وَلَا يَزَالُ
الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ
بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55)
قال ابن جريج: { لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ } هم: المنافقون { وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ } : المشركون.
وقال مقاتل بن حيان: هم [الكافرون] (1) اليهود.
{ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ } أي: في ضلال ومخالفة وعناد بعيد، أي: من الحق والصواب.
{
وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ
فَيُؤْمِنُوا بِهِ } أي: وليعلم الذين أوتوا العلم النافع الذي يفرقون به
بين الحق والباطل، المؤمنون بالله ورسوله، أن ما أوحيناه إليك هو الحق من
ربك، الذي أنزله بعلمه وحفظه وحرسه أن يختلط به غيره، بل هو كتاب حكيم، {
لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزيلٌ
مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } [ فصلت: 42 ].
وقوله: { فَيُؤْمِنُوا بِهِ } أي:
يصدقوه وينقادوا له، { فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ } أي: تخضع وتذل، {
وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ }
أي: في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فيرشدهم إلى الحق واتباعه، ويوفقهم
لمخالفة الباطل واجتنابه، وفي الآخرة يهديهم [إلى] (2) الصراط المستقيم،
الموصل إلى درجات الجنات، ويزحزحهم عن العذاب الأليم والدركات.
{ وَلا
يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ
السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55) }
__________
(1) زيادة من ت.
(2) زيادة من أ.
===========
الْمُلْكُ
يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا
وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (57)
وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا
لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ
الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ
اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59) ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا
عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ
لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي
النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ
بَصِيرٌ (61) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ
مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ
(62) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ
الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63) لَهُ مَا فِي
السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ
الْحَمِيدُ (64)
--------------------
الْمُلْكُ
يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا
وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (57)
{
الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ
كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (57)
} .
يقول تعالى مخبرًا عن الكفار: أنهم لا يزالون في مرية، أي: في شك وريب من هذا القرآن، قاله ابن جريج، واختاره ابن جرير.
وقال سعيد بن جبير، وابن زيد: { مِنْهُ } أي: مما ألقى الشيطان.
{
حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً } : قال مجاهد: فجأة. وقال
قتادة: { بَغْتَةً } ، بغت [القوم] (1) أمر الله، وما أخذ الله قومًا قط
إلا عند سكرتهم وغرتهم ونعمتهم، فلا تغتروا بالله، إنه لا يغتر بالله (2)
إلا القوم الفاسقون.
وقوله: { أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ
} : قال مجاهد: قال أبي بن كعب: هو يوم بدر، وكذا قال عكرمة، وسعيد بن
جبير، وقتادة وغير واحد. واختاره ابن جرير.
وقال عكرمة، ومجاهد [في رواية عنهما] (3) : هو يوم القيامة لا ليلة له. وكذا قال الضحاك، والحسن البصري.
وهذا القول هو الصحيح، وإن كان يوم بدر من جملة ما أوعدوا به، لكن هذا هو المراد؛ ولهذا
__________
(1) في ت: "اليوم" والمثبت من ف، أ.
(2) في أ: "فلا يغتر به".
(3) زيادة من ت، ف، أ.
(5/446)
وَالَّذِينَ
هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا
لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ
الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ
اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59) ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا
عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ
لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60)
قال: { الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ
بَيْنَهُمْ } ، كقوله { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } [ الفاتحة: 4 ] وقوله: {
الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى
الْكَافِرِينَ عَسِيرًا } [ الفرقان: 26 ].
{ فَالَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } ، أي: آمنت قلوبهم، وصدقوا بالله ورسوله،
وعملوا بمقتضى ما علموا، وتوافق قلوبهم وأقوالهم وأعمالهم (1) .
{ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ } . أي: لهم النعيم المقيم، الذي لا يحول ولا يزول ولا يبيد.
{
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا } أي: كفرت قلوبهم بالحق،
وجحدوا به (2) وكذبوا به، وخالفوا الرسل، واستكبروا عن اتباعهم {
فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ } أي: مقابلة استكبارهم وإعراضهم (3)
عن الحق، كقوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي
سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } [ غافر: 60 ] أي: صاغرين.
{
وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا
لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ
الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ
اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59) ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا
عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ
لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60) } .
يخبر تعالى عمن خرج مهاجرًا في سبيل الله
ابتغاء مرضاته، وطلبا لما عنده، وترك الأوطان والأهلين والخِلان، وفارق
بلاده في الله ورسوله، ونصرة لدين الله { ثُمَّ قُتِلُوا } أي: في الجهاد {
أَوْ مَاتُوا } أي: حتف أنفهم (4) ، أي: من غير قتال على فرشهم، فقد حصلوا
على الأجر الجزيل، والثناء الجميل، كما قال تعالى { وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ
بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ
فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ } [ النساء: 100 ].
وقوله: {
لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا } أي: ليُجْريَن عليهم (5) من
فضله ورزقه من الجنة ما تقر به أعينهم، { وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ
الرَّازِقِينَ . لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلا يَرْضَوْنَهُ } أي: الجنة. كما
قال تعالى: { فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ . فَرَوْحٌ
وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ } [ الواقعة: 88 ، 89 ] فأخبر أنه يحصل له
الراحة والرزق وجنة نعيم، كما قال هاهنا: { لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ
رِزْقًا حَسَنًا } ، ثم قال: { لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلا يَرْضَوْنَهُ
وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ } أي: بمن يهاجر ويجاهد في سبيله، وبمن يستحق
ذلك، { حَلِيمٌ } أي: يحلم ويصفح ويغفر لهم الذنوب ويكفرها عنهم بهجرتهم
إليه، وتوكلهم عليه. فأما من قتل في سبيل الله من مهاجر أو غير مهاجر، فإنه
حي عند ربه يرزق، كما قال تعالى: { وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا
فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ
يُرْزَقُونَ } [ آل عمران: 169 ]، والأحاديث في هذا كثيرة، كما تقدم (6)
وأما من تُوُفي
__________
(1) في أ: "وأفعالهم".
(2) في أ: "وجحدته".
(3) في أ: "وإبائهم".
(4) في أ: "أنفسهم".
(5) في أ: "ليجزيهم عليه".
(6) في أ: "مر".
(5/447)
في سبيل الله من مهاجر أو غير مهاجر، فقد تضمنت هذه الآية الكريمة مع الأحاديث الصحيحة إجراء الرزق عليه، وعظيم إحسان الله إليه.
قال
ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا المسيَّب بن واضح، حدثنا ابن المبارك، عن
عبد الرحمن بن شُرَيْح، عن ابن (1) الحارث -يعني: عبد الكريم-عن ابن عقبة
-يعني: أبا عبيدة بن عقبة-قال: حدثنا (2) شُرَحْبِيل بن السِّمْط: طال
رباطنا وإقامتنا على حصن بأرض الروم، فمر بي سلمان-يعني: الفارسي-رضي الله
عنه، فقال: إني سمعت رسول الله يقول: "من مات مرابطًا، أجرى الله عليه مثل
ذلك الأجر، وأجرى عليه الرزق، وأمن (3) من الفَتَّانين" واقرءوا إن شئتم: {
وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا
لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ
الرَّازِقِينَ لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ
لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ }
وقال أيضا: حدثنا أبو زرعة، حدثنا زيد بن بشر،
أخبرني همام، أنه سمع أبا قبيل وربيعة بن سيف المعافري يقولان: كنا برودس،
ومعنا فَضَالة بن عبيد الأنصاري -صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم-فمر
بجنازتين، إحداهما قتيل والأخرى متوفى، فمال الناس على القتيل، فقال فضالة:
ما لي (4) أرى الناس مالوا مع هذا، وتركوا هذا؟! فقالوا: هذا قتيل في سبيل
الله تعالى. فقال: والله ما أبالي من أي حُفرتيهما بُعثت، اسمعوا كتاب
الله: { وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ
مَاتُوا [ لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ
لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ] (5) }
وقال أيضا: حدثنا أبي، حدثنا عبدة
بن سليمان، أنبأنا ابن المبارك، أنبأنا ابن لَهِيعة، حدثنا سلامان بن عامر
الشعباني، أن عبد الرحمن بن جَحْدَم الخولاني حدثه: أنه حضر فضالة بن عبيد
في البحر مع جنازتين، أحدهما أصيب بمنجنيق والآخر توفي، فجلس فضالة بن عبيد
عند قبر المتوفى، فقيل له: تركت الشهيد فلم تجلس عنده؟ فقال: ما أبالي من
أي حفرتيهما بعثتُ، إن الله يقول: { وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ
اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا [ لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا
حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ . لَيُدْخِلَنَّهُمْ
مُدْخَلا ] (6) يَرْضَوْنَهُ } فما تبتغي (7) أيها العبد إذا أدخلت مدخلا
ترضاه ورزقت رزقًا حسنًا، والله ما أبالي من أي حفرتيهما بعثت.
ورواه
ابن جرير، عن يونس بن عبد الأعلى، عن ابن وهب، أخبرني عبد الرحمن بن
شُرَيْح، عن سلامان بن عامر قال: كان فضالة برودس أميرًا على الأرباع، فخرج
بجنازتي رجلين، أحدهما قتيل (8) والآخر متوفى... فذكر نحو ما تقدم (9) .
__________
(1) في أ: "أبي".
(2) في أ: "قال".
(3) في أ: "وأومن".
(4) في أ: "ما".
(5) زيادة من ف، أ وفي هـ، ت : "حتى آخر الآية".
(6) زيادة من ف، وفي ت: "إلى قوله".
(7) في أ: "ينبغي".
(8) في أ: "قتل".
(9) تفسير الطبري (17/136).
(5/448)
ذَلِكَ
بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ
فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61) ذَلِكَ بِأَنَّ
اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ
وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62) أَلَمْ تَرَ أَنَّ
اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً
إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي
الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64)
وقوله: {
ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ
لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ } ، ذكر (1) مقاتل بن حيان وابن جريج أنها نزلت في
سرية من الصحابة، لقوا جمعًا من المشركين في شهر محرم، فناشدهم المسلمون
لئلا يقاتلوهم في الشهر الحرام، فأبى المشركون إلا قتالهم وبغوا عليهم،
فقاتلهم المسلمون، فنصرهم الله عليهم، [و] (2) { إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ
غَفُورٌ }
{ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ
وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61)
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ
هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62) } .
يقول
تعالى منبها على أنه الخالق المتصرف في خلقه بما يشاء، كما قال: { قُلِ
اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنزعُ
الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ
بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ . تُولِجُ
اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ [ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ
الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ
مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ] (3) } [ آل عمران: 26 ، 27 ] ومعنى
إيلاجه الليل في النهار، والنهار في الليل: إدخاله من هذا في هذا، ومن هذا
في هذا، فتارة يطول الليل ويقصر النهار، كما في الشتاء، وتارة يطول النهار
ويقصر الليل، كما في الصيف.
وقوله: { وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ }
أي: سميع بأقوال عباده، بصير بهم، لا يخفى عليه منهم خافية في أحوالهم
وحركاتهم وسكناتهم.
ولما بين أنه المتصرف في الوجود، الحاكم الذي لا
معقب لحكمه، قال: { ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ } أي: الإله الحق
الذي لا تنبغي العبادة إلا له؛ لأنه ذو السلطان العظيم، الذي ما شاء كان
وما لم يشأ لم يكن، وكل شيء فقير إليه، ذليل لديه، { وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ
مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ } أي: من الأصنام والأنداد والأوثان، وكل ما
عبد من دونه تعالى فهو باطل؛ لأنه لا يملك ضرًا ولا نفعًا.
وقوله: {
وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ } ، كما قال: { وَهُوَ
الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ } [ البقرة: 255 ]، وقال: { الْكَبِيرُ (4)
الْمُتَعَالِ } [ الرعد: 9 ] فكل شيء تحت قهره وسلطانه وعظمته، لا إله إلا
هو، ولا رب سواه؛ لأنه العظيم الذي لا أعظم منه، العلي الذي لا أعلى منه،
الكبير الذي لا أكبر منه، تعالى وتقدس وتنزه، وعز وجل عما يقول الظالمون
[المعتدون] (5) علوا كبيرا.
{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزلَ مِنَ
السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ
خَبِيرٌ (63) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَإِنَّ
اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64) }
__________
(1) في أ: "قال".
(2) زيادة من أ.
(3) زيادة من ف، أ: وفي ت: "الآية".
(4) في ت، ف: "وهو الكبير".
(5) زيادة من أ.
(5/449)
( معلومات الكتاب )
===========
أَلَمْ
تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي
فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى
الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ
(65) وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ
إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ (66) لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا
هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ
إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ (67) وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ
أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69) أَلَمْ تَعْلَمْ
أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي
كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ
اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ
عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ
آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا
الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ
آَيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ
وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72)
الحج - تفسير ابن كثير
أَلَمْ
تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي
فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى
الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ
(65) وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ
إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ (66)
{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ
سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الأرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ
بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأرْضِ إِلا
بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65) وَهُوَ
الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الإنْسَانَ
لَكَفُورٌ (66) } .
(5/449)
وهذا أيضا من الدلالة على قدرته وعظيم
سلطانه، فإنه يرسل (1) الرياح، فتثير سحابا، فيمطر على الأرض الجُرُز التي
(2) لا نبات فيها، وهي هامدة يابسة سوداء قحلة، { فَإِذَا أَنزلْنَا
عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ } [ الحج: 5].
وقوله: {
فَتُصْبِحُ الأرْضُ مُخْضَرَّةً } ، الفاء هاهنا للتعقيب، وتعقيب كل شيء
بحسبه، كما قال: { خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ
مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا } [ المؤمنون: 14 ]، وقد ثبت
في الصحيحين: "أن بين كل شيئين أربعين يوما" ومع هذا هو معقب (3) بالفاء،
وهكذا هاهنا قال: { فَتُصْبِحُ الأرْضُ مُخْضَرَّةً } أي: خضراء بعد يبسها
ومُحُولها (4) .
وقد ذكر عن بعض أهل (5) الحجاز: أنها تصبح عقب المطر خضراء، فالله أعلم.
وقوله:
{ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ } أي: عليم بما في أرجاء الأرض وأقطارها
وأجزائها من الحب وإن صغر، لا يخفى عليه خافية، فيوصل إلى كل منه قسطه من
الماء فينبته به، كما قال لقمان: { يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ
مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي
السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ
لَطِيفٌ خَبِيرٌ } [ لقمان: 16 ]، وقال: { أَلا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي
يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ } [ النمل: 25 ]، وقال
تعالى: { وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي
ظُلُمَاتِ الأرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } [
الأنعام: 59 ]، وقال { وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ
} الآية [ يونس: 61 ] ؛ ولهذا قال أمية بن [أبي] (6) الصلت-أو: زيد بن
عمرو بن نُفيل-في قصيدته:
وَقُولا لَه: مَن يُنْبِتُ الحبَّ في الثَّرَى ... فَيُصبحَ منْهُ البَقْلُ يَهْتَزُّ رَابيَا? ...
ويُخْرجُ منْهُ حَبَّه في رُؤُوسه ... فَفي ذَاك آيات لمَنْ كَانَ وَاعيا (7)
وقوله:
{ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ
الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ } أي: ملكه جميع الأشياء، وهو غني عما سواه، وكل شيء
فقير إليه، عبد لديه.
وقوله: { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ
لَكُمْ مَا فِي الأرْضِ } أي: من حيوان، وجماد، وزروع، وثمار. كما قال: {
وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ
} [ الجاثية: 13 ] أي: من إحسانه وفضله وامتنانه، { وَالْفُلْكَ تَجْرِي
فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ } أي: بتسخيره وتسييره، أي: في البحر العَجَاج،
وتلاطم الأمواج، تجري الفلك بأهلها (8) بريح طيبة، ورفق وتؤدة، فيحملون
فيها ما شاءوا من تجائر وبضائع
__________
(1) في أ: "وأنه مرسل".
(2) في أ: "الذي".
(3) في أ: "تعقيب".
(4) في أ: "وقحوطا".
(5) في هـ ت: "أرض" والمثبت من ف، أ.
(6) زيادة من ف، أ.
(7) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (1/228).
(8) في أ: "بأمرها".
(5/450)
لِكُلِّ
أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي
الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ (67)
وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ
يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ
تَخْتَلِفُونَ (69)
ومنافع، من بلد إلى بلد، وقطر إلى قطر، ويأتون بما
عند أولئك إلى هؤلاء، كما ذهبوا بما عند هؤلاء إلى أولئك، مما يحتاجون
إليه، ويطلبونه ويريدونه، { وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى
الأرْضِ إِلا بِإِذْنِهِ } أي: لو شاء لأذن للسماء فسقطت على الأرض، فهلك
من فيها، ولكن من لطفه ورحمته وقدرته يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا
بإذنه؛ ولهذا قال: { إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ } أي: مع
ظلمهم، كما قال في الآية الأخرى: { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ
لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ } [
الرعد: 6 ].
وقوله: { وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ
ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الإنْسَانَ لَكَفُورٌ } ، كقوله: { كَيْفَ
تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ
يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [ البقرة: 28
]، وقوله: { قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ
يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ } [ الجاثية: 26
]، وقوله: { قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا
اثْنَتَيْنِ } [ غافر: 11 ] ومعنى الكلام: كيف تجعلون [مع] (1) الله أندادا
وتعبدون معه غيره، وهو المستقل بالخلق والرزق والتصرف، { وَهُوَ الَّذِي
أَحْيَاكُمْ } أي: خلقكم بعد أن لم تكونوا شيئًا يذكر، فأوجدكم { ثُمَّ
يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } أي: يوم القيامة، { إِنَّ الإنْسَانَ
لَكَفُورٌ } أي: جحود.
{ لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ
نَاسِكُوهُ فَلا يُنَازِعُنَّكَ فِي الأمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ
لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ (67) وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ
أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69) } .
يخبر تعالى أنه جعل لكل قوم (2) منسكا.
قال
ابن جرير: يعني: لكل أمة نبي منسكا. قال: وأصل المنسك في كلام العرب: هو
الموضع الذي يعتاده الإنسان، ويتردد إليه، إما لخير أو شر. قال: ولهذا سميت
مناسك الحج بذلك، لترداد الناس إليها وعكوفهم عليها (3) .
فإن كان كما
قال من أن المراد: { لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا } فيكون المراد
بقوله: { فَلا يُنَازِعُنَّكَ فِي الأمْرِ } أي: هؤلاء المشركون. وإن كان
المراد: "لكل أمة جعلنا منسكا جعلا قدريا -كما قال: { وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ
هُوَ مُوَلِّيهَا } [ البقرة: 148 ] ولهذا قال هاهنا: { هُمْ نَاسِكُوهُ }
أي: فاعلوه-فالضمير هاهنا عائد على هؤلاء الذين لهم مناسك وطرائق، أي:
هؤلاء إنما يفعلون هذا عن قدر الله وإرادته، فلا تتأثر بمنازعتهم لك، ولا
يصرفك ذلك عما أنت عليه من الحق؛ ولهذا قال: { وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ
إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ } أي: طريق واضح مستقيم موصل إلى
المقصود.
وهذه كقوله: { وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ } [ القصص: 87 ].
__________
(1) زيادة من ت، ف.
(2) في ت: "أمة".
(3) تفسير الطبري (17/138).
(5/451)
أَلَمْ
تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ
ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70)
وقوله: {
وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ } ، كقوله: {
وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ
بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ } [ يونس:
41 ].
وقوله: { اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ } تهديد شديد، ووعيد
أكيد، كقوله: { هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا
بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ } [ الأحقاف: 8 ] ؛ ولهذا قال: { اللَّهُ (1)
يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ
تَخْتَلِفُونَ }
وهذه كقوله: { فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا
أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنزلَ
اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا
وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لا حُجَّةَ
بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ }
[ الشورى: 15 ].
{ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي
السَّمَاءِ وَالأرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ
يَسِيرٌ (70) } .
يخبر تعالى عن كمال علمه بخلقه، وأنه محيط بما في
السموات وما في الأرض، فلا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، ولا
أصغر من ذلك ولا أكبر، وأنه تعالى علم الكائنات كلها قبل وجودها، وكتب ذلك
في كتابه اللوح المحفوظ، كما ثبت في صحيح مسلم، عن عبد الله بن عمرو قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله قدّر مقادير الخلائق قبل خلق
السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء" (2) .
وفي السنن،
من حديث جماعة من الصحابة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أول ما
خلق الله القلم، قال له: اكتب، قال: وما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن. فجرى
القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة" (3) .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو
زُرْعَة، حدثنا ابن بُكَيْر، حدثني ابن لَهِيعة، حدثني عطاء بن دينار،
حدثني سعيد بن جُبَيْر قال: قال ابن عباس: خلق الله اللوح المحفوظ مَسِيرَة
مائة عام، وقال للقلم قبل أن يخلق الخلق -وهو على العرش تبارك وتعالى-:
اكتب. قال القلم: وما أكتب؟ قال: علمي في خلقي إلى يوم تقوم الساعة. فجرى
القلم بما هو كائن في علم الله إلى يوم القيامة. فذلك قوله تعالى للنبي صلى
الله عليه وسلم: { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي
السَّمَاءِ وَالأرْضِ }
وهذا من تمام علمه تعالى أنه علم الأشياء قبل
كونها، وقدرها وكتبها أيضًا، فما العباد عاملون قد علمه تعالى قبل ذلك، على
الوجه الذي يفعلونه، فيعلم قبل الخلق أن هذا يطيع باختياره، وهذا يعصي
باختياره، وكتب ذلك عنده، وأحاط بكل شيء علما، وهو سهل عليه، يسير لديه؛
ولهذا قال تعالى: { إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ
يَسِيرٌ }
__________
(1) في ت: "والله" وهو خطأ.
(2) صحيح مسلم برقم (2653) بلفظ "كتب الله مقادير الخلائق".
(3)
جاء من حديث عبادة بن الصامت: أخرجه أبو داود في السنن برقم (4700)
والترمذي في السنن برقم (3319) وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب". وجاء من
حديث ابن عباس: رواه البيهقي في الأسماء والصفات (ص 378).
(5/452)
وَيَعْبُدُونَ
مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ
لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71) وَإِذَا
تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ
كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ
عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ
النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72)
{
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنزلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا
لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71) وَإِذَا
تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ
كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ
عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ
النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72) }
.
يقول تعالى مخبرا عن المشركين فيما جهلوا وكفروا، وعبدوا من دون الله
ما لم ينزل به سلطانا، يعني: حجة وبرهانا، كقوله: { وَمَنْ يَدْعُ مَعَ
اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ
رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ } [ المؤمنون: 117 ]. ولهذا
قال هاهنا: { مَا لَمْ يُنزلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ
عِلْمٌ } أي: ولا علم لهم فيما اختلقوه وائتفكوه، وإنما هو أمر تلقوه عن
آبائهم وأسلافهم، بلا دليل ولا حجة، وأصله مما سول لهم الشيطان وزينه لهم؛
ولهذا توعدهم تعالى بقوله: { وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ } أي: من
ناصر ينصرهم من الله، فيما يحل بهم من العذاب والنكال.
ثم قال: {
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ } أي: وإذا ذكرت لهم آيات
القرآن والحجج والدلائل الواضحات على توحيد الله، وأنه لا إله إلا هو، وأن
رسله الكرام حق وصدق، { يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ
عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا } أي: يكادون يبادرون الذين يحتجون عليهم بالدلائل
الصحيحة من القرآن، ويبسطون إليهم أيديهم وألسنتهم بالسوء! { قُلْ } أي: يا
محمد لهؤلاء. { أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ
وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا (1) } أي: النار وعذابها ونكالها أشد
وأشق وأطم وأعظم مما تخوفون به أولياء الله المؤمنين في الدنيا، وعذاب
الآخرة على صنيعكم هذا أعظم مما تنالون منهم، إن نلتم بزعمكم وإرادتكم.
وقوله:
{ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } أي: وبئس النار منزلا ومقيلا ومرجعا وموئلا
ومقاما، { إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا } [ الفرقان: 66 ].
__________
(1) في ت، ف، أ: "كفروا وبئس المصير".
==========
يَا
أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ
تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا
لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ
ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ
قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74) اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ
الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ
(75) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ
تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ارْكَعُوا
وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ (77) وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ
اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ
أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي
هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ
عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا
بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)
--------------------
يَا
أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ
تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا
لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ
ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ
قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74)
{ يَا أَيُّهَا
النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ
دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ
يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ
الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ
اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74) } .
يقول تعالى منبها على حقارة
الأصنام وسخافة عقول عابديها: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ } أي:
لما يعبده الجاهلون بالله المشركون به، { فَاسْتَمِعُوا لَهُ } أي: أنصتوا
وتفهموا، { إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا
ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ } أي: لو اجتمع جميع ما تعبدون من
الأصنام والأنداد على أن يقدروا
(5/453)
اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ
الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ
(75) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ
تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76)
على خلق ذباب واحد ما قدروا على ذلك. كما قال الإمام أحمد.
حدثنا
أسود بن عامر، حدثنا شَرِيك، عن عمارة بن القعقاع، عن أبي زُرْعة، عن أبي
هريرة -رفع الحديث-قال: "ومن أظلم ممن خلق [خلقا] (1) كخلقي؟ فليخلقوا مثل
خلقي ذَرّة، أو ذبابة، أو حَبَّة" (2) .
وأخرجه صاحبا الصحيح، من طريق
عُمَارة، عن أبي زُرْعةَ، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
قال الله عز وجل: "ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي؟ فليخلقوا ذرة، فليخلقوا
شعيرة" (3) .
ثم قال تعالى أيضا: { وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ
شَيْئًا لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ } أي: هم عاجزون عن خلق ذباب واحد، بل
أبلغ من ذلك عاجزون عن مقاومته والانتصار منه، لو سلبها شيئًا من الذي
عليها من الطيب، ثم أرادت أن تستنقذه منه لما قدرت على ذلك. هذا والذباب من
أضعف مخلوقات الله وأحقرها ولهذا [قال: { ضَعُفَ الطَّالِبُ
وَالْمَطْلُوبُ } ] (4) .
قال ابن عباس: الطالب: الصنم، والمطلوب:
الذباب. واختاره ابن جرير، وهو ظاهر السياق. وقال السدي وغيره: الطالب:
العابد، والمطلوب: الصنم.
ثم قال: { مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ
قَدْرِهِ } أي: ما عرفوا قدر الله وعظمته حين عبدوا معه غيره، من هذه (5)
التي لا تقاوم الذباب لضعفها وعجزها، { إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ }
أي: هو القوي الذي بقدرته وقوته خلق كل شيء، { وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ
الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } [ الروم: 27 ]، {
إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ . إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ } [
البروج: 12 ، 13 ]، { إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ
الْمَتِينُ } [ الذاريات: 58 ].
وقوله: { عَزِيزٌ } أي: قد عز (6) كل شيء فقهره وغلبه، فلا يمانع ولا يغالب، لعظمته وسلطانه، وهو الواحد القهار.
{
اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ
اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا
خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ (76) } .
يخبر تعالى أنه
يختار من الملائكة رسلا فيما يشاء من شرعه وقَدَره، ومن الناس لإبلاغ
رسالاته، { إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ } أي: سميع لأقوال عباده، بصير
بهم، عليم بمن يستحق ذلك منهم، كما قال: { اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ
يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } [ الأنعام: 124 ].
وقوله: { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ } أي: يعلم ما يفعل برسله فيما
__________
(1) زيادة من ت، ف، والمسند.
(2) المسند (2/391)
(3) صحيح البخاري برقم (5953) وصحيح مسلم برقم (2111).
(4) زيادة، ت، ف.
(5) في أ: "هذا الذي".
(6) في ف: "قدر".
(5/454)
يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ
وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وَجَاهِدُوا فِي
اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي
الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ
الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا
عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ
وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ
الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)
أرسلهم به، فلا يخفى عليه من
أمورهم شيء، كما قال: { عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ
أَحَدًا . إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ [ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ
بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا . لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ
أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ ] (1)
وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا } [ الجن: 26 -28 ]، فهو سبحانه رقيب
عليهم، شهيد على ما يقال لهم، حافظ لهم، ناصر لجنابهم؛ { يَا أَيُّهَا
الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ
فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } الآية [
المائدة: 67 ].
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا
وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ (77) وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ
اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ
أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي
هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ
عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا
بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78) }
.
اختلف الأئمة، رحمهم الله، في هذه السجدة الثانية من سورة الحج: هل
هي مشروع السجودُ فيها أم لا؟ على قولين. وقد قدمنا عند الأولى حديث عقبة
بن عامر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فُضلت سورة الحج بسجدتين، فمن
لم يسجدهما فلا يقرأهما".
وقوله: { وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ
جِهَادِهِ } أي: بأموالكم وألسنتكم وأنفسكم، كما قال تعالى: { اتَّقُوا
اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ } [ آل عمران: 102 ].
وقوله: { هُوَ اجْتَبَاكُمْ } أي: يا هذه الأمة، الله اصطفاكم واختاركم على سائر الأمم، وفضلكم وشرفكم وخصكم بأكرم رسول، وأكمل شرع.
{
وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } أي: ما كلفكم ما لا
تطيقون، وما ألزمكم بشيء فَشَقَ عليكم إلا جعل الله لكم فرجا ومخرجا،
فالصلاة -التي هي أكبر أركان الإسلام بعد الشهادتين-تجب في الحَضَر أربعًا
وفي السفر تُقْصَر إلى ثِنْتَين، وفي الخوف يصليها بعض الأئمة ركعة، كما
ورد به الحديث، وتُصَلى رجالا وركبانا، مستقبلي القبلة وغير مستقبليها.
وكذا في النافلة في السفر إلى القبلة وغيرها، والقيام فيها يسقط بعذر
المرض، فيصليها المريض جالسا، فإن لم يستطع فعلى جنبه، إلى غير ذلك من
الرخص والتخفيفات، في سائر الفرائض والواجبات؛ ولهذا قال، عليه السلام (2) :
"بُعِثْتُ بالحنِيفيَّة السَّمحة" (3) وقال لمعاذ وأبي موسى، حين بعثهما
أميرَين إلى اليمن: "بَشِّرا ولا
__________
(1) زيادة من ف، أ. وفي ت: "إلى قوله".
(2) في ت: "عليه الصلاة والسلام"، وفي ف، أ: "صلى الله عليه وسلم".
(3) رواه أحمد في مسنده (5/266) من حديث أبي أمامة رضي الله عنه.
(5/455)
تنفرا،
ويَسِّرا ولا تُعسِّرَا" (1) . والأحاديث في هذا كثيرة؛ ولهذا قال ابن
عباس في قوله: { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } يعني:
من ضيق.
وقوله: { مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ } : قال ابن جرير:
نصب على تقدير: { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } أي:
من ضيق، بل وَسَّعه عليكم كملة أبيكم إبراهيم. [قال: ويحتمل أنه منصوب على
تقدير: الزموا ملة أبيكم إبراهيم] (2) .
قلت: وهذا المعنى في هذه الآية
كقوله: { قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا
قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا } الآية [ الأنعام: 161 ].
وقوله:
{ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا } قال الإمام
عبد الله بن المبارك، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس في قوله: { هُوَ
سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ } قال: الله عز وجل. وكذا قال
مجاهد، وعطاء، والضحاك، والسدي، وقتادة، ومقاتل بن حَيَّان.
وقال عبد
الرحمن بن زيد بن أسلم: { هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ }
يعني: إبراهيم، وذلك لقوله: { رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ
وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكََ } [ البقرة: 128 ].
قال
ابن جرير: وهذا لا وجه له؛ لأنه من المعلوم أن إبراهيم لم يسمّ هذه الأمة
في القرآن مسلمين، وقد قال الله تعالى: { هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ
مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا } قال مجاهد: الله سماكم المسلمين من قبل في الكتب
المتقدمة وفي الذكر، { وَفِي هَذَا } يعني: القرآن. وكذا قال غيره.
قلت:
وهذا هو الصواب؛ لأنه تعالى قال: { هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ
عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } ، ثم حثهم وأغراهم على ما جاء به
الرسول، صلوات الله وسلامه عليه، بأنه ملة أبيهم إبراهيم الخليل، ثم ذكر
منته تعالى على هذه الأمة بما نَوّه به من ذكرها والثناء عليها في سالف
الدهر وقديم الزمان، في كتب الأنبياء، يتلى على الأحبار والرهبان، فقال: {
هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ } أي: من قبل هذا القرآن {
وَفِي هَذَا } ، وقد قال النسائي عند تفسير هذه الآية:
أنبأنا هشام بن
عمار، حدثنا محمد بن شُعَيب، أنبأنا معاوية بن سلام (3) أن أخاه زيد بن
سلام أخبره، عن أبي سلام أنه أخبره قال: أخبرني الحارث الأشعري، عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال: "من دعا بدعوى الجاهلية فإنه من جِثيّ جهنم" .
قال رجل: يا رسول الله، وإن صام وصلى؟ قال: "نعم، وإن صام وصلى، فادعوا
بدعوة الله التي سماكم بها المسلمين المؤمنين عباد الله" (4) .
وقد
قدمنا هذا الحديث بطوله عند تفسير قوله: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا
رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ
تَتَّقُونَ } من سورة البقرة [ الآية: 21]؛ ولهذا قال: { لِيَكُونَ
الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ }
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه برقم (3038) ومسلم في صحيحه برقم (1732).
(2) زيادة من ت، ف.
(3) في ت: "سالم".
(4) سنن النسائي الكبرى برقم (11349).
(5/456)
أي:
إنما جعلناكم هكذا أمة وسطا عُدولا (1) خيارا، مشهودا بعدالتكم عند جميع
الأمم، لتكونوا يوم القيامة { شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ } لأن جميع الأمم
معترفة يومئذ بسيادتها وفضلها (2) على كل أمة سواها؛ فلهذا تقبل شهادتهم
عليهم يوم القيامة، في أن الرسل بلغتهم رسالة ربهم، والرسول يشهد على هذه
الأمة أنه بلغها ذلك. وقد تقدم الكلام على هذا عند قوله: { وَكَذَلِكَ
جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ
وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } [ البقرة: 143 ]، وذكرنا حديث
نوح وأمته بما أغنى عن إعادته.
وقوله: { فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا
الزَّكَاةَ } أي: قابلوا هذه النعمة العظيمة بالقيام بشكرها، وأدوا حق الله
عليكم في أداء ما افترض، وطاعة ما أوجب، وترك ما حرم. ومن أهم ذلك إقامُ
الصلاة وإيتاءُ الزكاة، وهو الإحسان إلى خلق الله، بما أوجب، للفقير على
الغني، من إخراج جزء نزر من ماله في السَّنة للضعفاء والمحاويج، كما تقدم
بيانه وتفصيله في آية الزكاة من سورة "التوبة" (3) .
وقوله: {
وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ } أي: اعتضدوا بالله (4) ، واستعينوا به، وتوكلوا
(5) عليه، وتَأيَّدوا به، { هُوَ مَوْلاكُمْ } أي: حافظكم وناصركم
ومُظفركُم على أعدائكم، { فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ } يعني:
[نعم] (6) الولي ونعم الناصر من الأعداء.
قال وُهَيْب بن الورد: يقول
الله تعالى: ابن آدم، اذكرني إذا غضبتَ أذكرك إذا غضبتُ، فلا أمحقك فيمن
أمحق، وإذا ظُلمتَ فاصبر، وارض بنصرتي، فإن نصرتي لك خير من نصرتك لنفسك.
رواه ابن أبي حاتم.
والله تعالى أعلم وله الحمد والمنة، والثناء الحسن والنعمة، وأسأله التوفيق والعصمة، في سائر الأفعال والأقوال.
هذا
آخر تفسير سورة "الحج"، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم وشرف
وكرم، ورضي الله تعالى عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين (7) .
__________
(1) في أ: "عدلا".
(2) في أ: "بسيادتهم وفضلهم".
(3) انظر تفسير الآية: 60 من سورة التوبة.
(4) في أ: "به".
(5) في أ: "اتكلوا".
(6) زيادة من ت.
(7) في ت: "وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين، وحسبنا الله ونعم الوكيل".
(5/457)
==========
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق