإن كانت صغيرة لا تحمل لا عن هو لدفع
الحد ولم تلاعن هي لأنها لو أقرت لم يلزمها شي. وقال ابن الماجشون: لا حد على قاذف
من لم تبلغ. قال اللخمي: فعلى هذا لا لعان على زوج الصغيرة التي لا تحمل. الخامسة
عشرة- إذا شهد أربعة على امرأة بالزنى أحدهم زوجها فإن الزوج يلاعن وتحد الشهود
الثلاثة، وهو أحد قولي الشافعي. والقول الثاني أنهم لا يحدون. وقال أبو حنيفة: إذا
شهد الزوج والثلاثة ابتداء قبلت شهادتهم وحدت المرأة. ودليلنا قوله
__________
(1). زيادة عن ابن العربي.
تعالى:"
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ" الآية. فأخبر أن من قذف محصنا ولم يأت
بأربعة شهداء حد، فظاهره يقتضى أن يأتي بأربعة شهداء سوى الرامي، والزوج رام
لزوجته فخرج عن أن يكون أحد الشهود، والله أعلم. السادسة عشرة- إذا ظهر بامرأته
حمل فترك أن ينفيه لم يكن له نفيه بعد سكوته. وقال شريح ومجاهد: له أن ينفيه أبدا.
وهذا خطأ، لان سكوته بعد العلم به رضى به، كما لو أقر به ثم ينفيه فإنه لا يقبل
منه، والله أعلم. السابعة عشرة- فإن أخر ذلك إلى أن وضعت وقال: رجوت أن يكون ريحا
ينفش أو تسقطه فأستريح من القذف، فهل لنفيه بعد وضعه مدة ما فإذا تجاوزها لم يكن
له ذلك، فقد اختلف في ذلك، فنحن نقول: إذا لم يكن له عذر في سكوته حتى مضت ثلاثة
أيام فهو راض به ليس له نفيه، وبهذا قال الشافعي. وقال أيضا: متى أمكنه نفيه على
ما جرت به العادة من تمكنه من الحاكم فلم يفعل لم يكن له نفيه من بعد ذلك. وقال
أبو حنيفة: لا أعتبر مدة. وقال أبو يوسف ومحمد: يعتبر فيه أربعون يوما، مدة
النفاس. قال ابن القصار: والدليل لقولنا هو أن نفى ولده محرم عليه، واستلحاق ولد
ليس منه محرم عليه، فلا بد أن يوسع عليه لكي ينظر فيه ويفكر، هل يجوز له نفيه
أولا. وإنما جعلنا الحد ثلاثة لأنه أول حد الكثرة وآخر حد القلة، وقد جعلت ثلاثة
أيام يختبر بها حال المصراة «1»، فكذلك ينبغي أن يكون هنا. وأما أبو يوسف ومحمد
فليس اعتبارهم بأولى من اعتبار مدة الولادة والرضاع، إذ لا شاهد لهم في الشريعة،
وقد ذكرنا نحن شاهدا في الشريعة من مدة المصراة. الثامنة عشرة- قال ابن القصار إذا
قالت امرأة لزوجها أو لأجنبي يا زانية- بالهاء- وكذلك الأجنبي لأجنبي، فلست أعرف
فيه نصا لأصحابنا، ولكنه عندي يكون قذفا وعلى قائله الحد، وقد زاد حرفا، وبه قال
الشافعي ومحمد بن الحسن. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف:
__________
(1). المصراة: الناقة أو البقرة أو الشاة تصر أخلافها ولا تحلب أياما حتى يجتمع
اللبن في ضرعها، فإذا حلبها المشترى استغزرها. ومنه الحديث: (من اشترى مصراة فهو
بخير النظرين) أي خير الأمرين له، إما إمساك المبيع أو رده.
لا
يكون قذفا. واتفقوا أنه إذا قال لامرأته يا زان أنه قذف. والدليل على أنه يكون في
الرجل قذفا هو أن الخطاب إذا فهم منه معناه ثبت حكمه، سواء كان بلفظ أعجمي أو
عربي. ألا ترى أنه إذا قال للمرأة زنيت (بفتح التاء) كان قذفا، لان معناه يفهم
منه، ولابي حنيفة وأبى يوسف أنه لما جاز أن يخاطب المؤنث بخطاب المذكر لقوله
تعالى:" وَقالَ نِسْوَةٌ «1» 30" صلح أن يكون قوله يا زان للمؤنث قذفا.
ولما لم يجز أن يؤنث فعل المذكر إذا تقدم عليه لم يكن لخطابه بالمؤنث حكم، والله
أعلم. التاسعة عشرة- يلاعن في النكاح الفاسد زوجته لأنها صارت فراشا ويلحق النسب
فيه فجرى اللعان عليه. الموفية عشرين- اختلفوا في الزوج إذا أبى من الالتعان، فقال
أبو حنيفة: لا حد عليه، لان الله تعالى جعل على الأجنبي الحد وعلى الزوج اللعان،
فلما لم ينتقل اللعان إلى الأجنبي لم ينتقل الحد إلى الزوج ويسجن أبدا حتى يلاعن
لان الحدود لا تؤخر قياسا. وقال مالك والشافعي وجمهور الفقهاء: إن لم يلتعن الزوج
حد، لان اللعان له براءة كالشهود للأجنبي، فإن لم يأت الأجنبي بأربعة شهداء حد،
فكذلك الزوج إن لم يلتعن. وفي حديث العجلاني ما يدل على هذا، لقوله: إن سكت سكت
على غيظ وإن قتلت قتلت وإن نطقت، جلدت. الحادية والعشرون- واختلفوا أيضا هل للزوج
أن يلاعن مع شهوده، فقال مالك والشافعي: يلاعن كان له شهود أو لم يكن، لان الشهود
ليس لهم عمل في غير درء الحد، وأما رفع الفراش ونفى الولد فلا بد فيه من اللعان.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: إنما جعل اللعان للزوج إذا لم يكن له شهود غير نفسه،
لقوله تعالى:" وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ".
الثانية والعشرون- البداءة في اللعان بما بدأ الله به، وهو الزوج، وفائدته درء الحد
عنه ونفى النسب منه، لقوله عليه السلام: (البينة وإلا حد في ظهرك). ولو بدئ
بالمرأة قبله لم يجز لأنه عكس ما رتبه الله تعالى. وقال أبو حنيفة: يجزى. وهذا
باطل، لأنه
__________
(1). راجع ج 9 ص 175 فما بعد.
خلاف القرآن، وليس له أصل يرده إليه ولا معنى يقوى به، بل المعنى لنا، لان المرأة إذا بدأت باللعان فتنفى ما لم يثبت وهذا لا وجه له. الثالثة والعشرون- وكيفية اللعان أن يقول الحاكم للملاعن: قل أشهد بالله لرأيتها تزني ورأيت فرج الزاني في فرجها كالمرود في المكحلة وما وطئتها بعد رؤيتي. وإن شئت قلت: لقد زنت وما وطئتها بعد زناها. يردد ما شاء من هذين اللفظين أربع مرات، فإن نكل عن هذه الايمان أو عن شي منها حد. وإذا نفى حملا قال: أشهد بالله لقد استبرأتها وما وطئتها بعد، وما هذا الحمل منى، ويشير إليه، فيحلف بذلك أربع مرات ويقول في كل يمين منها: وإني لمن الصادقين في قولي هذا عليها. ثم يقول في الخامسة: على لعنة الله إن كنت من الكاذبين، وإن شاء قال: إن كنت كاذبا فيما ذكرت عنها. فإذا قال ذلك سقط عنه الحد وانتفى عنه الولد. فإذا فرغ الرجل من التعانه قامت المرأة بعده فحلفت بالله أربعة أيمان، تقول فيها: أشهد بالله إنه لكاذب، أو إنه لمن الكاذبين فيما ادعاه على وذكر عنى. وإن كانت حاملا قالت: وإن حملي هذا منه. ثم تقول في الخامسة: وعلى غضب الله إن كان صادقا، أو إن كان من الصادقين في قوله ذلك. ومن أوجب اللعان بالقذف يقول في كل شهادة من الأربع: أشهد بالله إنى لمن الصادقين فيما رميت به فلانة من الزنى. ويقول في الخامسة: على لعنة الله إن كنت كاذبا فيما رميتها به من الزنى. وتقول هي: أشهد بالله إنه لكاذب فيما رماني به من الزنى. وتقول في الخامسة: على غضب الله إن كان صادقا فيما رماني به من الزنى. وقال الشافعي: يقول الملاعن أشهد بالله إنى لمن الصادقين فيما رميت به زوجي فلانة بنت فلان، ويشير إليها إن كانت حاضرة، يقول ذلك أربع مرات، ثم يوعظه الامام ويذكره الله تعالى ويقول: إنى أخاف إن لم تكن صدقت أن تبوء بلعنة الله، فإن رآه يريد أن يمضى على ذلك أمر من يضع يده على فيه، ويقول: إن قولك وعلى لعنة الله إن كنت من الكاذبين موجبا، فإن أبى تركه يقول ذلك: لعنة الله على إن كنت من الكاذبين فيما رميت به فلانة من الزنى. احتج بما رواه أبو داود عن ابن عباس أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر رجلا حيث أمر المتلاعنين أن يضع يده على فيه عند الخامسة يقول: إنها موجبة.
الرابعة
والعشرون- اختلف العلماء في حكم من قذف امرأته برجل سماه، هل يحد أم لا، فقال
مالك: عليه اللعان لزوجته، وحد للمرمى. وبه قال أبو حنيفة، لأنه قاذف لمن لم يكن
له ضرورة إلى قذفه. وقال الشافعي: لا حد عليه، لان الله عز وجل لم يجعل على من رمى
زوجته بالزنى إلا حدا واحدا بقوله:" وَالَّذِينَ يَرْمُونَ
أَزْواجَهُمْ"، ولم يفرق بين من ذكر رجلا بعينه وبين من لم يذكر، وقد رمى
العجلاني زوجته بشريك وكذلك هلال ابن أمية، فلم يحد واحد منهما. قال ابن العربي:
وظاهر القرآن لنا، لان الله تعالى وضع الحد في قذف الأجنبي والزوجة مطلقين، ثم خص
حد الزوجة بالخلاص باللعان وبقي الأجنبي على مطلق الآية. وإنما لم يحد العجلاني
لشريك ولا هلال لأنه لم يطلبه، وحد القذف لا يقيمه الامام إلا بعد المطالبة «1»
إجماعا منا ومنه. الخامسة والعشرون- إذا فرغ المتلاعنان من تلاعنهما جميعا تفرقا
وخرج كل واحد منهما على باب من المسجد الجامع غير الباب الذي يخرج منه صاحبه، ولو
خرجا من باب واحد لم يضر ذلك لعانهما. ولا خلاف في أنه لا يكون اللعان إلا في مسجد
جامع تجمع فيه الجمعة بحضرة السلطان أو من يقوم مقامه من الحكام. وقد استحب جماعة
من أهل العلم أن يكون اللعان في الجامع بعد العصر. وتلتعن النصرانية من زوجها
المسلم في الموضع الذي تعظمه من كنيستها بمثل «2» ما تلتعن به المسلمة. السادسة
والعشرون- قال مالك وأصحابه: وبتمام اللعان تقع الفرقة بين المتلاعنين، فلا
يجتمعان أبدا ولا يتوارثان، ولا يحل له مراجعتها أبدا لا قبل زوج ولا بعده، وهو
قول الليث بن سعد وزفر بن الهذيل والأوزاعي. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد ابن
الحسن: لا تقع الفرقة بعد فراغهما من اللعان حتى يفرق الحاكم بينهما، وهو قول
الثوري، لقول ابن عمر: فرق رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين
المتلاعنين، فأضاف الفرقة إليه، ولقوله عليه السلام: (لا سبيل لك عليها). وقال
الشافعي: إذا أكمل الزوج الشهادة والالتعان فقد زال فراش امرأته، التعنت أو لم
تلتعن. قال: وأما التعان المرأة فإنما هو لدرء الحد عنها لا غير، وليس لالتعانها
في زوال الفراش معنى. ولما كان لعان الزوج ينفى
__________
(1). في ك: إلا بمطالبة المقذوف.
(2). من ب وك. وفى أوج وط: مثل. (12- 13)
الولد
ويسقط الحد رفع الفراش. وكان عثمان البتي لا يرى التلاعن ينقص شيئا من عصمة
الزوجين حتى يطلق. وهذا قول لم يتقدمه إليه أحد من الصحابة، على أن البتي قد استحب
للملاعن أن يطلق بعد اللعان، ولم يستحسنه قبل ذلك، فدل على أن اللعان عنده قد أحدث
حكما. وبقول عثمان قال جابر بن زيد فيما ذكره الطبري، وحكاه اللخمي عن محمد ابن
أبى صفرة. ومشهور المذهب أن نفس تمام اللعان بينهما فرقة. واحتج أهل هذه المقالة
بأنه ليس في كتاب الله تعالى إذا لاعن أو لاعنت يجب وقوع الفرقة، وبقول عويمر:
كذبت عليها إن أمسكتها، فطلقها ثلاثا، قال: ولم ينكر النبي صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك عليه ولم يقل له لم قلت هذا، وأنت لا تحتاج إليه، لان
باللعان قد طلقت. والحجة لمالك في المشهور ومن وافقه قوله عليه السلام: (لا سبيل
لك عليها). وهذا إعلام منه أن تمام اللعان رفع سبيله عليها «1» وليس تفريقه بينهما
باستئناف حكم، وإنما كان تنفيذا لما أوجب الله تعالى بينهما من المباعدة، وهو معنى
اللعان في اللغة. السابعة والعشرون- ذهب الجمهور من العلماء أن المتلاعنين لا
يتناكحان أبدا، فإن أكذب نفسه جلد الحد ولحق به الولد، ولم ترجع إليه أبدا. وعلى
هذا السنة التي لا شك فيها ولا اختلاف. وذكر ابن المنذر عن عطاء أن الملاعن إذا
أكذب نفسه بعد اللعان لم يحد، وقال: قد تفرقا بلعنة من الله. وقال أبو حنيفة
ومحمد: إذا أكذب نفسه جلد الحد ولحق به الولد، وكان خاطبا من الخطاب إن شاء، وهو
قول سعيد بن المسيب والحسن وسعيد بن جبير وعبد العزيز بن أبى سلمة، وقالوا: يعود
النكاح حلالا كما لحق به الولد، لأنه لا فرق بين شي من ذلك. وحجة الجماعة قوله
عليه السلام: (لا سبيل لك عليها)، ولم يقل إلا أن تكذب نفسك. وروى ابن إسحاق
وجماعة عن الزهري قال: فمضت السنة أنهما إذا تلاعنا فرق بينهما فلا يجتمعان أبدا.
ورواه الدارقطني، ورواه مرفوعا من حديث سعيد بن جبير عن ابن عمر رضى الله عنهما عن
النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (المتلاعنان إذا افترقا لا يجتمعان
أبدا). وروى عن على وعبد الله قالا: مضت السنة ألا يجتمع المتلاعنان. عن على:
أبدا.
__________
(1). كذا في ب وك وط.
إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11) لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (20) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21) وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22)
الثامنة
والعشرون- اللعان يفتقر إلى أربعة أشياء: عدد الألفاظ- وهو أربع شهادات على ما
تقدم. والمكان- وهو أن يقصد به أشرف البقاع بالبلدان، إن كان بمكة فعند الركن
والمقام، وإن كان بالمدينة فعند المنبر، وإن كان ببيت المقدس فعند الصخرة، وإن كان
في سائر البلدان ففي مساجدها، وإن كانا كافرين بعث بهما إلى الموضع الذي يعتقدان
تعظيمه، إن كانا يهوديين فالكنيسة، وإن كانا مجوسيين ففي بيت النار، وإن كانا لا
دين لهما مثل الوثنيين فإنه يلاعن بينهما في مجلس حكمه. والوقت- وذلك بعد صلاة
العصر. وجمع الناس- وذلك أن يكون هناك أربعة أنفس فصاعدا، فاللفظ وجمع الناس
مشروطان، والزمان والمكان مستحبان. التاسعة والعشرون- من قال: إن الفراق لا يقع
إلا بتمام التعانهما، فعليه لو مات أحدهما قبل تمامه ورثه الأخر. ومن قال: لا يقع
إلا بتفريق الامام فمات أحدهما قبل ذلك وتمام اللعان ورثه الأخر. وعلى قول
الشافعي: إن مات أحدهما قبل أن تلتعن المرأة لم يتوارثا. الموفية ثلاثين- قال ابن
القصار: تفريق اللعان عندنا ليس بفسخ، وهو مذهب المدونة: فإن اللعان حكم تفريقه
حكم تفريق الطلاق، ويعطى لغير المدخول بها نصف الصداق. وفي مختصر ابن الجلاب: لا
شي لها، وهذا على أن تفريق اللعان فسخ.
[سورة النور (24): الآيات 11 الى 22]
إِنَّ الَّذِينَ جاؤُا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا
لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ
الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ (11) لَوْ لا
إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً
وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْلا جاؤُا
عَلَيْهِ
بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ
اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ (13) وَلَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ
فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ
(14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ
لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15)
وَلَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا
سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا
لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ
الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ
الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا
وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (19) وَلَوْ لا فَضْلُ
اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (20)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ
يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ
وَلَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ
أَبَداً وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21)
وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي
الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا
وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ
رَحِيمٌ (22)
«فيه
ثمان وعشرون مسألة»
: الاولى- قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ
مِنْكُمْ)" عُصْبَةٌ" خبر" إِنَّ". ويجوز نصبها على الحال،
ويكون الخبر" لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ". وسبب
نزولها ما رواه الأئمة من حديث الافك الطويل في قصة عائشة رضوان الله عليها، وهو
خبر صحيح مشهور، أغنى اشتهاره عن ذكره، وسيأتي مختصرا. وأخرجه البخاري تعليقا،
وحديثه أتم. قال: وقال أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، وأخرجه أيضا عن
محمد بن كثير عن أخيه سليمان من حديث مسروق عن أم رومان أم عائشة أنها قالت: لما
رميت عائشة خرت مغشيا عليها. وعن موسى بن إسماعيل من حديث أبى وائل قال: حدثني
مسروق بن الأجدع قال حدثتني أم رومان وهى أم عائشة قالت: بينا أنا قاعدة أنا
وعائشة إذ ولجت امرأة من الأنصار فقالت: فعل الله بفلان وفعل [بفلان ] فقالت أم
رومان: وما ذاك؟ قالت إننى فيمن حدث الحديث! قالت: وما ذاك؟ قالت كذا وكذا. قالت
عائشة: سمع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قالت نعم. قالت: وأبو
بكر؟ قالت نعم! فخرت مغشيا عليها، فما أفاقت إلا وعليها حمى بنافض «2» فطرحت عليها
ثيابها فغطيتها: فجاء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: (ما شأن
هذه؟) فقلت: يا رسول الله، أخذتها الحمى بنافض. قال: (فلعل في حديث تحدث به) قالت
نعم. فقعدت عائشة فقالت: والله، لئن حلفت لا تصدقونني! ولين قلت لا تعذروننى! مثلي
ومثلكم كيعقوب وبنيه «3»، والله المستعان على ما تصفون. قالت: وانصرف ولم يقل شيئا
فأنزل الله عذرها. قالت: بحمد الله لا بحمد أحد ولا بحمدك. قال أبو عبد الله
الحميدي: كان بعض من لقينا من الحفاظ البغداديين يقول: الإرسال في هذا الحديث
أبين، واستدل على ذلك بأن أم رومان توفيت في حياة رسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومسروق لم يشاهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بلا
خلاف. وللبخاري من حديت عبيد الله بن عبد الله بن أبى مليكة أن عائشة كانت
تقرأ:" إذ تلقونه
__________
(1). يلاحظ أن المسائل سبع وعشرون في جميع الأصول.
(2). أي برعشه.
(3). إذ قال في محنته: والله المستعان ... إلخ.
بألسنتكم"
وتقول: الولق الكذب. قال ابن أبى مليكة: وكانت أعلم بذلك «1» من غيرها لأنه نزل
فيها. قال البخاري: وقال معمر «2» بن راشد عن الزهري: كان حديث الافك في غزوة
المريسيع. قال ابن إسحاق: وذلك سنة ست. وقال موسى بن عقبة: سنة أربع. وأخرج
البخاري من حديت معمر عن الزهري قال قال لي الوليد بن عبد الملك: أبلغك أن عليا
كان فيمن قذف؟ قال: قلت لا، ولكن قد أخبرني رجلان من قومك أبو سلمة بن عبد الرحمن
وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أن عائشة قالت لهما: كان على مسلما «3»
في شأنها. وأخرجه أبو بكر الإسماعيلي في كتابه المخرج على الصحيح من وجه آخر من
حديث معمر عن الزهري، وفية: قال كنت عند الوليد بن عبد الملك فقال: الذي تولى كبره
منهم على بن أبى طالب؟ فقلت لا، حدثني سعيد بن المسيب وعروة وعلقمة وعبيد الله بن
عبد الله بن عتبة كلهم يقول سمعت عائشة تقول: والذي تولى كبره عبد الله بن أبى [بن
سلول «4»]. وأخرج «5» البخاري أيضا من حديث الزهري عن عروة عن عائشة: والذي تولى
كبره منهم عبد الله بن أبى. الثانية- قوله تعالى: (بِالْإِفْكِ) الافك: الكذب.
والعصبة: ثلاثة رجال، قاله ابن عباس. وعنه أيضا من الثلاثة إلى العشرة. ابن عيينة:
أربعون رجلا. مجاهد: من عشرة إلى خمسة عشر. واصلها في اللغة وكلام العرب الجماعة
الذين يتعصب بعضهم لبعض. والخير حقيقته: ما زاد نفعه على ضره. والشر: ما زاد ضره
على نفعه. وإن خيرا لا شر فيه هو الجنة. وشرا لا خير فيه هو جهنم. فأما البلاء
النازل على الأولياء فهو خير، لان ضرره من الألم قليل في الدنيا، وخيره هو الثواب
الكثير في الأخرى. فنبه الله تعالى عائشة وأهلها وصفوان، إذ الخطاب لهم في
قوله:" لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ"، لرجحان
النفع والخير على جانب الشر. الثالثة- لما خرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بعائشة معه في غزوة بنى المصطلق وهى غزوة المريسيع، وقفل ودنا من
المدينة آذن ليلة بالرحيل قامت حين آذنوا بالرحيل
__________
(1). أي بالذي قرأت به.
(2). الذي في البخاري" النعمان بن راشد".
(3). قوله:" مسلما" بكسر اللام المشددة من التسليم، أي ساكتا في شأنها.
وقيل: بفتح اللام، من السلامة من الخوض فيه.
(4). من ك. [.....]
(5). في ك: وأخرجه.
فمشت
حتى جاوزت الجيش، فلما فرغت من شأنها أقبلت إلى الرحل فلمست صدرها فإذا عقد من جزع
ظفار قد «1» انقطع، فرجعت فالتمسته فحبسها ابتغاؤه، فوجدته وانصرفت فلم تجد أحدا،
وكانت شابة قليلة اللحم، فرفع الرجال هودجها ولم يشعروا بزوالها منه، فلما لم تجد
أحدا اضطجعت في مكانها رجاء أن تفتقد فيرجع إليها، فنامت في الموضع ولم يوقظها إلا
قول صفوان بن المعطل: إنا لله وإنا إليه راجعون، وذلك أنه كان تخلف وراء الجيش
لحفظ الساقة. وقيل: إنها استيقظت لاسترجاعه، ونزل عن ناقته وتنحى عنها حتى ركبت
عائشة، واخذ يقودها حتى بلغ بها الجيش في نحر الظهيرة، فوقع أهل الافك في مقالتهم،
وكان الذي يجتمع إليه فيه ويستوشيه «2» ويشعله عبد الله بن أبى بن سلول المنافق،
وهو الذي رأى صفوان آخذا بزمام ناقة عائشة فقال: والله ما نجت منه ولا نجا منها،
وقال: امرأة نبيكم باتت مع رجل. وكان من قالته حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وحمنة
بنت جحش. هذا اختصار الحديث، وهو بكماله وإتقانه في البخاري ومسلم، وهو في مسلم
أكمل. ولما بلغ صفوان قول حسان في الافك جاء فضربه بالسيف ضربة على رأسه وقال:
تلق ذباب السيف عنى فإنني ... غلام إذا هوجيت ليس بشاعر
فأخذ جماعة حسان ولببوه «3» وجاءوا به إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فأهدر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جرح حسان واستوهبه
إياه. وهذا يدل على أن حسان ممن تولى الكبر، على ما يأتي والله أعلم. وكان صفوان
هذا صاحب ساقة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غزواته لشجاعته،
وكان من خيار الصحابة [رضى الله عنه وعنهم «4»]. وقيل: كان حصورا لا يأتي النساء،
ذكره ابن إسحاق من طريق عائشة. وقيل: كان له ابنان، يدل على ذلك حديثه المروي مع
امرأته، وقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ابنيه: (لهما أشبه به من
الغراب بالغراب). وقوله في الحديث: والله ما كشف كنف أنثى قط، يريد بزنى. وقتل شهيدا
رضى الله عنه في غزوة أرمينية سنة تسع عشرة في زمان عمر، وقيل: ببلاد الروم سنة
ثمان وخمسين في زمان معاوية.
__________
(1). الجزع (بفتح الجيم وسكون الزاي): خرز معروف في سواده بياض كالعروق. وظفار
(كخضار): مدينة باليمن.
(2). يستوشبه: يستخرجه بالبحث والمسألة ثم يفشيه ويشيعه ويحركه.
(3). لبب فلان فلانا: أخذ بتلبيبه، أي جمع ثيابه عند صدره ونحره في الخصومة ثم
جره.
(4). من ك.
الرابعة-
قوله تعالى: (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ) يعنى ممن
تكلم بالإفك. ولم يسم من أهل الافك. إلا حسان ومسطح وحمنة وعبد الله: وجهل الغير،
قاله عروة بن الزبير، وقد سأله عن ذلك عبد الملك بن مروان، وقال: إلا أنهم كانوا
عصبة، كما قال الله تعالى. وفي مصحف حفصة:" عصبة «1» أربعة". الخامسة-
قوله تعالى: (وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ) وقرا حميد الأعرج ويعقوب:"
كبره" بضم الكاف. قال الفراء: وهو وجه جيد، لان العرب تقول: فلان تولى عظم
كذا وكذا، أي أكبره. روى عن عائشة أنه حسان، وأنها قالت حين عمى: لعل العذاب
العظيم الذي أوعده الله به ذهاب بصره، رواه عنها مسروق. وروى عنها أنه عبد الله بن
أبى، وهو الصحيح، وقاله ابن عباس. وحكى أبو عمر بن عبد البر أن عائشة برأت حسان من
الفرية، وقالت: إنه لم يقل شيئا. وقد أنكر حسان أن يكون قال شيئا من ذلك في قوله:
حصان رزان ما تزن بريبة ... وتصبح غرثى من لحوم الغوافل «2»
حليلة خير الناس دينا ومنصبا ... نبى الهدى والمكرمات الفواضل
عقيلة حي من لؤي بن غالب ... كرام المساعي مجدها غير زائل
مهذبة قد طيب الله خيمها «3» ... وطهرها من كل شين وباطل
فإن كان ما بلغت أنى قلته ... فلا رفعت سوطي إلى أناملي
فكيف وودى ما حييت ونصرتي ... لال رسول الله زين المحافل
له رتب عال على الناس فضلها ... تقاصر عنها سورة المتطاول
وقد روى أنه لما أنشدها: حصان رزان، قالت له: لست كذلك، تريد أنك وقعت في الغوافل.
وهذا تعارض، ويمكن الجمع بأن يقال: إن حسانا لم يقل ذلك نصا وتصريحا، ويكون عرض
بذلك وأومأ إليه فنسب ذلك إليه، والله أعلم.
__________
(1). في ك: عصيبة بالتصغير.
(2). الحصان: العفيفة. ورزان: ذات ثبات ووقار وعفاف. وغرثى: جائعة. ما تزن:
ماتتهم. الغوافل: جمع غافلة، أي لا ترتع في أعراض الناس.
(3). الخيم (بالكسر): الشيمة والطبيعة والخلق والأصل.
وقد
اختلف الناس فيه هل خاض في الافك أم لا، وهل جلد الحد أم لا، فالله أعلم أي ذلك
كان: وهى المسألة: السادسة- فروى محمد بن إسحاق وغيره أن النبي صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جلد في الافك رجلين وامرأة: مسطحا وحسان وحمنة، وذكره الترمذي
وذكر القشيري عن ابن عباس قال: جلد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
ابن أبى ثمانين جلدة، وله في الآخرة عذاب النار. قال القشيري: والذي ثبت في
الاخبار أنه ضرب ابن أبى وضرب حسان وحمنة، وأما مسطح فلم يثبت عنه قذف صريح، ولكنه
كان يسمع ويشيع من غير تصريح. قال الماوردي «1» وغيره: اختلفوا هل حد النبي صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصحاب الافك، على قولين: أحدهما أنه لم يحد أحدا من
أصحاب الافك لان الحدود إنما تقام بإقرار أو ببينة، ولم يتعبده الله أن يقيمها
بإخباره عنها، كما لم يتعبده بقتل المنافقين، وقد أخبره بكفرهم. قلت: وهذا فاسد
مخالف لنص القرآن، فإن الله عز وجل يقول:" وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ
ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ" أي على صدق قولهم:"
فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً". والقول الثاني- أن النبي صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حد أهل الافك عبد الله بن أبى ومسطح ابن أثاثة وحسان بن ثابت
وحمنة بنت جحش، وفي ذلك قال شاعر من المسلمين:
لقد ذاق حسان الذي كان أهله ... وحمنة إذ قالوا هجيرا ومسطح
وابن سلول ذاق في الحد خزية ... كما خاض في إفك من القول يفصح
تعاطوا برجم الغيب زوج نبيهم ... وسخطة ذى العرش الكريم فأبرحوا «2»
وآذوا رسول الله فيها فجلدوا ... مخازي تبقى عمموها وفضحوا
فصب عليهم محصدات كأنها ... شآبيب قطر من ذرى المزن تسفح
. قلت: المشهور من الاخبار والمعروف عند العلماء أن الذي حد حسان ومسطح وحمنة، ولم
يسمع بحد لعبد الله بن أبى. روى أبو داود عن عائشة رضى الله عنها قالت: لما نزل
عذري قام النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فذكر ذلك، وتلا القرآن، فلما
نزل من المنبر أمر بالرجلين
__________
(1). في ك وط: السابعة قال المارودي ... إلخ.
(2). أي جاء بأمر مفرط في الإثم.
والمرأة
فضربوا حدهم، وسماهم: حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش. وفي كتاب
الطحاوي:" ثمانين ثمانين". قال علماؤنا. وإنما لم يحد «1» عبد الله بن
أبى لان الله تعالى قد أعد له في الآخرة عذابا عظيما، فلو حد في الدنيا لكان ذلك
نقصا من عذابه في الآخرة وتخفيفا عنه مع أن الله تعالى قد شهد ببراءة عائشة رضى
الله عنها وبكذب كل من رماها، فقد حصلت فائدة الحد، إذ مقصوده إظهار كذب القاذف
وبراءة المقذوف، كما قال الله تعالى:" فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ
فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ". وإنما حد هؤلاء المسلمون
ليكفر عنهم إثم ما صدر عنهم من القذف حتى لا يبقى عليهم تبعة من ذلك في الآخرة،
وقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحدود (إنها كفارة لمن أقيمت
عليه)، كما في حديث عبادة بن الصامت. ويحتمل أن يقال: إنما ترك حد ابن أبى
استئلافا لقومه واحتراما لابنه، وإطفاء لثائرة الفتنة المتوقعة من ذلك، وقد كان
ظهر مبادئها من سعد بن عبادة ومن قومه، كما في صحيح مسلم. والله أعلم. السابعة-
قوله تعالى: (لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ
بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً) هذا عتاب من الله سبحانه وتعالى للمؤمنين في ظنهم حين قال
أصحاب الافك ما قالوا. قال ابن زيد: ظن المؤمنون أن المؤمن لا يفجر بأمه، قاله
المهدوي. و" لَوْ لا" بمعنى هلا. وقيل: المعنى أنه كان ينبغى أن يقيس
فضلاء المؤمنين والمؤمنات الامر على أنفسهم، فإن كان ذلك يبعد فيهم فذلك في عائشة
وصفوان أبعد. وروى أن هذا النظر السديد وقع من أبى أيوب الأنصاري وامرأته، وذلك
أنه دخل عليها فقالت له: يا أبا أيوب، أسمعت ما قيل! فقال نعم! وذلك الكذب! أكنت
أنت يا أم أيوب تفعلين ذلك! قالت: لا والله! قال: فعائشة والله أفضل منك، قالت أم
أيوب نعم. فهذا الفعل ونحوه هو الذي عاتب الله تعالى عليه «2» المؤمنين إذ لم
يفعله جميعهم. الثامنة- قوله تعالى: (بِأَنْفُسِهِمْ) قال النحاس: معنى" بِأَنْفُسِهِمْ"
بإخوانهم. فأوجب الله على المسلمين إذا سمعوا رجلا يقذف أحدا ويذكره «3» بقبيح لا
يعرفونه به أن ينكروا عليه ويكذبوه. وتواعد من ترك ذلك ومن نقله.
__________
(1). في ك: عدو الله.
(2). في الأصول وتفسير ابن عطية:" عاتب الله تعالى على المؤمنين".
(3). كذا في ك.
قلت:
ولأجل هذا قال العلماء: إن الآية أصل في أن درجة الايمان التي حازها الإنسان،
ومنزلة الصلاح التي حلها المؤمن «1»، ولبسة العفاف التي يستتر بها المسلم لا
يزيلها عنه خبر محتمل وإن شاع، إذا كان أصله فاسدا أو مجهولا.
التاسعة- قوله تعالى: (لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ) هذا توبيخ
لأهل الافك. و" لَوْ لا" بمعنى هلا، أي هلا جاءوا بأربعة شهداء على ما
زعموا من الافتراء. وهذا رد على الحكم الأول، وإحالة على الآية السابقة في آية
القذف. العاشرة- قوله تعالى: (فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ
عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ) أي هم في حكم الله كاذبون. وقد يعجز الرجل عن
إقامة البينة وهو صادق في قذفه، ولكنه في حكم الشرع وظاهر الامر كاذب لا في علم
الله تعالى، وهو سبحانه إنما رتب الحدود على حكمه الذي شرعه في الدنيا لا على
مقتضى علمه الذي تعلق بالإنسان على ما هو عليه، فإنما يبنى على ذلك حكم الآخرة.
قلت: ومما يقوى هذا المعنى ويعضده ما خرجه البخاري عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه
أنه قال: أيها الناس إن الوحى قد انقطع وإنما نأخذكم ألان بما ظهر لنا من أعمالكم،
فمن أظهر لنا خيرا أمناه وقربناه، وليس لنا من سريرته شي الله يحاسبه في سريرته،
ومن أظهر لنا سوءا لم نؤمنه ولم نصدقه، وإن قال إن سريرته حسنة. وأجمع العلماء أن
أحكام الدنيا على الظاهر، وأن السرائر إلى الله عز وجل. الحادية عشرة- قوله تعالى:
(وَلَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) «2»" فَضْلُ" رفع
بالابتداء عند سيبويه، والخبر محذوف لا تظهره العرب. وحذف جواب" لَوْ
لا" لأنه قد ذكر مثله بعد، قال الله عز وجل" وَلَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ
عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ"" لَمَسَّكُمْ" أي بسبب ما قلتم في عائشة
عذاب عظيم في الدنيا والآخرة. وهذا عتاب من الله تعالى بليغ، ولكنه برحمته ستر
عليكم في الدنيا ويرحم في الآخرة من أتاه تائبا والإفاضة: الأخذ في الحديث، وهو
الذي وقع عليه العتاب، يقال: أفاض القوم في الحديث أي أخذوا فيه.
__________
(1). في ك: المر .. [.....]
(2). يريد آية 10 وهى قوله تعالى:" وهي قوله تعالى: (وَلَوْ لا فَضْلُ
اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ".
الثانية
عشرة- قوله تعالى: (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ) قراءة محمد بن السميقع
بضم التاء وسكون اللام وضم القاف، من الإلقاء، وهذه قراءة بينة. وقرا أبى وابن
مسعود:" إذ تتلقونه" من التلقي، بتاءين. وقرا جمهور السبعة: بحرف التاء
الواحدة وإظهار الذال دون إدغام، وهذا أيضا من التلقي. وقرا أبو عمرو وحمزة
والكسائي: بإدغام الذال في التاء. وقرا ابن كثير: بإظهار الذال وإدغام التاء في
التاء، وهذه قراءة قلقة، لأنها تقتضي اجتماع ساكنين، وليست كالادغام في قراءة من
قرأ:" فلا تناجوا. ولا تنابزوا" لان دونه الالف الساكنة، وكونها حرف لين
حسنت هنالك ما لا تحسن مع سكون الذال. وقرا ابن يعمر وعائشة رضى الله عنهما- وهم
أعلم الناس بهذا الامر-" إذ تلقونه" بفتح التاء وكسر اللام وضم القاف،
ومعنى هذه القراءة من قول العرب: ولق الرجل يلق ولقا إذا كذب واستمر عليه، فجاءوا
بالمتعدي شاهدا على غير المتعدي. قال ابن عطية: وعندي أنه أراد إذ تلقون فيه، فحذف
حرف الجر فاتصل الضمير. وقال الخليل وأبو عمرو: أصل الولق الإسراع، يقال: جاءت
الإبل تلق، أي تسرع. قال:
لما رأوا جيشا عليهم قد طرق ... جاءوا بأسراب من الشام ولق
إن الحصين زلق وزملق ... جاءت به عنس «1» من الشام تلق
يقال: رجل زلق وزملق، مثال هدبد، وزمالق وزملق (بتشديد الميم) وهو الذي ينزل قبل
أن يجامع، قال الراجز:
إن الحصين زلق وزملق
والولق أيضا أخف الطعن. وقد ولقه يلقه ولقا. يقال: ولقه بالسيف ولقات، أي ضربات،
فهو مشترك. الثالثة عشرة- قوله تعالى: (وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ) مبالغة
وإلزام وتأكيد. الضمير في (تَحْسَبُونَهُ) عائد على الحديث والخوض فيه والإذاعة
له. و(هَيِّناً) أي سيئا يسيرا لا يلحقكم فيه إثم. (وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ) في
الوزر (عَظِيمٌ). وهذا مثل قوله عليه السلام في حديث القبرين: (إنهما ليعذبان وما
يعذبان في كبير) أي بالنسبة إليكم.
__________
(1). العنس: الناقة القوية.
الرابعة
عشرة- قوله تعالى: (وَلَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ
نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ. يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ
تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. وَيُبَيِّنُ اللَّهُ
لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) عتاب لجميع المؤمنين أي كان ينبغي
عليكم أن تنكروه ولا يتعاطاه بعضكم من بعض على جهة الحكاية والنقل، وأن تنزهوا
الله تعالى عن أن يقع هذا من زوج نبيه عليه الصلاة والسلام. وأن تحكموا على هذه
المقالة بأنها بهتان، وحقيقة البهتان أن يقال في الإنسان ما ليس فيه، والغيبة أن
يقال في الإنسان ما فيه. وهذا المعنى قد جاء في صحيح الحديث عن النبي صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثم وعظهم تعالى في العودة إلى مثل هذه الحالة.
و" أَنْ" مفعول من أجله، بتقدير: كراهية أن، ونحوه. الخامسة عشرة- قوله
تعالى: (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) توقيف وتوكيد، كما تقول: ينبغي لك أن تفعل كذا
وكذا إن كنت رجلا. السادسة عشرة- قوله تعالى:" (يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ
تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً" يعنى في عائشة، لان مثله لا يكون إلا نظير
القول في المقول عنه بعينه، أو فيمن كان في مرتبته من أزواج النبي صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لما في ذلك من أذائه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ في عرضه واهلة، وذلك كفر من فاعله. السابعة عشرة- قال هشام بن عمار سمعت
مالكا يقول: من سب أبا بكر وعمر أدب، ومن سب عائشة قتل، لان الله تعالى
يقول:" يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ"، فمن سب عائشة فقد خالف القرآن، ومن خالف القرآن قتل. قال ابن
العربي:" قال أصحاب الشافعي من سب عائشة رضى الله عنها أدب كما في سائر
المؤمنين، وليس قوله:" إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ" في عائشة [لان ذلك
«1»] كفر، وإنما هو كما قال عليه السلام: (لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه). ولو
كان سلب الايمان في سب من سب عائشة حقيقة لكان سلبه في قوله: (لا يزني الزاني حين
يزني وهو مؤمن) حقيقة. قلنا: ليس «2» كما زعمتم، فإن «3»
__________
(1). زيادة عن ابن العربي.
(2). في الأصول" لئن كان كما زعمتم أن أهل" والتصويب عن ابن العربي.
(3). في الأصول وابن العربي:" أن" بدون فاء.
أهل
الافك رموا عائشة المطهرة بالفاحشة فبرأها الله تعالى فكل من سبها بما برأها الله
منه مكذب لله، ومن كذب الله فهو كافر، فهذا طريق قول مالك، وهى سبيل لائحة «1»
لأهل البصائر. ولو «2» أن رجلا سب عائشة بغير ما برأها الله منه لكان جزاؤه الأدب.
الثامنة عشر- قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ)
أي تفشو، يقال: شاع الشيء شيوعا وشيعا وشيعانا وشيوعه، أي ظهر وتفرق. (فِي
الَّذِينَ آمَنُوا) أي في المحصنين والمحصنات. والمراد بهذا اللفظ العام عائشة
وصفوان رضى الله عنهما. والفاحشة: الفعل القبيح المفرط القبح. وقيل: الفاحشة في
هذه الآية القول السيئ. (لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا) أي الحد. وفي
الآخرة عذاب النار، أي للمنافقين، فهو مخصوص. وقد بينا أن الحد للمؤمنين كفارة.
وقال الطبري: معناه إن مات مصرا غير تائب. التاسعة عشرة- قوله تعالى: (وَاللَّهُ
يَعْلَمُ) أي يعلم مقدار عظم هذا الذنب والمجازاة عليه، ويعلم كل شي. (وَأَنْتُمْ
لا تَعْلَمُونَ) روى من حديث أبى الدرداء أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قال: (أيما رجل شد عضد امرئ من الناس في خصومة لا علم له بها فهو في سخط
الله حتى ينزع عنها. وأيما رجل قال بشفاعته دون حد من حدود الله أن يقام فقد عاند
الله حقا وأقدم على سخطه وعليه لعنة الله تتابع إلى يوم القيامة. وأيما رجل أشاع
على رجل مسلم كلمة وهو منها برئ يرى أن يشينه بها في الدنيا كان حقا على الله
تعالى أن يرميه بها في النار- ثم تلا مصداقه من كتاب الله تعالى:-" إِنَّ
الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا"
الآية. الموفية عشرين- قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا
خُطُواتِ الشَّيْطانِ) يعنى مسالكه ومذاهبه، المعنى: لا تسلكوا الطريق الذي يدعوكم
إليها الشيطان. وواحد الخطوات خطوة، هو ما بين القدمين. والخطوة (بالفتح) المصدر،
يقال: خطوت خطوة، وجمعها خطوات. وتخطى إلينا فلان، ومنه الحديث أنه رأى رجلا يتخطى
رقاب الناس يوم الجمعة.
__________
(1). في الأصول:" الآية".
(2). في الأصل:" ولو أن رجلا سب عائشة بعين- في ك: ببعض ما برأها الله منه
لكان جزاؤه الكفر". والتصويب عن ابن العربي.
وقرا الجمهور" خُطُواتِ" بضم الطاء. وسكنها عاصم والأعمش. وقرا الجمهور:" ما زَكى " بتخفيف الكاف، أي ما اهتدى ولا أسلم ولا عرف رشدا. وقيل:" ما زَكى " أي ما صلح، يقال: زكا يزكو زكاء، أي صلح. وشددها الحسن وأبو حيوة، أي أن تزكيته لكم وتطهيره وهدايته إنما هي بفضله لا بأعمالكم. وقال الكسائي:" يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ" معترض، وقوله:" ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً" جواب لقوله أولا وثانيا:" وَلَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ". الحادية والعشرون- قوله تعالى: (وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ) الآية. المشهور من الروايات أن هذه الآية نزلت في قصة أبى بكر بن أبى قحافة رضى الله عنه ومسطح بن أثاثة. وذلك أنه كان ابن بنت خالته وكان من المهاجرين البدريين المساكين. وهو مسطح بن أثاثة ابن عباد بن المطلب بن عبد مناف. وقيل: اسمه عوف، ومسطح لقب. وكان أبو بكر رضى الله عنه ينفق عليه لمسكنته وقرابته، فلما وقع أمر الافك وقال فيه مسطح ما قال، حلف أبو بكر ألا ينفق عليه ولا ينفعه بنافعة أبدا، فجاء مسطح فاعتذر وقال: إنما كنت أغشى مجالس حسان فأسمع ولا أقول. فقال له أبو بكر: لقد ضحكت وشاركت فيما قيل، ومر على يمينه، فنزلت الآية. وقال الضحاك وابن عباس: إن جماعة من المؤمنين قطعوا منافعهم عن كل من قال في الافك وقالوا: والله لا نصل من تكلم في شأن عائشة، فنزلت الآية في جميعهم. والأول أصح، غير أن الآية تتناول الامة إلى يوم القيامة بألا يغتاظ ذو فضل وسعة فيحلف ألا ينفع من هذه صفته غابر الدهر. وروى الصحيح أن الله تبارك وتعالى لما أنزل:" إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ" العشر آيات، قال أبو بكر وكان ينفق على مسطح لقرابته وفقره: والله لا أنفق عليه شيئا أبدا بعد الذي قال لعائشة، فأنزل الله تعالى:" وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ" إلى قوله-" أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ". قال عبد الله بن المبارك: هذه أرجى آية في كتاب الله تعالى، فقال أبو بكر رضى الله عنه: والله إنى لاحب أن يغفر الله لي، فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه وقال: لا أنزعها منه أبدا.
الثانية
والعشرون- في هذه الآية دليل على أن القذف وإن كان كبيرا لا يحبط الأعمال، لان
الله تعالى وصف مسطحا بعد قوله بالهجرة والايمان، وكذلك سائر الكبائر، ولا يحبط
الأعمال غير الشرك بالله، قال الله تعالى:" لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ
عَمَلُكَ «1»" [الزمر: 65]. الثالثة والعشرون- من حلف على شي لا يفعله فرأى
فعله أولى منه أتاه وكفر عن يمينه، أو كفر عن يمينه وأتاه، كما تقدم في"
المائدة" «2». وراي الفقهاء أن من حلف ألا يفعل سنة من السنن أو مندوبا وأبد
ذلك أنها جرحة في شهادته، ذكره الباجى في المنتقى. الرابعة والعشرون- قوله تعالى:
(وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ)" وَلا يَأْتَلِ" معناه يحلف، وزنها
يفتعل، من الالية وهى اليمين، ومنه قوله تعالى:" لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ
نِسائِهِمْ" وقد تقدم في" البقرة" «3». وقالت فرقة: معناه يقصر، من
قولك: ألوت في كذا إذا قصرت فيه، ومنه قوله تعالى:" لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا
«4»" [آل عمران: 118]. الخامسة والعشرون- قوله تعالى: (أَلا تُحِبُّونَ أَنْ
يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ) تمثيل وحجة أي كما تحبون عفو الله عن ذنوبكم فكذلك
اغفروا لمن دونكم، وينظر إلى هذا المعنى قوله عليه السلام: (من لا يرحم لا يرحم).
السادسة والعشرون- قال بعض العلماء: هذه أرجى آية في كتاب الله تعالى، من حيث لطف
الله بالقذفة العصاة بهذا اللفظ. وقيل. أرجى آية في كتاب الله عز وجل قوله
تعالى:" وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا
كَبِيراً»
" [الأحزاب: 47]. وقد قال تعالى في آية أخرى:" وَالَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ
رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ «6»" [الشورى: 22]، فشرح الفضل
الكبير في هذه الآية، وبشر به المؤمنين في تلك. ومن آيات الرجاء قوله تعالى:"
قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ «7»" [الزمر: 53].
وقوله تعالى:
__________
(1). راجع ج 15 ص 276.
(2). راجع ج 6 ص 264 فما بعد.
(3). راجع ج 3 ص 103.
(4). راجع ج 4 ص 178.
(5). راجع ج 14 ص 201.
(6). راجع ج 16 ص 20.
(7). راجع ج 15 ص 267. [.....]
إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23)
"
اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ" «1» [الشورى: 19]. وقال بعضهم: أرجى آية في كتاب
الله عز وجل:" وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى «2»" [الضحى: 5]،
وذلك أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يرضى ببقاء أحد من أمته
في النار. السابعة والعشرون- قوله تعالى: (أَنْ يُؤْتُوا) أي ألا يؤتوا،
فحذف" لا"، كقول القائل:
فقلت يمين الله أبرح قاعدا «3»
ذكره الزجاج. وعلى قول أبى عبيدة لا حاجة إلى إضمار" لا". (وليعفو) من
عفا الربع أي درس، فهو محو الذنب كما يعفو أثر الربع.
[سورة النور (24): آية 23]
إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي
الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (23)
فيه مسألتان: الاولى- قوله تعالى: (الْمُحْصَناتِ) تقدم في" النساء"
«4». وأجمع العلماء على أن حكم المحصنين في القذف كحكم المحصنات قياسا واستدلالا،
وقد بيناه أول السورة والحمد لله. واختلف فيمن المراد بهذه الآية، فقال سعيد بن
جبير: هي في رماة عائشة رضوان الله عليها خاصة. وقال قوم: هي في عائشة وسائر أزواج
النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قاله ابن عباس والضحاك وغيرهما. ولا
تنفع التوبة. ومن قذف غيرهن من المحصنات فقد جعل الله له توبة، لأنه قال:"
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ
شُهَداءَ"- إلى قوله-" إِلَّا الَّذِينَ تابُوا 160" فجعل الله
لهؤلاء توبة، ولم يجعل لأولئك توبة، قاله الضحاك. وقيل: هذا الوعيد لمن أصر على
القذف ولم يتب. وقيل: نزلت في عائشة، إلا أنه يراد بها كل من اتصف بهذه الصفة.
وقيل: إنه عام لجميع الناس القذفة من ذكر وأنثى، ويكون التقدير: إن الذين يرمون
الأنفس المحصنات، فدخل في هذا المذكر والمؤنث، واختاره النحاس. وقيل: نزلت في
مشركي مكة، لأنهم يقولون للمرأة إذا هاجرت إنما خرجت لتفجر.
__________
(1). راجع ج 16 ص 16.
(2). راجع ج 20 ص 95.
(3). هذا صدر بيت لامرئ القيس، وتمامه.
ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي
(4). راجع ج 5 ص 12- 20 1. (14)
يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24)
الثانية:
(لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) قال العلماء: إن كان المراد بهذه الآية
المؤمنين من القذفة فالمراد باللعنة الابعاد وضرب الحد واستيحاش المؤمنين منهم
وهجرهم لهم، وزوالهم عن رتبة العدالة والبعد عن الثناء الحسن على ألسنة المؤمنين.
وعلى قول من قال: هي خاصة لعائشة تترتب هذه الشدائد في جانب عبد الله بن أبى
وأشباهه. وعلى قول من قال: نزلت في مشركي مكة فلا كلام، فإنهم مبعدون، ولهم في
الآخرة عذاب عظيم، ومن أسلم فالإسلام يجب ما قبله. وقال أبو جعفر النحاس: من أحسن
ما قيل في تأويل هذه الآية إنه عام لجميع الناس القذفة من ذكر وأنثى، ويكون
التقدير: إن الذين يرمون الأنفس المحصنات، فدخل في هذا المذكر والمؤنث، وكذا في
الذين يرمون، إلا أنه غلب المذكر على المؤنث.
[سورة النور (24): آية 24]
يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما
كانُوا يَعْمَلُونَ (24)
قراءة العامة بالياء، واختاره أبو حاتم. وقرا الأعمش ويحيى وحمزة والكسائي
وخلف:" يشهد" بالياء، واختاره أبو عبيد، لان الجار والمجرور قد حال بين
الاسم والفعل، والمعنى: يوم تشهد ألسنة بعضهم على بعض بما كانوا يعملون من القذف
والبهتان. وقيل: تشهد عليهم ألسنتهم ذلك اليوم بما تكلموا به." وَأَيْدِيهِمْ
وَأَرْجُلُهُمْ" أي وتتكلم الجوارح بما عملوا في الدنيا.
[سورة النور (24): آية 25]
يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ
هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25)
أي حسابهم وجزاؤهم. وقرا مجاهد:" يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق"
برفع" الْحَقُّ" على أنه نعت لله عز وجل. قال أبو عبيد: ولولا كراهة
خلاف الناس لكان الوجه الرفع، ليكون نعتا لله عز وجل، وتكون موافقة لقراءة أبى،
وذلك أن جرير بن حازم قال: رأيت في مصحف أبى" يوفيهم الله الحق دينهم".
قال النحاس: وهذا الكلام من أبى عبيد غير
الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26)
مرضى،
لأنه احتج بما هو مخالف للسواد الأعظم. ولا حجة أيضا فيه لأنه لو صح هذا أنه في
مصحف أبى كذا جاز أن تكون القراءة: يومئذ يوفيهم الله الحق دينهم، يكون"
دينهم" بدلا من الحق. وعلى قراءة" دِينَهُمُ الْحَقَّ" يكون"
الْحَقَّ" نعتا لدينهم، والمعنى حسن، لان الله عز وجل ذكر المسيئين وأعلم أنه
يجازيهم «1» بالحق، كما قال عز وجل:" وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ
«2»" [سبأ: 17]، لان مجازاة الله عز وجل للكافر والمسيء بالحق والعدل،
ومجازاته للمحسن بالإحسان والفضل. (وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ
الْمُبِينُ) اسمان من أسمائه سبحانه. وتعالى. وقد ذكرناهما في غير موضع، وخاصة في
الكتاب الأسنى.
[سورة النور (24): آية 26]
الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ
لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا
يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26)
قال ابن زيد: المعنى الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال، وكذا الخبيثون
للخبيثات، وكذا الطيبات للطيبين والطيبون للطيبات. وقال مجاهد وابن جبير وعطاء
وأكثر المفسرين: المعنى الكلمات الخبيثات من القول للخبيثين من الرجال، وكذا
الخبيثون من الناس للخبيثات من القول، وكذا الكلمات الطيبات من القول للطيبين من
الناس، والطيبون من الناس للطيبات من القول. قال النحاس في كتاب معاني القرآن:
وهذا من أحسن ما قيل في هذه الآية. ودل على صحة هذا القول" أُولئِكَ
مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ" أي عائشة وصفوان مما يقول الخبيثون
والخبيثات. وقيل: إن هذه الآية مبنية على قوله:" الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا
زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً" [النور: 3] الآية، فالخبيثات الزواني، والطيبات
العفائف، وكذا الطيبون والطيبات. واختار هذا القول النحاس أيضا، وهو معنى قول ابن
زيد. (أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ) يعنى به الجنس. وقيل: عائشة وصفوان
فجمع كما قال:" فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ" [النساء: 11] والمراد أخوان
«3»، قاله الفراء.
__________
(1). في ك: مجازيهم.
(2). راجع ج 14 ص 288.
(3). راجع ج 5 ص 72.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27)
و"
مُبَرَّؤُنَ" يعنى منزهين «1» مما رموا به. قال بعض أهل التحقيق: إن يوسف
عليه السلام لما رمى بالفاحشة برأه الله على لسان صبي في المهد، وإن مريم لما رميت
بالفاحشة برأها الله على لسان ابنها عيسى صلوات الله عليه، وإن عائشة لما رميت
بالفاحشة برأها الله تعالى بالقرآن، فما رضى لها ببراءة صبي ولا نبى حتى برأها
الله بكلامه من القذف والبهتان. وروي عن على بن زيد بن جدعان عن جدته عن عائشة رضى
الله عنها [أنها «2»] قالت: لقد أعطيت تسعا ما أعطيتهن امرأة: لقد نزل جبريل عليه
السلام بصورتي في راحته حين أمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن
يتزوجني، ولقد تزوجني بكرا وما تزوج بكرا غيري، ولقد توفي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وإن رأسه لفي حجري، ولقد قبر في بيتي، ولقد حفت الملائكة بيتي، وإن كان
الوحى لينزل عليه وهو في أهله فينصرفون «3» عنه، وأن كان لينزل عليه وأنا معه في
لحافه فما يبيننى عن جسده، وإني لابنة خليفته وصديقه، ولقد نزل عذري من السماء،
ولقد خلقت طيبة وعند طيب «4»، ولقد وعدت مغفرة ورزقا كريما، تعنى قوله
تعالى:" لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ" وهو الجنة.
[سورة النور (24): آية 27]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى
تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ
تَذَكَّرُونَ (27)
فيه سبع عشرة مسألة: الاولى- قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَدْخُلُوا بُيُوتاً) لما خصص الله سبحانه ابن آدم الذي كرمه وفضله بالمنازل
وسترهم فيها عن الأبصار، وملكهم الاستمتاع بها على الانفراد، وحجر على الخلق أن
يطلعوا على ما فيها من خارج أو يلجوها من غير إذن أربابها، أدبهم بما يرجع إلى
الستر عليهم لئلا يطلع أحد منهم على عورة. وفي صحيح مسلم عن أبى هريرة عن النبي
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (من اطلع في بيت قوم من غير إذنهم حل لهم
أن يفقئوا عينه). وقد اختلف في تأويله، فقال بعض العلماء: ليس هذا على ظاهره،
__________
(1). في ك: يعنى منزهون.
(2). من ط وك.
(3). فيتفرقون عليه.
(4). في ك: لقد خلقت من طيبة عند طيب.
فإن
فقأ فعليه الضمان، والخبر منسوخ، وكان قبل نزول قوله تعالى:" وَإِنْ
عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا «1»" [النحل: 126] ويحتمل أن يكون خرج على وجه الوعيد
لا على وجه الحتم، والخبر إذا كان مخالفا لكتاب الله تعالى لا يجوز العمل به. وقد
كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتكلم بالكلام في الظاهر وهو يريد
شيئا آخر، كما جاء في الخبر أن عباس بن مرداس لما مدحه قال لبلال: (قم فاقطع
لسانه) وإنما أراد بذلك أن يدفع إليه شيئا، ولم يرد به القطع في الحقيقة. وكذلك
هذا يحتمل أن يكون ذكر فقء العين والمراد أن يعمل به عمل حتى لا ينظر بعد ذلك في
بيت غيره. وقال بعضهم: لا ضمان عليه ولا قصاص، وهو الصحيح إن شاء الله تعالى،
لحديث أنس، على ما يأتي. الثانية- سبب نزول هذه الآية ما رواه الطبري وغيره عن عدي
بن ثابت أن امرأة من الأنصار قالت: يا رسول الله، إنى أكون في بيتي على حال لا أحب
أن يراني عليها أحد، لا والد ولا ولد فيأتي الأب فيدخل على وإنه لا يزال يدخل على
رجل من أهلي وأنا على تلك الحال، فكيف أصنع؟ فنزلت الآية. فقال أبو بكر رضى الله
عنه: يا رسول الله، أفرأيت الخانات والمساكن في طرق الشام ليس فيها ساكن، فأنزل
الله تعالى:" لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ
مَسْكُونَةٍ" [النور: 29]. الثالثة- مد الله سبحانه وتعالى التحريم في دخول
بيت ليس هو بيتك إلى غاية هي الاستئناس، وهو الاستئذان. قال ابن وهب قال مالك:
الاستئناس فيما نرى والله أعلم الاستئذان، وكذا في قراءة أبى وابن عباس وسعيد بن
جبير:" حتى تستأذنوا وتسلموا على أهلها". وقيل: إن معنى:"
تَسْتَأْنِسُوا" تستعلموا، أي تستعلموا من في البيت. قال مجاهد: بالتنحنح أو
بأي وجه أمكن، ويتأنى قدر ما يعلم أنه قد شعر به، ويدخل إثر ذلك. وقال معناه
الطبري، ومنه قوله تعالى:" فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً «2»"
[النساء: 6] أي علمتم. وقال الشاعر:
آنست نبأة وأفزعها القن ... - اص عصرا وقد دنا الإمساء
__________
(1). راجع ج 10 ص 200 فما بعد.
(2). راجع ج 5 ص 26.
قلت:
وفي سنن ابن ماجة: حدثنا أبو بكر بن أبى شيبة حدثنا عبد الرحيم بن سليمان عن واصل
ابن السائب عن أبى سورة عن أبى أيوب الأنصاري قال قلنا: يا رسول الله، هذا السلام،
فما الاستئناس «1»؟ قال: (يتكلم الرجل بتسبيحه وتكبيرة وتحميدة ويتنحنح ويؤذن أهل
البيت). قلت: وهذا نص في أن الاستئناس غير الاستئذان، كما قال مجاهد ومن وافقه.
الرابعة- وروي عن ابن عباس وبعض الناس يقول عن سعيد بن جبير:" حَتَّى
تَسْتَأْنِسُوا" خطأ أو وهم من الكاتب، إنما هو:" حتى تستأذنوا".
وهذا غير صحيح عن ابن عباس وغيره، فإن مصاحف الإسلام كلها قد ثبت فيها"
حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا"، وصح الإجماع فيها من لدن مدة عثمان، فهي التي لا
يجوز خلافها. وإطلاق الخطأ والوهم على الكاتب في لفظ أجمع الصحابة عليه قول لا يصح
عن ابن عباس، وقد قال عز وجل:" لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ
وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ «2» حَمِيدٍ" [فصلت: 42]، وقال
تعالى:" إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ
«3»" [الحجر: 9]. وقد روي عن ابن عباس أن في الكلام تقديما وتأخيرا، والمعنى:
حتى تسلموا على أهلها وتستأنسوا حكاه أبو حاتم. قال ابن عطية. ومما ينفى هذا القول
عن ابن عباس وغيره أن" تَسْتَأْنِسُوا" متمكنة في المعنى، بينة الوجه في
كلام العرب. وقد قال عمر للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أستأنس يا رسول
الله، وعمر واقف على باب الغرفة، الحديث المشهور. وذلك يقتضى أنه طلب الانس به
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكيف يخطئ ابن عباس أصحاب الرسول في مثل هذا.
قلت: قد ذكرنا من حديث أبى أيوب أن الاستئناس إنما يكون قبل السلام، وتكون الآية
على بابها لا تقديم فيها ولا تأخير، وأنه إذا دخل سلم. والله أعلم. الخامسة- السنة
في الاستئذان ثلاث مرات لا يزاد عليها. قال ابن وهب قال مالك: الاستئذان ثلاث، لا
أحب أن يزيد أحد عليها، إلا من علم أنه لم يسمع، فلا أرى بأسا أن يزيد إذا استيقن
أنه لم يسمع. وصورة الاستئذان أن يقول الرجل: السلام عليكم أأدخل، فإن أذن له دخل،
وإن أمر بالرجوع انصرف، وإن سكت عنه استأذن
__________
(1). كذا في ط وك. وهو الصواب. وج وا: فما الاستئذان. [.....]
(2). راجع ج 15 ص 366 فما بعد.
(3). راجع ج 10 ص 5.
ثلاثا، ثم ينصرف من بعد الثلاث. وإنما قلنا: إن السنة الاستئذان ثلاث مرات لا يزاد عليها لحديث أبى موسى الأشعري، الذي استعمله مع عمر بن الخطاب وشهد به لابي موسى أبو سعيد الخدري، ثم أبى بن كعب. وهو حديث مشهور أخرجه الصحيح، وهو نص صريح، فإن فيه: فقال- يعنى عمر- ما منعك أن تأتينا؟ فقلت: أتيت فسلمت على بابك ثلاث مرات فلم ترد على فرجعت، وقد قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع). وأما ما ذكرناه من صورة الاستئذان فما رواه أبو داود عن ربعي قال: حدثنا رجل من بنى عامر استأذن على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو في بيت، فقال: ألج؟ فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لخادمه: (أخرج إلى هذا فعلمه الاستئذان- فقال له- قل السلام عليكم أأدخل) فسمعه الرجل فقال: السلام عليكم أأدخل؟ فأذن له النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فدخل. وذكره الطبري وقال: فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لامة له يقال لها:" روضة": (قولي لهذا يقول السلام عليكم أدخل؟) الحديث. وروي أن ابن عمر آذته الرمضاء يوما فأتى فسطاطا لامرأة من قريش فقال: السلام عليكم أأدخل؟ فقالت المرأة: أدخل بسلام، فأعاد فأعادت، فقال لها: قولي أدخل. فقالت ذلك فدخل، فتوقف لما قالت: بسلام، لاحتمال اللفظ أن تريد بسلامك لا بشخصك. السادسة- قال علماؤنا رحمة الله عليهم: إنما خص الاستئذان بثلاث لان الغالب من الكلام إذا كرر ثلاثا سمع وفهم؟، ولذلك كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثا حتى يفهم عنه، وإذا سلم على قوم سلم عليهم ثلاثا. وإذا كان الغالب هذا، فإذا لم يؤذن له بعد ثلاث ظهر أن رب المنزل لا يريد الاذن، أو لعله يمنعه من الجواب عنه عذر لا يمكنه قطعه، فينبغي للمستأذن أن ينصرف، لان الزيادة على ذلك قد تقلق رب المنزل، وربما يضره الإلحاح حتى ينقطع عما كان مشغولا به، كما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لابي أيوب حين استأذن عليه فخرج مستعجلا فقال: (لعلنا أعجلناك ...) الحديث. وروى عقيل عن ابن شهاب قال: أما سنة التسليمات الثلاث فإن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أتى سعد
ابن
عبادة فقال: (السلام عليكم) فلم يردوا، ثم قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: (السلام عليكم) فلم يردوا، فانصرف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فلما فقد سعد تسليمه عرف أنه قد انصرف، فخرج سعد في أثره حتى أدركه،
فقال: وعليكم السلام يا رسول الله، إنما أردنا أن نستكثر من تسليمك، وقد والله
سمعنا، فانصرف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع سعد حتى دخل بيته.
قال ابن شهاب: فإنما أخذ التسليم ثلاثا من قبل ذلك، ورواه الوليد ابن مسلم عن
الأوزاعي قال: سمعت يحيى بن أبى كثير يقول حدثني محمد بن عبد الرحمن ابن أسعد بن
زرارة [عن قيس «1» بن سعد] قال: زارنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ في منزلنا «2» فقال: (السلام عليكم ورحمة الله) قال فرد سعد ردا خفيا
«3»، قال قيس: فقلت ألا تأذن لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فقال:
ذره «4» يكثر علينا من السلام «5» ... الحديث، أخرجه أبو داود وليس فيه" قال
ابن شهاب فإنما أخذ التسليم ثلاثا من قبل ذلك". قال أبو داود: ورواه عمر ابن
عبد الواحد وابن سماعة عن الأوزاعي مرسلا لم يذكرا قيس بن سعد. السابعة- روي عن
ابن عباس رضى الله عنهما أن الاستئذان ترك العمل به الناس. قال علماؤنا رحمة الله عليهم:
وذلك لاتخاذ الناس الأبواب وقرعها، والله أعلم. روى أبو داود عن عبد الله بن بسر
قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا أتى باب قوم لم يستقبل
الباب من تلقاء وجهه ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر فيقول: (السلام عليكم السلام
عليكم) وذلك أن الدور لم يكن عليها يومئذ ستور. الثامنة- فإن كان الباب مردودا فله
أن يقف حيث شاء منه ويستأذن، وإن شاء دق الباب، لما رواه أبو موسى الأشعري أن رسول
الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان في حائط بالمدينة على قف البئر «6»
فمد رجليه في البئر فدق الباب أبو بكر فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: (ائذن له وبشره بالجنة). هكذا رواه عبد الرحمن بن أبى الزناد وتابعه
صالح ابن كيسان ويونس بن يزيد، فرووه جميعا عن أبى
الزناد عن أبى سلمة عن عبد الرحمن بن نافع
__________
(1). زيادة عن سنن أبى داود يقتضيها السياق.
(2). في ى: منزل لنا.
(3). في ج: خفيفا.
(4). في ج: دعه.
(5). في ك: التسليم.
(6). قف البئر: هو الدكة التي تجعل حولها. واصل القف: ما غلظ من الأرض وارتفع.
عن أبى موسى". وخالفهم محمد بن عمرو الليثي فرواه عن أبى الزناد عن أبى سلمة عن نافع ابن عبد الحارث عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كذلك، وإسناده الأول أصح، والله أعلم. التاسعة: وصفه الدق أن يكون خفيفا بحيث يسمع، ولا يعنف في ذلك، فقد روى أنس بن مالك رضى الله عنه قال: كانت أبواب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تقرع بالأظافير، ذكره أبو بكر أحمد بن على بن ثابت الخطيب في جامعه. العاشرة- روى الصحيحان وغيرهما عن جابر بن عبد الله رضى الله عنهما قال: استأذنت على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: (من هذا)؟ فقلت أنا، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أنا أنا)! كأنه كره ذلك. قال علماؤنا: إنما كره النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك لان قوله أنا لا يحصل بها تعريف، وإنما الحكم في ذلك أن يذكر اسمه كما فعل عمر بن الخطاب رضى الله عنه وأبو موسى، لان في ذكر الاسم إسقاط كلفة السؤال والجواب. ثبت عن عمر بن الخطاب أنه أتى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو في مشربة له فقال: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليكم أيدخل عمر؟ وفي صحيح مسلم أن أبا موسى جاء إلى عمر ابن الخطاب فقال: السلام عليكم، هذا أبو موسى، السلام عليكم، هذا الأشعري ... الحديث. الحادية عشرة- ذكر الخطيب في جامعه عن على بن عاصم الواسطي قال: قدمت البصرة فأتيت منزل شعبة فدققت عليه الباب فقال: من هذا؟ قلت أنا، فقال: يا هذا! ما لي صديق يقال له أنا، ثم خرج إلى فقال: حدثني محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال: أتيت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حاجة لي فطرقت عليه الباب فقال: (من هذا)؟ فقلت أنا، فقال: (أنا أنا) كأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كره قولي هذا، أو قوله هذا. وذكر عن عمر بن شبة حدثنا محمد بن سلام عن أبيه قال: دققت على عمرو بن عبيد الباب فقال لي: من هذا؟ فقلت أنا، فقال: لا يعلم الغيب إلا الله. قال الخطيب: سمعت على ابن المحسن القاضي يحكى عن بعض الشيوخ أنه كان إذا دق بابه فقال من ذا؟ فقال الذي على الباب أنا، يقول الشيخ: أنا هم دق.
الثانية
عشرة- ثم لكل قوم في الاستئذان عرفهم في العبارة «1»، كما رواه أبو بكر الخطيب
مسندا عن أبى عبد الملك مولى أم مسكين بنت عاصم بن عمر بن الخطاب قال: أرسلتني
مولاتي إلى أبى هريرة فجاء معى، فلما قام بالباب قال: أندر؟ قالت اندرون. وترجم
عليه (باب الاستئذان بالفارسية). وذكر عن أحمد بن صالح قال: كان الدراوردي من أهل
أصبهان نزل المدينة، فكان يقول للرجل إذا أراد أن يدخل: اندرون، فلقبه أهل المدينة
الدراوردي «2». الثالثة عشرة- روى أبو داود عن كلدة بن حنبل أن صفوان بن أمية بعثه
إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بلبن وجداية وضغا بيس «3» والنبي
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأعلى مكة، فدخلت ولم أسلم فقال: (ارجع فقل
السلام عليكم) وذلك بعد ما أسلم صفوان بن أمية. وروى أبو الزبير عن جابر أن النبي
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (من لم يبدأ بالسلام فلا تأذنوا له). وذكر
ابن جريج أخبرني عطاء قال: سمعت أبا هريرة يقول: إذا قال الرجل أدخل؟ ولم يسلم فقل
لا حتى تأتى بالمفتاح، فقلت السلام عليكم؟ قال نعم. وروي أن حذيفة جاءه رجل فنظر
إلى ما في البيت فقال: السلام عليكم أأدخل؟ فقال حذيفة: أما بعينك فقد دخلت! وأما
باستك فلم تدخل. الرابعة عشرة- ومما يدخل في هذا الباب ما رواه أبو داود عن أبى
هريرة أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (رسول الرجل إلى الرجل
إذنه)، أي إذا أرسل إليه فقد أذن له في الدخول، يبينه قوله عليه السلام: (إذا دعى
أحدكم [إلى طعام «4»] فجاء مع الرسول فإن ذلك له إذن). أخرجه أبو داود أيضا عن أبى
هريرة. الخامسة عشرة- فإن وقعت العين على العين فالسلام قد تعين، ولا تعد رؤيته
إذنا لك في دخولك عليه، فإذا قضيت حق السلام لأنك الوارد عليه تقول: أدخل؟ فإن أذن
لك وإلا رجعت.
__________
(1). في ك: في العادة.
(2). هو عبد العزيز بن محمد بن عبيد بن أبى عبيد. (راجع ترجمته في كتاب تهذيب
التهذيب).
(3). الجداية: الذكر والأنثى من أولاد الظباء إذا بلغ ستة أشهر أو سبعة، بمنزلة
الجدى من المعز. والضغابيس القثاء، واحدها ضغبوس. وقيل: هي نبت ينبت في أصول
الثمام، يسلق بالخل والزيت ويؤكل.
(4). زيادة عن سنن أبى داود.
فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28)
السادسة
عشرة- هذه الأحكام كلها إنما هي في بيت ليس لك، فأما بيتك الذي تسكنه فإن كان فيه
أهلك فلا إذن عليها، إلا أنك تسلم إذا دخلت. قال قتادة: إذا دخلت بيتك فسلم على
أهلك، فهم أحق من سلمت عليهم. فإن كان فيه معك أمك أو أختك فقالوا: تنحنح واضرب
برجلك حتى ينتبها لدخولك، لان الأهل لا حشمة بينك وبينها. وأما الام والأخت فقد
يكونا على حالة لا تحب أن تراهما فيها. قال ابن القاسم قال مالك: ويستأذن الرجل
على أمه وأخته إذا أراد أن يدخل عليهما. وقد روى عطاء بن يسار أن رجلا قال للنبي
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أستأذن على أمي؟ قال (نعم) قال: إنى أخدمها؟
قال: (استأذن عليها) فعاوده ثلاثا، قال (أتحب أن تراها عريانة)؟ قال لا، قال:
(فاستأذن عليها) ذكره الطبري. السابعة عشرة- فإن دخل بيت نفسه وليس فيه أحد، فقال
علماؤنا: يقول السلام علينا من ربنا التحيات الطيبات المباركات، لله السلام. رواه
ابن وهب عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وسنده ضعيف. وقال قتادة: إذا
دخلت بيتا ليس فيه أحد فقل السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فإنه يؤمر بذلك.
قال: وذكر لنا أن الملائكة ترد عليهم. قال ابن العربي: والصحيح ترك السلام
والاستئذان، والله أعلم. قلت: قول قتادة حسن.
[سورة النور (24): آية 28]
فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ
وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَاللَّهُ بِما
تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28)
فيه أربع مسائل: الاولى- قوله تعالى:" فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها
أَحَداً" الضمير في" تَجِدُوا فِيها" للبيوت التي هي بيوت الغير.
وحكى الطبري عن مجاهد أنه قال: معنى قوله:" فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها
أَحَداً
" أي لم يكن لكم فيها متاع. وضعف الطبري هذا التأويل، وكذلك هم في غاية
الضعف، وكان مجاهدا رأى أن البيوت غير المسكونة إنما تدخل دون إذن إذا كان للداخل
فيها متاع.
وراي
لفظة" المتاع" متاع البيت، الذي هو البسط والثياب، وهذا كله ضعيف.
والصحيح أن هذه الآية مرتبطة بما قبلها والأحاديث، التقدير: يا أيها الذين آمنوا
لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا، فإن أذن لكم فادخلوا وإلا
فارجعوا، كما فعل عليه السلام مع سعد، وأبو موسى مع عمر رضى الله عنهما. فإن لم تجدوا
فيها أحدا يأذن لكم فلا تدخلوها حتى تجدوا إذنا. وأسند الطبري عن قتادة قال: قال
رجل من المهاجرين: لقد طلبت عمري [كله «1»] هذه الآية فما أدركتها أن أستأذن على
بعض إخواني فيقول لي ارجع فارجع وأنا مغتبط، لقوله تعالى:" هُوَ أَزْكى
لَكُمْ". الثانية- سواء كان الباب مغلقا أو مفتوحا، لان الشرع قد أغلقه
بالتحريم للدخول حتى يفتحه الاذن من ربه، بل يجب عليه أن يأتي الباب ويحاول الاذن
على صفة لا يطلع منه على البيت لا في إقباله ولا في انقلابه. فقد روى علماؤنا عن
عمر بن الخطاب أنه قال: (من ملا عينيه من قاعة بيت فقد فسق.) وروي الصحيح عن سهل
بن سعد أن رجلا اطلع في جحر في باب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
ومع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مدرى «2» يرجل به رأسه، فقال له
رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لو أعلم أنك تنظر لطعنت به في عينك
إنما جعل الله الاذن من أجل البصر). وروي عن أنس أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (لو أن رجلا اطلع عليك بغير إذن فحذفته «3» بحصاة ففقأت
عينه ما كان عليك من جناح). الثالثة- إذا ثبت أن الاذن شرط في دخوله المنزل فإنه
يجوز»
من الصغير والكبير. وقد كان أنس بن مالك دون البلوغ يستأذن على رسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكذلك الصحابة مع أبنائهم وغلمانهم رضى الله عنهم.
وسيأتي لهذا مزيد بيان في آخر السورة إن شاء الله تعالى. الرابعة- قوله تعالى:
(وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) توعد لأهل التجسس على البيوت وطلب الدخول
على غفلة للمعاصي والنظر إلى ما لا يحل ولا يجوز، ولغيرهم ممن يقع في محظور.
__________
(1). من ط وك.
(2). المدرى والمدراة: شي يعمل من حديد أو خشب على شكل سن من أسنان. المشط وأطول
منه يسرح به الشعر. [.....]
(3). الخذف: رميك حصاة أو نواة تأخذها بين سبابتيك وترمى بها.
(4). أولى أن يقال: يجب.
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (29)
[سورة
النور (24): آية 29]
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها
مَتاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (29)
فيه مسألتان: الاولى- روي أن بعض الناس لما نزلت آية الاستئذان تعمق في الامر «1»،
فكان لا يأتي موضعا خربا ولا مسكونا إلا سلم واستأذن، فنزلت هذه الآية، أباح الله
تعالى فيها رفع الاستئذان في كل بيت لا يسكنه أحد، لان العلة في الاستئذان إنما هي
لأجل خوف الكشفة على الحرمات، فإذا زالت العلة زال الحكم. الثانية- اختلف العلماء
في المراد بهذه البيوت، فقال محمد بن الحنفية وقتادة ومجاهد: هي الفنادق التي في
طرق السابلة. قال مجاهد: لا يسكنها أحد بل هي موقوفة ليأوي إليها كل ابن سبيل،
وفيها متاع لهم، أي استمتاع بمنفعتها. وعن محمد بن الحنفية أيضا أن المراد بها دور
مكة، ويبينه قول مالك. وهذا على القول بأنها غير متملكة، وأن الناس شركاء فيها وأن
مكة أخذت عنوة. وقال ابن زيد والشعبي: هي حوانيت القيساريات. قال الشعبي: لأنهم
جاءوا ببيوعهم فجعلوها فيها، وقالوا للناس هلم. وقال عطاء: المراد بها الخرب التي
يدخلها الناس للبول والغائط، ففي هذا أيضا متاع. وقال جابر بن زيد: ليس يعنى
بالمتاع الجهاز، ولكن ما سواه من الحاجة، أما منزل ينزله قوم من ليل أو نهار، أو
خربة يدخلها لقضاء حاجة، أو دار ينظر إليها فهذا متاع وكل منافع الدنيا متاع. قال
أبو جعفر النحاس: وهذا شرح حسن من قول إمام من أئمة المسلمين، وهو موافق للغة.
والمتاع في كلام العرب: المنفعة، ومنه أمتع الله بك. ومنه" فَمَتِّعُوهُنَّ
«2»" [الأحزاب: 49]. قلت: واختاره أيضا القاضي أبو بكر بن العربي وقال: أما
من فسر المتاع بأنه جميع الانتفاع فقد طبق المفصل وجاء بالفيصل، وبين أن الداخل
فيها إنما هو لما له من الانتفاع فالطالب يدخل في الخانكات وهى المدارس لطلب
العلم، والساكن يدخل الخانات
__________
(1). في ك: الاذن.
(2). راجع ج 14 ص 202.
قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30)
وهى
الفناتق، أي الفنادق، والزبون يدخل الدكان للابتياع، والحاقن يدخل الخلاء للحاجة،
وكل يؤتى على وجهه من بابه. وأما قول ابن زيد والشعبي فقول «1»! وذلك أن بيوت
القيساريات محظورة بأموال الناس، غير مباحة لكل من أراد دخولها بإجماع، ولا يدخلها
إلا من أذن له ربها، بل أربابها موكلون بدفع الناس.
[سورة النور (24): آية 30]
قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ
أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ (30)
فيه سبع مسائل: الاولى- قوله تعالى: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ
أَبْصارِهِمْ) 30 وصل تعالى بذكر الستر ما يتعلق به من أمر النظر، يقال: غض بصره
يغضه غضا، قال الشاعر:
فغض الطرف إنك من نمير ... فلا كعبا بلغت ولا كلابا
وقال عنترة.
وأغض طرفي ما بدت لي جارتي ... حتى يواري جارتي مأواها
ولم يذكر الله تعالى ما يغض البصر عنه ويحفظ الفرج، غير أن ذلك معلوم بالعادة، وأن
المراد منه المحرم دون المحلل. وفي البخاري:" وقال سعيد بن أبى الحسن للحسن
إن نساء العجم يكشفن صدورهن ورءوسهن؟ قال: اصرف بصرك، يقول الله تعالى:" قُلْ
لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ 30"
وقال قتادة: عما لا يحل لهم،" وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ
أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ" [النور: 31] خائنة الأعين [من «2»]
النظر إلى ما نهى عنه. الثانية- قوله تعالى: (مِنْ أَبْصارِهِمْ) 30"
مِنْ" زائدة، كقوله:" فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ
«3»" [الحاقة: 47]. وقيل:" مِنْ" للتبعيض، لان من النظر ما يباح.
وقيل: الغض النقصان، يقال: غض فلان من فلان أي وضع منه، فالبصر إذا لم يمكن من
عمله فهو موضوع منه ومنقوص. ف"- مِنْ" [من «4»] صلة الغض، وليست للتبعيض
ولا للزيادة.
__________
(1). في ط: فتقول.
(2). زيادة عن صحيح البخاري.
(3). راجع ج 18 ص 276.
(4). من ب وك.
البصر
هو الباب الأكبر إلى القلب، وأعمر طرق الحواس إليه، وبحسب ذلك كثر السقوط من جهته.
ووجب التحذير منه، وغضه واجب عن جميع المحرمات، وكل ما يخشى الفتنة من أجله، وقد
قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إياكم والجلوس على الطرقات) فقالوا: يا
رسول الله، ما لنا من مجالسنا بد نتحدث فيها. فقال: (فإذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا
الطريق حقه) قالوا: وما حق الطريق يا رسول الله؟ قال: (غض البصر وكف الأذى ورد
السلام والامر بالمعروف والنهى عن المنكر). رواه أبو سعيد الخدري، خرجه البخاري
ومسلم. وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعلى: (لا تتبع النظرة النظرة
فإنما لك الاولى وليست لك الثانية). وروى الأوزاعي قال: حدثني هارون بن رئاب أن
غزوان وأبا موسى الأشعري كانا في بعض مغازيهم، فكشفت جارية فنظر إليها غزوان، فرفع
يده فلطم عينه حتى نفرت «1»، فقال: إنك للحاظة إلى ما يضرك ولا ينفعك، فلقى أبا
موسى فسأله فقال: ظلمت عينك، فاستغفر الله وتب، فإن لها أول نظرة وعليها ما كان
بعد ذلك. قال الأوزاعي: وكان غزوان ملك نفسه فلم يضحك حتى مات رضى الله عنه. وفي
صحيح مسلم عن جرير بن عبد الله قال: سألت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عن نظرة الفجاءة، فأمرني أن أصرف بصري. وهذا يقوي قول من يقول: إن"
مِنْ" للتبعيض، لان النظرة الاولى لا تملك فلا تدخل تحت خطاب تكليف، إذ
وقوعها لا يتأتى أن يكون مقصودا، فلا تكون مكتسبة فلا يكون مكلفا بها، فوجب
التبعيض لذلك، ولم يقل ذلك في الفرج، لأنها تملك. ولقد كره الشعبي أن يديم الرجل
النظر إلى ابنته أو أمه أو أخته، وزمانه خير من زماننا هذا! وحرام على الرجل أن
ينظر إلى ذات محرمة «2» نظر شهوة يرددها. الرابعة قوله تعالى: (وَيَحْفَظُوا
فُرُوجَهُمْ) 30 أي يستروها عن أن يراها من لا يحل. وقيل:" وَيَحْفَظُوا
فُرُوجَهُمْ 30" أي عن الزنى، وعلى هذا القول لو قال «3»:" من
فروجهم" لجاز. والصحيح أن الجميع مراد واللفظ عام. وروى بهز بن حكيم بن
معاوية القشيري عن أبيه عن جده قال: قلت يا رسول الله، عوراتنا ما نأتى منها وما
نذر؟ قال: (احفظ
__________
(1). نفرت العين وغيرها من الأعضاء تنفر نفورا: هاجت وورمت.
(2). في ك: محرم.
(3). أي في غير القرآن.
عورتك
إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك (. قال: الرجل يكون مع الرجل؟ قال:) إن استطعت ألا
يراها «1» فافعل (. قلت: فالرجل يكون خاليا؟ فقال:) الله أحق أن يستحيا منه من
الناس (. وقد ذكرت عائشة رضى الله عنها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وحالها معه فقالت: ما رأيت ذلك منه، ولا رأى ذلك منى. الخامسة- بهذه
الآية حرم العلماء نصا دخول الحمام بغير مئزر. وقد روي عن ابن عمر أنه قال: أطيب
ما أنفق الرجل درهم يعطيه للحمام في خلوة. وصح عن ابن عباس أنه دخل الحمام وهو
محرم بالجحفة. فدخوله جائز للرجال بالمآزر، وكذلك النساء للضرورة كغسلهن من الحيض
أو النفاس أو مرض يلحقهن، والاولى بهن والأفضل لهن غسلهن إن أمكن ذلك في بيوتهن،
فقد روى أحمد بن منيع حدثنا الحسن بن موسى حدثنا ابن لهيعة حدثنا زبان عن سهل بن
معاذ عن أبيه عن أم الدرداء أنه سمعها تقول: لقيني رسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد خرجت من الحمام فقال: (من أين يا أم الدرداء)؟ فقالت: من
الحمام، فقال: (والذي نفسي بيده ما من امرأة تضع ثيابها في غير بيت أحد من أمهاتها
إلا وهى هاتكة كل ستر بينها وبين الرحمن عز وجل (. وخرج أبو بكر البزار عن طاوس عن
ابن عباس رضى الله عنهما قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(احذروا بيتا يقال له الحمام). قالوا: يا رسول الله، ينقى الوسخ؟ قال: (فاستتروا).
قال أبو محمد عبد الحق: هذا أصح إسناد حديث في هذا الباب، على أن الناس يرسلونه عن
طاوس، وأما ما خرجه أبو داود في هذا من الحظر والإباحة فلا يصح منه شي لضعف
الأسانيد، وكذلك ما خرجه الترمذي. قلت: أما دخول الحمام في هذه الأزمان فحرام على
أهل الفضل والدين، لغلبة الجهل على الناس واستسهالهم إذا توسطوا الحمام رموا
مآزرهم «2»، حتى يرى الرجل البهي ذو الشيبة قائما منتصبا وسط الحمام وخارجه باديا
عن عورته ضاما بين فخذيه ولا أحد يغير عليه. هذا أمر بين الرجال فكيف من النساء!
لا سيما بالديار المصرية إذ حماماتهم خالية عن المظاهر التي هي عن أعين الناس
سواتر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم!.
__________
(1). في ك:" أن لا يراها أحد".
(2). في ك: ميازرهم.
السادسة-
قال العلماء: فإن استتر فليدخل بعشرة شروط: الأول- ألا يدخل إلا بنية التداوي أو
بنية التطهير عن الرحضاء «1». الثاني- أن يعتمد أوقات الخلوة أو قلة الناس.
الثالث- أن يستر عورته بإزار صفيق «2». الرابع- أن يكون نظره إلى الأرض أو يستقبل
الحائط لئلا يقع بصره على محظور. الخامس- أن يغير ما يرى من منكر برفق، يقول:
استتر سترك الله! السادس- إن دلكه أحد لا يمكنه من عورته، من سرته إلى ركبته إلا
امرأته أو جاريته. وقد اختلف في الفخذين هل هما عورة أم لا. السابع- أن يدخله
بأجرة معلومة بشرط أو بعادة الناس. الثامن- أن يصب الماء على قدر الحاجة. التاسع-
إن لم يقدر على دخوله وحده اتفق مع قوم يحفظون أديانهم على كرائه. العاشر- أن
يتذكر به جهنم. فإن لم يمكنه ذلك كله فليستتر وليجتهد في غض البصر. ذكر الترمذي
أبو عبد الله في نوادر الأصول من حديث طاوس عن عبد الله بن عباس رضى الله عنهما
قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (اتقوا بيتا يقال له
الحمام). قيل: يا رسول الله، إنه يذهب به الوسخ ويذكر النار فقال: (إن كنتم لا بد
فاعلين فأدخلوه مستترين). وخرج من حديث أبى هريرة قال قال رسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (نعم البيت يدخله الرجل المسلم بيت الحمام- وذلك لأنه
إذا دخله سأل الله الجنة واستعاذ به من النار- وبئس البيت يدخله الرجل بيت العروس
(. وذلك لأنه يرغبه في الدنيا وينسيه الآخرة. قال أبو عبد الله: فهذا لأهل الغفلة،
صير الله هذه الدنيا بما فيها سببا للذكر لأهل الغفلة ليذكروا بها آخرتهم، فأما
أهل اليقين فقد صارت الآخرة نصب أعينهم فلا بيت حمام يزعجه «3» ولا بيت عروس
__________
(1). الرحضاء: العرق في أثر الحمى. [.....]
(2). صفيق: متين جيد النسج وفى ك: ضيق. وليس بصحيح.
(3). في ك: يعجبه. (12- 15)
وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)
يستفزه،
لقد دقت الدنيا بما فيها من الصنفين والضربين في جنب الآخرة، حتى أن جميع نعيم
الدنيا في أعينهم كنثارة الطعام من مائدة عظيمة، وجميع شدائد الدنيا في أعينهم
كقتله عوقب بها مجرم أو مسي قد كان استوجب [بها «1»] القتل أو الصلب من جميع
عقوبات أهل الدنيا. السابعة- قوله تعالى: (ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ) 30 أي غض البصر
وحفظ الفرج أطهر في الدين وأبعد من دنس الأنام. (إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ) أي عالم.
(بِما يَصْنَعُونَ) 30 تهديد ووعيد.
[سورة النور (24): آية 31]
وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ
وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ
بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ
أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ
بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي
أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ
التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ
لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ
لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)
قوله تعالى: (وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ
فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ) إلى قوله: (مِنْ زِينَتِهِنَّ) فيه
ثلاث وعشرون مسألة: الاولى- قوله تعالى: (وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ) خص الله سبحانه
وتعالى الإناث هنا بالخطاب على طريق التأكيد، فإن قوله:" قل للمؤمنين"
يكفى، لأنه قول عام يتناول الذكر والأنثى من المؤمنين، حسب كل خطاب عام في القرآن.
وظهر التضعيف في" يَغْضُضْنَ" ولم يظهر في" يَغُضُّوا" لان
لام الفعل من الثاني ساكنة ومن الأول متحركة، وهما في موضع
__________
(1). من ك:
جزم
جوابا. وبدأ بالغض قبل الفرج لان البصر رائد للقلب، كما أن الحمى رائد الموت. واخذ
هذا المعنى بعض الشعراء فقال:
ألم تر أن العين للقلب رائد ... فما تألف العينان فالقلب آلف
وفي الخبر (النظر سهم من سهام إبليس مسموم فمن غض بصره أورثه الله الحلاوة في
قلبه). وقال مجاهد: إذا أقبلت المرأة جلس الشيطان على رأسها فزينها لمن ينظر، فإذا
أدبرت جلس على عجزها فزينها لمن ينظر. وعن خالد بن أبى عمران قال: لا تتبعن النظرة
النظرة فربما نظر العبد نظرة نغل «1» منها قلبه كما ينغل الأديم فلا ينتفع به.
فأمر الله سبحانه وتعالى المؤمنين والمؤمنات بغض الأبصار عما لا يحل، فلا يحل
للرجل أن ينظر إلى المرأة ولا المرأة إلى الرجل، فإن علاقتها به كعلاقته بها،
وقصدها منه كقصده منها. وفي صحيح مسلم عن أبى هريرة قال: سمعت رسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: (إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنى أدرك ذلك
لا محالة فالعينان تزنيان وزناهما النظر ...) الحديث. وقال الزهري في النظر إلى
التي لم تحض من النساء: لا يصلح النظر إلى شي منهن ممن يشتهى النظر إليهن وإن كانت
صغيرة. وكره عطاء النظر إلى الجواري اللاتي يبعن بمكة إلا أن يريد أن يشتري. وفي
الصحيحين عنه عليه السلام أنه صرف وجه الفضل عن الخثعمية حين سألته، وطفق الفضل
ينظر إليها «2». وقال عليه السلام: (الغيرة من الايمان والمذاء من النفاق).
والمذاء هو أن يجمع الرجل بين النساء والرجال ثم يخليهم يماذي بعضهم بعضا، مأخوذ
من المذي. وقيل: هو إرسال الرجال إلى النساء، من قولهم: مذيت الفرس إذا أرسلتها
ترعى. وكل ذكر يمذي، وكل أنثى تقذى، فلا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الأخر أن
تبدي زينتها إلا لمن تحل له، أو لمن هي محرمة عليه على التأبيد، فهو آمن أن يتحرك
طبعه إليها لوقوع اليأس له منها.
__________
(1). النغل (بالتحريك): الفساد. ونغل الأديم إذا عفن وتهرى في الدباغ فينفسد
ويهلك.
(2). في البخاري:" عن ابن عباس قال: كان الفضل رديف النبي صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فجاءت امرأة من خثعم، فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه، فجعل
النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصرف وجه الفضل إلى الشق الأخر، فقالت:
إن فريضة الله أدركت أبى شيخا كبيرا لا يثبت على الراحلة أفأحج عنه؟ قال
نعم".
الثانية-
روى الترمذي عن نبهان مولى أم سلمة أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قال لها ولميمونة وقد دخل عليها ابن أم مكتوم: (احتجبا) فقالتا: إنه أعمى، قال:
(أفعمياوان أنتما ألستما تبصرانه). فإن قيل: هذا الحديث لا يصح عند أهل النقل لان
راويه عن أم سلمة نبهان مولاها وهو ممن لا يحتج بحديثه. وعلى تقدير صحته فإن ذلك
منه عليه السلام تغليظ على أزواجه لحرمتهن كما غلظ عليهن أمر الحجاب، كما أشار إليه
أبو داود وغيره من الأئمة. ويبقى معنى الحديث الصحيح الثابت وهو أن النبي صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر فاطمة بنت قيس أن تعتد في بيت أم شريك، ثم قال:
(تلك امرأة يغشاها أصحابي اعتدي عند ابن أم مكتوم فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك ولا
يراك). قلنا: قد استدل بعض العلماء بهذا الحديث على أن المرأة يجوز لها أن تطلع من
الرجل على ما لا يجوز للرجل أن يطلع من المرأة كالرأس ومعلق القرط، وأما العورة
فلا. فعلى هذا يكون مخصصا لعموم قوله تعالى:" وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ
يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ"، وتكون" مِنْ" للتبعيض كما هي في
الآية قبلها. قال ابن العربي: وإنما أمرها بالانتقال من بيت أم شريك إلى بيت ابن
أم مكتوم لان ذلك أولى بها من بقائها في بيت أمر شريك، إذ كانت أم شريك مؤثرة
بكثرة الداخل إليها، فيكثر الرائي لها، وفي بيت ابن أم مكتوم لا يراها أحد، فكان
إمساك بصرها عنه أقرب من ذلك وأولى، فرخص لها في ذلك، والله أعلم. الثالثة- أمر
الله سبحانه وتعالى النساء بألا يبدين زينتهن للناظرين، إلا ما استثناه من
الناظرين في باقى الآية حذارا من الافتتان، ثم استثنى، ما يظهر من الزينة، واختلف
الناس في قدر ذلك، فقال ابن مسعود: ظاهر الزينة هو الثياب. وزاد ابن جبير الوجه.
وقال سعيد بن جبير أيضا وعطاء والأوزاعي: الوجه والكفان والثياب. وقال ابن عباس
وقتادة والمسور بن مخرمة: ظاهر الزينة هو الكحل والسوار والخضاب إلى نصف الذراع
«1» والقرطة والفتخ «2»، ونحو هذا فمباح أن تبديه المرأة لكل من دخل عليها من
الناس. وذكر الطبري عن
__________
(1). في ج وط وك: السياق. وصوابه الذراع على ما يأتي.
(2). الفتخ (بفتحتين جمع الفتخة): خواتيم كبار تلبس في الأيدي.
قتادة
في معنى نصف الذراع حديثا عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وذكر آخر
عن عائشة رضى الله عنها عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: (لا
يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الأخر إذا عركت «1» أن تظهر إلا وجهها ويديها إلى ها
هنا) وقبض على نصف الذراع. قال ابن عطية: ويظهر لي بحكم ألفاظ الآية أن المرأة
مأمورة بألا تبدي وأن تجتهد في الإخفاء لكل ما هو زينة، ووقع الاستثناء فيما يظهر
بحكم ضرورة حركة فيما لا بد منه، أو إصلاح شأن ونحو ذلك. ف"- ما ظهر"
على هذا الوجه مما تؤدي إليه الضرورة في النساء فهو المعفو عنه. قلت: هذا قول حسن،
إلا أنه لما كان الغالب من الوجه والكفين ظهورهما عادة وعبادة وذلك في الصلاة
والحج، فيصلح أن يكون الاستثناء راجعا إليهما. يدل على ذلك ما رواه أبو داود عن
عائشة رضى الله عنها: أن أسماء بنت أبى بكر رضى الله عنهما دخلت على رسول الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعليها ثياب رقاق، فأعرض عنها رسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال لها: (يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم
يصلح أن يرى منها إلا هذا) وأشار إلى وجهه وكفيه. فهذا أقوى من جانب الاحتياط،
ولمراعاة فساد الناس فلا تبدي المرأة من زينتها إلا ما ظهر من وجهها وكفيها، والله
الموفق لا رب سواه. وقد قال ابن خويز منداد من علمائنا: إن المرأة إذا كانت جميلة
وخيف من وجهها وكفيها الفتنة فعليها ستر ذلك، وإن كانت عجوزا أو مقبحة جاز أن تكشف
وجهها وكفيها. الرابعة- الزينة على قسمين: خلقية ومكتسبة، فالخلقية وجهها فإنه أصل
الزينة وجمال الخلقة ومعنى الحيوانية، لما فيه من المنافع وطرق العلوم. وأما
الزينة المكتسبة فهي ما تحاوله المرأة في تحسين خلقتها، كالثياب والحلي والكحل
والخضاب، ومنه قوله تعالى:" خُذُوا زِينَتَكُمْ «2»" [الأعراف: 31].
وقال الشاعر:
يأخذن زينتهن أحسن ما ترى ... وإذا عطلن فهن خير عواطل
الخامسة- من الزينة ظاهر وباطن، فما ظهر فمباح أبدا لكل الناس من المحارم
والأجانب، وقد ذكرنا ما للعلماء فيه. وأما ما بطن فلا يحل إبداؤه إلا لمن سماهم
الله تعالى في هذه
__________
(1). عركت المرأة: حاضت.
(2). راجع ج 7 ص 188 فما بعد.
الآية،
أو حل محلهم. واختلف في السوار، فقالت عائشة: هي من الزينة الظاهرة لأنه في
اليدين. وقال مجاهد: هو من الزينة الباطنة، لأنها خارج عن الكفين وإنما يكون في
الذراع. قال ابن العربي: وأما الخضاب فهو من الزينة الباطنة إذا كان في القدمين.
السادسة- قوله تعالى: (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ) قرأ الجمهور:
بسكون اللام التي هي للأمر. وقرا أبو عمرو: في رواية ابن عباس بكسرها على الأصل،
لان الأصل [لام «1»] الامر الكسر، وحذفت الكسرة لثقلها، وإنما تسكينها لتسكين عضد
وفخذ. و" يَضْرِبْنَ" في موضع جزم بالأمر، إلا أنه بنى على حالة واحدة
اتباعا للماضي عند سيبويه. وسبب هذه الآية أن النساء كن في ذلك الزمان إذا غطين
رءوسهن بالاخمرة وهى المقانع سدلنها من وراء الظهر. قال النقاش: كما يصنع النبط،
فيبقى النحر والعنق والأذنان لا ستر على ذلك، فأمر الله تعالى بلى الخمار على
الجيوب، وهيئة ذلك أن تضرب المرأة بخمارها على جيبها لتستر صدرها. روى البخاري عن
عائشة أنها قالت: رحم الله نساء «2» المهاجرات الأول، لما نزل:"
وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ" شققن أزرهن فاختمرن بها.
ودخلت على عائشة حفصة بنت أخيها عبد الرحمن رضى الله عنهم وقد اختمرت بشيء يشف عن
عنقها وما هنالك، فشقته عليها وقالت: إنما يضرب بالكثيف الذي يستر. السابعة-
الخمر: جمع الخمار، وهو ما تغطى به رأسها، ومنه اختمرت المرأة وتخمرت، وهى حسنة
الخمرة. والجيوب: جمع الجيب، وهو موضع القطع من الدرع والفميص، وهو من الجوب وهو
القطع. ومشهور القراءة ضم الجيم من" جُيُوبِهِنَّ". وقرا بعض الكوفيين:
بكسرها بسبب الياء، كقراءتهم ذلك في: بيوت وشيوخ. والنحويون القدماء لا يجيزون هذه
القراءة ويقولون: بيت وبيوت كفلس وفلوس. وقال الزجاج: يجوز على أن تبدل من الضمة
كسرة، فأما ما روي عن حمزة من الجمع بين الضم والكسر فمحال، لا يقدر أحد أن ينطق
به إلا على الإيماء إلى ما لا يجوز. وقال مقاتل:" عَلى جُيُوبِهِنَّ" أي
على صدورهن، يعنى على مواضع جيوبهن.
__________
(1). من ك وط.
(2). أي النساء المهاجرات. وهو نحو شجر الأراك، أي شجر هو الأراك.
الثامنة-
في هذه الآية دليل على أن الجيب إنما يكون في الثوب موضع الصدر. وكذلك كانت الجيوب
في ثياب السلف رضوان الله عليهم، على ما يصنعه النساء عندنا بالأندلس واهل الديار
المصرية من الرجال والصبيان وغيرهم. وقد ترجم البخاري رحمة الله تعالى عليه (باب
جيب القميص من عند الصدر وغيره) وساق حديث أبى هريرة قال: ضرب رسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مثل البخيل والمتصدق كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد
قد اضطرت أيديهما إلى ثديهما وتراقيهما ... (الحديث، وقد تقدم بكماله «1»، وفية:
قال أبو هريرة: فأنا رأيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول
بإصبعيه هكذا في جيبه، فلو رأيته يوسعها ولا تتوسع «2». فهذا يبين لك أن جيبه عليه
السلام كان في صدره، لأنه لو كان في منكبه لم تكن يداه مضطرة إلى ثدييه وتراقيه.
وهذا استدلال حسن. التاسعة- قوله تعالى: (إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ) البعل هو الزوج
والسيد في كلام العرب، ومنه قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث
جبريل: (إذا ولدت الامة بعلها) يعنى سيدها، إشارة إلى كثرة السراري بكثرة
الفتوحات، فيأتي الأولاد من الإماء فتعتق كل أم بولدها وكأنه سيدها الذي من عليها
بالعتق، إذ كان العتق حاصلا لها من سببه، قاله ابن العربي. قلت: ومنه قوله عليه
السلام في مارية: (أعتقها ولدها) فنسب العتق إليه. وهذا من أحسن تأويلات هذا
الحديث. والله أعلم. مسألة- فالزوج والسيد يرى الزينة من المرأة وأكثر من الزينة
إذ كل محل من بدنها حلال له لذة ونظرا. ولهذا المعنى بدأ بالبعولة، لان اطلاعهم
يقع على أعظم من هذا، قال الله تعالى:" وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ
حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ
غَيْرُ مَلُومِينَ" «3» [المؤمنون: 6- 5]. العاشرة- اختلف الناس في جواز نظر
الرجل إلى فرج المرأة، على قولين: أحدهما- يجوز، لأنه إذا جاز له التلذذ به فالنظر
أولى. وقيل: لا يجوز، لقول عائشة
__________
(1). راجع ج 10 ص 250.
(2). جواب" لو" محذوف، أي لعجبت.
(3). راجع ص 105 من هذا الجزء. [.....]
رضى
الله عنها في ذكر حالها مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ما رأيت
ذلك منه ولا رأى ذلك منى) والأول أصح، وهذا محمول على الأدب، قاله ابن العربي. وقد
قال أصبغ من علمائنا: يجوز له أن يلحسه بلسانه. وقال ابن خويز منداد: أما الزوج
والسيد فيجوز له أن ينظر إلى سائر الجسد وظاهر الفرج دون باطنه. وكذلك المرأة يجوز
أن تنظر إلى عورة زوجها، والامة إلى عورة سيدها. قلت: وروي أن النبي صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (النظر إلى الفرج يورث الطمس) أي العمى، أي في
الناظر. وقيل: إن الولد بينهما يولد أعمى. والله أعلم. الحادية عشرة- لما ذكر الله
تعالى الأزواج وبدأ بهم ثنى بذوي المحارم وسوى بينهم في إبداء الزينة، ولكن تختلف
مراتبهم بحسب ما في نفوس البشر. فلا مرية أن كشف الأب والأخ على المرأة أحوط من
كشف ولد زوجها. وتختلف مراتب ما يبدي لهم، فيبدي للأب ما لا يجوز إبداؤه لولد
الزوج. وقد ذكر القاضي إسماعيل عن الحسن والحسين رضى الله عنهما أنهما كانا لا
يريان أمهات المؤمنين. وقال ابن عباس: إن رؤيتهما لهن تحل. قال إسماعيل: أحسب أن
الحسن والحسين ذهبا في ذلك إلى أن أبناء البعولة لم يذكروا في الآية التي في أزواج
النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهى قوله تعالى:" لا جُناحَ
عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ" «1» [الأحزاب: 55]. وقال في سورة النور:"
وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ" الآية. فذهب ابن عباس
إلى هذه الآية، وذهب الحسن والحسين إلى الآية أخرى. الثانية عشرة- قوله تعالى:
(أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ) يريد ذكور أولاد الأزواج، ويدخل فيه أولاد الأولاد
وإن سفلوا، من ذكران كانوا أو إناث، كبني البنين وبنى البنات. وكذلك آباء البعولة
والأجداد وإن علوا من جهة الذكران لآباء الإباء وآباء الأمهات، وكذلك أبناؤهن وإن
سفلوا. وكذلك أبناء البنات وإن سفلن، فيستوي فيه أولاد البنين وأولاد البنات.
وكذلك أخواتهن، وهم من ولده الإباء والأمهات أو أحد الصنفين. وكذلك بنو الاخوة
__________
(1). راجع ج 14 ص 231.
وبنو
الأخوات وإن سفلوا من ذكران كانوا أو إناث كبني بنى الأخوات وبنى بنات الأخوات.
وهذا كله في معنى ما حرم من المناكح، فإن ذلك على المعاني في الولادات وهؤلاء محارم،
وقد تقدم في [النساء «1»]. والجمهور على أن العم والخال كسائر المحارم في جواز
النظر لهما إلى ما يجوز لهم. وليس في الآية ذكر الرضاع، وهو كالنسب على ما تقدم.
وعند الشعبي وعكرمة ليس العم والخال من المحارم. وقال عكرمة: لم يذكرهما في الآية
لأنهما تبعان لأبنائهما. الثالثة عشرة- قوله تعالى: (أَوْ نِسائِهِنَّ) يعنى
المسلمات، ويدخل في هذا الإماء المؤمنات، ويخرج منه نساء المشركين من أهل الذمة
وغيرهم، فلا يحل لامرأة مؤمنة أن تكشف شيئا من بدنها بين يدي امرأة مشركة إلا أن
تكون أمة لها، فذلك قوله تعالى:" أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ". وكان
ابن جريج وعبادة بن نسى وهشام القارئ يكرهون أن تقبل النصرانية المسلمة أو ترى
عورتها، ويتأولون" أَوْ نِسائِهِنَّ". وقال عبادة بن نسى: وكتب عمر رضى
الله عنه إلى أبى عبيدة بن الجراح: أنه بلغني أن نساء أهل الذمة يدخلن الحمامات مع
نساء المسلمين، فامنع من ذلك، وحل دونه، فإنه لا يجوز أن ترى الذمية عرية «2»
المسلمة. قال: فعند ذلك قام أبو عبيدة وابتهل وقال: أيما امرأة تدخل الحمام من غير
عذر لا تريد إلا أن تبيض وجهها فسود الله وجهها يوم تبيض الوجوه. وقال ابن عباس
رضى الله عنهما: لا يحل للمسلمة أن تراها يهودية أو نصرانية، لئلا تصفها لزوجها.
وفي هذه المسألة خلاف للفقهاء. فإن كانت الكافرة أمة لمسلمة جاز أن تنظر إلى
سيدتها، وأما غيرها فلا، لانقطاع الولاية بين أهل الإسلام واهل الكفر، ولما
ذكرناه. والله أعلم. الرابعة عشرة- قوله تعالى: (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ)
ظاهر الآية يشمل العبيد والإماء المسلمات والكتابيات. وهو قول جماعة من أهل العلم،
وهو الظاهر من مذهب عائشة وام سلمة رضى الله عنهما. وقال ابن عباس: لا بأس أن ينظر
المملوك إلى شعر مولاته. وقال أشهب: سئل مالك أتلقى المرأة خمارها بين يدي الخصى؟
فقال نعم، إذا كان
__________
(1). راجع ج 5 ص 105 وما بعدها.
(2). مرية المرأة: ما يعرى منها وينكشف.
مملوكا
لها أو لغيرها، وأما الحر فلا. وإن كان فحلا كبيرا وغدا «1» تملكه، لا هيئة له ولا
منظر فلينظر إلى شعرها. قال أشهب قال مالك: ليس بواسع أن تدخل جارية الولد أو
الزوجة على الرجل المرحاض، قال الله تعالى:" أَوْ ما مَلَكَتْ
أَيْمانُكُمْ". وقال أشهب عن مالك: ينظر الغلام الوغد إلى شعر سيدته، ولا
أحبه لغلام الزوج. وقال سعيد بن المسيب: لا تغرنكم هذه الآية" أَوْ ما
مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ" إنما عنى بها الإماء ولم يعن بها العبيد. وكان
الشعبي يكره أن ينظر المملوك إلى شعر مولاته. وهو قول مجاهد وعطاء. وروى أبو داود
عن أنس أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أتى فاطمة بعبد قد وهبه
لها، قال: وعلى فاطمة ثوب إذا غطت به رأسها لم يبلغ إلى رجليها، وإذا غطت به رجليها
لم يبلغ إلى رأسها، فلما رأى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما تلقى من
ذلك قال: (إنه لا بأس عليك إنما هو أبوك وغلامك). الخامسة عشرة- قوله تعالى: (أَوِ
التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ)" أي غير أولى
الحاجة والإربة الحاجة، يقال: أربت كذا آرب أربا. والارب والإربة والمأربة والارب:
الحاجة، والجمع مأرب، أي حوائج. ومنه قوله تعالى:" وَلِيَ فِيها مَآرِبُ
أُخْرى " [طه: 18] وقد تقدم «2». وقال طرفة:
إذا المرء قال الجهل والحوب والخنى» ... تقدم يوما ثم ضاعت مآربه
واختلف الناس في معنى قوله:" أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي
الْإِرْبَةِ" فقيل: هو الأحمق الذي لا حاجة به إلى النساء. وقيل الأبله.
وقيل: الرجل يتبع القوم فيأكل معهم ويرتفق بهم، وهو ضعيف لا يكترث للنساء ولا
يشتهيهن. وقيل العنين. وقيل الخصى. وقيل المخنث. وقيل الشيخ الكبير، والصبى الذي
لم يدرك. وهذا الاختلاف كله متقارب المعنى، ويجتمع فيمن لا فهم له ولا همة ينتبه
بها إلى أمر النساء. وبهذه الصفة كان هيت المخنث عند رسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما سمع منه ما سمع من وصف محاسن المرأة: بادية بنة غيلان،
أمر بالاحتجاب منه. أخرج حديثه مسلم وأبو داود ومالك في الموطأ وغيرهم عن
__________
(1). الوغد: الدنى من الرجال الذي يخدم بطعام بطنه. وقيل: الخفيف العقل.
(2). راجع ج 11 ص 187.
(3). الحوب (بضم الحاء وفتحها): الإثم. والخنى: الفحش.
هشام
بن عروة عن عروة عن عائشة. قال أبو عمر: ذكر عبد الملك بن حبيب عن حبيب كاتب مالك
قال قلت لمالك: إن سفيان زاد في حديث ابنة غيلان: (أن مخنثا يقال له هيت) وليس في
كتابك هيت؟ فقال مالك: صدق، هو كذلك وغربه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إلى الحمى وهو موضع من ذي الحليفة ذات الشمال من مسجدها. قال حبيب وقلت
لمالك: وقال سفيان في الحديث: إذا قعدت تبنت «1»، وإذا تكلمت تغنت. قال مالك: صدق،
هو كذلك. قال أبو عمر: ما ذكره حبيب كاتب مالك عن سفيان أنه قال في الحديث يعنى
حديث هشام بن عروة (أن مخنثا يدعى هيتا) فغير معروف عند أحد من رواته عن هشام، لا
ابن عيينة ولا غيره، ولم يقل في نسق الحديث (إن مخنثا يدعى هيتا) وإنما ذكره عن
ابن جريج بعد تمام الحديث، وكذلك قوله عن سفيان أنه يقول في الحديث: إذا قعدت تبنت
وإذا تكلمت تغنت. هذا ما لم يقله سفيان ولا غيره في حديث هشام بن عروة، وهذا اللفظ
لا يوجد إلا من رواية الواقدي، والعجب أنه يحكيه عن سفيان ويحكى عن مالك أنه كذلك،
فصارت رواية عن مالك، ولم يروه عن مالك غير حبيب ولا ذكره عن سفيان غيره أيضا،
والله أعلم. وحبيب كاتب مالك متروك الحديث ضعيف عند جميعهم، لا يكتب حديثه ولا
يلتفت إلى ما يجئ به. ذكر الواقدي والكلبي أن هيتا المخنث قال لعبد الله بن أمية
المخزومي وهو أخو أم سلمة لأبيها، وأمة عاتكة عمة رسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال له وهو في بيت أخته أم سلمة ورسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسمع: إن فتح الله عليكم الطائف فعليك ببادية بنت غيلان بن
سلمة الثقفي، فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان «2»، مع ثغر كالأقحوان، إن جلست تبنت
وإن تكلمت تغنت، بين رجليها كالإناء المكفوء «3»، وهى كما قال قيس بن الخطيم،
تغترق الطرف وهى لاهية ... كأنما شف وجهها نزف «4»
__________
(1). أي صارت كالمبناة من سمنها وعظمها. قال ابن الأثير: أي فرجت رجليها لضخم
ركبها (فرجها)، كأنه شبهها بالقبة من الأدم.
(2). يعنى تقبل بأربع عكن وتدبر بثمان عكن. والعكن والأعكان: ما انطوى وتثنى من
لحم البطن سمنا.
(3). يعنى ضخم ركبها (فرجها) ونهوده كأنه إناء مكبوب.
(4). يقول: من نظر إليها استغرقت طرفه وبصره وشغلته عن النظر إلى غيرها، وهى لاهية
غير محتفلة. والترف (بضم فسكون، وحرك هنا لضرورة الشعر): خروج الدم. وفى شرح ديوان
قيس:" أراد أن في لونها مع البياض صفرة، وذلك أحسن".
بين
شكول النساء خلقتها ... قصد فلا جبلة ولا قضف «1»
تنام عن كبر شأنها فإذا ... قامت رويدا تكاد تنقصف
فقال له النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لقد غلغلت النظر إليها يا عدو
الله). ثم أجلاه عن المدينة إلى الحمى. قال: فلما افتتحت الطائف تزوجها عبد الرحمن
بن عوف فولدت له منه بريهة، في قول الكلبي. ولم يزل هيت بذلك المكان حتى قبض النبي
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما ولى أبو بكر كلم فيه فأبى أن يرده، فلما
ولى عمر كلم فيه فأبى، ثم كلم فيه عثمان بعد. وقيل: إنه قد كبر وضعف واحتاج، فأذن
له أن يدخل كل جمعة فيسأل ويرجع إلى مكانه. قال: وكان هيت مولى لعبد الله بن [أبى
] أمية المخزومي، وكان له طويس «2» أيضا، فمن ثم قبل «3» الخنث. قال أبو عمر:
يقال" بادية" بالياء و" بادنة" بالنون، والصواب فيه عندهم
بالياء، وهو قول أكثرهم، وكذلك ذكره الزبيري بالياء. السادسة عشرة- وصف التابعين
ب"- غَيْرِ" لان التابعين غير مقصودين بأعيانهم، فصار اللفظ كالنكرة.
و" غَيْرِ" لا يتمحض نكرة فجاز أن يجري وصفا على المعرفة. وإن شئت قلت
هو بدل. والقول فيها كالقول في" غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ «4»"
[الفاتحة: 7]. وقرا عاصم وابن عامر" غَيْرَ" بالنصب فيكون استثناء، أي
يبدين زينتهن للتابعين إلا ذا الإربة منهم. ويجوز أن يكون حالا، أي والذين
يتبعونهن عاجزين عنهن، قاله أبو حاتم. وذو الحال ما في" التَّابِعِينَ"
من الذكر. السابعة عشرة- قوله تعالى: (أَوِ الطِّفْلِ) اسم جنس بمعنى الجمع،
والدليل على ذلك نعته ب"- الَّذِينَ". وفي مصحف حفصة" أو
الأطفال" على الجمع. ويقال: طفل ما لم يراهق الحلم. و(يَظْهَرُوا) معناه
يطلعوا بالوطي، أي لم يكشفوا عن عوراتهن للجماع لصغرهن. وقيل: لم يبلغوا أن يطيقوا
النساء، يقال: ظهرت على كذا أي علمته، وظهرت
__________
(1). الشكول: الضروب. وقصد: ليست بالجسيمة ولا النحيفة. والجبلة: الغليظة، من جبل
(كفرج) فهو جبل وجبل. والقضف: الدقة وقلة اللحم.
(2). طويس لقب غلب عليه، واسمه عيسى بن عبد الله، مولى بنى مخزوم، وهو أول من غنى
بالعربي بالمدينة، وأول من ألقى الخنث بها. (راجع ترجمته في الاغالى ج 3 ص 37 طبع
دار الكتب).
(3). في الأصول:" قيل المخنت" والتصويب عن الأغاني.
(4). راجع ج 1 ص 149. [.....]
على
كذا أي قهرته. والجمهور على سكون الواو من" عَوْراتِ" لاستثقال الحركة
على الواو. وروي عن ابن عباس «1» فتح الواو، مثل جفنة وجفنات. وحكى الفراء أنها
لغة قيس" عَوْراتِ" [بفتح «2» [الواو. النحاس: وهذا هو القياس، لأنه ليس
بنعت، كما تقول: جفنة وجفنات، إلا أن التسكين أجود في" عَوْراتِ"
وأشباهه، لان الواو إذا تحركت وتحرك ما قبلها قلبت ألفا، فلو قيل هذا لذهب المعنى.
الثامنة عشرة- اختلف العلماء في وجوب ستر ما سوى الوجه والكفين منه على قولين:
أحدهما- لا يلزم، لأنه لا تكليف عليه، وهو الصحيح. والآخر- يلزمه، لأنه قد يشتهى
وقد تشتهي أيضا هي، فإن راهق فحكمه حكم البالغ وجوب الستر. ومثله الشيخ الذي سقطت
شهوته اختلف فيه أيضا على قولين كما في الصبى، والصحيح بقاء الحرمة، قاله ابن
العربي. التاسعة عشرة- أجمع المسلمون على أن السوأتين عورة من الرجل والمرأة، وأن
المرأة كلها عورة، إلا وجهها ويديها فإنهم اختلفوا فيهما. وقال أكثر العلماء في
الرجل: من سرته إلى ركبته عورة، لا يجوز أن ترى. وقد مضى في ] الأعراف [القول في
هذا مستوفى «3». الموفية عشرين- قال أصحاب الرأي: عورة المرأة مع عبدها من السرة
إلى الركبة. ابن العربي: وكأنهم ظنوها رجلا أو ظنوه امرأة، والله تعالى قد حرم
المرأة على الإطلاق لنظر أو لذة، ثم استثنى اللذة للأزواج وملك اليمين، ثم استثنى
الزينة لاثني عشر شخصا العبد منهم، فما لنا ولذلك! هذا نظر فاسد واجتهاد عن السداد
متباعد. وقد تأول بعض الناس قوله:" أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ" على
الإماء دون العبيد، منهم سعيد بن المسيب، فكيف يحملون على العبيد ثم يلحقون
بالنساء هذا بعيد جدا! [قال ابن العربي «4»] وقد قيل: إن التقدير أو ما ملكت
أيمانهن من غير أولى الإربة أو التابعين غير أولى الإربة من الرجال، حكاه المهدوي.
الحادية والعشرون- قوله تعالى: (وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ) الآية، أي لا
تضرب المرأة برجلها إذا مشت لتسمع صوت خلخالها، فإسماع صوت الزينة كإبداء الزينة
وأشد،
__________
(1). في ب وك: ابن عامر.
(2). من ب.
(3). راجع ج 7 ص 172.
(4). من ك.
والغرض
التستر. أسند الطبري عن المعتمر عن أبيه أنه قال: زعم حضرمي أن امرأة اتخذت برتين
«1» من فضة واتخذت جزعا «2» فجعلت في ساقها فمرت على القوم فضربت برجلها الأرض
فوقع الخلخال على الجزع فصوت، فنزلت هذه الآية. وسماع هذه الزينة أشد تحريكا
للشهوة من إبدائها، قاله الزجاج. الثانية والعشرون- من فعل ذلك منهن فرحا بحليهن
فهو مكروه. ومن فعل ذلك منهن تبرجا وتعرضا للرجال فهو حرام مذموم. وكذلك من ضرب
بنعله من الرجال، إن فعل ذلك تعجبا حرم، فإن العجب كبيرة. وإن فعل ذلك تبرجا لم
يجز. الثالثة والعشرون- قال مكي رحمه الله تعالى: ليس في كتاب الله تعالى آية أكثر
ضمائر من هذه، جمعت خمسة وعشرين ضميرا للمؤمنات من مخفوض ومرفوع. قوله تعالى:
(وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ) فيه مسألتان: الاولى-
قوله تعالى:" وَتُوبُوا" أمر. ولا خلاف بين الامة في وجوب التوبة، وأنها
فرض متعين، وقد مضى الكلام فيها في" النساء" «3» وغيرها فلا معنى لاعادة
ذلك. والمعنى: وتوبوا إلى الله فإنكم لا تخلون من سهو وتقصير في أداء حقوق الله
تعالى، فلا تتركوا التوبة في كل حال. الثانية- قرأ الجمهور (أيه) بفتح الهاء. وقرأ
ابن عامر بضمها، ووجهه أن تجعل الهاء من نفس الكلمة، فيكون إعراب المنادى فيها.
وضعف أبو على ذلك جدا وقال: آخر الاسم هو الياء الثانية من أي، فالمضموم ينبغي أن
يكون آخر الاسم، ولو جاز ضم الهاء ها هنا لاقترانها بالكلمة لجاز ضم الميم
في" اللهم" لاقترانها بالكلمة في كلام طويل. والصحيح أنه إذا ثبت عن النبي
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قراءة فليس إلا اعتقاد الصحة في اللغة، فإن
القرآن هو الحجة. وأنشد الفراء:
يا أيها القلب اللجوج النفس ... أفق عن البيض الحسان اللعس
__________
(1). البرة: الخلخال، وكل حلقة من سوار وقرط.
(2). الجزع (بفتح الجيم) ضرب من الخرز.
(3). راجع ج 5 ص 90.
وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32)
اللعس:
لون الشفة إذا كانت تضرب إلى السواد قليلا، وذلك يستملح، يقال: شفة لعساء وفتية
ونسوة لعس. وبعضهم يقف" أيه". وبعضهم يقف" أيها" بالألف لان
علة حذفها في الوصل إنما هو سكونها وسكون اللام، فإذا كان الوقف ذهبت العلة فرجعت
الالف كما ترجع الياء إذا وقفت على" محلى" من قوله تعالى:" غَيْرَ
مُحِلِّي الصَّيْدِ
" «1» [المائدة: 1]. وهذا الاختلاف الذي ذكرناه كذلك هو في" يا أيها
الساحر «2»". و" أيه الثقلان «3»".
[سورة النور (24): آية 32]
وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ
إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ واسِعٌ
عَلِيمٌ (32)
فيه سبع مسائل: الاولى- هذه المخاطبة تدخل في باب الستر والصلاح، أي زوجوا من لا
زوج له منكم فإنه طريق التعفف، والخطاب للأولياء. وقيل: للأزواج. والصحيح الأول،
إذ لو أراد الأزواج لقال" وأنكحوا" بغير همز، وكانت الالف للوصل. وفي
هذا دليل على أن المرأة ليس لها أن تنكح نفسها بغير ولى، وهو قول أكثر العلماء.
وقال أبو حنيفة: إذا زوجت الثيب أو البكر نفسها بغير ولى كفيا لها جاز. وقد مضى
هذا في" البقرة" «4» مستوفى. الثانية- اختلف العلماء في هذا الامر على
ثلاثة أقوال، فقال علماؤنا: يختلف الحكم في ذلك باختلاف حال المؤمن من خوف العنت،
ومن عدم صبره، ومن قوته على الصبر وزوال خشية العنت عنه. وإذا خاف الهلاك في الدين
أو الدنيا أو فيهما فالنكاح حتم. وإن لم يخش شيئا وكانت الحال مطلقة فقال الشافعي:
النكاح مباح. وقال مالك وأبو حنيفة: هو مستحب. تعلق الشافعي بأنه قضاء لذة فكان
مباحا كالأكل والشرب. وتعلق علماؤنا بالحديث الصحيح: (من رغب عن سنتي فليس منى).
الثالثة- قوله تعالى: (الْأَيامى مِنْكُمْ) أي الذين لا أزواج لهم من الرجال
والنساء، واحدهم أيم. قال أبو عمرو: أيامى مقلوب أيايم. واتفق أهل اللغة على أن
الأيم في الأصل
__________
(1). راجع ج 6 ص 31.
(2). راجع 16 ص 96.
(3). راجع ج 17 ص 168.
(4). راجع ج 3 ص 72.
هي
المرأة التي لا زوج لها، بكرا كانت أو ثيبا، حكى ذلك أبو عمرو والكسائي وغيرهما.
تقول العرب: تأيمت المرأة إذا أقامت لا تتزوج. وفي حديث النبي صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أنا وامرأة سفعاء «1» الخدين تأيمت على ولدها الصغار حتى
يبلغوا أو يغنيهم الله من فضله كهاتين في الجنة (. وقال الشاعر:
فإن تنكحي أنكح وإن تتأيمى ... وإن كنت أفتى منكم أتأيم
ويقال: أيم بين الأئمة. وقد آمت هي، وأمت أنا. قال الشاعر:
لقد أمت حتى لامني كل صاحب ... رجاء بسلمى أن تئيم كما أمت
قال أبو عبيد: يقال رجل أيم وامرأة أيم، وأكثر ما يكون ذلك في النساء، وهو
كالمستعار في الرجال. وقال أمية بن أبى الصلت:
لله در بنى عل ... - ي أيم منهم وناكح
وقال قوم: هذه الآية ناسخة لحكم قوله تعالى:" وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها
إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ" [النور:
3]. وقد بيناه في أول السورة والحمد لله. الرابعة- المقصود من قوله تعالى:"
وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ" «2» الحرائر والأحرار، ثم بين حكم المماليك
فقال:" وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ". وقرا
الحسن" والصالحين من عبيدكم"، وعبيد اسم للجمع. قال الفراء: ويجوز"
وإماءكم" بالنصب، يرده على" الصَّالِحِينَ" يعنى الذكور والإناث،
والصلاح الايمان. وقيل: المعنى ينبغي أن تكون الرغبة في تزويج الإماء والعبيد إذا
كانوا صالحين فيجوز تزويجهم، ولكن لا ترغيب فيه ولا استحباب، كما قال:"
فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً" [النور: 33]. ثم قد تجوز
الكتابة وإن لم يعلم أن في العبد خيرا، ولكن الخطاب ورد في الترغيب والاستحباب،
وإنما يستحب كتابة من فيه خير. الخامسة- أكثر العلماء على أن للسيد أن يكره عبده
وأمته على النكاح، وهو قول مالك وأبى حنيفة وغيرهما. قال مالك: ولا يجوز ذلك إذا
كان ضررا. وروي نحوه عن
__________
(1). السفع: السواد والشحوب. أراد أنها بذلت نفسها وتركت الزينة والترفه حتى شحب
لونها واسود، إقامة على ولدها بعد وفاة زوجها.
(2). راجع ص 167 من هذا الجزء.
الشافعي،
ثم قال: ليس للسيد أن يكره العبد على النكاح. وقال النخعي: كانوا يكرهون المماليك
على النكاح ويغلقون عليهم الأبواب. تمسك أصحاب الشافعي فقالوا: العبد مكلف فلا
يجبر على النكاح، لان التكليف يدل على أن العبد كامل من جهة الآدمية، وإنما تتعلق
به المملوكية فيما كان حظا للسيد من ملك الرقبة والمنفعة، بخلاف الامة فإنه له حق
المملوكية في بضعها ليستوفيه، فأما بضع العبد فلا حق له فيه، ولأجل ذلك لا تباح
السيدة لعبدها. هذه عمدة أهل خراسان والعراق، وعمدتهم أيضا الطلاق، فإنه يملكه العبد
بتملك عقده. ولعلمائنا النكتة العظمى في أن مالكية العبد استغرقتها مالكية السيد،
ولذلك لا يتزوج إلا بإذنه بإجماع. والنكاح وبابه إنما هو من المصالح، ومصلحة العبد
موكولة إلى السيد، هو يراها ويقيمها للعبد. السادسة- قوله تعالى: (إِنْ يَكُونُوا
فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) رجع الكلام إلى الأحرار، أي لا
تمتنعوا عن التزويج بسبب فقر الرجل والمرأة،" إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ
يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ". وهذا وعد بالغنى للمتزوجين طلب رضا الله
واعتصاما من معاصيه. وقال ابن مسعود: التمسوا الغنى في النكاح، وتلا هذه الآية.
وقال عمر رضى الله عنه: عجبي ممن لا يطلب الغنى في النكاح، وقد قال الله
تعالى:" إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ".
وروي هذا المعنى عن ابن عباس رضى الله عنهما أيضا. ومن حديث أبى هريرة رضى الله
عنه أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (ثلاثة كلهم حق على الله
عونه المجاهد في سبيل الله والناكح يريد العفاف والمكاتب يريد الأداء). أخرجه ابن
ماجة في سننه. فإن قيل: فقد نجد الناكح لا يستغنى، قلنا: لا يلزم أن يكون هذا على
الدوام، بل لو كان في لحظة واحدة لصدق الوعد. وقد قيل: يغنيه، أي يغنى النفس. وفي
الصحيح (ليس الغنى عن كثرة العرض «1» إنما الغنى غنى النفس). وقد قيل: ليس وعدا لا
يقع فيه خلف، بل المعنى أن المال غاد ورائح، فارجوا الغنى. وقيل: المعنى يغنيهم
الله من فضله إن شاء، كقوله تعالى:
__________
(1). العرض (بالتحريك): متاع الدنيا وحطامها. [.....]
وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33) وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34)
"
فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ" «1» [الانعام: 41]، وقال
تعالى:" يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ" «2» [الشورى: 12]. وقيل:
المعنى إن يكونوا فقراء إلى النكاح يغنهم الله بالحلال ليتعففوا عن الزنى.
السابعة- هذه الآية دليل على تزويج الفقير، ولا يقول كيف أتزوج وليس لي مال، فإن
رزقه على الله. وقد زوج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المرأة التي أتته
تهب له نفسها لمن ليس له إلا إزار واحد، وليس لها بعد ذلك فسخ النكاح بالإعسار
لأنها دخلت عليه، وإنما يكون ذلك إذا دخلت على اليسار فخرج معسرا، أو طرأ الإعسار
بعد ذلك، لان الجوع لا صبر عليه، قاله علماؤنا. وقال النقاش: هذه الآية حجة على من
قال: إن القاضي يفرق بين الزوجين إذا كان الزوج فقيرا لا يقدر على النفقة، لان
الله تعالى قال:" يغنهم الله" ولم يقل يفرق. وهذا انتزاع ضعيف، وليس هذه
الآية حكما فيمن عجز عن النفقة، وإنما هي وعد بالاغناء لمن تزوج فقيرا. فأما من
تزوج موسرا وأعسر بالنفقة فإنه يفرق بينهما، قال الله تعالى:" وَإِنْ يَتَفَرَّقا
يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ" «3» [النساء: 130]. ونفحات الله تعالى
مأمولة في كل حال موعود بها.
[سورة النور (24): الآيات 33 الى 34]
وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ
مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ
فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ
الَّذِي آتاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ
تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ
اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33) وَلَقَدْ أَنْزَلْنا
إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ
وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34)
قوله تعالى: (وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى
يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) فيه أربع مسائل:
__________
(1). راجع ج 6 ص 423.
(2). راجع ج 9 ص 318 فما بعد.
(3). راجع ج 5 ص 404.
الاولى-
قوله تعالى: (وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ) الخطاب لمن يملك أمر نفسه، لا لمن زمامه
بيد غيره فإنه يقوده إلى ما يراه، كالمحجور [عليه «1»]- قولا واحدا- والامة والعبد
على أحد قولي العلماء. الثانية- و" استعفف" وزنه استفعل، ومعناه طلب أن
يكون عفيفا، فأمر الله تعالى بهذه الآية كل من تعذر عليه النكاح ولا يجده بأي وجه
تعذر «2» أن يستعفف. ثم لما كان أغلب الموانع على النكاح عدم المال وعد بالاغناء
من فضله، فيرزقه ما يتزوج به، أو يجد امرأة ترضى باليسير من الصداق، أو تزول عنه
شهوة النساء. وروى النسائي عن أبى هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قال: (ثلاثة كلهم حق على الله عز وجل عونهم المجاهد في سبيل الله
والناكح الذي يريد العفاف والمكاتب الذي يريد الأداء (. الثالثة- قوله تعالى: (لا
يَجِدُونَ نِكاحاً) أي طول نكاح، فحذف المضاف. وقيل: النكاح ها هنا ما تنكح به
المرأة من المهر والنفقة، كاللحاف اسم لما يلتحف به. واللباس اسم لما يلبس، فعلى
هذا لا حذف في الآية، قاله جماعة من المفسرين، وحملهم على هذا قوله تعالى:"
حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ" فظنوا أن المأمور بالاستعفاف
إنما هو من عدم المال الذي يتزوج به. وفي هذا القول تخصيص المأمورين بالاستعفاف،
وذلك ضعيف، بل الامر بالاستعفاف متوجه لكل من تعذر عليه النكاح بأي وجه تعذر، كما
قدمناه، والله تعالى أعلم. الرابعة- من تاقت نفسه إلى النكاح فإن وجد الطول
فالمستحب له أن يتزوج، وإن لم يجد الطول فعليه بالاستعفاف فإن أمكن ولو بالصوم فإن
الصوم له وجاء «3»، كما جاء في الخبر الصحيح. ومن لم تتق نفسه إلى النكاح فالأولى
له التخلي لعبادة الله تعالى. وفي الخبر (خيركم الخفيف الحاذ «4» الذي لا أهل له
ولا ولد). وقد تقدم جواز نكاح الإماء عند عدم الطول للحرة في" النساء"
«5» والحمد لله. ولما لم يجعل الله له بين «6» العفة والنكاح درجة دل على أن ما
عداهما
__________
(1). من ك.
(2). في ك: يعذر.
(3). الوجاء- بالكسر- الخصاء. أي الصوم يقطع الشهوة كما يقطعها الخصاء.
(4). الحاذ الحال تفسيره ما بعده.
(5). راجع ج 5 ص 136 فما بعد.
(6). من ب وك.
محرم
ولا يدخل فيه ملك اليمين لأنه بنص آخر مباح، وهو قوله تعالى:" أَوْ ما
مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ" فجاءت فيه زيادة، ويبقى على التحريم الاستمناء ردا
على أحمد»
. وكذلك يخرج عنه نكاح المتعة بنسخه، وقد تقدم هذا في [أول «2»]"
المؤمنون". قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ
أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً) فيه ست عشرة مسألة:
الاولى- قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ)" الَّذِينَ"
في موضع رفع. وعند الخليل وسيبويه في موضع نصب على إضمار فعل، لان بعده أمرا. ولما
جرى ذكر العبيد والإماء فيما سبق وصل به أن العبد إن طلب الكتاب فالمستحب كتابته،
فربما يقصد بالكتابة أن يستقل ويكتسب ويتزوج إذا أراد، فيكون أعف له. قيل: نزلت في
غلام لحويطب ابن عبد العزى يقال له صبح- وقيل: صبيح- طلب من مولاه أن يكاتبه فأبى،
فأنزل الله تعالى هذه الآية، فكاتبه حويطب على مائة دينار ووهب له منها عشرين
دينارا فأداها، وقتل بحنين في الحرب، ذكره القشيري وحكاه النقاش. وقال مكي: هو
صبيح القبطي غلام حاطب بن أبى بلتعة. وعلى الجملة فإن الله تعالى أمر المؤمنين
كافة أن يكاتب منهم كل من له مملوك وطلب المملوك الكتابة وعلم سيده منه خيرا.
الثانية- الكتاب والمكاتبة سواء، مفاعلة مما لا تكون إلا بين اثنين، لأنها معاقدة
بين السيد وعبده، يقال: كاتب يكاتب كتابا ومكاتبة، كما يقال: قاتل قتالا ومقاتلة.
فالكتاب في الآية مصدر كالقتال والجلاد والدفاع. وقيل: الكتاب ها هنا هو الكتاب
المعروف الذي يكتب فيه الشيء، وذلك أنهم كانوا إذا كاتبوا العبد كتبوا عليه وعلى
أنفسهم بذلك كتابا. فالمعنى يطلبون العتق الذي يكتب به الكتاب فيدفع إليهم.
الثالثة- معنى المكاتبة في الشرع: هو أن يكاتب الرجل عبده على مال يؤديه منجما
عليه، فإذا أداه فهو حر. ولها حالتان: الاولى- أن يطلبها العبد ويجيبه السيد، فهذا
__________
(1). راجع ص 10 فما بعد من هذا الجزء.
(2). راجع ص 10 فما بعد من هذا الجزء.
مطلق
الآية وظاهرها. الثانية- أن يطلبها العبد ويأباها السيد، وفيها قولان: الأول:
لعكرمة وعطاء ومسروق وعمرو بن دينار والضحاك بن مزاحم وجماعة أهل الظاهر أن ذلك
واجب على السيد. وقال علماء الأمصار: لا يجب ذلك. وتعلق من أوجبها بمطلق الامر،
وأفعل بمطلقه على الوجوب حتى يأتي الدليل بغيره. وروي ذلك عن عمر بن الخطاب وابن
عباس، واختاره الطبري. واحتج داود أيضا بأن سيرين أبا محمد بن سيرين سأل أنس بن
مالك الكتابة وهو مولاه فأبى أنس، فرفع عمر عليه الدرة، وتلا:" فَكاتِبُوهُمْ
إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً"، فكاتبه أنس. قال داود: وما كان عمر ليرفع
الدرة على أنس فيما له مباح ألا يفعله. وتمسك الجمهور بأن الإجماع منعقد على أنه
لو سأله أن يبيعه من غيره لم يلزمه ذلك، ولم يجبر عليه وإن ضوعف له في الثمن.
وكذلك لو قال له أعتقني أو دبرني أو زوجني لم يلزمه ذلك بإجماع، فكذلك الكتابة،
لأنها معاوضة فلا تصح إلا عن تراض. وقولهم: مطلق الامر يقتضى الوجوب صحيح، لكن إذا
عري عن قرينة تقتضي صرفه عن الوجوب، وتعليقه هنا بشرط علم الخير فيه، فعلق «1»
الوجوب على أمر باطن وهو علم السيد بالخيرية. وإذا قال العبد: كاتبني، وقال السيد:
لم أعلم فيك خيرا، وهو أمر باطن، فيرجع فيه إليه ويعول عليه. وهذا قوي في بابه.
الرابعة- واختلف العلماء في قوله تعالى: (خَيْراً) فقال ابن عباس وعطاء: المال.
مجاهد: المال والأداء. والحسن والنخعي: الدين والأمانة. وقال مالك: سمعت بعض أهل
العلم يقولون هو القوة على الاكتساب والأداء. وعن الليث نحوه، وهو قول الشافعي.
وقال عبيدة السلماني: إقامة الصلاة والخير «2». قال الطحاوي: وقول من قال إنه
المال لا يصح عندنا، لان العبد مال لمولاه، فكيف يكون له مال. والمعنى عندنا: إن
علمتم فيهم الدين والصدق، وعلمتم أنهم يعاملونكم على أنهم متعبدون بالوفاء لكم بما
عليهم من الكتابة والصدق في المعاملة فكاتبوهم. وقال أبو عمر: من لم يقل إن الخير
هنا المال أنكر أن يقال إن علمتم فيهم مالا، وإنما يقال: علمت فيه الخير والصلاح
والأمانة، ولا يقال: علمت فيه المال، وإنما يقال علمت عنده المال.
__________
(1). في ك: تعلق.
(2). لعل كلمة" والخير" مقحمة. ولعل المراد بالخير سائر الخصال
المحمودة.
قلت:
وحديث بريرة يرد قول من قال: إن الخير المال، على ما يأتي. الخامسة- اختلف العلماء
في كتابة من لا حرفة له، فكان ابن عمر يكره أن يكاتب عبده إذا لم تكن له حرفة،
ويقول: أتأمرني أن آكل أوساخ الناس؟ ونحوه عن سلمان الفارسي. وروى حكيم بن حزام
فقال: كتب عمر بن الخطاب إلى عمير بن سعد: أما بعد! فانه مزن قبلك من المسلمين أن
يكاتبوا أرقاءهم على مسألة الناس. وكرهه الأوزاعي وأحمد وإسحاق. ورخص في ذلك مالك
وأبو حنيفة والشافعي. وروي عن على رضى الله عنه أن ابن التياح مؤذنه قال له: أكاتب
وليس لي مال؟ قال نعم، ثم حض الناس على الصدقة على، فأعطوني ما فضل عن مكاتبتي،
فأتيت عليا فقال: اجعلها في الرقاب. وقد روي عن مالك كراهة ذلك، وأن الامة التي لا
حرفة لها يكره مكاتبتها لما يؤدي إليه من فسادها. والحجة في السنة لا فيما خالفها.
روى الأئمة عن عائشة رضى الله عنها قالت: دخلت على بريرة فقالت: إن أهلي كاتبوني
على تسع أواق في تسع سنين، كل سنة أوقية، فأعينيني ... الحديث. فهذا دليل على أن
للسيد أن يكاتب عبده وهو لا شي معه، ألا ترى أن بريرة جاءت عائشة تخبرها بأنها
كاتبت أهلها وسألتها أن تعينها، وذلك كان في أول كتابتها قبل أن تؤدي منها شيئا،
كذلك ذكره ابن شهاب عن عروة أن عائشة أخبرته أن بريرة جاءت تستعينها في كتابتها
ولم تكن قضت من كتابتها شيئا، أخرجه البخاري وأبو داود. وفي هذا دليل على جواز
كتابة الامة، وهي غير ذات صنعة ولا حرفة ولا مال، ولم يسأل النبي صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هل لها كسب أو عمل واصب «1» أو مال، ولو كان هذا واجبا لسأل
عنه ليقع حكمه عليه، لأنه بعث مبينا معلما صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وفي
هذا الحديث ما يدل على أن من تأول في قوله تعالى:" إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ
خَيْراً" أن المال الخير، ليس بالتأويل الجيد، وأن الخير المذكور هو القوة
على الاكتساب مع الأمانة. والله أعلم. السادسة- الكتابة تكون بقليل المال وكثيره،
وتكون على أنجم، لحديث بريرة. وهذا ما لا خلاف فيه بين العلماء والحمد لله. فلو
كاتبه على ألف درهم ولم يذكر أجلا نجمت
__________
(1). وصب الشيء: دام. [.....]
عليه
بقدر سعايته وإن كره السيد. قال الشافعي: لا بد فيها من أجل، وأقلها ثلاثة أنجم.
واختلفوا إذا وقعت على نجم واحد فأكثر أهل العلم يجيزونها على نجم واحد. وقال
الشافعي: لا تجوز على نجم واحد، ولا تجوز حالة البتة، وإنما ذلك عتق على صفة، كأنه
قال: إذا أديت كذا وكذا فأنت حر وليست كتابة. قال ابن العربي: اختلف العلماء
والسلف في الكتابة إذا كانت حالة على قولين، واختلف قول علمائنا كاختلافهم.
والصحيح في النظر أن الكتابة مؤجلة، كما ورد بها الأثر في حديث بريرة حين كاتبت
أهلها على تسع أواق في كل عام أوقية، وكما فعلت الصحابة، ولذلك سميت كتابة لأنها
تكتب ويشهد عليها، فقد استوسق «1» الاسم والأثر، وعضده المعنى، فإن المال إن جعله
حالا وكان عند العبد شي فهو مال مقاطعة وعقد مقاطعة لا عقد كتابة. وقال ابن خويز
منداد: إذا كاتبه على مال معجل كان عتقا على مال، ولم تكن كتابة. وأجاز غيره من
أصحابنا الكتابة الحالة وسماها قطاعة، وهو القياس، لان الأجل فيها إنما هو فسحة
للعبد في التكسب. ألا ترى أنه لو جاء بالمنجم عليه قبل محله لوجب على السيد أن
يأخذه ويتعجل للمكاتب عتقه. وبجواز «2» الكتابة الحالة، قال الكوفيون. قلت: لم يرد
عن مالك نص في الكتابة الحالة، والأصحاب يقولون: إنها جائزة، ويسمونها قطاعة. وأما
قول الشافعي إنها لا تجوز على أقل من ثلاثة أنجم فليس بصحيح، لأنه لو كان صحيحا
لجاز لغيره أن يقول: لا يجوز على أقل من خمسة نجوم، لأنها أقل النجوم التي كانت
على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بريرة، وعلم بها النبي
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقضى فيها، فكان بصواب الحجة أولى. روى البخاري
عن عائشة أن بريرة دخلت عليها تستعينها في كتابتها وعليها خمسة أواق نجمت عليها في
خمس سنين ... الحديث. كذا قال الليث عن يونس عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة: وعليها
خمسة أواق نجمت عليها في خمس سنين. وقال أبو أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه عن
عائشة رضى الله عنها قالت: جاءت بريرة فقالت: إني كاتبت أهلي على تسع أواق ...
الحديث. وظاهر الروايتين
__________
(1). استوسق: اجتمع.
(2). في ك: وتجوز الكتابة الحالة. قاله إلخ.
تعارض،
غير أن حديث هشام أولى لاتصاله وانقطاع حديث يونس، لقول البخاري: وقال الليث حدثني
يونس، ولان هشاما أثبت في حديث أبيه وجده من غيره، والله أعلم. السابعة- المكاتب
عبد ما بقي عليه من مال الكتابة شي، لقوله عليه السلام: (المكاتب عبد ما بقي عليه
من مكاتبته درهم). أخرجه أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. وروي عنه أيضا
أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (أيما عبد كاتب على مائة دينار
فأداها إلا عشرة دنانير فهو عبد). وهذا قول مالك والشافعي وأبى حنيفة وأصحابهم
والثوري وأحمد وإسحاق وأبى ثور وداود والطبري. وروي ذلك عن ابن عمر من وجوه، وعن
زيد بن ثابت وعائشة وام سلمة، لم يختلف عنهم في ذلك رضى الله عنهم. وروي ذلك عن
عمر بن الخطاب، وبه قال ابن المسيب والقاسم وسالم وعطاء. قال مالك: وكل من أدركنا
ببلدنا يقول ذلك. وفيها قول آخر روي عن على أنه إذا أدى الشطر فهو غريم، وبه قال
النخعي. وروي ذلك عن عمر رضى الله عنه، والاسناد عنه بأن المكاتب عبد ما بقي عليه
درهم، خير من الاسناد عنه بأن المكاتب إذا أدى الشطر فلا رق عليه، قاله أبو عمر.
وعن على أيضا يعتق منه بقدر ما أذى. وعنه أيضا أن العتاقة تجري فيه بأول نجم
يؤديه. وقال ابن مسعود: إذا أدى ثلث الكتابة فهو عتيق غريم، وهذا قول شريح. وعن
ابن مسعود: لو كانت الكتابة مائتي دينار وقيمة العبد مائة دينار فأدى العبد المائة
التي هي قيمته عتق، وهو قول النخعي أيضا. وقول سابع- إذا أدى الثلاثة الأرباع وبقي
الربع فهو غريم ولا يعود عبدا، قاله عطاء بن أبى رباح، رواه ابن جريج عنه. وحكى عن
بعض السلف أنه بنفس عقد الكتابة حر، وهو غريم بالكتابة ولا يرجع إلى الرق «1» أبدا.
وهذا القول يرده حديث بريرة لصحته عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وفية دليل واضح على أن المكاتب عبد، ولولا ذلك ما بيعت بريرة، ولو كان فيها شي من
العتق ما أجاز بيع ذلك، إذ من سنته المجمع عليها ألا يباع الحر. وكذلك كتابة سلمان
وجويرية، فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حكم لجميعهم بالرق حتى أدوا
«2» الكتابة. وهى حجة للجمهور في أن المكاتب عبد ما بقي
__________
(1). أصحاب هذا القول يرون أنه پاسترد حريته لأنها الأصل في الإنسان محققة.
(2). في ك: يؤدوا.
عليه شي. وقد ناظر على بن أبى طالب زيد بن ثابت في المكاتب، فقال لعلى: أكنت راجمه لو زنى، أو مجيزا شهادته لو شهد؟ فقال على لا. فقال زيد: هو عبد ما بقي عليه شي. وقد روى النسائي عن على وابن عباس رضى الله عنهم عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: (المكاتب يعتق منه بقدر ما أدى ويقام عليه الحد بقدر ما أدى ويرث بقدر ما عتق منه). وإسناده صحيح. وهو حجة لما روي عن على، ويعتضد بما رواه أبو داود عن نبهان مكاتب أم سلمة قال سمعت أم سلمة تقول: قال لنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إذا كان لإحداكن مكاتب وكان عنده ما يؤدي فلتحتجب منه). وأخرجه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح. إلا أنه يحتمل أن يكون خطابا مع زوجاته، أخذا بالاحتياط والورع في حقهن، كما قال لسودة: (احتجبي منه) مع أنه قد حكم بأخوتها له، وبقوله لعائشة وحفصة: (أفعمياوان أنتما ألستما تبصرانه) يعنى ابن أم مكتوم، مع أنه قال لفاطمة بنت قيس: (اعتدي عند ابن أم مكتوم) وقد تقدم هذا المعنى. الثامنة- أجمع العلماء على أن المكاتب إذا حل عليه نجم من نجومه أو نجمان أو نجومه كلها فوقف السيد عن مطالبته وتركه بحاله أن الكتابة لا تنفسخ ما داما على ذلك ثابتين. التاسعة- قال مالك: ليس للعبد أن يعجز نفسه إذا كان له مال ظاهر، وإن لم يظهر له مال فذلك إليه. وقال الأوزاعي: لا يمكن من تعجيز نفسه إذا كان قويا على الأداء. وقال الشافعي: له أن يعجز نفسه، علم له مال أو قوة على الكتابة أو لم يعلم، فإذا قال: قد عجزت وأبطلت الكتابة فذلك إليه. وقال مالك: إذا عجز المكاتب فكل ما قبضه منه سيده قبل العجز حل له، كان من كسبه أو من صدقة عليه. وأما ما أعين به على فكاك رقبته فلم يف ذلك بكتابته كان لكل من أعانه الرجوع بما أعطى أو تحلل منه المكاتب. ولو أعانوه صدقة لا على فكاك رقبته فذلك إن عجز حل لسيده ولو تم به فكاكه وبقيت منه فضلة. فإن كان بمعنى الفكاك ردها إليهم بالحصص أو يحللونه منها. هذا كله مذهب مالك فيما ذكر ابن القاسم. وقال أكثر أهل العلم: إن ما قبضه السيد منه من كتابته، وما فضل بيده بعد عجزه
من
صدقة أو غيرها فهو لسيده، يطيب له أخذ ذلك كله. هذا قول الشافعي وأبى حنيفة
وأصحابهما وأحمد بن حنبل، ورواية عن شريح. وقال الثوري: يجعل السيد ما أعطاه في
الرقاب، وهو قول مسروق والنخعي، ورواية عن شريح. وقالت طائفة: ما قبض منه السيد
فهو له، وما فضل بيده بعد العجز فهو له دون سيده، وهذا قول بعض من ذهب إلى أن
العبد يملك. وقال إسحاق: ما أعطى بحال الكتابة رد على أربابه. العاشرة- حديث بريرة
على اختلاف طرقه وألفاظه يتضمن أن بريرة وقع فيها بيع بعد كتابة تقدمت. واختلف
الناس في بيع المكاتب بسبب ذلك. وقد ترجم البخاري (باب بيع المكاتب إذا رضى). وإلى
جواز بيعه للعتق إذا رضى المكاتب بالبيع ولو لم يكن عاجزا- ذهب ابن المنذر
والداودي، وهو الذي ارتضاه أبو عمر بن عبد البر، وبه قال ابن شهاب «1» وأبو الزناد
وربيعة غير أنهم قالوا: لان رضاه بالبيع عجز منه. وقال مالك وأبو حنيفة وأصحابهما:
لا يجوز بيع المكاتب ما دام مكاتبا حتى يعجز، ولا يجوز بيع كتابته بحال، وهو قول
الشافعي بمصر، وكان بالعراق يقول: بيعه جائز، وأما بيع كتابته فغير جائزة. وأجاز
مالك بيع الكتابة، فإن أداها عتق، وإلا كان رقيقا لمشتري الكتابة. ومنع من ذلك أبو
حنيفة، لأنه بيع غرر. واختلف قول الشافعي في ذلك بالمنع والإجازة. وقالت طائفة:
يجوز بيع المكاتب على أن يمضى في كتابته، فإن أدى عتق وكان ولاؤه للذي ابتاعه ولو
عجز فهو عبد له. وبه قال النخعي وعطاء والليث وأحمد وأبو ثور. وقال الأوزاعي: لا
يباع المكاتب إلا للعتق، ويكره أن يباع قبل عجزه، وهو قول أحمد وإسحاق. قال أبو
عمر: في حديث بريرة إجازة بيع المكاتب إذا رضى بالبيع ولم يكن عاجزا عن أداء نجم
قد حل عليه، بخلاف قول من زعم أن بيع
المكاتب غير جائز إلا بالعجز، لان بريرة لم تذكر أنها عجزت عن أداء نجم، ولا أخبرت
بأن النجم قد حل عليها، ولا قال لها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أعاجزة أنت أم هل حل عليك نجم. ولو لم يجز بيع المكاتب والمكاتبة إلا بالعجز عن
أداء ما قد حل لكان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد سألها أعاجزة هي
أم لا، وما كان ليأذن
__________
(1). في ك: أشهب.
في
شرائها إلا بعد علمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنها عاجزة ولو عن أداء
نجم واحد قد حل عليها. وفي حديث الزهري أنها لم تكن قضت من كتابتها شيئا. ولا أعلم
في هذا الباب حجة أصح من حديث بريرة هذا، ولم يرو عن النبي صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شي يعارضه، ولا في شي من الاخبار دليل على عجزها. استدل من منع
من بيع المكاتب بأمور: منها أن قالوا إن الكتابة المذكورة لم تكن انعقدت، وأن
قولها كاتبت أهلي معناه أنها راوضتهم عليها، وقدروا مبلغها وأجلها ولم يعقدوها.
وظاهر الأحاديث خلاف هذا إذا تؤمل مساقها. وقيل: إن بريرة عجزت عن الأداء فاتفقت
هي وأهلها على فسخ الكتابة، وحينئذ صح البيع، إلا أن هذا إنما يتمشى على قول من
يقول: إن تعجيز المكاتب غير مفتقر إلى حكم حاكم إذا اتفق العبد والسيد عليه، لان
الحق لا يعدوهما، وهو المذهب المعروف. وقال سحنون: لا بد من السلطان، وهذا إنما
خاف أن يتواطأ على ترك حق الله تعالى. ويدل على صحة أنها عجزت ما روي أن بريرة
جاءت عائشة تستعينها في كتابتها ولم تكن قضت من كتابتها شيئا، فقالت لها عائشة:
ارجعي إلى أهلك فإن أحبوا أن أقضى عنك كتابتك فعلت. فظاهر هذا أن جميع كتابتها أو
بعضها استحق عليها، لأنه لا يقضى من الحقوق إلا ما وجبت المطالبة به، والله أعلم.
هذه «1» التأويلات أشبه ما لهم وفيها من الدخل ما بيناه. وقال ابن المنذر: ولا
أعلم حجة لمن قال ليس له بيع المكاتب إلا أن يقول لعل بريرة عجزت. قال الشافعي:
وأظهر معانيه أن لمالك المكاتب بيعه. الحادية عشرة- المكاتب إذا أدى كتابته عتق
ولا يحتاج إلى ابتداء عتق من السيد. كذلك ولده الذين ولدوا في كتابته من أمته،
يعتقون بعتقه ويرقون برقه، لان ولد الإنسان من أمته بمثابته اعتبارا بالحر وكذلك
ولد المكاتبة، فإن كان لهما ولد قبل الكتابة لم يدخل في الكتابة إلا بشرط. الثانية
عشرة- (وآتوا هم من مال الله الذي آتاكم) هذا أمر للسادة بإعانتهم في مال الكتابة،
إما بأن يعطوهم شيئا مما في أيديهم- أعنى أيدي السادة- أو يحطوا عنهم شيئا
__________
(1). في ب وك: وهذان التأويلان أشبهه ما لهم وفيهما. إلخ.
من
مال الكتابة. قال مالك: يوضع عن المكاتب من آخر كتابته. وقد وضع ابن عمر خمسة آلاف
من خمسة وثلاثين ألفا. واستحسن على رضى الله عنه أن يكون ذلك ربع الكتابة. قال
الزهراوي: روي ذلك عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. واستحسن ابن مسعود
والحسن بن أبى الحسن ثلثها. وقال قتادة: عشرها. ابن جبير: يسقط عنه شيئا، ولم
يحده، وهو قول الشافعي، واستحسنه الثوري. قال الشافعي: والشيء أقل شي يقع عليه اسم
شي، ويجبر عليه السيد ويحكم به الحاكم على الورثة إن مات السيد. وراي مالك رحمه
الله تعالى هذا الامر على الندب، ولم ير لقدر الوضعية حدا. احتج الشافعي بمطلق
الامر في قوله:" وَآتُوهُمْ"، وراي أن عطف الواجب على الندب معلوم في
القرآن ولسان العرب كما قال تعالى:" إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ
وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى " «1» [النحل: 90] وما كان مثله. قال
ابن العربي: وذكره قبله إسماعيل بن إسحاق القاضي، جعل الشافعي الإيتاء واجبا،
والكتابة غير واجبة، فجعل الأصل غير واجب والفرع واجبا، وهذا لا نظير له، فصارت
دعوى محضة. فإن قيل: يكون ذلك كالنكاح لا يجب فإذا انعقد وجبت أحكامه، منها
المتعة. قلنا: عندنا لا تجب المتعة فلا معنى لأصحاب الشافعي. وقد كاتب عثمان بن
عفان عبده وحلف ألا يحطه ...، في حديث طويل. قلت: وقد قال الحسن والنخعي وبريدة
إنما الخطاب بقوله:" وَآتُوهُمْ" للناس أجمعين في أن يتصدقوا على
المكاتبين، وأن يعينوهم في فكاك رقابهم. وقال زيد بن أسلم: إنما الخطاب للولاة بأن
يعطوا المكاتبين من مال الصدقة حظهم، وهو الذي تضمنه قوله تعالى" وَفِي
الرِّقابِ" «2». وعلى هذين القولين فليس لسيد المكاتب أن يضع شيئا عن مكاتبه.
ودليل هذا أنه لو أراد حط شي من نجوم الكتابة لقال وضعوا عنهم كذا. الثالثة عشرة-
إذا قلنا: إن المراد بالخطاب السادة فرأى عمر بن الخطاب أن يكون ذلك من أول نجومه،
مبادرة إلى الخير خوفا ألا يدرك آخرها. وراي مالك رحمه الله تعالى وغيره أن يكون
الوضع من آخر نجم. وعلة ذلك أنه إذا وضع من أول نجم ربما عجز العبد
__________
(1). راجع ج 10 ص 165.
(2). راجع ج 8 ص 182.
فرجع
هو وماله إلى السيد، فعادت إليه وضيعته وهى شبه الصدقة. وهذا قول عبد الله ابن عمر
وعلى. وقال مجاهد: يترك له من كل نجم. قال ابن العربي: والأقوى عندي أن يكون في
آخرها، لان الاسقاط أبدا إنما يكون في أخريات الديون. الرابعة عشرة- المكاتب إذا
بيع للعتق رضا منه بعد الكتابة وقبض بائعه ثمنه لم يجب عليه أن يعطيه من ثمنه
شيئا، سواء باعه لعتق أو لغير عتق، وليس ذلك كالسيد يؤدي إليه مكاتب كتابته فيؤتيه
منها، أو يضع عنه من آخره نجما أو ما شاء، على ما أمر الله به في كتابه لان النبي
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يأمر موالي بريرة بإعطائها مما قبضوا شيئا،
وإن كانوا قد باعوها للعتق. الخامسة عشرة- اختلفوا في صفة عقد الكتابة، فقال ابن
خويز منداد: صفتها أن يقول السيد لعبده كاتبتك على كذا وكذا من المال، في كذا وكذا
نجما، إذا أديته فأنت حر. أو يقول له أد إلى ألفا في عشرة أنجم وأنت حر. فيقول
العبد قد قبلت ونحو ذلك من الألفاظ فمتى أداها عتق. وكذلك لو قال العبد كاتبني،
فقال السيد قد فعلت، أو قد كاتبتك. قال ابن العربي: وهذا لا يلزم، لان لفظ القرآن
لا يقتضيه والحال يشهد له، فإن ذكره فحسن، وإن تركه فهو معلوم لا يحتاج إليه.
ومسائل هذا الباب وفروعه كثيرة، وقد ذكرنا من أصوله جملة، فيها لمن اقتصر عليها
كفاية، والله الموفق للهداية. السادسة عشرة- في ميراث المكاتب، واختلف العلماء في
ذلك على ثلاثة أقوال: فمذهب مالك أن المكاتب إذا هلك وترك مالا أكثر مما بقي عليه
من كتابته وله ولد ولدوا في كتابته أو كاتب عليهم، ورثوا ما بقي من المال بعد قضاء
كتابته، لان حكمهم كحكمه، وعليهم السعي فيما بقي من كتابته لو لم يخلف مالا، ولا
يعتقون «1» إلا بعتقه، ولو أدى عنهم ما رجع بذلك عليهم، لأنهم يعتقون عليه، فهم
أولى بميراثه لأنهم مساوون له في جميع حاله. والقول الثاني- أنه يؤدى عنه من ماله
جميع كتابته، وجعل كأنه قد مات حرا، ويرثه جميع ولده، وسواء في ذلك من كان حرا قبل
موته من ولده ومن كاتب عليهم أو ولدوا
__________
(1). في ب: ولا يكتفون.
في كتابته لأنهم قد استووا في الحرية كلهم حين تأدت عنهم كتابتهم. روي هذا القول عن على وابن مسعود، ومن التابعين عن عطاء والحسن وطاوس وإبراهيم، وبه قال فقهاء الكوفة سفيان الثوري وأبو حنيفة وأصحابه والحسن بن صالح بن حي، وإليه ذهب إسحاق. والقول الثالث- أن المكاتب إذا مات قبل أن يؤدي جميع كتابته فقد مات عبدا، وكل ما يخلفه من المال فهو لسيده، ولا يرثه أحد من أولاده، لا الأحرار ولا الذين معه في كتابته، لأنه لما مات قبل أن يؤدي جميع كتابته فقد مات عبدا وماله لسيده، فلا يصح عتقه بعد موته، لأنه محال أن يعتق عبد بعد موته، وعلى ولده الذين كاتب عليهم أو ولدوا في كتابته أن يسعوا في باقى الكتابة، ويسقط عنهم منها قدر حصته، فإن أدوا عتقوا لأنهم كانوا فيها تبعا لأبيهم، وإن لم يؤدوا ذلك رقوا. هذا قول الشافعي، وبه قال أحمد ابن حنبل، وهو قول عمر بن الخطاب وزيد بن ثابت وعمر بن عبد العزيز والزهري وقتادة. قوله تعالى: (وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) روي عن جابر بن عبد الله وابن عباس رضى الله عنهم أن هذه الآية نزلت في عبد الله بن أبى، وكانت له جاريتان إحداهما تسمى معاذة والأخرى مسيكة، وكان يكرههما على الزنى ويضربهما عليه ابتغاء الأجر وكسب الولد، فشكتا ذلك إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فنزلت الآية فيه وفيمن فعل فعله من المنافقين. ومعاذة هذه أم خولة التي جادلت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في زوجها. وفي صحيح مسلم عن جابر أن جارية لعبد الله بن أبى يقال لها مسيكة وأخرى يقال لها أميمة فكان يكرههما على الزنى، فشكتا ذلك إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأنزل الله عز وجل" وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ"- إلى قوله-" غَفُورٌ رَحِيمٌ". قوله تعالى: (إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) راجع إلى الفتيات، وذلك أن الفتاة إذا أرادت التحصن فحينئذ يمكن ويتصور أن يكون السيد مكرها، ويمكن أن ينهى عن الإكراه. وإذا كانت الفتاة لا تريد التحصن فلا يتصور أن يقال للسيد لا تكرهها، لان الإكراه لا يتصور فيها وهى مريدة للزنى. فهذا أمر في سادة وفتيات حالهم هذه. وإلى هذا المعنى أشار ابن العربي
اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)
فقال:
إنما ذكر الله تعالى إرادة التحصن من المرأة لان ذلك هو الذي يصور الإكراه، فأما
إذا كانت هي راغبة في الزنى لم يتصور إكراه، فحصلوه. وذهب هذا النظر عن كثير من
المفسرين، فقال بعضهم قوله:" إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً" راجع إلى
الأيامى، قال الزجاج والحسين بن الفضل: في الكلام تقديم وتأخير، أي وأنكحوا
الأيامى والصالحين من عبادكم إن أردن تحصنا. وقال بعضهم: هذا الشرط في قول:"
إِنْ أَرَدْنَ" ملغى، ونحو ذلك مما يضعف والله الموفق. أي الشيء الذي تكسبه
الامة بفرجها والولد يسترق فيباع. وقيل: كان الزاني يفتدي ولده من المزني بها
بمائة من الإبل يدفعها إلى سيدها." وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ" أي
يقهرهن." فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ" لهن"
رَحِيمٌ" بهن. وقرا ابن مسعود وجابر بن عبد الله وابن جبير" لهن
غفور" بزيادة لهن. وقد مضى الكلام في الإكراه في [النحل «1»] والحمد لله. عدد
تعالى على المؤمنين نعمه فيما أنزل إليهم من الآيات المنيرات «2» وفيها ضرب لهم من
أمثال الماضين من الأمم ليقع التحفظ مما وقع أولئك فيه.
[سورة النور (24): آية 35]
اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ
الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ
شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها
يُضِي ءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ
مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ
عَلِيمٌ (35)
__________
(1). راجع ج 10 ص 180 فما بعد
(2). في ك: النيرات وفيما ضرب من أمثال
قوله
تعالى: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الآية «1» النور في كلام العرب:
الأضواء المدركة بالبصر. واستعمل مجازا فيما صح من المعاني ولاح فيقال منه: كلام
له نور. ومنه: الكتاب المنير، ومنه قول الشاعر:
نسب كأن عليه من شمس الضحا ... نورا ومن فلق الصباح عمودا
والناس يقولون: فلان نور البلد، وشمس العصر وقمره. وقال:
فإنك «2» شمس والملوك كواكب
وقال آخر:
هلا خصصت من البلاد بمقصد ... قمر القبائل خالد بن يزيد
وقال آخر:
إذا سار عبد الله من مرو ليلة ... فقد سار منها نورها وجمالها
فيجوز أن يقال: لله تعالى نور من جهة المدح لأنه أوجد الأشياء ونور جميع الأشياء
منه ابتداؤها وعنه صدورها وهو سبحانه ليس من الأضواء المدركة جل وتعالى عما يقول
الظالمون علوا كبيرا. وقد قال هشام الجوالقي وطائفة من المجسمة: هو نور لا
كالانوار، وجسم لا كالأجسام. وهذا كله محال على الله تعالى عقلا ونقلا على ما يعرف
في موضعه من علم الكلام. ثم إن قولهم متناقض، فإن قولهم جسم أو نور حكم عليه
بحقيقة ذلك، وقولهم لا كالانوار ولا كالأجسام نفي لما أثبتوه من الجسمية والنور،
وذلك متناقض، وتحقيقه في علم الكلام. والذي أوقعهم في ذلك ظواهر اتبعوها منها هذه
الآية، وقول عليه السلام إذا قام من الليل يتهجد (اللهم لك الحمد أنت نور السموات
والأرض). وقال عليه السلام وقد سئل: هل رأيت ربك؟ فقال: (رأيت نورا). إلى غير ذلك
من الأحاديث. واختلف العلماء في تأويل هذه الآية، فقيل: المعنى أي به وبقدرته
أنارت أضواؤها، واستقامت أمورها، وقامت مصنوعاتها. فالكلام على التقريب للذهن، كما
يقال: الملك نور أهل البلد، أي به قوام أمرها وصلاح جملتها، لجريان أموره على سنن
السداد. فهو في الملك
__________
(1). من ب وج وك
(2). هذا صدر بيت للنابغة الذبياني من قصيدة يمدح بها النعمان وعجزه:
إذا طلعت لم يبد منهن كوكب
مجاز،
وهو في صفة الله حقيقة محضة، إذ هو الذي أبدع الموجودات وخلق العقل نورا هاديا،
لان ظهور الموجود به حصل كما حصل بالضوء ظهور المبصرات، تبارك وتعالى لا رب غيره.
قال معناه مجاهد والزهري وغيرهما. قال ابن عرفة: أي منور السموات والأرض. وكذا قال
الضحاك والقرظي. كما يقولون: فلان غياثنا، أي مغيثنا. وفلان زادي، أي مزودي. قال
جرير:
وأنت لنا نور وغيث وعصمة ... ونبت لمن يرجو نداك وريق
أي ذو ورق. وقال مجاهد: مدبر الا امور في السموات والأرض. أبى بن كعب والحسن وأبو
العالية: مزين السموات بالشمس والقمر والنجوم، ومزين الأرض بالأنبياء والعلماء
والمؤمنين. وقال ابن عباس وأنس: المعنى الله هادي أهل السموات والأرض. والأول أعم
للمعاني وأصح مع التأويل. أي صفة دلائله التي يقذفها في قلب المؤمن، والدلائل تسمى
نورا. وقد سمى الله تعالى كتابه نورا فقال:" وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً
مُبِيناً" [النساء: 174] «1» وسمي نبيه نورا فقال:" قَدْ جاءَكُمْ مِنَ
اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ" [المائدة: 15]. وهذا لان الكتاب يهدي ويبين،
وكذلك الرسول. ووجه الإضافة إلى الله تعالى أنه مثبت الدلالة ومبينها وواضعها.
وتحتمل الآية معنى آخر ليس فيه مقابلة جزء من المثال بجزء من الممثل به، بل وقع
التشبيه فيه جملة بجملة، وذلك أن يريد مثل نور الله الذي هو هداه وإتقانه صنعة كل
مخلوق وبراهينه الساطعة على الجملة، كهذه الجملة من النور الذي تتخذونه أنتم على
هذه الصفة، التي هي أبلغ صفات النور الذي بين أيدي الناس، فمثل نور الله في الوضوح
كهذا الذي هو منتهاكم أيها البشر. والمشكاة: الكوة في الحائط غير النافذة، قال ابن
جبير وجمهور المفسرين، وهي أجمع للضوء، والمصباح فيها أكثر إنارة منه في غيرها،
واصلها الوعاء يجعل فيه الشيء. والمشكاة وعاء من أدم كالدلو يبرد فيها الماء، وهو
على وزن مفعلة كالمقراة «2» والمصفاة. قال الشاعر
__________
(1). راجع ج 6 ص 27 وص 117 [.....]
(2). المقراة: القصعة التي يقرى الضيف فيها
:
كأن عينيه مشكاتان في حجر ... قيضا اقتياضا بأطراف المناقير «1»
وقيل: المشكاة عمود القنديل الذي فيه الفتيلة. وقال مجاهد: هي القنديل. وقال"
فِي زُجاجَةٍ" لأنه جسم شفاف، والمصباح فيه أنور منه في غير الزجاج.
والمصباح: الفتيل بناره أي في الإنارة والضوء. وذلك يحتمل معنيين: إما أن يريد
أنها بالمصباح كذلك، وإما أن يريد أنها في نفسها لصفائها وجودة جوهرها كذلك. وهذا
التأويل أبلغ في التعاون على النور. قال الضحاك: الكوكب الدري هو الزهرة. أي من
زيت شجرة، فحذف المضاف. والمبارة المنماة، والزيتون من أعظم الثمار نماء، والرمان
كذلك. والعيان «2» يقتضي ذلك. وقول أبى طالب يرثي مسافر بن أبى عمرو بن أمية بن
عبد شمس:
ليت شعري مسافر بن أبى عم ... رو وليت يقولها المحزون
بورك الميت الغريب كما بو ... رك نبع الرمان والزيتون
وقيل: من بركتهما أن أغصانهما تورق من أسفلها إلى أعلاها. وقال ابن عباس: في
الزيتونة منافع، يسرج بالزيت، وهو إدام ودهان ودباغ، ووقود يوقد بحطبه وتفله، وليس
فيه شي إلا وفية منفعة، حتى الرماد يغسل به الإبريسم «3». وهي أول شجرة نبتت في
الدنيا، وأول شجرة نبتت بعد الطوفان، وتنبت في منازل الأنبياء والأرض المقدسة،
ودعا لها سبعون نبيا بالبركة، منهم إبراهيم، ومنهم محمد صلى الله «4» عليه وسلم
فإنه قال: (اللهم بارك في الزيت والزيتون). قاله مرتين «5». اختلف العلماء في قوله
تعالى:" لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ" فقال ابن عباس وعكرمة وقتادة
وغيرهم: الشرقية التي تصيبها الشمس إذا شرقت
__________
(1). ورد هذا البيت برواية أخرى في كتاب الصناعتين لأبى هلال العسكري وقد نسبه
لأبى زبيد. والرواية فيه.
كأن عينيه في وقبين من حجر ... قيضا ... الخ
والوقب: نقرة في الصخرة يجتمع فيها الماء. وقيضا: شقتا. والمناقير: واحده منقار،
وهي حديدة كالفأس تنقر بها الحجر وغيره
(2). كذا في ب وك. أى المشاهد
(3). الإبريسم: معرب، وفيه ثلاث لغات، وهو الحرير
(4). من ك
(5). في هـ وك: في مسند الدارمي مرفوعا كلوا الزيت وادهنوا به فانه يخرج من شجرة
مباركة
ولا تصيبها إذا غربت لان لها سترا. والغربية عكسها، أو أنها شجرة في صحراء ومنكشف من الأرض لا يواريها عن الشمس شي وهو أجود لزيتها، فليست خالصة للشرق فتسمى شرقية ولا للغرب فتسمى غربية، بل هي شرقيا غربية. وقال الطبري عن ابن عباس: إنها شجرة في دوحة قد أحاطت بها، فهي غير منكشفة من جهة الشرق ولا من جهة الغرب. قال ابن عطية: وهذا قول لا يصح عن ابن عباس لان الثمرة التي بهذه الصفة يفسد جناها وذلك مشاهد في الوجود. وقال الحسن: ليست هذه الشجرة من شجر الدنيا، وإنما هو مثل ضربه الله تعالى لنوره، ولو كانت في الدنيا لكانت إما شرقية وإما غربية. الثعلبي: وقد أفصح القرآن بأنها من شجر الدنيا، لأنها بدل من الشجرة، فقال" زَيْتُونَةٍ". وقال ابن زيد: إنها من شجر الشام، فإن شجر الشام لا شرقي ولا غربي، وشجر الشام هو أفضل الشجر، وهى الأرض المباركة. و" شَرْقِيَّةٍ" نعت ل"- زَيْتُونَةٍ" و" لا" ليست تحول بين النعت والمنعوت،" وَلا غَرْبِيَّةٍ" عطف عليه. قوله تعالى: (يَكادُ زَيْتُها يُضِي ءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ) مبالغة في حسنه وصفائه وجودته. (نُورٌ عَلى نُورٍ) أي اجتمع في المشكاة ضوء المصباح إلى ضوء الزجاجة وإلى ضوء الزيت فصار لذلك نور على نور. واعتقلت هذه الأنوار في المشكاة فصارت كأنور ما يكون، فكذلك براهين الله تعالى واضحة، وهى برهان بعد برهان، وتنبيه بعد تنبيه، كإرساله الرسل وإنزاله الكتب، ومواعظ تتكرر فيها لمن له عقل معتبر. ثم ذكر تعالى هداه لنوره من شاء وأسعد من عباده، وذكر تفضله للعباد في ضرب الأمثال لتقع لهم العبرة والنظر المؤدي إلى الايمان. وقرا عبد الله بن عياش بن أبى ربيعة وأبو عبد الرحمن السلمى" اللَّهُ نُورُ" بفتح النون والواو المشددة. واختلف المتأولون في عود الضمير في" نُورِهِ" على من يعود، فقال كعب الأحبار وابن جبير: هو عائد على محمد صلى اله عليه وسلم، أي مثل نور محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال ابن الأنباري:" اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ" وقف حسن، ثم تبتدئ" مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ" على معنى نور محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقال أبى بن كعب وابن جبير
أيضا
والضحاك: هو عائد على المؤمنين. وفي قراءة أبى:" مثل نور المؤمنين".
وروي أن في قراءته" مثل نور المؤمن". وروي أن فيها" مثل نور من آمن
به". وقال الحسن: هو عائد على القرآن والايمان. قال ما: وعلى هذه الأقوال
يوقف على قوله:" وَالْأَرْضِ". قال ابن عطية: وهذه الأقوال فيها عود
الضمير على من لم يجر له ذكر، وفيها مقابلة جزء من المثال بجزء من الممثل، فعلى من
قال الممثل به محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو قول كعب الحبر، «1»
فرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو المشكاة أو صدره والمصباح هو
النبوة وما يتصل بها من عمله «2» وهداه، والزجاجة قلبه، والشجرة المباركة هي
الوحى، والملائكة رسل الله إليه وسببه المتصل به، والزيت هو الحجج والبراهين
والآيات التي تضمنها الوحى. ومن قال: الممثل به المؤمن، وهو قول أبى، فالمشكاة صدره،
والمصباح الايمان والعلم، والزجاجة قلبه، وزيتها هو الحجج والحكمة التي تضمنها.
قال أبى: فهو على أحسن الحال يمشى في الناس كالرجل الحي يمشى في قبور الأموات. ومن
قال: إن الممثل به هو القرآن والايمان، فتقدير الكلام: مثل نوره الذي هو الايمان
في صدر المؤمن في قلبه كمشكاة، أي كهذه الجملة. وهذا القول ليس في مقابلة التشبيه
كالأولين، لان المشكاة ليست تقابل الايمان. وقالت طائفة: الضمير في"
نُورِهِ" عائد على الله تعالى. وهذا قول ابن عباس فيما ذكر الثعلبي والماوردي
والمهدوي، وقد تقدم معناه. ولا يوقف على هذا القول على" الْأَرْضِ". قال
المهدوي: الهاء لله عز وجل، والتقدير: الله هادي أهل السموات والأرض، مثل هداه في
قلوب المؤمنين كمشكاة، وروي ذلك عن ابن عباس. وكذلك قال زيد بن أسلم، والحسن: إن
الهاء لله عز وجل. وكان أبى وابن مسعود يقرءانها" مثل نوره في قلب المؤمن كمشكاة".
قال محمد بن على الترمذي: فأما غيرهما فلم يقرأها في التنزيل هكذا، وقد وافقهما في
التأويل أن ذلك نوره قلب المؤمن، وتصديقه في آية أخرى يقول:" أَفَمَنْ شَرَحَ
اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ «3» رَبِّهِ" [الزمر
: 22]. واعتل الأولون بأن قالوا: لا يجوز أن يكون الهاء لله عز وجل، لان الله عز
وجل لا حد
__________
(1). الحبر (بالفتح والكسر): العالم ذميا كان أو مسلما. وكعب الحبر (بالكسر):
منسوب إلى الحبر الذي يكتب به، لأنه صاحب كتب. في ك: كعب الأحبار.
(2). في ابن عطية:" من علمه".
(3). راجع ج 15 ص 246.
لنوره. وأمال الكسائي فيما روى عنه أبو عمر الدوري الالف من" مشكاة" وكسر الكاف التي قبلها. وقرا نصر بن عاصم:" زجاجة" بفتح الزاي و" الزُّجاجَةُ" كذلك، وهى لغة. وقرا ابن عامر وحفص عن عاصم:" دُرِّيٌّ" بضم الدال وشد الياء، ولهذه القراءة وجهان: إما أن ينسب الكوكب إلى الدر لبياضه وصفائه، وإما أن يكون أصله درئ مهموز، فعيل من الدرء وهو الدفع، وخففت الهمزة. ويقال للنجوم العظام التي لا تعرف أسماؤها: الدراري، بغير همز فلعلهم خففوا الهمزة، والأصل من الدرء الذي هو الدفع. وقرا حمزة وأبو بكر عن عاصم:" درئ" بالهمز والمد، وهو فعيل من الدرء، بمعنى أنها يدفع بعضها بعضا. وقرا الكسائي وأبو عمرو:" درئ" بكسر الدال والهمز من الدرء والدفع، مثل السكير والفسيق. قال سيبويه: أي يدفع بعض ضوئه بعضا من لمعانه. قال النحاس: وضعف أبو عبيد قراءة أبى عمرو والكسائي تضعيفا شديدا، لأنه تأولها من درأت أي دفعت، أي كوكب يجري من الأفق إلى الأفق. وإذا كان التأويل على ما تأوله لم يكن في الكلام فائدة، ولا كان لهذا الكوكب مزية على أكثر الكواكب، ألا ترى أنه لا يقال جاءني إنسان من بنى آدم. ولا ينبغي أن يتأول لمثل أبى عمرو والكسائي مع علمهما وجلالتهما هذا التأويل البعيد، ولكن التأويل لهما على ما روي عن محمد بن يزيد أن معناهما في ذلك: كوكب مندفع بالنور، كما يقال: اندرأ الحريق أن اندفع. وهذا تأويل صحيح لهذه القراءة. وحكى سعيد بن مسعدة أنه يقال: درأ الكوكب بضوئه إذا امتد ضوءه وعلا. وقال الجوهري في الصحاح: ودرأ علينا فلان يدرأ دروءا أي طلع مفاجأة. ومنه كوكب درئ، على فعيل، مثل سكير وخمير، لشدة توقده وتلألئه. وقد درأ الكوكب دروءا. وقال أبو عمرو بن العلاء سألت رجلا من سعد بن بكر من أهل ذات عرق فقلت: هذا الكوكب الضخم ما تسمونه؟ قال: الدري، وكان من أفصح الناس. قال النحاس: فأما قراءة حمزة فأهل اللغة جميعا قالوا: هي لحن لا تجوز، لأنه ليس في كلام العرب اسم على فعيل. وقد اعترض أبو عبيد في هذا فاحتج لحمزة فقال: ليس هو فعيل وإنما هو فعول، مثل سبوح، أبدل من الواو ياء، كما قالوا: عتى. قال أبو جعفر النحاس: وهذا الاعتراض والاحتجاج من أعظم الغلط
وأشده،
لان هذا لا يجوز البتة، ولو جاز ما قال لقيل في سبوح «1» سبيح، وهذا لا يقوله أحد،
وليس عتى من هذا، والفرق بينهما واضح بين، لأنه ليس يخلو عتي من إحدى جهتين: إما
أن يكون جمع عات فيكون البدل فيه لازما، لان الجمع باب تغيير، والواو لا تكون طرفا
في الأسماء وقبلها ضمة، فلما كان قبل هذه ساكن وقبل الساكن ضمة والساكن ليس بحاجز
حصين أبدل من الضمة كسرة فقلبت الواو ياء. وإن كان عتى واحدا كان بالواو أولى،
وجاز قلبها لأنها طرف، والواو في فعول ليست طرفا فلا يجوز قلبها. قال الجوهري: قال
أبو عبيد إن ضممت الدال قلت دري، يكون منسوبا إلى الدر، على فعلى ولم تهمزه لأنه
ليس في كلام العرب فعيل. ومن همزه من القراء فإنما أراد فعولا مثل سبوح فاستثقل
[لكثرة «2» الضمات ] فرد بعضه إلى الكسر. وحكى الأخفش عن بعضهم:" درئ"
من درأته، وهمزها وجعلها على فعيل مفتوحة الأول. قال: وذلك من تلألئه. قال
الثعلبي: وقرا سعيد بن المسيب وأبو رجاء:" درئ" بفتح الدال مهموزا. قال
أبو حاتم: هذا خطأ لأنه ليس في الكلام فعيل، فإن صح عنهما فهما حجة. (يُوقَدُ) قرأ
شيبة ونافع وأيوب وسلام وابن عامر واهل الشام وحفص:" يُوقَدُ" بياء
مضمومة وتخفيف القاف وضم الدال. وقرا الحسن والسلمى وأبو جعفر وأبو عمرو بن العلاء
البصري:" توقد" مفتوحة الحروف كلها مشددة القاف، واختارها أبو حاتم وأبو
عبيد. قال النحاس: وهاتان القراءتان متقاربتان، لأنهما جميعا للمصباح، وهو أشبه
بهذا الوصف، لأنه الذي ينير ويضيء، وإنما الزجاجة وعاء له. و" توقد" فعل
ماض من توقد يتوقد، ويوقد فعل مستقبل من أوقد يوقد. وقرا نصر ابن عاصم:"
توقد" والأصل على قراءته تتوقد حذف إحدى التاءين لان الأخرى تدل عليها. وقرا
الكوفيون:" توقد" بالتاء يعنون الزجاجة. فهاتان القراءتان على تأنيث
الزجاجة. (مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ)
تقدم القول فيه
. (يَكادُ زَيْتُها يُضِي ءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ) على
تأنيث النار. وزعم أبو عبيد أنه لا يعرف إلا هذه القراءة. وحكى أبو حاتم أن السدي
روى عن أبى مالك عن ابن عباس أنه قرأ:" وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ"
بالياء. قال محمد بن يزيد: التذكير على أنه تأنيث غير حقيقي، وكذا سبيل المؤنث
عنده.
__________
(1). في ك: شيوخ شييخ.
(2). من ب وك.
وقال
ابن عمر: المشكاة جوف محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والزجاجة قلبه،
والمصباح النور الذي جعله الله تعالى في قلبه يوقد شجرة مباركة، أي أن أصله من
إبراهيم وهو شجرته، فأوقد الله تعالى في قلب محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ النور كما جعله في قلب إبراهيم عليه السلام. وقال محمد بن كعب: المشكاة
إبراهيم، والزجاجة إسماعيل، والمصباح محمد صلوات الله عليهم أجمعين، سماه الله
تعالى مصباحا كما سماه سراجا فقال:" وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ
وَسِراجاً مُنِيراً «1»" [الأحزاب: 46] يوقد من شجرة مباركة وهى آدم عليه
السلام، بورك في نسله وكثر منه الأنبياء والأولياء. وقيل: هي إبراهيم عليه السلام،
سماه الله تعالى مباركا لان أكثر الأنبياء كانوا من صلبه. (لا شَرْقِيَّةٍ وَلا
غَرْبِيَّةٍ) أي لم يكن يهوديا ولا نصرانيا وإنما كان حنيفا مسلما. وإنما قال ذلك
لان اليهود تصلى قبل المغرب والنصارى تصلى فبل المشرق. (يَكادُ زَيْتُها يُضِي ءُ)
أي يكاد محاسن محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تظهر للناس قبل أن أوحى
الله تعالى إليه. (نُورٌ عَلى نُورٍ) نبى من نسل نبى. وقال الضحاك: شبه عبد المطلب
بالمشكاة وعبد الله بالزجاجة والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمصباح
كان في قلبهما، فورث النبوة من إبراهيم." مِنْ شَجَرَةٍ" أي شجرة التقى
والرضوان وعشيرة الهدى والايمان شجرة أصلها نبوة، وفرعها مروءة، وأغصانها تنزيل،
وورقها تأويل، وخدمها جبريل وميكائيل. قال القاضي أبو بكر ابن العربي: ومن غريب
الامر أن بعض الفقهاء قال إن هذا مثل ضربه الله تعالى لإبراهيم ومحمد ولعبد المطلب
وابنه عبد الله، فالمشكاة هي الكوة بلغة الحبشة، فشبه عبد المطلب بالمشكاة فيها
القنديل وهو الزجاجة، وشبه عبد الله بالقنديل وهو الزجاجة، ومحمد كالمصباح يعنى من
أصلابهما، وكأنه كوكب دري وهو المشتري" يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ
مُبارَكَةٍ" يعنى إرث النبوة من إبراهيم عليه السلام هو الشجرة المباركة،
يعنى حنيفية لا شرقية ولا غربية، لا يهودية ولا نصرانية." يَكادُ زَيْتُها
يُضِي ءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ" يقول: يكاد إبراهيم يتكلم بالوحي من
قبل أن يوحى إليه." نُورٌ عَلى نُورٍ" إبراهيم ثم محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ. قال القاضي: وهذا كله عدول عن الظاهر، وليس يمتنع في التمثيل أن يتوسع
المرء فيه.
__________
(1). راجع ج 14 ص 199 فما بعد.
فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38)
قلت:
وكذلك في جميع الأقوال لعدم ارتباطه بالآية ما عدا القول الأول، وأن هذا مثل ضربه
الله تعالى لنوره، ولا يمكن أن يضرب لنوره المعظم مثلا تنبيها لخلقه إلا ببعض
خلقه، لان الخلق لقصورهم لا يفهمون إلا بأنفسهم ومن أنفسهم، ولولا ذلك ما عرف الله
إلا الله وحده، قاله ابن العربي. قال ابن عباس: هذا مثل نور الله وهداه في قلب
المؤمن كما يكاد الزيت الصافي يضئ قبل أن تمسه النار، فإن مسته النار، زاد ضوءه،
كذلك قلب المؤمن يكاد يعمل بالهدى قبل أن يأتيه العلم، فإذا جاءه العلم زاده هدى
على هدى ونورا على نور، كقول إبراهيم من قبل أن تجيئه المعرفة:" هذا رَبِّي
«1»"، من قبل أن يخبره أحد أن له ربا، فلما أخبره الله أنه ربه زاد هدى،
ف"- قالَ لَهُ رَبُّهُ: أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ»
" [البقرة: 131]. ومن قال إن هذا مثل للقرآن في قلب المؤمن قال: كما أن هذا
المصباح يستضاء به ولا ينقص فكذلك القرآن يهتدى به ولا ينقص، فالمصباح القرآن،
والزجاجة قلب المؤمن، والمشكاة لسانه وفهمه، والشجرة المباركة شجرة الوحى. (يَكادُ
زَيْتُها يُضِي ءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ) تكاد حجج القرآن تتضح ولو لم
يقرأ. (نُورٌ عَلى نُورٍ) يعنى أن القرآن نور من الله تعالى لخلقه، مع ما أقام لهم
من الدلائل والاعلام قبل نزول القرآن، فازدادوا بذلك نورا على نور. ثم أخبر أن هذا
النور المذكور عزيز، وأنه لا يناله إلا من أراد الله هداه فقال: (يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ
مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ) أي يبين الأشباه تقريبا
إلى الافهام. (وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) أي بالمهدي والضال. وروي عن ابن
عباس أن اليهود قالوا: يا محمد، كيف يخلص نور الله تعالى من دون السماء، فضرب الله
تعالى ذلك مثلا لنوره.
[سورة النور (24): الآيات 36 الى 38]
فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ
لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (36) رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا
بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ
يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ
أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ
بِغَيْرِ حِسابٍ (38)
__________
(1). راجع ج 7 ص 25.
(2). راجع ج 2 ص 134. [.....]
قوله
تعالى: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ
يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ. رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ
وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ) فيه تسع
عشرة مسألة: الاولى- قوله تعالى: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ)
الباء في" بُيُوتٍ" تضم وتكسر، وقد تقدم «1». واختلف في الفاء من
قوله:" فِي" فقيل: هي متعلقة ب" مِصْباحٌ". وقيل: ب"
يُسَبِّحُ لَهُ"، فعلى هذا التأويل يوقف على" عَلِيمٌ". قال ابن
الأنباري: سمعت أبا العباس يقول هو حال للمصباح والزجاجة والكوكب، كأنه قال وهى في
بيوت. وقال الترمذي الحكيم محمد بن على:" فِي بُيُوتٍ" منفصل، كأنه
يقول: الله في بيوت أذن الله أن ترفع، وبذلك جاءت الاخبار أنه (من جلس في المسجد
فإنه يجالس ربه). وكذا ما جاء في الخبر فيما يحكى عن التوراة (أن المؤمن إذا مشى
إلى المسجد قال الله تبارك اسمه عبدي زارني وعلى قراه ولن أرضى له قرى دون الجنة).
قال ابن الأنباري: إن جعلت" فِي" متعلقة ب"- يُسَبِّحُ" أو
رافعة للرجال حسن الوقف على قوله" وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ"
[البقرة: 282]. وقال الرماني: هي متعلقة ب" يُوقَدُ" وعليه فلا يوقف
على" عَلِيمٌ". فإن قيل: فما الوجه إذا كان البيوت متعلقة ب"
يُوقَدُ" في توحيد المصباح والمشكاة وجمع البيوت؟ ولا يكون مشكاة واحدة إلا
في بيت واحد. قيل: هذا من الخطاب المتلون الذي يفتح: بالتوحيد ويختم بالجمع، كقوله
تعالى:" يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ" «2»
[الطلاق: 1] ونحوه. وقيل: رجع إلى كل واحد من البيوت. وقيل: هو كقوله تعالى:"
وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً" «3» [نوح: 16] وإنما هو في واحدة منها.
واختلف الناس في البيوت هنا على خمسة أقوال: الأول- أنها المساجد المخصوصة لله
تعالى بالعبادة، وأنها تضيء لأهل السماء كما تضيء النجوم لأهل الأرض، قاله ابن
عباس ومجاهد والحسن. الثاني- هي بيوت بيت المقدس، عن الحسن أيضا. الثالث- بيوت
النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عن مجاهد أيضا. الرابع- هي البيوت كلها،
قاله عكرمة. وقوله:" يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ"
يقوي أنها المساجد. وقول خامس- أنها المساجد الاربعة التي
__________
(1). راجع ج 2 ص 346.
(2). راجع ج 18 ص 147 فما بعد.
(3). راجع ج 18 ص 304.
لم
يبنها إلا نبى: الكعبة وبيت أريحا ومسجد المدينة ومسجد قباء، قاله ابن بريدة. وقد
تقدم ذلك في" براءة" «1». قلت- الأظهر القول الأول، لما رواه أنس بن
مالك عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (من أحب الله عز وجل
فليحبني ومن أحبنى فليحب أصحابي ومن أحب أصحابي فليحب القرآن ومن أحب القرآن فليحب
المساجد فإنها أفنية الله أبنيته أذن الله في رفعها وبارك فيها ميمونة ميمون أهلها
محفوظة محفوظ أهلها هم في صلاتهم والله عز وجل في حوائجهم هم في مساجدهم والله من
ورائهم (. الثانية- قوله تعالى (أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ)" أَذِنَ"
معناه أمر وقضى. وحقيقة الاذن العلم والتمكين دون حظر، فإن اقترن بذلك أمر وإنقاذ
كان أقوى. و" تُرْفَعَ" قيل: معناه تبنى وتعلى، قاله مجاهد وعكرمة. ومنه
قوله تعالى:" وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ"
«2» [البقرة: 127] وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (من بنى مسجدا من ماله
بنى الله له بيتا في الجنة). وفي هذا المعنى أحاديث كثيرة تحض على بنيان المساجد.
وقال الحسن البصري وغيره: معنى" تُرْفَعَ" تعظم، ويرفع شأنها، وتطهر من
الأنجاس والأقذار، ففي الحديث (إن المسجد لينزوي من النجاسة كما ينزوي الجلد من النار).
وروى ابن ماجة في سننه عن أبى سعيد الخدري قال قال رسول الله: (من أخرج أذى من
المسجد بنى الله له بيتا في الجنة). وروي عن عائشة قالت: أمرنا رسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن نتخذ المساجد في الدور وأن تطهر وتطيب. الثالثة-
إذا قلنا: إن المراد بنيانها فهل تزين وتنقش؟ اختلف في ذلك، فكرهه قوم وأباحه
آخرون. فروى حماد بن سلمة عن أيوب عن أبى قلابة عن أنس، وقتادة عن أنس أن رسول
الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في
المساجد). أخرجه أبو داود. وفي البخاري- وقال أنس: (يتباهون بها ثم لا يعمرونها
إلا قليلا). وقال
__________
(1). راجع ج 8 ص 260.
(2). راجع ج 2 ص 120.
ابن
عباس: لتزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى. وروى الترمذي الحكيم أبو عبد الله في
نوادر الأصول من حديث أبى الدرداء قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: (إذا زخرفتم مساجدكم وحليتم مصاحفكم فالدبار عليكم). احتج من أباح ذلك
بأن فيه تعظيم المساجد والله تعالى أمر بتعظيمها في قوله:" فِي بُيُوتٍ
أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ" يعنى تعظم. وروي عن عثمان أنه بنى مسجد النبي
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالساج «1» وحسنه. قال أبو حنيفة: لا بأس بنقش
المساجد بماء الذهب. وروي عن عمر بن عبد العزيز أنه نقش مسجد النبي صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبالغ في عمارته وتزيينه، وذلك في زمن ولايته قبل خلافته، ولم
ينكر عليه أحد ذلك. وذكر أن الوليد بن عبد الملك أنفق في عمارة مسجد دمشق وفي
تزيينه مثل خراج الشام ثلاث مرات. وروي أن سليمان بن داود عليهما [الصلاة و«2»]
السلام بنى مسجد بيت المقدس وبالغ في تزيينه. الرابعة- ومما تصان عنه المساجد
وتنزه عنه الروائح الكريهة والأقوال السيئة وغير ذلك على ما نبينه، وذلك من
تعظيمها. وقد صح من حديث ابن عمر رضى الله عنهما أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال في غزوة تبوك: (من أكل من هذه الشجرة- يعنى الثوم- فلا
يأتين المساجد). وفي حديث جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه سلم قال: (من
أكل من هذه البقلة الثوم) وقال مرة: (من أكل البصل والثوم والكراث فلا يقربن
مسجدنا فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم). وقال عمر بن الخطاب رضى الله
عنه في خطبته: (ثم إنكم أيها الناس تأكلون شجرتين ولا أراهما إلا خبيثتين، هذا
البصل والثوم، لقد رأيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا وجد
ريحهما من رجل في المسجد أمر به فأخرج إلى البقيع، فمن أكلهما فليمتهما طبخا. خرجه
مسلم في صحيحه. قال العلماء: وإذا كانت العلة في إخراجه من المسجد أنه يتأذى به
ففي القياس أن كل من تأذى به جيرانه في المسجد بأن يكون ذرب اللسان سفيها عليهم،
أو كان ذا رائحة قبيحة لا تريمه «3» لسوء صناعته، أو عاهة مؤذية كالجذاء
__________
(1). الساج: شجر يعظم جدا، لا ينبت ببلاد الهند، وخشبة رزين، لا تكاد الأرض تبليه.
(2). من ك.
(3). أي لا تفارقه.
وشبهه.
وكل ما يتأذى به الناس كان لهم إخراجه ما كانت العلة موجودة فيه حتى تزول. وكذلك
يجتنب مجتمع الناس حيث كان لصلاة أو غيرها كمجالس العلم والولائم وما أشبهها، من
أكل الثوم وما في معناه، مما له رائحة كريهة تؤذي الناس. ولذلك جمع بين البصل
والثوم والكراث، وأخبر أن ذلك مما يتأذى به. قال أبو عمر بن عبد البر: وقد شاهدت
شيخنا أبا عمر أحمد بن عبد الملك بن هشام رحمه الله أفتى في رجل شكاه جيرانه
واتفقوا عليه أنه يؤذيهم في المسجد بلسانه ويده فشوور فيه، فأفتى بإخراجه من
المسجد وإبعاده عنه، وألا يشاهد «1» معهم الصلاة، إذ لا سبيل مع جنونه واستطالته
إلى السلامة منه، فذاكرته يوما أمره وطالبته بالدليل فيما أفتى به من ذلك وراجعته
فيه القول، فاستدل بحديث الثوم، وقال: هو عندي أكثر أذى من أكل الثوم، وصاحبه يمنع
من شهود الجماعة في المسجد. قلت: وفي الإثار المرسلة" إن الرجل ليكذب الكذبة
فيتباعد الملك من نتن ريحه". فعلى هذا يخرج من عرف منه الكذب والتقول «2» بالباطل
فإن ذلك يؤذي. الخامسة- أكثر العلماء على أن المساجد كلها سواء، لحديث ابن عمر.
وقال بعضهم: إنما خرج النهى على مسجد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
من أجل جبريل عليه السلام ونزوله فيه، ولقوله في حديث جابر: (فلا يقربن مسجدنا).
والأول أصح، لأنه ذكر الصفة في الحكم وهى المسجدية، وذكر الصفة في الحكم تعليل.
وقد روى الثعلبي بإسناده عن أنس رضى الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يأتي الله يوم القيامة بمساجد الدنيا كأنها نجائب بيض
قوائمها من العنبر وأعناقها من الزعفران ورءوسها من المسك وأزمتها من الزبرجد
الأخضر وقوامها المؤذنون فيها يقودونها وأئمتها يسوقونها وعمارها متعلقون بها
فتجوز عرصات القيامة كالبرق الخاطف فيقول أهل الموقف هؤلاء ملائكة مقربون وأنبياء
مرسلون فينادي ما هؤلاء بملائكة ولا أنبياء ولكنهم أهل المساجد والمحافظون على
الصلوات من أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (. وفي التنزيل:"
إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ" «3» [التوبة: 18].
وهذا عام
__________
(1). في ك: يشهد.
(2). في ك: والقول الباطل.
(3). راجع ج 8 ص 90.
في
كل مسجد. وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إذا رأيتم الرجل يعتاد
المسجد فاشهدوا له بالايمان) إن الله تعالى يقول:" إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ
اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ" [التوبة: 18]. وقد تقدم.
السادسة: وتصان «1» المساجد أيضا عن البيع والشراء وجميع الاشتغال، لقوله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للرجل الذي دعا إلى الجمل الأحمر «2»: (لا وجدت إنما
بنيت المساجد لما بنيت له). أخرجه مسلم من حديث سليمان بن بريدة عن أبيه أن النبي
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما صلى قام رجل فقال: من دعا إلى الجمل
الأحمر؟ فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لا وجدت إنما بنيت
المساجد لما بنيت له). وهذا يدل على أن الأصل ألا يعمل في المسجد غير الصلوات
والاذكار وقراءة القرآن. وكذا جاء مفسرا من حديث أنس قال: بينما نحن في المسجد مع
رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ جاء أعرابي فقام يبول في المسجد،
فقال أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مه مه، فقال النبي
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لا تزرموه دعوه) «3». فتركوه حتى بال، ثم إن
رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعاه فقال له: (إن هذه المساجد لا
تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر إنما هي لذكر الله والصلاة وقراءة القرآن). أو
كما قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال: فأمر رجلا من القوم
فجاء بدلو من ماء فشنه «4» عليه. خرجه مسلم. ومما يدل على هذا من الكتاب قول
الحق:" وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ". وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لمعاوية بن الحكم السلمي: (إن هذه المساجد «5» لا يصلح فيها شي من كلام
الناس إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن). أو كما قال رسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. الحديث بطوله خرجه مسلم في صحيحه، وحسبك وسمع عمر بن
الخطاب رضي الله عنه صوت رجل في المسجد فقال: ما هذا الصوت؟ أتدري أين أنت! وكان
خلف بن أيوب جالسا في مسجده فأتاه غلامه يسأله عن شي فقام وخرج من المسجد وأجابه،
فقيل له في ذلك فقال: ما تكلمت في المسجد بكلام الدنيا منذ كذا وكذا، فكرهت أن
أتكلم اليوم.
__________
(1). في ك: ويصان المسجد
(2). أى من وجد ضالتي، وهو الجمل الأحمر فدعاني إليه
(3). أى لا تقطعوا عليه بوله، يقال: ز رم البول (بالكسر) انقطع، وأوزمه غيره
[.....]
(4). الشن: الصب المنقطع، أى رشه عليه رشا متفرقا
(5). الذي في صحيح مسلم: إن هذه الصلاة ...
السابعة:
روى الترمذي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه نهى عن تناشد الاشعار في المسجد، وعن البيع والشراء فيه،
وأن يتحلق الناس يوم الجمعة قبل الصلاة. قال: وفي الباب عن بريدة وجابر وأنس حديث
عبد الله بن عمر وحديث حسن. قال محمد بن إسماعيل: رأيت محمدا «1» وإسحاق وذكر
غيرهما يحتجون بحديث عمرو بن شعيب. وقد كره قوم من أهل العلم البيع والشراء في
المسجد، وبه يقول أحمد وإسحاق. وروي أن عيسى ابن مريم عليهما السلام أتى على قوم
يتبايعون في المسجد فجعل رداءه مخراقا «2»، ثم جعل يسعى عليهم ضربا ويقول: يا
أبناء الأفاعي، اتخذتم مساجد الله أسواقا هذا سوق الآخرة. قلت: وقد كره بعض
أصحابنا تعليم الصبيان في المساجد، وراي أنه من باب البيع. وهذا إذا كان بأجرة،
فلو كان بغير أجرة لمنع أيضا من وجه آخر، وهو أن الصبيان لا يتحرزون عن الأقذار
والوسخ، فيؤدي ذلك إلى عدم تنظيف المساجد، وقد أمر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بتنظيفها وتطييبها فقال: (جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم وسل سيوفكم
وإقامة حدودكم ورفع أصواتكم وخصوماتكم وأجمروها في الجمع واجعلوا على أبوابها
المطاهر (. في إسناده العلاء بن كثير الدمشقي مولى بني أمية، وهو ضعيف عندهم، ذكره
أبو أحمد بن عدي الجرجاني الحافظ. وذكر أبو أحمد أيضا من حديث على بن أبى طالب رضي
الله عنه قال: صليت صليت العصر مع عثمان أمير المؤمنين فرأى خياطا في ناحية المسجد
فأمر بإخراجه، فقيل له: يا أمير المؤمنين، إنه يكنس المسجد ويغلق الأبواب ويرش
أحيانا. فقال عثمان: إنى سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول:
(جنبوا صناعكم من مساجدكم). هذا حديث غير محفوظ، في إسناده محمد بن مجيب الثقفي،
وهو ذاهب الحديث. قلت: ما ورد في هذا المعنى وإن كان طريقه لينا فهو صحيح معنى،
يدل على صحته ما ذكرناه قبل. قال الترمذي: وقد روي عن بعض أهل العالم من التابعين
رخصة في البيع
__________
(1). الذي في الترمذي:" أحمد".
(2). المخراق: ثوب يلف ويضرب به الصبيان بعضهم بعضا.
والشراء
في المسجد. وقد روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غير حديث رخصة
في إنشاد الشعر في المسجد. قلت: أما تناشد الاشعار فاختلف في ذلك، فمن مانع مطلقا،
ومن مجيز مطلقا، والاولى التفصيل، وهو أن ينظر إلى الشعر فإن كان مما يقتضى الثناء
على الله عز وجل أو على رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو الذب عنهما
كما كان شعر حسان، أو يتضمن الحض على الخير والوعظ والزهد في الدنيا والتقلل منها،
فهو حسن في المساجد وغيرها، كقول القائل:
طوفي يا نفس كي أقصد فردا صمدا ... وذريني لست أبغى غير ربى أحدا
فهو أنسى وجليسي ودعى الناس ... فما إن تجدي من دونه ملتحدا «1»
وما لم يكن كذلك لم يجز، لان الشعر في الغالب لا يخلو عن الفواحش والكذب والتزين
بالباطل، ولو سلم من ذلك فأقل ما فيه اللغو والهذر، والمساجد منزهة عن ذلك، لقوله
تعالى:" فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ". وقد يجوز إنشاده في
المسجد، كقول القائل:
كفحل العداب «2» القرد يضربه الندى ... تعلى الندى في متنه وتحدرا
وقول الأخر:
إذا سقط السماء بأرض قوم ... رعيناه وإن كانوا غضابا
فهذا النوع وإن لم يكن فيه حمد ولا ثناء يجوز، لأنه خال عن الفواحش والكذب. وسيأتي
ذكر الاشعار الجائزة وغيرها بما فيه كفاية في" الشعراء" إن شاء الله
تعالى. وقد روي الدارقطني من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضى الله عنها
قالت: ذكر الشعراء عند رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: (هو
كلام حسنه حسن وقبيحه قبيح). وفي الباب عن عبد الله بن عمرو بن العاص وأبى هريرة
وابن عباس عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ذكره في السنن. قلت:
وأصحاب الشافعي يأثرون هذا الكلام عن الشافعي وأنه لم يتكلم به غيره، وكأنهم لم
يقفوا على الأحاديث في ذلك. والله أعلم.
__________
(1). من مجزوه الرمل وإنشاده:"
طوفي يا نفس كي أف ... - صد فردا صمدا.
(2). العداب (بالفتح والدال المهملة): ما استرق من الرمل. وقيل: جانبه الذي يرق
ويلي الجدد من الأرض. الواحد والجمع سواه؟.
الثامنة-
وأما رفع الصوت فإن كان مما يقتضى مصلحة للرافع صوته دعى عليه بنقيض قصده، لحديث
بريرة المتقدم، وحديث أبى هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: (من سمع رجلا ينشد ضالة في المسجد فليقل لا ردها الله عليك فإن المساجد
لم تبن لهذا). وإلى هذا ذهب مالك وجماعة، حتى كرهوا رفع الصوت في المسجد في العلم
وغيره. وأجاز أبو حنيفة وأصحابه ومحمد بن مسلمة من أصحابنا رفع الصوت في الخصومة
والعلم، قالوا: لأنهم لا بد لهم من ذلك. وهذا مخالف لظاهر الحديث، وقولهم:"
لا بد لهم من ذلك" ممنوع، بل لهم بد من ذلك لوجهين: أحدهما: بملازمة الوقار
والحرمة، وبإحضار ذلك بالبال والتحرز من نقيضه. والثاني: أنه إذا لم يتمكن من ذلك
فليتخذ لذلك موضعا يخصه، كما فعل عمر حيث بنى رحبة تسمى البطيحاء، وقال: من أراد
أن يلغط أو ينشد شعرا- يعنى في مسجد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
فليخرج إلى هذه الرحبة. وهذا يدل على أن عمر كان يكره إنشاد الشعر في المسجد،
ولذلك بنى البطيحاء خارجه. التاسعة- وأما النوم في المسجد لمن احتاج إلى ذلك من
رجل أو امرأة من الغرباء ومن لا بيت له فجائز، لان في البخاري- وقال أبو قلابة عن
أنس: قدم رهط من عكل على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكانوا في الصفة
«1»، وقال عبد الرحمن بن أبى بكر: كان أصحاب الصفة فقراء. وفي الصحيحين عن ابن عمر
أنه كان ينام وهو شاب أعزب لا أهل له في مسجد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ. لفظ البخاري: وترجم (باب نوم المرأة في المسجد) وأدخل حديث عائشة في
قصة السوداء «2»، التي اتهمها أهلها بالوشاح، قالت عائشة: وكان لها خباء في المسجد
أو حفش «3» ... الحديث. ويقال: كان مبيت عطاء بن أبى رباح في المسجد أربعين سنة.
__________
(1). موضع مظلل في أخريات المسجد النبوي تأوى إليه المساكين.
(2). السوداء: ...؟ سوداء كانت لحى من العرب، فاتهموها بسرقة وشاح وطفقوا يفتشون
حتى فتشوا قبلها. قالت: والله إنى لقائمة معهم إذ مرت الحدياة فألقته بينهم ...
فجاءت إلى رسول الله عليه وسلم فأسلمت، فكان لها خباء في المسجد ...... راجع صحيح
البخاري (باب المساجد).
(3). الخباء: الخيمة من صوف أو وبر. والحفش (بكسر الحاء وسكون الفاء): بيت صغير.
العاشرة-
روى مسلم عن أبى حميد أو عن أبى أسيد قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: (إذا دخل أحدكم المسجد فليقل اللهم افتح لي أبواب رحمتك وإذا خرج فليقل
اللهم إنى أسألك من فضلك). خرجه أبو داود كذلك، إلا أنه زاد بعد قوله: (إذا دخل
أحدكم المسجد: فليسلم وليصل «1» على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم
ليقل اللهم افتح لي ...) الحديث. وروى ابن ماجة عن فاطمة بنت رسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالت: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إذا دخل المسجد قال: (باسم الله والسلام على رسول الله اللهم أغفر لي
ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك وإذا خرج قال باسم الله والصلاة على رسول الله اللهم
اغفر لي ذنوبي وأفتح لي أبواب رحمتك وفضلك". وروى عن أبى هريرة أن رسول الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (إذا دخل أحدكم المسجد فليصل على النبي
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وليقل اللهم افتح لي أبواب رحمتك وإذا خرج
فليسلم على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وليقل اللهم اعصمني من
الشيطان الرجيم (. وخرج أبو داود عن حيوة بن شريح قال: لقيت عقبة بن مسلم فقلت له
بلغني أنك حدثت عن عبد الله بن عمرو بن العاصي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أنه كان إذا دخل المسجد قال: (أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وسلطانه
القديم من الشيطان الرجيم) قال نعم. قال: فإذا قال ذلك قال الشيطان: حفظ منى سائر
اليوم. الحادية عشرة- روى مسلم عن أبى قتادة أن رسول الله صلى عليه وسلم قال: (إذا
دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس) وعنه قال: دخلت المسجد ورسول الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جالس بين ظهراني الناس، قال فجلست فقال رسول
الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ما منعك أن تركع ركعتين قبل أن تجلس)؟
فقلت: يا رسول الله، رأيتك جالسا والناس جلوس. قال: (فإذا دخل أحدكم المسجد فلا
يجلس حتى يركع ركعتين). قال العلماء: فجعل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
للمسجد مزية يتميز بها عن سائر البيوت، وهو ألا يجلس حتى يركع. وعامة العلماء «2»
على أن الامر بالركوع على الندب والترغيب.
__________
(1). الذي في سنن أبى داود (فليسلم على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ).
(2). في ك: الفقهاء.
وقد
ذهب داود وأصحابه إلى أن ذلك على الوجوب، وهذا باطل، ولو كان الامر على ما قالوه
لحرم دخول المسجد على المحدث الحدث الأصغر حتى يتوضأ، ولا قائل به فيما أعلم،
والله أعلم. فإن قيل: فقد روى إبراهيم بن يزيد عن الأوزاعي عن يحيى بن أبى كثير عن
أبى سلمة عن عبد الرحمن عن أبى هريرة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: (إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يركع ركعتين وإذا دخل أحدكم بيته
فلا يجلس حتى يركع ركعتين فإن الله جاعل من ركعتيه في بيته خيرا (، وهذا يقتضى
التسوية بين المسجد والبيت. قيل [له «1»]: هذه الزيادة في الركوع عند دخول البيت
لا أصل لها، قال ذلك البخاري. وإنما يصح في هذا حديث أبى قتادة الذي تقدم لمسلم،
وإبراهيم هذا لا أعلم روى عنه إلا سعد ابن عبد الحميد، ولا أعلم له إلا هذا الحديث
الواحد، قاله أبو محمد عبد الحق. الثانية عشرة- روى سعيد بن زبان حدثني أبى عن
أبيه عن جده عن أبى هند رضى الله عنه قال: حمل تميم- يعنى الداري- من الشام إلى
المدينة قناديل وزيتا ومقطا، فلما انتهى إلى المدينة وافق ذلك ليلة الجمعة فأمر
غلاما يقال له أبو البزاد فقام فنشط «2» المقط وعلق القناديل وصب فيها الماء
والزيت وجعل فيها الفتيل، فلما غربت الشمس أمر أبا البزاد فأسرجها، وخرج رسول الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى ال مسجد فإذا هو بها تزهر، فقال: (من فعل
هذا)؟ قالوا: تميم الداري يا رسول الله، فقال: (نورت الإسلام نور الله عليك في
الدنيا والآخرة أما إنه لو كانت لي ابنة لزوجتكها). قال نوفل بن الحارث: لي ابنة يا
رسول الله تسمى المغيرة بنت نوفل فافعل بها ما أردت، فأنكحه إياها. زبان (بفتح
الزاي والباء وتشديدها بنقطة واحدة من تحتها) ينفرد بالتسمى به سعيد وحده، فهو أبو
عثمان سعيد بن زبان ابن قائد بن زبان بن أبى هند، وأبو هند هذا مولى بنى «3» بياضة
حجام النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. والمقط: جمع المقاط، وهو الحبل،
فكأنه مقلوب القماط. والله أعلم. وروى ابن ماجة عن أبى سعيد الخدري قال: أول من
أسرج في المساجد تميم الداري. وروي عن أنس أن النبي
__________
(1). من ب وك.
(2). نشط الحبل: ربطه.
(3). كذا في ب وك. وهو الصواب. [.....]
صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (من أسرج في مسجد سراجا لم تزل الملائكة وحملة
العرش يصلون عليه ويستغفرون له ما دام ذلك الضوء فيه وإن كنس غبار المسجد نقد
الحور العين (. قال العلماء: ويستحب أن ينور البيت الذي يقرأ فيه القرآن بتعليق
القناديل ونصب الشموع فيه، ويزاد في شهر رمضان في أنوار المساجد. الثالثة عشرة-
قوله تعالى: (يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ. رِجالٌ) اختلف
العلماء في وصف الله تعالى المسبحين، فقيل: هم المراقبون أمر الله، الطالبون
رضاءه، الذين لا يشغلهم عن الصلاة وذكر الله شيء من أمور الدنيا. وقال كثير من
الصحابة: نزلت هذه الآية في أهل الأسواق الذين إذا سمعوا النداء بالصلاة تركوا كل
شغل وبادروا. وراي سالم ابن عبد الله أهل الأسواق وهم مقبلون إلى الصلاة فقال:
هؤلاء الذين أراد الله بقوله:" لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ
ذِكْرِ اللَّهِ". وروي ذلك عن ابن مسعود. وقرا عبد الله بن عامر وعاصم في
رواية أبى بكر عنه والحسن" يسبح له فيها" بفتح الباء على ما لم يسم
فاعله. وكان نافع وابن عمر وأبو عمرو وحمزة يقرءون" يُسَبِّحُ" بكسر
الباء، وكذلك روى أبو عمرو عن عاصم. فمن قرأ" يسبح" بفتح الباء كان على
معنيين: أحدهما أن يرتفع" رِجالٌ" بفعل مضمر دل عليه الظاهر، بمعنى
يسبحه رجال، فيوقف على هذا على" الْآصالِ". وقد ذكر سيبويه مثل هذا.
وأنشد:
ليبك يزيد ضارع لخصومة ... ومختبط مما تطيح الطوائح «1»
المعنى: يبكيه ضارع. وعلى هذا تقول: ضرب زيد عمرو، على معنى ضربه عمرو. والوجه
الأخر- أن يرتفع" رِجالٌ" بالابتداء، والخبر" فِي بُيُوتٍ"،
أي في بيوت أذن الله أن ترفع. رجال. و" يسبح له فيها" حال من الضمير
في" تُرْفَعَ"، كأنه قال: أن ترفع،
__________
(1). اختلف في قائله، ونسبه صاحب الخزانة لنهشل بن حرى. وهذا البيت من أبيات في
مرثية أخيه يزيد، ومطلعها:
لعمري لئن أمسى يزيد بن نهشل ... حشا جدت تسفى عليه الروائح
وقوله:" ضارع" من الضراعة، وهو الخضوع والتذلل. و" المختبط"
الذي يسألك من غير معرفة كانت بينكما، وأراد به هنا المحتاج. و" تطيح"
تذهب وتهلك. و" الطوائح" جمع مطيحة، وهى القواذف. و" الحشا. ما في
البطن. و" حديث" بفتح الجيم والثاء: القبر. و" الروامح":
الأيام الروائح.
مسبحا
له فيها، ولا يوقف على" الْآصالِ" على هذا التقدير. ومن قرأ"
يُسَبِّحُ" بكسر الباء لم يقف على" الْآصالِ"، لان"
يسبح" فعل للرجال، والفعل مضطر إلى فاعله ولا إضمار فيه. وقد تقدم القول
في" بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ" في آخر" الأعراف" «1» والحمد
لله وحده. الرابعة عشرة- قوله تعالى: (يُسَبِّحُ لَهُ فِيها) قيل: معناه يصلى.
وقال ابن عباس: كل تسبيح في القرآن صلاة، ويدل عليه قوله:" بِالْغُدُوِّ
وَالْآصالِ"، أي بالغداة والعشي. وقال أكثر المفسرين: أراد الصلاة المفروضة،
فالغدو صلاة الصبح، والآصال صلاة الظهر والعصر والعشاءين، لان اسم الآصال يجمعها.
الخامسة عشرة- روى أبو داود عن أبى أمامة أن رسول الله صلى عليه وسلم قال: (من خرج
من بيته متطهرا إلى صلاة مكتوبة فأجره كأجر الحاج المحرم ومن خرج إلى تسبيح الضحا
لا ينصبه إلا إياه فأجره المعتمر وصلاة على إثر صلاة [لا لغو بينهما «2»] كتاب في
عليين (. وخرج عن بريدة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:) بشر
المشاءين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة (. وفي صحيح مسلم عن أبى
هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:) من غدا إلى المسجد أو راح
أعد الله له نزلا في الجنة كلما غدا أو راح (. في غير الصحيح من الزيادة (كما أن
أحدكم لو زار من يحب زيارته لاجتهد في كرامته)، ذكره الثعلبي. وخرج مسلم من حديث
أبى هريرة رضى الله عنه قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (من
تطهر في بيته ثم مشى إلى بيت من بيوت الله ليقضى فريضة من فرائض الله كانت خطوتاه
إحداهما تحط خطيئة والأخرى ترفع درجة). وعنه قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (صلاة الرجل في جماعة تزيد على صلاته في بيته وصلاته في سوقه
بضعا وعشرين درجة وذلك أن أحدهم إذا توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى المسجد لا ينهزه»
إلا الصلاة لا يريد إلا الصلاة فلم يخط خطوة إلا رفع له بها درجة وحط عنه بها
خطيئة حتى يدخل المسجد فإذا دخل المسجد كان في الصلاة ما كانت الصلاة هي تحبسه
والملائكة يصلون على
__________
(1). راجع ج ص 355 فما بعد.
(2). زيادة عن سنن أبى داود.
(3). النهز: الدفع.
أحدكم
ما دام في مجلسه الذي صلى فيه يقولون اللهم ارحمه اللهم اغفر له اللهم تب عليه ما
لم يؤذ فيه ما لم يحدث فيه (. في رواية: ما يحدث؟ قال:) يفسو أو يضرط (. وقال حكيم
بن زريق: قيل لسعيد بن المسيب أحضور الجنازة أحب إليك أم الجلوس في المسجد؟ فقال:
من صلى على جنازة فله قيراط، ومن شهد دفنها فله قيراطان، والجلوس في المسجد أحب
إلى، لان الملائكة تقول: اللهم اغفر له اللهم ارحمه اللهم تب عليه. وروي عن الحكم
بن عمير صاحب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال قال رسول الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (كونوا في الدنيا أضيافا واتخذوا المساجد
بيوتا وعودوا قلوبكم الرقة وأكثروا التفكر والبكاء ولا تختلف بكم الاهواء. تبنون
ما لا تسكنون وتجمعون ما لا تأكلون وتؤملون ما لا تدركون (. وقال أبو الدرداء
لابنه: ليكن المسجد بيتك فإنى سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يقول: (إن المساجد بيوت المتقين ومن كانت المساجد بيته ضمن الله تعالى له الروح
والراحة والجواز على الصراط). وكتب أبو صادق الأزدي إلى شعيب بن الحبحاب: أن عليك
بالمساجد فألزمها، فإنه بلغني أنها كانت مجالس الأنبياء. وقال أبو إدريس الخولاني:
المساجد مجالس الكرام من الناس. وقال مالك بن دينار: بلغني أن الله تبارك وتعالى
يقول: (إنى أهم بعذاب عبادي فأنظر إلى عمار المساجد وجلساء القرآن وولدان الإسلام
فيسكن غضبى). وروي عنه عليه السلام أنه قال: (سيكون في آخر الزمان رجال يأتون
المساجد فيقعدون فيها حلقا حلقا ذكرهم الدنيا وحبها فلا تجالسوهم فليس لله بهم
حاجة). وقال ابن المسيب: من جلس في مسجد فإنما يجالس ربه، فما حقه أن يقول إلا خيرا.
وقد مضى من تعظيم المساجد وحرمتها ما فيه «1» كفاية. وقد جمع بعض العلماء في ذلك
خمس عشرة خصلة، فقال: من حرمة المسجد أن يسلم وقت الدخول إن كان القوم جلوسا، وإن
لم يكن في المسجد أحد قال: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، وأن يركع ركعتين
قبل أن يجلس، وألا يشتري فيه ولا يبيع، ولا يسل فيه سهما ولا سيفا، ولا يطلب فيه
ضالة، ولا يرفع فيه صوتا
__________
(1). راجع ج 8 ص 90.
بغير
ذكر الله تعالى، ولا يتكلم فيه بأحاديث الدنيا، ولا يتخطى رقاب الناس، ولا ينازع
في المكان، ولا يضيق على أحد في الصف، ولا يمر بين يدي مصل، ولا يبصق، ولا يتنخم،
ولا يتمخط فيه، ولا يفرقع أصابعه، ولا يعبث بشيء من جسده، وأن ينزه عن النجاسات
والصبيان والمجانين، وإقامة الحدود، وأن يكثر ذكر الله تعالى ولا يغفل عنه. فإذا
فعل هذه الخصال فقد أدى حق المسجد، وكان المسجد حرزا له وحصنا من الشيطان الرجيم.
وفي الخبر (أن مسجدا ارتفع بأهله إلى السماء يشكوهم إلى الله لما يتحدثون فيه من
أحاديث الدنيا). وروي الدارقطني عن عامر الشعبي قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (من اقتراب الساعة أن يرى الهلال قبلا «1» فيقال لليلتين وأن
تتخذ المساجد طرقا وأن يظهر موت الفجأة). هذا يرويه عبد الكبير بن المعافى عن شريك
عن العباس بن ذريح عن الشعبي عن أنس. وغيره يرويه عن الشعبي مرسلا، والله أعلم.
وقال أبو حاتم: عبد الكبير بن معافى ثقة كان يعد من الابدال «2». وفي البخاري عن
أبى موسى عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (من مر في شي من
مساجدنا أو أسواقنا بنبل فليأخذ على نصالها لا يعقر بكفه مسلما). وخرج مسلم عن أنس
قال قال وسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (البزاق في المسجد خطيئة
وكفارتها دفنها). وعن أبى ذر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
(عرضت على أعمال أمتي حسنها وسيئها فوجدت في محاسن أعمالها الأذى يماط عن الطريق
ووجدت في مساوي أعمالها النخاعة «3» تكون في المسجد لا تدفن (. وخرج أبو داود عن
الفرج بن فضالة عن أبى سعد «4» الحميري قال: رأيت واثلة بن الأسقع في مسجد دمشق
بصق على الحصير ثم مسحه برجله، فقيل له: لم فعلت هذا؟ قال: لأني رأيت رسول الله
صلى عليه وسلم يفعله. فرج بن فضالة ضعيف، وأيضا فلم يكن في مسجد رسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حصر. والصحيح أن رسول الله صلى
__________
(1). قال ابن الأثير:" أي يرى ساعة ما يطلع لعظمه ووضوحه من أن يتطلب. وهو
بفتح القاف والباء".
(2). الابدال: قوم من الصالحين، بهم يقيم الله الأرض: أربعون في الشام وثلاثون في
سائر البلاد، لا يموت منهم أحد إلا قام مكانه آخر، فلذلك سموا أبدالا. وواحد
الابدال العباد بدل وبدل. وقال ابن دريد: الواحد بديل.
(3). النخاعة: النخامة
(4). في الأصول:" عن أبى سعيد الخدري" وهو تحريف، لان فرج ابن فضالة لم
يرو عن أبى سعيد الخدري، وإنما روى عن أبى سعد الحميري، وأبو سعد هذا صاحب واثلة
بن الأسقع.
الله
عليه وسلم إنما بصق على الأرض ودلكه بنعله اليسرى، ولعل واثلة إنما أراد هذا فحمل
الحصير عليه. السادسة عشرة- لما قال تعالى:" رِجالٌ" وخصهم بالذكر دل
على أن النساء لا حظ لهن في المساجد، إذ لا جمعة عليهن ولا جماعة، وأن صلاتهن في
بيوتهن أفضل. روى أبو داود عن عبد الله رضى الله عنه عن النبي صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها وصلاتها
في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها). السابعة عشرة- قوله تعالى:" لا
تُلْهِيهِمْ" أي لا تشغلهم. (تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ) خص
التجارة بالذكر لأنها أعظم ما يشتغل به الإنسان عن الصلاة. فإن قيل: فلم كرر ذكر
البيع والتجارة تشمله؟ قيل له: أراد بالتجارة الشراء لقوله:" ولا بيع".
نظيره قول تعالى:" وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا
إِلَيْها" «1» [الجمعة: 11] قاله الواقدي. وقال الكلبي: التجار هم الجلاب
المسافرون، والباعة هم المقيمون. (عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ) اختلف في تأويله، فقال
عطاء: يعنى حضور الصلاة، وقال ابن عباس، وقال: المكتوبة. وقيل: عن الأذان، ذكره
يحيى بن سلام. وقيل: عن ذكره بأسمائه الحسنى، أي يوحدونه ويمجدونه. والآية نزلت في
أهل الأسواق، قاله ابن عمر. قال سالم: جاز عبد الله بن عمر بالسوق وقد أغلقوا
حوانيتهم وقاموا ليصلوا في جماعة فقال: فيهم نزلت:" رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ
تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ" الآية. وقال أبو هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (هم الذين يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله). وقيل: إن
رجلين كانا في عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أحدهما بياعا فإذا
سمع النداء بالصلاة فإن كان الميزان بيده طرحه ولا يضعه وضعا، وإن كان بالأرض لم
يرفعه. وكان الأخر قينا يعمل السيوف للتجارة، فكان إذا كانت مطرقته على السندان
أبقاها موضوعة، وإن كان قد رفعها ألقاها من وراء ظهره إذا سمع الأذان، فأنزل الله
تعالى هذا ثناء عليهما وعلى كل من افتدى بهما.
__________
(1). راجع ج 18 ص 97.
الثامنة
عشرة- قوله تعالى: (وَإِقامِ الصَّلاةِ) هذا يدل على أن المراد بقوله:" عن
ذكر الله" غير الصلاة، لأنه يكون تكرارا. يقال: أقام الصلاة إقامة، والأصل
إقواما فقلبت حركة الواو على القاف فانقلبت الواو ألفا وبعدها ألف ساكنة فحذفت
إحداهما، وأثبتت الهاء لئلا تحذفها فتجحف، فلما أضيفت قام المضاف مقام الهاء فجاز
حذفها، وإن لم تضف لم يجز حذفها، ألا ترى أنك تقول: وعد عدة، ووزن زنة، فلا يجوز
حذف الهاء، لأنك قد حذفت واوا، لان الأصل وعد وعدة، ووزن وزنة، فإن أضفت حذفت
الهاء، وأنشد الفراء:
إن الخليط أجدوا البين فانجردوا ... وأخلفوك عد الامر الذي وعدوا
يريد عدة، فحذف الهاء لما أضاف. وروي من حديث أنس قال قال رسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يأتي الله يوم القيامة بمساجد الدنيا كأنها نجب بيض
قوائمها من العنبر وأعناقها من الزعفران ورءوسها من المسك وأزمتها من الزبرجد
الأخضر وقوامها والمؤذنون فيها يقودونها وأئمتها يسوقونها وعمارها متعلقون بها
فتجوز عرصات القيامة كالبرق الخاطف فيقول أهل الموقف هؤلاء ملائكة مقربون أو
أنبياء مرسلون فينادى ما هؤلاء بملائكة ولا أنبياء ولكنهم أهل المساجد والمحافظون
على الصلوات من أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (. وعن على رضى الله
عنه أنه قال: يأتي على الناس زمان لا يبقى من الإسلام إلا اسمه، ولا من القرآن إلا
رسمه، يعمرون مساجدهم وهى من ذكر الله خراب، شر أهل ذلك الزمن علماؤهم، منهم تخرج
الفتنة واليهم تعود، يعنى أنهم يعلمون ولا يعملون بواجبات ما علموا. التاسعة عشرة-
قوله تعالى: (وَإِيتاءِ الزَّكاةِ) قيل: الزكاة المفروضة، قاله الحسن. وقال ابن
عباس: الزكاة هنا طاعة الله تعالى والإخلاص، إذ ليس لكل مؤمن مال. (يَخافُونَ
يَوْماً) يعنى يوم القيامة. (تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ) يعنى من
هوله وحذر الهلاك. والتقلب التحول، والمراد قلوب الكفار وأبصارهم. فتقلب القلوب
انتزاعها من أماكنها إلى الحناجر، فلا هي ترجع إلى أماكنها ولاهي تخرج. وأما تقلب
الأبصار فالزرق بعد الكحل والعمى بعد البصر. وقيل: تتقلب القلوب بين الطمع في
النجاة والخوف من
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39)
الهلاك،
والأبصار تنظر من أي ناحية يعطون كتبهم، وإلى أي ناحية يؤخذ بهم. وقيل: إن قلوب
الشاكين تتحول عما كانت عليه من الشك، وكذلك أبصارهم لرؤيتهم اليقين، وذلك مثل قول
تعالى:" فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ" «1»
[ق: 22] فما كان يراه في الدنيا غيا يراه رشدا، إلا أن ذلك لا ينفعهم في الآخرة.
وقيل: تقلب على جمر جهنم كقوله تعالى:" يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي
النَّارِ" «2» [الأحزاب: 66]،" وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ"
«3» [الانعام: 110]. في قول من جعل المعنى تقلبها على لهب النار. وقيل: تقلب بأن
تلفحها النار مرة وتنضجها مرة. وقيل: إن تقلب القلوب وجيبها «4»، وتقلب الأبصار
النظر بها إلى نواحي الأهوال. (لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا) فذكر
الجزاء على الحسنات، ولم يذكر الجزاء على السيئات وإن كان يجازي عليها لأمرين:
أحدهما- أنه ترغيب، فاقتصر على ذكر الرغبة. الثاني- أنه في صفة قوم لا تكون منهم
الكبائر، فكانت صغائرهم مغفورة. (وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) يحتمل وجهين:
أحدهما- ما يضاعفه من الحسنة بعشر أمثالها. الثاني- ما يتفضل به من غير جزاء.
(وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) أي من غير أن يحاسبه على ما
أعطاه، إذ لا نهاية لعطائه. وروي أنه لما نزلت هذه الآية أمر رسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ببناء مسجد قباء، فحضر عبد الله بن رواحة فقال: يا
رسول الله، قد أفلح من بنى المساجد؟ قال: (نعم يا بن رواحة) قال: وصلي فيها قائما
وقاعدا؟ قال: (نعم يا بن رواحة) قال: ولم يبت لله إلا ساجدا؟ قال: (نعم يا ابن
رواحة. كف عن السجع فما أعطى عبد شيئا شرا من طلاقة في لسانه)، ذكره الماوردي.
[سورة النور (24): آية 39]
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً
حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ
حِسابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (39)
__________
(1). راجع ج 17 ص 15.
(2). راجع ج 14 ص 249.
(3). راجع ج 7 ص 65.
(4). وجب القلب وجيبا: اضطرب. [.....]
قوله
تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ) لما ضرب مثل
المؤمن ضرب مثل الكافر. قال مقاتل: نزلت في شيبة بن ربيعة بن عبد شمس، كان يترهب
متلمسا للدين، فلما خرج صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كفر. أبو سهل: في أهل
الكتاب. الضحاك: في أعمال الخير للكافر، كصلة الرحم ونفع الجيران. والسراب: ما يرى
نصف النهار في اشتداد الحر، كالماء في المفاوز يلتصق بالأرض. والال الذي يكون ضحا
كالماء إلا أنه يرتفع عن الأرض حتى يصير كأنه بين الأرض والسماء. وسمي السراب
سرابا لأنه يسرب أي يجري كالماء. ويقال: سرب الفحل أي مضى وسار في الأرض. ويسمى
الال أيضا، ولا يكون إلا في البرية والحر فيغتر به العطشان. قال الشاعر:
فكنت كمهريق الذي في سقائه ... لرقراق آل فوق رابية صلد
وقال آخر:
فلما كففنا الحرب كانت عهودهم ... كلمع سراب بالفلا متألق
وقال امرؤ القيس:
ألم أنض المطي بكل خرق ... أمق الطول لماع السراب «1»
والقيعة جمع القاع، مثل جيرة وجار، قاله الهروي وقال أبو عبيدة: قيعة وقاع واحد،
حكاه النحاس. والقاع ما انبسط من الأرض واتسع ولم يكن فيه نبت، وفية يكون السراب.
واصل القاع الموضع المنخفض الذي يستقر فيه الماء، وجمعه قيعان. قال الجوهري:
والقاع المستوي من الأرض، والجمع أقوع وأقواع وقيعان، صارت الواو ياء لكسر ما
قبلها، والقيعة مثل القاع، وهو أيضا من الواو. وبعضهم يقول: هو جمع. (يَحْسَبُهُ
الظَّمْآنُ) أي العطشان. (ماءً) أي يحسب السراب ماء. (حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ
يَجِدْهُ شَيْئاً) مما قدره ووجد أرضا لا ماء فيها. وهذا مثل ضربه الله تعالى
للكفار، يعولون على ثواب أعمالهم فإذا
__________
(1). في الأصول:" طويل الطول" والتصويب عن ديوان امرئ القيس. والامق:
الطويل. قال الوزير أبو بكر عاصم بن أيوب (شارح الديوان): وفى البيت ما يسأل عمه
من طريق العربية، وهو إضافة" أمق" إلى" الطول". فيتوهم أنه من
إضافة الشيء إلى نفسه، لان الامق هو الطويل، وليس على ما يتوهم، إنما هو كما
تقول:" بعيد البعد".
أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40)
قدموا
على الله تعالى وجدوا ثواب أعمالهم محبطة بالكفر، أي لم يجدوا شيئا كما لم يجد
صاحب السراب إلا أرضا لا ماء فيها، فهو يهلك أو يموت. (ووجد الله عنده) أي وجد
الله بالمرصاد. (فَوَفَّاهُ حِسابَهُ) أي جزاء عمله. قال امرؤ القيس:
فولى مدبرا يهوي حثيثا ... وأيقن أنه لاقى الحسابا
وقيل: وجد وعد الله بالجزاء على عمله. وقيل: وجد أمر الله عند حشره، والمعنى
متقارب. وقرى" بقيعات". المهدوي: ويجوز أن تكون الالف مشبعة من فتحة
العين. ويجوز أن تكون مثل رجل عزه وعزهاة، للذي لا يقرب النساء. ويجوز أن يكون جمع
قيعة، ويكون على هذا بالتاء في الوصل والوقف. وروى عن نافع وابن جعفر وشيبة"
الظمان" بغير همز، والمشهور عنهما الهمز، يقال: ظمئ يظمأ ظمأ فهو ظمآن، وإن
خففت الهمزة قلت: الظمان. وقوله:" وَالَّذِينَ كَفَرُوا" ابتداء"
أَعْمالُهُمْ" بدلا من" الَّذِينَ كَفَرُوا"، أي وأعمال الذين
كفروا كسراب، فحذف المضاف.
[سورة النور (24): آية 40]
أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ
فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ
يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ
(40)
قوله تعالى: (أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ) ضرب تعالى مثلا آخر للكفار، أي
أعمالهم كسراب بقيعة أو كظلمات. قال الزجاج: إن شئت مثل بالسراب وإن شئت مثل
بالظلمات، ف"- أَوْ" للإباحة حسبما تقدم من القول في" أَوْ
كَصَيِّبٍ" «1» [البقرة: 19]. وقال الجرجاني: الآية الاولى في ذكر أعمال
الكفار، والثانية في ذكر كفرهم، ونسق الكفر على أعمالهم لان الكفر أيضا من
أعمالهم، وقد قال تعالى:" يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى «2»
النُّورِ" [البقرة: 257] أي من الكفر
__________
(1). راجع ج 1 ص 215.
(2). راجع ج 3 ص 282.
إلى
الايمان. وقال أبو على:" أَوْ كَظُلُماتٍ" أو كذي ظلمات، ودل على هذا
المضاف قوله تعالى:" إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ" فالكناية تعود إلى المضاف
المحذوف. قال القشيري: فعند الزجاج التمثيل وقع لاعمال الكفار، وعند الجرجاني لكفر
الكافر، وعند أبى على للكافر. وقال ابن عباس في رواية: هذا مثل قلب الكافر. (فِي
بَحْرٍ لُجِّيٍّ) قيل: هو منسوب اللجة، وهو الذي لا يدرك قعره. واللجة معظم الماء،
والجمع لجج. والتج البحر إذا تلاطمت أمواجه، ومنه ما روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: (من ركب البحر إذا التج فقد برئت منه الذمة). والتج
الامر إذا عظم واختلط. وقوله تعالى:"سِبَتْهُ لُجَّةً
" «1» [النمل: 44] أي ماله عمق. ولججت السفينة أي خاضت اللجة (بضم اللام).
فأما اللجة (بفتح اللام) فأصوات الناس، يقول: سمعت لجة الناس، أي أصواتهم وصخبهم.
قال أبو النجم:
في لجة أمسك فلانا عن فل
والتجت الأصوات أي اختلطت وعظمت. (يَغْشاهُ مَوْجٌ) أي يعلو ذلك البحر اللجى موج.
(مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ) أي من فوق الموج موج، ومن فوق هذا الموج الثاني سحاب،
فيجتمع خوف الموج وخوف الريح وخوف السحاب. وقيل: المعنى يغشاه موج من بعده موج،
فيكون المعنى: الموج يتبع بعضه بعضا حتى كأن بعضه فوق بعض، وهو أخوف ما يكون إذا
توالى موجه وتقارب، ومن فوق هذا الموج سحاب. وهو أعظم للخوف من وجهين: أحدهما- أنه
قد غطى النجوم التي يهتدي بها. الثاني- الريح التي تنشأ مع السحاب والمطر الذي
ينزل منه. (ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ) قرأ ابن محيصن والبزي عن ابن كثير"
سحاب ظلمات" بالإضافة والخفض. قنبل" سحاب" منونا" ظلمات"
بالجر والتنوين. الباقون بالرفع والتنوين. قال المهدوي: من قرأ" من فوقه سحاب
ظلمات" بالإضافة فلان السحاب يرتفع وقت هذه الظلمات فأضيف إليها، كما يقال:
سحاب رحمة إذا ارتفع في وقت المطر. ومن قرأ" سحاب ظلمات" جر"
ظلمات" على التأكيد ل"- ظلمات"
__________
(1). راجع ج 13 ص 208.
الاولى
أو البدل منها. و" سَحابٌ" ابتداء و" مِنْ فَوْقِهِ" الخبر.
ومن قرأ" سَحابٌ ظُلُماتٌ" فظلمات خبر ابتداء محذوف، التقدير: هي ظلمات
أو هذه ظلمات. قال ابن الأنباري:" مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ" غير تام، لان
قوله" مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ" صلة للموج، والوقف: على قوله" مِنْ
فَوْقِهِ سَحابٌ" حسن، ثم تبتدئ" ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ"
على معنى هي ظلمات بعضها فوق بعض. وروي عن أهل مكة أنهم قرءوا" ظُلُماتٌ"
على معنى أو كظلمات ظلمات بعضها فوق بعض، فعلى هذا المذهب لا يحسن الوقف على
السحاب. ثم قيل: المراد بهذه الظلمات ظلمة السحاب وظلمة الموج وظلمة الليل وظلمة
البحر، فلا يبصر من كان في هذه الظلمات شيئا ولا كوكبا. وقيل: المراد بالظلمات
الشدائد، أي شدائد بعضها فوق بعض. وقيل: أراد بالظلمات أعمال الكافر، وبالبحر
اللجى قلبه، وبالموج فوق الموج، ما يغشى قلبه من الجهل والشك والحيرة، وبالسحاب
الرين والختم والطبع على قلبه. روي معناه عن ابن عباس وغيره، أي لا يبصر بقلبه نور
الايمان، كما أن صاحب الظلمات في البحر إذا أخرج يده لم يكد يراها. وقال أبى بن
كعب: الكافر يتقلب في خمس من الظلمات: كلامه ظلمة، وعمله ظلمة، ومدخله ظلمة،
ومخرجه ظلمة، ومصيره يوم القيامة إلى الظلمات في النار وبئس المصير. (إِذا
أَخْرَجَ يَدَهُ) يعنى الناظر. (لَمْ يَكَدْ يَراها) أي من شدة الظلمات. قال
الزجاج وأبو عبيدة: المعنى لم يرها ولم يكد، وهو معنى قول الحسن. ومعنى" لَمْ
يَكَدْ" لم يطمع أن يراها. وقال الفراء: كاد صلة، أي لم يرها، كما تقول: ما
كدت أعرفه. وقال المبرد: يعنى لم يرها إلا من بعد الجهد، كما تقول: ما كدت أراك من
الظلمة، وقد رآه بعد يأس وشدة. وقيل: معناه قرب من الرؤية ولم ير كما يقال: كاد
العروس يكون أميرا، وكاد النعام يطير، وكاد المنتعل يكون راكبا. النحاس: وأصح
الأقوال في هذا أن المعنى لم يقارب رؤيتها، فإذا لم يقارب رؤيتها فلم يرها رؤية
بعيدة ولا قريبة. (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً)
يهتدي به أظلمت عليه الأمور. وقال ابن عباس: أي من لم يجعل الله له دينا فما له من
دين، ومن لم يجعل الله له نورا يمشى به يوم القيامة لم يهتد
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42)
إلى
الجنة، كقوله تعالى:" وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ" «1»
[الحديد: 28]. وقال الزجاج: ذلك في الدنيا والمعنى: من لم يهده الله لم يهتد. وقال
مقاتل بن سليمان: نزلت في عتبة بن ربيعة، كان يلتمس الدين في الجاهلية، ولبس
المسوح، ثم كفر في الإسلام. الماوردي: في شيبة ابن ربيعة، وكان يترهب في الجاهلية
ويلبس الصوف ويطلب الدين، فكفر في الإسلام. قلت: وكلاهما مات كافرا، فلا يبعد أن
يكونا هما المراد بالآية وغيرهما. وقد قيل: نزلت في عبد الله بن جحش، وكان أسلم
وهاجر إلى أرض الحبشة ثم تنصر بعد إسلامه. وذكر الثعلبي: وقال أنس قال النبي
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إن الله تعالى خلقني من نور وخلق أبا بكر من
نوري وخلق عمر وعائشة من نور أبى بكر وخلق المؤمنين من أمتي من نور عمر وخلق
المؤمنات من أمتي من نور عائشة فمن لم يحبني ويحب أبا بكر وعمر وعائشة فما له من
نور (. فنزلت:" وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ
نُورٍ".
[سورة النور (24): الآيات 41 الى 42]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ
وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ
عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى
اللَّهِ الْمَصِيرُ (42)
قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ) لما ذكر وضوح الآيات زاد في الحجة والبينات،
وبين أن مصنوعاته تدل بتغييرها على أن لها صانعا قادرا على الكمال، فله بعثة
الرسل، وقد بعثهم وأيدهم بالمعجزات، وأخبروا بالجنة والنار. والخطاب في"
أَلَمْ تَرَ" للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومعناه: ألم تعلم،
والمراد الكل. (أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ) من الملائكة.
(وَالْأَرْضِ) من الجن والانس. (وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ) قال مجاهد وغيره: الصلاة
للإنسان والتسبيح لما سواه من الخلق. وقال سفيان: للطير صلاة ليس فيها ركوع ولا
سجود. وقيل: إن ضربها بأجنحتها صلاة، وإن أصواتها
__________
(1). راجع ج 17 ص 266.
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (44)
تسبيح،
حكاه النقاش. وقيل: التسبيح هاهنا ما يرى في المخلوق من أثر الصنعة. ومعنى"
صَافَّاتٍ" مصطفات الأجنحة في الهواء. وقرا الجماعة" وَالطَّيْرُ"
بالرفع عطفا على" مَنْ" وقال الزجاج: ويجوز" والطير" بمعنى مع
الطير. قال النحاس: وسمعته يخبر" قمت وزيدا" بمعنى مع زيد. قال: وهو
أجود من الرفع. قال: فإن قلت قمت أنا وزيد، كان الأجود الرفع، ويجوز النصب. (كُلٌّ
قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ) يجوز أن يكون المعنى: كل قد علم الله صلاته
وتسبيحه، أي علم صلاة المصلى وتسبيح المسبح. ومن هذه الجهة يجوز نصب"
كل" عند البصريين والكوفيين بإضمار فعل يفسره ما بعده. وقد قيل: المعنى قد
علم كل مصل ومسبح صلاة نفسه وتسبيحه الذي كلفه. وقرا بعض الناس" كل قد علم
صلاته وتسبيحه" غير مسمى الفاعل. وذكر بعض النحويين أن بعضهم قرأ" كل قد
علم صلاته وتسبيحه"، فيجوز أن يكون تقديره: كل قد علمه الله صلاته وتسبيحه.
ويجوز أن يكون المعنى: كل قد علم غيره صلاته وتسبيحه، أي صلاة نفسه، فيكون التعليم
الذي هو الافهام والمراد الخصوص، لان من الناس من لم يعلم. ويجوز أن يكون المعنى
كل قد استدل منه المستدل، فعبر عن الاستدلال بالتعليم، قاله المهدوي. والصلاة هنا
بمعنى التسبيح، وكرر تأكيدا، كقوله" يعلم السر والنجوى". والصلاة قد
تسمى تسبيحا، قاله القشيري. (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى
اللَّهِ الْمَصِيرُ) تقدم في غير موضع.
[سورة النور (24): الآيات 43 الى 44]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ
يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ
السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ
عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ (43) يُقَلِّبُ
اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ
(44)
قوله
تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً) ذكر من حججه شيئا آخر، أي ألم
تر بعيني قلبك. (يُزْجِي سَحاباً) أي يسوق إلى حيث يشاء. والريح تزجي السحاب، والبقرة
تزجي ولدها أي تسوقه. ومنه زجا الخراج يزجو زجاء (ممدودا) إذا تيسرت جبايته. وقال
النابغة:
إنى أتيتك من أهلي ومن وطني ... أزجى حشاشة نفس ما بها رمق
وقال أيضا:
أسرت عليه من الجوزاء سارية ... تزجي الشمال عليه جامد البرد
(ثم يؤلف بينه) أي يجمعه عند انتشائه، ليقوى ويتصل ويكثف. والأصل في التأليف
الهمز، تقول: تألف. وقرى" يؤلف" بالواو تخفيفا. والسحاب واحد في اللفظ،
ولكن معناه جمع، ولهذا قال:" يُنْشِئُ السَّحابَ" «1» [الرعد: 12].
و" بين" لا يقع إلا لاثنين فصاعدا، فكيف جاز بينه؟ فالجواب أن"
بينه" هنا لجماعة السحاب، كما تقول: الشجر قد جلست بينه لأنه جمع، وذكر
الكناية على اللفظ، قال معناه الفراء. وجواب آخر- وهو أن يكون السحاب واحدا فجاز
أن يقال بينه لأنه مشتمل على قطع كثيرة، كما قال:
... بين الدخول فحومل
فأوقع" بين" على الدخول، وهو واحد لاشتماله على مواضع. وكما تقول: ما
زلت أدور بين الكوفة لان الكوفة أماكن كثيرة، قال الزجاج وغيره. وزعم الأصمعي أن
هذا لا يجوز، وكان يروى:
... بين الدخول وحومل
(ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً) أي مجتمعا، يركب بعضه بعضا، كقوله تعالى:" وَإِنْ
يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ" «2»
[الطور: 44]. والركم جمع الشيء، يقال منه: ركم الشيء يركمه ركما إذا جمعه وألقى
بعضه على بعض. وارتكم الشيء وتراكم إذا اجتمع. والركمة الطين المجموع. والركام:
الرمل المتراكم. وكذلك السحاب وما أشبهه. ومرتكم الطريق (بفتح الكاف) جادته. (فَتَرَى
الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ) في" الْوَدْقَ" قولان: أحدهما- أنه
البرق، قاله أبو الأشهب العقيلي. ومنه قول الشاعر:
أثرنا عجاجة وخرجن منها ... خروج الودق من خلل السحاب
__________
(1). راجع ج 9 ص 295.
(2). راجع ج 17 ص 77.
الثاني-
أنه المطر، قاله الجمهور. ومنه قول الشاعر:
فلا مزنة ودقت ودقها ... ولا أرض أبقل إبقالها
وقال امرؤ القيس:
فدمعهما ودق وسح وديمة ... وسكب وتوكاف وتنهملان
يقال: ودقت السحابة فهي وادقه. وودق المطر يدق ودقا، أي قطر. وودقت إليه دنوت منه.
وفي المثل: ودق العير «1» إلى الماء، أي دنا منه. يضرب لمن خضع للشيء لحرصه عليه.
والموضع مودق. وودقت [به ] ودقا استأنست به. ويقال لذات الحافر إذا أرادت الفحل:
ودقت تدق ودقا، وأودقت واستودقت. وأتان ودوق وفرس ودوق، ووديق أيضا، وبها وداق.
والوديقة: شدة الحر. وخلال جمع خلل، مثل الجبل والجبال، وهى فرجه ومخارج القطر
منه. وقد تقدم في" البقرة" «2» أن كعبا قال: إن السحاب غربال المطر،
لولا السحاب حين ينزل الماء من السماء لأفسد ما يقع عليه من الأرض. وقرا ابن عباس
والضحاك وأبو العالية:" مِنْ خِلالِهِ" على التوحيد. وتقول: كنت في خلال
القوم، أي وسطهم. (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ)
قيل: خلق الله في السماء جبالا من برد، فهو ينزل منها بردا، وفيه إضمار، أي ينزل
من جبال البرد بردا، فالمفعول محذوف. ونحو هذا قول الفراء، لان التقدير عنده: من
جبال برد، فالجبال عنده هي البرد. و" بَرَدٍ" في موضع خفض، ويجب أن يكون
على قوله المعنى: من جبال برد فيها، بتنوين جبال. وقيل: إن الله تعالى خلق في
السماء جبالا فيها برد، فيكون التقدير: وينزل من السماء من جبال فيها برد. و"
مِنْ" صلة. وقيل: المعنى وينزل من السماء قدر جبال، أو مثل جبال من برد إلى
الأرض، ف"- مِنْ" الاولى للغاية لان ابتداء الانزال من السماء، والثانية
للتبعيض، لان البرد بعض الجبال، والثالثة لتبيين الجنس، لان جنس تلك الجبال من
البرد. وقال الأخفش: إن" مِنْ" في الجبال و" بَرَدٍ" زائدة في
الموضعين، والجبال والبرد في موضع نصب، أي ينزل من السماء بردا يكون كالجبال. والله
أعلم. (فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ)
__________
(1). في ب وج وك: البعير. ولعلها رواية في المثل أو تحريف الناسخ.
(2). راجع ج 2 ص 12- 01 2. (19)
فتكون
إصابته نقمة، وصرفه نعمة. وقد مضى في" البقرة" «1». و" الرعد"
«2» أن من قال حين يسمع الرعد: سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته
ثلاثا عوفي مما يكون في ذلك الرعد. (يَكادُ سَنا بَرْقِهِ) أي ضوء ذلك البرق الذي
في السحاب (يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ) من شدة بريقه وضوئه. قال الشماخ:
وما كادت إذا رفعت سناها ... ليبصر ضوءها إلا البصير
وقال امرؤ القيس:
يضئ سناه أو مصابيح راهب ... أهان السليط في الذبال المفتل «3»
فالسنا (مقصور) ضوء البرق. والسنا أيضا نبت يتداوى به. والسناء من الرفعة ممدود.
وكذلك قرأ طلحة بن مصرف" سناء" بالمد على المبالغة من شدة الضوء
والصفاء، فأطلق عليه اسم الشرف. قال المبرد: السنا (مقصور) وهو اللمع، فإذا كان من
الشرف والحسب فهو ممدود، وأصلهما واحد وهو الالماع «4». وقرا طلحة بن مصرف:"
سناء برقه" قال أحمد بن يحيى: وهو جمع برقة. قال النحاس: البرقة المقدار من
البرق، والبرقة المرة الواحدة. وقرا الجحدري وابن القعقاع:" يذهب بالأبصار"
بضم الياء وكسر الهاء، من الا ذهاب، وتكون الباء في" بِالْأَبْصارِ" صلة
زائدة. الباقون" يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ" بفتح الياء والهاء، والباء
للإلصاق. والبرق دليل على تكاثف السحاب، وبشير بقوة المطر، ومحذر من نزول الصواعق.
(يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) قيل: تقليبهما أن يأتي بأحدهما بعد
الأخر. وقيل: تقليبهما نقصهما وزيادتهما وقيل: هو تغيير النهار بظلمة السحاب مرة
وبضوء الشمس أخرى، وكذا الليل مرة بظلمة السحاب ومرة بضوء القمر، قاله النقاش.
وقيل: تقليبهما باختلاف ما يقدر فيهما من خير وشر ونفع وضر. (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي
في الذي ذكرناه من تقلب الليل والنهار، وأحوال المطر والصيف والشتاء (لَعِبْرَةً)
أي اعتبارا (لِأُولِي الْأَبْصارِ) أي لأهل البصائر من خلقي.
__________
(1). راجع ج 1 ص 218.
(2). راجع ج 9 ص 298.
(3). السليط: الزيت. والذبال: جمع ذبالة، وهى الفتيلة.
(4). كذا في ب وج وك.
وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45) لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (46)
[سورة
النور (24): الآيات 45 الى 46]
وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ
وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ
يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45) لَقَدْ
أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ
مُسْتَقِيمٍ (46)
قوله تعالى: (وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ) قرأ يحيى بن وثاب
والأعمش وحمزة والكسائي" والله خالق كل" بالإضافة. الباقون"
خَلَقَ" على الفعل. قيل: إن المعنيين في القراءتين صحيحان. أخبر الله عز وجل
بخبرين، ولا ينبغي أن يقال في هذا: إحدى القراءتين أصح من الأخرى. وقد قيل:
إن" خَلَقَ" لشيء مخصوص، وإنما يقال خالق على العموم، كما قال الله عز
وجل:" الْخالِقُ الْبارِئُ" «1» [الحشر: 24]. وفي الخصوص"
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ" «2» [الانعام: 1]
وكذا:" هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ" «3» [الأعراف:
189]. فكذا يجب أن يكون:" وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ".
والدابة كل ما دب على وجه الأرض من الحيوان، يقال: دب يدب فهو داب، والهاء
للمبالغة. وقد تقدم في" البقرة" «4» (مِنْ ماءٍ) لم يدخل في هذا الجن
والملائكة، لأنا لم نشاهدهم، ولم يثبت أنهم خلقوا من ماء، بل في الصحيح (إن
الملائكة خلقوا من نور والجن خلقوا «5» من نار). وقد تقدم «6». وقال
المفسرون:" مِنْ ماءٍ" أي من نطفة. قال النقاش: أراد أمنية الذكور. وقال
جمهور النظرة: أراد أن خلقة كل حيوان فيها ماء كما خلق آدم من الماء والطين، وعلى
هذا يتخرج قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للشيخ الذي سأله في غزاة
بدر: ممن أنتما؟ فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (نحن من ماء).
الحديث. وقال قوم: لا يستثنى الجن والملائكة، بل كل حيوان خلق من الماء، وخلق
النار من الماء، وخلق الريح من الماء، إذ أول ما خلق الله تعالى من العالم الماء،
ثم خلق منه كل شي.
__________
(1). راجع ج 18 ص 48. [.....]
(2). راجع ج 6 ص 383.
(3). راجع ج 7 ص 337.
(4). راجع ج 2 ص 196.
(5). من ك.
(6). راجع ج 10 ص 23 فما بعد.
وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47)
قلت:
ويدل على صحة هذا قوله تعالى:" فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ) المشي
على البطن للحيات والحوت، ونحوه من الدود وغيره. وعلى الرجلين للإنسان والطير إذا
مشى. والأربع لسائر الحيوان. وفي مصحف أبى" ومنهم من يمشى على أكثر"،
فعم بهذه الزيادة جميع الحيوان كالسرطان والخشاش، ولكنه قرآن لم يثبته إجماع، لكن
قال النقاش: إنما اكتفى في القول بذكر ما يمشى على أربع عن ذكر ما يمشى على أكثر،
لان جميع الحيوان إنما اعتماده على أربع، وهى قوام مشيه، وكثرة الأرجل في بعضه
زيادة في خلقته، لا يحتاج ذلك الحيوان في مشيه إلى جميعها. قال ابن عطية: والظاهر
أن تلك الأرجل الكثيرة ليست باطلا بل هي محتاج إليها في تنقل الحيوان، وهى كلها
تتحرك «1» في تصرفه. وقال بعضهم: ليس في الكتاب ما يمنع من المشي على أكثر من
أربع، إذ لم يقل ليس منها ما يمشى على أكثر من أربع. وقيل فيه إضمار: ومنهم من
يمشى على أكثر من أربع، كما وقع في مصحف أبى. والله أعلم. و" دَابَّةٍ"
تشمل من يعقل وما لا يعقل، فغلب من يعقل لما اجتمع مع من لا يعقل، لأنه المخاطب
والمتعبد، ولذلك قال" فَمِنْهُمْ". وقال:" مَنْ يَمْشِي"
فأشار بالاختلاف إلى ثبوت الصانع، أي لولا أن للجميع صانعا مختارا لما اختلفوا، بل
كانوا من جنس واحد، وهو كقوله:" يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها
عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي «2» ذلِكَ لَآياتٍ". [الرعد: 4]. (يَخْلُقُ
اللَّهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ) مما يريد خلقه (قَدِيرٌ).
(لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ
مُسْتَقِيمٍ) تقدم بيانه في غير موضع.
[سورة النور (24): آية 47]
وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى
فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47)
__________
(1). في ك: تتصرف وتتحرك.
(2). راجع ج 9 ص 281.
وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50)
قوله
تعالى: (وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ) يعنى المنافقين، يقولون
بألسنتهم آمنا بالله وبالرسول من غير يقين ولا إخلاص. (وَأَطَعْنا) أي ويقولون،
وكذبوا. (ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ
بِالْمُؤْمِنِينَ).
[سورة النور (24): الآيات 48 الى 50]
وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ
مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ
مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ
يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50)
فيه أربع مسائل: الاولى- قوله تعالى: (وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ
لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ) قال الطبري وغيره: إن رجلا من المنافقين اسمه بشر كانت
بينه وبين رجل من اليهود خصومة في أرض، فدعاه اليهودي إلى التحاكم عند رسول الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان المنافق مبطلا، فأبى من ذلك وقال: إن
محمدا يحيف علينا، فلنحكم كعب بن الأشرف، فنزلت الآية فيه. وقيل: نزلت في المغيرة
بن وائل من بنى أمية، كان بينه وبين على بن أبى طالب رضى الله عنه خصومة في ماء وأرض
فامتنع المغيرة أن يحاكم عليا إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وقال: إنه يبغضني، فنزلت الآية، ذكره الماوردي. وقال:" لِيَحْكُمَ" ولم
يقل ليحكما لان المعنى به الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإنما بدأ
بذكر الله إعظاما لله واستفتاح كلام. الثانية- قوله تعالى: (وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ
الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ) أي طائعين منقادين، لعلمهم أنه عليه
السلام يحكم بالحق. يقال: أذعن فلان لحكم فلان يذعن إذعانا. وقال النقاش:"
مُذْعِنِينَ" خاضعين، ومجاهد: مسرعين. الأخفش وابن الاعرابي: مقرين. (أَفِي
قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) شك وريب. (أَمِ ارْتابُوا) أم حدث لهم شك في نبوته
إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51)
وعدله.
(أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ) أي يجور في الحكم
والظلم. وأتى بلفظ الاستفهام لأنه أشد في التوبيخ وأبلغ في الذم، كقوله جرير في
المدح:
ألستم خير من ركب المطايا ... وأندى العالمين بطون راح
(بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) أي المعاندون الكافرون، لإعراضهم عن حكم الله
تعالى الثالثة- القضاء يكون للمسلمين إذا كان الحكم بين المعاهد والمسلم ولا حق
لأهل الذمة فيه. وإذا كان بين ذميين فذلك إليهما. فإن جاءا قاضى الإسلام فإن شاء
حكم وإن شاء أعرض، كما تقدم في" المائدة"»
الرابعة- هذه الآية دليل على وجوب إجابة الداعي إلى الحاكم لان الله سبحانه ذم من
دعى إلى رسوله ليحكم بينه وبين خصمه بأقبح الذم فقال:" أَفِي قُلُوبِهِمْ
مَرَضٌ" الآية. قال ابن خويز منداد: واجب على كل من دعى إلى مجلس الحاكم أن
يحيب، ما لم يعلم أن الحاكم فاسق، أو عداوة بين المدعى والمدعى عليه. وأسند
الزهراوي عن الحسن ابن أبى الحسن أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قال: (من دعاه خصمه إلى الحاكم من حكام المسلمين فلم يجب فهو ظالم ولا حق له).
ذكره الماوردي أيضا. قال ابن العربي: هذا حديث باطل، فأما قوله (فهو ظالم) فكلام
صحيح، وأما قوله (فلا حق له) فلا يصح، ويحتمل أن يريد أنه على غير الحق.
[سورة النور (24): آية 51]
إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ
لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ (51)
قوله تعالى: (إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ
وَرَسُولِهِ) أي إلى كتاب الله وحكم ورسوله. (أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا)
قال ابن عباس: أخبر بطاعة المهاجرين والأنصار، وإن كان ذلك فيما يكرهون، أي هذا
قولهم، وهؤلاء لو كانوا مؤمنين لكانوا
__________
(1). راجع ج 6 ص 184.
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52)
يقولون
سمعنا وأطعنا. فالقول نصب على خبر كان، واسمها في قوله:" أَنْ
يَقُولُوا" نحو:" وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا
اغْفِرْ لَنا «1» ذُنُوبَنا" [آل عمران: 147]. وقيل: إنما قول المؤمنين، وكان
صلة في الكلام، كقوله تعالى:" كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ
صَبِيًّا" «2». [مريم: 29]. وقرا ابن القعقاع" ليحكم بينهم" غير
مسمى الفاعل. على بن أبى طالب" إنما كان قول" بالرفع.
[سورة النور (24): آية 52]
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ
الْفائِزُونَ (52)
قوله تعالى: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) فيما أمر به حكم. (وَيَخْشَ
اللَّهَ وَيَتَّقْهِ) قرأ حفص:" ويتقه" بإسكان القاف على نية الجزم، قال
الشاعر:
ومن يتق فإن الله معه ... ورزق الله مؤتاب وغادي
وكسرها الباقون، لان جزمه بحذف آخره. وأسكن الهاء أبو عمرو وأبو بكر. واختلس
الكسرة يعقوب وقالون عن نافع والبستي عن أبى عمرو وحفص. وأشبع كسرة الهاء الباقون.
(فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ) ذكر أسلم أن عمر [رضى الله عنه «3»] بينما هو قائم
في مسجد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإذا رجل من دهاقين الروم قائم
على رأسه وهو يقول: أنا أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله. فقال
له عمر: ما شأنك «4»؟ قال: أسلمت لله. قال: هل لهذا سبب! قال: نعم! إنى قرأت
التوراة والزبور والإنجيل وكثيرا من كتب الأنبياء، فسمعت أسيرا يقرأ آية من القرآن
جمع فيها كل ما في الكتب المتقدمة، فعلمت أنه من عند الله فأسلمت: قال: ما هذه
الآية؟ قال قوله تعالى:" وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ" في الفرائض"
وَرَسُولَهُ" في السنن" وَيَخْشَ اللَّهَ" فيما مضى من عمره"
وَيَتَّقْهِ" فيما بقي من عمره:" فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ"
والفائز من نجا من النار وأدخل الجنة. فقال عمر: قال النبي صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أوتيت جوامع الكلم).
__________
(1). راجع ج 4 ص 227.
(2). راجع ج 11 ص 101.
(3). من ك.
(4). في ك: ما شانك أسلمت. ولعلها زيادة ناسخ.
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (53)
[سورة
النور (24): آية 53]
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ
قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ
(53)
قوله تعالى: (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ)
عاد إلى ذكر المنافقين، فإنه لما بين كراهتهم لحكم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أتوه فقالوا: والله لو أمرتنا أن نخرج من ديارنا ونسائنا وأموالنا
لخرجنا، ولو أمرتنا بالجهاد لجاهدنا، فنزلت هذه الآية. أي وأقسموا بالله أنهم
يخرجون معك في المستأنف ويطيعون." جَهْدَ أَيْمانِهِمْ
" أي طاقة ما قدروا أن يحلفوا. وقال مقاتل: من حلف بالله فقد أجهد في اليمين.
وقد مضى في" الانعام" «1» بيان هذا. و" جَهْدَ
" منصوب على مذهب المصدر تقديره: أقساما بليغا. (قُلْ لا تُقْسِمُوا)
وتم الكلام. (طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ)
أولى بكم من أيمانكم، أو ليكن منكم طاعة معروفة، وقول معروف بإخلاص القلب، ولا
حاجة إلى اليمين. وقال مجاهد: المعنى قد عرفت طاعتكم وهى الكذب والتكذيب، أي
المعروف منكم الكذب دون الإخلاص. (إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ)
من طاعتكم بالقول ومخالفتكم بالفعل.
[سورة النور (24): آية 54]
قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما
عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا
وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (54)
قوله تعالى: (قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) بإخلاص الطاعة وترك
النفاق. (فَإِنْ تَوَلَّوْا) أي فإن تتولوا، فحذف إحدى التاءين. ودل على هذا أن
بعده" وَعَلَيْكُمْ" ولم يقل وعليهم. (فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ)
أي من تبليغ الرسالة. (وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ) أي من الطاعة له، عن ابن عباس
وغيره. (وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا) جعل الاهتداء مقرونا بطاعته. (وَما عَلَى
الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ) أي التبليغ (الْمُبِينُ).
__________
(1). راجع ج 7 ص 62.
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)
[سورة
النور (24): آية 55]
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ
لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ
مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ
كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (55)
نزلت في أبى بكر وعمر رضى الله عنهما، قاله مالك. وقيل: إن سبب هذه الآية أن بعض
أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شكا جهد مكافحة العدو، وما كانوا
فيه من الخوف على أنفسهم، وأنهم لا يضعون أسلحتهم، فنزلت الآية. وقال أبو العالية:
مكث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمكة عشر سنين بعد ما أوحى إليه
خائفا هو وأصحابه، يدعون إلى الله سرا وجهرا، ثم أمر بالهجرة إلى المدينة، وكانوا
فيها خائفين يصبحون ويمسون في السلاح. فقال رجل: يا رسول الله، أما يأتي علينا يوم
نأمن فيه ونضع السلاح؟ فقال عليه السلام: (لا تلبثون إلا يسيرا حتى يجلس الرجل
منكم في الملا العظيم محتبيا ليس عليه حديدة). ونزلت هذه الآية، وأظهر الله نبيه
على جزيرة العرب فوضعوا السلاح وأمنوا. قال النحاس: فكان في هذه الآية دلالة على
نبوة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لان الله عز وجل أنجز ذلك
الوعد. قال الضحاك في كتاب النقاش: هذه [الآية «1»] تتضمن خلافة أبى بكر وعمر
وعثمان وعلى لأنهم أهل الايمان وعملوا الصالحات. وقد قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الخلافة بعدي ثلاثون). وإلى هذا القول ذهب ابن العربي في
أحكامه، واختاره وقال: قال علماؤنا هذه الآية دليل على خلافة الخلفاء الاربعة رضى
الله عنهم، وأن الله استخلفهم ورضى أمانتهم، وكانوا على الدين الذي ارتضى لهم،
لأنهم لم يتقدمهم أحد في الفضيلة إلى يومنا هذا، فاستقر الامر لهم، وقاموا بسياسة
المسلمين، وذبوا عن حوزة الدين، فنفذ الوعد فيهم، وإذا لم يكن هذا الوعد لهم نجز،
وفيهم نفذ، وعليهم ورد، ففيمن يكون إذا؟ وليس بعدهم مثلهم إلى يومنا هذا، ولا يكون
فيما بعده. رضى الله عنهم. وحكى هذا القول القشيري عن
__________
(1). من ك. [.....]
ابن
عباس. واحتجوا بما رواه سفينة مولى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: (الخلافة بعدي
ثلاثون سنة ثم تكون ملكا). قال سفينة: أمسك [عليك «1»] خلافة أبى بكر سنتين،
وخلافة عمر عشرا، وخلافة عثمان ثنتي عشرة سنة، وخلافة على ستا. وقال قوم: هذا وعد
لجميع الامة في ملك الأرض كلها تحت كلمة الإسلام، كما قال عليه الصلاة والسلام:
(زويت لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها). واختار
هذا القول ابن عطية في تفسيره حيث قال: والصحيح في الآية أنها في استخلاف الجمهور،
واستخلافهم هو أن يملكهم البلاد ويجعلهم أهلها، كالذي جرى في الشام والعراق
وخراسان والمغرب. قال ابن العربي: قلنا لهم هذا وعد عام في النبوة والخلافة وإقامة
الدعوة وعموم الشريعة، فنفذ الوعد في كل أحد بقدره وعلى حاله، حتى في المفتين
والقضاة والأئمة، وليس للخلافة محل تنفذ فيه الموعدة الكريمة إلا من تقدم من
الخلفاء. ثم ذكر اعتراضا وانفصالا معناه: فإن قيل هذا الامر لا يصح إلا في أبى بكر
وحده، فأما عمر وعثمان فقتلا غيلة، وعلى قد نوزع في الخلافة. قلنا: ليس في ضمن
الأمن السلامة من الموت بأي وجه كان، وأما على فلم يكن نزاله في الحرب مذهبا
للأمن، وليس من شرط الأمن رفع الحرب إنما شرطه ملك الإنسان لنفسه باختياره، لا كما
كان أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمكة. ثم قال في آخر كلامه:
وحقيقة الحال أنهم كانوا مقهورين فصاروا فاهرين، وكانوا مطلوبين فصاروا طالبين،
فهذا نهاية الأمن والعز. قلت: هذه الحال لم تختص بالخلفاء الاربعة رضى الله عنهم
حتى يخصوا بها من عموم الآية، بل شاركهم في ذلك جميع المهاجرين بل وغيرهم. ألا ترى
إلى إغزاء قريش المسلمين في أحد وغيرها وخاصة الخندق، حتى أخبر الله تعالى عن
جميعهم فقال:" إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ
وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ
الظُّنُونَا. هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا
شَدِيداً" «2» [الأحزاب: 11- 10]. ثم إن الله رد الكافرين لم ينالوا خيرا،
وأمن
__________
(1). زيادة عن ابن العربي. والخطاب لسعيد بن حمدان راوي الحديث عن سفينة.
(2). راجع ج 14 ص 144.
المؤمنين
وأورثهم أرضهم وديارهم وأموالهم، وهو المراد بقوله:" لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ
فِي الْأَرْضِ". وقوله:" كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ" يعنى بنى إسرائيل، إذ أهلك الله الجبابرة بمصر، وأورثهم أرضهم
وديارهم فقال:" وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ
مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا" «1» [الأعراف: 137]. وهكذا كان الصحابة
مستضعفين خائفين، ثم إن الله تعالى أمنهم ومكنهم وملكهم، فصح أن الآية عامة لامة
محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غير مخصوصة، إذ التخصيص لا يكون إلا بخبر ممن
يجب [له ] التسليم، ومن الأصل المعلوم التمسك بالعموم. وجاء في معنى تبديل خوفهم
بالأمن أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما قال أصحابه: أما يأتي
علينا يوم نأمن فيه ونضع السلاح؟ فقال عليه السلام: (لا تلبثون إلا قليلا حتى يجلس
الرجل منكم في الملا العظيم محتبيا ليس عليه حديدة). وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: (والله ليتمن الله هذا الامر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا
يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون (. خرجه مسلم في صحيحه، فكان كما
أخبر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فالآية معجزة النبوة، لأنها إخبار عما
سيكون فكان. قوله تعالى: (لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ) فيه قولان:
أحدهما- يعنى أرض مكة، لان المهاجرين سألوا الله تعالى ذلك فوعدوا كما وعدت بنو
إسرائيل، قال معناه النقاش. الثاني- بلاد العرب والعجم. قال ابن العربي: وهو
الصحيح، لان أرض مكة محرمة على المهاجرين، قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: (لكن البائس سعد بن خولة). يرثى له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أن مات بمكة. وقال في الصحيح أيضا: (يمكث المهاجر بمكة بعد قضاء نسكه
ثلاثا). واللام في" لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ" جواب قسم مضمر، لان الوعد
قول، مجازها: قال الله للذين آمنوا وعملوا الصالحات والله ليستخلفنهم في الأرض
فيجعلهم ملوكها وسكانها. (كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) يعنى بنى
إسرائيل، أهلك الجبابرة بمصر والشام وأورثهم أرضهم وديارهم. وقراءة العامة:"
كَمَا اسْتَخْلَفَ" بفتح التاء واللام، لقوله:" وَعَدَ".
وقوله:" لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ". وقرا عيسى بن عمر وأبو بكر والمفضل عن
عاصم:" استخلف" بضم
__________
(1). راجع ج 7 ص 272.
التاء
وكسر اللام على الفعل المجهول. (وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي
ارْتَضى لَهُمْ) وهو الإسلام، كما قال تعالى:" وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ
دِيناً" [المائدة: 3] وقد تقدم «1». وروي سليم بن عامر عن المقداد ابن الأسود
قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: (ما على ظهر الأرض
بيت حجر ولا مدر إلا أدخله الله كلمة الإسلام بعز عزيز أو ذل ذليل أما بعزهم
فيجعلهم من أهلها وأما بذلهم فيدينون بها (. ذكره الماوردي حجة لمن قال: إن المراد
بالأرض بلاد العرب والعجم، وهو القول الثاني، على ما تقدم آنفا.
(وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ) قرأ ابن محيصن وابن كثير ويعقوب وأبو بكر بالتخفيف، من
أبدل، وهى قراءة الحسن، واختيار أبى حاتم. الباقون بالتشديد، من بدل، وهى اختيار
أبى عبيد، لأنها أكثر ما في القرآن، قال الله تعالى:" تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ
«2»لَّهِ" [يونس: 64]. وقال:" وَإِذا بَدَّلْنا «3» آيَةً" [النحل:
101] ونحوه، وهما لغتان. قال النحاس: وحكى محمد بن الجهم عن الفراء قال: قرأ عاصم
والأعمش:" وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ" مشددة، وهذا غلط عن عاصم، وقد ذكر بعده
غلطا أشد منه، وهو أنه حكى عن سائر الناس التخفيف. قال النحاس: وزعم أحمد بن يحيى
أن بين التثقيل والتخفيف فرقا، وأنه يقال: بدلته أي غيرته، وأبدلته أزلته وجعلت
غيره. قال النحاس: وهذا القول صحيح، كما تقول: أبدل لي هذا الدرهم، أي أزله وأعطني
غيره. وتقول: قد بدلت بعدنا، أي غيرت، غير أنه قد يستعمل أحدهما موضع الأخر، والذي
ذكره أكثر. وقد مضى هذا في" النساء" «4» والحمد لله، وذكرنا في
سورة" إبراهيم" الدليل من السنة على أن بدل معناه إزالة العين، فتأمله
هناك «5». وقرى:" عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا «6»" [القلم: 32] مخففا
ومثقلا (يَعْبُدُونَنِي) هو في موضع الحال، أي في حال عبادتهم الله بالإخلاص.
ويجوز أن يكون استئنافا على طريق الثناء عليهم. (لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً) فيه
أربعة أقوال: أحدها- لا يعبدون إلها غيري، حكاه النقاش. الثاني- لا يراءون بعبادتي
أحدا. الثالث- لا يخافون غيري، قاله ابن عباس. الرابع- لا يحبون، غيري قاله مجاهد.
(وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ) أي بهذه النعم. والمراد كفران النعمة لأنه، قال
تعالى: (فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) الكافر بالله فاسق بعد هذا الانعام وقبله.
__________
(1). راجع ج 6 ص 63.
(2). راجع ج 8 ص 358.
(3). راجع ج 10 ص 176.
(4). راجع ج 5 ص 425.
(5). راجع ج 9 ص 382.
(6). راجع ج 18 ص 244.
وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56)
[سورة
النور (24): آية 56]
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ
تُرْحَمُونَ (56)
تقدم، فأعاد الامر بالعبادة تأكيدا.
[سورة النور (24): آية 57]
لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْواهُمُ
النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57)
قوله تعالى: (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) هذا تسلية للنبي صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ووعد بالنصرة. وقراءة العامة" تَحْسَبَنَّ" بالتاء
خطابا. وقرا ابن عامر وحمزة وأبو حيوة:" يحسبن" بالياء، بمعنى لا يحسبن
الذين كفروا أنفسهم معجزين الله في الأرض، لان الحسبان يتعدى إلى مفعولين. وهذا
قول الزجاج. وقال الفراء وأبو على: يجوز أن يكون الفعل للنبي صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أي لا يحسبن محمد الذين كفروا معجزين في الأرض. ف"-
الَّذِينَ" مفعول أول، و" مُعْجِزِينَ" مفعول ثان. وعلى القول
الأول" الَّذِينَ كَفَرُوا" فاعل" أنفسهم" مفعول أول، وهو
محذوف مراد" مُعْجِزِينَ" مفعول ثان. قال النحاس: وما علمت أحدا من أهل
العربية بصريا ولا كوفيا إلا وهو يخطئ قراءة حمزة، فمنهم من يقول: هي لحن، لأنه لم
يأت إلا بمفعول واحد ليحسبن. وممن قال هذا أبو حاتم. وقال الفراء: هو ضعيف، وأجازه
على ضعفه، على أنه يحذف المفعول الأول، وقد بيناه. قال النحاس: وسمعت على ابن
سليمان يقول في هذه القراءة: يكون" الَّذِينَ كَفَرُوا" في موضع نصب.
قال: ويكون المعنى ولا يحسبن الكافر الذين كفروا معجزين في الأرض. قلت: وهذا موافق
لما قاله الفراء وأبو على، إلا «1» أن الفاعل هناك النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ. وفي هذا القول الكافر. و(معجزين) معناه فائتين. وقد تقدم «2». (ومأواهم
النار ولبئس المصير) أي المرجع.
__________
(1). كذا في ك.
(2). راجع ج 7 ص 88.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58)
[سورة
النور (24): آية 58]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ
أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ
مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ
وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا
عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ
كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58)
فيه ثمان «1» مسائل: الاولى- قال العلماء، هذه الآية خاصة والتي قبلها عامة، لأنه
قال:" يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ
بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها" [النور: 27]
ثم خص هنا فقال:" لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ"
فخص في هذه الآية بعض المستأذنين، وكذلك أيضا يتأول القول في الاولى في جميع
الأوقات عموما. وخص في هذه الآية بعض الأوقات، فلا يدخل فيها عبد ولا أمة، وغداد
كان أو ذا منظر إلا بعد الاستئذان. قال مقاتل: نزلت في أسماء بنت مرثد، دخل عليها
غلام لها كبير، فاشتكت إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فنزلت
عليه الآية. وقيل: سبب نزولها دخول مدلج على عمر، وسيأتي. الثانية- اختلف العلماء
في المراد بقوله تعالى:" لِيَسْتَأْذِنْكُمُ" على ستة أقوال الأول- أنها
منسوخة، قاله ابن المسيب وابن جبير. الثاني- أنها ندب غير واجبة، قاله أبو قلابة،
قال: إنما أمروا بهذا نظرا لهم. الثالث- عنى بها النساء، قاله أبو عبد الرحمن
السلمى. وقال ابن عمر: هي في الرجال دون النساء. وهو القول الرابع. الخامس- كان
ذلك واجبا، إذ كانوا لا غلق لهم ولا أبواب، ولو عاد الحال لعاد الوجوب، حكاه
المهدوي عن ابن عباس.
__________
(1). كذا في ك. وهو الموجود.
السادس-
أنها محكمة واجبة ثابتة على الرجال والنساء، وهو قول أكثر أهل العلم، منهم القاسم
وجابر بن زيد والشعبي. وأضعفها قول السلمى لان" الَّذِينَ" لا يكون
للنساء في كلام العرب، إنما يكون للنساء اللاتي واللواتي. وقول ابن عمر يستحسنه
أهل النظر، لان" الذين" للرجال في كلام العرب، وإن كان يجوز أن يدخل
معهم النساء فإنما يقع ذلك بدليل، والكلام على ظاهره، غير أن في إسناده ليث بن أبى
سليم «1». وأما قول ابن عباس فروى أبو داود عن عبيد الله بن أبى يزيد سمع ابن عباس
يقول: آية لم يؤمر بها أكثر الناس آية الاستئذان وإني لأمر جاريتي هذه تستأذن على.
قال أبو داود: وكذلك رواه عطاء عن ابن عباس" يأمر به". وروى عكرمة أن
نفرا من أهل العراق قالوا: يا ابن عباس، كيف ترى في هذه الآية التي أمرنا فيها بما
أمرنا ولا يعمل بها [أحد «2»]، قول الله عز وجل:" يا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ
يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ
وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ
ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ
طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ". قال أبو داود: قرأ القعنبي إلى" عَلِيمٌ
حَكِيمٌ" قال ابن عباس: إن الله حليم رحيم بالمؤمنين يحب الستر، وكان الناس
ليس لبيوتهم ستور ولا حجال «3»، فربما دخل الخادم أو الولد أو يتيمة الرجل والرجل
على أهله، فأمرهم الله بالاستئذان في تلك العورات، فجاءهم الله بالستور والخير،
فلم أر أحدا يعمل بذلك [بعد «4»]. قلت: هذا متن حسن، وهو يرد قول سعيد وابن جبير،
فإنه ليس فيه دليل على نسخ الآية، ولكن على أنها كانت على حال ثم زالت، فإن كان
مثل ذلك الحال فحكمها قائم كما كان، بل حكمها لليوم ثابت في كثير من مساكن
المسلمين في البوادي والصحارى ونحوها. وروى
__________
(1). في تهذيب التهذيب:" قال ابن حبان اختلط في آخر عمره، فكان يقلب الأسانيد
ويرفع المراسيل، ويأتي عن الثقات بما ليس من حديثهم. وقال البزار: كأن أحد العباد،
إلا أنه أصابة اختلاط فاضطرب حديثه ... إلخ".
(2). زيادة عن سنن أبى داود. في ك: ولا نعمل بها. [.....]
(3). الحجال: جمع الحجلة (بالتحريك) وهو بيت كالقبة يستر بالثياب ويكون له أزرار
كبار.
(4). زيادة عن سنن أبى داود. في ك: ولا نعمل بها.
وكيع
عن سفيان عن موسى بن أبى عائشة عن الشعبي" يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ" قال: ليست بمنسوخة.
قلت: إن الناس لا يعملون بها، قال: الله عز وجل المستعان. الثالثة- قال بعض أهل العلم:
إن الاستئذان ثلاثا مأخوذ من قوله تعالى:" يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا
الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ" قال يزيد «1»: ثلاث دفعات. قال: فورد
القرآن في المماليك والصبيان، وسنة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
في الجميع. قال ابن عبد البر: ما قاله من هذا وإن كان له وجه فإنه غير معروف عن
العلماء في تفسير الآية التي نزع بها، والذي عليه جمهورهم في قوله:" ثَلاثَ
مَرَّاتٍ" أي في ثلاث أوقات. ويدل على صحة هذا القول ذكره فيها:" مِنْ
قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ
بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ". الرابعة- أدب الله عز وجل عباده في هذه الآية بأن
يكون العبيد إذ لا بال لهم، والأطفال الذين لم يبلغوا الحلم إلا أنهم عقلوا معاني
الكشفة ونحوها، يستأذنون على أهليهم في هذه الأوقات الثلاثة، وهى الأوقات التي
تقتضي عادة الناس الانكشاف فيها وملازمة التعري. فما قبل الفجر وقت انتهاء النوم
ووقت الخروج من ثياب النوم ولبس ثياب النهار. ووقت القائلة وقت التجرد أيضا وهى
الظهيرة، لان النهار يظهر فيها إذا علا شعاعه واشتد حره. وبعد صلاة العشاء وقت
التعري للنوم، فالتكشف غالب في هذه الأوقات. يروي أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث غلاما من الأنصار يقال له مدلج إلى عمر بن الخطاب ظهيرة
ليدعوه، فوجده نائما قد أغلق عليه الباب، فدق عليه الغلام الباب فناداه، ودخل،
فاستيقظ عمر وجلس فانكشف منه شي، فقال عمر: وددت أن الله نهى أبناءنا ونساءنا
وخدمنا عن الدخول علينا في هذه الساعات إلا بإذن، ثم انطلق إلى رسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فوجد هذه الآية قد أنزلت، فخر ساجدا شكرا لله. وهى
مكية.
__________
(1). كذا في ب. وفى ك وح وا: يزيد. ولا وجه له.
الخامسة-
قوله تعالى: (وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ) أي الذين لم
يحتلموا من أحراركم، قاله مجاهد. وذكر إسماعيل بن إسحاق كان «1» يقول: ليستأذنكم
الذين لم يبلغوا الحلم مما ملكت أيمانكم، على التقديم والتأخير، وأن الآية في
الإماء. وقرا الجمهور بضم اللام، وسكنها الحسن بن أبى الحسن لثقل الضمة، وكان أبو
عمرو يستحسنها. و" ثَلاثَ مَرَّاتٍ" نصب على الظرف، لأنهم لم يؤمروا
بالاستئذان ثلاثا، إنما أمروا بالاستئذان في ثلاثة مواطن، والظرفية في"
ثَلاثَ" بينة: من قبل صلاة الفجر، وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة، ومن صلاة
العشاء. وقد مضى معناه. ولا يجب أن يستأذن ثلاث مرات في كل وقت. (ثَلاثُ عَوْراتٍ
لَكُمْ) قرأ جمهور السبعة" ثَلاثُ عَوْراتٍ" برفع" ثَلاثَ".
وقرا حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم" ثلاث" بالنصب على البدل من الظرف
في قوله" ثَلاثَ مَرَّاتٍ". قال أبو حاتم: النصب ضعيف مردود. وقال
الفراء: الرفع أحب إلى. قال: وإنما اخترت الرفع لان المعنى: هذه الخصال ثلاث
عورات. والرفع عند الكسائي بالابتداء، والخبر عنده ما بعده، ولم يقل بالعائد، وقال
نصا بالابتداء. قال: والعورات الساعات التي تكون فيها العورة، إلا أنه قرأ بالنصب،
والنصب فيه قولان: أحدهما- أنه مردود على قوله" ثَلاثَ مَرَّاتٍ"، ولهذا
استبعده الفراء. وقال الزجاج: المعنى ليستأذنكم أوقات ثلاث عورات، فحذف المضاف
وأقيم المضاف إليه مقامه. و" عَوْراتٍ" جمع عورة، وبابه في الصحيح أن
يجئ على فعلات (بفتح العين) كجفنة وجفنات، ونحو ذلك. وسكنوا العين في المعتل كبيضة
وبيضات؟ لان فتحه داع إلى اعتلاله فلم يفتح لذلك، فأما قول الشاعر:
أبو بيضات رائح متأوب ... رفيق بمسح المنكبين سبوح «2»
[فشاذ].
__________
(1). كذا في نسخ الأصل، وظاهر أن في العبارة سقطا.
(2). كذا في اللسان مادة" بيض". والذي في نسخ الأصل.
أبو بيضات رائح أو مغتد ... عجلان ذا زاد وغير مزود
وهذا البيت للنابغة الذبياني، وصواب إنشاده:
أمن آل مية رائح أو مغتد ... ......... إلخ.
السادسة-
قوله تعالى: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ) أي في الدخول
من غير أن يستأذنوا وإن كنتم متبذلين. (طَوَّافُونَ) بمعنى هم طوافون. قال الفراء:
كقولك في الكلام إنما هم خدمكم وطوافون عليكم. وأجاز الفراء نصب"
طوافين" لأنه نكرة، والمضمر في" عَلَيْكُمْ" معرفة. ولا يجيز
البصريون أن يكون حالا من المضمرين اللذين في" عَلَيْكُمْ" وفي"
بَعْضُكُمْ" لاختلاف العاملين. ولا يجوز مررت يزيد ونزلت على عمرو العاقلين،
على النعت لهما. فمعنى" طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ" أي يطوفون عليكم
وتطوفون عليهم، ومنه الحديث في الهرة (إنما هي من الطوافين عليكم أو الطوافات) «1».
فمنع في الثلاث العورات من دخولهم علينا، لان حقيقة العورة كل شي لا مانع دونه،
ومنه قوله:" إن بيوتنا عورة" «2» [الأحزاب: 13] أي سهلة للمدخل، فبين
العلة الموجبة للاذن، وهى الخلوة في حال العورة، فتعين امتثاله وتعذر نسخه. ثم رفع
الجناح بقوله:" لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ
طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ" أي يطوف بعضكم على بعض.
(كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ) الكاف في موضع نصب، أي يبين الله لكم
آياته الدالة على متعبداته بيانا مثل ما يبين لكم هذه الأشياء. (وَاللَّهُ عَلِيمٌ
حَكِيمٌ) تقدم «3» السابعة- قوله تعالى: (وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ) يريد
العتمة. وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى
يقول: (لا تغلبنكم الاعراب على اسم صلاتكم ألا إنها العشاء وهم يعتمون بالإبل).
وفي رواية (فإنها في كتاب الله العشاء وإنها تعتم بحلاب الإبل). وفي البخاري عن
أبى برزة: كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يؤخر العشاء. وقال أنس:
أخر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العشاء. وهذا يدل على العشاء الاولى.
وفي الصحيح: فصلاها، يعنى العصر بين العشاءين المغرب والعشاء. وفي الموطأ وغيره:
ولو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبوا. وفي مسلم عن جابر
__________
(1). قوله:" أو الطوافات" يحتمل أن يكون على معنى الشك من الراوي.
ويحتمل أن يكون صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال ذلك، يريد أن هذا الحيوان
لا يخلو أن يكون من جملة الذكور الطوافين أو الإناث الطوافات (عن الباجى).
(2). راجع ج 14 ص 147.
(3). راجع ج 1 ص 287.
ابن
سمرة قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلى الصلوات نحوا من
صلاتكم، وكان يؤخر العتمة بعد صلاتكم شيئا، وكان يخف الصلاة. وقال القاضي أبو بكر
بن العربي: وهذه أخبار متعارضة، لا يعلم منها الأول من الأخر بالتاريخ، ونهيه عليه
السلام عن تسمية المغرب عشاء وعن تسمية العشاء عتمة ثابت، فلا مرد له من أقوال
الصحابة فضلا عمن عداهم. وقد كان ابن عمر يقول: من قال صلاة العتمة فقد أثم. وقال
ابن القاسم قال مالك:" وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ" فالله سماها
صلاة العشاء فأحب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن تسمى بما سماها الله
تعالى به، ويعلمها الإنسان أهله وولده، ولا يقال عتمة إلا عند خطاب من لا يفهم.
وقد قال حسان [بن ثابت «1»]:
وكانت لا يزال بها أنيس ... خلال مروجها نعم وشاء
فدع هذا ولكن من لطيف ... يؤرقني إذا ذهب العشاء
وقد قيل: إن هذا النهى عن اتباع الاعراب في تسميتهم العشاء عتمة، إنما كان لئلا
يعدل بها عما سماها الله تعالى في كتابه إذ قال:" وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ
الْعِشاءِ"، فكأنه نهى، إرشاد إلى ما هو الاولى، وليس على جهة التحريم، وعلى
أن تسميتها العتمة لا يجوز. ألا ترى أنه قد ثبت أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قد أطلق عليها ذلك، وقد أباح تسميتها بذلك أبو بكر وعمر رضى الله عنهما.
وقيل: إنما نهى عن ذلك تنزيها لهذه العبادة الشريفة الدينية عن أن يطلق عليها ما
هو اسم لفعله دنيوية، وهى الحلبة التي كانوا يحتلبونها في ذلك الوقت ويسمونها
العتمة، ويشهد لهذا قوله: (فإنها تعتم بحلاب الإبل). الثامنة- روى ابن ماجة في
سننه حدثنا عثمان بن أبى شيبة حدثنا إسماعيل بن عياش عن عمارة بن غزية عن أنس بن
مالك عن عمر بن الخطاب عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان يقول:
(من صلى في جماعة أربعين ليلة لا تفوته الركعة الاولى من صلاة العشاء كتب الله بها
عتقا من النار (. وفي صحيح مسلم عن عثمان بن عفان قال قال رسول الله صلى
__________
(1). من ك.
وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59)
الله
عليه وسلم: (من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل ومن صلى الفجر في جماعة
فكأنما قام الليل كله). وروي الدارقطني في سننه عن سبيع أو تبيع عن كعب قال: من
توضأ فأحسن الوضوء وصلي العشاء الآخرة وصلي بعدها أربع ركعات فأتم ركوعهن وسجودهن
ويعلم ما يقترئ «1» فيهن كن له بمنزلة ليلة القدر.
[سورة النور (24): آية 59]
وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا
اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ
وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59)
قرأ الحسن:" الحلم" فحذف الضمة لثقلها. والمعنى: أن الأطفال أمروا
بالاستئذان في الأوقات الثلاثة المذكورة، وأبيح لهم الامر في غير ذلك كما ذكرنا.
ثم أمر الله تعالى في هذه الآية أن يكونوا إذا بلغوا الحلم على حكم الرجال في
الاستئذان في كل وقت. وهذا بيان من الله عز وجل لاحكامه وإيضاح حلاله وحرامه،
وقال:" فَلْيَسْتَأْذِنُوا" ولم يقل فليستأذنوكم. وقال في الاولى:"
لِيَسْتَأْذِنْكُمُ" لان الأطفال غير مخاطبين ولا متعبدين. وقال ابن جريج:
قلت لعطاء" وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ
فَلْيَسْتَأْذِنُوا" قال: واجب على الناس أن يستأذنوا إذا احتلموا، أحرارا
كانوا أو عبيدا. وقال أبو إسحاق الفزاري: قلت للاوزاعي ما حد الطفل الذي يستأذن؟
قال: أربع سنين، قال لا يدخل على امرأة حتى يستأذن. وقاله «2» الزهري: أي يستأذن
الرجل على أمه، وفي هذا المعنى نزلت هذه الآية.
[سورة النور (24): آية 60]
وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ
عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ
وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60)
__________
(1). يقترئ بمعنى يقرأ.
(2). كذا في ك.
فيه
خمس مسائل: الاولى- قوله تعالى: (وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ) القواعد واحدتها
قاعد، بلا هاء، ليدل حذفها على أنه قعود الكبر، كما قالوا: امرأة حامل، ليدل بحذف
الهاء أنه حمل حبل. قال الشاعر:
فلو أن ما في بطنه بين نسوة ... حبلن وإن كن القواعد عقرا
وقالوا في غير ذلك: قاعدة في بيتها، وحاملة على ظهرها، بالهاء. والقواعد أيضا:
أساس البيت، واحدة قاعدة، بالهاء. الثانية- القواعد: العجز اللواتي قعدن عن التصرف
من السن، وقعدن عن الولد والمحيض، هذا قول أكثر العلماء. قال ربيعة: هي التي إذا
رأيتها تستقذرها من كبرها. وقال أبو عبيدة: اللاتي قعدن عن الولد، وليس ذلك بمستقيم،
لان المرأة تقعد عن الولد وفيها مستمتع، قاله المهدوي. الثالثة- قوله تعالى:
(فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ
بِزِينَةٍ) إنما خص القواعد بذلك لانصراف الأنفس عنهن، إذ لا يذهب للرجال فيهن،
فأبيح لهن ما لم يبح لغيرهن، وأزيل عنهم كلفة التحفظ المتعب لهن. الرابعة- قرأ ابن
مسعود وأبى وابن عباس:" أن يضعن من ثيابهن" بزيادة" من" قال
ابن عباس: وهو الجلباب. وروي عن ابن مسعود أيضا:" مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ"
والعرب تقول: امرأة واضع، للتي كبرت فوضعت خمارها. وقال قوم: الكبيرة التي أيست من
النكاح، لو بدا شعرها فلا بأس، فعلى هذا يجوز لها وضع الخمار. والصحيح أنها
كالشابة في التستر، إلا أن الكبيرة تضع الجلباب الذي يكون فوق الدرع والخمار، قاله
ابن مسعود وابن جبير وغيرهما. الخامسة- قوله تعالى: (غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ
بِزِينَةٍ) أي غير مظهرات ولا متعرضات بالزينة لينظر إليهن، فإن ذلك من أقبح
الأشياء وأبعده عن الحق. والتبرج: التكشف والظهور للعيون، ومنه: بروج مشيدة. وبروج
السماء والأسوار، أي لا حائل دونها يسترها.
وقيل
لعائشة رضى الله عنها: يا أم المؤمنين، ما تقولين في الخضاب والصباغ والتمائم
والقرطين والخلخال وخاتم الذهب ورقاق الثياب؟ فقالت: يا معشر النساء، قصتكن قصة
امرأة واحدة، أحل الله لكن الزينة غير متبرجات لمن لا يحل لكن أن يروا منكن محرما.
وقال عطاء: هذا في بيوتهن، فإذا خرجت فلا يحل لها وضع الجلباب. وعلى هذا"
غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ" غير خارجات من بيوتهن. وعلى هذا يلزم أن يقال: إذا
كانت في بيتها فلا بدلها من جلباب فوق الدرع، وهذا بعيد، إلا إذا دخل عليها أجنبي.
ثم ذكر تعالى أن تحفظ الجميع منهن، واستعفافهن عن وضع الثياب والتزامهن ما يلزم
الشباب أفضل لهن وخير. وقرا ابن مسعود:" وأن يتعففن" بغير سين. ثم قيل:
من التبرج أن تلبس المرأة ثوبين رقيقين يصفانها. روى الصحيح عن أبى هريرة قال قال
رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (صنفان من أهل النار لم أرهما قوم
معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات
رءوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من
مسيرة كذا وكذا (. قال ابن العربي: وإنما جعلهن كاسيات لان الثياب عليهن، وإنما
وصفهن بأنهن عاريات لان الثواب إذا رق يصفهن، ويبدي محاسنهن، وذلك حرام. قلت: هذا
أحد التأويلين للعلماء في هذا المعنى. والثاني- أنهن كاسيات من الثياب عاريات من
لباس التقوى الذي قال الله تعالى فيه:" وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ
خَيْرٌ"»
. وأنشدوا:
إذا المرء لم يلبس ثياب من التقى ... تقلب عريانا وإن كان كاسيا
وخير لباس المرء طاعة ربه ... ولا خير فيمن كان لله عاصيا
وفي صحيح مسلم عن أبى سعيد الخدري قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: (بينا أنا نائم رأيت الناس يعرضون على «2» وعليهم قمص منها ما يبلغ
الثدي ومنها ما دون ذلك ومر عمر ابن الخطاب وعليه قميص يجره) قالوا: ماذا أولت ذلك
يا رسول الله؟ قال: (الدين). فتأويله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ القميص
بالدين مأخوذ من قوله تعالى:" وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ". العرب
تكنى عن الفضل والعفاف بالثياب، كما قال شاعرهم:
__________
(1). راجع ج 7 ص 184.
(2). الذي في صحيح مسلم:" يعرضون وعليهم ...".
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61)
ثياب
بنى عوف طهارى نقية «1»
وقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعثمان: (إن الله سيلبسك قميصا فإن
أرادوك أن تخلعه فلا تخلعه). فعبر عن الخلافة بالقميص، وهى استعارة حسنة معروفة.
قلت: هذا التأويل أصح التأويلين، وهو اللائق بهن في هذه الأزمان، وخاصة الشباب،
فإنهن يتزين ويخرجن متبرجات، فهن كاسيات بالثياب عاريات من التقوى حقيقة، ظاهرا
وباطنا، حيث تبدي زينتها، ولا تبالي بمن ينظر إليها، بل ذلك مقصودهن، وذلك مشاهد
في الوجود منهن، فلو كان عندهن شي من التقوى لما فعلن ذلك، ولم يعلم أحد ما هنالك.
ومما يقوي هذا التأويل ما ذكر من وصفهن في بقية الحديث في قوله: (رءوسهن كأسنمة
البخت). والبخت ضرب من الإبل عظام الأجسام، عظام الاسنمة، شبه رءوسهن بها لما رفعن
من ضفائر شعورهن على أوساط رءوسهن. وهذا مشاهد معلوم، والناظر إليهن ملوم. قال
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من
النساء). خرجه البخاري.
[سورة النور (24): آية 61]
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى
الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ
بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ
بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ
بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ
صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً
فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ
اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ
لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61)
__________
(1). هذا صدر بيت لامرى القيس، وعجزه كما في ديوانه:
وأوجههم عند المشاهد غران
[.....]
فيه
إحدى عشرة مسألة: الاولى: قوله تعالى: (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ) اختلف
العلماء في تأويل هذه الآية على أقوال ثمانية. أقربها- هل هي منسوخة أو ناسخة أو
محكمة، فهذه ثلاثة أقوال: الأول- أنها منسوخة من قوله تعالى:" وَلا عَلى
أَنْفُسِكُمْ" إلى آخر الآية، قاله عبد الرحمن ابن زيد، قال: هذا شي انقطع،
كانوا في أول الإسلام ليس على أبوابهم أغلاق، وكانت الستور مرخاة، فربما جاء الرجل
فدخل البيت وهو جائع وليس فيه أحد، فسوغ الله عز وجل أن يأكل منه، ثم صارت الاغلاق
على البيوت فلا يحل لاحد أن يفتحها، فذهب هذا وانقطع. قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: (لا يحتلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه ..) الحديث. خرجه الأئمة. الثاني-
أنها ناسخة، قاله جماعة. روى على بن أبى طلحة عن ابن عباس قال: لما أنزل الله عز
وجل:" يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ
بِالْباطِلِ" «1» قال المسلمون: إن الله عز وجل قد نهانا أن نأكل أموالنا
بيننا بالباطل، وأن الطعام من أفضل الأموال، فلا يحل لاحد منا أن يأكل عند أحد،
فكف الناس عن ذلك، فأنزل الله عز وجل:" لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ"-
إلى-" أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ". قال: هو الرجل يوكل الرجل
بضيعته. قلت: على بن أبى طلحة هذا هو مولى بنى هاشم سكن الشام، يكنى أبا الحسن
ويقال أبا محمد، اسم أبيه أبى طلحة سالم، تكلم في تفسيره، فقيل: إنه لم ير ابن
عباس، والله أعلم. الثالث- أنها محكمة، قاله جماعة من أهل العلم ممن يقتدي بقولهم،
منهم سعيد ابن المسيب وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود. وروى الزهري عن عروة
عن عائشة رضى الله عنها قالت: كان المسلمون يوعبون في النفير مع رسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكانوا يدفعون مفاتيحهم إلى ضمناهم ويقولون: إذا
احتجتم فكلوا، فكانوا يقولون إنما أحلوه لنا عن غير طيب نفس، فأنزل الله عز
وجل:" وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ
آبائِكُمْ" إلى آخر الآية. قال النحاس:" يوعبون" أي يخرجون بأجمعهم
في المغازي،
__________
(1). راجع ج 2 ص 337.
يقال: أوعب بنو فلان لبنى فلان إذا جاءوهم بأجمعهم. وقال ابن السكيت: يقال أوعب بنو فلان جلاء، فلم يبق ببلدهم منهم أحد. وجاء الفرس بركض وعيب، أي بأقصى ما عنده. وفي الحديث: (في الأنف إذا استوعب جدعه الدية) إذا لم يترك منه شي. واستيعاب الشيء استئصاله. ويقال: بيت وعيب إذا كان واسعا يستوعب كل ما جعل فيه. والضمنى هم الزمنى، واحدهم ضمن زمن. قال النحاس: وهذا القول من أجل ما روي في الآية، لما فيه عن الصحابة والتابعين من التوقيف أن الآية نزلت في شي بعينه. قال ابن العربي: وهذا كلام منتظم لأجل تخلفهم عنهم في الجهاد وبقاء أموالهم بأيديهم، لكن قوله" أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ" قد اقتضاه، فكان هذا القول بعيدا جدا. لكن المختار أن يقال: إن الله رفع الحرج عن الأعمى فيما يتعلق بالتكليف الذي يشترط فيه البصر، وعن الأعرج فيما يشترط في التكليف به من المشي، وما يتعذر من الافعال مع وجود العرج، وعن المريض فيما يؤثر المرض في إسقاطه، كالصوم وشروط الصلاة وأركانها، والجهاد ونحو ذلك. ثم قال بعد ذلك مبينا: وليس عليكم حرج في أن تأكلوا من بيوتكم. فهذا معنى صحيح، وتفسير بين مفيد، ويعضده الشرع والعقل، ولا يحتاج في تفسير الآية إلى نقل. قلت: وإلى هذا أشار ابن عطية فقال: فظاهر الآية وأمر الشريعة يدل على أن الحرج عنهم مرفوع في كل ما يضطرهم إليه العذر، وتقتضي نيتهم فيه الإتيان بالأكمل، ويقتضى العذر أن يقع منهم الأنقص، فالحرج مرفوع عنهم في هذا. فأما ما قال الناس في هذا الحرج هنا وهى: الثانية- فقال ابن زيد: وهو الحرج في الغزو، أي لا حرج عليهم في تأخرهم. وقوله تعالى:" ولا على أنفسكم" الآية، معنى مقطوع من الأول. وقالت فرقة: الآية كلها في معنى المطاعم. قالت: وكانت العرب ومن بالمدينة قبل المبعث تتجنب الأكل مع أهل الاعذار، فبعضهم كان يفعل ذلك تقذرا لجولان اليد من الأعمى، ولانبساط الجلسة من الأعرج، ولرائحة المريض وعلاته، وهى أخلاق جاهلية وكبر، فنزلت الآية مؤذنة.
وبعضهم
كان يفعل ذلك تحرجا من غير أهل الاعذار، إذ هم مقصرون عن درجة الأصحاء في الأكل،
لعدم الرؤية في الأعمى، وللعجز عن المزاحمة في الأعرج، ولضعف المريض، فنزلت الآية
في إباحة الأكل معهم. وقال ابن عباس في كتاب الزهراوي: إن أهل الاعذار تحرجوا في
الأكل مع الناس من أجل عذرهم، فنزلت الآية مبيحة لهم. وقيل: كان الرجل إذا ساق أهل
العذر إلى بيته فلم يجد فيه شيئا ذهب به إلى بيوت قرابته، فتحرج أهل الاعذار من
ذلك، فنزلت الآية. الثالثة- قوله تعالى: (وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ) هذا ابتداء
كلام، أي ولا عليكم أيها الناس. ولكن لما اجتمع المخاطب وغير المخاطب غلب المخاطب
لينتظم الكلام. وذكر بيوت القربات وسقط منها بيوت الأبناء، فقال المفسرون: ذلك
لأنها داخلة في قوله:" فِي بُيُوتِكُمْ" لان بيت ابن الرجل بيته وفي
الخبر (أنت ومالك لأبيك). ولأنه ذكر الأقرباء بعد ولم يذكر الأولاد. قال النحاس:
وعارض بعضهم هذا القول فقال: هذا تحكم على كتاب الله تعالى، بل الاولى في الظاهر
ألا يكون الابن مخالفا لهؤلاء، وليس الاحتجاج بما روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أنت ومالك لأبيك) بقوي لوهى هذا الحديث، وأنه لو صح لم تكن
فيه حجة، إذ قد يكون النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علم أن مال ذلك
المخاطب لأبيه. وقد قيل إن المعنى «1»: أنت لأبيك، ومالك مبتدأ، أي ومالك لك.
والقاطع لهذا التوارث بين الأب والابن. وقال الترمذي الحكيم: ووجه قوله
تعالى:" وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ" كأنه
يقول مساكنكم التي فيها أهاليكم وأولادكم، فيكون للأهل والولد هناك شي قد أفادهم
هذا الرجل الذي له المسكن، فليس عليه حرج أن يأكل معهم من ذلك القوت، أو يكون
للزوجة والولد هناك شي من ملكهم فليس عليه في ذلك حرج.
__________
(1). في ب وك:" إن معنى".
الرابعة-
قوله تعالى: (أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ
إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ
عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ) قال بعض
العلماء: هذا إذا أذنوا له في ذلك. وقال آخرون: أذنوا له أو لم يأذنوا فله أن
يأكل، لان القرابة التي بينهم هي إذن منهم. وذلك لان في تلك القرابة عطفا تسمح
النفوس منهم بذلك العطف أن يأكل هذا من شيئهم ويسروا بذلك إذا علموا. ابن العربي:
أباح لنا الأكل من جهة النسب من غير استئذان إذا كان الطعام مبذولا، فإذا كان
محوزا «1» دونهم لم يكن لهم أخذه، ولا يجوز أن يجاوزوا إلى الادخار، ولا إلى ما
ليس بمأكول وإن غير محوز عنهم إلا بإذن منهم. الخامسة- قوله تعالى: (أَوْ ما
مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ) يعنى مما اختزنتم وصار في قبضتكم. وعظم ذلك ما ملكه الرجل
في بيته وتحت غلقه، وذلك هو تأويل الضحاك وقتادة ومجاهد. وعند جمهور المفسرين يدخل
في الآية الوكلاء والعبيد والاجراء. قال ابن عباس: عنى وكيل الرجل على ضيعته،
وخازنه على ماله، فيجوز له أن يأكل مما هو قيم عليه. وذكر معمر عن قتادة عن عكرمة
قال: إذا ملك الرجل المفتاح فهو خازن، فلا بأس أن يطعم الشيء اليسير. ابن العربي:
وللخازن أن يأكل مما يخزن إجماعا، وهذا إذا لم تكن له أجرة، فأما إذا كانت له أجرة
على الخزن حرم عليه الأكل. وقرا سعيد بن جبير:" ملكتم" بضم الميم وكسر
اللام وشدها. وقرا أيضا" مفاتيحه" بياء بين التاء والحاء، جمع مفتاح،
وقد مضى في" الانعام" «2». وقرا قتادة:" مفتاحه" على الافراد.
وقال ابن عباس: نزلت هذه الآية في الحارث بن عمرو، خرج مع رسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غازيا وخلف مالك بن زيد على أهله، فلما رجع وجده مجهودا
فسأله عن حاله فقال: تحرجت أن آكل من طعامك بغير إذنك، فأنزل الله تعالى هذه
الآية. السادسة- قوله تعالى: (أَوْ صَدِيقِكُمْ) الصديق بمعنى الجمع، وكذلك العدو،
قال الله تعالى:" فَإِنَّهُمْ «3» عَدُوٌّ لِي" [الشعراء: 77]. وقال
جرير:
دعون الهوى ثم ارتمين قلوبنا ... بأسهم أعداء وهن صديق
__________
(1). من ج وك. وفى أ: محرزا.
(2). راجع ج 7 ص 1.
(3). راجع ج 13 ص 110.
والصديق
من يصدقك في مودته وتصدقه في مودتك. ثم قيل: إن هذا منسوخ بقوله:" لا
تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ" «1» [الأحزاب:
53]، وقوله تعالى:" فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا
تَدْخُلُوها" [النور: 28] الآية، وقوله عليه السلام: (لا يحل مال امرئ مسلم
إلا بطيبة نفس منه). وقيل: هي محكمة، وهو أصح. ذكر محمد بن ثور عن معمر قال: دخلت
بيت قتادة فأبصرت فيه رطبا فجعلت آكله، فقال:/ ما هذا؟ فقلت: أبصرت رطبا في بيتك
فأكلت، قال: أحسنت، قال الله تعالى:" أَوْ صَدِيقِكُمْ". وذكر عبد
الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله:" أَوْ صَدِيقِكُمْ" قال: إذا دخلت بيت
صديقك من غير مؤامرته لم يكن بذلك بأس. وقال معمر: قلت لقتادة: ألا أشرب من هذا
الحب «2»؟ قال: أنت لي صديق! فما هذا الاستئذان. وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يدخل حائط أبى طلحة المسمى ببيرحا «3» ويشرب من ماء فيها طيب بغير إذنه،
على ما قاله علماؤنا، قالوا: والماء متملك لأهله. وإذا جاز الشرب من ماء الصديق
بغير إذنه جاز الأكل من ثماره وطعامه إذا علم أن نفس صاحبه تطيب به لتفاهته ويسير
مؤنته، أو لما بينهما من المودة. ومن هذا المعنى إطعام أم حرام له صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا نام عندها، لان الأغلب أن ما في البيت من الطعام هو للرجل،
وأن يد زوجته في ذلك عارية. وهذا كله ما لم يتخذ الأكل خبنة «4»، ولم يقصد بذلك
وقاية ماله، وكان تافها يسيرا. السابعة- قرن الله عز وجل في هذه الآية الصديق
بالقرابة المحضة الوكيدة، لان قرب المودة لصيق. قال ابن عباس في كتاب النقاش:
الصديق أو كد من القرابة، ألا ترى استغاثة الجهنميين:" فَما لَنا مِنْ
شافِعِينَ. وَلا صَدِيقٍ «5» حَمِيمٍ" [الشعراء: 101- 100]. قلت: ولهذا لا
تجوز عندنا شهادة الصديق لصديقه، كما لا تجوز شهادة القريب لقريبه. وقد مضى بيان
هذا والعلة فيه في" النساء" «6». وفي المثل" أيهم أحب إليك أخوك أم
صديقك" قال: أخى إذا صديقي.
__________
(1). راجع ج 14 ص 223.
(2). الحب (بضم الحاء المهملة): الجرة الضخمة، والخابية. وقال ابن دريد: هو الذي
يجعل فيه الماء، فلم ينوعه.
(3). راجع الكلام على ضبطها في معجم البلدان لياقوت.
(4). الخبة: معطف الإزار وطرف الثوب، أي لا يأخذ منه في ثوبه.
(5). راجع ج 13 ص 117.
(6). راجع ج 5 ص 410 فما بعدها.
الثامنة-
قوله تعالى: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً)
قيل: إنها نزلت في بنى ليث بن بكر، وهم حي من بنى كنانة، وكان الرجل منهم لا يأكل
وحده ويمكث أياما جائعا حتى يجد من يؤاكله. ومنه قول بعض الشعراء:
إذا ما صنعت الزاد فالتمسي له ... أكيلا فإنى لست آكله وحدي
قال ابن عطية: وكانت هذه السيرة موروثة عندهم عن إبراهيم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فإنه كان لا يأكل وحده. وكان بعض العرب إذا كان له ضيف لا يأكل إلا أن
يأكل مع ضيفه، فنزلت الآية مبينة سنة الأكل، ومذهبة كل ما خالفها من سيرة العرب،
ومبيحة من أكل المنفرد ما كان عند العرب محرما، نحت به نحو كرم الخلق، فأفرطت في
إلزامه، وإن إحضار الأكيل لحسن، ولكن بألا يحرم الانفراد. التاسعة- قوله تعالى:
(جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً)" جميعا" نصب على الحال. و"
أَشْتاتاً" جمع شت، والشت المصدر بمعنى التفرق، يقال: شت القوم أي تفرقوا.
وقد ترجم البخاري في صحيحه (باب- ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على
المريض حرج) الآية. و(والنهد والاجتماع). ومقصوده فيما قاله علماؤنا في هذا الباب:
إباحة الأكل جميعا وإن اختلفت أحوالهم في الأكل. وقد سوغ النبي صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك، فصارت تلك سنة في الجماعات التي تدعى إلى الطعام في النهد
والولائم وفي الإملاق في السفر. وما ملكت مفاتحه بأمانة أو قرابة أو صداقة فلك أن
تأكل مع القريب أو الصديق ووحدك. والنهد: ما يجمعه الرفقاء من مال أو طعام على قدر
في النفقة ينفقونه بينهم، وقد تناهدوا، عن صاحب العين. وقال ابن دريد: يقال من
ذلك: تناهد القوم الشيء بينهم. الهروي: وفي حديث الحسن (أخرجوا نهدكم فإنه أعظم
للبركة وأحسن لاخلاقكم). النهد: ما تخرجه الرفقة عند المناهدة، وهو استقسام النفقة
بالسوية في السفر وغيره. والعرب تقول: هات نهدك، بكسر النون. قال المهلب: وطعام
النهد لم يوضع للآكلين على أنهم يأكلون بالسواء، وإنما يأكل كل واحد على قدر
نهمته، وقد يأكل الرجل أكثر من غيره. وقد قيل: إن
تركها
أشبه بالورع. وإن كانت الرفقة تجتمع كل يوم على طعام أحدهم فهو أحسن من النهد
لأنهم لا يتناهدون إلا ليصيب كل واحد منهم من ماله، ثم لا يدري لعل أحدهم يقصر عن
ماله ويأكل غيره أكثر من ماله، وإذا كانوا يوما عند هذا ويوما عند هذا بلا شرط
فإنما يكونون أضيافا والضيف يأكل بطيب نفس مما يقدم إليه. وقال أيوب السختياني:
إنما كان النهد أن القوم كانوا يكونون في السفر فيسبق بعضهم إلى المنزل فيذبح
ويهيئ الطعام ثم يأتيهم، ثم يسبق أيضا إلى المنزل فيفعل مثل ذلك، فقالوا: إن هذا
الذي تصنع كلنا نحب أن نصنع مثله فتعالوا نجعل بيننا شيئا لا يتفضل بعضنا على بعض،
فوضعوا النهد بينهم. وكان الصلحاء إذا تناهدوا تحرى أفضلهم أن يزيد على ما يخرجه
أصحابه، وإن لم يرضوا بذلك منه إذا علموه فعله سرا دونهم. العاشرة- قوله تعالى:
(فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ
اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ
تَعْقِلُونَ) اختلف المتأولون في أي البيوت أراد، فقال إبراهيم النخعي والحسن:
أراد المساجد، والمعنى: سلموا على من فيها من ضيفكم «1». فإن لم يكن في المساجد
أحد فالسلام أن يقول المرء: السلام على رسول الله. وقيل: يقول السلام عليكم، يريد
الملائكة، ثم يقول: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. وذكر عبد الرزاق أخبرنا
معمر عن عمرو بن دينار عن ابن عباس رضى الله عنهما في قوله تعالى:" فَإِذا
دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ" الآية، قال: إذا دخلت
المسجد فقل السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. وقيل: المراد بالبيوت البيوت
المسكونة، أي فسلموا على أنفسكم. قاله جابر بن عبد الله وابن عباس أيضا وعطاء بن
أبى رباح. وقالوا: يدخل في ذلك البيوت غير المسكونة، ويسلم المرء فيها على نفسه
بأن يقول: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. قال ابن العربي: القول بالعموم
في البيوت هو الصحيح، ولا دليل على التخصيص، وأطلق القول ليدخل تحت هذا العموم كل
بيت كان للغير أو لنفسه، فإذا دخل بيتا لغيره استأذن كما تقدم، فإذا دخل بيتا
لنفسه سلم كما ورد في الخبر، يقول: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، قاله
ابن عمر. وهذا إذا كان فارغا، فإن كان فيه أهله وخدمه
__________
(1). كذا في ك: وهو الأشبه. وفى أوب وج وى: ضيفكم.
فليقل:
السلام عليكم. وإن كان مسجدا فليقل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. وعليه
حمل ابن عمر البيت الفارغ. قال ابن العربي: والذي أختاره إذا كان البيت فارغا ألا
يلزم السلام، فإنه إن كان المقصود الملائكة فالملائكة لا تفارق العبد بحال، أما
إنه إذا دخلت بيتك يستحب لك ذكر الله بأن تقول: ما شاء الله لا قوة إلا بالله. وقد
تقدم في سورة" الكهف" «1». وقال القشيري في قوله:" فَإِذا
دَخَلْتُمْ بُيُوتاً": والأوجه أن يقال إن هذا عام في دخول كل بيت، فإن كان
فيه ساكن مسلم يقول السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وإن لم يكن فيه ساكن يقول
السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، وإن كان في البيت من ليس بمسلم قال السلام
على من اتبع الهدى، أو السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. وذكر ابن خويز منداد
قال: كتب إلى أبو العباس الأصم قال حدثنا محمد ابن عبد الله بن عبد الحكم قال
حدثنا ابن وهب قال حدثنا جعفر بن ميسرة عن زيد بن أسلم أن رسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (إذا دخلتم بيوتا فسلموا على أهلها واذكروا اسم
الله فإن أحدكم إذا سلم حين يدخل بيته وذكر اسم الله تعالى على طعامه يقول الشيطان
لأصحابه لا مبيت لكم ها هنا ولا عشاء وإذا لم يسلم أحدكم إذا دخل ولم يذكر اسم
الله على طعامه قال الشيطان لأصحابه أدركتم المبيت والعشاء (. قلت: هذا الحديث ثبت
«2» معناه مرفوعا من حديث جابر، خرجه مسلم. وفي كتاب أبى داود عن أبى مالك الأشجعي
قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إذا ولج الرجل بيته فليقل
اللهم إنى أسألك خير الولوج وخير الخروج باسم الله ولجنا وباسم الله خرجنا وعلى
الله ربنا توكلنا ليسلم على أهله (. الحادية عشرة- قوله تعالى: (تَحِيَّةً) مصدر،
لان قوله:" فَسَلِّمُوا" معناه فحيوا. وصفها بالبركة لان فيها الدعاء
واستجلاب مودة المسلم عليه. ووصفها أيضا بالطيب لان سامعها يستطيبها. والكاف من
قوله:" كَذلِكَ" كاف تشبيه. و" ذلك" إشارة إلى هذه السنن، أي كما
بين لكم سنة دينكم في هذه الأشياء يبين لكم سائر ما بكم حاجة إليه في دينكم."
__________
(1). راجع ج 10 ص 406.
(2). كذا في الأصول. وقد ورد معنى هذا الحديث في كتاب الأدب المفرد للبخاري من
رواية جابر. [.....]
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62)
[سورة
النور (24): آية 62]
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا
مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ
الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ
مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62)
قوله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا
كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ) فيه
مسألتان: الاولى- قوله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ)
" إِنَّمَا" في هذه الآية للحصر، المعنى: لا يتم ولا يكمل إيمان من آمن
بالله ورسول إلا بأن يكون من الرسول سامعا غير معنت في أن يكون الرسول يريد إكمال
أمر فيريد هو إفساده بزواله في وقت الجمع، ونحو ذلك. وبين تعالى في أول السورة أنه
أنزل آيات بينات، وإنما النزول على محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فختم
السورة بتأكيد الامر في متابعته عليه السلام، ليعلم أن أوامره كأوامر القرآن.
الثانية- واختلف في الامر الجامع ما هو، فقيل: المراد به ما للإمام من حاجة إلى
تجمع الناس فيه لإذاعة مصلحة، من إقامة سنة في الدين، أو لترهيب عدو باجتماعهم
وللحروب، قال الله تعالى:" وَشاوِرْهُمْ فِي «1» الْأَمْرِ" [آل عمران:
159]. فإذا كان أمر يشملهم نفعه وضره جمعهم للتشاور في ذلك. والامام الذي يترقب
إذنه هو إمام الامرة، فلا يذهب أحد لعذر إلا بإذنه، فإذا ذهب بإذنه ارتفع عنه الظن
السيئ. وقال مكحول والزهري: الجمعة من الامر الجامع. وإمام الصلاة ينبغي أن يستأذن
إذا قدمه إمام الامرة، إذا كان يرى المستأذن. قال ابن سيرين: كانوا يستأذنون
الامام على المنبر، فلما كثر ذلك قال زياد: من جعل يده على فيه فليخرج دون إذن،
وقد كان هذا بالمدينة حتى أن سهل بن أبى صالح رعف يوم الجمعة فاستأذن الامام.
وظاهر الآية يقتضى أن يستأذن أمير الامرة الذي هو في مقعد النبوة، فإنه ربما كان
له رأي في حبس ذلك الرجل لأمر من أمور الدين. فأما إمام الصلاة فقط
__________
(1). راجع ج 4 ص 250.
فليس
ذلك إليه، لأنه وكيل على جزء من أجزاء الدين للذي هو في مقعد النبوة. وروي أن هذه
الآية نزلت في حفر الخندق حين جاءت قريش وقائدها أبو سفيان، وغطفان وقائدها عيينة
بن حصن، فضرب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الخندق على المدينة، وذلك
في شوال سنة خمس من الهجرة، فكان المنافقون يتسللون لواذا من العمل ويعتذرون
بأعذار كاذبة. ونحوه روى أشهب وابن عبد الحكم عن مالك، وكذلك قال محمد بن إسحاق.
وقال مقاتل: نزلت في عمر رضى الله عنه، استأذن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ في غزوة تبوك في الرجعة فأذن له وقال: (انطلق فوالله ما أنت بمنافق)
يريد بذلك أن يسمع المنافقين. وقال ابن عباس رضى الله عنهما: إنما استأذن عمر رضى
الله عنه في العمرة فقال عليه السلام لما أذن له: (يا أبا حفص لا تنسنا في صالح
دعائك). قلت: والصحيح الأول لتناوله جميع الأقوال. واختار ابن العربي ما ذكره في
نزول الآية عن مالك وابن إسحاق، وأن ذلك مخصوص في الحرب. قال: والذي يبين ذلك
أمران: أحدهما- قوله في الآية الأخرى:" قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ
مِنْكُمْ لِواذاً" [النور: 63]. وذلك أن المنافقين كانوا يتلوذون ويخرجون عن
الجماعة ويتركون رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأمر الله جميعهم
بألا يخرج أحد منهم حتى يأذن له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وبذلك يتبين إيمانه. الثاني- قوله:" لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى
يَسْتَأْذِنُوهُ" وأى إذن في الحدث «1» والامام يخطب، وليس للإمام خيار في
منعه ولا إبقائه، وقد قال:" فأذن لمشيت منهم"، فبين بذلك أنه مخصوص في
الحرب. قلت: القول بالعموم أولى وأرفع وأحسن وأعلى. (فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ
مِنْهُمْ) فكان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالخيار إن شاء أن يأذن
وإن شاء منع. وقال قتادة: قوله:" فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ"
منسوخة بقوله:" عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ" «2»
[التوبة: 43]. أي لخروجهم عن الجماعة إن علمت لهم عذرا. (إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ).
__________
(1). في ب وج وك: المحدث.
(2). راجع ج 8 ص 154.
لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)
[سورة
النور (24): آية 63]
لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ
يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ
الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ
عَذابٌ أَلِيمٌ (63)
قوله تعالى: (لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ
بَعْضاً) يريد: يصيح من بعيد: يا أبا القاسم! بل عظموه كما قال في الحجرات:"
إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ" «1»
[الحجرات: 3] الآية. وقال سعيد بن جبير ومجاهد: المعنى قولوا يا رسول الله، في رفق
ولين، ولا تقولوا يا محمد بتجهم. وقال قتادة: أمرهم أن يشرفوه ويفخموه. ابن عباس:
لا تتعرضوا لدعاء الرسول عليكم بإسخاطه فإن دعوته موجبة. (قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ
الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً) التسلل والانسلال: الخروج. واللواذ من
الملاوذة، وهى أن تستتر بشيء مخافة من يراك، فكان المنافقون يتسللون عن صلاة
الجمعة." لِواذاً" مصدر في موضع الحال، أي متلاوذين، أي يلوذ بعضهم
ببعض، ينضم إليه استتارا من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأنه لم
يكن على المنافقين أثقل من يوم الجمعة وحضور الخطبة، حكاه النقاش، وقد مضى القول
فيه. وقيل: كانوا يتسللون في الجهاد رجوعا عنه يلوذ عضهم ببعض. وقال الحسن: لواذا
فرارا من الجهاد، ومنه قول حسان:
وقريش تجول «2» منا لواذا ... لم تحافظ وخف منها الحلوم
وصحت واوها لتحركها في لاوذ. يقال، لاوذ يلاوذ ملاوذة ولواذا. ولاذ يلوذ [لوذا]
ولياذا، انقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها اتباعا للاذ في الاعتلال، فإذا كان
مصدر فاعل لم يعل، لان فاعل لا يجوز أن يعل. قوله تعالى: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ
يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) بهذه الآية احتج الفقهاء على أن الامر على الوجوب.
ووجهها أن الله تبارك وتعالى قد حذر من مخالفة أمره، وتوعد
__________
(1). راجع ج 16 ص 328.
(2). في الأصول:" مِنْكُمْ" والتصويب عن الديوان، والرواية فيه،
وقريش تلوذ منا لواذا ... لم يقيموا وخفف منها الحلوم
أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64)
بالعقاب
عليها بقوله: (أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) فتحرم
مخالفته، فيجب امتثال أمره. والفتنة هنا القتل، قاله ابن عباس. عطاء: الزلازل
والأهوال. جعفر بن محمد: سلطان جائر يسلط عليهم. وقيل: الطبع على القلوب بشؤم
مخالفة الرسول. والضمير في" أَمْرِهِ" قيل هو عائد إلى أمر الله تعالى،
قاله يحيى بن سلام. وقيل: إلى أمر رسوله عليه السلام، قاله قتادة. ومعنى:"
يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ" أي يعرضون عن أمره. وقال أبو عبيدة
والأخفش:" عَنْ" في هذا الموضع زائدة. وقال الخليل وسيبويه: ليست
بزائدة، والمعنى: يخالفون بعد أمره، كما قال:
... لم تنتطق عن تفضل «1»
ومنه قوله:" فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ" «2» [الكهف: 50] أي بعد أمر
ربه. و" أَنْ" في موضع نصب ب"- يحذر". ولا يجوز عند أكثر
النحويين حذر زيدا، وهو في" أَنْ" جائز، لان حروف الخفض تحذف معها.
[سورة النور (24): آية 64]
أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ
عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللَّهُ
بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64)
قوله تعالى: (أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) خلقا وملكا.
(قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ) فهو يجازيكم به. و" يَعْلَمُ" هنا
بمعنى علم. (وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ) بعد ما كان في خطاب رجع في خبر، وهذا
يقال له: خطاب التلوين. (فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا) أي يخبرهم بأعمالهم
ويجازيهم بها. (وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) من أعمالهم وأحوالهم. ختمت
السورة بما تضمنت من التفسير، والحمد لله على التيسير.
__________
(1). هذا من معلقة امرئ القيس. والبيت بتمامه:
وتضحى فتيت المسك فوق فراشها ... نئوم الضحى لم تنتطق عن تفضل
(2). راجع ج 10 ص 419 فما بعد.
تم
بعون الله تعالى الجزء الثاني عشر من تفسير القرطبي يتلوه إن شاء الله تعالى الجزء
عشر، وأوله سورة" الفرقان"
محققه أبو إسحاق ابراهيم أطفيش
تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا (3)
الجزء
الثالث عشر
سورة الفرقان
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ مكية كلها في قول الجمهور. وقال ابن عباس
وقتادة: إلا ثلاث آيات منها نزلت بالمدينة، وهى:" وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ
مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ" إلى قوله:" وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً
رَحِيماً". وقال الضحاك: هي مدنية، وفيها آيات مكية، قوله:" وَالَّذِينَ
لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ" الآيات. ومقصود هذه السورة ذكر موضع
عظم القرآن، وذكر مطاعن الكفار في النبوة والرد على مقالاتهم «1»، فمن جملتها
قولهم: إن القرآن افتراه محمد، وإنه ليس من عند الله.
[سورة الفرقان (25): الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ
نَذِيراً (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ
وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ
فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (2) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ
شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً
وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً (3)
قوله تعالى: (تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ)" تَبارَكَ" اختلف
في معناه، فقال الفراء: هو في العربية و" تقدس" واحد، وهما للعظمة. وقال
الزجاج:" تَبارَكَ" تفاعل من البركة. قال: ومعنى البركة الكثرة من كل ذى
خير. وقيل:" تَبارَكَ" تعالى. وقيل: تعالى عطاؤه، أي زاد وكثر. وقيل:
المعنى دام وثبت إنعامه. قال النحاس: وهذا أولاها في اللغة والاشتقاق، من برك
الشيء إذا ثبت ومنه برك الجمل والطير على الماء، أي دام
__________
(1). من ك
وثبت.
فأما القول الأول فمخلط «1»، لان التقديس إنما هو من الطهارة وليس من ذا في شي.
قال الثعلبي: ويقال تبارك الله، ولا يقال متبارك ولا مبارك، لأنه ينتهى في أسمائه
وصفاته إلى حيث ورد التوقيف. وقال الطرماح:
تباركت لا معط لشيء منعته ... وليس لما أعطيت يا رب مانع
وقال آخر:
تباركت ما تقدر يقع ولك الشكر
قلت: قد ذكر بعض العلماء في أسمائه الحسنى" المبارك" وذكرناه أيضا في
كتابنا. فإن كان وقع اتفاق على أنه لا يقال فيسلم للإجماع. وإن كان وقع فيه اختلاف
فكثير من الأسماء أختلف في عده، كالدهر وغيره. وقد نبهنا على ذلك هنالك، والحمد
لله. و" الْفُرْقانَ" القرآن. وقيل: إنه اسم لكل منزل، كما قال:"
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ" «2». وفي تسميته فرقانا
وجهان: أحدهما- لأنه فرق بين الحق والباطل، والمؤمن والكافر. الثاني- لان فيه بيان
ما شرع من حلال وحرام، حكاه النقاش. (عَلى عَبْدِهِ) يريد محمدا صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً) اسم" يكون"
مضمر يعود على" عَبْدِهِ" وهو أولى لأنه أقرب إليه. ويجوز أن يكون يعود
على" الْفُرْقانَ". وقرا عبد الله بن الزبير" على عباده".
ويقال: أنذر إذا خوف، وقد تقدم في أول" البقرة" «3». والنذير: المحذر من
الهلاك. الجوهري: والنذير المنذر، والنذير الإنذار. والمراد ب"
العالمين" هنا الانس والجن، لان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد
كان رسولا إليهما، ونذيرا لهما، وأنه خاتم الأنبياء، ولم يكن غيره عام الرسالة إلا
نوح فإنه عم برسالته جميع الانس بعد الطوفان، لأنه بدأ به الخلق. قوله تعالى:
(الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) عظم تعالى نفسه. (ولم يتخذ ولدا)
نزه سبحانه وتعالى نفسه عما قاله المشركون من أن الملائكة أولاد الله، يعنى بنات
الله سبحانه وتعالى. وعما قالت اليهود: عزير ابن الله، جل الله تعالى. وعما قالت
النصارى: المسيح ابن الله، تعالى الله عن ذلك. (ولم يكن له شريك في الملك) كما قال
عبدة الأوثان.
__________
(1). في ك:
(2). راجع ج 11 ص 295
(3). راجع ج 1 ص 184 طبعه ثانية أو ثالثة.
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (4) وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (6)
(وَخَلَقَ
كُلَّ شَيْءٍ) لا كما قال المجوس والثنوية: إن الشيطان أو الظلمة يخلق بعض
الأشياء. ولا كما يقول من قال: للمخلوق قدرة الإيجاد. فالآية رد على هؤلاء.
(فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) أي قدر كل شي مما خلق بحكمته على ما أراد، لا عن سهوة
وغفلة، بل جرت المقادير على ما خلق الله إلى يوم القيامة، وبعد القيامة، فهو
الخالق المقدر «1»، فإياه فاعبدوه. قوله تعالى: (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ
آلِهَةً) ذكر ما صنع المشركون على جهة التعجيب في اتخاذهم الآلهة، مع ما أظهر من
الدلالة على وحدانيته وقدرته. (لا يَخْلُقُ شَيْئاً) يعنى الآلهة. (وَهُمْ
يُخْلَقُونَ) لما اعتقد المشركون فيها أنها تضر وتنفع، عبر عنها كما يعبر عما
يعقل. (وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً) أي لا دفع ضر وجلب
نفع، فحذف المضاف. وقيل: لا يقدرون أن يضروا أنفسهم أو ينفعوها بشيء، ولا لمن
يعبدهم، لأنها جمادات. (وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً) أي
لا يميتون أحدا، ولا يحيونه. والنشور: الأحياء بعد الموت، أنشر الله الموتى
فنشروا. وقد تقدم «2». وقال الأعشى:
حتى يقول الناس مما رأوا ... يا عجبا للميت الناشر
[سورة الفرقان (25): الآيات 4 الى 6]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ
قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً (4) وَقالُوا أَساطِيرُ
الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (5) قُلْ
أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ
غَفُوراً رَحِيماً (6)
قوله تعالى: (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) يعنى مشركي قريش. وقال ابن عباس: القائل
منهم ذلك النضر بن الحرث، وكذا كل ما في القرآن فيه ذكر الأساطير. قال محمد بن
إسحاق: وكان مؤذيا للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (إِنْ هَذا) يعنى
القرآن. (إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ) أي كذب اختلقه. (وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ
آخَرُونَ) يعنى اليهود، قاله مجاهد. وقال ابن عباس:
__________
(1). في ك: المقتدر.
(2). راجع ج 7 ص 229 طبعه أولى أو ثانية.
وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8)
المراد
بقوله:" قَوْمٌ آخَرُونَ" أبو فكيهة مولى بنى الحضرمي وعداس وجبر، وكان
هؤلاء الثلاثة من أهل الكتاب. وقد مضى في" النحل" «1» ذكرهم. (فَقَدْ
جاؤُ ظُلْماً) أي بظلم. وقيل: المعنى فقد أتوا ظلما. (وَزُوراً. وَقالُوا
أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) قال الزجاج: واحد الأساطير أسطورة، مثل أحدوثة وأحاديث.
وقال غيره: أساطير جمع أسطار، مثل أقوال وأقاويل. (اكْتَتَبَها) يعنى محمدا.
(فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ) أي تلقى عليه وتقرأ. (بُكْرَةً وَأَصِيلًا) حتى تحفظ.
و" تُمْلى " أصله تملل، فأبدلت اللام الأخيرة ياء من التضعيف: كقولهم:
تقضى البازي، وشبهه. قوله تعالى: (قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي قل يا محمد أنزل هذا القرآن الذي يعلم السر، فهو عالم
الغيب، فلا يحتاج إلى معلم. وذكر" السِّرَّ" دون الجهر، لأنه من علم
السر فهو في الجهر أعلم. ولو كان القرآن مأخوذا من أهل الكتاب وغيرهم لما زاد
عليها، وقد جاء بفنون تخرج عنها، فليس مأخوذا منها. وأيضا ولو كان مأخوذا من هؤلاء
لتمكن المشركون منه أيضا كما تمكن محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهلا
عارضوه فبطل اعتراضهم من كل وجه. (إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) يريد غفورا
لأوليائه رحيما بهم.
[سورة الفرقان (25): الآيات 7 الى 8]
وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ
لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (7) أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ
كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ
تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (8)
قوله تعالى: (وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي
الْأَسْواقِ). فيه مسألتان: الاولى- قوله تعالى:" وَقالُوا" ذكر شيئا
آخر من مطاعنهم. والضمير في" قالُوا" لقريش، وذلك أنهم كان لهم مع رسول
الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مجلس مشهور، وقد تقدم
__________
(1). راجع ج 10 ص 177 وما بعدها طبعه أولى أو ثانية. [.....]
في"
سبحان" «1». ذكره ابن إسحاق في السيرة وغيره. مضمنة- أن سادتهم عتبة بن ربيعة
وغيره اجتمعوا معه فقالوا: يا محمد! إن كنت تحب الرياسة وليناك علينا، وإن كنت تحب
المال جمعنا لك من أموالنا، فلما أبى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عن ذلك رجعوا في باب الاحتجاج معه فقالوا: ما بالك وأنت رسول الله تأكل الطعام،
وتقف بالأسواق! فعيروه بأكل الطعام، لأنهم أرادوا أن يكون الرسول ملكا، وعيروه
بالمشي في الأسواق حين رأوا الاكاسرة والقياصرة والملوك الجبابرة يترفعون عن
الأسواق، وكان عليه السلام يخالطهم في أسواقهم، ويأمرهم وينهاهم، فقالوا: هذا يطلب
أن يتملك علينا، فماله يخالف سيرة الملوك، فأجابهم الله بقوله، وأنزل على
نبيه:" وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ
لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ" فلا تغتم ولا تحزن،
فإنها شكاة ظاهر عنك عارها. الثانية- دخول الأسواق مباح للتجارة وطلب المعاش. وكان
عليه السلام يدخلها لحاجته، ولتذكرة الخلق بأمر الله ودعوته، ويعرض نفسه فيها على
القبائل، لعل الله أن يرجع بهم إلى الحق. وفى البخاري في صفته عليه السلام:"
ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق". وقد تقدم في" الأعراف"»
. وذكر السوق مذكور في غير ما حديث، ذكره أهل الصحيح. وتجارة الصحابة فيها معروفة،
وخاصة المهاجرين، كما قال أبو هريرة: وإن إخواننا من المهاجرين كان يشغلهم الصفق
«3» بالأسواق، خرجه البخاري. وسيأتي لهذه المسألة زيادة بيان في هذه السورة إن شاء
الله. قوله تعالى: (لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ) أي هلا. (فَيَكُونَ مَعَهُ
نَذِيراً) جواب الاستفهام. (أَوْ يُلْقى ) في موضع رفع، والمعنى: أو هلا يلقى
(إِلَيْهِ كَنْزٌ) (أَوْ) هلا (تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها)" يَأْكُلُ"
بالياء قرأ المدنيون وأبو عمرو وعاصم. وقرا سائر الكوفيين بالنون، والقراءتان
حسنتان تؤديان عن معنى، وإن كانت القراءة بالياء أبين، لأنه
__________
(1). راجع ج 10 ص 328 طبعه أولى أو ثانية.
(2). راجع ج 7 ص 299 طبعه أولى أو ثانية.
(3). الصفق: التبايع.
انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (9) تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا (10)
قد
تقدم ذكر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحده فأن يعود الضمير عليه
أبين، ذكره النحاس. (وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا
مَسْحُوراً) تقدم في" سبحان" «1» والقائل عبد الله بن الزبعرى فيما ذكره
الماوردي.
[سورة الفرقان (25): الآيات 9 الى 10]
انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً
(9) تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي
مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً (10)
قوله تعالى: (انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ) أي ضربوا لك هذه الأمثال
ليتوصلوا إلى تكذيبك. (فَضَلُّوا) عن سبيل الحق وعن بلوغ ما أرادوا. (فَلا
يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا) إلى تصحيح ما قالوه فيك. قوله تعالى: (تَبارَكَ الَّذِي
إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ) شرط ومجازاة، ولم يدغم"
جَعَلَ لَكَ" لان الكلمتين منفصلتان، ويجوز الإدغام لاجتماع المثلين.
(وَيَجْعَلْ لَكَ) في موضوع جزم عطفا على موضع" جَعَلَ". ويجوز أن يكون
في موضع رفع مقطوعا من الأول. وكذلك قرأ أهل الشام. ويروى عن عاصم أيضا:"
ويجعل لك" بالرفع، أي وسيجعل لك في الآخرة قصورا. قال مجاهد: كانت قريش ترى
البيت من حجارة قصرا كائنا ما كان. والقصر في اللغة الحبس، وسمي القصر قصرا لان من
فيه مقصور عن أن يوصل إليه. وقيل: العرب تسمى بيوت الطين القصر. وما يتخذ من الصوف
والشعر البيت. حكاه القشيري. وروى سفيان عن حبيب بن أبى ثابت عن خيثمة قال: قيل
للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن شئت أن نعطيك خزائن الدنيا ومفاتيحها
ولم يعط ذلك من قبلك ولا يعطاه أحد بعدك، وليس ذلك بناقصك في الآخرة شيئا، وإن شئت
جمعنا لك ذلك في الآخرة، فقال:" يجمع ذلك لي في الآخرة" فأنزل الله عز
وجل:" تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً"
__________ (1). راجع ج 10 ص 272 طبعه أولى أو ثانية.
بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا (11) إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (12) وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13) لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا (14)
"
مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ
قُصُوراً". ويروى أن هذه الآية أنزلها رضوان خازن الجنان إلى النبي صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفي الخبر: إن رضوان لما نزل سلم على النبي صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم قال: يا محمد! رب العزة يقرئك السلام، وهذا سفط
«1»- فإذا سفط من نور يتلألأ- يقول لك ربك: هذه مفاتيح خزائن الدنيا، مع أنه لا
ينقص مالك «2» في الآخرة مثل جناح بعوضة، فنظر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إلى جبريل كالمستشير له، فضرب جبريل بيده الأرض يشير أن تواضع،
فقال:" يا رضوان لا حاجة لي فيها الفقر أحب إلى وأن أكون عبدا صابرا
شكورا". فقال رضوان: أصبت! «3» الله لك. وذكر الحديث.
[سورة الفرقان (25): الآيات 11 الى 14]
بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً
(11) إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً
(12) وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ
ثُبُوراً (13) لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً
كَثِيراً (14)
قوله تعالى: (بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ) يريد يوم القيامة. (وَأَعْتَدْنا
لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً) يريد جهنم تتلظى عليهم. (إِذا رَأَتْهُمْ
مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) أي من مسيرة خمسمائة عام. (سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً
وَزَفِيراً) قيل: المعنى إذا رأتهم جهنم سمعوا لها صوت التغيظ عليهم. وقيل: المعنى
إذا رأتهم خزانها سمعوا لهم تغيظا وزفيرا حرصا على عذابهم. والأول أصح، لما روى
مرفوعا أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:" من كذب على
متعمدا فليتبوأ بين عيني جهنم مقعدا" قيل: يا رسول الله! ولها عينان؟
قال:" أما سمعتم الله عز وجل يقول:" إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ
بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً" يخرج عنق من النار له عينان
تبصران ولسان ينطق فيقول وكلت بكل من جعل مع الله إلها آخر فلهو أبصر بهم من الطير
بحب السمسم فيلتقطه" في رواية" فيخرج عنق من النار فيلتقط الكفار لقط
الطائر حب
__________
(1). السفط: الذي يعنى فيه الطيب وما أشبهه من أدوات النساء. وقيل: كالجوالق. وفي
ك: سوط. وهو تحريف
(2). في ك: ممالك.
(3). في ك: أصاب الله لك
السمسم"
ذكره رزين في كتابه، وصححه ابن العربي في قبسه، وقال: أي تفصلهم عن الخلق في
المعرفة كما يفصل الطائر حب السمسم من التربة. وخرجه الترمذي من حديث أبى هريرة
قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ." يخرج عنق من النار
يوم القيامة له عينان تبصران وأذنان تسمعان ولسان ينطق بقول إنى وكلت بثلاث بكل
جبار عنيد وبكل من دعا مع الله إلها آخر وبالمصورين". وفي الباب عن أبى سعيد
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب صحيح. وقال الكلبي: سمعوا لها تغيظا كتغيظ بنى
آدم وصوتا كصوت الحمار. وقيل: فيه تقديم وتأخير، سمعوا لها زفيرا وعلموا لها
تغيظا. وقال قطرب: التغيظ لا يسمع، ولكن يرى، والمعنى: رأوا لها تغيظا وسمعوا لها
زفيرا، كقول الشاعر:
ورأيت زوجك في الورى «1» ... متقلدا سيفا ورمحا
أي وحاملا رمحا. وقيل:" سَمِعُوا لَها" أي فيها، أي سمعوا فيها تغيظا
وزفيرا للمعذبين. كما قال تعالى:" لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ «2»"
و" في واللام" يتقاربان، تقول: أفعل هذا في الله ولله. قوله تعالى:
(وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ) قال قتادة: ذكر لنا أن عبد
الله كان يقول: إن جهنم لتضيق على الكافر كتضييق الزج «3» على الرمح، ذكره ابن
المبارك في رقائقه. وكذا قال ابن عباس، ذكره الثعلبي والقشيري عنه، وحكاه الماوردي
عن عبد الله بن عمرو. ومعنى" مُقَرَّنِينَ" مكتفين، قاله أبو صالح.
وقيل: مصفدين قد قرنت أيديهم إلى أعناقهم في الاغلال. وقيل: قرنوا مع الشياطين، أي
قرن كل واحد منهم إلى شيطانه، قاله يحيى بن سلام. وقد مضى هذا في"
إبراهيم" «4» وقال عمرو بن كلثوم:
فأبوا بالنهاب وبالسبايا ... وأبنا بالملوك مقرنينا «5»
(دعوا هنالك ثبورا) أي هلاكا، قاله الضحاك. ابن عباس: ويلا. وروى عن النبي صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال:" أول من يقوله إبليس وذلك أنه أول من
يكسى حلة من النار
__________
(1). كذا الأصول وهو الصواب. وفي المطبوع: الورى
(2). راجع ج 9 ص 90 طبعه أولى أو ثانية.
(3). الزج (بالضم): الحديدة التي في أسفل الرمح.
(4). راجع ج 9 384 طبعه أولى أو ثانية.
(5). الرواية في البيت:" مصفدينا".
قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا (15) لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا (16)
فتوضع
على حاجبيه ويسحبها من خلفه وذريته من خلفه وهو يقول وا ثبوراه". وانتصب على
المصدر، أي ثبرنا ثبورا، قاله الزجاج. وقال غيره: هو مفعول به. قوله تعالى: (لا
تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً) فإن هلاككم
أكثر من أن تدعوا مرة واحدة. وقال: ثبورا لأنه مصدر يقع للقليل والكثير فلذلك لم
يجمع، وهو كقولك: ضربته ضربا كثيرا، وقعد قعودا طويلا. ونزلت الآيات في ابن خطل
وأصحابه.
[سورة الفرقان (25): الآيات 15 الى 16]
قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ
لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً (15) لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى
رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً (16)
قوله تعالى: (قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ
الْمُتَّقُونَ). إن قيل: كيف قال" أَذلِكَ خَيْرٌ" ولا خير في النار،
فالجواب أن سيبويه حكى عن العرب: الشقاء أحب إليك أم السعادة، وقد علم أن السعادة
أحب إليه. وقيل: ليس هو من باب أفعل منك، وإنما هو كقولك: عنده خير. قال النحاس:
وهذا قول حسن، كما قال «1»:
فشركما لخير كما الفداء
قيل: إنما قال ذلك لان الجنة والنار قد دخلتا في باب المنازل، فقال ذلك لتفاوت ما
بين المنزلتين. وقيل: هو مردود على قوله:" تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ
لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ" الآية. وقيل: هو مردود على قوله:" أَوْ يُلْقى
إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها". وقيل: إنما قال
ذلك على معنى علمكم واعتقادكم أيها الكفار، وذلك أنهم لما كانوا يعملون عمل أهل
النار صاروا كأنهم يقولون إن في النار خيرا. قوله تعالى: (لَهُمْ فِيها ما
يَشاؤُنَ) أي من النعيم. (خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلًا) قال
الكلبي: وعد الله المؤمنين الجنة جزاء على أعمالهم فسألوه ذلك الوعد فقالوا:"
رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ" «2». وهو معنى قول ابن عباس.
وقيل: إن الملائكة تسأل لهم
__________
(1). هو حسان بن ثابت- رضى الله عنه- يمدح النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ويهجو أبا سفيان، وصدر البيت:
أتهجو ولست له بكف
(2). راجع ج 4 ص 317. [.....]
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا (18) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا (19)
الجنة،
دليله قوله تعالى:" رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي
وَعَدْتَهُمْ" «1» الآية. وهذا قول محمد ابن كعب القرظي. وقيل: معنى"
وَعْداً مَسْؤُلًا" أي واجبا وإن لم يكن يسأل كالدين، حكى عن العرب: لأعطينك
ألفا. وقيل:" وَعْداً مَسْؤُلًا" يعنى أنه واجب لك فتسأله. وقال زيد بن
أسلم: سألوا الله الجنة في الدنيا ورغبوا إليه بالدعاء، فأجابهم في الآخرة إلى ما
سألوا وأعطاهم ما طلبوا. وهذا يرجع إلى القول الأول.
[سورة الفرقان (25): الآيات 17 الى 19]
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ
أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قالُوا
سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ
وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً
بُوراً (18) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً
وَلا نَصْراً وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً (19)
قوله تعالى: (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ) قرأ ابن محيصن وحميد وابن كثير وحفص ويعقوب
وأبو عمرو في رواية الدوري" يَحْشُرُهُمْ" بالياء. واختاره أبو عبيد
وأبو حاتم، لقوله في أول الكلام:" كانَ عَلى رَبِّكَ" وفي آخره"
أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ". الباقون بالنون على التعظيم.
(وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ) من الملائكة والانس والجن والمسيح وعزير،
قاله مجاهد وابن جريج. الضحاك وعكرمة: الأصنام. (فَيَقُولُ) قراءة العامة بالياء
وهو اختيار أبى عبيد وأبى حاتم. وقرا ابن عامر وأبو حيوة بالنون على التعظيم.
(أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ) وهذا
استفهام توبيخ للكفار. (قالُوا سُبْحانَكَ) أي قال المعبودون من دون الله سبحانك،
أي تنزيها لك (ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ
أَوْلِياءَ). فإن قيل: «2» فإن كانت الأصنام التي تعبد تحشر فكيف تنطق وهي جماد؟
قيل له: ينطقها الله تعالى يوم القيامة كما ينطق الأيدي والأرجل. وقرا الحسن وأبو
جعفر:" أن نتخذ" بضم النون وفتح الخاء على الفعل المجهول. وقد تكلم في
هذه القراءة النحويون، فقال أبو عمرو بن العلاء وعيسى بن عمر:
__________
(1). 15 ص 293.
(2). في ط: فإذا.
لا
يجوز" نتخذ". وقال أبو عمرو: لو كانت" نتخذ" لحذفت"
مِنْ" الثانية فقلت: أن نتخذ من دونك أولياء. كذلك قال أبو عبيدة: لا
يجوز" نتخذ" لان الله تعالى ذكر" مِنْ" مرتين، ولو كان كما
قرأ لقال: أن نتخذ من دونك أولياء. وقيل: إن" مِنْ" الثانية صلة، قال
النحاس: ومثل أبى عمرو على جلالته ومحله يستحسن ما قال، لأنه جاء ببينة. وشرح ما
قال أنه يقال: ما اتخذت رجلا وليا، فيجوز أن يقع هذا للواحد بعينه، ثم يقال: ما
اتخذت من رجل وليا فيكون نفيا عاما، وقولك" وليا" تابع لما قبله فلا
يجوز أن تدخل فيه" من" لأنه لا فائدة في ذلك. (وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ
وَآباءَهُمْ) أي في الدنيا بالصحة والغنى وطول العمر بعد موت الرسل صلوات الله
عليهم. (حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ) أي تركوا ذكرك فأشركوا بك بطرا وجهلا فعبدونا من
غير أن أمرناهم بذلك. وفي الذكر قولان: أحدهما: القرآن المنزل على الرسل، تركوا
العمل به، قاله ابن زيد. الثاني: الشكر على الإحسان إليهم والانعام عليهم. إنهم
(كانُوا قَوْماً بُوراً) أي هلكى، قاله ابن عباس. مأخوذ من البوار وهو الهلاك.
وقال أبو الدرداء رضا الله عنه وقد أشرف على أهل حمص: يا أهل حمص! هلم إلى أخ لكم
ناصح، فلما اجتمعوا حوله قال: ما لكم لا تستحون! تبنون ما لا تسكنون، وتجمعون ما
لا تأكلون، وتأملون ما لا تدركون، إن من كان قبلكم بنوا مشيدا «1» وجمعوا عبيدا،
وأملوا بعيدا، فأصبح جمعهم بورا، وآمالهم غرورا، ومساكنهم قبورا، فقوله:"
بُوراً" أي هلكى. وفي خبر آخر: فأصبحت منازلهم بورا، أي خالية لا شي فيها.
وقال الحسن:" بُوراً" لا خير فيهم. مأخوذ من بوار الأرض، وهو تعطيلها من
الزرع فلا يكون فيها خير. وقال شهر بن حوشب: البوار. الفساد والكساد، مأخوذ من
قولهم: بارت السلعة إذا كسدت كساد الفاسد، ومنه الحديث:" نعوذ بالله من بوار
الأيم". وهو اسم مصدر كالزور يستوي فيه الواحد والاثنان والجمع والمذكر
والمؤنث. قال ابن الزبعرى:
يا رسول المليك إن لساني ... راتق ما فتقت إذ أنا بور
إذ أباري الشيطان في سنن الغ ... ي ومن مال ميله مثبور
__________
(1). في ك: شديدا. والمعنى: قويا. محقه.
وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (20)
وقال
بعضهم: الواحد بائر والجمع بور. كما يقال: عائذ وعوذ، وهايد وهود. وقيل:"
بُوراً" عميا عن الحق. قوله تعالى: (فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ) أي
يقول الله تعالى عند تبرى المعبودين:" فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما
تَقُولُونَ" أي في قولكم إنهم آلهة. (وَما يَسْتَطِيعُونَ) يعنى الآلهة صرف
العذاب عنكم ولا نصركم. وقيل: فما يستطيع هؤلاء الكفار لما كذبهم المعبودون"
صَرْفاً" للعذاب" وَلا نَصْراً" من الله. وقال ابن زيد: المعنى فقد
كذبكم أيها المؤمنون هؤلاء الكفار بما جاء به محمد، وعلى هذا فمعنى" بِما
تَقُولُونَ" بما تقولون من الحق. وقال أبو عبيد: المعنى، فيما تقولون فما
يستطيعون لكم صرفا عن الحق الذي هداكم الله إليه، ولا نصرا لأنفسهم مما ينزل بهم
من العذاب بتكذيبهم إياكم. وقراءة العامة" بِما تَقُولُونَ" بالتاء على
الخطاب. وقد بينا معناه. وحكى الفراء أنه يقرأ" فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ"
مخففا،" بما يقولون". وكذا قرأ مجاهد والبزي بالياء، ويكون معنى"
يقولون" بقولهم. وقرا أبو حيوة:" بما يقولون" بياء" فَما
تَسْتَطِيعُونَ" بتاء على الخطاب لمتخذي الشركاء. ومن قرأ بالياء فالمعنى:
فما يستطيع الشركاء. (وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ) قال ابن عباس: من يشرك منكم ثم
مات عليه. (نُذِقْهُ) أي في الآخرة. (عَذاباً كَبِيراً) أي شديدا، كقوله
تعالى:" وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً" «1» أي شديدا.
[سورة الفرقان (25): آية 20]
وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ
الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً
أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً (20)
فيه تسع مسائل: الاولى- قوله تعالى: (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ
الْمُرْسَلِينَ) نزلت جوابا للمشركين حيث قالوا:" مالِ هذَا الرَّسُولِ
يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ". وقال ابن عباس: لما عير
المشركون رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالفاقة وقالوا:" مالِ
هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ"
__________
(1). راجع ج 10 ص 214.
الآية
حزن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لذلك فنزلت تعزية له، فقال جبريل
عليه السلام: السلام عليك يا رسول الله! الله ربك يقرئك السلام ويقول لك:"
وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ
الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ" أي يبتغون المعايش في الدنيا.
الثانية- قوله تعالى:" إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ" إذا
دخلت اللام لم يكن في إن" إلا الكسر، ولو لم تكن اللام ما جاز أيضا إلا
الكسر، لأنها مستأنفة. هذا قول جميع النحويين. قال النحاس: إلا أن على بن سليمان
حكى لنا عن محمد بن يزيد قال: يجوز في" إن" هذه الفتح ون كان بعدها
اللام، وأحسبه وهما منه. قال أبو إسحاق الزجاج: وفى الكلام حذف، والمعنى وما
أرسلنا قبلك رسلا إلا إنهم ليأكلون الطعام، ثم حذف رسلا، لان في قوله:" مِنَ
الْمُرْسَلِينَ" ما يدل عليه. فالموصوف محذوف عند الزجاج. ولا يجوز عنده حذف
الموصول وتبقية الصلة كما قال الفراء. قال الفراء: والمحذوف" من"
والمعنى إلا من إنهم ليأكلون الطعام. وشبهه بقوله:" وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ
مَقامٌ «1» مَعْلُومٌ"، وقوله:" وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها"
«2» أي ما منكم إلا من هو واردها. وهذا قول الكسائي أيضا. وتقول العرب: ما بعثت
إليك من الناس إلا من إنه ليطيعك «3». فقولك: إنه ليطيعك صلة من. قال الزجاج: هذا
خطأ، لان من موصولة فلا يجوز حذفها. وقال أهل المعاني: المعنى، وما أرسلنا قبلك من
المرسلين إلا قيل إنهم ليأكلون، دليله قوله تعالى:" ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما
قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ". وقال ابن الأنباري: كسرت"
إِنَّهُمْ" بعد" إِلَّا" للاستئناف بإضمار واو. أي إلا وإنهم.
وذهبت فرقة إلى أن قوله:" لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ" كناية عن الحدث.
قلت: وهذا بليغ في معناه، ومثله" مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا
رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا
يَأْكُلانِ الطَّعامَ" «4». (ويمشون في الأسواق) قرأ الجمهور"
يَمْشُونَ" بفتح الياء وسكون الميم وتخفيف الشين. وقرا على وابن عوف وابن
مسعود بضم الياء وفتح الميم وشد الشين المفتوحة، بمعنى يدعون إلى المشي ويحملون
عليه. وقرا أبو عبد الرحمن السلمى بضم الياء وفتح الميم وضم الشين المشددة، وهى
بمعنى يمشون، قال الشاعر:
__________
(1). راجع ج 15 ص 137 وص 366.
(2). راجع ج 11 ص 135.
(3). في ك: ليعطيك، ليعطيك صلة.
(4). راجع ج 6 ص 250.
ومشى
بأعطان المباءة وابتغى ... قلائص منها صعبة وركوب «1»
وقال كعب بن زهير:
منه تظل سباع الجو «2» ضامزة ... ولا تمشى بواديه الاراجيل
بمعنى تمشى. الثالثة- هذه الآية أصل فتناول الأسباب وطلب المعاش بالتجارة والصناعة
وغير ذلك. وقد مضى هذا المعنى في غير موضع، لكنا نذكر هنا من ذلك ما يكفى فنقول:
قال لي بعض مشايخ هذا الزمان في كلام جرى: إن الأنبياء عليهم السلام إنما بعثوا
ليسنوا الأسباب للضعفاء، فقلت مجيبا له: هذا قول لا يصدر إلا من الجهال والأغبياء،
والرعاع السفهاء، أو من طاعن في الكتاب والسنة العلياء، وقد أخبر الله تعالى في
كتابه عن أصفيائه ورسله وأنبيائه بالأسباب والاحتراف فقال وقوله الحق:"
وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ" «3». وقال:" وَما أَرْسَلْنا
قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ
وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ" قال العلماء: أي يتجرون ويحترفون. وقال عليه
الصلاة والسلام:" جعل رزقي تحت ظل رمحي" وقال تعالى:" فَكُلُوا
مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّباً" «4» وكان الصحابة رضى الله عنهم يتجرون
ويحترفون وفى أموالهم يعملون، ومن خالفهم من الكفار يقاتلون، أتراهم ضعفاء! بل هم
كانوا والله الأقوياء، وبهم الخلف الصالح اقتدى، وطريقهم فيه الهدى والاهتداء.
قال: إنما تناولوها لأنهم أئمة الاقتداء، فتناولوها مباشرة في حق الضعفاء، فأما في
حق أنفسهم فلا، وبيان ذلك أصحاب الصفة. قلت: لو كان ذلك لوجب عليهم وعلى الرسول
معهم البيان، كما ثبت في القرآن" وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ
لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ" «5» وقال:" إِنَّ
الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى " «6»
الآية. وهذا من البيات الهدى. وأما أصحاب الصفة فإنهم كانوا ضيف الإسلام
__________
(1). في روح المعاني:" ذلول" بدل" ركوب".
(2). الجو: البر الواسع. وضامزة: ساكنة، وكل ساكت فهو ضامز. والاراجيل: جمع أرجال
كأناعيم جمع أنعام، وأرجال جمع رجل. يصف الشاعر أسدا بأن الأسود والرجال تخافه،
فالاسود ساكنة من هيبته والرجال ممتنعة عن المشي بواديه.
(3). راجع ج 11 ص 320.
(4). راجع ج 8 ص 15.
(5). راجع ج 10 ص 108.
(6). راجع ج 3 ص 184. [.....]
عند ضيق الحال، فكان عليه السلام إذا أتته صدقة خصهم بها، وإذا أتته هدية أكلها معهم، وكانوا مع هذا يحتطبون ويسوقون الماء إلى أبيات رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. كذا وصفهم البخاري وغيره. ثم لما افتتح الله عليهم البلاد ومهد لهم المهاد تأمروا، وبالأسباب أمروا. ثم إن هذا القول يدل على ضعف النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه، لأنهم أيدوا بالملائكة وثبتوا بهم، فلو كانوا أقوياء ما احتاجوا إلى تأييد الملائكة وتأييدهم إذ ذلك سبب من اسباب النصر، نعوذ بالله من قول وإطلاق يؤول إلى هذا، بل القول بالأسباب والوسائط سنة الله وسنة رسوله، وهو الحق المبين، والطريق المستقيم الذي انعقد عليه إجماع المسلمين، وإلا كان يكون قوله الحق" وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ"- الآية- مقصورا على الضعفاء، وجميع الخطابات كذلك. وفى التنزيل حيث خاطب موسى الكليم" اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ" وقد كان قادرا على فلق البحر دون ضرب عصا. وكذلك مريم عليها السلام" وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ" وقد كان قادرا على سقوط الرطب دون هز ولا تعب، ومع هذا كله فلا ننكر أن يكون رجل يلطف به ويعان، أو تجاب دعوته، أو يكرم بكرامة في خاصة نفسه أو لأجل غيره، ولا تهد لذلك القواعد الكلية والأمور الجميلة. هيهات هيهات! لا يقال فقد قال الله تعالى:" وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ" فإنا نقول: صدق الله العظيم، وصدق رسوله الكريم، وأن الرزق هنا المطر بإجماع أهل التأويل، بدليل قوله:" وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً" وقال:" وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ" ولم يشاهد ينزل من السماء على الخلق أطباق الخبز ولا جفان اللحم، بل الأسباب أصل في وجود ذلك، وهو معنى قوله عليه السلام:" اطلبوا الرزق في خبايا الأرض" أي بالحرث والحفر والغرس. وقد يسمى الشيء بما يؤول إليه، وسمي المطر رزقا لأنه عنه يكون الرزق، وذلك مشهور في كلام العرب. وقال عليه السلام:" لان يأخذ أحدكم حبله فيحتطب على ظهره خير له من يسأل أحد أعطاه أو منعه" وهذا فيما خرج من غير تعب من الحشيش والحطب. ولو قدر رجل بالجبال منقطعا عن الناس لما كان له بد من الخروج إلى ما تخرجه الآكام وظهور الاعلام حتى يتناول من ذلك ما يعيش
به،
وهو معنى قوله عليه السلام:" لو أنكم كنتم توكلون على الله حق توكله لرزقتم
كما ترزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا" فغدوها ورواحها سبب، فالعجب العجب
ممن يدعى التجريد والتوكل على التحقيق، ويقعد على ثنيات الطريق، ويدع الطريق
المستقيم، والمنهج الواضح القويم. ثبت في البخاري عن ابن عباس قال: كان أهل اليمن
يحجون ولا يتزودون ويقولون نحن المتوكلون، فإذا قدموا سألوا الناس، فأنزل الله
تعالى" وَتَزَوَّدُوا". ولم ينقل عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وأصحابه رضوان الله عليهم أنهم خرجوا إلى أسفارهم بغير زاد، وكانوا
المتوكلين حقا. والتوكل اعتماد القلب على الرب في أن يلم شعثه ويجمع عليه أربه، ثم
يتناول الأسباب بمجرد الامر. وهذا هو الحق. سأل رجل الامام أحمد بن حنبل فقال: إنى
أريد الحج على قدم التوكل. فقال: اخرج وحدك، فقال: لا، إلا مع الناس. فقال له: أنت
إذن متكل على أجربتهم. وقد أتينا على هذا في كتاب" قمع الحرص بالزهد والقناعة
ورد ذل السؤال بالكتب والشفاعه". الرابعة- خرج مسلم عن أبى هريرة أن رسول
الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:" أحب البلاد إلى الله مساجدها
وأبغض البلاد ألى الله أسواقها". وخرج البزاز عن سلمان الفارسي قال قال رسول
الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" لا تكونن إن استطعت أول من يدخل
السوق. ولا آخر من يخرج منها فإنها معركة الشيطان وبها ينصب رايته". أخرجه
أبو بكر البرقاني مسندا عن أبى محمد عبد الغنى- من رواية عاصم- عن أبى عثمان
النهدي عن سلمان قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" لا
تكن أول من يدخل السوق ولا آخر من يخرج منها فبها باض الشيطان وفرخ". ففي هذه
الأحاديث ما يدل على كراهة دخول الأسواق، لا سيما في هذه الأزمان التي يخالط فيها
الرجال النسوان. وهكذا قال علماؤنا لما كثر الباطل في الأسواق وظهرت فيها المناكر:
كره دخولها لأرباب الفضل والمقتدى بهم في الدين
تنزيها لهم عن البقاع التي يعصى الله فيها. فحق على من ابتلاه الله بالسوق أن يخطر
بباله أنه قد دخل محل الشيطان ومحل جنوده، وأنه إن أقام هناك هلك، ومن كانت هذه
حاله اقتصر منه على قدر ضرورته، وتحرز من سوء عاقبته وبليته.
الخامسة-
تشبيه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السوق بالمعركة تشبيه حسن، وذلك أن
المعركة موضع القتال، سمى بذلك لتعارك الابطال فيه، ومصارعة بعضهم بعضا. فشبه
السوق وفعل الشيطان بها ونيله منهم مما يحملهم من المكر، والخديعة، والتساهل في
البيوع الفاسدة والكذب والايمان الكاذبة، واختلاط الأصوات وغير ذلك بمعركة الحرب
ومن يصرع فيها. السادسة- قال ابن العربي: أما أكل الطعام فضرورة الخلق لا عار ولا
درك «1» فيه، وأما الأسواق فسمعت مشيخة أهل العلم يقولون: لا يدخل إلا سوق الكتب
والسلاح، وعندي أنه يدخل كل سوق للحاجة إليه ولا يأكل فيها، لان ذلك أسقاط للمروءة
وهدم للحشمة، ومن الأحاديث الموضوعة «2»" الأكل في السوق دناءة". قلت:
ما ذكرته مشيخة أهل العلم فنعما هو، فإن ذلك خال عن النظر إلى النسوان ومخالطتهن،
إذ ليس بذلك من حاجتهن. وأما غيرهما من الأسواق فمشحونة منهن، وقلة الحياء قد غلبت
عليهن، حتى ترى المرأة في القيساريات وغيرهن قاعدة متبرجة بزينتها، وهذا من المنكر
الفاشي في زماننا هذا. نعوذ بالله من سخطه. السابعة- خرج أبو داود الطيالسي في
مسنده حدثنا حماد بن زيد قال حدثنا عمرو ابن دينار قهرمان «3» آل الزبير عن سالم
عن أبيه عن عمر بن الخطاب قال:" من دخل سوقا من هذه الأسواق فقال لا إله إلا
الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيى ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير
وهو على كل شي قدير كتب الله له ألف ألف حسنة ومحا عنه ألف ألف سيئة وبنى له قصرا
في الجنة" خرجه الترمذي أيضا وزاد بعد" ومحا عنه ألف ألف
سيئة":" ورفع له ألف ألف درجة وبنى له بيتا في الجنة". وقال: هذا
حديث غريب. قال ابن العربي: وهذا إذا لم يقصد في تلك البقعة «4» سواه ليعمرها بالطاعة
إذ عمرت بالمعصية، وليحليها بالذكر إذ عطلت بالغفلة، وليعلم الجهلة ويذكر الناسين.
__________
(1). الدرك (يسكن ويحرك): التبعة.
(2). الحديث رواه الطبراني عن أبى أمامة والخطيب عن أبى هريرة وضعفه السيوطي.
(3). القهرمان: هو كالخازن والوكيل الحافظ لما تحت يده والقائم بأمور الرجل، بلغة
الفرس.
(4). سواه: أي سوى الله تعالى.
الثامنة- قوله تعالى: (وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ) أي إن الدنيا دار بلاء وامتحان، فأراد سبحانه أن يجعل بعض العبيد فتنة لبعض على العموم في جميع الناس مؤمن وكافر، فالصحيح فتنة للمريض، والغنى فتنة للفقير، والفقير الصابر فتنة للغنى. ومعنى هذا أن كل واحد مختبر بصاحبه، فالغنى ممتحن بالفقير، عليه أن يواسيه ولا يسخر منه. والفقير ممتحن بالغنى، عليه ألا يحسده. ولا يأخذ منه إلا ما أعطاه، وأن يصبر كل واحد منها على الحق، كما قال الضحاك في معنى" أَتَصْبِرُونَ": أي على الحق. وأصحاب البلايا يقولون: لم لم نعاف؟ والأعمى يقول: لم لم أجعل كالبصير؟ وهكذا صاحب كل آفة. والرسول المخصوص بكرامة النبوه فتنة لاشراف الناس من الكفار في عصره. وكذلك العلماء وحكام العدل. ألا ترى إلى قولهم:" لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم. فالفتنة أن يحسد المبتلى المعافى. والصبر: أن يحبس كلاهما نفسه، هدا عن البطر، وذاك عن الضجر." أَتَصْبِرُونَ" محذوف الجواب، يعنى أم لا تصبرون. فيقتضي جوابا كما قاله المزني، وقد أخرجته الفاقة فرأى خصيا في مراكب ومناكب، فخطر بباله شي فسمع من يفرا الآية" أتصبرون" فقال: بلى ربنا! نصبر ونحتسب. وقد تلا ابن القاسم صاحب مالك هذه الآية حين رأى أشهب بن عبد العزيز في مملكته عابرا عليه، ثم أجاب نفسه بقوله: سنصبر. وعن أبى الدرداء أنه سمع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال:" ويل للعالم من الجاهل وويل للجاهل من العالم وويل للمالك من المملوك وويل للمملوك من المالك وويل للشديد من الضعيف وويل للضعيف من الشديد وويل للسلطان من الرعية وويل للرعية من السلطان وبعضهم لبعض فتنة وهو قوله" وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ" أسنده الثعلبي تغمده الله برحمته. وقال مقاتل: نزلت في أبى جهل ابن هشام والوليد بن المغيره والعاص بن وائل، وعقبه بن أبى معيط وعتبة بن ربيعه والنصر ابن الحرث حين رأوا أبا ذر وعبد الله بن مسعود، وعمارا وبلالا وصهيبا وعامر بن فهيرة وسالما مولى أبى حذيفة ومهجعا مولى عمر بن الخطاب وجبرا مولى الحضرمي، وذويهم فقالوا على سبيل الاستهزاء: أنسلم فنكون مثل هؤلاء؟ فأنزل الله تعالى يخاطب هؤلاء
وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا (22)
المؤمنين:"
أَتَصْبِرُونَ" على ما ترون من هذه الحال الشديدة والفقر، فالتوقيف ب"-
أَتَصْبِرُونَ" خاص للمؤمنين المحققين «1» من أمة محمد صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. كأنه جعل إمهال الكفار والتوسعة عليهم فتنة للمؤمنين، أي
اختبارا لهم. ولما صبر المسلمون أنزل الله فيهم" إِنِّي جَزَيْتُهُمُ
الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا"»
. التاسعة- قوله تعالى:" وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً" أي بكل امرئ. وبمن
يصبر أو يجزع، ومن يؤمن ومن لا يؤمن، وبمن أدى ما عليه من الحق ومن لا يؤدى.
وقيل:" أَتَصْبِرُونَ" أي اصبروا. مثل" فَهَلْ أَنْتُمْ
مُنْتَهُونَ" «3» أي انتهوا، فهو أمر للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
بالصبر
[سورة الفرقان (25): الآيات 21 الى 22]
وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ
أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا
كَبِيراً (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ
وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً (22)
قوله تعالى: (وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا) يريد لا يخافون البعث ولقاء
الله، أي لا يؤمنون بذلك. قال:
إذا لسعت النحل لم يرج لسعها ... وخالفها في بيت نوب عوامل «4»
وقيل:" لا يَرْجُونَ" لا يبالون. قال:
لعمرك ما أرجو إذا كنت مسلما ... على أي جنب كان في الله مصرعي «5»
ابن شجر: لا يأملون، قال:
أترجو أمة قتلت حسينا ... شفاعة جده يوم الحساب
(لَوْ لا أُنْزِلَ) أي هلا أنزل. (عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ) فيخبروا أن محمدا
صادق. (أَوْ نَرى رَبَّنا) عيانا فيخبرنا برسالته. نظيره قوله تعالى:"
وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ
يَنْبُوعاً"
__________
(1). وفي ك: المحفين: أي أهل الكرامة. في ب: المحقين.
(2). راجع ج 12 ص 155.
(3). راجع ج 6 ص 285 فما بعد.
(4). البيت لابي ذؤيب وتقدم شرحه في ج 8 ص 311 طبعه أولى أو ثانية.
(5). البيت من قصيده لخبيب بن عدى قالها حين بلغه أن الكفار قد اجتمعوا لصلبه.
إلى
قوله" أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا". قال الله
تعالى: (لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً) حيث
سألوا الله الشطط، لان الملائكة لا ترى إلا عند الموت أو عند نزول العذاب، والله
تعالى لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار، فلا عين تراه. وقال مقاتل:"
عَتَوْا" علوا في الأرض. والعتو: أشد الكفر وأفحش الظلم. وأذا لم يكتفوا
بالمعجزات وهذا القرآن فكيف يكتفون بالملائكة؟ وهم لا يميزون بينهم وبين الشياطين،
ولا بد لهم من معجزه يقيمها من يدعى أنه ملك، وليس للقوم طلب معجز بعد أن شاهدوا
معجزه، وأن (يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ)
يريد أن الملائكة لا يراها أحد إلا عند الموت، فتبشر المؤمنين بالجنة، وتضرب المشركين
والكفار بمقامع الحديد حتى تخرج أنفسهم. (وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً) يريد
تقول الملائكة حراما محرما أن يدخل الجنة إلا من قال لا إله إلا الله، وأقام
شرائعها، عن ابن عباس وغيره. وقيل: إن ذلك يوم القيامة، قاله مجاهد وعطية العوفى.
قال عطية: إذا كان يوم القيامة تلقى المؤمن بالبشرى، فإذا رأى ذلك الكافر تمناه
فلم يره من الملائكة. وانتصب" يَوْمَ يَرَوْنَ" بتقدير لا بشرى للمجرمين
يوم يرون الملائكة." يَوْمَئِذٍ" تأكيد ل" يَوْمَ يَرَوْنَ".
قال النحاس: لا يجور أن يكون" يَوْمَ يَرَوْنَ" منصوبا ب" بُشْرى
" لان ما في حيز النفي لا يعمل فيما قبله، ولكن فيه تقدير ان يكون المعنى
يمنعون البشارة يوم يرون الملائكة، ودل على هذا الحذف ما بعده. ويجوز أن يكون
التقدير: لا بشرى تكون يوم يرون الملائكة، و" يَوْمَئِذٍ" مؤكد. ويجوز
أن يكون المعنى: اذكر يوم يرون الملائكة، ثم ابتدأ فقال:" لا بُشْرى
يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً" أي وتقول
الملائكة حراما محرما أن تكون لهم البشرى إلا للمؤمنين. قال الشاعر: ألا أصبحت
أسماء حجرا محرما وأصبحت من أدنى حموتها حما «1» أراد ألا أصبحت أسماء حراما محرما.
__________
(1). قاله رجل كانت له امرأة فطلقها وتزوجها أخوه، أي أصبحت أخا زوجها بعد ما كانت
زوجها.
وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23) أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (24)
وقال
آخر: حنت إلى النخلة القصوى فقلت لها حجر حرام ألا تلك الدهاريس «1» وروى عن الحسن
أنه قال:" وَيَقُولُونَ حِجْراً" وقف من قول المجرمين، فقال الله عز
وجل:" مَحْجُوراً" عليهم أن يعاذوا أو يجاروا، فحجر الله ذلك عليهم يوم
القيامة. والأول قول ابن عباس وبه قال الفراء، قاله ابن الأنباري. وقرا الحسن وأبو
رجاء" حجرا" بضم الحاء والناس على كسرها. وقيل: أن ذلك من قول الكفار
قالوه لأنفسهم، قاله قتادة فيما ذكر الماوردي. وقيل: هو من قول الكفار للملائكة.
وهى كلمة استعاذه وكانت معروفة في الجاهلية، فكان إذا لقى الرجل من يخافه قال: حجزا
محجورا، أي حراما عليك التعرض لي. وانتصابه على معنى: حجرت عليك، أو حجر الله
عليك، كما تقول: سقيا ورعيا. أي إن المجرمين أذا رأوا الملائكة يلقونهم في النار
قالوا: نعوذ بالله منكم، ذكره القشيري، وحكى معناه المهدى عن مجاهد. وقيل:"
حِجْراً" من قول المجرمين." مَحْجُوراً" من قول الملائكة، أي قالوا
للملائكة نعوذ بالله منكم أن تتعرضوا لنا. فنقول الملائكة:" مَحْجُوراً"
أن تعاذوا من شر هذا اليوم، قاله الحسن.
[سورة الفرقان (25): الآيات 23 الى 24]
وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (23)
أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً (24)
قوله تعالى: (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ) هذا تنبيه على عظم قدر يوم
القيامة، أي قصدنا في ذلك إلى ما كان يعمله المجرمين من عمل بر عند أنفسهم. يقال:
قدم فلان إلى أمر كذا أي قصده، وقال مجاهد:" قَدِمْنا" أي عمدنا. وقال
الراجز:
وقدم الخوارج الضلال ... ألى عباد ربهم فقالوا
إن دمائكم لنا حلال
__________
(1). البيت للمتلمس، والنخلة القصوى: واد. والدهاريس: الدواهي. يقول لناقته: هذا
الذي حننت إلبه ممنوع. وبعده:
أمي شآمية إذا لا عراق لنا ... قوما نودهم إذ قومنا شوس
وقيل:
هو قدوم الملائكة، أخبر به عن نفسه تعالى فاعله «1». (فَجَعَلْناهُ هَباءً
مَنْثُوراً) أي لا ينفع به، أي أبطلناه بالكفر. وليس" هَباءً" من ذوات
الهمز وإنما همزت لالتقاء الساكنين. والتصغير هبي في موضع الرفع، ومن النحويين من
يقول: هبي «2» في موضع الرفع، حكاه النحاس. وواحده هباه والجمع أهباء. قال الحرث
بن حلزة يصف [ناقة]: فترى خلفها من الرجع والوق- ع منينا كأنه أهباء «3» وروى
الحرث عن على قال: الهباء المنثور شعاع الشمس الذي يدخل من الكوة. وقال الأزهري:
الهباء ما يخرج من الكوة في ضوء الشمس شبيه بالغبار. تأويله: إن الله تعالى أحبط
أعمالهم حنى صارت بمنزلة الهباء المنثور. فأما الهباء المنبث فهو ما تثيره الخيل
بسنابكها من الغبار. والمنبث المتفرق. وقال ابن عرفه: الهبوة والهباء التراب
الدقيق. الجوهري: ويقال له إذا ارتفع هبا يهبو هبوا واهبيته أنا. والهبوة الغبرة.
قال رؤبة: تبدو لنا أعلامه بعد الغرق في قطع الآل وهبوات الدقق «4» وموضع هابي
التراب أي كأن ترابه مثل الهباء في الرقة. وقيل: إنه ما ذرته الرياح من يا بس
أوراق الشجر، قاله قتادة وابن عباس. وقال ابن عباس أيضا: إنه الماء المهراق. وقيل:
إنه الرماد، قاله عبيد «5» بن يعلى. قوله تعالى: (أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ
خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا). تقدم القول فيه عند قوله تعالى"
قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ"
«6». قال النحاس: والكوفيون يجيزون" العسل أحلى من الخل" وهذا قول
مردود، لان معنى فلان خير من فلان أنه أكثر خيرا منه ولا حلاوة في الخل. ولا يجوز
أن يقال: النصراني خير من اليهودي، لأنه لا خير فيهما فيكون أحدهما أزيد في الخير.
لكن يقال: اليهودي شر
__________
(1). كذا في الأصل، وعبارة ابن عطية:" أسنده إليه لأنه عن أمره".
(2). قال النحاس: والتقدير عنده هبي.
(3). قوله" خلفها" أي خلف الناقة. والرجع: رجع قوائمها. والوقع: وقع
خفافها. والمنين: الغبار الدقيق الذي تثيره. [.....]
(4). الدقيق: ما دق من التراب، والواحد منه الدقى كما تقول الجلى والجلل.
(5). كذا في الأصل، وفى" روح المعاني": يعلى بن عبيد.
(6). راجع ص 9 من هذا الجزء.
وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا (26)
من
النصراني، فعلى هذا كلام العرب. و" مُسْتَقَرًّا" نصب على الظرف إذا قدر
على غير باب" أفعل منك" والمعنى لهم خير في مستقر. وإذا كان من
باب" أفعل منك" فانتصابه على البيان، قاله النحاس والمهدوي. قال
قتادة:" وَأَحْسَنُ مَقِيلًا" منزلا ومأوى. وقيل هو على ما تعرفه العرب
من مقيل نصف النهار. ومنه الحديث المرفوع" إن الله تبارك وتعالى يفرغ من حساب
الخلق في مقدار نصف يوم فيقيل أهل الجنة واهل النار في النار" ذكره المهدوي.
وقال ابن مسعود: لا ينتصف النهار يوم القيامة من النهار حتى يقبل هؤلاء في الجنة
وهؤلاء في النار، قرأ" ثم إن مقيلهم لا لي الجحيم" كذا هي في قراءة ابن
مسعود. وقال ابن عباس: الحساب من ذلك اليوم في أوله، فلا ينتصف النهار من يوم
القيامة حتى قيل أهل الجنة في الجنة واهل النار في النار. ومنه ما روى" قيلوا
فإن الشياطين لا تقيل". وذكر قاسم ابن أصبغ من حديث أبى سعيد الخدري قال قال
رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ
خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ" فقلت: ما أطول هذا اليوم. فقال النبي صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" والذي نفسي بيده إنه ليخفف عن المؤمن حتى يكون
أخف عليه من صلاة المكتوبة يصليها في الدنيا".
[سورة الفرقان (25): الآيات 25 الى 26]
وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً
(25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى
الْكافِرِينَ عَسِيراً (26)
قوله تعالى: (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ) أي واذكر يوم تشقق السماء
بالغمام. وقرأه عاصم والأعمش ويحيى وحمزة والكسائي وأبو عمرو"
تَشَقَّقُ" بتخفيف الشين وأصله تتشقق بتاءين فخذوا الاولى تخفيفا، واختاره
أبو عبيد. الباقون" تشقق" بتشديد الشين على الإدغام، واختاره أبو حاتم.
وكذلك في" ق" «1»." بالغمام" أي عن الغمام. والباء وعن
يتعاقبان، كما تقول: رميت بالقوس، وعن القوس. روى أن السماء تتشقق عن سحاب
__________
(1). في قوله تعالى:" يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً" ...
آية 44
أبيض
رقيق مثل الضبابة، ولم يكن إلا لبنى إسرائيل في تيههم فتنشق السماء عنه، وهو الذي
قال تعالى:" هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ
مِنَ الْغَمامِ". (وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ) من السموات، ويأتي الرب عز وجل
في الثمانية الذين يحملون العرش لفصل القضاء، على ما يجوز أن يحمل عليه إتباعه، لا
على ما تحمل عليه صفات المخلوقين من الحركة والانتقال. وقال ابن عباس: تتشقق سماء
الدنيا فينزل أهلها وهم أكثر ممن في الأرض من الجن والانس، ثم تنشق السماء الثانية
فينزل أهلها وهم أكثر ممن في سماء الدنيا، ثم كذلك حتى تنشق السماء السابعة، ثم
ينزل الكروبيون «1» وحملة العرش، وهو معنى قوله:" وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ
تَنْزِيلًا" أي من السماء إلى الأرض لحساب الثقلين. وقيل: إن السماء تنشق
بالغمام الذي بينها وبين الناس، فبتشقق الغمام تتشقق السماء، فإذا انشقت السماء
انتقض تركيبها وطويت ونزلت الملائكة إلى مكان سواها. وقرا ابن كثير" وننزل
الملائكة" بالنصب من الانزال الباقون" وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ"
بالرفع. دليلة" تَنْزِيلًا" ولو كان على الأول لقال إنزالا. وقد قيل: إن
ننزل وأنزل بمعنى، فجاء" تَنْزِيلًا" على" نُزِّلَ" وقد قرأ
عبد الوهاب عن أبى عمرو" ونزل الملائكة تنزيلا". وقرا ابن مسعود"
وأنزل الملائكة" أبى بن كعب:" ونزلت الملائكة". وعنه" وتنزلت
الملائكة". قوله تعالى: (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ)"
الْمُلْكُ" مبتدأ و" الْحَقُّ" صفة له و" لِلرَّحْمنِ"
الخبر، لان الملك الذي يزول وينقطع ليس بملك، فبطلت يومئذ أملاك المالكين وانقطعت
دعاويهم، وزال كل ملك وملكه، وبقي الملك الحق لله وحده. (وَكانَ يَوْماً عَلَى
الْكافِرِينَ عَسِيراً) أي لما ينالهم من الأهوال ويلحقهم من الخزي والهوان، وهو
على المؤمنين أخف من صلاة مكتوبة، على ما تقدم في الحديث. وهذه الآية دالة عليه،
لأنه إذا كان على الكافرين عسيرا فهو على المؤمنين يسير. يقال: عسر يعسر، وعسر
يعسر.
__________
(1). الكروبيون (بفتح الكاف): سادة الملائكة، منهم جبريل وميكائيل وإسرافيل هم
المقربون. والكرب القرب.
وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29)
[سورة
الفرقان (25): الآيات 27 الى 29]
وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ
الرَّسُولِ سَبِيلاً (27) يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً
(28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ
لِلْإِنْسانِ خَذُولاً (29)
قوله تعالى: (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ) الماضي عضضت. وحكى
الكسائي عضضت بفتح الضاد الاولى. وجاء التوقيف عن أهل التفسير، منهم ابن عباس
وسعيد ابن المسيب أن الظالم هاهنا يراد به عقبه بن أبى معيط، وأن خليله أمية بن
خلف، فعقبه قتله على بن أبى طالب رضى الله عنه، وذلك أنه كان في الأسارى يوم بدر
فأمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقتله، فقال: أأقتل دونهم؟ فقال،
نعم، بكفرك وعتوك. فقال: من للصبية؟ فقال: النار. فقام على رضى الله عنه فقتله.
وأمية قتله النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكان هذا من دلائل نبوه
النبي صلى الله على وسلم، لأنه خبر عنهما بهذا فقتلا على الكفر. ولم يسميا في
الآية لأنه أبلغ في الفائدة، ليعلم أن هذا سبيل كل ظالم فبل من غيره في معصية الله
عز وجل. قال ابن عباس وقتادة وغيرهما: وكان عقبة قد هم بالإسلام فمنعه منه أبى بن
خلف وكانا خدنين، وأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قتلهما جميعا: قتل
عقبة يوم بدر صبرا، وأبى بن خلف في المبارزة يوم أحد، ذكره القشيري والثعلبي،
والأول ذكره النحاس. وقال السهيلي:" وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى
يَدَيْهِ" هو عقبة بن أبى معيط، وكان صديقا لامية بن خلف الجمحي ويروى لابي
بن خلف أخ أمية، وكان قد صنع وليمة فدعا إليها قريشا، ودعا رسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأبى أن يأتيه إلا أن يسلم. وكره عقبة أن يتأخر عن
طعامه من أشراف قريش أحد فأسلم ونطق بالشهادتين، فأتاه رسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واكل من طعامه، فعاتبه خليله أمية بن خلف، أو أبي بن خلف وكان
غائبا. فقال عقبة: رأيت عظيما ألا يحضر طعامي رجل من أشراف قريش. فقال له خليله:
لا أرضى حتى ترجع وتبصق في وجهه وتطأ عنقه وتقول كيت وكيت. ففعل
عدو
الله ما أمره به خليله، فأنزل الله عز وجل:" وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ
عَلى يَدَيْهِ". قال الضحاك: لما بصق عقبة في وجه رسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجع بصاقه في وجهه وشوى وجهه وشفتيه، حتى أثر في وجهه وأحرق
خديه، فلم يزل أثر ذلك في وجهه حتى قتل. وعضه يديه فعل النادم الحزين لأجل طاعته
خليله. (يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا) في الدنيا،
يعنى طريقا إلى الجنة. (يا ويلتا) دعاء بالويل والثبور على محالفة الكافر
ومتابعته. (ليتني لم أتخذ فلانا خليلا) يعنى أمية، وكنى عنه ولم يصرح باسمه لئلا
يكون هذا الوعد مخصوصا به ولا مقصورا، بل يتناول جميع من فعل مثل فعلهما. وقال
مجاهد وأبو رجاء: الظالم عام في كل ظالم، وفلان: الشيطان. واحتج لصاحب هذا القول
بأن بعده" وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولًا". وقرا الحسن"
يا ويلتى" وقد مضى في" هود «1»" بيانه. والخليل: الصاحب والصديق
وقد مضى في" النساء «2» بيانه. (لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ) أي يقول
هذا النادم: لقد أضلني من اتخذته في الدنيا خليلا عن القرآن والايمان به.
وقيل:" عَنِ الذِّكْرِ" أي عن الرسول. (وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ
خَذُولًا) قيل: هذا من قول الله لا من قول الظالم. وتمام الكلام على هذا عند
قوله:" بَعْدَ إِذْ جاءَنِي". والخذل الترك من الإعانة، ومنه خذلان
إبليس للمشركين لما ظهر سراقة بن مالك، فلما رأى الملائكة تبرأ منهم. وكل من صد عن
سبيل الله وأطيع في معصية الله فهو شيطان للإنسان، خذولا عند نزول العذاب والبلاء.
ولقد أحسن من قال: تجنب قرين السوء واصرم حباله فإن لم تجد عنه محيصا فداره وأحبب
حبيب الصدق واحذر مراءة تنل منه صفو الود ما لم تماره وفى الشيب ما ينهى الحليم عن
الصبا إذا اشتعلت نيرانه في عذاره آخر: اصحب خيار الناس حيث لقيتهم خير الصحابة من
يكون عفيفا والناس مثل دراهم ميزتها فوجدت منها فضة وزيوفا
__________
(1). راجع ج 9 ص 69 طبعه أولى أو ثانية.
(2). راجع ج 5 ص 400 طبعه أولى أو ثانية.
وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31)
وفى
الصحيح من حديث أبى موسى عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:"
إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير فحامل المسك إما أن
يحذيك «1» وإما أن تبتاع منه وإما أن تجد ريحا طيبة ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك
وإما أن تجد ريحا خبيثة" لفظ مسلم. وأخرجه أبو داود من حديث أنس. وذكر أبو
بكر البزار عن ابن عباس قال: قيل يا رسول الله، أي جلسائنا خير؟ قال:" من
ذكركم بالله رؤيته وزاد في علمكم منطقه وذكركم بالآخرة عمله". وقال مالك بن
دينار: إنك إن تنقل الأحجار مع الأبرار خير لك من أن تأكل الخبيص «2» مع الفجار.
وأنشد:
وصاحب خيار الناس تنج مسلما ... وصاحب شرار الناس يوما فتندما
[سورة الفرقان (25): الآيات 30 الى 31]
وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً
(30) وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفى
بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً (31)
قوله تعالى: (وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ يريد محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، يشكوهم إلى الله تعالى. (إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ
مَهْجُوراً) أي قالوا فيه غير الحق من إنه سحر وشعر، عن مجاهد والنخعي. وقيل:
معنى" مَهْجُوراً" أي متروكا، فعزاه الله تبارك وتعالى وسلاه بقوله:
(وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ) أي كما جعلنا
لك يا محمد عدوا من مشركي قومك- وهو أبو جهل في قول ابن عباس- فكذلك جعلنا لكل نبى
عدوا من مشركي قومه، فاصبر لامرى كما صبروا، فإنى هاديك وناصرك على كل من ناوأك.
وقد قيل: إن قول الرسول" يا رَبِّ" إنما يقوله يوم القيامة، أي هجروا القرآن
وهجروني وكذبوني. وقال أنس قال النبي صلى الله غلية وسلم:" من «3» تعلم
القرآن وعلق مصحفه لم يتعاهد ولم ينظر فيه جاء
__________
(1). أحذاه: أعطاه.
(2). الخبيص: حلواء تعمل من التمر والسمن.
(3). في الأصل:" من تعلم القرآن وعلمه وعلق مصحفا ..." وتصحيح هذا الأثر
من روح المعاني والبيضاوي والشهاب على أنهم تكلموا في صحته إذ في سنده أبو هدبة
وهو كذاب.
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32) وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33)
يوم
القيامة متعلقا به يقول يا رب العالمين إن عبدك هذا اتخذني مهجورا فاقض بيني
وبينه". ذكره الثعلبي. (وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً) نصب على الحال
أو التمييز، أي يهديك وينصرك فلا تبال بمن عاداك. وقال ابن عباس: عدو النبي صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبو جهل لعنه الله.
[سورة الفرقان (25): الآيات 32 الى 33]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً
كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً (32) وَلا
يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (33)
قوله تعالى: (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ
جُمْلَةً واحِدَةً) اختلف في قائل ذلك على قولين: أحدهما- أنهم كفار قريش، قاله
ابن عباس. والثاني- انهم اليهود حين رأوا نزول القرآن مفرقا قالوا: هلا أنزل عليه
جملة واحدة كما أنزلت التوراة على موسى والإنجيل على عيسى والزبور" على
داود" «1». فقال الله تعالى:" كَذلِكَ" أي فعلنا" لِنُثَبِّتَ
بِهِ فُؤادَكَ" نقوى به قلبك فتعيه وتحمله، لان الكتب المتقدمة أنزلت على
أنبياء يكتبون ويقرءون، والقرآن أنزل على نبى أمي، ولان من القرآن الناسخ
والمنسوخ، ومنه ما هو جواب لمن سأل عن أمور، ففرقناه ليكون أوعى للنبي صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأيسر على العامل به، فكان كلما نزل وحى جديد زاده
قوة قلب. قلت: فإن قيل هلا أنزل القرآن دفعة واحدة وحفظه إذا كان ذلك في قدرته؟.
قيل: في قدرة الله أن يعلمه الكتاب والقرآن في لحظة واحدة، ولكنه لم يفعل ولا
معترض عليه في حكمه، وقد بينا وجه الحكمة في ذلك. وقد قيل: إن قوله"
كَذلِكَ" من كلام المشركين، أي لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك، أي
كالتوراة والإنجيل، فيتم الوقف على" كَذلِكَ" ثم يبتدئ"
لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ". ويجوز أن يكون الوقف على قوله:" جُمْلَةً
واحِدَةً" ثم يبتدئ" كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ" على معنى
أنزلناه عليك كذلك متفرقا لنثبت به فؤادك. قال
__________
(1). زيادة يقتضيها المقام.
ابن
الأنباري: والوجه الأول أجود وأحسن، والقول الثاني قد جاء به التفسير، حدثنا محمد
ابن عثمان الشيبى قال حدثنا منجاب قال حدثنا بشر بن عمارة عن أبى روق عن الضحاك عن
ابن عباس في قوله تعالى:" إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ
«1»" قال: أنزل القرآن جملة واحدة من عند الله عز وجل في اللوح المحفوظ إلى
السفرة الكرام الكاتبين في السماء، فنجمه السفرة الكرام على جبريل عشرين ليلة،
ونجمه جبريل عليه السلام على محمد عشرين سنة. قال: فهو قوله" فَلا أُقْسِمُ
بِمَواقِعِ النُّجُومِ «2»" يعنى نجوم القرآن" وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ
تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ. إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ. قال: فلما لم ينزل على النبي
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جملة واحدة، قال الذين كفروا لولا نزل عليه
القرآن جملة واحدة، فقال الله تبارك وتعالى:" كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ
فُؤادَكَ" يا محمد. (وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا) يقول: ورسلناه ترسيلا، يقول:
شيئا بعد شي. (وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ
تَفْسِيراً) يقول: لو أنزلنا عليك القرآن جملة واحدة ثم سألوك لم يكن عندك ما تجيب
به، ولكن نمسك عليك فإذا سألوك أجبت. قال النحاس: وكان ذلك من علامات النبوة،
لأنهم لا يسألون عن شي إلا أجيبوا عنه، وهذا لا يكون إلا من نبى، فكان ذلك تثبيتا
لفؤاده وأفئدتهم، ويدل على هذا" وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ
بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً" ولو نزل جملة بما فيه من الفرائض لثقل
عليهم، وعلم الله عز وجل أن الصلاح في إنزاله متفرقا، لأنهم ينبهون به مرة بعد
مرة، ولو نزل جملة واحدة لزال معنى التنبيه وفيه ناسخ ومنسوخ، فكانوا يتعبدون
بالشيء إلى وقت بعينه قد علم الله عز وجل فيه الصلاح، ثم ينزل النسخ بعد ذلك،
فمحال أن ينزل جملة واحدة: افعلوا كذا ولا تفعلوا. قال النحاس: والاولى أن يكون
التمام" جُمْلَةً واحِدَةً" لأنه إذا وقف على" كَذلِكَ" صار
المعنى كالتوراة والإنجيل والزبور ولم يتقدم لها ذكر. قال الضحاك:"
وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً" أي تفصيلا. والمعنى: أحسن من مثلهم تفصيلا، فحذف لعلم
السامع. وقيل: كان المشركون يستمدون من أهل الكتاب وكان قد غلب على أهل الكتاب
التحريف
__________
(1). راجع ج 20 ص 129.
(2). راجع ج 17 ص 223.
الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا (34) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا (35) فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا (36)
والتبديل،
فكان ما يأتي به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحسن تفسيرا مما عندهم،
لأنهم كانوا يخلطون الحق بالباطل، والحق المحض أحسن من حق مختلط بباطل، ولهذا قال
تعالى:" وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ" «1». وقيل:" لا
يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ" كقولهم في صفة عيسى إنه خلق من غير أب إلا جئناك بالحق
أي بما فيه نقض حجتهم كآدم إذ خلق من غير أب وام.
[سورة الفرقان (25): آية 34]
الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً
وَأَضَلُّ سَبِيلاً (34)
قوله تعالى: (الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ) تقدم
في" سبحان" «2». (أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً) لأنهم في جهنم. وقال مقاتل:
قال الكفار لأصحاب محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو شر الخلق. فنزلت
الآية. (وَأَضَلُّ سَبِيلًا) أي دينا وطريقا. ونظم الآية: ولا يأتونك بمثل إلا
جئناك بالحق، وأنت منصور عليهم بالحجج الواضحة، وهم محشورون على وجوههم.
[سورة الفرقان (25): الآيات 35 الى 36]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً
(35) فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا
فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً (36)
قوله تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) يريد التوراة. (وَجَعَلْنا
مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً) تقدم في" طه" «3» (فَقُلْنَا اذْهَبا)
الخطاب لهما. وقيل: إنما أمر موسى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالذهاب وحده
في المعنى. وهذا بمنزلة قوله:" نَسِيا حُوتَهُما" «4». وقوله:"
يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ" «5» وإنما يخرج من أحدهما.
قال النحاس: وهذا مما لا ينبغي أن يجترئ به على كتاب الله تعالى، وقد قال عز
وجل:" فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى .
قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى . قالَ لا
تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى . فَأْتِياهُ فَقُولا
__________
(1). راجع ج 1 ص 364 فما بعد. [.....]
(2). راجع ج 10 ص 333.
(3). راجع ج 11 ص 191 وص 12.
(4). راجع ج 17 ص 161.
(5). راجع ج 10 ص 333.
وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (37)
أَنَا
رَسُولُ رَبِّكِ
ونظير هذا" وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ". وقد قال جل ثناؤه" ثُمَّ
أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا" قال القشيري: وقوله في موضع
آخر:" اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى " لا ينافي هذا، لأنهما إذا
كان مأمورين فكل واحد مأمور. ويجوز أن يقال: أمر موسى أولا، ثم لما قال:"
وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي" قال" اذْهَبا إِلى
فِرْعَوْنَ". (إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) يريد فرعون
وهامان والقبط. (فَدَمَّرْناهُمْ) في الكلام إضمار، أي فكذبوهما (فَدَمَّرْناهُمْ
تَدْمِيراً) أي أهلكناهم إهلاكا.
[سورة الفرقان (25): آية 37]
وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ
لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً (37)
قوله تعالى: (وَقَوْمَ نُوحٍ) في نصب" قَوْمَ" أربعة أقوال: العطف على
الهاء والميم في" فَدَمَّرْناهُمْ". الثاني- بمعنى اذكر. الثالث- بإضمار
فعل يفسره ما بعده، والتقدير: وأغرقنا قوم نوح أغرقناهم. الرابع- إنه منصوب
ب" أَغْرَقْناهُمْ" قاله الفراء. ورده النحاس قال: لان"
أغرقنا" ليس مما يتعدى إلى مفعولين فيعمل في المضمر وفى" قَوْمَ
نُوحٍ". (لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ) ذكر الجنس والمراد نوح وحده، لأنه لم
يكن في ذلك الوقت رسول إليهم إلا نوح وحده، فنوح إنما بعث بلا إله إلا الله،
وبالإيمان بما ينزل الله، فلما كذبوه كان في ذلك تكذيب لكل من بعث بعده بهذه
الكلمة. وقيل: إن من كذب رسولا فقد كذب جميع الرسل، لأنهم لا يفرق بينهم في
الايمان، ولأنه ما من نبى إلا يصدق سائر أنبياء الله، فمن كذب منهم نبيا فقد كذب
كل من صدقه من النبيين. (أَغْرَقْناهُمْ) أي بالطوفان. على ما تقدم في"
هود". (وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً) أي علامة ظاهرة على قدرتنا
(وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ) أي المشركين من قوم نوح (عَذاباً أَلِيماً) أي في
الآخرة. وقيل: أي هذه سبيلي في كل ظالم.
[سورة الفرقان (25): آية 38]
وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً (38)
قوله
تعالى: (وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً)
كله معطوف على" قَوْمَ نُوحٍ" إذا كان" قَوْمَ نُوحٍ" منصوبا
على العطف، أو بمعنى اذكر. ويجوز أن يكون كله منصوبا على أنه معطوف على المضمر
في" فَدَمَّرْناهُمْ" أو على المضمر في" جَعَلْناهُمْ" وهو
اختيار النحاس، لأنه أقرب إليه. ويجوز أن يكون منصوبا بإضمار فعل، أي اذكر عادا
الذين كذبوا هودا فأهلكهم الله بالريح العقيم، وثمودا كذبوا صالحا فأهلكوا بالرجفة.
و" أَصْحابَ الرَّسِّ" والرس في كلام العرب البئر التي تكون غير مطوية،
والجمع رساس. قال «1»:
تنابلة يحفرون الرساسا ... يعنى آبار المعادن
". قال ابن عباس: سألت كعبا عن أصحاب الرس قال: صاحب" يس" الذي
قال:" يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ" «2» قتله قومه ورسوه في بئر
لهم يقال لها الرس طرحوه فيها، وكذا قال مقاتل. السدى: هم أصحاب قصة"
يس" أهل أنطاكية، والرس بئر بأنطاكية قتلوا فيها حبيبا النجار مؤمن آل"
يس" فنسبوا إليها. وقال على رضى الله عنه: هم قوم كانوا يعبدون شجرة صنوبر
فدعا عليهم نبيهم، وكان من ولد يهوذا، فيبست الشجرة فقتلوه ورسوه في بئر، فأظلتهم
سحابة سوداء فأحرقتهم. وقال ابن عباس: هم قوم بأذربيجان قتلوا أنبياء فجفت أشجارهم
وزروعهم فماتوا جوعا وعطشا. وقال وهب بن منبه: كانوا أهل بئر يقعدون عليها وأصحاب
مواشي، وكانوا يعبدون الأصنام، فأرسل الله إليهم شعيبا فكذبوه وآذوه، وتمادوا على
كفرهم وطغيانهم، فبينما هم حول البئر في منازلهم انهارت بهم وبديارهم، فخسف الله
بهم فهلكوا جميعا. وقال قتادة: أصحاب الرس وأصحاب الأيكة أمتان أرسل الله إليهما
شعيبا فكذبوه فعذبهما الله بعذابين. قال قتادة: والرس قرية بفلج اليمامة. وقال
عكرمة: هم قوم رسوا نبيهم في بئر حيا. دليله ما روى محمد بن كعب القرظي عمن حدثه
أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:" أول الناس يدخل الجنة يوم
القيامة عبد أسود وذلك أن الله تعالى بعث نبيا إلى قومه فلم يؤمن به إلا ذلك
الأسود فحفر أهل القرية بئرا وألقوا فيه نبيهم حيا وأطبقوا عليه حجرا ضخما
__________
(1). هو النابغة الجعدي. والتنابلة: رجال قصار.
(2). راجع ج 15 ص 17 فما بعد.
وكان
العبد الأسود يحتطب على ظهره ويبيعه ويأتيه بطعامه وشرابه فيعينه الله على رفع تلك
الصخرة حتى يدليه إليه فبينما هو يحتطب إذ نام فضرب الله على أذنه سبع سنين نائما
ثم هب من نومه فتمطى واتكأ على شقه الآخر فضرب الله على أذنه سبع سنين ثم هب
فاحتمل حزمة الحطب فباعها وأتى بطعامه وشرابه إلى البئر فلم يجده وكان قومه قد
أراهم الله تعالى آية فاستخرجوه وآمنوا به وصدقوه ومات ذلك النبي". قال النبي
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" إن ذلك العبد الأسود لأول من يدخل
الجنة" وذكر هذا الخبر المهدوي والثعلبي، واللفظ للثعلبي، وقال: هؤلاء آمنوا
بنبيهم فلا يجوز أن يكونوا أصحاب الرس، لان الله تعالى أخبر عن أصحاب الرس أنه
دمرهم، إلا أن يدمروا بأحداث أحدثوها بعد نبيهم. وقال الكلبي: أصحاب الرس قوم أرسل
الله إليهم نبيا فأكلوه. وهم أول من عمل نساؤهم السحق، ذكره الماوردي. وقيل: هم
أصحاب الأخدود الذين حفروا الأخاديد وحرقوا فيها المؤمنين، وسيأتي «1». وقيل: هم
بقايا من قوم ثمود، وأن الرس البئر المذكورة في" الحج" في قوله:"
وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ" على ما تقدم «2». وفي الصحاح: والرس اسم بئر كانت
لبقية من ثمود. وقال جعفر بن محمد عن أبيه: أصحاب الرس قوم كانوا يستحسنون لنسائهم
السحق، وكان نساؤهم كلهم سحاقات. وروى من حديث أنس أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:" إن من أشراط الساعة أن يكتفى الرجال بالرجال
والنساء بالنساء وذلك السحق". وقيل: الرس ماء ونخل لبنى أسد. وقيل: الثلج
المتراكم في الجبال، ذكره القشيري. وما ذكرناه أولا هو المعروف، وهو كل حفر احتفر
كالقبر والمعدن والبئر. قال أبو عبيدة: الرس كل ركية لم تطو، وجمعها رساس. قال
الشاعر: وهم سائرون إلى أرضهم فيا ليتهم يحفرون الرساسا والرس اسم واد في قول
زهير: بكرن بكورا واستحرن بسحرة فهن لوادى الرس كاليد للفم ورسست رسا: حفرت بئرا.
ورس الميت أي قبر. والرس: الإصلاح بين الناس، والإفساد أيضا وقد رسست بينهم، فهو من
الأضداد. وقد قيل في أصحاب الرس غير ما ذكرنا، ذكره
__________
(1). راجع ج 19 ص 284.
(2). راجع ج 12 ص 75.
وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا (39)
الثعلبي
وغيره. (وقرونا بين ذلك كثيرا) أي أمما لا يعلمهم إلا الله بين قوم نوح وعاد.
وثمود وأصحاب الرس. وعن الربيع بن خيثم اشتكى فقيل له: ألا تتداوى فإن رسول الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أمر به؟ قال: لقد هممت بذلك ثم فكرت فيما
بيني وبين نفسي فإذا عاد وثمود وأصحاب الرس وقرونا بين ذلك كثيرا كانوا أكثر وأشد
حرصا على جمع المال، فكان فيهم أطباء، فلا الناعت منهم بقي ولا المنعوت، فأبى أن
يتداوى فما مكث إلا خمسة أيام حتى مات، رحمه الله.
[سورة الفرقان (25): آية 39]
وَكُلاًّ ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وَكُلاًّ تَبَّرْنا تَتْبِيراً (39)
قوله تعالى: (وَكُلًّا ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ) قال الزجاج. أي وأنذرنا كلا
ضربنا له الأمثال وبينا لهم الحجة، ولم نضرب لهم الأمثال الباطلة كما يفعله هؤلاء
الكفرة. وقيل: انتصب على تقدير ذكرنا كلا ونحوه، لان ضرب الأمثال تذكير ووعظ، ذكره
المهدوي. والمعنى واحد. (وَكُلًّا تَبَّرْنا تَتْبِيراً) أي أهلكنا بالعذاب. وتبرت
الشيء كسرته. وقال المؤرج والأخفش: دمرناهم تدميرا. تبدل التاء والباء من الدال
والميم.
[سورة الفرقان (25): آية 40]
وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ
يَكُونُوا يَرَوْنَها بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً (40)
قوله تعالى: (وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ) يعنى مشركي مكة. والقرية قرية
قوم لوط. و(مَطَرَ السَّوْءِ) الحجارة التي أمطروا بها. (أَفَلَمْ يَكُونُوا
يَرَوْنَها) أي في أسفارهم ليعتبروا. قال ابن عباس: كانت قريش في تجارتها «1» إلى
الشام تمر بمدائن قوم لوط كما قال الله تعالى:" وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ
عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ
"»
وقال:" وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ" وقد تقدم «3». (بَلْ كانُوا لا
يَرْجُونَ نُشُوراً) أي لا يصدقون بالبعث. ويجوز أن يكون معنى"
يَرْجُونَ" يخافون. ويجوز أن يكون على بابه ويكون معناه: بل كانوا لا يرجون
ثواب الآخرة.
__________
(1). في ك: تجاراتهم.
(2). راجع ج 15 ص 120.
(3). راجع ج 10 ص 45.
وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41)
[سورة
الفرقان (25): الآيات 41 الى 42]
وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ
اللَّهُ رَسُولاً (41) إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْ لا أَنْ
صَبَرْنا عَلَيْها وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ
سَبِيلاً (42)
قوله تعالى: (وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً) جواب"
إِذا"" إِنْ يَتَّخِذُونَكَ" لان معناه يتخذونك. وقيل: الجواب
محذوف وهو قالوا أو يقولون:" أهذا الذي" وقوله:" إِنْ
يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً" كلام معترض. ونزلت في أبى جهل كان يقول للنبي
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مستهزئا: (أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ
رَسُولًا) والعائد محذوف، أي بعثه الله." رَسُولًا" نصب على الحال
والتقدير: أهذا الذي بعثه الله مرسلا." أَهذَا" رفع بالابتداء و"
الَّذِي" خبره." رَسُولًا" نصب على الحال. و" بَعَثَ" في
صلة" الَّذِي" واسم الله عز وجل رفع ب" بَعَثَ". ويجوز أن
يكون مصدرا، لان معنى" بَعَثَ" أرسل ويكون معنى" رَسُولًا"
رسالة على هذا. والألف للاستفهام على معنى التقرير والاحتقار. (إِنْ كادَ
لَيُضِلُّنا) أي قالوا قد كاد أن يصرفنا. (عَنْ آلِهَتِنا لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا
عَلَيْها) أي حبسنا أنفسنا على عبادتها. قال الله تعالى: (وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ
حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا)
يريد من أضل دينا أهم أم محمد، وقد رأوه في يوم بدر.
[سورة الفرقان (25): آية 43]
أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً
(43)
قوله تعالى: (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) عجب نبيه صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من إضمارهم على الشرك وإصرارهم عليه مع إقرارهم بأنه خالقهم
ورازقهم، ثم يعمد إلى حجر يعبده من غير حجة. قال الكلبي وغيره: كانت العرب إذا هوى
الرجل منهم شيئا عبده من دون الله، فإذا رأى أحسن منه ترك الأول وعبد الأحسن، فعلى
هذا يعنى: أرأيت من اتخذ إلهه بهواه، فحذف الجار. وقال ابن عباس: الهوى إله يعبد
من دون الله، ثم تلا هذه الآية.
أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44) أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45) ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا (46)
قال
الشاعر:
لعمر أبيها لو تبدت لناسك ... قد اعتزل الدنيا بإحدى المناسك
لصلى لها قبل الصلاة لربه ... ولا ارتد في الدنيا بأعمال فاتك
وقيل:" اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ" أي أطاع هواه. وعن الحسن لا يهوى شيئا
إلا أتبعه، والمعنى واحد. (أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا) أي حفيظا وكفيلا
حتى ترده إلى الايمان وتخرجه من هذا الفساد. أي ليست الهداية والضلالة موكولتين
إلى مشيئك، وإنما عليك التبليغ. وهذا رد على القدرية. ثم قيل: إنها منسوخة بآية
القتال. وقيل: لم تنسخ، لان الآية تسلية للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
[سورة الفرقان (25): آية 44]
أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ
كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (44)
قوله تعالى: (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ) ولم
يقل أنهم لان منهم من قد علم أنه يؤمن. وذمهم عز وجل بهذا." أَمْ تَحْسَبُ
أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ" سماع قبول أو يفكرون فيما تقول فيعقلونه، أي
أهم بمنزلة من لا يعقل ولا يسمع. وقيل: المعنى أنهم لما لم ينتفعوا بما يسمعون
فكأنهم لم يسمعوا، والمراد أهل مكة. وقيل:" أَمْ" بمعنى بل في مثل هذا
الموضع. (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ) أي في الأكل والشرب لا يفكرون في
الآخرة. (بَلْ هُمْ أَضَلُّ) إذ لا حساب ولا عقاب على الانعام. وقال مقاتل:
البهائم تعرف ربها وتهتدى إلى مراعيها وتنقاد لأربابها التي تعقلها، وهؤلاء لا
ينقادون ولا يعرفون ربهم الذي خلقهم ورزقهم. وقيل: لان البهائم إن لم تعقل صحة
التوحيد والنبوة لم تعتقد بطلان ذلك أيضا.
[سورة الفرقان (25): الآيات 45 الى 46]
أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً
ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً (45) ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا
قَبْضاً يَسِيراً (46)
قوله
تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ) يجوز أن تكون هذه الرؤية
من رؤية العين، ومجوز أن تكون من العلم. وقال الحسن وغيرهما: مد الظل من طلوع
الفجر إلى طلوع الشمس. وقيل: هو من غيوبة الشمس إلى طلوعها. والأول أصح، والدليل
على ذلك أنه ليس من ساعة أطيب من تلك الساعة، فإن فيها يجد المريض راحة والمسافر
وكل ذى علة: وفيها ترد نفوس الأموات والأرواح منهم إلى الأجساد، وتطيب نفوس
الأحياء فيها. وهذه الصفة مفقودة بعد المغرب. وقال أبو العالية: نهار الجنة هكذا،
وأشار إلى ساعة المصلين صلاة الفجر. أبو عبيدة: الظل بالغداة والفيء بالعشي، لأنه
يرجع بعد زوال الشمس، سمى فيئا لأنه فاء من المشرق إلى جانب المغرب. قال الشاعر،
وهو حميد بن ثور يصف سرحة «1» وكنى بها عن امرأة: فلا الظل من برد الضحا تستطيعه
ولا الفيء من برد العشى تذوق وقال ابن السكيت: الظل ما نسخته الشمس والفيء ما نسخ
الشمس. وحكى أبو عبيدة عن رؤية قال: كل ما كانت عليه الشمس فزالت عنه فهو في وظل،
وما لم تكن عليه الشمس فهو ظل. (وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً) أي دائما مستقرا
لا تنسخه الشمس. ابن عباس: يريد إلى يوم القيامة، وقيل: المعنى لو شاء لمنع الشمس
الطلوع. (ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا) أي جعلنا الشمس بنسخها
الظل عند مجيئها دالة على أن الظل شي ومعنى، لان الأشياء تعرف بأضدادها ولولا
الشمس ما عرف الظل، ولولا النور ما عرفت الظلمة. فالدليل فعيل بمعنى الفاعل. وقيل:
بمعنى المفعول كالقتيل والدهين والخضيب. أي دللنا الشمس على الظل حتى ذهبت به، أي
اتبعناها إياه. فالشمس دليل أي حجة وبرهان، وهو الذي يكشف المشكل ويوضحه. ولم يؤنث
الدليل وهو صفة الشمس لأنه في معنى الاسم، كما يقال: الشمس برهان والشمس حق.
(ثُمَّ قَبَضْناهُ) يريد ذلك الظل الممدود. (إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً) أي يسيرا
قبضه علينا. وكل أمر ربنا عليه يسير. فالظل مكثه في هذا الجو بمقدار طلوع
__________
(1). السرحة: واحدة السرح، وهو شجر كبار عظام لا ترعى وإنما يستظل فيه.
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا (47)
الفجر
إلى طلوع الشمس، فإذا طلعت الشمس صار الظل مقبوضا، وخلفه في هذا الجو شعاع الشمس
فأشرق على الأرض وعلى الأشياء إلى وقت غروبها، فإذا غربت فليس هناك ظل، إنما ذلك
بقية نور النهار. وقال قوم: قبضه بغروب الشمس، لأنها ما لم تغرب فالظل فيه بقية،
وإنما يتم زواله بمجيء الليل ودخول الظلمة عليه. وقيل: إن هذا القبض وقع بالشمس،
لأنها إذا طلعت أخذ الظل في الذهاب شيئا فشيئا، قاله أبو مالك وإبراهيم التيمي.
وقيل:" ثُمَّ قَبَضْناهُ" أي قبضنا ضياء الشمس بألفي" قَبْضاً يَسِيراً".
وقيل:" يَسِيراً" أي سريعا، قاله الضحاك. قتادة: خفيا، أي إذا غابت
الشمس قبض الظل قبضا خفيا، كلما قبض جزء منه جعل مكانه جزء من الظلمة، وليس يزول
دفعة واحدة. فهذا معنى قول قتادة، وهو قول مجاهد.
[سورة الفرقان (25): آية 47]
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ
النَّهارَ نُشُوراً (47)
وفيه أربع مسائل: الاولى- قوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ
لِباساً) يعنى سترا للخلق يقوم مقام اللباس في ستر البدن. قال الطبري: وصف الليل
باللباس تشبيها من حيث يستر الأشياء ويغشاها. الثانية- قال ابن العربي: ظن بعض
الغفلة أن من صلى عريانا في الظلام أنه يجزئه، لان الليل لباس. وهذا يوجب أن يصلى
في بيته عريانا إذا أغلق عليه بابه. والستر في [الصلاة «1»] عبادة تختص بها ليست
لأجل نظر الناس. ولا حاجة إلى الاطناب في هذا. الثالثة- قوله تعالى: (وَالنَّوْمَ
سُباتاً) أي راحة لأبدانكم بانقطاعكم عن الاشغال. واصل السبات من التمدد. يقال:
سبتت المرأة شعرها أي نقضته وأرسلته. ورجل مسبوت أي ممدود الخلقة. وقيل: للنوم
سبات لأنه بالتمدد يكون، وفى التمدد معنى الراحة. وقيل:
__________
(1). في الأصول:" في الظلام". والتصويب من" أحكام القرآن لابن
العربي".
وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48)
السبت
القطع، فالنوم انقطاع عن الاشتغال، ومنه سبت اليهود لانقطاعهم عن الأعمال فيه.
وقيل: السبت الإقامة في المكان، فكأن السبات سكون ما وثبوت عليه، فالنوم سبات على
معنى أنه سكون عن الاضطراب والحركة. وقال الخليل: السبات نوم ثقيل، أي جعلنا نومكم
ثقيلا ليكمل الإجمام والراحة. الرابعة- قوله تعالى: (وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً)
من الانتشار للمعاش، أي النهار سبب الأحياء للانتشار. شبه اليقظة فيه بتطابق
الأحياء مع الإماتة. وكان عليه السلام إذا أصبح قال:" الحمد لله الذي أحيانا
بعد ما أماتنا وإليه النشور".
[سورة الفرقان (25): آية 48]
وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنا
مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً (48)
قوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ
رَحْمَتِهِ) تقدم في" الأعراف" «1» مستوفى. قوله تعالى: (وَأَنْزَلْنا
مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً). فيه خمس عشرة مسألة: الاولى- قوله تعالى:"
ماءً طَهُوراً" يتطهر به، كما يقال: وضوء للماء الذي يتوضأ به. وكل طهور طاهر
وليس كل طاهر طهورا. فالطهور (بفتح الطاء) الاسم. وكذلك الوضوء والوقود. وبالضم
المصدر، وهذا هو المعروف في اللغة، قاله ابن الأنباري. فبين أن الماء المنزل من
السماء طاهر في نفسه مطهر لغيره، فإن الطهور بناء مبالغة في طاهر، وهذه المبالغة
اقتضت أن يكون طاهرا مطهرا. وإلى هذا ذهب الجمهور. وقيل: إن" طَهُوراً"
بمعنى طاهر، وهو قول أبى حنيفة، وتعلق بقوله تعالى:" وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ
شَراباً طَهُوراً" يعنى طاهرا.
__________
(1). راجع ج 7 ص 228 و" نشرا" بالنون قراءة نافع. [.....]
ويقول
الشاعر: خليلي هل في نظرة بعد توبة أداوي بها قلبي على فجور إلى رجح الأكفال غيد
«1» من الظبا عذاب الثنايا ريقهن طهور فوصف الريق بأنه طهور وليس بمطهر. وتقول
العرب: رجل نؤوم وليس ذلك بمعنى أنه منيم لغيره، وإنما يرجع ذلك إلى فعل نفسه.
ولقد أجاب علماؤنا عن هذا فقالوا: وصف شراب الجنة بأنه طهور يفيد التطهير عن أوضار
الذنوب وعن خسائس الصفات كالغل والحسد، فإذا شربوا هذا الشراب يطهرهم الله من رحض
الذنوب وأوضار الاعتقادات الذميمة، فجاءوا الله بقلب سليم، ودخلوا الجنة بصفات التسليم،
وقيل لهم حينئذ:" سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ".
ولما كان حكمه في الدنيا بزوال حكم الحدث بجريان الماء على الأعضاء كانت تلك حكمته
في الآخرة. وأما قول الشاعر:
... ريقهن طهور
فإنه قصد بذلك المبالغة في وصف الريق بالطهورية لعذوبته وتعلقه بالقلوب، وطيبه في
النفوس، وسكون غليل المحب برشفه حتى كأنه الماء الطهور، وبالجملة فإن الأحكام
الشرعية لا تثبت بالمجازاة الشعرية، فإن الشعراء يتجاوزون في الاستغراق حد الصدق
إلى الكذب، ويسترسلون في القول حتى يخرجهم ذلك إلى البدعة والمعصية، وربما وقعوا في
الكفر من حيث لا يشعرون. ألا ترى إلى قول بعضهم: ولو لم تلامس صفحة الأرض رجلها
لما كنت أدرى علة للتيمم وهذا كفر صراح، نعوذ بالله منه. قال القاضي أبو بكر بن
العربي: هذا منتهى لباب كلام العلماء، وهو بالغ في فنه، إلا أنى تأملت من طريق
العربية فوجدت فيه
__________
(1). في ابن العربي واللسان مادة رجح":
إلى رجح الأكفال هيف خصورها
وامرأة رجاح وراجح، ثقيلة العجيزة، من نسوة رجح.
مطلعا
مشرقا، وهو أن بناء فعول للمبالغة، إلا أن المبالغة قد تكون في الفعل المتعدي كما
قال الشاعر:
ضروب بنصل السيف سوق سمانها «1»
وقد تكون في الفعل القاصر كما قال الشاعر:
نؤوم الضحا لم تنتطق عن تفضل «2»
وإنما تؤخذ طهورية الماء لغيره من الحسن نظافة ومن الشرع طهارة، كقوله عليه
السلام:" لا يقبل الله صلاة بغير طهور". وأجمعت الامة لغة وشريعة على أن
وصف طهور يختص بالماء ولا يتعدى إلى سائر المائعات وهى طاهرة، فكان اقتصارهم بذلك
على الماء أدل دليل على أن الطهور هو المطهر، وقد يأتي فعول لوجه آخر ليس من هذا
كله وهو العبارة به الآلة للفعل لا عن الفعل كقولنا: وقود وسحور بفتح الفاء، فإنها
عبارة عن الحطب والطعم المتسحر به، فوصف الماء بأنه طهور (بفتح الطاء) أيضا يكون
خبرا عن الآلة التي يتطهر بها. فإذا ضمت الفاء في الوقود والسحور والطهور عاد إلى
الفعل وكان خبرا عنه. فثبت بهذا أن اسم الفعول (بفتح الفاء) يكون بناء للمبالغة
ويكون خبرا عن الآلة، وهو الذي خطر ببال الحنفية، ولكن قصرت أشداقها عن لوكه، وبعد
هذا يقف البيان عن المبالغة وعن الآلة على الدليل بقوله تعالى:" وَأَنْزَلْنا
مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً". وقوله عليه السلام:" جعلت لي الأرض
مسجدا وطهورا" يحتمل المبالغة ويحتمل العبارة به عن الآلة، فلا حجة فيه
لعلمائنا، لكن يبقى قول:" لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ" نص في أن فعله يتعدى
إلى غيره. الثانية- المياه المنزلة من السماء والمودعة في الأرض طاهرة مطهرة على
اختلاف ألوانها وطعومها وأرياحها حتى يخالطها غيرها، والمخالط للماء على ثلاثة
أضرب: ضرب يوافقه
__________
(1). هذا صدر بيت من قصيدة لابي طالب بن عبد المطلب يمدح بها مسافر بن عمر
والقرشي، وتمامه.
إذا عدموا زادا فإنك عاقر
(2). هذا عجز بيت من معلقة امرئ القيس، وصدره:
ويضحى فنيت المسك فوق فراشها
والانتطاق: الائتزاز للعمل. والتفضل: التوشح، وهو لبسها أدنى ثيابها.
في صفتيه جميعا، فإذا خالطه فغيره لم يسلبه وصفا منهما لموافقته لهما وهو التراب. والضرب الثاني يوافقه في إحدى صفتيه وهى الطهارة، فإذا خالطه فغيره سلبه ما خالفه فيه وهو التطهير، كماء الورد وسائر الطاهرات. والضرب الثالث يخالفه في الصفتين جميعا، فإذا خالطه فغيره سلبه الصفتين جميعا لمخالفته له فيهما وهو النجس. الثالثة- ذهب المصريون من أصحاب مالك إلى أن قليل الماء يفسده قليل النجاسة، وأن الكثير لا يفسده إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه من المحرمات. ولم يحدوا بين القليل والكثير حدا يوقف عنده، إلا أن ابن القاسم روى عن مالك في الجنب يغتسل في حوض من الحياض التي تسقى فيها الدواب ولم يكن غسل ما به من الأذى أنه قد أفسد الماء، وهو مذهب ابن القاسم وأشهب وابن عبد الحكم ومن اتبعهم من المصريين. إلا ابن وهب فإنه يقول في الماء بقول المدنيين من أصحاب مالك. وقولهم ما حكاه أبو مصعب عنهم وعنه: أن الماء لا تفسده النجاسة الحالة فيه قليلا كان أو كثيرا إلا أن تظهر فيه النجاسة وتغير منه طعما أو ريحا أو لونا. وذكر أحمد بن المعدل أن هذا قول مالك بن أنس في الماء. وإلى هذا ذهب إسماعيل بن إسحاق ومحمد بن بكير وأبو الفرج الأبهري وسائر المنتحلين لمذهب مالك من البغداديين، وهو قول الأوزاعي والليث بن سعد والحسن بن صالح وداود بن على. وهو مذهب أهل البصرة، وهو الصحيح في النظر وجيد الأثر. وقال أبو حنيفة: إذا وقعت نجاسة في الماء أفسدته كثيرا كان أو قليلا إذا تحققت عموم النجاسة فيه. ووجه تحققها عنده أن تقع مثلا نقطة بول في بركة، فإن كانت البركة يتحرك طرفاها بتحرك أحدهما فالكل نجس، وإن كانت حركة أحد الطرفين لا تحرك الآخر لم ينجس. وفي المجموعة نحو مذهب أبي حنيفة. وقال الشافعي بحديث القلتين، وهو حديث مطعون فيه، اختلف في إسناده ومتنه، أخرجه أبو داود والترمذي وخاصة الدارقطني، فإنه صدر به كتابه وجمع طرقه. قال ابن العربي: وقد رام الدارقطني على إمامته أن يصحح حديث القلتين فلم يقدر. وقال أبو عمر بن عبد البر: وأما ما ذهب إليه الشافعي من حديث القلتين فمذهب ضعيف من جهة النظر، غير ثابت
في
الأثر، لأنه قد تكلم فيه جماعة من أهل العلم بالنقل، ولان القلتين لا يوقف على
حقيقة مبلغهما في أثر ثابت ولا إجماع، فلو كان ذلك حدا لازما لوجب على العلماء
البحث عنه ليقفوا على حد ما حده النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأنه من
أصل دينهم وفرضهم، ولو كان ذلك كذلك ما ضيعوه، فلقد بحثوا عما هو أدون من ذلك
وألطف. قلت: وفيما ذكر ابن المنذر في القلتين من الخلاف يدل على عدم التوقيف فيهما
والتحديد. وفي سنن الدارقطني عن حماد بن زيد عن عاصم بن المنذر قال: القلال
الخوابي العظام. وعاصم هذا هو أحد رواة حديث القلتين. ويظهر من قول الدارقطني أنها
مثل قلال هجر، لسياقه حديث الاسراء عن أنس بن مالك أن النبي صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:" لما رفعت إلى سدرة المنتهى في السماء السابعة نبقها
مثل قلال هجر وورقها مثل آذان الفيلة" وذكر الحديث. قال ابن العربي: وتعلق
علماؤنا بحديث أبي سعيد الخدري في بئر بضاعة «1»، رواه النسائي والترمذي وأبو داود
وغيرهم. وهو أيضا حديث ضعيف لا قدم له في الصحة فلا تعويل عليه. وقد فاوضت الطوسي
الأكبر في هذه المسألة فقال: إن أخلص المذاهب في هذه المسألة مذهب مالك، فإن الماء
طهور ما لم يتغير أحد أوصافه، إذ لا حديث في الباب يعول عليه، وإنما المعول على
ظاهر القرآن وهو قوله تعالى:" وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً
طَهُوراً" وهو ماء بصفاته، فإذا تغير عن شي منها خرج عن الاسم لخروجه عن
الصفة، ولذلك لما لم يجد البخاري إمام الحديث والفقه في الباب خبرا يعول عليه قال:
(باب إذا تغير وصف الماء) وأدخل الحديث الصحيح:" ما من أحد يكلم في سبيل الله
والله أعلم بمن يكلم في سبيله إلا جاء يوم القيامة وجرحه يثعب «2» دما اللون لون
الدم والريح ريح المسك". فأخبر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن الدم
بحاله وعليه رائحة المسك، ولم تخرجه الرائحة عن صفة الدموية. ولذلك قال علماؤنا
: إذا تغير الماء بريح جيفة على طرفه وساحله لم يمنع ذلك الوضوء منه. ولو تغير بها
وقد وضعت فيه لكان ذلك تنجيسا له للمخالطة والاولى مجاورة لا تعويل عليها.
__________
(1). بئر بضاعة: بئر بالمدينة. ويقال إن بضاعة اسم المرأة نسبت إليها البئر.
(2). يثعب: يجري.
قلت: وقد استدل به أيضا على نقيض ذلك، وهو أن تغير الرائحة يخرجه عن أصله. ووجه هذا الاستدلال أن الدم لما استحالت رائحته إلى رائحة المسك خرج عن كونه مستخبثا نجسا، وأنه صار مسكا، وإن المسك بعض دم الغزال. فكذلك الماء إذا تغيرت رائحته. وإلى هذا التأويل ذهب الجمهور في الماء. وإلى الأول ذهب عبد الملك. قال أبو عمر: جعلوا الحكم للرائحة دون اللون، فكان الحكم لها فاستدلوا عليها في زعمهم بهذا الحديث. وهذا لا يفهم منه معنى تسكن إليه النفس، ولا في الدم معنى الماء فيقاس عليه، ولا يشتغل بمثل هذا الفقهاء، وليس من شأن أهل العلم اللغز به وإشكاله، وإنما شأنهم إيضاحه وبيانه، ولذلك أخذ الميثاق عليهم ليبيننه للناس ولا يكتمونه، والماء لا يخلو تغيره بنجاسة أو بغير نجاسة، فإن كان بنجاسة وتغير فقد أجمع العلماء على أنه غير طاهر ولا مطهر، وكذلك أجمعوا أنه إذا تغير بغير نجاسة أنه طاهر على أصله. وقال الجمهور: إنه غير مطهر إلا أن يكون تغيره من تربة وحمأة. وما أجمعوا عليه فهو الحق الذي لا إشكال فيه، ولا التباس معه. الرابعة- الماء المتغير بقرارة كزرنيخ أو جير يجرى عليه، أو تغير بطحلب أو ورق شجر ينبت عليه لا يمكن الاحتراز عنه فاتفق العلماء أن ذلك لا يمنع من الوضوء به، لعدم الاحتراز منه والانفكاك عنه، وقد روى ابن وهب عن مالك أن غيره أولى منه. الخامسة- قال علماؤنا رحمة الله عليهم: ويكره سؤر النصراني وسائر الكفار والمدمن الخمر، وما أكل الجيف، كالكلاب وغيرها. ومن توضأ بسؤرهم فلا شي عليه حتى يستيقن النجاسة. قال البخاري: وتوضأ عمر رضي الله عنه من بيت نصرانية. ذكر سفيان بن عيينة قال: حدثونا عن زيد بن أسلم عن أبيه قال: لما كنا بالشام أتيت عمر بن الخطاب بماء فتوضأ منه فقال: من أين جئت بهذا الماء؟ ما رأيت ماء عذبا ولا ماء سماء أطيب منه. قال قلت: جئت به من بيت هذه العجوز النصرانية، فلما توضأ أتاها فقال: أيتها العجوز أسلمى تسلمي، بعث الله محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالحق. قال: فكشفت عن رأسها، فإذا
مثل
الثغامة «1»، فقالت: عجوز كبيرة، وإنما أموت الآن! فقال عمر رضى الله عنه: اللهم
اشهد. خرجه الدارقطني، حدثنا الحسين بن إسماعيل قال حدثنا أحمد بن إبراهيم
البوشنجي قال حدثنا سفيان .. فذكره. ورواه أيضا عن الحسين بن إسماعيل قال حدثنا
خلاد بن أسلم حدثنا سفيان عن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه
توضأ من بيت نصرانية أتاها فقال: أيتها العجوز أسلمي ...، وذكر الحديث بمثل ما
تقدم. السادسة- فأما الكلب إذا ولغ في الماء فقال مالك: يغسل الإناء سبعا ولا
يتوضأ منه وهو طاهر. وقال الثوري: يتوضأ بذلك الماء ويتمم معه. وهو قول عبد الملك
ابن عبد العزيز ومحمد بن مسلمة. وقال أبو حنيفة: الكلب نجس ويغسل الإناء منه لأنه
نجس. وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق. وقد كان مالك يفرق بين ما يجوز اتخاذه من
الكلاب وبين ما لا يجوز اتخاذه منها في غسل الإناء من ولوغه. وتحصيل مذهبه أنه
طاهر عنده لا ينجس ولوغه شيئا ولغ فيه طعاما ولا غيره، إلا أنه استحب هراقة ما ولغ
فيه من الماء ليساره مؤنته. وكلب البادية والحاضرة سواء. ويغسل الإناء منه على كل
حال سبعا تعبدا. هذا ما استقر عليه مذهبه عند المناظرين من أصحابه. ذكر ابن وهب
وقال: حدثنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن عطاء عن أبى هريرة قال: سئل
رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الحياض التي تكون فيما بين مكة
والمدينة، فقيل له: إن الكلاب والسباع ترد عليها. فقال:" لا ما أخذت في
بطونها ولنا ما بقي شراب وطهور" أخرجه الدارقطني. وهذا نص في طهارة الكلاب
وطهارة ما تلغ فيه. وفي البخاري عن ابن عمر أن الكلاب كانت تقبل وتدبر في مسجد
رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا يرشون شيئا من ذلك. وقال عمر
بحضرة الصحابة لصاحب الحوض الذي سأله عمرو بن العاص: هل ترد حوضك السباع. فقال
عمر: يا صاحب الحوض، لا تخبرنا فإنا نرد على السباع وترد علينا. أخرجه مالك
والدارقطني. ولم يفرق بين السباع، والكلب من جملتها، ولا حجة
للمخالف
__________
(1). الثغامة: نبات أبيض الثمر والزهر يشبه بياض الشيب به.
في الامر بإراقة ما ولغ فيه وأن ذلك للنجاسة، وإنما أمر بإراقته لان النفس تعافه لا لنجاسته، لان التنزه من الأقذار مندوب إليه، أو تغليظا عليهم لأنهم نهوا عن اقتنائها كما قال ابن عمر والحسن، فلما لم ينتهوا ذلك غلظ عليهم في الماء لقلته عندهم في البادية، حتى يشتد عليهم فيمتنعوا من اقتنائها. وأما الامر بغسل الإناء فعبادة لا لنجاسته كما ذكرناه بدليلين: أحدهما- أن الغسل قد دخله العدد. الثاني- أنه قد جعل للتراب فيه مدخل لقوله عليه السلام:" وعفروه الثامنة بالتراب". ولو كان للنجاسة لما كان للعدد ولا للتراب فيه مدخل كالبول. وقد جعل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الهر وما ولغ فيه طاهرا، والهر سبع لا خلاف في ذلك، لأنه يفترس ويأكل الميتة، فكذلك الكلب وما كان مثله من السباع، لأنه إذا جاء نص ذلك في أحدهما كان نصا في الآخر. وهذا من أقوى أنواع القياس. هذا لو لم يكن هناك دليل، وقد ذكرنا النص على طهارته فسقط قول المخالف. والحمد لله. السابعة- ما مات في الماء مما لا دم له فلا يضر الماء إن لم يغير ريحه، فإن أنتن لم يتوضأ به. وكذلك ما كان له دم سائل من دواب الماء كالحوت والضفدع لم يفسد ذلك الماء موته فيه، إلا أن تتغير رائحته، فإن تغيرت رائحته وأنتن لم يجز التطهر به ولا الوضوء منه، وليس بنجس عند مالك. وأما ما له نفس سائلة فمات في الماء ونزح مكانه ولم يغير لونه ولا طعمه ولا ريحه فهو طاهر مطهر سواء كان الماء قليلا أو كثيرا عند المدنيين. واستحب بعضهم أن ينزح من ذلك الماء دلاء لتطيب النفس به، ولا يحدون في ذلك حدا لا يتعدى. ويكرهون استعمال ذلك الماء قبل نزح الدلاء، فإن استعمله أحد في غسل أو وضوء جاز إذا كانت حاله ما وصفنا. وقد كان بعض أصحاب مالك يرى لمن توضأ بهذا الماء وإن لم يتغير أن يتيمم، فيجمع بين الطهارتين احتياطا، فإن لم يفعل وصلي بذلك الماء أجزأه. وروى الدارقطني عن محمد بن سيرين أن زنجيا وقع في زمزم- يعنى فمات- فأمر به ابن عباس رضى الله عنه فأخرج فأمر بها أن تنزح. قال: فغلبتهم عين جاءتهم من
الركن
فأمر بها فدسمت بالقباطى «1» والمطارف حتى نزحوها، فلما نزحوها انفجرت عليهم.
وأخرجه عن أبى الطفيل أن غلاما وقع في بئر زمزم فنزحت. وهذا يحتمل أن يكون الماء
تغير، والله أعلم. وروى. شعبه عن مغيرة عن إبراهيم أنه كان يقول: كل نفس سائلة لا
يتوضأ منها، ولكن رخص في الخنفساء والعقرب والجراد والجدجد «2» إذا وقعن في الركاء
«3» فلا بأس به. قال شعبة: وأظنه قد ذكر الوزغة. أخرجه الدارقطني، حدثنا الحسين بن
إسماعيل قال حدثنا محمد بن الوليد قال حدثنا محمد بن جعفر قال حدثنا شعبة ...،
فذكره. الثامنة- ذهب الجمهور من الصحابة وفقهاء الأمصار وسائر التابعين بالحجاز والعراق
أن ما ولغ فيه الهر من الماء طاهر، وأنه لا بأس بالوضوء بسؤره، لحديث أبي قتادة،
أخرجه مالك وغيره. وقد روي عن أبي هريرة فيه خلاف. وروي عن عطاء بن أبي رباح وسعيد
ابن المسيب ومحمد بن سيرين أنهم أمروا بإراقة ماء ولغ فيه الهر وغسل الإناء منه.
واختلف في ذلك عن الحسن. ويحتمل أن كون الحسن رأى في فمه نجاسة ليصح مخرج
الروايتين عنه. قال الترمذي لما ذكر حديث مالك:" وفي الباب عن عائشة وأبي
هريرة، هذا حديث حسن صحيح، وهو قول أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والتابعين ومن بعدهم، مثل الشافعي وأحمد وإسحاق، لم يروا بسؤر
الهرة بأسا. وهذا أحسن شي في الباب، وقد جود مالك هذا الحديث عن إسحاق بن عبد الله
بن أبي طلحة، ولم يأت به أحد أتم من مالك" قال الحافظ أبو عمر: الحجة عند
التنازع والاختلاف سنة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد صح من
حديث أبي قتادة أنه أصغى لها الإناء حتى شربت. الحديث. وعليه اعتماد الفقهاء في كل
مصر إلا أبا حنيفة ومن قال بقوله، فإنه كان يكره سؤره. وقال: إن توضأ به أحد
أجزأه، ولا أعلم حجة لمن كره الوضوء بسؤر الهرة أحسن من أنه لم يبلغه حديث أبي
قتادة، وبلغه حديث أبي هريرة في الكلب فقاس الهر عليه، وقد فرقت
السنة بينهما في باب
__________
(1). دسم الشيء يدسمه دسما: سده. والقباطي (بالضم): ثياب من كتان رقيق يعمل بمصر،
نسبة إلى القبط على غير قياس. والمطارف: جمع مطرف، وهو رداء من خز مربع ذو أعلام.
(2). الجدجد كهدهد طوير شبه الجرادة.
(3). الركاء (جمع ركوة): إباء صغير من جلد يشرب فيه الماء.
التعبد في غسل الإناء، ومن حجته السنة خاصمته، وما خالفها مطرح. وبالله التوفيق. ومن حجتهم أيضا ما رواه قرة بن خالد عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:" طهور الإناء إذا ولغ فيه الهر أن يغسل مرة أو مرتين" شك قرة. وهذا الحديث لم يرفعه إلا قرة بن خالد، وقره ثقة ثبت. قلت: هذا الحديث أخرجه الدارقطني، ومتنه:" طهور الإناء إذا ولغ فيه الكلب أن يغسل سبع مرات الاولى بالتراب والهر مرة أو مرتين". قرة شك. قال أبو بكر: كذا رواه أبو عاصم مرفوعا، ورواه غيره عن قرة (ولوغ الكلب) مرفعا و(ولوغ الهر) موقوفا. وروى أبو صالح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" يغسل الإناء من الهر كما يغسل من الكلب" قال الدارقطني: لا يثبت هذا مرفوعا والمحفوظ من قول أبي هريرة واختلف عنه. وذكر معمر وابن جريج عن ابن طاوس عن أبيه أنه كان يجعل الهر مثل الكلب. وعن مجاهد أنه قال في الإناء يلغ فيه السنور قال: اغسله سبع مرات. قال الدارقطني. التاسعة- الماء المستعمل طاهر إذا كانت أعضاء المتوضئ به طاهرة، إلا أن مالكا وجماعة من الفقهاء الجلة كانوا يكرهون الوضوء به. وقال مالك: لا خير فيه، ولا أحب لاحد أن يتوضأ به، فإن فعل وصلي لم أر عليه إعادة الصلاة ويتوضأ لما يستقبل. وقال أبو حنيفة والشافعي وأصحابهما: لا يجوز استعماله في رفع الحدث، ومن توضأ به أعاد، لأنه ليس بماء مطلق، ويتمم واجده لأنه ليس بواجد ماء. وقال بقولهم في ذلك اصبغ بن الفرج، وهو قول الأوزاعي. واحتجوا بحديث الصنابحي خرجه مالك وحديث عمرو بن عنبسة أخرجه مسلم، وغير ذلك من الآثار. وقالوا: الماء إذا توضئ به خرجت الخطايا معه، فوجب التنزه عنه لأنه ماء الذنوب. قال أبو عمر: وهذا عندي لا وجه له، لان الذنوب لا تنجس الماء لأنها لا أشخاص لها ولا أجسام تمازج الماء فتفسد، وإنما معنى قوله" خرجت الخطايا مع الماء" إعلام منه بأن الوضوء للصلاة عمل يكفر الله به السيئات عن عباده
المؤمنين
رحمة منه بهم وتفضلا عليهم. وقال أبو ثور وداود مثل قول مالك، وأن الوضوء بالماء
المستعمل جائز، لأنه ماء طاهر لا ينضاف إليه شي وهو ماء مطلق. واحتجوا بإجماع
الامة على طهارته إذا لم يكن في أعضاء المتوضئ نجاسة. وإلى هذا ذهب أبو عبد الله
المروزي محمد بن نصر. وروى عن علي بن أبى طالب وابن عمر وأبى أمامة وعطاء بن أبى
والحسن البصري والنخعي ومكحول والزهري أنهم قالوا فيمن نسى مسح رأسه فوجد في لحيته
بللا: إنه يجزئه أن يمسح بذلك البلل رأسه، فهؤلاء كلهم أجازوا الوضوء بالماء
المستعمل. روى عبد السلام بن صالح حدثنا إسحاق بن سويد عن العلاء بن زياد عن رجل
من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مرضى أن رسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج عليهم ذات يوم وقد اغتسل وقد بقيت لمعة من جسده لم
يصبها الماء، فقلنا: يا رسول الله، هذه لمعة لم يصبها الماء، فكان له شعر وارد
«1»، فقال «2» بشعره هكذا على المكان فبله. أخرجه الدارقطني، وقال: عبد السلام بن
صالح هذا بصرى وليس بقوى وغيره من الثقات يرويه عن إسحاق عن العلاء مرسلا، وهو
الصواب. قلت: الراوي الثقة عن إسحاق بن سويد العدوى عن العلاء بن زياد العدوى أن
رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اغتسل ...، الحديث فيما ذكره هشيم. قال
ابن العربي:" مسألة الماء المستعمل إنما ت على أصل آخر، وهو أن لآلة إذا أدى
بها فرض هل يؤدى بها فرض آخر أم لا، فمنع ذلك المخالف قياسا على الرقبة إذا أدى
بها فرض عتق لم يصلح أن يتكرر في أداء فرض آخر، وهذا باطل من القول، فإن العتق إذا
أتى على الرق أتلفه فلا يبقى محل لأداء الفرض بعتق آخر. ونظيره من الماء ما تلف
على الأعضاء فإنه لا يصح أن يؤدى به فرض آخر لتلف عينه حسا كما تلف الرق في الرقبة
بالعتق حكما، وهذا نفيس فتأملوه".
__________
(1). أي مسترسل طويل.
(2). العرب تجعل القول عبارة عن جميع الافعال، وتطلقه على غير الكلام واللسان،
فتقول: قال بيده، أي أخذ. وقال برجله، أي مشى. وقال بالماء على يده، أي قلب. وقال
بثوب، أي رفعه. وكل ذلك على المجاز والاتساع.
العاشرة-
لم يفرق مالك وأصحابه بين الماء تقع فيه النجاسة وبين النجاسة يرد عليه الماء،
راكدا كان الماء أو غير راكد، لقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ:" الماء لا ينجسه شي إلا ما غلب عليه فغير طعمه أو لونه أو
ريحه". وفرقت الشافعية فقالوا: إذا وردت النجاسة: على الماء تنجس، واختاره
ابن العربي. وقال: من أصول الشريعة في أحكام المياه أن ورود النجاسة على الماء ليس
كورود الماء على النجاسة، لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:"
إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا فإن أحدكم لا
يدرى أين باتت يده". فمنع من ورود اليد على الماء، وأمر بإيراد الماء عليها،
وهذا أصل بديع في الباب، ولولا وروده على النجاسة- قليلا كان أو كثيرا- لما طهرت.
وقد ثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال في بول الاعرابي في
المسجد:" صبوا عليه ذنوبا «1» من ماء". قال شيخنا أبو العباس: واستدلوا
أيضا بحديث القلتين، فقالوا: إذا كان الماء دون القلتين فحلته نجاسة تنجس وإن لم
تغيره، وإن ورد ذلك القدر فأقبل على النجاسة فأذهب عينها بقي الماء على طهارته
وأزال النجاسة وهذه مناقضة، إذ المخالطة قد حصلت في الصورتين، وتفريقهم بورود
الماء على النجاسة وورودها عليه فرق صوري ليس فيه من الفقه شي، فليس الباب باب
التعبدات بل من باب عقلية المعاني، فإنه من باب إزالة النجاسة وأحكامها. ثم هذا
كله منهم يرده قوله عليه الصلاة والسلام:" الماء طهور لا ينجسه شي إلا ما غير
لونه أو طعمه أو ريحه". قلت: هذا الحديث أخرجه الدارقطني عن رشدين بن سعد أبى
الحجاج عن معاوية بن صالح عن راشد بن سعد عن أبى أمامة البالهى وعن ثوبان عن النبي
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وليس فيه ذكر اللون. وقال: لم يرفعه غير رشدين
بن سعد عن معاوية بن صالح وليس بالقوى، وأحسن منه في الاستدلال ما رواه أبو أسامة
عن الوليد بن كثير عن محمد بن كعب عن عبيد الله بن عبد الله بن رافع بن خديج عن
أبى سعيد الخدري قال قيل: يا رسول الله،
__________
(1). الذنوب (بالفتح): الدلو.
أنتوضأ
من بئر بضاعة؟ وهي بئر تلقى فيها الحيض «1» ولحوم الكلاب والنتن، فقال رسول الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" إن الماء طهور لا ينجسه شي" أخرجه
أبو داود والترمذي والدارقطني كلهم بهذا الاسناد. وقال أبو عيسى: هذا حديث حسن،
وقد جود أبو أسامة. هذا الحديث ولم يرو أحد حديث أبى سعيد في بئر بضاعة أحسن مما
روى أبو أسامة. فهذا الحديث نص في ورود النجاسة على الماء، وقد حكم صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بطهارته وطهوره. قال أبو داود: سمعت قتيبة بن سعيد قال: سألت
قيم بئر بضاعة عن عمقها، قلت: أكثر ما يكون الماء فيها؟ قال: إلى العانة. قلت:
فإذا نقص؟ قال: دون العورة. قال أبو داود: وقدرت بئر بضاعة بردائي مددته عليها ثم
ذرعته فإذا عرضها ستة أذرع، وسألت الذي فتح لي باب البستان فأدخلني إليه: هل غير
بناؤها عما كانت عليه؟ فقال لا. ورأيت فيها ماء متغير اللون. فكان هذا دليلا لنا
على ما ذكرناه، غير أن ابن العربي قال: إنها في وسط السبخة، فماؤها يكون متغيرا من
قرارها، والله أعلم. الحادية عشرة- الماء الطاهر المطهر الذي يجوز به الوضوء وغسل
النجاسات هو الماء القراح الصافي من ماء السماء والأنهار والبحار والعيون والآبار،
وما عرفه الناس ماء مطلقا غير مضاف إلى شي خالطه كما خلقه الله عز وجل صافيا ولا
يضره لون أرضه على ما بيناه. وخالف في هذه الجملة. أبو حنيفة وعبد الله بن عمرو
وعبد الله بن عمر فأما أبو حنيفة فأجاز الوضوء بالنبيذ في السفر، وجوز إزالة
النجاسة بكل مائع طاهر. فأما بالدهن والمرق فعنه رواية أنه لا يجوز إزالتها به.
إلا أن أصحابه يقولون: إذا زالت النجاسة به جاز. وكذلك عند النار والشمس، حتى أن
جلد الميتة إذا جف في الشمس طهر من غير دباغ. وكذلك النجاسة على الأرض إذا جفت
بالشمس فإنه يطهر ذلك الموضع، بحيث تجوز الصلاة عليه، ولكن لا يجوز التيمم بذلك
التراب. قال ابن العربي: لما وصف الله سبحانه الماء بأنه طهور وامتن بإنزاله من
السماء ليطهرنا به دل على اختصاصه بذلك، وكذلك قال عليه الصلاة
__________
(1). الحيض: الخرق التي يمسح بها دماء الحيض، ويقال لها المحايض.
والسلام
لأسماء بنت الصديق حين سألته عن دم الحيض يصيب الثوب:" حتيه ثم اقرصيه ثم
اغسليه بالماء". فلذلك لم يلحق غير الماء بالماء لما في ذلك من إبطال
الامتنان، وليست النجاسة معنى محسوسا حتى يقال كل ما أزالها فقد قام به الغرض،
وإنما النجاسة حكم شرعي عين له صاحب الشرع الماء فلا يلحق به غيره، إذ ليس في
معناه، ولأنه لو لحق به لا سقطه، والفرع إذا عاد إلحاقه بالأصل في إسقاطه سقط في
نفسه. وقد كان تاج السنة ذو العز ابن المرتضى الدبوسي يسميه فرخ زنى. قلت: وأما ما
استدل به على استعمال النبيذ فأحاديث واهية، ضعاف لا يقوم شي منها على ساق، ذكرها
الدارقطني وضعفها ونص عليها. وكذلك ضعف ما روى عن ابن عباس موقوفا" النبيذ
وضوء لمن لم يجد الماء". في طريقه ابن محرز متروك الحديث. وكذلك ما روى عن
على أنه قال: لا بأس بالوضوء بالنبيذ. الحجاج وأبو ليلى ضعيفان. وضعف حديث ابن
مسعود وقال: تفرد به ابن لهيعة وهو ضعيف الحديث. وذكر عن علقمة بن قيس قال: قلت
لعبد الله بن مسعود: أشهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحد منكم
ليلة أتاه داعي الجن؟ فقال لا. قلت: هذا إسناد صحيح لا يختلف في عدالة رواته.
وأخرج الترمذي حديث ابن مسعود قال: سألني النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ:" ما في إداوتك «1»" فقلت: نبيذ. فقال:" تمرة طيبة وماء
طهور" قال: فتوضأ منه. قال أبو عيسى وإنما روى هذا الحديث عن أبى زيد عن عبد
الله عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأبو زيد رجل مجهول عند أهل
الحديث لا نعرف له رواية. غير هذا الحديث، وقد رأى بعض أهل العلم الوضوء بالنبيذ،
منهم سفيان وغيره، وقال بعض أهل العلم: لا يتوضأ بالنبيذ، وهو قول الشافعي وأحمد
وإسحاق، وقال إسحاق: إن ابتلى رجل بهذا فتوضأ بالنبيذ وتيمم أحب إلى. قال أبو
عيسى: وقول من يقول لا يتوضأ بالنبيذ أقرب إلى الكتاب والسنة وأشبه، لان الله
تعالى قال:" فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً"
__________
(1). الإداوة (بالكسر): إناء صغير من جلد يتخذ للماء. [.....]
وهذه
المسألة مطولة في كتب الخلاف، وعمدتهم التمسك بلفظ الماء حسبما تقدم في"
المائدة" «1» بيانه والله أعلم. الثانية عشرة- لما قال الله تعالى:"
وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً" وقال:" لِيُطَهِّرَكُمْ
بِهِ" توقف جماعة في ماء البحر، لأنه ليس بمنزل من السماء، حتى رووا عن عبد
الله بن عمر وابن عمرو معا أنه لا يتوضأ به، لأنه نار ولأنه طبق جهنم. ولكن النبي
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين حكمه حين قال لمن سأله:" هو الطهور
ماؤه الحل ميتته" أخرجه مالك. وقال فيه أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. وهو قول
أكثر الفقهاء من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، منهم أبو بكر
وعمر وابن عباس، لم يروا بأسا بماء البحر، وقد كره بعض أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الوضوء بماء البحر، منهم ابن عمر وعبد الله بن عمرو، وقال عبد
الله بن عمرو: هو نار. قال أبو عمر، وقد سئل أبو عيسى الترمذي عن حديث مالك هذا عن
صفوان بن سليم فقال: هو عندي حديث صحيح. قال أبو عيسى فقلت للبخاري: هشيم يقول فيه
ابن أبى برزة. فقال: وهم فيه، إنما هو المغيرة بن أبى بردة. قال أبو عمر: لا أدرى
ما هذا من البخاري رحمه الله، ولو كان صحيحا لأخرجه في مصنفه الصحيح عنده، ولم
يفعل لأنه لا يعول في الصحيح إلا على الاسناد. وهذا الحديث لا يحتج أهل الحديث
بمثل إسناده، وهو عندي صحيح لان العلماء تلقوه بالقبول له والعمل به، ولا يخالف في
جملته أحد من الفقهاء، وإنما الخلاف بينهم في بعض معانيه. وقد أجمع جمهور من العلماء
وجماعة أئمة الفتوى بالأمصار من الفقهاء: أن البحر طهور ماؤه، وأن الوضوء به جائز،
إلا ما روى عن عبد الله بن عمر بن الخطاب وعبد الله بن عمرو بن العاصي أنهما كرها
الوضوء بماء البحر، ولم يتابعهما أحد من فقهاء الأمصار على ذلك ولا عرج عليه، ولا
التفت إليه لحديث هذا الباب. وهذا يدلك على اشتهار الحديث عندهم، وعملهم به
وقبولهم له، وهو أولى عندهم من الاسناد الظاهر الصحة لمعنى ترده الأصول. وبالله
التوفيق.
__________
(1). راجع ج 6 ص 105 وما بعدها طبعه أولى أو ثانية.
قال أبو عمر: وصفوان بن سليم مولى حميد بن عبد الرحمن بن عوف الزهري، من عباد أهل المدينة وأتقاهم لله، ناسكا، كثير الصدقة بما وجد من قليل وكثير، كثير العمل، خائفا لله، يكنى أبا عبد الله، سكن المدينة لم ينتقل عنها، ومات بها سنة اثنتين وثلاثين ومائة. ذكر عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: سمعت أبى يسأل عن صفوان بن سليم فقال: ثقة من خيار عباد الله وفضلاء المسلمين. وأما سعيد بن سلمة. فلم يرو عنه فيما علمت إلا صفوان- والله أعلم- ومن كانت هذه حاله فهو مجهول لا تقوم به حجة عند جميعهم. وأما المغيرة بن أبى بردة فقيل عنه إنه غير معروف في حملة العلم كسعيد بن سلمة. وقيل: ليس بمجهول. قال أبو عمر: المغيرة بن أبى بردة وجدت ذكره في مغازي موسى بن نصير بالمغرب، وكان موسى يستعمله على الخيل، وفتح الله له في بلاد البربر فتوحات في البر والبحر. وروى الدارقطني من غير طريق مالك عن أبى هريرة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:" من لم يطهره ماء البحر فلا طهره الله". قال إسناد حسن. الثالثة عشرة- قال ابن العربي: توهم قوم أن الماء إذا فضلت للجنب منه فضله لا يتوضأ به، وهو مذهب باطل، فقد ثبت عن ميمونة أنها قالت: أجنبت أنا ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واغتسلت من جفنة وفضلت فضلة، فجاء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليغتسل منه فقلت: إنى قد اغتسلت منه. فقال:" إن الماء ليس عليه نجاسة- أوإن الماء لا يجنب". قال أبو عمر: وردت آثار في هذا الباب مرفوعة في النهى عن أن يتوضأ الرجل بفضل المرأة. وزاد بعضهم في بعضها: ولكن ليغترفا جميعا. فقالت طائفة: لا يجوز أن يغترف الرجل مع المرأة في إناء واحد، لان كل واحد منهما متوضئ بفضل صاحبه. وقال آخرون: إنما كره من ذلك أن تنفرد المرأة بالاناء ثم يتوضأ الرجل بعدها بفضلها. وكل واحد منهم روى بما ذهب إليه أثرا. والذي ذهب إليه الجمهور من العلماء وجماعة فقهاء الأمصار أنه لا بأس أن يتوضأ الرجل بفضل المرأة وتتوضأ المرأة من فضله، انفردت المرأة بالاناء أو لم تنفرد. وفي مثل هذا آثار كثيرة صحاح. والذي نذهب إليه أن
الماء
لا ينجسه شي إلا ما ظهر فيه من النجاسات أو غلب عليه منها، فلا وجه للاشتغال بما
لا يصح من الآثار والأقوال. والله المستعان. روى الترمذي عن ابن عباس قال: حدثتني
ميمونة قالت: كنت اغتسل أنا ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من إناء
واحد من الجنابة. قال هذا حديث حسن صحيح. وروى البخاري عن عائشة قالت: كنت اغتسل
أنا والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من إناء واحد يقال له الفرق «1».
وفي صحيح مسلم عن ابن عباس أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان
يغتسل بفضل ميمونة. وروى الترمذي عن ابن عباس قال: اغتسل بعض أزواج النبي صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، في جفنة فأراد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أن يتوضأ منه فقالت: يا رسول الله، إنى كنت جنبا. قال:" إن الماء
لا يجنب". قال: هذا حديث حسن صحيح، وهو قول سفيان الثوري ومالك والشافعي.
وروى الدارقطني عن عمرة عن عائشة رضي الله عنها قالت: كنت أتوضأ أنا والنبي صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من إناء واحد وقد أصابت الهرة منه قبل ذلك. قال: هذا
حديث حسن صحيح. وروى أيضا عن رجل من بنى غفار قال: نهى رسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن فضل طهور المرأة. وفي الباب عن عبد الله بن سرجس، وكره بعض
الفقهاء فضل طهور المرأة، وهو قول أحمد وإسحاق. الرابعة عشرة- روى الدارقطني عن
زيد بن أسلم مولى عمر بن الخطاب أن عمر بن الخطاب كان يسخن له الماء في قمقمة «2»
ويغتسل به. قال: وهذا إسناد صحيح. وروى عن عائشة قالت: دخل على رسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد سخنت ماء في الشمس. فقال:" لا تفعلي يا
حميراء فإنه يورث البرص". رواه خالد بن إسماعيل المخزومي عن هشام بن عروة عن
أبيه عن عائشة، وهو متروك. ورواه عمرو بن محمد الأعشم عن فليح عن الزهري عن عروة
عن عائشة. وهو منكر الحديث، ولم يروه غيره عن فليح، ولا يصح عن الزهري، قاله
الدارقطني
.__________
(1). الفرق (بالتحريك): مكيال يسع ستة عشر رطلا. وبالسكون مائة وعشرون رطلا.
(2). القمقمة والقمقم (كهدهد): ما يسخن فيه الماء من نحاس وغيره.
لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49)
الخامسة
عشرة- كل إناء طاهر فجائز الوضوء منه إلا إناء الذهب والفضة، لنهى رسول الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن اتخاذهما. وذلك- والله أعلم- للتشبه
بالاعاجم والجبابرة لا لنجاسة فيهما. ومن توضأ فيهما أجزأه وضوءه وكان عاصيا
باستعمالهما. وقد قيل: لا يجزئ الوضوء في أحدهما. والأول أكثر، قاله أبو عمر. وكل
جلد ذكى فجائز استعماله للوضوء وغير ذلك. وكان مالك يكره الوضوء في إناء جلد
الميتة بعد الدباغ، على اختلاف من قوله. وقد تقدم في" النحل" «1».
[سورة الفرقان (25): آية 49]
لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً
وَأَناسِيَّ كَثِيراً (49)
قوله تعالى: (لِنُحْيِيَ بِهِ) أي بالمطر. (بَلْدَةً مَيْتاً) بالجدوبة والمحل
وعدم النبات. قال كعب: المطر روح الأرض يحييها الله به. وقال:" مَيْتاً"
ولم يقل ميتة لان معنى البلدة والبلد واحد، قاله الزجاج. وقيل: أراد بالبلد
المكان. (وَنُسْقِيَهُ) قراءة العامة بضم النون. وقرا عمر بن الخطاب وعاصم والأعمش
فيما روى المفضل عنهما" نسقيه" (بفتح) «2» النون. (مِمَّا خَلَقْنا
أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً) أي بشرا كثيرا وأناسي واحده إنسى نحو جمع القرقور
«3» قراقير وقراقر في قول الأخفش والمبرد واحد قولي الفراء، وله قول آخر وهو أن
يكون واحده إنسانا ثم تبدل من النون ياء، فتقول: أناسي، والأصل أناسين، مثل سرحان
وسراحين، وبستان وبساتين، فجعلوا الياء عوضا من النون، وعلى هذا يجوز سراحي
وبساتى، لا فرق بينهما. قال الفراء: ويجوز" أناسي" بتخفيف الياء التي
فيما بين لام الفعل وعينه، مثل قراقير وقراقر. وقال" كَثِيراً" ولم يقل
كثيرين، لان فعيلا قد يراد به الكثرة، نحو" وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً
«4»".
__________
(1). راجع ج 10 ص 156 طبعه أولى أو ثانية.
(2). في الأصول:" بضم النون". وهو تحريف والتصويب عن أبى حيان وغيره.
(3). القرقر: ضرب من السفن. وقيل: هي السفينة العظيمة أو الطويلة.
(4). راجع ج 5 ص 271 فما بعد
وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (50)
[سورة
الفرقان (25): آية 50]
وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ
كُفُوراً (50)
قوله تعالى: (وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ) يعنى القرآن، وقد جرى ذكره في أول
السورة: قوله تعالى:" تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ".
وقوله:" لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي"
وقوله:" اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً". (لِيَذَّكَّرُوا
فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً) أي جحودا له وتكذيبا به. وقيل:"
وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ" هو المطر. روى عن ابن عباس وابن مسعود:
وأنه ليس عام بأكثر مطرا من عام ولكن الله يصرفه حيث يشاء، فما زيد لبعض نقص من
غيرهم. فهذا معنى التصريف. وقيل:" صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ" وابلا وطشا
وطلا ورهاما- الجوهري: الرهام الأمطار اللينة- ورذاذا. وقيل: تصريفه تنويع
الانتفاع به في الشرب والسقي والزراعات به والطهارات وسقى البساتين والغسل
وشبهه." لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً" قال
عكرمة: هو قولهم في الأنواء: مطرنا بنوء كذا. قال النحاس: ولا نعلم بين أهل
التفسير اختلافا أن الكفر ها هنا قولهم مطرنا بنوء كذا وكذا، وأن نظيره فعل النجم
كذا، وأن كل من نسب إليه فعلا فهو كافر. وروى الربيع بن صبيح قال: مطر الناس على
عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذات ليلة، فلما أصبح قال النبي
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" أصبح الناس فيها رجلين شاكر وكافر فأما
الشاكر فيحمد الله تعالى على سقياه وغياثه وأما الكافر فيقول مطرنا بنوء كذا
وكذا". وروى من حديث ابن مسعود عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أنه قال:" ما من سنة بأمطر من أخرى ولكن إذا عمل قوم بالمعاصي صرف الله ذلك
إلى غيرهم فإذا عصوا جميعا صرف الله ذلك إلى الفيافي والبحار". وقيل: التصريف
راجع إلى الريح، وقد مضى في" البقرة" «1» بيانه. وقرا حمزة
والكسائي" ليذكروا" مخففة الذال من الذكر. الباقون مثقلا من التذكر، أي
ليذكروا نعم الله ويعلموا أن من أنعم بها لا يجوز الاشراك به، فالتذكر قريب من
الذكر غير أن التذكر يطلق فيما بعد عن القلب فيحتاج إلى تكلف في التذكر.
__________
(1). راجع ج 2 ص 197 طبعه ثانية.
وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (51)
[سورة
الفرقان (25): الآيات 51 الى 52]
وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً (51) فَلا تُطِعِ
الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً (52)
قوله تعالى: (وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً) أي رسولا
ينذرهم كما قسمنا المطر ليخف عليك أعباء النبوة، ولكنا لم نفعل بل جعلناك نذيرا
للكل لترتفع درجتك فاشكر نعمة الله عليك. (فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ) أي فيما
يدعونك إليه من اتباع آلهتهم. (وَجاهِدْهُمْ بِهِ) قال ابن عباس بالقرآن. ابن زيد:
بالإسلام. وقيل: بالسيف، وهذا فيه بعد، لان السورة مكية نزلت قبل الامر بالقتال.
(جِهاداً كَبِيراً) لا يخالطه فتور.
[سورة الفرقان (25): آية 53]
وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ
وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً (53)
قوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ) عاد الكلام إلى ذكر النعم.
و" مَرَجَ" خلى وخلط وأرسل. قال مجاهد: أرسلهما وأفاض أحدهما في الآخر.
قال ابن عرفة:" مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ" أي خلطهما فهما يَلْتَقِيانِ،
يقال: مرجته إذا خلطته. ومرج الدين والامر اختلط واضطرب، ومنه قوله تعالى:"
فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ". ومنه قوله عليه الصلاة والسلام لعبد الله بن عمرو بن
العاصي «1»:" إذا رأيت الناس مرجت عهودهم وخفت أماناتهم وكانوا هكذا
وهكذا" وشبك بين أصابعه فقلت له: كيف أصنع عند ذلك، جعلني الله فداك!
قال:" الزم بيتك واملك عليك لسانك وخذ بما تعرف ودع ما تنكر وعليك بخاصة أمر
نفسك ودع عنك أمر العامة" خرجه النسائي وأبو داود وغيرهما. وقال
الأزهري:" مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ" خلى بينهما، يقال مرجت الدابة إذا
خليتها ترعى. وقال ثعلب: المرج الاجراء، فقوله:" مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ"
أي أجراهما. وقال الأخفش: يقول قوم أمرج البحرين مثل مرج فعل وأفعل بمعنى. (هذا
عَذْبٌ فُراتٌ) أي حلو شديد العذوبة.
__________
(1). الحديث في الفتنة.
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا (54)
(وَهذا
مِلْحٌ أُجاجٌ) أي فيه ملوحة ومرارة. وروى عن طلحة أنه قرئ" وهذا ملح"
بفتح الميم وكسر اللام. (وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً) أي حاجزا من قدرته لا
يغلب أحدهما على صاحبه، كما قال في سورة الرحمن" مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ
يَلْتَقِيانِ. بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ". (وَحِجْراً مَحْجُوراً)
أي سترا مستورا يمنع أحدهما من الاختلاط بالآخر. فالبرزخ الحاجز، والحجر المانع.
وقال الحسن: يعنى بحر فارس وبحر الروم. وقال ابن عباس وابن جبير: يعنى بحر السماء
وبحر الأرض. قال ابن عباس: يلتقيان في كل عام وبينهما برزخ قضاء من قضائه."
وَحِجْراً مَحْجُوراً" حراما محرما أن يعذب هذا الملح بالعذب، أو يملح هذا
العذب بالملح.
[سورة الفرقان (25): آية 54]
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ
رَبُّكَ قَدِيراً (54)
فيه مسألتان: الاولى- قوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً)
أي خلق من النطفة إنسانا. (فَجَعَلَهُ) أي جعل الإنسان" نَسَباً
وَصِهْراً". وقيل:" مِنَ الْماءِ" إشارة إلى أصل الخلقة في أن كل
حي مخلوق من الماء. وفي هذه الآية تعديد النعمة على الناس في إيجادهم بعد العدم،
والتنبيه على العبرة في ذلك. الثانية- قوله تعالى: (فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً)
النسب والصهر معنيان يعمان كل قربى تكون بين آدميين. قال ابن العربي: النسب عبارة
عن خلط الماء بين الذكر والأنثى على وجه الشرع، فإن كان بمعصية كان خلقا مطلقا ولم
يكن نسبا محققا، ولذلك لم يدخل تحت قوله:" حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ
أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ" بنته من الزنى، لأنها ليست ببنت له في أصح
القولين لعلمائنا وأصح القولين في الدين، وإذا لم يكن نسب شرعا فلا صهر شرعا، فلا
يحرم الزنى بنت أم ولا أم بنت، وما يحرم من الحلال لا يحرم من الحرام، لان الله
امتن بالنسب والصهر على عباده ورفع قدرهما، وعلق الأحكام في الحل والحرمة عليهما
فلا يلحق الباطل بهما ولا يساويهما
.
قلت: اختلف الفقهاء في نكاح الرجل ابنته من زنى أو أخته أو بنت ابنه من زنى، فحرم
ذلك قوم منهم ابن القاسم، وهو قول أبى حنيفة وأصحابه، وأجاز ذلك آخرون منهم عبد
الملك بن الماجشون، وهو قول الشافعي، وقد مضى هذا في" النساء" «1»
مجودا. قال الفراء: النسب الذي لا يحل نكاحه، وقاله الزجاج: وهو قول على بن أبى
طالب رضي الله عنه. واشتقاق الصهر من صهرت الشيء إذا خلطته، فكل واحد من الصهرين
قد خالط صاحبه، فسميت المناكح صهرا لاختلاط الناس بها. وقيل: الصهر قرابة النكاح،
فقرابة الزوجة هم الأختان، وقرابة الزوج هم الاحماء. والأصهار يقع عاما لذلك كله،
قاله الأصمعي. وقال ابن الاعرابي: الأختان أبو المرأة وأخوهما وعمها- كما قال
الأصمعي- والصهر زوج ابنة الرجل وأخوه وأبوه وعمه. وقال محمد بن الحسن في رواية
أبى سليمان الجوزجاني: أختان الرجل أزواج بناته وأخواته وعماته وخالاته، وكل ذات
محرم منه، وأصهاره كل ذى رحم محرم من زوجته. قال النحاس: الاولى في هذا أن يكون
القول في الأصهار ما قال الأصمعي، وأن يكون من قبلهما جميعا. يقال صهرت الشيء أي
خلطته، فكل واحد منهما قد خلط صاحبه. والاولى في الأختان ما قال محمد بن الحسن
لجهتين: إحداهما الحديث المرفوع، روى محمد ابن إسحاق عن يزيد بن عبد الله بن قسيط عن
محمد بن أسامة بن زيد عن أبيه قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ:" أما أنت يا على فختني وأبو ولدي وأنت منى وأنا منك". فهذا
على أن زوج البنت ختن. والجهة الأخرى أن اشتقاق الختن من ختنه إذا قطعه، وكان
الزوج قد انقطع عن أهله، وقطع زوجته عن أهلها. وقال الضحاك: الصهر قرابة الرضاع.
قال ابن عطية: وذلك عندي وهم أوجبه أن ابن عباس قال: حرم من النسب سبع، ومن الصهر
خمس. وفي رواية أخرى من الصهر سبع، يريد قوله عز وجل" حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ
أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ
الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ فهذا هو النسب. ثم يريد بالصهر قوله تعالى:"
وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ" إلى قوله:" وَأَنْ
تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ". ثم ذكر المحصنات. ومحمل هذا أن ابن عباس
أراد حرم من الصهر ما ذكر معه، فقد أشار
__________
(1). راجع ج 5 ص 114 وما بعدها طبعه أولى أو ثانية.
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (55)
بما
ذكر إلى عظمه وهو الصهر، لا أن الرضاع صهر، وإنما الرضاع عديل النسب يحرم منه ما
يحرم من النسب بحكم الحديث المأثور فيه. ومن روى وحرم من الصهر خمس أسقط من
الآيتين الجمع بين الأختين والمحصنات، وهن ذوات الأزواج. قلت: فابن عطية جعل
الرضاع مع ما تقدم نسبا، وهو قول الزجاج. قال أبو إسحاق: النسب الذي ليس بصهر من
قوله جل ثناؤه:" حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ" إلى قوله"
وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ" والصهر من له التزويج. قال ابن
عطية: وحكى الزهراوي قولا أن النسب من جهة البنين والصهر من جهة البنات. قلت: وذكر
هذا القول النحاس، وقال: لان المصاهرة من جهتين تكون. وقال ابن سيرين: نزلت هذه
الآية في النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلى رضى الله عنه، لأنه جمعه
معه نسب وصهر. قال ابن عطية: فاجتماعهما وكاده حرمة إلى يوم القيامة. (وَكانَ
رَبُّكَ قَدِيراً) على خلق ما يريده.
[سورة الفرقان (25): آية 55]
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكانَ
الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً (55)
قوله تعالى: (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا
يَضُرُّهُمْ) لما عدد النعم وبين كمال قدرته عجب من المشركين في إشراكهم به من لا
يقدر على نفع ولا ضر، أي إن الله هو الذي خلق ما ذكره، ثم هؤلاء لجهلهم يعبدون من
دونه أمواتا جمادات لا تنفع ولا تضر. (وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً)
روى عن ابن عباس" الْكافِرُ" هنا أبو جهل لعنه الله، وشرحه أنه يستظهر
بعبادة الأوثان على أوليائه. وقال عكرمة:" الْكافِرُ" إبليس، ظهر على
عداوة ربه. وقال مطرف:" الْكافِرُ" هنا الشيطان. وقال الحسن:"
ظَهِيراً" أي معينا للشيطان على المعاصي. وقيل: المعنى، وكان الكافر على ربه
هينا ذليلا لا قدر له ولا وزن عنده، من قول العرب: ظهرت به أي جعلته خلف ظهرك ولم
تلتفت إليه. ومنه قوله تعالى:" وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ
ظِهْرِيًّا" أي هينا.
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (56)
ومنه
قول الفرزدق: تميم بن قيس لا تكونن حاجتي بظهر فلا يعيا على جوابها هذا معنى قول
أبى عبيدة. وظهير بمعنى مظهور. أي كفر الكافرين هين على الله تعالى، والله مستهين
به لان كفره لا يضره. وقيل: وكان الكافر على ربه الذي يعبده وهو الصنم قويا غالبا
يعمل به ما يشاء، لان الجماد لا قدرة له على دفع ضر ونفع.
[سورة الفرقان (25): الآيات 56 الى 57]
وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (56) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ
مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (57)
قوله تعالى: (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً) يريد بالجنة مبشرا
ونذيرا من النار، وما أرسلناك وكيلا ولا مسيطرا. (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ
مِنْ أَجْرٍ) يريد على ما جئتكم به من القرآن والوحى. و" مِنْ" للتأكيد.
(إِلَّا مَنْ شاءَ) لكن من شاء، فهو استثناء منقطع، والمعنى: لكن من شاء (أَنْ
يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا) بإنفاقه من ماله في سبيل الله فلينفق. ويجوز أن
يكون متصلا ويقدر حذف المضاف، التقدير: إلا أجر" مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ
إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا" باتباع ديني حتى ينال كرامة الدنيا والآخرة.
[سورة الفرقان (25): آية 58]
وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفى بِهِ
بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً (58)
قوله تعالى: (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ) تقدم معنى التوكل
في" آل عمران" «1» وهذه السورة وأنه اعتماد القلب على الله تعالى في كل
الأمور، وأن الأسباب وسائط أمر بها من غير اعتماد عليها. (وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ)
أي نزه الله تعالى عما يصفه هؤلاء الكفار به من الشركاء. والتسبيح التنزيه. وقد
تقدم. وقيل:" وَسَبِّحْ" أي صل له، وتسمى الصلاة تسبيحا. (وَكَفى بِهِ
بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً) أي عليما فيجازيهم بها.
__________
(1). راجع ج 4 ص 189 طبعه أولى أو ثانية.
الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59)
[سورة
الفرقان (25): آية 59]
الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ
ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً (59)
قوله تعالى: (الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ
أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) تقدم في الأعراف «1». و"
الَّذِي"" في موضع خفض نعتا للحي. وقال:" بَيْنَهُما" ولم يقل
بينهن، لأنه أراد الصنفين والنوعين والشيئين، كقول القطامي: ألم يحزنك أن حبال قيس
وتغلب قد تباينتا انقطاء أراد وحبال تغلب فثنى، والحبال جمع، لأنه أراد الشيئين
والنوعين. (الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً) قال الزجاج: المعنى فاسأل عنه. وقد
حكى هذا جماعة من أهل اللغة أن الباء تكون بمعنى عن، كما قال تعالى:" سَأَلَ
سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ «2»" وقال الشاعر:
هلا سألت الخيل يا بنة مالك ... إن كنت جاهلة بما لم تعلمي»
وقال [علقمه بن عبدة] «4»:
فإن تسألوني بالنساء فإنني ... خبير «5» بأدواء النساء طبيب
أي عن النساء وعما لم تعلمي. وأنكره على بن سليمان وقال: أهل النظر ينكرون أن تكون
الباء بمعنى عن، لان في هذا إفسادا لمعاني قول العرب: لو لقيت فلانا للقيك به
الأسد، أي للقيك بلقائك إياه الأسد. المعنى فاسأل بسؤالك إياه خبيرا. وكذلك قال
ابن جبير: الخبير هو الله تعالى. ف" خَبِيراً" نصب على المفعول به
بالسؤال. قلت: قول الزجاج يخرج على وجه حسن، وهو أن يكون الخبير غير الله، أي
فاسأل عنه خبيرا، أي عالما به، أي بصفاته وأسمائه. وقيل: المعنى فاسأل له خبيرا،
فهو نصب
__________
(1). راجع ج 7 ص 218 فما بعد.
(2). راجع ج 18 ص 278.
(3). البيت من معلقة عنترة. [.....]
(4). في نسخ الأصل:" وقال امرؤ القيس" وهو تحريف. والبيت من قصيدة
لعلقمة مطلعها:
طحا بك قلب في الحسان طروب ... بعيد الشباب عصر حان مشيب
(5). يروى: بصير أى عليم
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا (60)
على
الحال من الهاء المضمرة. قال المهدوي: ولا يحسن حالا إذ لا يخلو أن تكون الحال من
السائل أو المسئول، ولا يصح كونها حالا من الفاعل، لان الخبير لا يحتاج أن يسأل
غيره. ولا يكون من المفعول، لان المسئول عنه وهو الرحمن خبير أبدا، والحال في أغلب
الامر يتغير وينتقل، إلا أن يحمل على أنها حال مؤكدة، مثل:" وَهُوَ الْحَقُّ
مُصَدِّقاً «1»" فيجوز. وأما" الرَّحْمنُ" ففي رفعه ثلاثة أوجه:
يكون بدلا من المضمر الذي في" اسْتَوى ". ويجوز أن يكون مرفوعا بمعنى هو
الرحمن. ويجوز أن يكون مرفوعا بالابتداء وخبره" فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً".
ويجوز الخفض بمعنى وتوكل على الحي الذي لا يموت الرحمن، يكون نعتا. ويجوز النصب
على المدح.
[سورة الفرقان (25): آية 60]
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ
لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً (60)
قوله تعالى: (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ) أي لله تعالى. (قالُوا
وَمَا الرَّحْمنُ) على جهة الإنكار والتعجب، أي ما نعرف الرحمن إلا رحمان اليمامة،
يعنون مسيلمة الكذاب. وزعم القاضي أبو بكر بن العربي أنهم إنما جهلوا الصفة لا
الموصوف، واستدل على ذلك بقوله:" وَمَا الرَّحْمنُ" ولم يقولوا ومن
الرحمن. قال ابن الحصار: وكأنه رحمه الله لم يقرأ الآية الأخرى" وَهُمْ
يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ «2»". (أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا) هذه قراءة
المدنيين والبصريين، أي لما تأمرنا أنت يا محمد. واختاره أبو عبيد وأبو حاتم. وقرا
الأعمش وحمزة والكسائي:" يأمرنا" بالياء. يعنون الرحمن، كذا تأوله أبو
عبيد، قال: ولو أقروا بأن الرحمن أمرهم ما كانوا كفارا. فقال النحاس: وليس يجب أن
يتأول عن الكوفيين في قراءتهم هذا التأويل البعيد، ولكن الاولى أن يكون التأويل
لهم" أنسجد لما يأمرنا" النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فتصح
القراءة على هذا، وإن كانت الاولى أبين وأقرب تناولا «3». (وَزادَهُمْ نُفُوراً)
أي زادهم قول القائل لهم اسجدوا للرحمن نفورا عن الدين. وكان سفيان الثوري يقول في
هذه الآية: إلهي زادني لك خضوعا ما زاد عداك نفورا.
__________
(1). راجع ج 2 ص 29
(2). راجع ج 9 ص 317
(3). في ك وز: متناولا
تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61)
[سورة
الفرقان (25): آية 61]
تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً
مُنِيراً (61)
قوله تعالى: (تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً) أي منازل، وقد تقدم
«1» ذكرها. (وَجَعَلَ فِيها سِراجاً) قال ابن عباس: يعني الشمس، نظيره،"
وَجَعَلَ الشَّمْسَ «2» سِراجاً". وقراءة العامة:" سِراجاً"
بالتوحيد. وقرا حمزة والكسائي:" سرجا" يريدون النجوم العظام الوقادة.
والقراءة الاولى عند أبى عبيد أولى، لأنه تأول أن السرج النجوم، وأن البروج
النجوم، فيجيء المعنى نجوما ونجوما. النحاس: ولكن التأويل لهم أن أبان بن تغلب
قال: السرج النجوم الدراري. الثعلبي: كالزهرة والمشترى وزحل والسماكين ونحوها.
(وَقَمَراً مُنِيراً) ينير الأرض إذا طلع. وروى عصمة عن الأعمش" وقمرا"
بضم القاف وإسكان الميم. وهذه قراءة شاذة، ولو لم يكن فيها إلا أن أحمد بن حنبل
وهو إمام المسلمين في وقته قال: لا تكتبوا ما يحكيه عصمة الذي يروى القراءات، وقد
أولع أبو حاتم السجستاني بذكر ما يرويه عصمة هذا.
[سورة الفرقان (25): آية 62]
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ
يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً (62)
فيه أربع مسائل: الاولى- قوله تعالى:" خِلْفَةً" قال أبو عبيدة: الخلفة
كل شي بعد شي. وكل واحد من الليل والنهار يخلف صاحبه. ويقال للمبطون: أصابته خلفة،
أي قيام وقعود يخلف هذا ذاك. ومنه خلفه النبات، وهو ورق يخرج بعد الورق الأول في
الصيف. ومن هذا المعنى قول زهير بن أبى سلمى:
بها العين والآرام يمشين خلفة ... وأطلاؤها ينهضن من كل مجثم «3»
__________
(1). راجع ج 10 ص 9.
(2). راجع ج 19 ص 305.
(3). العين (بالكسر) جمع أعين وعينا، وهى بقر الوحش، سمية بذلك لسعة أعينها.
والاطلاء: جمع طلا، وهو ولد البقرة وولد الظبية الصغير. والمجثم: الموضع الذي يجثم
فيه، أي يقام فيه.
الريم
ولد الظبى جمعه آرام، يقول: إذا ذهب فوج جاء فوج. ومنه قول الآخر «1» يصف امرأة
تنتقل من منزل في الشتاء إلى منزل في الصيف دأبا:
ولها بالماطرون إذا ... أكل النمل الذي جمعا
خلفة حتى إذا ارتبعت ... سكنت من جلق بيعا
في بيوت وسط دسكرة ... حولها الزيتون قد ينعا
قال مجاهد:" خِلْفَةً" من الخلاف، هذا أبيض وهذا أسود، والأول أقوى.
وقيل: يتعاقبان في الضياء والظلام والزيادة والنقصان. وقيل: هو من باب حذف المضاف،
أي جعل الليل والنهار ذوى خلفة، أي اختلاف. (لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ) أي
يتذكر، فيعلم أن الله لم يجعله كذلك عبثا فيعتبر في مصنوعات الله، ويشكر الله تعالى
على نعمه عليه في العقل والفكر والفهم. وقال عمر بن الخطاب وابن عباس والحسن:
معناه من فاته شي من الخير بالليل أدركه بالنهار، ومن فاته بالنهار أدركه بالليل.
وفي الصحيح:" ما من امرئ تكون له صلاة بالليل فغلبه عليها نوم فيصلى ما بين
طلوع الشمس إلى صلاة الظهر إلا كتب الله له أجر صلاته وكان نومه عليه صدقة".
وروى مسلم عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: (من نام عن حزبه أو عن شي منه فقرأه فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر
كتب له كأنما قرأه من الليل". الثانية- قال ابن العربي: سمعت ذا الشهيد
الأكبر يقول: إن الله تعالى خلق العبد حيا عالما، وبذلك كماله، وسلط عليه آفة
النوم وضرورة الحدث ونقصان الخلقة، إذ الكمال للأول الخالق، فما أمكن الرجل من دفع
النوم بقلة الأكل والسهر في طاعة الله فليفعل. ومن الغبن العظيم أن يعيش الرجل
ستين سنة ينام ليلها فيذهب النصف من عمره لغوا، وينام سدس النهار راحة فيذهب ثلثاه
ويبقى له من العمر عشرون سنة، ومن الجهالة والسفاهة أن يتلف الرجل ثلثي عمره في
لذة فانية، ولا يتلف عمره بسهر في لذة باقية عند الغنى الوفي الذي ليس بعديم ولا
ظلوم.
__________
(1). هو يزيد بن معاوية. والماطرون: موضع بالشام قرب دمشق.
وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63)
الثالثة-
الأشياء لا تتفاضل بأنفسها، فإن الجواهر والاعراض من حيث الوجود متماثلة، وإنما
يقع التفاضل بالصفات. وقد اختلف أي الوقتين أفضل، الليل أو النهار. وفي الصوم غنية
في الدلالة، والله أعلم، قاله ابن العربي. قلت: والليل عظيم قدره، أمر نبيه عليه
الصلاة والسلام بقيامه فقال:" وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً
لَكَ"، وقال:" قُمِ اللَّيْلَ" على ما يأتي بيانه. ومدح المؤمنين
على قيامه فقال:" تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ". وقال عليه
الصلاة والسلام:" والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار وصلاة الرجل في
جوف الليل وفيه ساعة يستجاب فيها الدعاء وفيه ينزل الرب تبارك وتعالى" حسبما
يأتي بيانه إن شاء الله تعالى. الرابعة- قرأ حمزة وحده:" يذكر" بسكون
الذال وضم الكاف. وهي قراءة ابن وثاب وطلحة والنخعي. وفي مصحف أبى"
يتذكر" بزيادة تاء. وقرا الباقون:" يَذَّكَّرَ" بتشديد الكاف.
ويذكر ويذكر بمعنى واحد. وقيل: معنى" يذكر" بالتخفيف أي يذكر ما نسيه في
أحد الوقتين في الوقت الثاني، أو ليذكر تنزيه الله وتسبيحه فيها. (أَوْ أَرادَ
شُكُوراً) يقال: شكر يشكر شكرا وشكورا، مثل كفر يكفر كفرا وكفورا. وهذا الشكور على
أنهما جعلهما قواما لمعاشهم. وكأنهم لما قالوا:" وَمَا الرَّحْمنُ"
قالوا: هو الذي يقدر على هذه الأشياء.
[سورة الفرقان (25): آية 63]
وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا
خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً (63)
قوله تعالى: (وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً)
لما ذكر جهالات المشركين وطعنهم في القرآن والنبوة ذكر عباده المؤمنين أيضا وذكر
صفاتهم، وأضافهم إلى عبوديته تشريفا لهم، كما قال:" سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى
بِعَبْدِهِ" وقد تقدم «1». فمن أطاع الله وعبده وشغل سمعه وبصره ولسانه وقلبه
بما أمره فهو الذي يستحق
__________
(1). راجع ج 10 ص 205 طبعه أولى أو ثانية.
أسم
العبودية، ومن كان بعكس هذا شمله قوله تعالى:" أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ
هُمْ أَضَلُّ" يعنى في عدم الاعتبار، كما تقدم في" الأعراف" «1».
وكأنه قال: وعباد الرحمن هم الذين يمشون على الأرض، فحذف هم، كقولك: زيد الأمير،
أي زيد هو الأمير. ف" الَّذِينَ" خبر مبتدأ محذوف، قاله الأخفش. وقيل:
الخبر قوله في آخر السورة:" أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما
صَبَرُوا". وما بين المبتدإ والخبر أوصاف لهم وما تعلق بها، قاله الزجاج.
قال: ويجوز أن يكون الخبر" الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ".
و" يَمْشُونَ" عبارة عن عيشهم ومدة حياتهم وتصرفاتهم، فذكر من ذلك
العظم، لا سيما وفي ذلك الانتقال في الأرض، وهو معاشرة الناس وخلطتهم. قوله
تعالى:" هَوْناً" الهون مصدر الهين وهو من السكينة والوقار. وفي
التفسير: يمشون على الأرض حلماء متواضعين، يمشون في اقتصاد. والقصد والتؤدة وحسن السمت
من أخلاق النبوة. وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أيها الناس عليكم
بالسكينة فإن البر ليس في الإيضاع) «2» وروى في صفته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أنه كان إذا زال زال تقلعا، ويخطو تكفؤا، ويمشى هونا، ذريع المشية إذا
مشى كأنما ينحط من صبب. التقلع، رفع الرجل بقوة والتكفؤ: الميل إلى سنن المشي
وقصده. والهون الرفق والوقار. والذريع الواسع الخطا، أي أن مشيه كان يرفع فيه رجله
بسرعة ويمد خطوه، خلاف مشية المختال، ويقصد سمته، وكل ذلك برفق وتثبت دون عجلة.
كما قال: كأنما ينحط مكن صبب، قاله القاضي عياض. وكان عمر بن الخطاب رضى الله عنه
يسرع جبلة لا تكلفا. قال الزهري: سرعة المشي تذهب بهاء الوجه. قال ابن عطية: يريد
الإسراع الحثيث لأنه يخل بالوقار، والخير في التوسط. وقال زيد بن أسلم: كنت أسأل
عن تفسير قوله تعالى:" الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً"
فما وجدت من ذلك شفاء، فرأيت في المنام من جاءني فقال لي: هم الذين لا يريدون أن
يفسدوا في الأرض. قال القشيري، وقيل لا يمشون لإفساد ومعصية، بل في طاعة الله
والأمور المباحة من غير هوك. وقد قال الله تعالى:
__________
(1). راجع ج 7 ص 324 وما بعدها طبعه أولى أو ثانية.
(2). الإيضاع: سير مثل الخبب.
"
وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ
فَخُورٍ «1»". وقال ابن عباس: بالطاعة والمعروف والتواضع. الحسن: حلماء إن
جهل عليهم لم يجهلوا. وقيل: لا يتكبرون على الناس. قلت: وهذه كلها معان متقاربة،
ويجمعها العلم بالله والخوف منه، والمعرفة بأحكامه والخشية من عذابه وعقابه، جعلنا
الله منهم بفضله ومنه. وذهبت فرقة إلى أن" هَوْناً" مرتبط بقوله:"
يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ"، أن المشي هو هون. قال ابن عطية: ويشبه أن يتأول
هذا على أن تكون أخلاق ذلك الماشي هونا مناسبة لمشية، فيرجع القول إلى نحو ما
بيناه. وأما أن يكون المراد صفة المشي وحده فباطل، لأنه رب ماش هونا رويدا وهو ذئب
أطلس «2». وقد كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتكفأ في مشيه
كأنما ينحبط «3» في صبب. وهو عليه الصلاة والسلام الصدر في هذه الامة. وقوله عليه
الصلاة والسلام:" من مشى منكم في طمع فليمش رويدا" إنما أراد في عقد
نفسه، ولم يرد المشي وحده. ألا ترى أن المبطلين المتحلين بالدين تمسكوا بصورة
المشي فقط، حتى قال فيهم الشاعر ذما لهم:
كلهم يمشى رويد ... كلهم يطلب صيد «4»
قلت: وفي عكسه أنشد ابن العربي لنفسه:
تواضعت في العلياء والأصل كابر ... وحزت قصاب السبق بالهون في الامر
سكون فلا خبث السريرة أصله ... وجل سكون الناس من عظم الكبر
قوله تعالى: (وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً) قال النحاس:
ليس" سَلاماً" من التسليم إنما هو من التسلم، تقول العرب: سلاما، أي
تسلما منك، أي براءة منك. منصوب على أحد أمرين: يجوز أن يكون منصوبا ب"
قالُوا"، ويجوز أن يكون مصدرا، وهذا قول سيبويه. قال ابن عطية: والذي أقوله:
إن" قالُوا" هو العامل في" سَلاماً" لان المعنى قالوا هذا
اللفظ. وقال مجاهد: معنى" سَلاماً" سدادا. أي يقول للجاهل كلاما
__________
(1). راجع ج 14 ص 69 فما بعد.
(2). الأطلس من الذئاب: هو الذي تساقط شعره، وهو أخبث ما يكون. وقيل: هو الذي في
لونه غبرة إلى السواد. [.....]
(3). من هـ، وهو الرواية.
(4). هذا من كلام أبى جعفر المنصور الخليفة في مدح عمرو بن عبيد الزاهد المشهور.
وتمامه:
غير عمرو بن عبيد
.
يدفعه
به برفق ولين. ف" قالُوا" على هذا التأويل عامل في قوله:"
سَلاماً" على طريقة النحويين، وذلك أنه بمعنى قولا. وقالت فرقة: ينبغي
للمخاطب أن يقول للجاهل سلاما، بهذا اللفظ. أي سلمنا سلاما أو تسليما، ونحو هذا،
فيكون العامل فيه فعلا من لفظه على طريقة النحويين. مسألة: هذه الآية كانت قبل آية
السيف، نسخ منها ما يخص الكفرة وبقي أدبها في المسلمين إلى يوم القيامة. وذكر
سيبويه النسخ في هذه الآية في كتابه، وما تكلم فيه على نسخ سواه، رجح به أن المراد
السلامة لا التسليم، لان المؤمنين لم يؤمروا قط بالسلام على الكفرة. والآية مكية
فنسختها آية السيف. قال النحاس: ولا نعلم لسيبويه كلاما في معنى الناسخ والمنسوخ
إلا في هذه الآية. قال سيبويه: لم يؤمر المسلمون يومئذ أن يسلموا على المشركين
لكنه على معنى قوله: تسلما منكم، ولا خير ولا شر بيننا وبينكم. المبرد: كان ينبغي
أن يقال: لم يؤمر المسلمون يومئذ بحربهم ثم أمروا بحربهم. محمد بن يزيد: أخطأ
سيبويه في هذا وأساء العبارة. ابن العربي: لم يؤمر المسلمون يومئذ أن يسلموا على
المشركين ولا نهوا عن ذلك، بل أمروا بالصفح والهجر الجميل، وقد كان عليه الصلاة
والسلام يقف على أنديتهم ويحييهم ويدانيهم ولا يداهنهم. وقد اتفق الناس على أن
السفيه من المؤمنين إذا جفاك يجوز أن تقول له سلام عليك. قلت: هذا القول أشبه
بدلائل السنة. وقد بينا في سورة" مريم" «1» اختلاف العلماء في جواز
التسليم على الكفار، فلا حاجة إلى دعوى النسخ، والله أعلم. وقد ذكر النضر بن شميل
قال حدثني الخليل قال: أتيت أبا ربيعة الاعرابي وكان من أعلم من رأيت، فإذا هو على
سطح، فلما سلمنا رد علينا السلام وقال لنا: استووا. وبقينا متحيرين ولم ندر ما
قال. فقال لنا أعرابي إلى جنبه: أمركم أن ترتفعوا. قال الخليل: هو من قول الله عز
وجل:" ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ" فصعدنا إليه فقال:
هل لكم في خبز فطير، ولبن هجير، وماء نمير «2»؟ فقلنا الساعة فارقناه. فقال سلاما.
فلم ندر ما قال. قال فقال: الاعرابي: إنه
__________
(1). راجع ج 11 ص 111 وما بعدها طبعه أولى أو ثانية.
(2). الفطير: خلاف الخمير، وهو العجين الذي لم يختمر. والهجير: الفائق الفاضل.
والنمير: الناجع في الري.
وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64)
سألكم
متاركة لا خير فيها ولا شر. فقال الخليل: هو من قول الله عز وجل:" وَإِذا
خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً". قال ابن عطية: ورأيت في بعض
التواريخ أن إبراهيم بن المهدى- وكان من المائلين على على بن أبى طالب رضي الله
عنه- قال يوما بحضرة المأمون وعنده جماعة: كنت أرى على بن أبى طالب في النوم فكنت
أقول له من أنت؟ فكان يقول: على بن أبى طالب. فكنت أجئ معه إلى قنطرة فيذهب
فيتقدمني في عبورها. فكنت أقول: إنما تدعى هذا الامر بامرأة ونحن أحق به منك. فما
رأيت له في الجواب بلاغة كما يذكر عنه. قال المأمون: وبما ذا جاوبك؟ قال: فكان
يقول لي سلاما. قال الراوي: فكأن إبراهيم بن المهدى لا يحفظ الآية أو ذهبت عنه في
ذلك الوقت. فنبه المأمون على الآية من حضره وقال: هو والله يا عم على بن أبى طالب،
وقد جاوبك بأبلغ جواب، فخزي إبراهيم واستحيا. وكانت رؤيا لا محالة صحيحة.
[سورة الفرقان (25): آية 64]
وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً (64)
قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً) قال الزجاج:
بات الرجل يبيت إذا أدركه الليل، نام أو لم ينم. قال زهير «1»:
فبتنا قياما عند رأس جوادنا ... يزاولنا عن نفسه ونزاوله
وأنشدوا في صفة الأولياء: ا
منع جفونك أن تذوق مناما ... وأذر الدموع على الخدود سجاما
واعلم بأنك ميت ومحاسب ... يا من على سخط الجليل أقاما
لله قوم أخلصوا في حبه ... فرضي بهم واختصهم خداما
قوم إذا جن الظلام عليهم ... باتوا هنالك سجدا وقياما
خمص البطون من التعفف ضمرا ... لا يعرفون سوى الحلال طعاما
__________
(1). في نسخ الأصل:" قال امرؤ القيس". وهو تحريف. والبيت من قصيدة لزهير
مطلعها:
صحا القلب عن سلمى وأقصر باطله ... وعرى أفراس الصبا ورواحله
وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65)
وقال
ابن عباس: من صلى ركعتين أو أكثر بعد العشاء فقد بات لله ساجدا وقائما. وقال
الكلبي: من أقام ركعتين بعد المغرب وأربعا بعد العشاء فقد بات ساجدا وقائما.
[سورة الفرقان (25): الآيات 65 الى 66]
وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ
غَراماً (65) إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (66)
قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ)
أي هم مع طاعتهم مشفقون خائفون وجلون من عذاب الله. ابن عباس: يقولون ذلك في
سجودهم وقيامهم. (إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً) أي لازما دائما غير مفارق. ومنه
سمى الغريم لملازمته. ويقال: فلان مغرم بكذا أي لازم له مولع به. وهذا معناه في
كلام العرب فيما ذكر ابن الاعرابي وابن عرفة وغيرهما. وقال الأعشى:
إن يعاقب يكن غراما وإن ... يعط جزيلا فإنه لا يبالى
وقال الحسن: قد علموا أن كل غريم يفارق غريمه إلا غريم جهنم. وقال الزجاج: الغرام
أشد العذاب. وقال ابن زيد: الغرام الشر. وقال أبو عبيدة: الهلاك. والمعنى واحد.
وقال محمد بن كعب: طالبهم الله تعالى بثمن النعيم في الدنيا فلم يأتوا به، فأغرمهم
ثمنها بإدخالهم النار. (إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً) أي بئس المستقر
وبئس المقام. أي إنهم يقولون ذلك عن علم، وإذا قالوه عن علم كانوا أعرف بعظم قدر
ما يطلبون، فيكون ذلك أقرب إلى النجح.
[سورة الفرقان (25): آية 67]
وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ
ذلِكَ قَواماً (67)
قوله تعالى: (وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا) اختلف المفسرون في
تأويل هذه الآية. فقال النحاس: ومن أحسن ما قيل في معناه أن من أنفق في غير طاعة
الله فهو الإسراف، ومن أمسك عن طاعة الله عز وجل فهو الإقتار، ومن أنفق، في طاعة
الله تعالى فهو القوام.
وقال ابن عباس: من أنفق مائة ألف في حق فليس بسرف، ومن أنفق درهما في غير حقه فهو سرف، ومن منع من حق عليه فقد قتر. وقاله مجاهد وابن زيد وغيرهما. وقال عون بن عبد الله: الإسراف أن تنفق مال غيرك. قال ابن عطية: وهذا ونحوه غير مرتبط بالآية، والوجه أن يقال. إن النفقة في معصية أمر قد حظرت الشريعة قليله وكثيره وكذلك التعدي على مال الغير، وهؤلاء الموصوفون منزهون عن ذلك، وإنما التأديب في هذه الآية هو في نفقة الطاعات في المباحات، فأدب الشرع فيها ألا يفرط الإنسان حتى يضيع حقا آخر أو عيالا ونحو هذا، وألا يضيق أيضا ويقتر حتى يجيع العيال ويفرط في الشح، والحسن في ذلك هو القوام، أي العدل، والقوام في كل واحد بحسب عياله وحاله، وخفة ظهره وصبره وجلده على الكسب، أو ضد هذه الخصال، وخير الأمور أوساطها، ولهذا ترك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبا بكر الصديق يتصدق بجميع ماله، لان ذلك وسط بنسبة جلده وصبره في الدين، ومنع غيره من ذلك. ونعم ما قال إبراهيم النخعي: هو الذي لا يجيع ولا يعرى ولا ينفق نفقة يقول الناس قد أسرف. وقال يزيد بن أبى حبيب: هم الذين لا يلبسون الثياب لجمال، ولا يأكلون طعاما للذة. وقال يزيد أيضا في هذه الآية: أولئك أصحاب محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانوا لا يأكلون طعاما للتنعم واللذة، ولا يلبسون ثيابا للجمال، ولكن كانوا يريدون من الطعام ما يسد عنهم الجوع ويقويهم على عبادة ربهم، ومن اللباس ما يستر عوراتهم ويكنهم من الحر والبرد. وقال عبد الملك ابن مروان لعمر بن عبد العزيز حين زوجه ابنته فاطمة: ما نفقتك؟ فقال له عمر: الحسنة بين سيئتين، ثم تلا هذه الآية. وقال عمر بن الخطاب: كفى بالمرء سرفا ألا يشتهى شيئا إلا اشتراه فأكله. وفي سنن ابن ماجة عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" إن من السرف أن تأكل كل ما اشتهيت" وقال أبو عبيدة: لم يزيدوا على المعروف ولم يبخلوا كقوله تعالى:" وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ" وقال الشاعر: ولا تغل في شي من الامر واقتصد كلا طرفي قصد الأمور ذميم
وقال
آخر:
إذا المرء أعطى نفسه كل ما اشتهت ... ولم ينهها تاقت إلى كل باطل
وساقت إليه الإثم والعار بالذي ... دعته إليه من حلاوة عاجل
وقال عمر لابنه عاصم: يا بنى، كل في نصف بطنك، ولا تطرح ثوبا حتى تستخلقه، ولا تكن
من قوم يجعلون ما رزقهم الله في بطونهم وعلى ظهورهم. ولحاتم طى:
إذا أنت قد أعطيت بطنك سؤله ... وفرجك نالا منتهى الذم أجمعا
(وَلَمْ يَقْتُرُوا) قرأ حمزة والكسائي والأعمش وعاصم ويحيى بن وثاب على اختلاف
عنهما" يَقْتُرُوا" بفتح الياء وضم التاء، وهي قراءة حسنة، من قتر يقتر.
وهذا القياس في اللازم، مثل قعد يقعد. وقرا أبو عمرو بن العلاء وابن كثير بفتح
الياء وكسر التاء، وهى لغة معروفة حسنة. وقرا أهل المدينة وابن عامر وأبو بكر عن
عاصم بضم الياء وكسر- التاء. قال الثعلبي: كلها لغات صحيحة. النحاس: وتعجب أبو
حاتم من قراءة أهل المدينة هذه، لان أهل المدينة عنده لا يقع في قراءتهم الشاذ،
إنما يقال: أقتر يقتر إذا افتقر، كما قال عز وجل:" وَعَلَى الْمُقْتِرِ
قَدَرُهُ" وتأول أبو حاتم لهم أن المسرف يفتقر سريعا. وهذا تأويل بعيد، ولكن
التأويل لهم أن أبا عمر الجرمي حكى عن الأصمعي أنه يقال للإنسان إذا ضيق: قتر يقتر
ويقتر، وأقتر يقتر. فعلى هذا تصح القراءة، وإن كان فتح الياء أصح وأقرب تناولا،
وأشهر وأعرف. وقرا أبو عمرو والناس" قَواماً" بفتح القاف، يعنى عدلا.
وقرا حسان ابن عبد الرحمن:" قواما" بكسر القاف، أي مبلغا و
- سدادا وملاك حال. والقوام بكسر القاف، ما يدوم عليه الامر ويستقر. وهما لغتان
بمعنى. و" قَواماً" خبر كان، واسمها مقدر فيها، أي كان الإنفاق بين
الإسراف والقتر قواما، قاله الفراء. وله قول آخر يجعل" بَيْنَ" اسم كان
وينصبها، لان هذه الألفاظ كثير استعمالها فتركت على حالها في موضع الرفع. قال
النحاس: ما أدرى ما وجه هذا، لان" بينا" إذا كانت في موضع رفع رفعت، كما
يقال: بين عينيه أحمر.
وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69)
[سورة
الفرقان (25): الآيات 68 الى 69]
وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ
الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ
يَلْقَ أَثاماً (68) يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ
مُهاناً (69)
قوله تعالى: (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ) إخراج لعباده
المؤمنين من صفات الكفرة في عبادتهم الأوثان، وقتلهم النفس بواد البنات، وغير ذلك
من الظلم والاغتيال، والغارات، ومن الزنى الذي كان عندهم مباحا. وقال من صرف هذه
الآية عن ظاهرها من أهل المعاني: لا يليق بمن أضافهم الرحمن إليه إضافة الاختصاص،
وذكرهم ووصفهم من صفات المعرفة والتشريف وقوع هذه الأمور القبيحة منهم حتى يمدحوا
بنفيها عنهم لأنهم أعلى وأشرف، فقال: معناها لا يدعون الهوى إلها، ولا يذلون
أنفسهم بالمعاصي فيكون قتلا لها. ومعنى" إِلَّا بِالْحَقِّ" أي إلا
بسكين الصبر وسيف المجاهدة فلا ينظرون إلى نساء ليست لهم بمحرم بشهوة فيكون سفاحا،
بل بالضرورة فيكون كالنكاح. قال شيخنا أبو العباس: وهذا كلام رائق غير أنه عند
السبر مائق. وهى نبعة باطنية ونزعة باطلية وإنما صح تشريف عباد الله باختصاص
الإضافة بعد أن تحلوا بتلك الصفات الحميدة وتخلوا عن نقائض ذلك من الأوصاف
الذميمة، فبدأ في صدر هذه الآيات بصفات التحلي تشريفا لهم، ثم أعقبها بصفات التخلي
تبعيدا لها، والله أعلم. قلت: ومما يدل على بطلان ما ادعاه هذا القائل من أن تلك
الأمور ليست على ظاهرها ما روى مسلم من حديث عبد الله بن مسعود قال قلت: يا رسول
الله، أي الذنب أكبر عند الله؟ قال:" أن تدعو لله ندا وهو خلقك" قال: ثم
أي؟ قال:" أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك" قال: ثم أي؟ قال:" أن
تزانى حليلة جارك" فأنزل الله تعالى تصديقها:" وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ
مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ
إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً".
والآثام في كلام العرب العقاب، وبه قرأ ابن زيد وقتادة هذه الآية.
ومنه
قول الشاعر: جزى الله ابن عروة حيث أمسى عقوقا والعقوق له أثام أي جزاء وعقوبة.
وقال عبد الله بن عمرو وعكرمة ومجاهد: إن" أَثاماً" واد في جهنم جعله
الله عقابا للكفرة. قال الشاعر: لقيت المهالك في حربنا وبعد المهالك تلقى أثاما
وقال السدى: جبل فيها. قال: وكان مقامنا ندعو عليهم بأبطح ذى المجاز له أثام وفي
صحيح مسلم أيضا عن ابن عباس: أن ناسا من أهل الشرك قتلوا فأكثروا وزنوا فأكثروا،
فأتوا محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه
لحسن، وهو يخبرنا بأن لما عملنا كفارة، فنزلت:" وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ
مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ
إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً".
ونزل:" يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ" الآية. وقد
قيل: إن هذه الآية،" يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا" نزلت في وحشي
قاتل حمزة، قاله سعيد بن جبير وابن عباس. وسيأتي في" الزمر" بيانه. قوله
تعالى:" إِلَّا بِالْحَقِّ" أي بما يحق أن تقتل به النفوس من كفر بعد
إيمان أو زنى بعد إحصان، على ما تقدم بيانه في" الانعام" «1». (وَلا
يَزْنُونَ) فيستحلون الفروج بغير نكاح ولا ملك يمين. ودلت هذه الآية على أنه ليس
بعد الكفر أعظم من قتل النفس بغير الحق ثم الزنى، ولهذا ثبت في حد الزنا القتل لمن
كان محصنا أو أقصى الجلد لمن كان غير محصن. قوله تعالى: (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ
يَلْقَ أَثاماً. يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ) قرأ نافع وابن عامر وحمزة
والكسائي" يُضاعَفْ". و" يَخْلُدْ" جزما. وقرا ابن
كثير:" يضعف" بشد العين وطرح الالف، وبالجزم في" يضعف.
ويخلد". وقرا طلحة بن سليمان:" نضعف" بضم النون وكسر العين
المشددة." العذاب" نصب و" يَخْلُدْ" جزم، وهي قراءة أبي جعفر
وشيبة.
__________
(1). راجع ج 7 ص 133 طبعه أولى أو ثانية.
إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70)
وقرا
عاصم في رواية أبي بكر:" يضاعف. ويخلد" بالرفع فيهما على العطف
والاستئناف. وقرا طلحة بن سليمان:" وتخلد" بالتاء على معنى مخاطبة
الكافر. وروي عن أبي عمرو" ويخلد" بضم الياء من تحت وفتح اللام. قال أبو
علي: وهي غلط من جهة الرواية. و" يُضاعَفْ" بالجزم بدل من"
يَلْقَ" الذي هو جزاء الشرط. قال سيبويه: مضاعفة العذاب لقي الاثام. قال
الشاعر: متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا تجد حطبا جزلا ونارا تأججا وقال آخر: إن على
الله أن تبايعا «1» تؤخذ كرها أو تجئ طائعا وأما الرفع ففيه قولان: أحدهما أن
تقطعه مما قبله. والآخر أن يكون محمولا على المعنى، كأن قائلا قال: ما لقي الاثام؟
فقيل له: يضاعف له العذاب. و(مُهاناً) معناه ذليلا خاسئا مبعدا مطرودا.
[سورة الفرقان (25): آية 70]
إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ
سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (70)
قوله تعالى: (إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً) لا خلاف بين
العلماء أن الاستثناء عامل في الكافر والزاني. واختلفوا في القاتل من المسلمين على
ما تقدم بيانه في" النساء" «2» ومضى في" المائدة" «3» القول
في جواز التراخي في الاستثناء في اليمين، وهو مذهب ابن عباس مستدلا بهذه الآية.
قوله تعالى: (فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ) قال النحاس:
من أحسن ما قيل فيه أنه يكتب موضع كافر مؤمن، وموضع عاص مطيع. وقال مجاهد والضحاك:
أن يبدلهم
__________
(1). الشاهد في حمل يؤخذ غلى تبايع وإبداله منه. وأراد بقوله" الله"
والمعنى إن على والله فلما حذف الجار النصب.
(2). راجع ج 5 ص 332 وما بعدها طبعه أولى أو ثانية.
(3). راجع ج 6 ص 273 طبعه أولى أو ثانية.
الله
من الشرك الايمان وروى نحوه عن الحسن. قال الحسن: قوم يقولون التبديل في الآخرة،
وليس كذلك، إنما لتبديل في الدنيا، يبدلهم الله إيمانا من الشرك، وإخلاصا من الشك،
وإحصانا من الفجور. وقال الزجاج: ليس بجعل مكان السيئة الحسنة، ولكن بجعل مكان
السيئة التوبة، والحسنة مع التوبة. وروى أبو ذر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: (أن السيئات تبدل بحسنات". وروي معناه عن سلمان الفارسي وسعيد بن
جبير غيرهما. وقال أبو هريرة: ذلك في الآخرة فيمن غلبت حسناته على سيئاته، فيبدل
الله السيئات حسنات. وفي الخبر:" ليتمنين أقوام أنهم أكثروا من السيئات"
فقيل: ومن هم؟ قال:" الذين يبدل الله سيئاتهم حسنات". رواه أبو هريرة عن
النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ذكره الثعلبي والقشيري. وقيل: التبديل
عبارة عن الغفران، أي يغفر الله لهم تلك السيئات لا أن يبدلها حسنات. قلت: فلا
يبعد في كرم الله تعالى إذا صحت توبة العبد أن يضع مكان كل سيئة حسنة، وقد قال صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمعاذ:" اتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس
بخلق حسن". وفي صحيح مسلم عن أبي ذر قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" إني لا علم آخر أهل الجنة دخولا الجنة وآخر أهل النار
خروجا منها رجل يؤتى به يوم القيامة فيقال اعرضوا عليه صغار ذنوبه وارفعوا عنه
كبارها فتعرض عليه صغار ذنوبه فيقال عملت يوم كذا وكذا كذا وكذا وعملت يوم كذا
وكذا كذا وكذا فيقول نعم لا يستطيع أن ينكر وهو مشفق في كبار ذنوبه أن تعرض عليه
فيقال له فإن لك مكان كل سيئة حسنة فيقول يا رب قد عملت أشياء لا أراها ها
هنا" فلقد رأيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضحك حتى بدت
نواجذه. وقال أبو طويل «1»: يا رسول الله، أرأيت رجلا عمل الذنوب كلها ولم يترك
منها شيئا، وهو في ذلك لم يترك حاجة ولا داجة إلا اقتطعها فهل له من توبة؟
قال:" هل أسلمت"؟ قال: أنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له،
وأشهد أنك عبد الله ورسوله. قال:" نعم.
__________ (1). أبو طويل: كنية شطب المدود، رجل من كندة.
وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71)
تفعل
الخيرات وتترك السيئات يجعلهن الله كلهن خيرات". قال: وغدراتي وفجراتي يا نبي
الله؟ قال:" نعم". قال: الله أكبر! فما زال يكررها حتى توارى. ذكره
الثعلبي. قال مبشر ابن عبيد، وكان عالما بالنحو والعربية: الحاجة التي تقطع على
الحاج إذا توجهوا. والداجة التي تقطع عليهم إذا قفلوا. (وكان الله غفورا رحيما).
[سورة الفرقان (25): آية 71]
وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً (71)
قوله تعالى: (وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ
مَتاباً) لا يقال: من قام فإنه يقوم، فكيف قال من تاب فإنه يتوب؟ فقال ابن عباس:
المعنى من آمن من أهل مكة وهاجر ولم يكن قتل وزني بل عمل صالحا وادي الفرائض فإنه
يتوب إلى الله متابا، أي فإني قدمتهم وفضلتهم على من قاتل النبي صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واستحل المحارم. وقال القفال: يحتمل أن تكون الآية الاولى فيمن
تاب من المشركين، ولهذا قال:" إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ" ثم عطف عليه من
تاب من المسلمين واتبع توبته عملا صالحا فله حكم التائبين أيضا. وقيل: أي من تاب
بلسانه ولم يحقق ذلك بفعله، فليست تلك التوبة نافعة، بل من تاب وعمل صالحا فحقق
توبته بالأعمال الصالحة فهو الذي تاب إلى الله متابا، أي تاب حق التوبة وهي النصوح
ولذا أكد بالمصدر. ف" مَتاباً" مصدر معناه التأكيد، كقوله:"
وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً" أي فإنه يتوب إلى الله حقا فيقبل الله
توبته حقا.
[سورة الفرقان (25): آية 72]
وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً
(72)
فيه مسألتان: الاولى- قوله تعالى:" وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ
الزُّورَ" أي لا يحضرون الكذب والباطل ولا يشاهدونه. والزور كل باطل زور
وزخرف، وأعظمه الشرك وتعظيم الأنداد. وبه فسر الضحاك وابن زيد وابن عباس وفي رواية
عن ابن عباس أنه أعياد المشركين. عكرمة: لعب
كان
في الجاهلية يسمى بالزور. مجاهد: الغناء، وقاله محمد ابن الحنفية أيضا. ابن جريج:
الكذب، وروي عن مجاهد. وقال علي بن أبي طلحة ومحمد بن علي: المعنى لا يشهدون
بالزور، من الشهادة لا من المشاهدة. قال ابن العربي: أما القول بأنه الكذب فصحيح،
لان كل ذلك إلى الكذب يرجع. وأما من قال إنه لعب كان في الجاهلية فإنه يحرم ذلك
إذا كان فيه قمار أو جهالة، أو أمر يعود إلى الكفر، وأما القول بأنه الغناء فليس
ينتهي إلى هذا الحد. قلت: من الغناء ما ينتهي سماعه إلى التحريم، وذلك كالاشعار
التي توصف فيها الصور المستحسنات والخمر وغير ذلك مما يحرك الطباع ويخرجها عن
الاعتدال، أو يثير كامنا من حب اللهو، مثل قول بعضهم: ذهبي اللون تحسب من وجنتيه
النار تقتدح خوفوني من فضيحته ليته وافي وافتضح لا سيما إذا اقترن بذلك شبابات «1»
وطارات مثل ما يفعل اليوم في هذه الأزمان، على ما بيناه في غير هذا الموضع. وأما
من قال إنه شهادة الزور، وهي: الثانية- فكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يجلد شاهد
الزور أربعين جلدة، ويسخم وجهه، ويحلق رأسه، ويطوف به في السوق. وقال أكثر أهل
العلم: ولا تقبل له شهادة أبدا وإن تاب وحسنت حاله فأمره إلى الله. وقد قيل: إنه
إذا كان غير مبرز فحسنت حال قبلت شهادته حسبما تقدم بيانه في سورة"
الحج" «2» فتأمله هناك. قوله تعالى: (وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا
كِراماً) قد تقدم الكلام في اللغو «3»، وهو كل سقط من قول أو فعل، فيدخل فيه
الغناء واللهو وغير ذلك مما قاربه، وتدخل فيه سفه المشركين وأذاهم المؤمنين وذكر
النساء وغير ذلك من المنكر. وقال مجاهد: إذا أوذوا صفحوا. وروي عنه: إذا ذكر
النكاح كفوا عنه. وقال الحسن: اللغو المعاصي كلها. وهذا جامع. و"
كِراماً" معناه معرضين منكرين لا يرضونه، ولا يمالئون عليه، ولا يجالسون
أهله.
__________
(1). الشبابة (بالتشديد): نوع من المزمار (مولد).
(2). راجع ج 12 ص 55 طبعه أولى أو ثانية.
(3). راجع ج 3 ص 99 وما بعدها طبعه أولى أو ثانية.
وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73)
أي
مروا مر الكرام الذين لا يدخلون في الباطل. يقال: تكرم فلان عما يشينه، أي تنزه
وأكرم نفسه عنه. وروي أن عبد الله بن مسعود سمع غناء فأسرع وذهب، فبلغ رسول الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال:" لقد أصبح ابن أم عبد كريما".
وقيل: من المرور باللغو كريما أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.
[سورة الفرقان (25): آية 73]
وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا
وَعُمْياناً (73)
فيه مسألتان: الاولى- قوله تعالى: (وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ)
أي إذا قرئ عليهم القرآن ذكروا آخرتهم ومعادهم ولم يتغافلوا حتى يكونوا بمنزلة من
لا يسمع. وقال: (لَمْ يَخِرُّوا) وليس ثم خرور، كما يقال: قعد يبكي وإن كان غير
قاعد، قاله الطبري واختاره، قال ابن عطية: وهو أن يخروا صما وعميانا هي صفة
الكفار، وهي عبارة عن إعراضهم، وقرن ذلك بقولك: قعد فلان يشتمني وقام فلان يبكي
وأنت لم تقصد الاخبار بقعود ولا قيام، وإنما هي توطئات في الكلام والعبارة. قال
ابن عطية: فكأن المستمع للذكر قائم القناة قويم الامر، فإذا أعرض وضل كان ذلك
خرورا، وهو السقوط على غير نظام وترتيب، وإن كان قد شبه به الذي يخر ساجدا لكن
أصله على غير ترتيب. وقيل: أي إذا تليت عليهم آيات الله وجلت قلوبهم فخروا سجدا
وبكيا، ولم يخروا عليها صما وعميانا. وقال الفراء: أي لم يقعدوا على حالهم الأول
كأن لم يسمعوا. الثانية- قال بعضهم: إن من سمع رجلا يقرأ سجدة يسجد معه، لأنه قد
سمع آيات الله تتلى عليه. قال ابن العربي: وهذا لا يلزم إلا القارئ وحده، وأما
غيره فلا يلزمه ذلك إلا في مسألة واحدة، وهو أن الرجل إذا تلا القرآن وقرا السجدة
فإن كان الذي جلس معه جلس يسمعه فليسجد معه، وإن لم يلتزم السماع معه فلا سجود
عليه. وقد مضى هذا في" الأعراف" «1».
__________
(1). راجع ج 7 ص 359 طبعه أولى أو ثانية. [.....]
وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74) أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (75) خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (76) قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (77)
[سورة
الفرقان (25): الآيات 74 الى 77]
وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا
قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً (74) أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ
الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً (75)
خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (76) قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي
لَوْ لا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً (77)
قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا
وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ) قال الضحاك: أي مطيعين لك. وفيه جواز الدعاء
بالولد وقد تقدم «1». والذرية تكون واحدا وجمعا. فكونها للواحد قوله:" رَبِّ
هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً"" فَهَبْ لِي مِنْ
لَدُنْكَ وَلِيًّا" وكونها للجمع" ذُرِّيَّةً ضِعافاً" وقد مضى
في" البقرة" «2» اشتقاقها مستوفى. وقرا نافع وابن كثير وابن عامر
والحسن:" وَذُرِّيَّاتِنا" وقرا أبو عمر وحمزة والكسائي وطلحة
وعيسى" وذريتنا" بالإفراد." قُرَّةَ أَعْيُنٍ" نصب على
المفعول، أي قرة أعين لنا. وهذا نحو قوله عليه الصلاة والسلام لأنس:" اللهم
أكثر ماله وولده وبارك له فيه" وقد تقدم بيانه في" آل عمران" «3»
و" مريم". وذلك أن الإنسان إذا بورك له في ماله وولده قرت عينه بأهله
وعياله، حتى إذا كانت عنده زوجة اجتمعت له فيها أمانيه من جمال وعفة ونظر وحوطة أو
كانت عنده ذرية محافظون على الطاعة، معاونون له على وظائف الدين والدنيا، لم يلتفت
إلى زوج أحد ولا إلى ولده، فتسكن عينه عن الملاحظة، ولا تمتد عينه إلى ما ترى،
فذلك حين قرة العين، وسكون النفس. ووحد" قرة" لأنه مصدر، تقول: قرت عينك
قرة. وقره العين يحتمل أن تكون من القرار، ويحتمل أن تكون من القر وهو الأشهر.
والقر البرد، لان العرب تتأذى بالحر وتستريح إلى البرد. وأيضا فإن دمع السرور
بارد، ودمع الحزن سخن، فمن هذا يقال: أقر الله عينك، وأسخن الله عين العدو. وقال
الشاعر: فكم سخنت بالأمس عين قريرة وقرت عيون دمعها اليوم ساكب
__________
(1). راجع ج 4 ص 72 وما بعدها طبعه أولى أو ثانية.
(2). راجع ج 2 ص 107 طبعه ثانية.
(3). راجع ج 4 ص 73 وج 11 ص 80 طبعه أولى أو ثانية.
قوله تعالى: (وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً) أي قدوة يقتدى بنا في الخير، وهذا لا يكون إلا أن يكون الداعي متقيا قدوة، وهذا هو قصد الداعي. وفي الموطأ:" إنكم أيها الرهط أئمة يقتدى بكم" فكان ابن عمر يقول في دعائه: اللهم اجعلنا من أئمة المتقين. وقال:" إِماماً" ولم يقل أئمة على الجمع، لان الامام مصدر. يقال: أم القوم فلان إماما، مثل الصيام والقيام. وقال بعضهم: أراد أئمة، كما يقول القائل أميرنا هؤلاء، يعني أمراءنا. وقال الشاعر: يا عاذلاتي لا تزدن ملامتي إن العواذل لسن لي بأمير أي أمراء. وكان القشيري أبو القاسم شيخ الصوفية يقول: الامامة بالدعاء لا بالدعوى، يعني بتوفيق الله وتيسيره ومنته لا بما يدعيه كل أحد لنفسه. وقال إبراهيم النخعي: لم يطلبوا الرياسة بل بأن يكونوا قدوة في الدين. وقال ابن عباس: اجعلنا أئمة هدى، كما قال تعالى:" وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا" وقال مكحول: اجعلنا أئمة في التقوى يقتدي بنا المتقون. وقيل: هذا من المقلوب، مجازه: واجعل المتقين لنا إماما، وقال مجاهد. والقول الأول أظهر وإليه يرجع قول ابن عباس ومكحول، ويكون فيه دليل على أن طلب الرياسة في الدين ندب. وإمام واحد يدل على جمع، لأنه مصدر كالقيام. قال الأخفش: الامام جمع آم من أم يؤم جمع على فعال، نحو صاحب وصحاب، وقائم وقيام. قوله تعالى: (أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا)" أُوْلئِكَ" خبر و" عِبادُ الرَّحْمنِ" في قول الزجاج على ما تقدم، وهو أحسن ما قيل فيه. وما تخلل بين المبتدأ وخبره أوصافهم من التحلي والتخلي، وهي إحدى عشرة: التواضع، والحلم، والتهجد، والخوف، وترك الإسراف والإقتار، والنزاهة عن الشرك، والزنى والقتل، والتوبة وتجنب الكذب، والعفو عن المسيء، وقبول المواعظ، والابتهال إلى الله. و" الْغُرْفَةَ" الدرجة الرفيعة وهي أعلى منازل الجنة وأفضلها كما أن الغرفة أعلى مساكن الدنيا. حكاه ابن شجره. وقال الضحاك: الغرفة الجنة." بِما صَبَرُوا" أي بصبرهم على أمر ربهم، وطاعة نبيهم عليه أفضل الصلاة والسلام. وقال محمد ابن علي بن الحسين:" بِما صَبَرُوا" على الفقر والفاقة في الدنيا. وقال الضحاك:" بِما صَبَرُوا" عن الشهوات. (وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً) قرأ أبو بكر والمفضل والأعمش ويحيى
وحمزة
والكسائي وخلف" ويلقون" مخففة، واختاره الفراء، قال لان العرب تقول:
فلان يتلقى بالسلام وبالتحية وبالخير (بالتاء)، وقلما يقولون فلان يلقى السلامة.
وقرا الباقون" وَيُلَقَّوْنَ" واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، لقوله
تعالى:" وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً". قال أبو جعفر النحاس: وما
ذهب إليه الفراء واختاره غلط، لأنه يزعم أنها لو كانت" يُلَقَّوْنَ"
كانت في العربية بتحية وسلام، وقال كما يقال: فلان يتلقى بالسلام وبالخير، فمن
عجيب ما في هذا الباب أنه قال يتلقى والآية" يُلَقَّوْنَ" والفرق بينهما
بين. لأنه يقال فلان يتلقى بالخير ولا يجوز حذف (الباء)، فكيف يشبه هذا ذاك! وأعجب
من هذا أن في القرآن" وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً" ولا يجوز أن
يقرأ بغيره. وهذا يبين أن الاولى على خلاف ما قال. والتحية من الله والسلام من
الملائكة. وقيل: التحية البقاء الدائم والملك العظيم، والأظهر أنهما بمعنى واحد،
وأنهما من قبل الله تعالى، دليله قوله تعالى:" تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ
يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ" وسيأتي. (خالِدِينَ) نصب على الحال (فِيها حَسُنَتْ
مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً). قوله تعالى: (قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا
دُعاؤُكُمْ) هذه آية مشكلة تعلقت بها الملحدة. يقال: ما عبأت بفلان أي ما باليت
به، أي ما كان له عندي وزن ولا قدر. واصل يعبأ من العبء وهو الثقل. وقول الشاعر»
: كأن بصدره وبجانبيه عبيرا بات يعبؤه عروس أي يجعل بعضه على بعض. فالعبء الحمل
الثقيل، والجمع أعباء. والعبء المصدر. وما استفهامية، ظهر في أثناء كلام الزجاج،
وصرح به الفراء. وليس يبعد أن تكون نافية، لأنك إذا حكمت بأنها استفهام فهو نفي
خرج مخرج الاستفهام، كما قال تعالى:" هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا
الْإِحْسانُ" قال ابن الشجري: وحقيقة القول عندي أن موضع" ما" نصب،
والتقدير: أي عبء يعبأ بكم، أي أي مبالاة يبالي ربي بكم لولا دعاؤكم، أي لولا
دعاؤه إياكم لتعبدوه، فالمصدر الذي هو الدعاء على هذا القول مضاف إلى
مفعوله، وهو اختيار
__________
(1). هو أبو زبيد يصف أسدا، كما في اللسان مادة" عبأ". ورواه هكذا: كأن
ينحره وبمنكبيه عبيرا بات يعبؤه عروس
الفراء. وفاعله محذوف وجواب لولا محذوف كما حذف في قوله:" وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ" تقديره: لم يعبأ بكم. ودليل هذا القول قوله تعالى:" وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ" فالخطاب لجميع الناس، فكأنه قال لقريش منهم: أي ما يبالى الله بكم لولا عبادتكم إياه أن لو كانت، وذلك الذي يعبأ بالبشر من أجله. ويؤيد هذا قراءة ابن الزبير وغيره." فقد كذب الكافرون" فالخطاب بما يعبأ لجميع الناس، ثم يقول لقريش: فأنتم قد كذبتم ولم تعبدوه فسوف يكون التكذيب هو سبب العذاب لزاما. وقال النقاش وغيره: المعنى، لولا استغاثتكم إليه في الشدائد ونحو ذلك. بيانه:" فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ" ونحو هذا. وقيل:" ما يَعْبَؤُا بِكُمْ" أي بمغفرة ذنوبكم ولا هو عنده عظيم" لَوْ لا دُعاؤُكُمْ" معه الآلهة والشركاء. بيانه:" ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم"، قال الضحاك. وقال الوليد بن أبي الوليد: بلغني فيها أي ما خلقتكم ولي حاجة إليكم إلا تسألوني فأغفر لكم وأعطيكم. وروى وهب بن منبه أنه كان في التوراة:" يا بن آدم وعزتي ما خلقتك لأربح عليك إنما خلقتك لتربح علي فاتخذني بدلا من كل شي فأنا خير لك من كل شي". قال ابن جني: قرأ ابن الزبير وابن عباس" فقد كذب الكافرون". قال الزهراوي والنحاس: وهي قراءة ابن مسعود وهي على التفسير، للتاء والميم في" كَذَّبْتُمْ". وذهب القتبي والفارسي إلى أن الدعاء مضاف إلى الفاعل والمفعول محذوف. الأصل لولا دعاؤكم آلهة من دونه، وجواب" لَوْ لا" محذوف تقديره في هذا الوجه: لم يعذبكم. ونظير قوله: لولا دعاؤكم آلهة قوله:" إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ". (فَقَدْ كَذَّبْتُمْ) أي كذبتم بما دعيتم إليه، هذا على القول الأول، وكذبتم بتوحيد الله على الثاني. (فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً) أي يكون تكذيبكم ملازما لكم. والمعنى: فسوف يكون جزاء التكذيب كما قال:" وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً" أي جزاء ما عملوا وقوله:" فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ" أي جزاء ما كنتم تكفرون. وحسن إضمار التكذيب لتقدم ذكر فعله، لأنك إذا ذكرت الفعل دل بلفظه على مصدره، كما قال:" وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ" أي لكان الايمان. وقوله:" وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ" أي يرضى الشكر. ومثله كثير. وجمهور المفسرين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق