تفسير سورة الحج من القرطبي
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ
زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ
مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى
النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ
شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ
يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (4) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ
كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ
مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ
مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى
أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ
مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا
يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا
أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ
زَوْجٍ بَهِيجٍ (5)
الحج - تفسير القرطبي
المجلد الثاني عشر
تفسير سورة الحج
...
الجزء 12 من الطبعة
سورة الحج/مقدمة السورة/وهي مكية، سوى ثلاث آيات: قوله تعالى: {هَذَانِ خَصْمَانِ}
[الحج: 19] إلى تمام ثلاث آيات، قاله ابن عباس ومجاهد. وعن ابن عباس أيضا
"أنهن أربع آيات"،إلى قوله {عَذَابَ الْحَرِيقِ} [الحج: 22] وقال الضحاك
وابن عباس أيضا: "هي مدنية" - وقاله قتادة - إلا أربع آيات: {وَمَا
أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ} [الحج: 52] إلى {عَذَابُ
يَوْمٍ عَقِيمٍ} [الحج: 55] فهن مكيات. وعد النقاش ما نزل بالمدينة عشر آيات. وقال
الجمهور: السورة مختلطة، منها مكي ومنها مدني. وهذا هو الأصح؛ لأن الآيات تقتضي
ذلك، لأن {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} مكي، و {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} مدني.
الغزنوي: وهي من أعاجيب السور، نزلت ليلا ونهارا، سفرا وحضرا، مكيا ومدنيا، سلميا
وحربيا، ناسخا ومنسوخا، محكما ومتشابها؛ مختلف العدد.
قلت: وجاء في فضلها ما رواه الترمذي وأبو داود والدارقطني
عن عقبة بن عامر قال قلت: يا رسول الله، فضلت سورة الحج بأن فيها سجدتين؟ قال: "نعم، ومن لم
يسجدهما فلا يقرأهما" . لفظ الترمذي. وقال: هذا حديث حسن ليس إسناده بالقوي.
واختلف أهل العلم في هذا؛ فروي عن عمر بن الخطاب - رضي الله
عنه - وابن عمر أنهما قالا: "فضلت سورة الحج بأن فيها سجدتين". وبه يقول
ابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق. ورأى بعضهم أن فيها سجدة واحدة؛ وهو قول سفيان
الثوري. روى الدارقطني عن عبد الله بن ثعلبة قال: رأيت عمر بن الخطاب سجد في الحج
سجدتين؛ قلت في الصبح؟ قال في الصبح.
(12/1)
الآية: 1 {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ
زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ}
روى الترمذي عن عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم
لما نزلت {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ
شَيْءٌ عَظِيمٌ - إلى قوله - وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} قال: أنزلت عليه هذا
الآية وهو في سفر فقال: "أتدرون أي يوم ذلك؟ فقالوا: الله ورسوله أعلم؛ قال:
ذاك يوم يقول الله لآدم ابعث بعث النار قال يا رب وما بعث النار قال تسعمائة وتسعة
وتسعون إلى النار وواحد إلى الجنة" . فأنشأ المسلمون يبكون؛ فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: "قاربوا وسددوا فإنه لم تكن نبوة قط إلا كان بين يديها
جاهلية - قال - فيؤخذ العدد من الجاهلية فإن تمت وإلا كملت من المنافقين وما مثلكم
والأمم إلا كمثل الرقمة في ذراع الدابة أو كالشامة في جنب البعير - ثم قال - إني
لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة - فكبروا؛ ثم قال - إني لأرجو أن تكونوا
ثلث أهل الجنة - فكبروا؛ ثم قال - إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة"
فكبروا. قال: لا أدري قال الثلثين أم لا. قال: هذا حديث حسن صحيح، قد روي من غير
وجه الحسن عن عمران بن حصين. وفيه:
فيئس القوم حتى ما أبدوا بضاحكة، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"اعملوا وأبشروا فوالذي نفسي بيده إنكم لمع خليقتين ما كانتا مع شيء إلا
كثرتاه يأجوج ومأجوج ومن مات من بني آدم وبني إبليس" قال: فسري عن القوم بعض
الذي يجدون؛ فقال: "اعملوا وأبشروا فوالذي نفس محمد بيده ما أنتم في الناس
إلا كالشامة في جنب البعير أو كالرقمة في ذراع الدابة" قال: هذا حديث حسن
صحيح. وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: "يقول الله تعالى يا آدم فيقول لبيك وسعديك والخير في يديك - قال
- يقول أخرج بعث النار قال وما بعث النار قال من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين
(12/2)
قال فذاك حين يشيب الصغير وتضع كل ذات حمل، حملها وترى
الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد". قال: فاشتد ذلك عليهم؛ قالوا: يا رسول
الله، أينا ذلك الرجل؟ فقال: "أبشروا فإن من يأجوج ومأجوج ألفا ومنكم
رجل". وذكر الحديث بنحو ما تقدم في حديث عمران بن حصين. وذكر أبو جعفر النحاس
قال: حدثنا أحمد بن محمد بن نافع قال حدثنا سلمة قال حدثنا عبد الرزاق قال أخبرنا
معمر عن قتادة عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا
رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ - إلى - وَلَكِنَّ عَذَابَ
اللَّهِ شَدِيدٌ} قال: نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مسير له، فرفع
بها صوته حتى ثاب إليه أصحابه فقال: "أتدرون أي يوم هذا هذا يوم يقول الله عز
وجل لآدم صلى الله عليه وسلم يا آدم قم فابعث بعث أهل النار من كل ألف تسعمائة
وتسعة وتسعون إلى النار وواحد إلى الجنة". فكبر ذلك على المسلمين؛ فقال النبي
صلى الله عليه وسلم: "سددوا وقاربوا وأبشروا فوالذي نفسي بيده ما أنتم في
الناس إلا كالشامة في جنب البعير أو كالرقمة في ذراع الحمار وإن معكم خليقتين ما
كانتا مع شيء إلا كثرتاه يأجوج ومأجوج ومن هلك من كفرة الجن والأنس".
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ} المراد بهذا
النداء المكلفون؛ أي اخشوه في أوامره أن تتركوها، ونواهيه أن تقدموا عليها.
والاتقاء: الاحتراس من المكروه؛ وقد تقدم في أول "البقرة" القول فيه
مستوفى، فلا معنى لإعادته. والمعنى: احترسوا بطاعته عن عقوبته.
قوله تعالى: {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ}
الزلزلة شدة الحركة؛ ومنه {وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ} [البقرة:
214]. وأصل الكلمة من زل عن الموضع؛ أي زال عنه وتحرك. وزلزل الله قدمه؛ أي حركها. وهذه اللفظة
تستعمل في تهويل الشيء. وقيل: هي الزلزلة المعروفة التي هي إحدى شرائط الساعة،
التي تكون في الدنيا قبل يوم القيامة؛ هذا قول الجمهور. وقد قيل: إن هذه الزلزلة تكون في النصف
من شهر رمضان، ومن بعدها طلوع الشمس من مغربها، فالله أعلم.
(12/3)
الآية: 2 {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ
عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ
سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ}
قوله تعالى: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا} الهاء في {تَرَوْنَهَا}
عائدة عند الجمهور على الزلزلة؛ ويقوي هذا قوله عز وجل: {تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا
أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا} والرضاع والحمل إنما هو في
الدنيا. وقالت فرقة: الزلزلة في يوم القيامة؛ واحتجوا بحديث عمران بن حصين الذي
ذكرناه، وفيه: "أتدرون أي يوم ذلك..." الحديث. وهو الذي يقتضيه سياق
مسلم في حديث أبي سعيد الخدري.
قوله: {تَذْهَلُ} أي تشتغل؛ قاله قطرب. وأنشد:
ضربا يزيل الهام عن مقيله ... ويذهل الخليل عن خليله
وقيل تنسى. وقيل تلهو؛ وقيل تسلو؛ والمعنى متقارب. {عَمَّا
أَرْضَعَتْ} قال المبرد: {ما} بمعنى المصدر؛ أي تذهل عن الإرضاع. قال: وهذا يدل
على أن هذه الزلزلة في الدنيا؛ إذ ليس بعد البعث حمل وإرضاع. إلا أن يقال: ما ماتت
حاملا تبعث حاملا فتضع حملها للهول. ومن ماتت مرضعة بعثت كذلك. ويقال: هذا كما قال
الله عز وجل: {يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً} [المزمل: 17]. وقيل: تكون مع
النفخة الأولى. وقيل: تكون مع قيام الساعة، حتى يتحرك الناس من قبورهم في النفخة
الثانية. ويحتمل أن تكون الزلزلة في الآية عبارة عن أهوال يوم القيامة؛ كما قال
تعالى: {مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا} [البقرة: 214].
وكما قال عليه السلام: "اللهم اهزمهم وزلزلهم". وفائدة ذكر هول ذلك
اليوم التحريض على التأهب له والاستعداد بالعمل الصالح. وتسمية الزلزلة بـ
"شيء" إما لأنها
(12/4)
حاصلة متيقن وقوعها، فيستسهل لذلك أن تسمى شيئا وهي
معدومة؛ إذ اليقين يشبه الموجدات. وإما على المآل؛ أي هي إذا وقعت شيء عظيم. وكأنه
لم يطلق الاسم الآن، بل المعنى أنها إذا كانت فهي إذا شيء عظيم، ولذلك تذهل
المراضع وتسكر الناس؛ كما قال:
قوله تعالى: {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى} أي من هولها ومما
يدركهم من الخوف والفزع. {وَمَا هُمْ بِسُكَارَى} من الخمر. وقال أهل المعاني:
وترى الناس كأنهم سكارى. يدل عليه قراءة أبي زرعة هرم بن عمرو بن جرير بن عبد الله
{وَتَرَى النَّاسَ} بضم التاء؛ أي تظن ويخيل إليك. وقرأ حمزة والكسائي {سكرى} بغير
ألف. الباقون {سُكارى} وهما لغتان لجمع سكران؛ مثل كسلى وكسالى. والزلزلة: التحريك
العنيف. والذهول. الغفلة عن الشيء بطروء ما يشغل عنه من هم أو وجع أو غيره. قال
ابن زيد: المعنى تترك ولدها للكرب الذي نزل بها.
الآية: 3 {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ
بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ}
الآية: 4 {كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى
عذاب السعير}
قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ
بِغَيْرِ عِلْمٍ} قيل:
المراد النضر بن الحارث، قال: إن الله عز وجل غير قادر على إحياء من قد بلي وعاد
ترابا. {وَيَتَّبِعُ} أي في قوله ذلك. {كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ} متمرد. {كُتِبَ
عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ} قال قتادة ومجاهد: أي من تولى الشيطان.
{فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ}.
الآية: 5 {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ
مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ
مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ
لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً ثُمَّ
نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى
وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مَنْ بَعْدِ
عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا
الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ}
(12/5)
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي
رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ – إلى قوله – مُسَمّىً}
فيه اثنتا عشرة مسألة:-
الألى: قوله
تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ} هذا احتجاج على العالم بالبداءة
الأولى. وقوله: {إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ} متضمنة التوقيف. وقرأ الحسن بن أبي
الحسن {البَعَث} بفتح العين؛ وهي لغة في {الْبَعْثِ} عند البصريين. وهي عند
الكوفيين بتخفيف {بَعَث}. والمعنى: يا أيها الناس إن كنتم في شك من الإعادة.
{فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ} أي خلقنا أباكم الذي هو أصل البشر، يعني آدم عليه السلام
{مِنْ تُرَابٍ} . {ثُمَّ} خلقنا
ذريته. {مِنْ نُطْفَةٍ} وهو المني؛ سمي نطفة لقلته، وهو القليل من الماء، وقد يقع
على الكثير منه؛ ومنه الحديث "حتى يسير الراكب بين النطفتين لا يخشى
جورا" . أراد بحر المشرق وبحر المغرب. والنطف: القطر. نطف ينطف وينطف. وليلة
نطوفة دائمة القطر. {ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ} وهو الدم الجامد. والعلق الدم العبيط؛ أي الطري. وقيل:
الشديد الحمرة. {ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ} وهي لحمة قليلة قدر ما يمضغ؛ ومنه الحديث
"ألا وإن في الجسد مضغة" . وهذه الأطوار أربعة أشهر. قال ابن عباس:
"وفي العشر بعد الأشهر الأربعة ينفخ فيه الروح"، فذلك عدة المتوفى عنها
زوجها؛ أربعة أشهر وعشر.
الثانية: روى يحيى بن زكريا بن أبي زائدة حدثنا داود عن
عامر عن علقمة عن ابن مسعود وعن ابن عمر أن النطفة إذا استقرت في الرحم أخذها ملك
بكفه فقال: "يا رب، ذكر أم أنثى، شقي أم سعيد، ما الأجل والأثر، بأي أرض
تموت؟ فيقال له انطلق إلى
(12/6)
أم الكتاب فإنك تجد فيها قصة هذه النطفة، فينطلق فيجد
قصتها في أم الكتاب، فتخلق فتأكل رزقها وتطأ أثرها فإذا جاء أجلها قبضت فدفنت في
المكان الذي قدر لها؛ ثم قرأ عامر {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي
رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ}. وفي الصحيح عن أنس بن
مالك - ورفع الحديث - قال: "إن الله قد وكل بالرحم ملكا فيقول أي رب نطفة. أي
رب علقة. أي رب مضغة. فإذا أراد الله أن يقضي خلقا قال قال الملك أي رب ذكر أو
أنثى شقي أو سعيد. فما الرزق فما الأجل. فيكتب كذلك في بطن أمه". وفي الصحيح
أيضا عن حذيفة بن أسيد الغفاري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"إذا مر بالنطفة اثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكا فصورها وخلق سمعها
وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها ثم يقول أي رب أذكر أم أنثى..." وذكر الحديث.
وفي الصحيح عن عبد الله بن مسعود قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو
الصادق المصدوق "إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما ثم يكون في ذلك
علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع
كلمات بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد..." الحديث. فهذا الحديث مفسر
للأحاديث الأول؛ فإنه فيه: "يجمع أحدكم في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم
أربعين يوما علقة ثم أربعين يوما مضغة ثم يبعث الملك فينفخ فيه الروح" فهذه
أربعة أشهر وفي العشر ينفخ الملك الروح، وهذه عدة المتوفى عنها زوجها كما قال ابن
عباس. وقوله: "إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه" قد فسره ابن مسعود، سئل
الأعمش: ما يجمع في بطن أمه؟ فقال: حدثنا خيثمة قال قال عبد الله: إذا وقعت
النطفة في الرحم فأراد أن يخلق منها بشرا طارت في بشرة المرأة تحت كل ظفر وشعر ثم
تمكث أربعين يوما ثم تصير دما في الرحم؛ فذلك جمعها، وهذا وقت كونها علقة.
الثالثة: نسبة الخلق والتصوير للملك نسبة مجازية لا
حقيقية، وأن ما صدر عنه فعل ما في المضغة كان عند التصوير والتشكيل بقدرة الله
وخلقه واختراعه؛ ألا تراه
(12/7)
سبحانه قد أضاف إليه الخلقة الحقيقية، وقطع عنها نسب جميع
الخليقة فقال: {وَلَقَدْ
خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} [الأعراف: 11]. وقال: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ
سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ. ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} [المؤمنون:
12 - 13]. وقال: {يَا
أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ
مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ} . وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ
فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [التغابن: 2]. ثم قال: {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ
صُوَرَكُمْ} [غافر: 64]. وقال: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ
تَقْوِيمٍ} [التين: 4]. وقال:
{خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} [العلق: 2]. إلى غير ذلك
من الآيات، مع ما دلت عليه قاطعات البراهين أن لا خالق لشيء من المخلوقات إلا رب العالمين.
وهكذا القول في قوله: "ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح" أي أن النفخ سبب
خلق الله فيها الروح والحياة. وكذلك القول في سائر الأسباب المعتادة؛ فإنه بإحداث
الله تعالى لا بغيره. فتأمل هذا الأصل وتمسك به، ففيه النجاة من مذاهب أهل الضلال
الطبعيين وغيرهم.
الرابعة: لم يختلف العلماء أن نفخ الروح فيه يكون بعد مائة
وعشرين يوما، وذلك تمام أربعة أشهر ودخوله في الخامس؛ كما بيناه بالأحاديث. وعليه
يعول فيما يحتاج إليه من الأحكام في الاستلحاق عند التنازع، وفي وجوب النفقات على
حمل المطلقات؛ وذلك لتيقنه بحركة الجنين في الجوف. وقد قيل: إنه الحكمة في عدة
المرأة من الوفاة بأربعة أشهر وعشر، وهذا الدخول في الخامس يحقق براءة الرحم ببلوغ
هذه المدة إذا لم يظهر حمل.
الخامسة: النطفة ليست بشيء يقينا، ولا يتعلق بها حكم إذا
ألقتها المرأة إذا لم تجتمع في الرحم، فهي كما لو كانت في صلب الرجل؛ فإذا طرحته
علقة فقد تحققنا أن النطفة قد استقرت واجتمعت واستحالت إلى أول أحوال يتحقق به أنه
ولد. وعلى هذا فيكون وضع العلقة فما فوقها من المضغة وضع حمل، تبرأ به الرحم،
وتنقضي به العدة، ويثبت به لها حكم أم الولد. وهذا مذهب مالك رضي الله عنه
وأصحابه. وقال الشافعي رضي الله عنه:
(12/8)
لا اعتبار بإسقاط العلقة، وإنما الاعتبار بظهور الصورة
والتخطيط؛ فإن خفي التخطيط وكان لحما فقولان بالنقل والتخريج، والمنصوص أنه تنقضي
به العدة ولا تكون أم ولد. قالوا: لأن العدة تنقضي بالدم الجاري، فبغيره أولى.
السادسة: قوله تعالى: {مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ
مُخَلَّقَةٍ} قال الفراء: {مُخَلَّقَةٍ}
تامة الخلق، {وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} السقط. وقال ابن الأعرابي: {مُخَلَّقَةٍ} قد
بدأ خلقها، {وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} لم تصور بعد. ابن زيد: المخلقة التي خلق الله
فيها الرأس واليدين والرجلين، {وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} التي لم يخلق فيها
شيء. قال ابن العربي: إذا رجعنا إلى أصل الاشتقاق فإن النطفة والعلقة والمضغة
مخلقة؛ لأن الكل خلق الله تعالى، وإن رجعنا إلى التصوير الذي هو منتهى الخلقة كما
قال الله تعالى: {ثُمَّ
أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ} [المؤمنون: 14] فذلك ما قال ابن زيد. قلت: التخليق من
الخلق، وفيه معنى الكثرة، فما تتابع عليه الأطوار فقد خلق خلقا بعد خلق، وإذا كان
نطفة فهو مخلوق؛ ولهذا قال الله تعالى: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ}
[المؤمنون: 14] والله أعلم. وقد قيل: إن قوله: {مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ}
يرجع إلى الولد بعينه لا إلى السقط؛ أي منهم من يتم الرب سبحانه مضغته فيخلق له
الأعضاء أجمع، ومنهم من يكون خديجا ناقصا غير تمام. وقيل: "المخلقة أن تلد
المرأة لتمام الوقت". ابن
عباس: المخلقة ما كان حيا، وغير المخلقة السقط. قال:
أفي غير المخلقة البكاء ... فأين الحزم ويحك والحياء
السابعة: أجمع العلماء على أن الأمة تكون أم ولد
بما تسقطه من ولد تام الخلق. وعند مالك والأوزاعي وغيرهما بالمضغة كانت مخلقة أو
غير مخلقة. قال مالك: إذا علم أنها مضغة. وقال الشافعي وأبو حنيفة: إن كان قد تبين
له شيء من خلق بني آدم أصبع أو عين أو غير ذلك فهي له أم ولد. وأجمعوا على أن
المولود إذا استهل صارخا يصلى عليه؛ فإن لم يستهل صارخا لم يصل عليه عند مالك وأبي
حنيفة والشافعي وغيرهم. وروي عن ابن عمر أنه يصلى عليه؛ وقال ابن المسيب وابن
سيرين وغيرهما. وروي عن المغيرة بن شعبة أنه
(12/9)
"كان يأمر بالصلاة على السقط، ويقول سموهم واغسلوهم وكفنوهم
وحنطوهم؛ فإن الله أكرم بالإسلام كبيركم وصغيركم، ويتلو هذه الآية {فَإِنَّا
خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ - إلى - وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} ." قال ابن
العربي: لعل المغيرة بن شعبة أراد بالسقط ما تبين خلقه فهو الذي يسمى، وما لم
يتبين خلقه فلا وجود له. وقال بعض السلف: يصلى عليه متى نفخ فيه الروح وتمت له
أربعة أشهر. وروى أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: "إذا
استهل المولود ورث" . الاستهلال: رفع الصوت؛ فكل مولود كان ذلك منه أو حركة
أو عطاس أو تنفس فإنه يورث لوجود ما فيه من دلالة الحياة. وإلى هذا ذهب سفيان
الثوري والأوزاعي والشافعي. قال الخطابي: وأحسنه قول أصحاب الرأي. وقال مالك: لا
ميراث له وإن تحرك أو عطس ما لم يستهل. وروي عن محمد بن سيرين والشعبي والزهري
وقتادة.
الثامنة: قال مالك رضي الله عنه: ما طرحته المرأة من مضغة
أو علقة أو ما يعلم أنه ولد إذا ضرب بطنها ففيه الغرة. وقال الشافعي: لا شيء فيه
حتى يتبين من خلقه. قال مالك: إذا سقط الجنين فلم يستهل صارخا ففيه الغرة. وسواء
تحرك أو عطس فيه الغرة أبدا، حتى يستهل صارخا ففيه الدية كاملة. وقال الشافعي رضي
الله عنه وسائر فقهاء الأمصار: إذا علمت حياته بحركة أو بعطاس أو باستهلاك أو بغير
ذلك مما تستيقن به حياته ففيه الدية.
التاسعة: ذكر القاضي إسماعيل أن عدة المرأة تنقضي بالسقط
الموضوع، واحتج عليه بأنه حمل، وقال قال الله تعالى: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ
يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} . قال القاضي إسماعيل: والدليل على ذلك أنه يرث أباه، فدل
على وجوده خلقا وكونه ولدا وحملا. قال ابن العربي: ولا يرتبط به شيء من هذه
الأحكام إلا أن يكون مخلقا.
قلت: ما ذكرناه من الاشتقاق وقول عليه الصلاة والسلام:
"إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه" يدل على صحة ما قلناه، ولأن مسقطة
العلقة والمضغة يصدق على المرأة إذا
(12/10)
ألقته أنها كانت حاملا وضعت ما استقر في رحمها، فيشملها
قوله تعالى: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}
[الطلاق: 4] ولأنها وضعت مبدأ الولد عن نطفة متجسدا كالمخطط، وهذا بين.
العاشرة: روى ابن ماجه حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا
خالد بن مخلد حدثنا يزيد عن عبد الملك النوفلي عن يزيد بن رومان عن أبي هريرة قال
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لسقط أقدمه بين يدي أحب إلي من فارس
أخلفه [خلفي]". وأخرجه الحاكم في معرفة علوم الحديث له عن سهيل بن أبي صالح
عن أبيه عن أبي هريرة فقال: "أحب إلي من ألف فارس أخلفه ورائي".
الحادية عشرة: {لِنُبَيِّنَ لَكُمْ} يريد: كمال قدرتنا
بتصريفنا أطوار خلقكم. {وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ} قرئ بنصب {نقِر} و {نخرج} ، رواه أبو حاتم عن أبي زيد عن المفضل عن عاصم قال قال أبو حاتم:
النصب على العطف. وقال الزجاج: {نقر} بالرفع لا غير؛ لأنه ليس المعنى: فعلنا ذلك
لنقر في الأرحام ما نشاء، وإنما خلقهم عز وجل ليدلهم على الرشد والصلاح. وقيل: المعنى لنبين
لهم أمر البعث؛ فهو اعتراض بين الكلامين. وقرأت هذه الفرقة بالرفع {ونقرُّ} ؛
المعنى: ونحن نقر. وهي قراءة الجمهور. وقرئ: {ويقر} و {يخرجكم} بالياء، والرفع على هذا سائغ.
وقرأ. ابن وثاب {ما نِشاء} بكسر النون. والأجل المسمى يختلف بحسب جنين جنين؛ فثم
من يسقط وثم من يكمل أمره ويخرج حيا. وقال {مَا نَشَاءُ} ولم يقل من نشاء لأنه
يرجع إلى الحمل؛ أي يقر في الأرحام ما نشاء من الحمل ومن المضغة وهي جماد فكنى
عنها بلفظ ما.
الثانية عشرة: قوله تعالى: {ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً}
أي أطفالا؛ فهو اسم جنس. وأيضا
فإن العرب قد تسمي الجمع باسم الواحد؛ قال الشاعر:
يلحينني في حبها ويلمنني ... إن العواذل ليس لي بأمير
(12/11)
ولم يقل أمراء. وقال المبرد: وهو اسم يستعمل مصدرا كالرضا
والعدل، فيقع على الواحد والجمع؛ قال الله تعالى: {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ
يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} [النور: 31]. وقال الطبري: وهو نصب على التمييز،
كقوله تعالى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً} [النساء: 4].
وقيل: المعنى ثم نخرج كل واحد منكم طفلا. والطفل يطلق من وقت انفصال الولد إلى
البلوغ. وولد كل وحشية أيضا طفل. ويقال: جارية طفل، وجاريتان طفل وجوار طفل، وغلام
طفل، وغلمان طفل. ويقال أيضا: طفل وطفلة وطفلان وطفلتان وأطفال. ولا يقال: طفلات.
وأطفلت المرأة صارت ذات طفل. والمطفلة:
الظبية معها طفلها، وهي قريبة عهد بالنتاج. وكذلك الناقة، [والجمع] مطافل ومطافيل. والطفل
"بالفتح في الطاء" الناعم؛ يقال: جارية طفلة أي ناعمة، وبنان طفل. وقد
طفل الليل إذا أقبل ظلامه. والطفل "بالتحريك": بعد العصر إذا طفلت
الشمس للغروب. والطفل "أيضا": مطر؛ قال:
لوهد جاده طفل الثريا
قوله تعالى: {ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ} قيل: إن
{ثُمَّ} زائدة كالواو في قوله: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا}
[الزمر: 73]؛ لأن ثم من حروف النسق كالواو. {أَشُدَّكُمْ} كمال عقولكم ونهاية
قواكم. وقد مضى في "الأنعام" بيانه. {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى
أَرْذَلِ الْعُمُرِ} أي أخسه وأدونه، وهو الهرم والخرف حتى لا يعقل؛ ولهذا قال: {لِكَيْ لا
يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً} كما قال في سورة يس: {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ
نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ} [يس: 68]. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو فيقول:
"اللهم إني أعوذ بك من البخل وأعوذ بك من الجبن وأعوذ بك أن أرد إلى أرذل
العمر وأعوذ بك من فتنة الدنيا وعذاب القبر". أخرجه النسائي عن سعد، وقال: وكان يعلمهن
بنيه كما يعلم المكتب الغلمان. وقد
مضى في النحل هذا المعنى.
(12/12)
قوله تعالى: {وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً} ذكر دلالة أقوى
على البعث فقال في الأول: {فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ} فخاطب جمعا. وقال
في الثاني: {وَتَرَى الْأَرْضَ} فخاطب واحدا، فانفصل اللفظ عن اللفظ، ولكن المعنى
متصل من حيث الاحتجاج على منكري البعث. {هَامِدَةً} يابسة لا تنبت شيئا؛ قال ابن
جريج. وقيل:
دارسة. والهمود الدروس. قال الأعشى:
قالت قتيلة ما لجسمك شاحبا ... وأرى ثيابك باليات همدا
الهروي: {هَامِدَةً} أي جافة ذات تراب. وقال شمر:
يقال: همد شجر الأرض إذا بلي وذهب. وهمدت أصواتهم إذا سكنت. وهمود الأرض ألا يكون
فيها حياة ولا نبت ولا عود ولم يصبها مطر. وفي الحديث: "حتى كاد يهمد من
الجوع" أي يهلك. يقال: همد
الثوب يهمد إذا بلي. وهمدت النار تهمد.
قوله تعالى: {فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ
اهْتَزَّتْ} أي تحركت. والاهتزاز: شدة الحركة؛ يقال: هززت الشيء فاهتز؛ أي حركته
فتحرك. وهز الحادي الإبل هزيزا فاهتزت هي إذا تحركت في سيرها بحدائه. واهتز الكوكب
في انقضاضه. وكوكب هاز. فالأرض
تهتز بالنبات؛ لأن النبات لا يخرج منها حتى يزيل بعضها من بعض إزالة خفية؛ فسماه
اهتزازا مجازا. وقيل: اهتز نباتها، فحذف المضاف؛ قال المبرد، واهتزازه شدة حركته،
كما قال الشاعر:
تثنى إذا قامت وتهتز إن مشت ... كما اهتز غصن البان في ورق
خضر
والاهتزاز في النبات أظهر منه في الأرض. {وَرَبَتْ} أي
ارتفعت وزادت. وقيل: انتفخت؛ والمعنى واحد، وأصله الزيادة. ربا الشيء يربو ربوا أي
زاد؛ ومنه الربا والربوة. وقرأ يزيد بن القعقاع وخالد بن إلياس {وَرَبَأتْ} أي
ارتفعت حتى صارت بمنزلة الربيئة، وهو الذي يحفظ القوم على شيء مشرف؛ فهو رابئ
وربيئة على المبالغة. قال امرؤ القيس:
(12/13)
بعثنا ربيئا قبل ذاك مخملا ... كذئب الغضا يمشي الضراء
ويتقي
{وَأَنْبَتَتْ} أي أخرجت. {مِنْ كُلِّ زَوْجٍ} أي لون.
{بَهِيجٍ} أي حسن؛ عن قتادة. أي يبهج من يراه. والبهجة الحسن؛ يقال: رجل ذو بهجة.
وقد بهج "بالضم" بهاجة وبهجة فهو بهيج. وأبهجني أعجبني بحسنه. ولما وصف
الأرض بالإنبات دل على أن قوله: {اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} يرجع إلى الأرض لا إلى
النبات. والله أعلم.
=====
الحج - تفسير القرطبي
الآيتان: 6 - 7 {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ
وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَأَنَّ
السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي
الْقُبُورِ}
قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} لما
ذكر افتقار الموجودات إليه وتسخيرها على وفق اقتداره واختياره في قوله: {يَا
أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ - إلى قوله -
بَهِيجٍ}. قال بعد ذلك: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي
الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ
فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} . فنبه سبحانه وتعالى بهذا
على أن كل ما سواه وإن كان موجودا حقا فإنه لا حقيقة له من نفسه؛ لأنه مسخر مصرف.
والحق الحقيقي: هو الموجود المطلق الغني المطلق؛ وأن وجود كل ذي وجود عن وجوب
وجوده؛ ولهذا قال في آخر السورة: {وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ
الْبَاطِلُ} [الحج:
62]. والحق الموجود الثابت الذي لا يتغير ولا يزول، وهو الله تعالى. وقيل: ذو الحق
على عباده. وقيل:
الحق بمعنى في أفعاله. وقال الزجاج: {ذَلِكَ} في موضع رفع؛ أي الأمر ما وصف لكم
وبين. {بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} أي لأن الله هو الحق. وقال: ويجوز أن يكون
(12/14)
{ذَلِكَ} نصبا؛ أي فعل الله ذلك بأنه هو الحق. {وَأَنَّهُ
يُحْيِي الْمَوْتَى} أي بأنه {وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي وبأنه
قادر على ما أراد. {وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ} عطف على قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ
هُوَ الْحَقُّ} من حيث اللفظ، وليس عطفا في المعنى؛ إذ لا يقال فعل الله ما ذكر
بأن الساعة آتية، بل لابد من إضمار فعل يتضمنه؛ أي وليعلموا أن الساعة آتية {لا
رَيْبَ فِيهَا} أي لا شك. {وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} يريد
للثواب والعقاب.
الآيات: 8 - 10 {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي
اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ، ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ
عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
عَذَابَ الْحَرِيقِ، ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ
بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ}
قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ
بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ} أي نير بين الحجة. نزلت في النضر بن
الحارث. وقيل: في أبي جهل بن هشام؛ قال ابن عباس. "والمعظم على أنها نزلت في
النضر بن الحارث كالآية الأولى، فهما في فريق واحد، والتكرير للمبالغة في الذم؛
كما تقول للرجل تذمه وتوبخه: أنت
فعلت هذا! أنت فعلت هذا! ويجوز أن يكون التكرير لأنه وصفه في كل آية بزيادة؛ فكأنه
قال: إن النضر بن الحارث يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد، والنضر بن
الحارث يجادل في الله من غير علم ومن غير هدى وكتاب منير؛ ليضل عن سبيل
الله". وهو كقولك: زيد يشتمني وزيد يضربني؛ وهو تكرار مفيد؛ قال القشيري. وقد
قيل: نزلت فيه بضع عشرة آية. فالمراد بالآية الأولى إنكاره البعث، وبالثانية
إنكاره النبوة، وأن القرآن منزل من جهة الله. وقد قيل: كان من قول النضر بن الحارث
أن الملائكة بنات الله، وهذا جدال في الله تعالى: {مَنْ} في موضع رفع بالابتداء.
والخبر في قوله: {وَمِنَ النَّاسِ}. {ثَانِيَ عِطْفِهِ} نصب على الحال. ويتأول على
معنيين: أحدهما: روي
عن ابن عباس أنه قال: "هو النضر بن الحارث،
(12/15)
لوى عنقه مرحا وتعظما. والمعنى الآخر: وهو قول الفراء: أن
التقدير: ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ثاني عطفه، أي معرضا عن الذكر؛ ذكره
النحاس. وقال مجاهد وقتادة: لاويا عنقه كفرا. ابن عباس: معرضا عما يدعى إليه كفرا. والمعنى واحد.
وروى الأوزاعي عن مخلد بن حسين عن هشام بن حسان عن ابن عباس في قوله عز وجل:
{ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} قال: هو صاحب البدعة. المبرد": العطف ما
انثنى من العنق. وقال المفضل: والعطف الجانب؛ ومنه قولهم: فلان ينظر في أعطافه، أي
في جوانبه. وعطفا الرجل من لدن رأسه إلى وركه. وكذلك عطفا كل شيء جانباه. ويقال:
ثنى فلان عني عطفه إذا أعرض عنك. فالمعنى: أي هو معرض عن الحق في جداله ومول عن
النظر في كلامه؛ وهو كقوله تعالى: {وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا} [لقمان: 7].
وقوله تعالى: {لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ} [المنافقون: 5]. وقوله: {أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ} [الإسراء:
83]. وقوله: {ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى} [القيامة: 33]. {لِيُضِلَّ
عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} أي عن طاعة الله تعالى. وقرئ {لِيَضِل} بفتح الياء. واللام
لام العاقبة؛ أي يجادل فيضل؛ كقوله تعالى: {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً}
[القصص: 8]. أي
فكان لهم كذلك. ونظيره {إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ.
لِيَكْفُرُوا } [النحل: 54 - 55]. {لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ} أي هوان وذل بما
يجري له من الذكر القبيح على ألسنة المؤمنين إلى يوم القيامة؛ كما قال: {وَلا
تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ} [القلم: 10] الآية. وقوله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا
أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد: 1]. وقيل: الخزي ههنا القتل؛ فإن النبي صلى
الله عليه وسلم قتل النضر بن الحارث يوم بدر صبرا؛ كما تقدم في آخر الأنفال.
{وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ} أي نار جهنم. {ذَلِكَ بِمَا
قَدَّمَتْ يَدَاكَ} أي يقال له في الآخرة إذا دخل النار: ذلك العذاب بما قدمت يداك
من المعاصي والكفر. وعبر باليد عن الجملة؛
لأن اليد التي تفعل وتبطش للجملة. و {ذَلِكَ} بمعنى هذا،
كما تقدم في أول البقرة.
(12/16)
الآية:
11 {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعبد اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ
أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ
خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}
قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعبد اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ}
{مِنَ} في موضع رفع بالابتداء، والتمام {انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ} على قراءة
الجمهور {خَسِرَ}. وهذه الآية خبر عن المنافقين. قال ابن عباس: يريد شيبة بن
ربيعة كان قد أسلم قبل أن يظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلما أوحى إليه ارتد
شيبة بن ربيعة. وقال أبو سعيد الخدري: أسلم رجل من اليهود فذهب بصره وماله؛ فتشاءم
بالإسلام فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال أقلني! فقال: "إن الإسلام لا
يقال" فقال: إني لم أصب في ديني هذا خيرا! ذهب بصري ومالي وولدي! فقال:
"يا يهودي إن الإسلام يسبك الرجال كما تسبك النار خبث الحديد والفضة
والذهب" ؛ فأنزل الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعبد اللَّهَ عَلَى
حَرْفٍ}. وروى إسرائيل عن أبي حصين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: "ومن
الناس من يعبد الله على حرف" قال: كان الرجل يقدم المدينة فإن ولدت امرأته
غلاما ونتجت خيله قال هذا دين صالح؛ فإن لم تلد امرأته ولم تنتج خيله قال هذا دين
سوء". وقال المفسرون: نزلت في أعراب كانوا يقدمون على النبي صلى الله عليه
وسلم فيسلمون؛ فإن نالوا رخاء أقاموا، وإن نالتهم شدة ارتدوا. وقيل نزلت في النضر
بن الحارث. وقال ابن زيد وغيره: نزلت في المنافقين. ومعنى {عَلَى حَرْفٍ} على شك؛
قاله مجاهد وغيره. وحقيقته أنه على ضعف في عبادته، كضعف القائم على حرف مضطرب فيه. وحرف كل شيء
طرفه وشفيره وحده؛ ومنه حرف الجبل، وهو أعلاه المحدد. وقيل: {عَلَى حَرْفٍ} أي على وجه واحد، وهو أن
يعبده على السراء دون الضراء؛ ولو عبد وا الله على الشكر في السراء والصبر على
الضراء لما عبد وا الله على حرف. وقيل: {عَلَى حَرْفٍ} على شرط؛ وذلك أن شيبة بن
ربيعة قال للنبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يظهر أمره: ادع لي ربك أن يرزقني مالا
وإبلا
(12/17)
وخيلا وولدا حتى أومن بك وأعدل إلى دينك؛ فدعا له فرزقه
الله عز وجل ما تمنى؛ ثم أراد الله عز وجل فتنته واختباره وهو أعلم به فأخذ منه ما
كان رزقه بعد أن أسلم فارتد عن الإسلام فأنزل الله تبارك وتعالى فيه: {وَمِنَ
النَّاسِ مَنْ يَعبد اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} يريد شرط. وقال الحسن: هو المنافق يعبد
الله بلسانه دون قلبه. وبالجملة فهذا الذي يعبد الله على حرف ليس داخلا بكليته؛
وبين هذا بقوله: {فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ} صحة جسم ورخاء معيشة رضي وأقام على
دينه. {وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ} أي خلاف ذلك مما يختبر به. {انْقَلَبَ عَلَى
وَجْهِهِ} أي ارتد فرجع إلى وجهه الذي كان عليه من الكفر. {خَسِرَ الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} قرأ مجاهد وحميد بن قيس
والأعرج والزهري وابن أبي إسحاق - وروي عن يعقوب – {خاسِرَ الدنيا} بألف، نصبا على
الحال، وعليه فلا يوقف على {وَجْهِهِ}.
وخسرانه الدنيا بأن لاحظ في غنيمة ولا ثناء، والآخرة بأن لا ثواب له فيها.
الآية: 12 {يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ
وَمَا لا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ}
قوله تعالى: {يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي هذا الذي
يرجع إلى الكفر يعبد الصنم الذي ولا ينفع ولا يضر. {ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ}
قال الفراء: الطويل.
الآية: 13 {يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ
لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ}
قوله تعالى: {يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ
نَفْعِهِ} أي هذا الذي انقلب على وجهه يدعو من ضره أدنى من نفعه؛ أي في الآخرة
لأنه بعبادته دخل النار، ولم ير منه نفعا أصلا، ولكنه قال: ضره أقرب من نفعه
ترفيعا للكلام؛ كقوله تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي
ضَلالٍ مُبِينٍ} [سبأ: 24]. وقيل: يعبدونهم توهم أنهم يشفعون لهم غدا؛
(12/18)
كما قال الله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ
مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ
اللَّهِ} [يونس:
18]. وقال تعالى: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ
زُلْفَى} [الزمر: 3]. وقال الفراء والكسائي والزجاج: معنى الكلام القسم والتأخير؛
أي يدعو والله لمن ضره أقرب من نفعه. فاللام مقدمه في غير موضعها. و {مَن} في موضع
نصب بـ {يدعو} واللام جواب القسم. و {ضَرُّه} مبتدأ. و {أَقْرَبُ} خبره. وضعف النحاس
تأخير الكلام وقال: وليس للام من التصرف ما يوجب أن يكون فيها تقديم ولا تأخير.
قلت: حق اللام التقديم وقد تؤخر؛ قال الشاعر:
خالي لأنت ومن جرير خال ... ينل العلاء ويكرم الأخوالا
أي لخالي أنت؛ وقد تقدم. النحاس: وحكى لنا علي بن سليمان
عن محمد بن يزيد قال: في الكلام حذف؛ والمعنى يدعو لمن ضره أقرب من نفعه إلها. قال
النحاس: وأحسب
هذا القول غلطا على محمد بن يزيد؛ لأنه لا معنى له، لأن ما بعد اللام مبتدأ فلا
يجوز نصب إله، وما أحسب مذهب محمد بن يزيد إلا قول الأخفش، وهو أحسن ما قيل في
الآية عندي، والله أعلم، قال: {يدعو} بمعنى يقول. و {من} مبتدأ وخبره محذوف، والمعنى يقول لمن ضره
أقرب من نفعه إلهه.
قلت: وذكر هذا القول القشيري رحمه الله عن الزجاج والمهدوي
عن الأخفش، وكمل إعرابه فقال: {يدعو} بمعنى يقول، و {من} مبتدأ، و {ضَرُّهُ} مبتدأ
ثان، و {أَقْرَبُ}
خبره، والجملة صلة {مَن} ، وخبر {من} محذوف، والتقدير يقول لمن ضره أقرب من نفعه
إلهه؛ ومثله قول عنترة:
يدعون عنتر والرماح كأنها ... أشطان بئر في لبان الأدهم
قال القشيري: والكافر الذي يقول الصنم معبودي لا يقول ضره
أقرب من نفعه؛ ولكن المعنى يقول الكافر لمن ضره أقرب من نفعه في قول المسلمين
معبودي وإلهي. وهو
كقوله
(12/19)
تعالى: {يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ}
[الزخرف: 49]؛ أي يا أيها الساحر عند أولئك الذين يدعونك ساحرا. وقال الزجاج:
يجوز أن يكون {يَدْعُو} في موضع الحال، وفيه هاء محذوفة؛ أي ذلك هو الضلال البعيد
يدعوه، أي في حال دعائه إياه؛ ففي {يَدْعُو} هاء مضمرة، ويوقف على هذا على
{يَدْعُو}. وقوله: {لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ} كلام مستأنف مرفوع
بالابتداء، وخبره {لَبِئْسَ الْمَوْلَى} وهذا لأن اللام لليمين والتوكيد فجعلها
أول الكلام. قال الزجاج: ويجوز أن يكون "ذلك" بمعنى الذي، ويكون في محل
النصب بوقوع {يَدْعُو} عليه؛ أي الذي هو الضلال البعيد يدعو؛ كما قال: {وَمَا
تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} أي ما الذي. ثم قوله : {لَمَنْ ضَرُّهُ} كلام
مبتدأ، و {لَبِئْسَ الْعَشِيرُ} خبر المبتدأ؛ وتقدير الآية على هذا: يدعو
الذي هو الضلال البعيد؛ قدم المفعول وهو الذي؛ كما تقول: زيدا يضرب؛ واستحسنه أبو
علي. وزعم الزجاج أن النحويين أغفلوا هذا القول؛ وأنشد:
عدس ما لعباد عليك إمارة ... نجوت وهذا تحملين طليق
أي والذي. وقال الزجاج أيضا والفراء: يجوز أن يكون
{يَدْعُو} مكررة على ما قبلها، على جهة تكثير هذا الفعل الذي هو الدعاء، ولا تعديه
إذ قد عديته أولا؛ أي يدعو من دون الله ما لا ينفعه ولا يضره يدعو؛ مثل ضربت زيدا
ضربت، ثم حذفت يدعو الآخرة اكتفاء بالأولى. قال الفراء: ويجوز {لِمَنْ ضَرُّهُ} بكسر اللام؛ أي
يدعو إلى من ضره أقرب من نفعه، قال الله عز وجل: {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا}
أي إليها. وقال الفراء أيضا والقفال: اللام صلة؛ أي يدعو من ضره أقرب من نفعه؛ أي
يعبده. وكذلك هو في قراءة عبد الله بن مسعود. {لَبِئْسَ الْمَوْلَى} أي في التناصر
{وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} أي المعاشر والصاحب والخليل. مجاهد: يعني الوثن
(12/20)
الآية: 14 {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ
إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ}
قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} لما ذكر حال المشركين وحال المنافقين
والشياطين ذكر حال المؤمنين في الآخرة أيضا. {إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ}
أي يثيب من يشاء ويعذب من يشاء؛ فللمؤمنين الجنة بحكم وعده الصدق وبفضله،
وللكافرين النار بما سبق من عدله؛ لا أن فعل الرب معلل بفعل العبيد.
الآية: 15 {مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ
اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ
ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ}
قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ
اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ} قال
أبو جعفر النحاس: من أحسن ما قيل فيها أن المعنى من كان يظن أن لن ينصر الله محمدا
صلى الله عليه وسلم وأنه يتهيأ له أن يقطع النصر الذي أوتيه. {فَلْيَمْدُدْ
بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ} أي فليطلب حيلة يصل بها إلى السماء. {ثُمَّ
لْيَقْطَعْ} أي ثم ليقطع النصر إن تهيأ له {فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ
مَا يَغِيظُ} وحيلته ما يغيظه من نصر النبي صلى الله عليه وسلم. والفائدة في الكلام
أنه إذا لم يتهيأ له الكيد والحيلة بأن يفعل مثل هذا لم يصل إلى قطع النصر. وكذا
قال ابن عباس: "إن
الكناية في {يَنْصُرَهُ اللَّهُ} ترجع إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وهو وإن لم
يجر ذكره فجميع الكلام دال عليه؛ لأن الإيمان هو الإيمان بالله وبمحمد صلى الله عليه
وسلم، والانقلاب عن الدين انقلاب عن الدين الذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلم؛
أي من كان يظن ممن يعادي محمدا صلى الله عليه وسلم ومن يعبد الله على حرف أنا لا
ننصر محمدا فليفعل كذا وكذا". وعن ابن عباس أيضا "أن الهاء تعود على
{مَنْ} والمعنى: من كان يظن أن الله لا يرزقه فليختنق، فليقتل نفسه؛ إذ لا خير في
حياة تخلو من عون الله". والنصر على هذا
(12/21)
القول الرزق؛ تقول العرب: من ينصرني نصره الله؛ أي من
أعطاني أعطاه الله. ومن ذلك قول العرب: أرض منصورة؛ أي ممطورة. قال الفقعسي:
وإنك لا تعطي امرأ فوق حقه ... ولا تملك الشق الذي الغيث
ناصره
وكذا روى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال : {مَنْ كَانَ يَظُنُّ
أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ} أي لن يرزقه. وهو قول أبي عبيدة. وقيل: إن الهاء
تعود على الدين؛ والمعنى: من كان يظن أن لن ينصر الله دينه. {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ}
أي بحبل. والسبب ما يتوصل به إلى الشيء. {إِلَى السَّمَاءِ} إلى سقف البيت. ابن
زيد: هي السماء المعروفة. وقرأ الكوفيون {ثُمَّ لْيَقْطَعْ} بإسكان اللام. قال النحاس: وهذا بعيد في
العربية؛ لأن {ثُمَّ} ليست مثل الواو والفاء، لأنها يوقف، عليها وتنفرد. وفي قراءة
عبد الله {فليقطعه ثم لينظر هل يُذهبن كيدُه ما يغيظه} . قيل: {مَا} بمعنى الذي؛
أي هل يذهبن كيده الذي يغيظه، فحذف الهاء ليكون أخف. وقيل: {مَا} بمعنى المصدر؛ أي
هل يذهبن كيده غيظه.
( معلومات الكتاب - عودة إلى القرآن - فهرس القرآن )
======
الحج - تفسير القرطبي
الآية: 16 {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ
وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ}
قوله تعالى: { وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ
بَيِّنَاتٍ} يعني القرآن. {وَأَنَّ
اللَّهَ} أي وكذلك أن الله {يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ} علق وجود الهداية بإرادته؛ فهو
الهادي لا هادي سواه.
الآية: 17 {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا
وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ
يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
شَهِيدٌ}
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} أي بالله
وبمحمد صلى الله عليه وسلم.
{وَالَّذِينَ هَادُوا} اليهود، وهم المنتسبون إلى ملة موسى
عليه السلام. {وَالصَّابِئِينَ}
هم قوم يعبدون النجوم.
(12/22)
{وَالنَّصَارَى} هم المنتسبون إلى ملة عيسى.
{وَالْمَجُوسَ} هم عبد ة النيران القائلين أن للعالم أصلين: نور وظلمة. قال قتادة:
الأديان خمسة، أربعة للشيطان وواحد للرحمن. وقيل: المجوس في الأصل النجوس لتدينهم
باستعمال النجاسات؛ والميم والنون يتعاقبان كالغيم والغين، والأيم والأين. وقد مضى
في البقرة هذا كله مستوفى. {وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} هم العرب عبد ة الأوثان .
{إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أي يقضي ويحكم؛
فللكافرين النار، وللمؤمنين الجنة. وقيل: هذا الفصل بأن يعرفهم المحق من المبطل بمعرفة
ضرورية، واليوم يتميز المحق عن المبطل بالنظر والاستدلال. {إِنَّ اللَّهَ عَلَى
كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} أي من أعمال خلقه وحركاتهم وأقوالهم، فلا يعزب عنه شيء
منها، سبحانه! وقوله {إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ} خبر {إِنَّ} في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا} كما تقول: إن زيدا إن الخير عنده. وقال الفراء: ولا يجوز في الكلام إن
زيدا إن أخاه منطلق؛ وزعم أنه إنما جاز في الآية لأن في الكلام معنى المجازاة؛ أي
من آمن ومن تهود أو تنصر أو صبأ يفصل بينهم، وحسابهم على الله عز وجل. ورد أبو
إسحاق على الفراء هذا القول، واستقبح قوله: لا يجوز إن زيدا إن أخاه منطلق؛ قال:
لأنه لا فرق بين زيد وبين الذين، و {إِنَّ} تدخل على كل مبتدأ فتقول إن زيدا هو منطلق،
ثم تأتي بإن فتقول: إن زيدا إنه منطلق. وقال الشاعر:
إن الخليفة إن الله سربله ... سربال عز به ترجى الخواتيم
الآية:
18 {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي
السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ
وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوُابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ
الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ
يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ}
(12/23)
قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ
مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} هذه رؤية القلب؛ أي ألم تر بقلبك وعقلك.
وتقدم معنى السجود في "البقرة"،
وسجود الجماد في "النحل". {وَالشَّمْسُ} معطوفة على "من".
وكذا {وَالْقَمَرُ
وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوُابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ}.
ثم قال: {وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} وهذا مشكل من الإعراب، كيف لم ينصب ليعطف
ما عمل فيه الفعل على ما عمل فيه الفعل؛ مثل {وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ
عَذَاباً أَلِيماً} ؟ [الإنسان:
31] فزعم الكسائي والفراء أنه لو نصب لكان حسنا، ولكن اختير الرفع لأن المعنى
وكثير أبي السجود، فيكون ابتداء وخبرا، وتم الكلام عند قوله {وَكَثِيرٌ مِنَ
النَّاسِ}. ويجوز أن يكون معطوفا، على أن يكون السجود التذلل والانقياد لتدبير
الله عز وجل من ضعف وقوة وصحة وسقم وحسن وقبح، وهذا يدخل فيه كل شيء. ويجوز أن
ينتصب على تقدير: وأهان كثيرا حق عليه العذاب، ونحوه. وقيل: تم الكلام عند قوله
{وَالدَّوُابُّ} ثم ابتدأ فقال {وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} في الجنة
{وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} . وكذا روي عن ابن عباس أنه قال:
"المعنى وكثير من الناس في الجنة وكثير حق عليه العذاب"؛ ذكره ابن
الأنباري. وقال أبو العالية: ما في السماوات نجم ولا قمر ولا شمس إلا يقع ساجدا
لله حين يغيب، ثم لا ينصرف حتى يؤذن له فيرجع من مطلعه". قال القشيري: وورد
هذا في خبر مسند في حق الشمس؛ فهذا سجود حقيقي، ومن ضرورته تركيب الحياة والعقل في
هذا الساجد.
قلت: الحديث المسند الذي أشار إليه خرجه مسلم، وسيأتي في
سورة "يس" عند قوله تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ
لَهَا} [يس: 38]. وقد تقدم في البقرة معنى السجود لغة ومعنى.
قوله تعالى: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ
مُكْرِمٍ} أي من أهانه بالشقاء والكفر لا يقدر أحد على دفع الهوان عنه. وقال ابن
عباس: "إن من تهاون بعبادة الله صار إلى النار".
قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} يريد أن
مصيرهم إلى النار فلا اعتراض لأحد عليه. وحكى الأخفش والكسائي والفراء {وَمَنْ
يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} أي إكرام.
(12/24)
الآيات: 19 - 21 {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي
رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ
فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ، يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ،
وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ}
قوله تعالى: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي
رَبِّهِمْ} خرج مسلم عن قيس بن عباد قال: سمعت أبا ذر يقسم قسما إن {هَذَانِ
خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} إنها نزلت في الذين برزوا يوم بدر: حمزة
وعلي وعبيدة بن الحارث رضي الله عنهم وعتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة.
وبهذا الحديث ختم مسلم رحمه الله كتابه. وقال ابن عباس: "نزلت هذه الآيات الثلاث على النبي صلى
الله عليه وسلم بالمدينة في ثلاثة نفر من المؤمنين وثلاثة نفر كافرين"،
وسماهم، كما ذكر أبو ذر. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "إني لأول من
يجثو للخصومة بين يدي الله يوم القيامة؛ يريد قصته في مبارزته هو وصاحباه"؛
ذكره البخاري. وإلى هذا القول ذهب هلال بن يساف وعطاء بن يسار وغيرهما. وقال
عكرمة: المراد بالخصمين الجنة والنار؛ اختصمتا فقالت النار: خلقني لعقوبته. وقالت
الجنة خلقني لرحمته.
قلت: وقد ورد بتخاصم الجنة والنار حديث عن أبى هريرة قال
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "احتجت الجنة والنار فقالت هذه يدخلني الجبارون
والمتكبرون وقالت هذه يدخلني الضعفاء والمساكين فقال الله تعالى لهذه أنت عذابي
أعذب بك من أشاء وقال لهذه أنت رحمتي أرحم بك من أشاء ولكل واحدة منكما
ملؤها". خرجه البخاري ومسلم والترمذي وقال: حديث حسن صحيح. وقال ابن عباس
أيضا: "هم أهل الكتاب قالوا للمؤمنين نحن أولى بالله منكم، وأقدم منكم كتابا،
ونبينا قبل نبيكم. وقال المؤمنون: نحن أحق بالله منكم، آمنا بمحمد وآمنا بنبيكم
وبما أنزل إليه من كتاب، وأنتم تعرفون نبينا وتركتموه وكفرتم به حسدا؛ فكانت هذه
خصومتهم"، وأنزلت فيهم هذه الآية. وهذا قول قتادة، والقول الأول أصح رواه
البخاري عن حجاج بن منهال عن هشيم عن أبي هاشم عن أبي مجلز عن
(12/25)
قيس بن عباد عن أبي ذر، ومسلم عن عمرو بن زرارة عن هشيم،
ورواه سليمان التيمي عن أبي مجلز عن قيس بن عباد عن علي قال: فينا نزلت هذه الآية
وفي مبارزتنا يوم بدر {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ - إلى قوله -
عَذَابَ الْحَرِيقِ} . وقرأ ابن كثير {هَذَانِ خَصْمَانِ} بتشديد النون من
{هَذَانِ}. وتأول الفراء الخصمين على أنهما فريقان أهل دينين، وزعم أن الخصم
الواحد المسلمون والآخر اليهود والنصارى، اختصموا في دين ربهم؛ قال: فقال:
{اخْتَصَمُوا} لأنهم جمع، قال: ولو
قال "اختصما" لجاز. قال النحاس: وهذا تأويل من لا دراية له بالحديث ولا
بكتب أهل التفسير؛ لأن الحديث في هذه الآية مشهور، رواه سفيان الثوري وغيره عن أبي
هاشم عن أبي مجلز عن قيس بن عباد قال: سمعت أبا ذر يقسم قسما إن هذه الآية نزلت في
حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب وعتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن
عتبة. وهكذا روى أبو عمرو بن العلاء عن مجاهد عن ابن عباس. وفيه قول رابع
"أنهم المؤمنون كلهم والكافرون كلهم من أي ملة كانوا"؛ قاله مجاهد
والحسن وعطاء بن أبي رباح وعاصم بن أبي النجود والكلبي. وهذا القول بالعموم يجمع المنزل فيهم
وغيرهم. وقيل: نزلت في الخصومة في البعث والجزاء؛ إذ قال به قوم وأنكره قوم.
قوله تعالى: {فَالَّذِينَ كَفَرُوا} يعني من الفرق الذين
تقدم ذكرهم. {قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ} أي خيطت وسويت؛ وشبهت النار
بالثياب لأنها لباس لهم كالثياب. وقوله {قُطِّعَتْ} أي تقطع لهم في الآخرة ثياب
من نار؛ وذكر بلفظ الماضي لأن ما كان من أخبار الآخرة فالموعود منه كالواقع
المحقق؛ قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ
أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ}
[المائدة: 116] أي يقول الله تعالى. ويحتمل أن يقال قد أعدت
الآن تلك الثياب لهم ليلبسوها إذا صاروا إلى النار. وقال سعيد بن جبير: {مِنْ
نَارٍ} من
نحاس؛ فتلك الثياب من نحاس قد أذيبت وهي السرابيل المذكورة في {قَطِرَانٍ}
[إبراهيم: 50] وليس في الآنية شيء إذا حمي
(12/26)
يكون أشد حرا منه. وقيل: المعنى أن النار قد أحاطت بهم
كإحاطة الثياب المقطوعة إذا لبسوها عليهم؛ فصارت من هذا الوجه ثيابا لأنها
بالإحاطة كالثياب؛ مثل {وَجَعَلْنَا
اللَّيْلَ لِبَاساً} [النبأ: 10]. {يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ}
أي الماء الحار المغلى بنار جهنم. وروى الترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله
عليه وسلم قال: "إن الحميم ليصب على رؤوسهم فينفذ الحميم حتى يخلص إلى جوفه
فيسلت ما في جوفه حتى يمرق من قدميه وهو الصهر ثم يعاد كما كان". قال: حديث
حسن صحيح غريب. {يُصْهَرُ} يذاب. {بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ} والصهر إذابة الشحم.
والصهارة ما ذاب منه؛ يقال: صهرت الشيء فانصهر، أي أذبته فذاب، فهو صهير. قال ابن
أحمر يصف فرخ قطاة:
تروي لقى ألقي في صفصف ... تصهره الشمس فما ينصهر
أي تذيبه الشمس فيصبر على ذلك. {وَالْجُلُودُ} أي وتحرق
الجلود، أو تشوى الجلود؛ فإن الجلود لا تذاب؛ ولكن يضم في كل شيء ما يليق به، فهو
كما تقول: أتيته
فأطعمني ثريدا، إي والله ولبنا قارصا؛ أي وسقاني لبنا. وقال الشاعر:
علفتها تبنا وماء باردا
{وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ} أي يضربون بها ويدفعون؛
الواحدة مقمعة، ومقمع أيضا كالمحجن، يضرب به على رأس الفيل. وقد قمعته إذا ضربته
بها. وقمعته وأقمعته بمعنى؛ أي قهرته وأذللته فانقمع. قال ابن السكيت: أقمعت الرجل
عني إقماعا إذا طلع عليك فرددته عنك. وقيل: المقامع المطارق، وهي المرازب أيضا. وفي الحديث
"بيد كل ملك من خزنة جهنم مرزبة لها شعبتان فيضرب الضربة فيهوي بها سبعين
ألفا". وقيل: المقامع سياط من نار، وسميت بذلك لأنها تقمع المضروب، أي تذلله.
(12/27)
الآية: 22 {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا
مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ}
قوله تعالى: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا
مِنْ غَمٍّ} أي من النار. {أُعِيدُوا فِيهَا} بالضرب بالمقامع. وقال أبو ظبيان:
ذكر لنا أنهم يحاولون الخروج من النار حين تجيش بهم وتفور فتلقي من فيها إلى أعلى أبوابها
فيريدون الخروج فتعيدهم الخزان إليها بالمقامع. وقيل: إذا اشتد غمهم فيها فروا؛
فمن خلص منهم إلى شفيرها أعادتهم الملائكة فيها بالمقامع، ويقولون لهم {وَذُوقُوا
عَذَابَ الْحَرِيقِ} أي المحرق؛ مثل الأليم والوجيع. وقيل: الحريق الاسم من
الاحتراق. تحرق الشيء بالنار واحترق، والاسم الحرقة والحريق. والذوق: مماسة يحصل
معها إدراك الطعم؛ وهو هنا توسع، والمراد به إدراكهم الألم.
الآية: 23 {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ
يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا
حَرِيرٌ}
قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} لما ذكر
أحد الخصمين وهو الكافر ذكر حال الخصم الآخر وهو المؤمن. {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ
أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ} {مِنْ}
صلة. والأساور جمع أسورة، وأسورة واحدها سوار؛ وفيه ثلاث لغات: ضم السين وكسرها
وإسوار. قال المفسرون: لما كانت الملوك تلبس في الدنيا الأساور والتيجان جعل الله
ذلك لأهل الجنة، وليس أحد من أهل الجنة إلا وفي يده ثلاثة أسورة: سوار من ذهب،
وسوار من فضة، وسوار من لؤلؤ. قال هنا وفي فاطر:
(12/28)
{مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً} [فاطر: 33] وقال في سورة
الإنسان: {وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ} [الإنسان: 21]. وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة سمعت
خليلي صلى الله عليه وسلم يقول: "تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ
الوضوء". وقيل: تحلى النساء بالذهب والرجال بالفضة. وفيه نظر، والقرآن يرده.
{وَلُؤْلُؤاً} قرأ نافع وابن القعقاع وشيبة وعاصم هنا وفي سورة الملائكة
{لُؤْلُؤْاً} بالنصب، على معنى ويخلون لؤلؤا؛ واستدلوا بأنها مكتوبة في جميع
المصاحف هنا بألف. وكذلك قرأ يعقوب والجحدري وعيسى بن عمر بالنصب هنا والخفض في
{فاطر} اتباعا للمصحف، ولأنها كتبت ههنا بألف وهناك بغير ألف. الباقون بالخفض في
الموضعين. وكان أبو بكر لا يهمز {اللؤلؤ} في كل القرآن؛ وهو ما يستخرج من البحر من
جوف الصدف. قال القشيري: والمراد ترصيع السوار باللؤلؤ؛ ولا يبعد أن يكون في الجنة
سوار من لؤلؤ مصمت.
قلت: وهو ظاهر القرآن بل نصه. وقال ابن الأنباري: من قرأ
{ولؤلؤٍ} بالخفض وقف عليه ولم يقف على الذهب. وقال السجستاني: من نصب {اللؤلؤ} فالوقف
الكافي {من ذهب} ؛ لأن المعنى ويحلون لؤلؤا. قال ابن الأنباري: وليس كما قال، لأنا
إذا خفضنا {اللؤلؤ} نسقناه على لفظ الأساور، وإذا نصبناه نسقناه على تأويل
الأساور، وكأنا قلنا: يحلون فيها أساور ولؤلؤا، فهو في النصب بمنزلته في الخفض،
فلا معنى لقطعه من الأول.
قوله تعالى: {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} أي وجميع ما
يلبسونه من فرشهم ولباسهم وستورهم حرير، وهو أعلى مما في الدنيا بكثير. وروى النسائي
عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من لبس الحرير في الدنيا لم
يلبسه في الآخرة ومن شرب الخمر في الدنيا لم يشربه في الآخرة ومن شرب في آنية
الذهب والفضة لم يشرب فيها في الآخرة - ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لباس
أهل الجنة وشراب أهل الجنة وآنية أهل الجنة". فإن قيل: قد سوى النبي صلى الله
عليه وسلم بين هذه الأشياء الثلاثة وأنه يحرمها في الآخرة؛ فهل يحرمها
(12/29)
إذا دخل الجنة؟ قلنا: نعم! إذا لم يتب منها حرمها في
الآخرة وإن دخل الجنة؛ لاستعجاله ما حرم الله عليه في الدنيا. لا يقال: إنما يحرم
ذلك في الوقت الذي يعذب في النار أو بطول مقامه في الموقف، فأما إذا دخل الجنة
فلا؛ لأن حرمان شيء من لذات الجنة لمن كان في الجنة نوع عقوبة ومؤاخذة والجنة ليست
بدار عقوبة، ولا مؤاخذة فيها بوجه. فإنا نقول: ما ذكرتموه محتمل، لولا ما
جاء ما يدفع هذا الاحتمال ويرده من ظاهر الحديث الذي ذكرناه. وما رواه الأئمة من
حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم "من شرب الخمر في الدنيا ثم لم يتب
منها حرمها في الآخرة" . والأصل
التمسك بالظاهر حتى يرد نص يدفعه، بل قد ورد نص على صحة ما ذكرناه، وهو ما رواه
أبو داود الطيالسي في مسنده: حدثنا هشام عن قتادة عن داود السراج عن أبي سعيد
الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لبس الحرير في الدنيا لم
يلبسه في الآخرة وإن دخل الجنة لبسه أهل الجنة ولم يلبسه هو". وهذا نص صريح
وإسناده صحيح. فإن كان "وإن دخل الجنة لبسه أهل الجنة ولم يلبسه هو" من
قول النبي صلى الله عليه وسلم فهو الغاية في البيان، وإن كان من كلام الراوي على
ما ذكر فهو أعلى بالمقال وأقعد بالحال، ومثله لا يقال بالرأي، والله أعلم. وكذلك
"من شرب الخمر ولم يتب" و"من استعمل آنية الذهب والفضة" وكما
لا يشتهي منزلة من هو أرفع منه، وليس ذلك بعقوبة كذلك لا يشتهي خمر الجنة ولا
حريرها ولا يكون ذلك عقوبة. وقد ذكرنا هذا كله في كتاب التذكرة مستوفى، والحمد
لله، وذكرنا فيها أن شجر الجنة وثمارها يتفتق عن ثياب الجنة، وقد ذكرناه في سورة
الكهف.
( معلومات الكتاب - عودة إلى القرآن - فهرس القرآن )
=========
الحج - تفسير القرطبي
الآية: 24 {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ
وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ}
قوله تعالى: {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ}
أي أرشدوا إلى ذلك. قال
ابن عباس: "يريد لا إله إلا الله والحمد لله". وقيل: القرآن، ثم قيل: هذا في الدنيا،
هدوا إلى الشهادة،
(12/30)
وقراءة القرآن. {وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} أي
إلى صراط الله. وصراط الله: دينه وهو الإسلام. وقيل: هدوا في الآخرة إلى الطيب من
القول، وهو الحمد لله؛ لأنهم يقولون غدا الحمد لله الذي هدانا لهذا، الحمد لله
الذي أذهب عنا الحزن؛ فليس في الجنة لغو ولا كذب فما يقولونه فهو طيب القول. وقد
هدوا في الجنة إلى صراط الله، إذ ليس في الجنة شيء من مخالفة أمر الله. وقيل: الطيب
من القول ما يأتيهم من الله من البشارات الحسنة. {وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ}
أي إلى طريق الجنة.
الآية: 25 {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ
سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً
الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ
مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}
فيه سبع مسائل:-
الأولى: قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
وَيَصُدُّونَ} أعاد الكلام إلى مشركي العرب حين صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم
عن المسجد الحرام عام الحديبية، وذلك أنه لم يعلم لهم صد قبل ذلك الجمع؛ إلا أن
يريد صدهم لأفراد من الناس، فقد وقع ذلك في صدر المبعث. والصد: المنع؛ أي وهم
يصدون. وبهذا حسن عطف المستقبل على الماضي. وقيل: الواو زائدة {وَيَصُدُّونَ} خبر {إِنَّ}. وهذا
مفسد للمعنى المقصود، وإنما الخبر محذوف مقدر عند قوله {وَالْبَادِ} تقديره: خسروا إذا هلكوا.
وجاء {وَيَصُدُّونَ} مستقبلا إذ هو فعل يديمونه؛ كما جاء قوله تعالى: {الَّذِينَ
آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ} [الرعد: 28]؛ فكأنه قال: إن
الذين كفروا من شأنهم الصد. ولو قال إن الذين كفروا وصدروا لجاز. قال النحاس: وفي
كتابي عن أبي إسحاق قال وجائز أن يكون - وهو الوجه - الخبر {نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ
أَلِيمٍ}. قال أبو جعفر: وهذا غلط، ولست أعرف ما الوجه فيه؛ لأنه جاء بخبر {إنّ} جزما،
وأيضا
(12/31)
فإنه جواب الشرط، ولو كان خبر {إن} لبقي الشرط بلا جواب،
ولا سيما والفعل الذي في الشرط مستقبل فلا بد له من جواب.
الثانية: قوله تعالى: {وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}
قيل: إنه المسجد نفسه، وهو ظاهر القرآن؛ لأنه لم يذكر غيره. وقيل: الحرم كله؛ لأن
المشركين صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه عنه عام الحديبية، فنزل خارجا
عنه؛ قال الله تعالى: {وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الفتح: 25]
وقال: {سُبْحَانَ
الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الإسراء: 1].
وهذا صحيح، لكنه قصد هنا بالذكر المهم المقصود من ذلك.
الثالثة: {الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ} أي للصلاة
والطواف والعبادة؛ وهو كقوله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ} [آل عمران:
96]. {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} العاكف: المقيم الملازم. والبادي: أهل
البادية ومن يقدم عليهم. يقول: سواء في تعظيم حرمته وقضاء النسك فيه الحاضر والذي
يأتيه من البلاد؛ فليس أهل مكة أحق من النازح إليه. وقيل: إن المساواة إنما هي في
دوره ومنازله، ليس المقيم فيها أولى من الطارئ عليها. وهذا على أن المسجد الحرام
الحرم كله؛ وهذا قول مجاهد ومالك؛ رواه عنه ابن القاسم. وروي عن عمر وابن عباس
وجماعة "إلى أن القادم له النزول حيث وجد، وعلى رب المنزل أن يؤويه شاء أو
أبى". وقال ذلك سفيان الثوري وغيره، وكذلك كان الأمر في الصدر الأول، كانت
دورهم بغير أبواب حتى كثرت السرقة؛ فاتخذ رجل بابا فأنكر عليه عمر وقال: أتغلق بابا
في وجه حاج بيت الله؟ فقال: إنما أردت حفظ متاعهم من السرقة، فتركه فاتخذ الناس الأبواب.
وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أيضا أنه كان يأمر في الموسم بقلع أبواب دور
مكة، حتى يدخلها الذي يقدم فينزل حيث شاء، وكانت الفساطيط تضرب في الدور. وروي عن
مالك أن الدور ليست كالمسجد ولأهلها الامتناع منها والاستبداد؛ وهذا هو العمل
اليوم. وقال بهذا جمهور من الأمة.
(12/32)
وهذا الخلاف يبنى على أصلين: أحدهما أن دور مكة هل هي ملك
لأربابها أم للناس. وللخلاف
سببان: أحدهما: هل فتح مكة كان عنوة فتكون مغنومة، لكن النبي صلى الله عليه وسلم
لم يقسمها وأقرها لأهلها ولمن جاء بعدهم؛ كما فعل عمر رضي الله عنه بأرض السواد
وعفا لهم عن الخراج كما عفا عن سبيهم واسترقاقهم إحسانا إليهم دون سائر الكفار
فتبقى على ذلك لاتباع ولا تكرى، ومن سبق إلى موضع كان أولى به. وبهذا قال مالك
وأبو حنيفة والأوزاعي. أو كان فتحها صلحا - وإليه ذهب الشافعي - فتبقى ديارهم
بأيديهم، وفي أملاكهم يتصرفون كيف شاؤوا. وروي عن عمر أنه اشترى دار صفوان بن أمية
بأربعة آلاف وجعلها سجنا، وهو أول من حبس في السجن في الإسلام، على ما تقدم بيانه
في آية المحاربين من سورة "المائدة". وقد روي أن النبي صلى الله عليه
وسلم حبس في تهمة. وكان طاوس يكره السجن بمكة ويقول: لا ينبغي لبيت عذاب أن يكون
في بيت رحمة.
قلت: الصحيح
ما قاله مالك؛ وعليه تدل ظواهر الأخبار الثابتة بأنها فتحت عنوة. قال أبو عبيد:
ولا نعلم مكة يشبهها شيء من البلاد. وروى الدارقطني عن علقمة بن نضلة قال: توفي
رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما وما تدعى رباع مكة إلا
السوائب؛ من احتاج سكن ومن استغنى أسكن. وزاد في رواية: وعثمان. وروي أيضا عن
علقمة بن نضلة الكناني قال: كانت تدعى بيوت مكة على عهد رسول الله صلى الله عليه
وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما السوائب، لا تباع؛ من احتاج سكن ومن استغنى
أسكن. وروي أيضا عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن
الله تعالى حرم مكة فحرام بيع رباعها وأكل ثمنها - وقال - من أكل من أجر بيوت مكة
شيئا فإنما يأكل نارا". قال
الدارقطني: كذا رواه أبو حنيفة مرفوعا ووهم فيه، ووهم أيضا في قوله عبيدالله بن
أبي يزيد وإنما هو ابن أبي زياد القداح، والصحيح أنه موقوف، وأسند الدارقطني أيضا
عن عبد الله بن عمرو قال قال رسول الله: "مكة مناخ لا تباع رباعها ولا تؤاجر
(12/33)
يوتها". وروى أبو داود عن عائشة رضي الله عنها قالت:
قلت يا رسول الله؛ ألا أبني لك بمنى بيتا أو بناء يظلك من الشمس؟ فقال: "لا،
إنما هو مناخ من سبق إليه". وتمسك الشافعي رضي الله عنه بقوله تعالى:
{الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ} الحج: 40] فأضافها إليهم. وقال عليه السلام يوم
الفتح: "من أغلق بابه فهو آمن ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن".
الرابعة: قرأ جمهور الناس {سواء} بالرفع، وهو على
الابتداء، و {العاكف} خبره. وقيل: الخبر {سواء} وهو مقدم؛ أي العاكف فيه والبادي
سواء؛ وهو قول أبي علي، والمعنى: الذي جعلناه للناس قبلة أو متعبدا العاكف فيه
والبادي سواء. وقرأ حفص عن عاصم {سواء} بالنصب، وهي قراءة الأعمش. وذلك يحتمل أيضا
وجهين: أحدهما: أن يكون مفعولا ثانيا لجعل، ويرتفع {الْعَاكِفُ} به لأنه مصدر،
فأعمل عمل اسم الفاعل لأنه في معنى مستو. والوجه الثاني: أن يكون حالا من الضمير
في جعلناه. وقرأت فرقة {سواء} بالنصب
{العاكِف} بالخفض، و {البادي} عطفا على الناس، التقدير: الذي جعلناه للناس العاكف
والبادي. وقراءة ابن كثير في الوقف والوصل بالياء، ووقف أبو عمرو بغير ياء ووصل
بالياء. وقرأ نافع بغير ياء في الوصل والوقف. وأجمع الناس على الاستواء في نفس المسجد
الحرام، واختلفوا في مكة؛ وقد ذكرناه.
الخامسة: قوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ}
شرط، وجوابه {نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}. والإلحاد في اللغة: الميل؛ إلا أن
الله تعالى بين أن الميل بالظلم هو المراد. واختلف في الظلم؛ فروى علي ابن أبي
طلحة عن ابن عباس: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} قال: الشرك. وقال
عطاء: الشرك والقتل. وقيل: معناه صيد حمامه، وقطع شجره؛ ودخول غير محرم. وقال ابن
عمر: "كنا نتحدث أن الإلحاد فيه أن يقول الإنسان: لا والله! وبلى والله! وكلا
والله! ولذلك كان له فسطاطان، أحدهما
(12/34)
في الحل والآخر في الحرم؛ فكان إذا أراد الصلاة دخل فسطاط
الحرم، وإذا أراد بعض شأنه دخل فسطاط الحل، صيانة للحرم عن قولهم كلا والله وبلى
والله، حين عظم الله الذنب فيه. وكذلك كان لعبد بن عمرو بن العاص فسطاطان أحدهما
في الحل والآخر في الحرم، فإذا أراد أن يعاتب أهله عاتبهم في الحل، وإذا أراد أن
يصلي صلى في الحرم، فقيل له في ذلك فقال: إن كنا لنتحدث أن من الإلحاد في الحرم أن
نقول كلا والله وبلى والله، والمعاصي تضاعف بمكة كما تضاعف الحسنات، فتكون المعصية
معصيتين، إحداهما بنفس المخالفة والثانية بإسقاط حرمة البلد الحرام؛ وهكذا الأشهر الحرم
سواء. وقد تقدم. وروى أبو داود عن يعلى بن أمية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: "احتكار الطعام في الحرم إلحاد فيه". وهو قول عمر بن الخطاب.
والعموم يأتي على هذا كله.
السادسة: ذهب قوم من أهل التأويل منهم الضحاك وابن زيد إلى
أن هذه الآية تدل على أن الإنسان يعاقب على ما ينويه من المعاصي بمكة وإن لم
يعمله. وقد روي نحو ذلك عن ابن مسعود وابن عمر قالوا: لو هم رجل بقتل رجل بهذا
البيت وهو "بعدن أبين" لعذبه الله.
قلت: هذا صحيح، وقد جاء هذا المعنى في سورة {نْ
وَالْقَلَمِ} القلم: 1] مبينا، على ما يأتي بيانه هناك إن شاء الله تعالى.
الباء في {بِإِلْحَادٍ} زائدة كزيادتها في قوله تعالى:
{تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} [المؤمنون:20]؛ وعليه حملوا قول الشاعر:
نحن بنو جعدة أصحاب الفلج ... نضرب بالسيف ونرجو بالفرج
أراد: نرجو الفرج. وقال الأعشى:
ضمنت برزق عيالنا أرماحنا
أي رزق: وقال آخر:
ألم يأتيك والأنباء تنمي ... بما لاقت لبون بني زياد
(12/35)
أي ما لاقت؛ والباء زائدة، وهو كثير. وقال الفراء: سمعت
أعرابيا وسألته عن شيء فقال: أرجو بذاك، أي أرجو ذاك. وقال الشاعر:
بواد يمان ينبت الشث صدرة ... وأسفله بالمرخ والشبهان
أي المرخ. وهو قول الأخفش، والمعنى عنده: ومن يرد فيه
إلحادا بظلم. وقال الكوفيون: دخلت الباء لأن المعنى بأن يلحد، والباء مع أن تدخل
وتحذف. ويجوز أن يكون التقدير: ومن برد الناس فيه بإلحاد. وهذا الإلحاد والظلم
يجمع المعاصي من الكفر إلى الصغائر؛ فلعظم حرمة المكان توعد الله تعالى على نية السيئة
فيه. ومن نوى سيئة ولم يعملها لم يحاسب عليها إلا في مكة. هذا قول ابن مسعود
وجماعة من الصحابة وغيرهم. وقد ذكرناه آنفا.
الآية: 26 {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ
مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ
لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}
فيه مسألتان:-
الأولى: قوله تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ
مَكَانَ الْبَيْتِ} أي واذكر إذ بوأنا لإبراهيم؛ يقال: بوأته منزلا وبوأت له. كما يقال: مكنتك
ومكنت لك؛ فاللام في قوله:
{لِإِبْرَاهِيمَ} صلة للتأكيد؛ كقوله: {رَدِفَ لَكُمْ}
[النمل: 72]، وهذا قول الفراء. وقيل: {بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ
الْبَيْتِ} أي أريناه أصله ليبنيه، وكان قد درس بالطوفان وغيره، فلما جاءت مدة
إبراهيم عليه السلام أمره الله ببنيانه، فجاء إلى موضعه وجعل يطلب أثرا، فبعث الله
ريحا فكشفت عن أساس آدم عليه السلام؛ فرتب قواعده عليه؛ حسبما تقدم بيانه في
"البقرة". وقيل: {بَوَّأْنَا} نازلة منزلة فعل يتعدى باللام؛ كنحو جعلنا،
أي جعلنا لإبراهيم مكان البيت مبوأ. وقال الشاعر:
كم من أخ لي ماجد ... بوأته بيدي لحدا
(12/36)
الثانية: {أَنْ لا تُشْرِكْ} هي مخاطبة لإبراهيم
عليه السلام في قول الجمهور. وقرأ عكرمة {أَنْ لاَ يُشْرِكْ} بالياء، على نقل معنى
القول الذي قيل له. قال أبو حاتم: ولا بد من نصب الكاف على هذه القراءة، بمعنى
لئلا يشرك. وقيل: إن "أن"
مخففة من الثقيلة. وقيل مفسرة. وقيل زائدة؛ مثل {فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ}
[يوسف: 96]. وفي الآية طعن على من أشرك من قطان البيت؛ أي هذا كان الشرط على أبيكم
ممن بعده وأنتم، فلم تفوا بل أشركتم. وقالت فرقة: الخطاب من قول {أَنْ لا تُشْرِكْ} لمحمد
صلى الله عليه وسلم؛ وأمر بتطهير البيت والأذان بالحج. والجمهور على أن ذلك
لإبراهيم؛ وهو الأصح. وتطهير البيت عام في الكفر والبدع وجميع الأنجاس والدماء.
وقيل: عنى به التطهير عن الأوثان؛ كما قال تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ
الْأَوْثَانِ} [الحج:
30]؛ وذلك أن جرهما والعمالقة كانت لهم أصنام في محل البيت وحوله قبل أن يبنيه
إبراهيم عليه السلام. وقيل: المعنى نزه بيتي عن أن يعبد فيه صنم. وهذا أمر بإظهار
التوحيد فيه. وقد مضى ما للعلماء في تنزيه المسجد الحرام وغيره من المساجد بما فيه
كفاية في سورة "التوبة". والقائمون هم المصلون. وذكر تعالى من أركان
الصلاة أعظمها، وهو القيام والركوع والسجود.
الآية: 27 {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ
رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ}
فيه سبع مسائل:-
الأولى: قوله تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ
بِالْحَجِّ} قرأ جمهور الناس {وَأَذِّنْ}
بتشديد الذال. وقرأ الحسن بن أبي الحسن وابن محيصن {وآذن } بتخفيف الذال ومد الألف. ابن عطية: وتصحف
هذا على ابن جني، فإنه حكى عنهما {وأذن} على أنه فعل ماض، وأعرب على ذلك
بأن جعله عطفا على {بَوَّأْنَا}. والأذان الإعلام، وقد تقدم في
"التوبة"
(12/37)
الثانية: لما فرغ إبراهيم عليه السلام من بناء البيت، وقيل
له: أذن في الناس بالحج، قال: يا رب! وما يبلغ صوتي؟ قال: أذن وعلي الإبلاغ؛ فصعد
إبراهيم خليل الله جبل أبي قبيس وصاح: يا أيها الناس! إن الله قد أمركم بحج هذا
البيت ليثيبكم به الجنة ويجيركم من عذاب النار، فحجوا؛ فأجابه من كان في أصلاب
الرجال وأرحام النساء: لبيك اللهم لبيك! فمن أجاب يومئذ حج على قدر الإجابة؛ إن
أجاب مرة فمرة، وإن أجاب مرتين فمرتين؛ وجرت التلبية على ذلك؛ قاله ابن عباس وابن جبير.
وروي عن أبي الطفيل قال قال لي ابن عباس: "أتدري ما كان أصل التلبية؟ قلت لا!
قال: لما أمر إبراهيم عليه السلام أن يؤذن في الناس بالحج خفضت الجبال رؤوسها
ورفعت له القرى؛ فنادى في الناس بالحج فأجابه كل شيء: لبيك اللهم لبيك".
وقيل: إن الخطاب لإبراهيم عليه السلام تم عند قوله {السجود} ،
ثم خاطب الله عز وجل محمدا عليه الصلاة والسلام فقال: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ
بِالْحَجِّ} أي أعلمهم أن عليهم الحج. وقول ثالث: إن الخطاب من قوله {أَنْ لا
تُشْرِكْ} مخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم. وهذا قول أهل النظر؛ لأن القرآن أنزل
على النبي صلى الله عليه وسلم، فكل ما فيه من المخاطبة فهي له إلا أن يدل دليل
قاطع على غير ذلك. وههنا دليل آخر يدل على أن المخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم،
وهو {أَنْ لا تُشْرِكْ بِي} بالتاء،
وهذا مخاطبة لمشاهد، وإبراهيم عليه السلام غائب، فالمعنى على هذا: وإذ بوأنا
لإبراهيم مكان البيت فجعلنا لك الدلائل على توحيد الله تعالى وعلى أن إبراهيم كان
يعبد الله وحده. وقرأ جمهور الناس "بالحج" بفتح الحاء. وقرأ ابن أبي
إسحاق في كل القرآن بكسرها. وقيل: إن نداء إبراهيم من جملة ما أمر به من شرائع
الدين. والله أعلم.
الثالثة: قوله تعالى: {يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ
ضَامِرٍ} وعده إجابة الناس إلى حج البيت ما بين راجل وراكب، وإنما قال:
{يَأْتُوكَ} وإن كانوا يأتون الكعبة لأن المنادي إبراهيم، فمن أتى الكعبة حاجا
فكأنما أتى إبراهيم؛ لأنه أجاب نداءه، وفيه تشريف إبراهيم. ابن عطية: {رجالاً} جمع
راجل مثل تاجر وتجار، وصاحب وصحاب. وقيل: الرجال
(12/38)
جمع رَجْل، والرَّجْل جمع راجل؛ مثل تجار وتجر وتاجر،
وصحاب وصحب وصاحب. وقد يقال في الجمع: رجال، بالتشديد؛ مثل كافر وكفار. وقرأ ابن
أبي إسحاق وعكرمة {رُجَالاً} بضم الراء وتخفيف الجيم، وهو قليل في أبنية الجمع،
ورويت عن مجاهد. وقرأ مجاهد {رُجَالَى} على وزن فعالى؛ فهو مثل كسالى. قال النحاس:
في جمع راجل خمسة أوجه، ورجالة مثل ركاب، وهو الذي روي عن عكرمة، ورجال مثل قيام،
ورجلة، ورجل، ورجالة. والذي روي عن مجاهد رجالا غير معروف، والأشبه به أن يكون غير
منون مثل كسالى وسكارى، ولو نون لكان على فعال، وفعال في الجمع قليل. وقدم الرجال
على الركبان في الذكر لزيادة تعبهم في المشي. {وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ}
لأن معنى {ضَامِرٍ} معنى ضوامر. قال الفراء: ويجوز {يأتي} على اللفظ. والضامر:
البعير المهزول الذي أتعبه السفر؛ يقال: ضمر يضمر ضمورا؛ فوصفها الله تعالى بالمآل
الذي انتهت عليه إلى مكة. وذكر سبب الضمور فقال: {يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} أي
أثر فيها طول السفر. ورد الضمير إلى الإبل تكرمة لها لقصدها الحج مع أربابها؛ كما
قال: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً} [العاديات: 1] في خيل الجهاد تكرمة لها حين سعت في
سبيل الله.
الرابعة: قال بعضهم: إنما قال {رِجَالاً} لأن
الغالب خروج الرجال إلى الحج دون الإناث؛ فقول {رجالاً} من قولك: هذا رجل؛ وهذا
فيه بعد؛ لقوله: {وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} يعني الركبان، فدخل فيه الرجال والنساء.
ولما قال تعالى: {رِجَالاً}
وبدأ بهم دل ذلك على أن حج الراجل أفضل من حج الراكب. قال ابن عباس: "ما آسى
على شيء فاتني إلا أن لا أكون حججت ماشيا، فإني سمعت الله عز وجل يقول {يَأْتُوكَ
رِجَالاً}. وقال ابن أبي نجيح: حج إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ماشيين. وقرأ
أصحاب ابن مسعود {يأتون} وهي قراءة ابن أبي عبلة والضحاك، والضمير للناس.
الخامسة: لا خلاف في جواز. الركوب والمشي، واختلفوا في
الأفضل منهما؛ فذهب مالك والشافعي في آخرين إلى أن الركوب أفضل، اقتداء بالنبي صلى
الله عليه وسلم، ولكثرة
(12/39)
النفقة ولتعظيم شعائر الحج بأهبة الركوب. وذهب غيرهم إلى
أن المشي أفضل لما فيه من المشقة على النفس، ولحديث أبي سعيد قال: حج النبي صلى
الله عليه وسلم وأصحابه مشاة من المدينة إلى مكة، وقال: "اربطوا أوساطكم
بأزركم" ومشى خلط الهرولة؛ خرجه ابن ماجه في سننه. ولا خلاف في أن الركوب عند
مالك في المناسك كلها أفضل؛ للاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم.
السادسة: استدل بعض العلماء بسقوط ذكر البحر من هذه الآية
على أن فرض الحج بالبحر ساقط. قال
مالك في الموازية: لا أسمع للبحر ذكرا، وهذا تأنس، لا أنه يلزم من سقوط ذكره سقوط
الفرض فيه؛ وذلك أن مكة ليست في ضفة بحر فيأتيها الناس في السفن؛ ولابد لمن ركب
البحر أن يصير في إتيان مكة إما راجلا وإما على ضامر؛ فإنما ذكرت حالتا الوصول؛
وإسقاط فرض الحج بمجرد البحر ليس بالكثير ولا بالقوي. فأما إذا اقترن به عدو وخوف
أو هول شديد أو مرض يلحق شخصا، فمالك والشافعي وجمهور الناس على سقوط الوجوب بهذه
الأعذار، وأنه ليس بسبيل يستطاع. قال ابن عطية: وذكر صاحب الاستظهار في هذا المعنى
كلاما. ظاهره أن الوجوب لا يسقط بشيء من هذه الأعذار؛ وهذا ضعيف.
قلت: وأضعف من ضعيف، وقد مضى في {البقرة} بيانه. والفج:
الطريق الواسعة، والجمع فجاج. وقد مضى في {الأنبياء}. والعميق معناه البعيد.
وقراءة الجماعة {يأتِين}. وقرأ أصحاب عبد الله {يأتون} وهذا للركبان و {يأتِين}
للجمال؛ كأنه قال: وعلى إبل ضامرة يأتين {مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} أي بعيد؛ ومنه
بئر عميقة أي بعيدة القعر؛ ومنه:
وقاتم الأعماق خاوي المخترق
(12/40)
السابعة: واختلفوا في الواصل إلى البيت، هل يرفع
يديه عند رؤيته أم لا؛ فروى أبو داود قال: سئل جابر بن عبد الله عن الرجل يرى
البيت ويرفع يديه فقال: ما كنت أرى أن أحدا يفعل هذا إلا اليهود، وقد حججنا مع
رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم نكن نفعله. وروى ابن عباس رضي الله عنهما عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ترفع الأيدي في سبع مواطن افتتاح الصلاة
واستقبال البيت والصفا والمروة والموقفين والجمرتين". وإلى حديث ابن عباس هذا
ذهب الثوري وابن المبارك وأحمد وإسحاق وضعفوا حديث جابر؛ لأن مهاجرا المكي راوية
مجهول. وكان ابن عمر يرفع يديه عند رؤية البيت. وعن ابن عباس مثله.
الآيتان: 28 - 29 {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ
وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ
بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ،
ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا
بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ}
فيه ثلاث وعشرون مسألة:-
الأولى: قوله تعالى: {لِيَشْهَدُوا} أي أذن بالحج يأتوك رجالا
وركبانا ليشهدوا؛ أي ليحضروا. والشهود
الحضور. {مَنَافِعَ لَهُمْ} أي المناسك، كعرفات والمشعر الحرام. وقيل المغفرة.
وقيل التجارة. وقيل هو عموم؛ أي ليحضروا منافع لهم، أي ما يرضي الله تعالى من أمر
الدنيا والآخرة؛ قال مجاهد وعطاء واختاره ابن العربي؛ فإنه يجمع ذلك كله من نسك
وتجارة ومغفرة ومنفعة دنيا وأخرى. ولا خلاف في أن المراد بقوله: {لَيْسَ
عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ } الثانية:
{وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} قد مضى في
"البقرة" الكلام في الأيام المعلومات والمعدودات. والمراد بذكر اسم الله
ذكر التسمية عند الذبح والنحر؛ مثل
(12/41)
قولك: باسم
الله والله أكبر، اللهم منك ولك. ومثل قولك عند الذبح {إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي}
[الأنعام:162] الآية. وكان الكفار يذبحون على أسماء أصنامهم، فبين الرب أن الواجب
الذبح على اسم الله؛ وقد مضى في "الأنعام".
الثالثة: واختلف العلماء في وقت الذبح يوم النحر؛
فقال مالك رضي الله عنه: بعد صلاة الإمام وذبحه؛ إلا أن يؤخر تأخيرا يتعدى فيه
فيسقط الاقتداء به. وراعى أبو حنيفة الفراغ من الصلاة دون ذبح. والشافعي دخول وقت
الصلاة ومقدار ما توقع فيه الخطبتين؛ فاعتبر الوقت دون الصلاة، هذه رواية المزني
عنه، وهو قول الطبري. وذكر الربيع عن البويطي قال قال الشافعي: ولا يذبح أحد حتى
يذبح الإمام إلا أن يكون ممن لا يذبح، فإذا صلى وفرغ من الخطبة حل الذبح. وهذا كقول
مالك. وقال أحمد: إذا انصرف الإمام فاذبح. وهو قول إبراهيم. وأصح هذه الأقوال قول
مالك؛ لحديث جابر بن عبد الله قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم
النحر بالمدينة، فتقدم رجال فنحروا وظنوا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد نحر،
فأمر النبي صلى الله عليه وسلم من كان نحر أن يعيد بنحر آخر، ولا ينحروا حتى ينحر
النبي صلى الله عليه وسلم خرجه مسلم والترمذي وقال: وفي الباب عن جابر وجندب وأنس
وعويمر بن أشقر وابن عمر وأبي زيد الأنصاري، وهذا حديث حسن صحيح، والعمل على هذا
عند أهل العلم ألا يضحى بالمصر حتى يصلي الإمام. وقد احتج أبو حنيفة بحديث البراء،
وفيه: "ومن ذبح بعد الصلاة فقد تم نسكه وأصاب سنة المسلمين". خرجه مسلم
أيضا. فعلق الذبح على الصلاة ولم يذكر الذبح، وحديث جابر يقيده. وكذلك حديث البراء
أيضا، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أول ما نبدأ به في يومنا هذا
أن نصلي ثم نرجع فننحر فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا" الحديث. وقال أبو عمر بن
عبد البر: لا أعلم خلافا بين العلماء أن من ذبح قبل الصلاة وكان من أهل المصر أنه
غير مضح؛ لقوله عليه السلام: "من ذبح قبل الصلاة فتلك شاة لحم"
(12/42)
الرابعة: وأما أهل البوادي ومن لا أمام له فمشهور
مذهب مالك يتحرى وقت ذبح الإمام، أو أقرب الأئمة إليه. وقال ربيعة وعطاء فيمن لا
إمام له: إن ذبح قبل طلوع الشمس لم يجزه، ويجزيه إن ذبح بعده. وقال أهل الرأي:
يجزيهم من بعد الفجر. وهو
قول ابن المبارك، ذكره عنه الترمذي. وتمسكوا بقوله تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ
مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ}، فأضاف النحر إلى
اليوم. وهل اليوم من طلوع الفجر أو من طلوع الشمس، قولان. ولا خلاف أنه لا يجزى
ذبح الأضحية قبل طلوع الفجر من يوم النحر.
الخامسة: واختلفوا كم أيام النحر؟ فقال مالك: ثلاثة، يوم
النحر ويومان بعده. وبه قال أبو حنيفة والثوري وأحمد بن حنبل، وروي ذلك عن أبي
هريرة وأنس بن مالك من غير اختلاف عنهما. وقال الشافعي: أربعة، يوم النحر وثلاثة
بعده. وبه قال الأوزاعي، وروي ذلك عن علي رضي الله عنه وابن عباس وابن عمر رضي
الله عنهم، وروي عنهم أيضا مثل قول مالك وأحمد. وقيل: "هو يوم النحر خاصة وهو
العاشر من ذي الحجة"؛ وروي عن ابن سيرين. وعن سعيد بن جبير وجابر بن زيد
أنهما قالا: النحر في الأمصار يوم واحد وفي منى ثلاثة أيام. وعن الحسن البصري في
ذلك ثلاث روايات: إحداها:
كما قال مالك، والثانية: كما قال الشافعي، والثالثة: إلى آخر يوم من ذي الحجة؛
فإذا أهل هلال المحرم فلا أضحى.
قلت: وهو قول سليمان بن يسار وأبي سلمة بن عبد الرحمن،
ورويا حديثا مرسلا مرفوعا خرجه الدارقطني: الضحايا إلى هلال ذي الحجة؛ ولم يصح،
ودليلنا قوله تعالى: {فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} الآية، وهذا جمع قلة؛ لكن
المتيقن منه الثلاثة، وما بعد الثلاثة غير متيقن فلا يعمل به. قال أبو عمر بن عبد
البر: أجمع العلماء على أن يوم النحر يوم أضحى، وأجمعوا أن لا أضحى بعد انسلاخ ذي
الحجة، ولا يصح عندي في هذه إلا قولان: أحدهما: قول مالك والكوفيين. والآخر: قول
الشافعي والشاميين؛ وهذان القولان مرويان
(12/43)
عن الصحابة فلا معنى للاشتغال بما خالفهما؛ لأن ما خالفهما
لا أصل له في السنة ولا في قول الصحابة، وما خرج عن هذين فمتروك لهما. وقد روي عن
قتادة قول سادس، وهو أن الأضحى يوم النحر وستة أيام بعده؛ وهذا أيضا خارج عن قول الصحابة
فلا معنى له.
السادسة: واختلفوا في ليالي النحر هل تدخل مع الأيام فيجوز
فيها الذبح أولا؛ فروي عن مالك في المشهور أنها لا تدخل فلا يجوز الذبح بالليل. وعليه جمهور
أصحابه وأصحاب الرأي؛ لقوله تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ}
فذكر الأيام، وذكر الأيام دليل على أن الذبح في الليل لا يجوز. وقال أبو حنيفة
والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور: الليالي داخلة في الأيام ويجزى الذبح فيها. وروي
عن مالك وأشهب نحوه، ولأشهب تفريق بين الهدي والضحية، فأجاز الهدي ليلا ولم يجز
الضحية ليلا.
السابعة: قوله تعالى: {عَلَى مَا رَزَقَهُمْ} أي
على ذبح ما رزقهم. {مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} والأنعام هنا الإبل والبقر
والغنم. وبهيمة الأنعام هي الأنعام، فهو كقولك صلاة الأولى، ومسجد الجامع.
الثامنة: قوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا} أمر معناه الندب عند
الجمهور. ويستحب للرجل أن يأكل من هديه وأضحيته وأن يتصدق بالأكثر، مع تجويزهم
الصدقة بالكل وأكل الكل. وشذت طائفة فأوجبت الأكل والإطعام بظاهر الآية. ولقول
عليه السلام: "فكلوا وادخروا وتصدقوا". قال الكيا: قوله تعالى:
{فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا} يدل على أنه لا يجوز بيع جميعه ولا
التصدق بجميعه.
التاسعة: دماء الكفارات لا يأكل منها أصحابها. ومشهور مذهب
مالك رضي الله عنه أنه لا يأكل من ثلاث: جزاء الصيد، ونذر المساكين وفدية الأذى،
ويأكل مما سوى ذلك إذا بلغ محله واجبا كان أو تطوعا، ووافقه على ذلك جماعة من
السلف وفقهاء الأمصار.
العاشرة: فإن أكل مما منع منه فهل يغرم قدر ما أكل أو يغرم
هديا كاملا؛ قولان في مذهبنا، وبالأول قال ابن الماجشون. قال ابن العربي: وهو الحق، لا
شيء عليه غيره
(12/44)
وكذلك لو نذر هديا للمساكين فيأكل منه بعد أن بلغ محله لا
يغرم إلا ما أكل - خلافا للمدونة - لأن النحر قد وقع، والتعدي إنما هو على اللحم،
فيغرم قدر ما تعدى فيه.
قوله تعالى: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} يدل على وجوب إخراج
النذر إن كان دما أو هديا أو غيره، ويدل ذلك على أن النذر لا يجوز أن يأكل منه
وفاء بالنذر، وكذلك جزاء الصيد وفدية الأذى؛ لأن المطلوب أن يأتي به كاملا من غير
نقص لحم ولا غيره، فإن أكل من ذلك كان عليه هدي كامل. والله أعلم.
الحادية عشرة: هل يغرم قيمة اللحم أو يغرم طعاما؛ ففي كتاب
محمد عن عبد الملك أنه يغرم طعاما. والأول أصح؛ لأن الطعام إنما هو في مقابلة
الهدي كله عند تعذره عبادة، وليس حكم التعدي حكم العبادة.
الثانيةعشرة: فإن عطب من هذا الهدي المضمون الذي هو جزاء
الصيد وفدية الأذى ونذر المساكين شيء قبل محله أكل منه صاحبه وأطعم منه الأغنياء
والفقراء ومن أحب، ولا يبيع من لحمه ولا جلده ولا من قلائده شيئا. قال إسماعيل بن إسحاق:
لأن الهدي المضمون إذا عطب قبل أن يبلغ محله كان عليه بدله، ولذلك جاز أن يأكل منه
صاحبه ويطعم. فإذا عطب الهدي التطوع قبل أن يبلغ محله لم يجز أن يأكل منه ولا
يطعم؛ لأنه لما لم يكن عليه بدله خيف أن يفعل ذلك بالهدي وينحر من غير أن يعطب،
فاحتيط على الناس، وبذلك مضى العمل. وروى أبو داود عن ناجية الأسلمي أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم بعث معه بهدي وقال: "إن عطب منها شيء فانحره ثم اصبغ نعله في
دمه ثم خل بينه وبين الناس". وبهذا الحديث قال مالك والشافعي في أحد قوليه،
وأحمد وإسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي ومن اتبعهم في الهدي التطوع: لا يأكل منها
سائقها شيئا، ويخلى بينها وبين الناس يأكلونها. وفي صحيح مسلم: "ولا تأكل
منها أنت ولا أحد من أهل رفقتك". وبظاهر هذا النهي قال ابن عباس والشافعي في
قوله الآخر، واختاره ابن المنذر، فقالا: لا يأكل منها ولا أحد من أهل رفقته. قال أبو
عمر: قوله عليه السلام "ولا يأكل منها أحد ولا أحد من أهل رفقتك" لا
يوجد إلا في حديث ابن عباس. وليس ذلك
(12/45)
في حديث هشام بن عروة عن أبيه عن ناجية. وهو عندنا أصح من
حديث ابن عباس، وعليه العمل عند الفقهاء. ويدخل في قوله عليه السلام: "خل
بينها وبين الناس" أهل رفقته وغيرهم. وقال الشافعي وأبو ثور: ما كان من الهدي
أصله واجبا فلا يأكل منه، وما كان تطوعا ونسكا أكل منه وأهدى وادخر وتصدق. والمتعة والقرآن
عنده نسك. ونحوه مذهب الأوزاعي. وقال أبو حنيفة وأصحابه: يأكل من هدي المتعة والتطوع، ولا يأكل
مما سوى ذلك مما وجب بحكم الإحرام. وحكي عن مالك: لا يأكل من دم الفساد.
وعلى قياس هذا لا يأكل من دم الجبر؛ كقول الشافعي والأوزاعي. تمسك مالك بأن جزاء
الصيد جعله الله للمساكين بقوله تعالى: {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ}
[المائدة: 95]. وقال في فدية الأذى: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ
نُسُكٍ} [البقرة:
196]. وقال صلى الله عليه وسلم لكعب بن عجرة: "أطعم ستة مساكين مدين لكل
مسكين أو صم ثلاثة أيام أو انسك شاة". ونذر المساكين مصرح به، وأما غير ذلك
من الهدايا فهو باق على أصل قوله: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ
شَعَائِرِ اللَّهِ} إلى قوله {فَكُلُوا مِنْهَا} [الحج: 36]. وقد أكل النبي صلى الله عليه وسلم وعلي
رضي الله عنه من الهدي الذي جاء به وشربا من مرقه. وكان عليه السلام قارنا في أصح
الأقوال والروايات؛ فكان هديه على هذا واجبا، فما تعلق به أبو حنيفة غير صحيح.
والله أعلم. وإنما أذن الله سبحانه من الأكل من الهدايا لأجل أن العرب كانت لا ترى
أن تأكل من نسكها، فأمر الله سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بمخالفتهم؛
فلا جرم كذلك شرع وبلغ، وكذلك فعل حين أهدى وأحرم صلى الله عليه وسلم.
الثالثة عشرة: {فَكُلُوا مِنْهَا} قال بعض العلماء: قوله
تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا} ناسخ لفعلهم، لأنهم كانوا يحرمون لحوم الضحايا على
أنفسهم ولا يأكلون منها - كما قلناه في الهدايا - فنسخ الله ذلك بقوله: {فَكُلُوا مِنْهَا}
وبقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من ضحى فليأكل من أضحيته" ولأنه عليه
السلام أكل من أضحيته وهديه. وقال الزهري: من السنة أن تأكل أولا من الكبد.
(12/46)
الرابعة عشرة: ذهب أكثر العلماء إلى أنه يستحب أن يتصدق
بالثلث ويطعم الثلث ويأكل هو وأهله الثلث. وقال ابن القاسم عن مالك: ليس عندنا في
الضحايا قسم معلوم موصوف. قال مالك في حديثه: وبلغني عن ابن مسعود، وليس عليه
العمل. روى الصحيح وأبو داود قال: ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة ثم قال:
"يا ثوبان، أصلح لحم هذه الشاة" قال: فما زلت أطعمه منها حتى قدم
المدينة. وهذا نص في الفرض. واختلف قول الشافعي؛ فمرة قال: يأكل النصف ويتصدق
بالنصف لقوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} فذكر
شخصين. وقال مرة: يأكل ثلثا ويهدي ثلثا ويطعم ثلثا، لقوله تعالى: {فَكُلُوا
مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج: 36] فذكر ثلاثة.
الخامسة عشرة: المسافر يخاطب بالأضحية كما يخاطب بها
الحاضر؛ إذ الأصل عموم الخطاب بها، وهو قول كافة العلماء. وخالف في ذلك أبو حنيفة
والنخعي، وروي عن علي؛ والحديث حجة عليهم. واستثنى مالك من المسافرين الحاج بمنى،
فلم ير عليه أضحية، وبه قال النخعي. وروي ذلك عن الخليفتين أبي بكر وعمر وجماعة من
السلف رضي الله عنهم؛ لأن الحاج إنما هو مخاطب في الأصل بالهدي. فإذا أراد أن يضحي
جعله هديا، والناس غير الحاج إنما أمروا بالأضحية ليتشبهوا بأهل منى فيحصل لهم حظ
من أجرهم.
السادسة عشرة: اختلف العلماء في الادخار على أربعة أقوال.
روي عن علي وابن عمر رضي الله عنهما من وجه صحيح أنه لا يدخر من الضحايا بعد ثلاث.
وروياه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وسيأتي. وقالت جماعة: ما روي من النهي عن
الادخار منسوخ؛ فيدخر إلى أي وقت أحب. وبه قال أبو سعيد الخدري وبريدة الأسلمي،
وقالت فرقة: يجوز الأكل منها مطلعا. وقالت طائفة: إن كانت بالناس حاجة إليها فلا
يدخر، لأن النهي إنما كان لعلة وهي قوله عليه السلام: "إنما نهيتكم من أجل
الدافة التي دفت" ولما ارتفعت ارتفع المنع المتقدم لارتفاع موجبه، لا لأنه
منسوخ. وتنشأ هنا مسألة أصولية: وهي
(12/47)
السابعة عشرة: وهي الفرق بين رفع الحكم بالنسخ ورفعه لارتفاع
علته. أعلم أن المرفوع بالنسخ لا يحكم به أبدا، والمرفوع لارتفاع علته يعود الحكم
لعود العلة؛ فلو قدم على أهل بلدة ناس محتاجون في زمان الأضحى؛ ولم يكن عند أهل
ذلك البلد سعة يسدون بها فاقتهم إلا الضحايا لتعين عليهم ألا يدخروها فوق ثلاث كما
فعل النبي صلى الله عليه وسلم.
الثامنة عشرة: بيالأحاديث الواردة في هذا الباب بالمنع
والإباحة صحاح ثابتة. وقد جاء المنع والإباحة معا؛ كما هو منصوص في حديث عائشة
وسلمة بن الأكوع وأبي سعيد الخدري رواها الصحيح. وروى الصحيح عن أبي عبيد مولى ابن
أزهر أنه شهد العيد مع عمر بن الخطاب قال: ثم صليت العيد مع علي بن أبي طالب رضي
الله عنه؛ قال: فصلى لنا قبل الخطبة ثم خطب الناس فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد
نهاكم أن تأكلوا لحوم نسككم فوق ثلاث ليال فلا تأكلوها. وروي عن ابن عمر أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قد نهى أن تؤكل لحوم الأضاحي فوق ثلاث. قال سالم: فكان
ابن عمر لا يأكل لحوم الأضاحي فوق ثلاث. وروى أبو داود عن نبيشة قال قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: "إنا كنا نهيناكم عن لحومها فوق ثلاث لكي تسعكم جاء الله
بالسعة فكلوا وادخروا واتجروا إلا أن هذه الأيام أيام أكل وشرب وذكر لله عز
وجل". قال أبو جعفر النحاس: وهذا القول أحسن ما قيل في هذا حتى تتفق الأحاديث
ولا تضاد، ويكون قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وعثمان محصور، لأن الناس كانوا
في شدة محتاجين، ففعل كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدمت الدافة.
والدليل على هذا ما حدثنا إبراهيم بن شريك قال: حدثنا أحمد قال حدثنا ليث قال
حدثني الحارث بن يعقوب عن يزيد بن أبي يزيد عن امرأته أنها سألت عائشة رضي الله عنها
عن لحوم الأضاحي فقالت: قدم علينا علي بن أبي طالب من سفر فقدمنا إليه منه، فأبى
أن يأكل حتى يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله فقال: "كل من ذي الحجة إلى ذي الحجة". وقال
الشافعي: من قال بالنهي عن الادخار بعد ثلاث لم يسمع الرخصة. ومن قال بالرخصة
مطلقا لم يسمع النهي عن الادخار. ومن قال بالنهي
(12/48)
الرخصة سمعهما جميعا فعمل بمقتضاهما. والله أعلم. وسيأتي في سورة
"الكوثر" الاختلاف في وجوب الأضحية وندبيتها وأنها ناسخة لكل ذبح تقدم،
إن شاء الله تعالى.
التاسعة عشرة: قوله تعالى: {وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ
الْفَقِيرَ} {الْفَقِيرَ} من صفة البائس، وهو الذي ناله البؤس وشدة الفقر؛ يقال:
بئس يبأس بأسا إذا افتقر؛ فهو بائس. وقد يستعمل فيمن نزلت به نازلة دهر وإن
لم يكن فقيرا؛ ومنه قوله عليه السلام: "لكن البائس سعد بن خولة". ويقال:
رجل بئيس أي شديد. وقد بؤس يبؤس بأسا إذ اشتد؛ ومنه قوله تعالى: {وَأَخَذْنَا
الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ} [الأعراف: 165] أي شديد. وكلما كان التصدق
بلحم الأضحية أكثر كان الأجر أوفر. وفي القدر الذي يجوز أكله خلاف قد ذكرناه؛ فقيل
النصف؛ لقوله: "فكلوا"،
"وأطعموا" وقيل الثلثان؛ لقوله: "ألا فكلوا وادخروا واتجروا"
أي اطلبوا الأجر بالإطعام. واختلف في الأكل والإطعام؛ فقيل واجبان. وقيل مستحبان.
وقيل بالفرق بين الأكل والإطعام؛ فالأكل مستحب والإطعام واجب؛ وهو قول الشافعي.
الموفية عشرين: قوله تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ}
أي ثم ليقضوا بعد نحر الضحايا والهدايا ما بقي عليهم من أمر الحج؛ كالحلق ورمي
الجمار وإزالة شعث ونحوه. قال ابن عرفة: أي ليزيلوا عنهم أدرانهم. وقال الأزهري:
التفث الأخذ من الشارب وقص الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة؛ وهذا عند الخروج من
الإحرام. وقال النضر بن شميل: التفث في كلام العرب إذهاب الشعث وسمعت الأزهري
يقول: التفث في كلام العرب لا يعرف إلا من قول ابن عباس وأهل التفسير. وقال الحسن:
"هو إزالة قشف الإحرام. وقيل:
التفث مناسك الحج كلها"، رواه ابن عمر وابن عباس. قال ابن العربي: لو صح
عنهما لكان حجة لشرف الصحبة والإحاطة باللغة، قال: وهذه اللفظة غريبة لم يجد أهل
العربية فيها شعرا ولا أحاطوا بها خبرا؛ لكني تتبعت التفث لغة فرأيت أبا عبيدة معمر
بن المثنى قال:
(12/49)
إنه قص الأظفار وأخذ الشارب، وكل ما يحرم على المحرم إلا
النكاح. قال: ولم يجيء فيه شعر يحتج به. وقال صاحب العين: التفث هو الرمي والحلق
والتقصير والذبح وقص الأظفار والشارب والإبط. وذكر الزجاج والفراء نحوه، ولا أراه
أخذوه إلا من قول العلماء. وقال قطرب: تفث الرجل إذا كثر وسخه. قال أمية بن أبي
الصلت:
حفوا رؤوسهم لم يحلقوا تفثا ... ولم يسلوا لهم قملا
وصئبانا
وما أشار إليه قطرب هو الذي قال ابن وهب عن مالك، وهو
الصحيح في التفث. وهذه صورة إلقاء التفث لغة، وأما حقيقته الشرعية فإذا نحر الحاج أو
المعتمر هديه وحلق رأسه وأزال وسخه وتطهر وتنقى ولبس فقد أزال تفثه ووفى نذره؛
والنذر ما لزم الإنسان والتزمه. قلت: ما حكاه عن قطرب وذكر من الشعر قد ذكره في تفسيره
الماوردي وذكر بيتا آخر فقال:
قضوا تفثا ونحبا ثم ساروا ... إلى نجد وما انتظروا عليا
وقال الثعلبي: وأصل التفث في اللغة الوسخ؛ تقول العرب
للرجل تستقذره: ما أتفثك؛ أي ما أوسخك وأقذرك. قال أمية بن أبي الصلت:
ساخين آباطهم لم يقذفوا تفثا ... وينزعوا عنهم قملا
وصئبانا
الماوردي: قيل لبعض الصلحاء ما المعنى في شعث
المحرم؟ قال: ليشهد الله تعالى منك الإعراض عن العناية بنفسك فيعلم صدقك في بذلها
لطاعته.
الحادية والعشرون: قوله تعالى: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ}
أمروا بوفاء النذر مطلقا إلا ما كان معصية؛ لقوله عليه السلام: "لا وفاء لنذر
في معصية الله" ، وقوله: "من نذر أن يطيع
الله فليطعه ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه" {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ
الْعَتِيقِ} الطواف المذكور في هذه الآية هو طواف الإفاضة الذي هو من واجبات الحج.
قال الطبري: لا خلاف بين المتأولين في ذلك.
(12/50)
الثانية عشرة: للحج ثلاثة أطواف: طواف القدوم، وطواف
الإفاضة، وطواف الوداع. قال إسماعيل بن إسحاق: طواف القدوم سنة، وهو ساقط عن
المراهق وعن المكي وعن كل من يحرم بالحج من مكة. قال: والطواف الواجب الذي لا يسقط
بوجه من الوجوه، وهو طواف الإفاضة الذي يكون بعد عرفة؛ قال الله تعالى: {ثُمَّ
لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ
الْعَتِيقِ}. قال: فهذا هو الطواف المفترض في كتاب الله عز وجل، وهو الذي يحل به
الحاج من إحرامه كله. قال الحافظ أبو عمر: ما ذكره إسماعيل في طواف الإفاضة هو قول
مالك عند أهل المدينة، وهي رواية ابن وهب وابن نافع وأشهب عنه. وهو قول جمهور أهل
العلم من فقهاء أهل الحجاز والعراق. وقد روى ابن القاسم وابن عبد الحكم عن مالك أن
طواف القدوم واجب. وقال ابن القاسم في غير موضع من المدونة ورواه أيضا عن مالك:
الطواف الواجب طواف القادم مكة. وقال: من نسي الطواف في حين دخوله مكة أو نسي شوطا
منه، أو نسي السعي أو شوطا منه حتى رجع إلى بلده ثم ذكره، فإن لم يكن أصاب النساء
رجع إلى مكة حتى يطوف بالبيت ويركع ويسعى بين الصفا والمروة، ثم يهدي. وإن أصاب
النساء رجع فطاف وسعى، ثم اعتمر وأهدى. وهذا كقوله فيمن نسي طواف الإفاضة سواء.
فعلى هذه الرواية الطوافان جميعا واجبان، والسعي أيضا. وأما طواف الصدر وهو المسمى
بطواف الوداع فروى ابن القاسم وغيره عن مالك فيمن طاف طواف الإفاضة على غير وضوء:
أنه يرجع من بلده فيفيض إلا أن يكون تطوع بعد ذلك. وهذا مما أجمع عليه مالك
وأصحابه، وأنه يجزيه تطوعه عن الواجب المفترض عليه من طوافه. وكذلك أجمعوا أن من
فعل في حجه شيئا تطوع به من عمل الحج، وذلك الشيء واجب في الحج قد جاز وقته، فإن
تطوعه ذلك يصير للواجب لا للتطوع؛ بخلاف الصلاة. فإذا كان التطوع ينوب عن الفرض في
الحج كان الطواف لدخول مكة أحرى أن ينوب عن طواف الإفاضة، إلا ما كان من الطواف بعد
رمي جمرة العقبة يوم النحر أو بعده للوداع. ورواية ابن عبد الحكم عن مالك بخلاف
ذلك؛
(12/51)
لأن فيها أن طواف الدخول مع السعي ينوب عن طواف الإفاضة
لمن رجع إلى بلده مع الهدي، كما ينوب طواف الإفاضة مع السعي لمن لم يطف ولم يسع حين
دخوله مكة مع الهدي أيضا عن طواف القدوم. ومن قال هذا قال: إنما قيل لطواف الدخول
واجب ولطواف الإفاضة واجب لأن بعضهما ينوب عن بعض، ولأنه قد روي عن مالك أنه يرجع
من نسي أحدهما من بلده على ما ذكرنا، ولأن الله عز وجل لم يفترض على الحاج إلا
طوافا واحدا بقوله: {وَأَذِّنْ
فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} ، وقال في سياق الآية: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ
الْعَتِيقِ} والواو عندهم في هذه الآية وغيرها لا توجب رتبة إلا بتوقيف. وأسند
الطبري عن عمرو بن أبي سلمة قال: سألت زهيرا عن قوله تعالى:
{وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} فقال: هو طواف الوداع. وهذا يدل على أنه
واجب، وهو أحد قولي الشافعي؛ لأنه عليه السلام رخص للحائض أن تنفر دون أن تطوفه،
ولا يرخص إلا في الواجب.
الثالثة والعشرون: اختلف المتأولون في وجه صفة البيت
بالعتيق؛ فقال مجاهد والحسن: العتيق
القديم. يقال: سيف عتيق، وقد عتق أي قدم؛ وهذا قول يعضده النظر. وفي الصحيح
"أنه أول مسجد وضع في الأرض". وقيل عتيقا لأن الله أعتقه من أن يتسلط
عليه جبار بالهوان إلى انقضاء الزمان؛ قال معناه ابن الزبير مجاهد. وفي الترمذي عن
عبد الله بن الزبير قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما سمي البيت العتيق لأنه لم يظهر عليه
جبار" قال: هذا حديث حسن صحيح، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا.
فإن ذكر ذاكر الحجاج بن يوسف ونصبه المنجنيق على الكعبة حتى كسرها قيل له: إنما
أعتقها عن كفار الجبابرة؛ لأنهم إذا أتوا بأنفسهم متمردين ولحرمة البيت غير
معتقدين، وقصدوا الكعبة بالسوء فعصمت منهم ولم تنلها أيديهم، كان ذلك دلالة على أن
الله عز وجل صرفهم عنها قسرا. فأما المسلمون الذين اعتقدوا حرمتها فإنهم إن كفوا
عنها لم يكن في ذلك من الدلالة على منزلتها عند الله مثل ما يكون منها في كف
الأعداء؛ فقصر الله تعالى هذه الطائفة عن الكف بالنهي والوعيد، ولم يتجاوزه إلى
الصرف بالإلجاء والاضطرار،
(12/52)
وجعل الساعة موعدهم، والساعة أدهى وأمر. وقالت طائفة: سمي
عتيقا لأنه لم يملك موضعه قط. وقالت
فرقة: سمي عتيقا لأن الله عز وجل يعتق فيه رقاب المذنبين من العذاب. وقيل: سمي عتيقا
لأنه أعتق من غرق الطوفان؛ قال ابن جبير. وقيل: العتيق الكريم. والعتق الكرم. قال
طرفة يصف أذن الفرس:
مؤللتان تعرف العتق فيهما ... كسامعتي مذعورة وسط ربرب
وعتق الرقيق: الخروج من ذل الرق إلى كرم الحرية. ويحتمل أن
يكون العتيق صفة مدح تقتضي جودة الشيء؛ كما قال عمر: حملت على فرس عتيق؛ الحديث.
والقول الأول أصح للنظر والحديث الصحيح. قال مجاهد: خلق الله البيت قبل الأرض
بألفي عام، وسمي عتيقا لهذا؛ والله أعلم.
( معلومات الكتاب - عودة إلى القرآن - فهرس القرآن )
============
الحج - تفسير القرطبي
الآيتان: 30 - 31 {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ
حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ
الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ
الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ، حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ
مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ
فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ}
فيه ثمان مسائل:-
الأولى: قوله تعالى: {ذَلِكَ} يحتمل أن يكون في
موضع رفع بتقدير: فرضكم ذلك، أو الواجب ذلك. ويحتمل أن يكون في موضع نصب بتقدير:
امتثلوا ذلك؛ ونحو هذه الإشارة البليغة قول زهير:
هذا وليس كمن يعيا بخطته ... وسط الندي إذا ما قائل نطقا
(12/53)
الخامسة: {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} والزور:
الباطل والكذب. وسمي زورا لأنه أميل عن الحق؛ ومنه {تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ} ،
[الكهف: 17]، ومدينة زوراء؛ أي مائلة. وكل ما عدا الحق فهو كذب وباطل وزور. وفي
الخبر أنه عليه السلام قام خطيبا فقال: "عدلت شهادة الزور الشرك بالله"
قالها مرتين أو ثلاثا. يعني أنها قد جمعت مع عبادة الوثن في النهي عنها.
السادسة: هذه الآية تضمنت الوعيد على الشهادة بالزور،
وينبغي للحاكم إذا عثر على الشاهد بالزور أن يعزره وينادي عليه ليعرف لئلا يغتر
بشهادته أحد. ويختلف الحكم في شهادته إذا تاب؛ فإن كان من أهل العدالة المشهور بها
المبرز فيها لم تقبل؛ لأنه لا سبيل إلى علم حاله في التوبة؛ إذ لا يستطيع أن يفعل
من القربات أكثر مما هو عليه. وإن كان دون ذلك فشمر في العبادة وزادت حاله في
التقى قبل شهادته. وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن من
أكبر الكبائر الإشراك بالله وعقوق الوالدين وشهادة الزور وقول الزور". وكان
رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئا فجلس فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت.
السابعة: قوله تعالى: {حُنَفَاءَ لِلَّهِ} معناه
مستقيمين أو مسلمين مائلين إلى الحق. ولفظة {حُنَفَاءَ} من الأضداد تقع على
الاستقامة وتقع على الميل. و {حُنَفَاءَ}
نصب على الحال. وقيل: {حُنَفَاءَ} حجاجا؛ وهذا تخصيص لا حجة معه. {وَمَنْ يُشْرِكْ
بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ} أي هو يوم القيامة بمنزلة من لا
يملك لنفسه نفعا ولا يدفع عن نفسه ضرا ولا عذابا؛ فهو بمنزلة من خر من السماء، فهو
لا يقدر أن يدفع عن نفسه. ومعنى {فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ} أي تقطعه
بمخالبها. وقيل: هذا عند خروج روحه وصعود الملائكة بها إلى سماء الدنيا، فلا يفتح
لها فيرمى بها إلى الأرض؛ كما في حديث البراء، وقد ذكرناه في التذكرة. والسحيق:
البعيد؛ ومنه قوله تعالى: {فَسُحْقاً لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 11]، وقوله
عليه الصلاة والسلام: "فسحقا فسحقا".
(12/54)
الخامسة- قوله تعالى :{ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ } والزور
: الباطل والكذب. وسمي زورا لأنه أميل عن الحق ، ومنه { تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ
} ، ومدينة زوراء ، أي مائلة . وكل ما عدا الحق فهو كذب وباطل وزور . وفي الخبر
أنه عليه السلام قام خطيبا فقال : "عدلت شهادة الزور الشرك بالله "
قالها مرتين أو ثلاثا . يعني
أنها قد جمعت مع عبادة الوثن في النهي عنها .
السادسة- هذه الآية تضمنت الوعيد على الشهادة بالزور ،
وينبغي للحاكم إذا عثر على الشاهد بالزور أن يعزه وينادي عليه ليعرف لئلا يغتر
بشهادته أحد. ويختلف الحكم في شهادته إذا تاب ، فإن كان من أهل العدالة المشهور
بها المبرز فيها لم تقبل لأنه لا سبيل إلى علم حاله في التوبة ، إذا لا يستطيع أن
يفعل من القربات أكثر مما هو عليه . وإن كان دون ذلك فشمر في العبادة وزادت حاله
في التقى قبلت شهادته . وفي "الصحيح" عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
قال : " إن أكبر الكبائر الإشراك بالله وعقوق الوالدين وشهادة الزور وقول
الزور " . وكان
رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئا فجلس فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت.
السابعة - { حُنَفَاءَ لِلَّهِ } معناه مستقيمين أو مسلمين
مائلين إلى الحق . ولفظة { حُنَفَاءَ } من الأضداد تقع على الاستقامة وتقع على الميل
. و { حُنَفَاءَ } نصب على الحال . وقيل : { حُنَفَاءَ } حجاجا ، وهذا تخصيص لا
حجة معه .
الثامنة- قوله تعالى { وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ
فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ } أي هو يوم القيامة بمنزلة من لا يملك لنفسه
نفعا ولا يدفع عن نفسه ضرا ولا عذابا ، فهو بمنزلة من خر من السماء , فهو لا يقدر
أن يدفع عن نفسه . ومعنى { فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ } أي تقطعه بمخالبها .وقيل : هذا عند خروج
روحه وصعود الملائكة بها إلى السماء الدنيا ، فلا يفتح لها فيرمى بها إلى الأرض ،
كما في حديث البراء ، وقد ذكرناه في التذكرة . والسحيق : البعيد ، ومنه قوله تعالى
: { فَسُحْقاً لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ } وقوله عليه الصلاة والسلام : " فسحقا
فسحقا"
(12/55)
الآيتان: 32 - 33 {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ
شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ، لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ
إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ}
فيه سبع مسائل:-
الأولى: قوله تعالى: {ذَلِكَ} فيه ثلاثة أوجه.
قيل: يكون في موضع رفع بالابتداء، أي ذلك أمر الله. ويجوز أن يكون في موضع رفع على
خبر ابتداء محذوف. ويجوز أن يكون في موضع نصب، أي اتبعوا ذلك.
الثانية: قوله تعالى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ
اللَّهِ} الشعائر جمع شعيرة، وهو كل شيء لله تعالى فيه أمر أشعر به وأعلم؛ ومنه
شعار القوم في الحرب؛ أي علامتهم التي يتعارفون بها. ومنه إشعار البدنة وهو الطعن
في جانبها الأيمن حتى يسيل الدم فيكون علامة، فهي تسمى شعيرة بمعنى المشعورة.
فشعائر الله أعلام دينه لا سيما ما يتعلق بالمناسك. وقال قوم: المراد هنا تسمين
البدن والاهتمام بأمرها والمغالاة بها؛ قال ابن عباس ومجاهد وجماعة. وفيه إشارة
لطيفة، وذلك أن أصل شراء البدن ربما يحمل على فعل ما لا بد منه، فلا يدل على
الإخلاص، فإذا عظمها مع حصول الإجزاء بما دونه فلا يظهر له عمل إلا تعظيم الشرع،
وهو من تقوى القلوب. والله أعلم.
الثالثة: الضمير في {إِنَّهَا} عائد على الفعلة التي
يتضمنها الكلام، ولو قال فإنه لجاز. وقيل إنها راجعة إلى الشعائر؛ أي فإن تعظيم
الشعائر، فحذف المضاف لدلالة الكلام عليه، فرجعت الكناية إلى الشعائر. {فَإِنَّهَا
مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} قرئ {الْقُلُوبِ} بالرفع على أنها فاعلة
بالمصدر الذي هو {تَقْوَى} وأضاف التقوى إلى القلوب لأن حقيقة التقوى في القلب؛
ولهذا قال عليه الصلاة والسلام في صحيح الحديث: "التقوى هاهنا" وأشار
إلى صدره.
الرابعة: قوله تعالى: {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ} يعني
البدن من الركوب والدر والنسل والصوف وغير ذلك، إذا لم يبعثها ربها هديا، فإذا
بعثها فهو الأصل المسمى؛ قال ابن عباس.
(12/56)
فإذا صارت بدنا هديا فالمنافع فيها أيضا ركوبها عند
الحاجة، وشرب لبنها بعد ري فصيلها. وفي الصحيح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم "رأى رجلا يسوق بدنة فقال: "اركبها" فقال: إنها بدنة.
فقال: "اركبها" قال: إنها بدنة. قال: "اركبها ويلك" في
الثانية أو الثالثة". وروي عن جابر بن عبد الله وسئل عن ركوب الهدي فقال:
سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها حتى
تجد ظهرا". والأجل المسمى على هذا القول نحرها؛ قاله عطاء بن أبي رباح.
السادسة: ذهب بعض العلماء إلى وجوب ركوب البدنة
لقوله عليه الصلاة والسلام:
"اركبها". وممن أخذ بظاهره أحمد واسحاق وأهل الظاهر.
وروى ابن نافع عن مالك: لا بأس بركوب البدنة ركوبا غير فادح. والمشهور أنه لا
يركبها إلا إن اضطر إليها لحديث جابر فإنه مقيد والمقيد يقضي على المطلق. وبنحو
ذلك قال الشافعي وأبو حنيفة. ثم إذا ركبها عنده الحاجة نزل؛ قال إسماعيل القاضي. وهو الذي يدل
عليه مذهب مالك، وهو خلاف ما ذكره ابن القاسم أنه لا يلزمه النزول، وحجته إباحة
النبي صلى الله عليه وسلم له الركوب فجاز له استصحابه. وقوله: "إذا ألجئت إليها حتى تجد
ظهرا" يدل على صحة ما قاله الإمام الشافعي وأبو حنيفة رضي الله عنهما؛ وما
حكاه إسماعيل عن مذهب مالك. وقد جاء صريحا أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا
يسوق بدنة وقد جهد، فقال: "اركبها".
وقال أبو حنيفة والشافعي: إن نقصها الركوب المباح فعليه قيمة ذلك ويتصدق به.
قوله تعالى: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} يريد أنها تنتهي
إلى البيت، وهو الطواف. فقول: {مَحِلُّهَا} مأخوذ من إحلال المحرم. والمعنى أن
شعائر الحج كلها من الوقوف بعرفة ورمي الجمار والسعي ينتهي إلى طواف الإفاضة
بالبيت العتيق. فالبيت على هذا التأويل مراد بنفسه؛ قاله مالك في الموطأ. وقال
عطاء: ينتهي إلى مكة. وقال الشافعي: إلى الحرم. وهذا بناء على أن الشعائر هي
البدن، ولا وجه لتخصيص الشعائر مع عمومها وإلغاء خصوصية ذكر البيت. والله أعلم
(12/57)
الآية: 34 {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً
لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ
فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ}
قوله تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً} لما
ذكر تعالى الذبائح بين أنه لم يخل منها أمة، والأمة القوم المجتمعون على مذهب
واحد؛ أي ولكل جماعة مؤمنة جعلنا منسكا. والمنسك الذبح وإراقة الدم؛ قاله مجاهد.
يقال: نسك إذا ذبح ينسك نسكا. والذبيحة نسيكة، وجمعها نسك؛ ومنه قوله تعالى: {أَوْ
صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196]. والنسك أيضا الطاعة. وقال الأزهري في قوله
تعالى: {وَلِكُلِّ
أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً } : إنه يدل على موضع النحر في هذا الموضع، أراد مكان
نسك. ويقال: منسك ومنسك، لغتان، وقرئ بهما. قرأ الكوفيون إلا عاصما بكسر السين،
الباقون بفتحها. وقال الفراء: المنسك في كلام العرب الموضع المعتاد في خير أو شر.
وقيل مناسك الحج لترداد الناس إليها من الوقوف بعرفة ورمي الجمار والسعي. وقال ابن
عرفة في قوله {وَلِكُلِّ
أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً} : أي مذهبا من طاعة الله تعالى؛ يقال: نسك نسك قومه
إذا سلك مذهبهم. وقيل: منسكا عيدا؛ قاله الفراء. وقيل حجا؛ قاله قتادة. والقول
الأول أظهر؛ لقوله تعالى: {لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ
بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} ي على ذبح ما رزقهم. فأمر تعالى عند الذبح بذكره وأن يكون
الذبح له؛ لأنه رازق ذلك. ثم رجع اللفظ من الخبر عن الأمم إلى إخبار الحاضرين بما
معناه: فالإله واحد لجميعكم، فكذلك الأمر في الذبيحة إنما ينبغي أن تخلص له.
قوله تعالى: {فَلَهُ أَسْلِمُوا} معناه لحقه ولوجهه
وإنعامه آمنوا وأسلموا. ويحتمل أن يريد الاستسلام؛ أي له أطيعوا وانقادوا.
{وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} المخبت:
المتواضع الخاشع من المؤمنين. والخبت ما انخفض من الأرض؛ أي بشرهم بالثواب الجزيل.
قال عمرو بن أوس: المخبتون الذين لا يظلمون، وإذا ظلموا لم ينتصروا. وقال مجاهد
فيما روى عنه سفيان عن ابن أبي نجيح: المخبتون المطمئنون بأمر الله عز وجل
(12/58)
الآية: 35 {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ
قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ
وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}
فيه مسألتان:-
الأولى: قوله تعالى: {وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} أي
خافت وحذرت مخالفته. فوصفهم بالخوف والوجل عند ذكره، وذلك لقوة يقينهم ومراعاتهم
لربهم، وكأنهم بين يديه، ووصفهم بالصبر وإقامة الصلاة وإدامتها. وروي أن هذه الآية
قوله: {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} نزلت في أبي بكر وعمر وعلي رضوان الله عليهم.
وقرأ الجمهور {الصلاةِ} بالخفض على الإضافة، وقرأ أبو عمرو {الصلاة} بالنصب على توهم
النون، وأن حذفها للتخفيف لطول الاسم. وأنشد سيبويه:
الحافظو عورة العشيرة...
الثانية: هذه الآية نظير قوله تعالى: {إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا
تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ
يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال: 2]، وقوله تعالى: {اللَّهُ
نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ
جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ
إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:
23]. هذه حالة العارفين بالله، الخائفين من سطوته وعقوبته؛ لا
كما يفعله جهال العوام والمبتدعة الطغام من الزعيق والزئير، ومن النهاق الذي يشبه نهاق
الحمير، فيقال لمن تعاطى ذلك وزعم أن ذلك وجد وخشوع: إنك لم تبلغ أن تساوي حال
رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا حال أصحابه في المعرفة بالله تعالى والخوف منه
والتعظيم لجلاله؛ ومع ذلك فكانت حالهم عند المواعظ الفهم عن الله والبكاء خوفا من
الله. وكذلك وصف الله تعالى أحوال أهل المعرفة عند سماع ذكره وتلاوة كتابه، ومن لم
يكن كذلك فليس على هديهم ولا على طريقتهم؛ قال الله تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا
أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ
(12/59)
تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ
يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [المائدة: 83].
فهذا وصف حالهم وحكاية مقالهم؛ فمن كان مستنا فليستن، ومن تعاطى أحوال المجانين
والجنون فهو من أخسهم حالا؛ والجنون فنون. روى الصحيح عن أنس بن مالك أن الناس
سألوا النبي صلى الله عليه وسلم حتى أحفوه في المسألة، فخرج ذات يوم فصعد المنبر
فقال: "سلوني لا تسألوني عن شيء إلا بينته لكم ما دمت في مقامي هذا"
فلما سمع ذلك القوم أرموا ورهبوا أن يكون بين [يدي] أمر قد حضر. قال أنس: فجعلت
ألتفت يمينا وشمالا فإذا كل إنسان لاف رأسه في ثوبه يبكي. وذكر الحديث. وقد مضى
القول في هذه المسألة بأشبع من هذا في سورة "الأنفال" والحمد لله.
الآية: 36 {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ
شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا
صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ
وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}
فيه عشر مسائل:-
الأولى: قوله تعالى: {وَالْبُدْنَ} وقرأ ابن أبي
إسحاق {والبُدُن} لغتان، واحدتها بَدَنَة. كما يقال: ثمرة وثُمُر وثُمْر، وخشبة
وخشُب وخشْب. وفي التنزيل {وَكَانَ
لَهُ ثَمَرٌ} وقرئ {ثُمْر} لغتان. وسميت بدنة لأنها تبدن، والبدانة السمن. وقيل:
إن هذا الاسم خاص بالإبل. وقيل: البدن جمع {بَدَن} بفتح الباء والدال. ويقال: بَدُن الرجل
"بضم الدال" إذا سمن. وبدّن "بتشديدها" إذا كبر وأسنّ. وفي
الحديث "إني قد بدّنت" أي كبرت وأسننت. وروي {بَدُنْت} وليس له معنى؛ لأنه خلاف صفته
صلى الله عليه وسلم، ومعناه كثرة اللحم. يقال: بدن الرجل يبدُن بدنا وبدانة فهو
بادن؛ أي ضخم.
(12/60)
الثانية: اختلف العلماء في البدن هل تطلق على غير
الإبل من البقر أم لا؛ فقال ابن مسعود وعطاء والشافعي: لا. وقال مالك وأبو حنيفة:
نعم. وفائدة الخلاف فيمن نذر بدنة فلم يجد البدنة أو لم يقدر عليها وقدر على
البقرة؛ فهل تجزيه أم لا؛ فعلى مذهب الشافعي وعطاء لا تجزيه. وعلى مذهب مالك
تجزيه. والصحيح ما ذهب إليه الشافعي وعطاء؛ لقوله عليه السلام في الحديث الصحيح في
يوم الجمعة: "من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة ومن راح في الساعة الثانية
فكأنما قرب بقرة" الحديث. فتفريقه عليه السلام بين البقرة والبدنة يدل على أن
البقرة لا يقال عليها بدنة؛ والله أعلم. وأيضا قوله تعالى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} يدل على
ذلك؛ فإن الوصف خاص بالإبل. والبقر يضجع ويذبح كالغنم؛ على ما يأتي. ودليلنا أن
البدنة مأخوذة من البدانة وهو الضخامة، والضخامة توجد فيهما جميعا. وأيضا فإن
البقرة في التقرب إلى الله تعالى بإراقة الدم بمنزلة الإبل؛ حتى تجوز البقرة في
الضحايا على سبعة كالإبل. وهذا حجة لأبي حنيفة حيث وافقه الشافعي على ذلك، وليس
ذلك في مذهبنا. وحكى ابن شجرة أنه يقال في الغنم بدنة، وهو قول شاذ. والبدن هي الإبل
التي تهدى إلى الكعبة. والهدي عام في الإبل والبقر والغنم.
الثالثة: قوله تعالى: {مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} نص
في أنها بعض الشعائر. وقوله:
"لكم فيها خير" يريد به المنافع التي تقدم ذكرها.
والصواب عمومه في خير الدنيا والآخرة.
الرابعة: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ}
أي انحروها على اسم الله. و {صَوَافَّ} أي قد صفت قوائمها. والإبل تنحر قياما معقولة. وأصل هذا
الوصف في الخيل؛ يقال: صفن الفرس فهو صافن إذا قام على ثلاثة قوائم وثنى سنبك
الرابعة؛ والسنبك طرف الحافر. والبعير
إذا أرادوا نحره تعقل إحدى يديه فيقوم على ثلاث قوائم. وقرأ الحسن والأعرج ومجاهد
وزيد بن أسلم وأبو موسى الأشعري {صَوَافِيَ} أي خوالص لله عز وجل لا يشركون به في
التسمية على نحرها أحدا. وعن الحسن أيضا {صوافٍ} بكسر الفاء وتنوينها مخففة، وهي بمعنى
التي قبلها، لكن حذفت الياء تخفيفا على غير قياس
(12/61)
و {صوافّ} قراءة الجمهور بفتح الفاء وشدها؛ من صف يصف.
وواحد صواف صافة، وواحد صوافي صافية. وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وأبو جعفر
محمد بن علي {صوافِن} بالنون جمع صافنة. ولا يكون واحدها صافنا؛ لأن فاعلا لا يجمع
على فواعل إلا في حروف مختصة لا يقاس عليها؛ وهي فارس وفوارس، وهالك وهوالك، وخالف
وخوالف. والصافنة هي التي قد رفعت إحدى يديها بالعقل لئلا تضطرب. ومنه قوله تعالى:
{الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ} [ص: 31]. وقال عمرو بن كلثوم:
تركنا الخيل عاكفة عليه ... مقلدة أعنتها صفونا
ويروي:
تظل جياده نوحا عليه ... مقلدة أعنتها صفونا
وقال آخر:
ألف الصفون فما يزال كأنه ... مما يقوم على الثلاث كسيرا
وقال أبو عمرو الجرمي: الصافن عرق في مقدم الرجل، فإذا ضرب
على الفرس رفع رجله. وقال الأعشى:
وكل كميت كجذع السحو ... ق يرنو القناء إذا ما صفن
الخامسة: قال ابن وهب: أخبرني ابن أبي ذئب أنه سأل
ابن شهاب عن الصواف فقال: تقيدها ثم تصفها. وقال لي مالك بن أنس مثله. وكافة
العلماء على استحباب ذلك؛ إلا أبا حنيفة والثوري فإنهما أجازا أن تنحر باركة
وقياما. وشذ عطاء فخالف واستحب نحرها باركة. والصحيح ما عليه الجمهور؛ لقوله
تعالى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} معناه سقطت بعد نحرها؛ ومنه وجبت الشمس. وفي
صحيح مسلم عن زياد بن جبير أن ابن عمر أتى على رجل وهو ينحر بدنته باركة فقال: ابعثها قائمة
مقيدة سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم. وروى أبو داود عن أبي الزبير عن جابر،
وأخبرني عبد الرحمن بن سابط أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا ينحرون
البدنة معقولة اليسرى قائمة على ما بقي من قوائمها
(12/62)
السادسة: قال مالك: فإن ضعف إنسان أو تخوف أن
تنفلت بدنته فلا أرى بأسا أن ينحرها معقولة. والاختيار أن تنحر الإبل قائمة غير
معقولة؛ إلا أن يتعذر ذلك فتعقل ولا تعرقب إلا أن يخاف أن يضعف عنها ولا يقوى
عليها. ونحرها باركة أفضل من أن تعرقب. وكان ابن عمر يأخذ الحربة بيده في عنفوان
أيده فينحرها في صدرها ويخرجها على سنامها، فلما أسن كان ينحرها باركة لضعفه،
ويمسك معه الحربة رجل آخر، وآخر بخطامها. وتضجع البقر والغنم.
السابعة: ولا يجوز النحر قبل الفجر من يوم النحر بإجماع.
وكذلك الأضحية لا تجوز قبل الفجر. فإذا طلع الفجر حل النحر بمنى، وليس عليهم
انتظار نحر إمامهم؛ بخلاف الأضحية في سائر البلاد. والمنحر منى لكل حاج، ومكة لكل
معتمر. ولو نحر الحاج بمكة والمعتمر بمنى لم يحرج واحد منهما، إن شاء الله تعالى.
الثامنة: قوله تعالى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} يقال:
وجبت الشمس إذا سقطت، ووجب الحائط إذا سقط. قال قيس بن الخطيم:
أطاعت بنو عوف أميرا نهاهم ... عن السلم حتى كان أول واجب
وقال أوس بن حجر:
ألم تكسف الشمس والبدر والـ ... واكب للجبل الواجب
فقوله تعالى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} يريد إذا سقطت
على جنوبها ميتة. كنى عن الموت بالسقوط على الجنب كما كنى عن النحر والذبح بقوله
تعالى: {فَاذْكُرُوا
اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا} والكنايات في أكثر المواضع أبلغ من التصريح. قال الشاعر:
فتركته جزر السباع ينشنه ... ما بين قلة رأسه والمعصم
(12/63)
وقال عنترة:
وضربت قرني كبشها فتجدلا
أي سقط مقتولا إلى الجدالة، وهي الأرض؛ ومثله كثير.
والوجوب للجنب بعد النحر علامة نزف الدم وخروج الروح منها، وهو وقت الأكل، أي وقت
قرب الأكل؛ لأنها إنما تبتدأ بالسلخ وقطع شيء من الذبيحة ثم يطبخ. ولا تسلخ حتى
تبرد لأن ذلك من باب التعذيب؛ ولهذا قال عمر رضي الله عنه: لا تعجلوا الأنفس أن
تزهق.
التاسعة: قوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا} أمر
معناه الندب. وكل العلماء يستحب أن يأكل الإنسان من هدية وفيه أجر وامتثال؛ إذا
كان أهل الجاهلية لا يأكلون من هديهم كما تقدم. وقال أبو العباس بن شريح: الأكل
والإطعام مستحبان، وله الاقتصار على أيهما شاء. وقال الشافعي: الأكل مستحب
والإطعام واجب، فإن أطعم جميعها أجزاه وإن أكل جميعها لم يجزه، وهذا فيما كان
تطوعا؛ فأما واجبات الدماء فلا يجوز أن يأكل منها شيئا حسبما تقدم بيانه.
{وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} قال مجاهد وإبراهيم والطبري: قوله: {وَأَطْعِمُوا}
أمر إباحة. و {الْقَانِعَ} السائل. يقال: قنع الرجل يقنع قنوعا إذا سأل، بفتح
النون في الماضي وكسرها في المستقبل، يقنع قناعة فهو قنع، إذا تعفف واستغنى ببلغته
ولم يسأل؛ مثل حمد يحمد، قناعة وقنعا وقنعانا؛ قاله الخليل. ومن الأول قول الشماخ:
لمال المرء يصلحه فيغني ... مفاقره أعف من القنوع
وقال ابن السكيت: من العرب من ذكر القنوع بمعنى القناعة،
وهي الرضا والتعفف وترك المسألة. وروي عن أبى رجاء أنه قرأ {وأطعِموا القَنِع}
ومعنى هذا مخالف للأول.
(12/64)
يقال: قنع الرجل فهو قنع إذا رضي. وأما المعتر فهو الذي
يطيف بك يطلب ما عندك، سائلا كان أو ساكنا. وقال محمد بن كعب القرظي ومجاهد
وإبراهيم والكلبي والحسن بن أبي الحسن: المعتر المعترض من غير سؤال. قال زهير:
على مكثريهم رزق من يعتريهم ... وعند المقلين السماحة
والبذل
وقال مالك: أحسن ما سمعت أن القانع الفقير، والعتر الزائر.
وروي عن الحسن أنه قرأ {والمعترِيَ} ومعناه كمعنى المعتر. يقال: اعتره واعتراه
وعره وعراه إذا تعرض لما عنده أو طلبه؛ ذكره النحاس.
الآية: 37 {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا
دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ
لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ}
فيه خمس مسائل:-
الأولى: قوله تعالى: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا} قال
ابن عباس: "كان أهل الجاهلية يضرجون البيت بدماء البدن، فأراد المسلمون أن
يفعلوا ذلك" فنزلت الآية. والنيل لا يتعلق بالبارئ تعالى، ولكنه عبر عنه
تعبيرا مجازيا عن القبول، المعنى: لن يصل إليه. وقال ابن عباس: لن يصعد إليه. ابن
عيسى: لن يقبل لحومها ولا دماءها، ولكن يصل إليه التقوى منكم؛ أي ما أريد به وجهه،
فذلك الذي يقبله ويرفع إليه ويسمعه ويثيب عليه؛ ومنه الحديث "إنما الأعمال
بالنيات" . والقراءة
{لَنْ يَنَالَ اللَّهَ} و {يَنَالُهُ} بالياء فيهما. وعن يعقوب بالتاء فيهما، نظرا
إلى اللحوم.
الثانية: قوله تعالى: {كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ} من
سبحانه علينا بتذليلها وتمكيننا من تصريفها وهي أعظم منا أبدانا وأقوى منا أعضاء،
ذلك ليعلم العبد أن الأمور ليست على ما تظهر إلى العبد من التدبير، وإنما هي بحسب
ما يريدها العزيز القدير، فيغلب الصغير الكبير ليعلم الخلق أن الغالب هو الله
الواحد القهار فوق عباده.
(12/65)
الثالثة: {لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا
هَدَاكُمْ} ذكر سبحانه ذكر اسمه عليها من الآية قبلها فقال عز من قائل:
{فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا} ،
وذكر هنا التكبير. وكان ابن عمر رضي الله عنهما يجمع بينهما إذا نحر هديه فيقول:
باسم الله والله أكبر؛ وهذا من فقهه رضي الله عنه. وفي الصحيح عن أنس قال: ضحى
رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين. قال: ورأيته يذبحها بيده، ورأيته واضعا قدمه
على صفاحهما، وسمى وكبر.
وقد اختلف العلماء في هذا؛ فقال أبو ثور: التسمية متعينة
كالتكبير في الصلاة؛ وكافة العلماء على استحباب ذلك. فلو قال ذكرا أخر فيه اسم من
أسماء الله تعالى وأراد به التسمية جاز. وكذلك لو قال: الله أكبر فقط، أولا إله
إلا الله؛ قال ابن حبيب. فلو لم يرد التسمية لم يجز عن التسمية ولا تؤكل؛ قال الشافعي
ومحمد بن الحسن. وكره كافة العلماء من أصحابنا وغيرهم الصلاة على النبي صلى الله
عليه وسلم عند التسمية في الذبح أو ذكره، وقالوا: لا يذكر هنا إلا الله وحده.
وأجاز الشافعي الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم أو ذكره، وقالوا: لا يذكر هنا
إلا الله وحده. وأجاز الشافعي الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عند الذبح.
الرابعة: ذهب الجمهور إلى أن قول المضحي: اللهم تقبل مني؛
جائز. وكره ذلك أبو حنيفة؛ والحجة عليه ما رواه الصحيح عن عائشة رضي الله عنها،
وفيه: ثم قال "باسم الله اللهم تقبل من محمد وآل محمد ومن أمة محمد" ثم
ضحى به. واستحب بعضهم أن يقول ذلك بنص الآية {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ
أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}
[البقرة: 127]. وكره مالك قولهم: اللهم منك وإليك، وقال:
هذه بدعة. وأجاز ذلك ابن حبيب من أصحابنا والحسن، والحجة لهما ما رواه أبو داود عن
جابر بن عبد الله قال: ذبح النبي صلى الله عليه وسلم يوم الذبح كبشين أقرنين موجوءين
أملحين، فلما وجههما قال: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً - وقرأ إلى قوله: وأنا أول المسلمين - اللهم
منك ولك عن محمد وأمته باسم الله والله أكبر" ثم ذبح. فلعل مالكا لم يبلغه هذا الخبر، أو لم
يصح عنده، أو رأى العمل يخالفه. وعلى هذا يدل قوله: إنه بدعة. والله أعلم.
(12/66)
الخامسة: قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} روي أنها
نزلت في الخلفاء الأربعة؛ حسبما تقدم في الآية التي قبلها. فأما ظاهر اللفظ فيقتضي
العموم في كل محسن.
الآية: 38 {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ
آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ}
روي أنها نزلت بسبب المؤمنين لما كثروا بمكة وآذاهم الكفار
وهاجر من هاجر إلى أرض الحبشة؛ أراد بعض مؤمني مكة أن يقتل من أمكنه من الكفار
ويغتال ويغدر ويحتال؛ فنزلت هذه الآية إلى قوله: {كَفُورٍ}. فوعد فيها سبحانه
بالمدافعة ونهى أفصح نهي عن الخيانة والغدر. وقد مضى في {الأنفال} التشديد في
الغدر؛ وأنه "ينصب للغادر لواء عند استه بقدر غدرته يقال هذه غدرة
فلان". وقيل: المعنى
يدفع عن المؤمنين بأن يديم توفيقهم حتى يتمكن الإيمان من قلوبهم، فلا تقدر الكفار
على إمالتهم عن دينهم؛ وإن جرى إكراه فيعصمهم حتى لا يرتدوا بقلوبهم. وقيل: يدفع
عن المؤمنين بإعلائهم بالحجة. ثم قتل كافر مؤمنا نادر، وإن فيدفع الله عن ذلك
المؤمن بأن قبضه إلى رحمته. وقرأ نافع {يُدَافِعُ} {وَلَوْلاَ دِفَاعُ}. وقرأ
أبو عمرو وابن كثير {يُدَفِعُ}
{وَلَوْلاَ دَفْعُ}. وقرأ عاصم وحمزة والكسائي {يُدَافِعُ}
{وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ}. ويدافع بمعنى يدفع؛ مثل عاقبت اللص، وعافاه الله؛
والمصدر دفعا. وحكى الزهراوي أن {دِفَاعاً} مصدر دفع؛ كحسب حسابا.
( معلومات الكتاب - عودة إلى القرآن - فهرس القرآن )
=============
الحج - تفسير القرطبي
الآية: 39 {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ
ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ}
فيه مسألتان:-
الأولى: قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ
يُقَاتَلُونَ} قيل: هذا بيان قوله {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ
آمَنُوا} أي يدفع عنهم غوائل الكفار بأن يبيح لهم القتال وينصرهم؛ وفيه إضمار، أي
(12/67)
أذن للذين يصلحون للقتال في القتال؛ فحذف لدلالة الكلام
على المحذوف. وقال الضحاك: استأذن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتال
الكفار إذ آذوهم بمكة؛ فأنزل الله {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ
كَفُورٍ} فلما هاجر نزلت {أُذِنَ
لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا}. وهذا ناسخ لكل ما في القرآن من
إعراض وترك صفح. وهي أول آية نزلت في القتال. قال ابن عباس وابن جبير: نزلت عند
هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة. وروى النسائي والترمذي عن ابن
عباس قال: "لما أخرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة قال أبو بكر: أخرجوا
نبيهم ليهلكن؛ فأنزل الله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ
ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} فقال أبو بكر: لقد علمت أنه
سيكون قتال". فقال: هذا حديث حسن. وقد روى غير واحد عن سفيان عن الأعمش عن
مسلم البطين عن سعيد بن جبير مرسلا، ليس فيه: عن ابن عباس.
الثانية: في هذه الآية دليل على أن الإباحة من الشرع،
خلافا للمعتزلة؛ لأن قوله: {أُذِنَ} معناه أبيح؛ وهو لفظ موضوع في اللغة لإباحة كل
ممنوع. وقد تقدم هذا المعنى في "البقرة" وغير موضع. وقرئ {أَذِنَ} بفتح
الهمزة؛ أي أذن الله. {يُقَاتَلُونَ} بكسر التاء أي يقاتلون عدوهم. وقرئ
{يُقَاتَلُونَ} بفتح التاء؛ أي يقاتلهم المشركون وهم المؤمنون. ولهذا قال:
{بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} أي أخرجوا من ديارهم.
الآية:
40 {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ
إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ
بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ
يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ
اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}
(12/68)
فيه ثمان مسائل:-
الأولى: قوله تعالى: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ
دِيَارِهِمْ} هذا أحد ما ظلموا به؛ وإنما أخرجوا لقولهم: ربنا الله وحده. فقوله:
{إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} استثناء منقطع؛ أي لكن لقولهم ربنا
الله؛ قال سيبويه. وقال
الفراء يجوز أن تكون في موضع خفض، يقدرها مردودة على الباء؛ وهو قول أبي إسحاق
الزجاج، والمعنى عنده: الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا بأن يقولوا ربنا الله؛
أي أخرجوا بتوحيدهم، أخرجهم أهل الأوثان. و {الَّذِينَ أُخْرِجُوا} في موضع خفض
بدلا من قوله: {لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ}.
الثانية: قال ابن العربي: قال علماؤنا كان رسول
الله صلى الله عليه وسلم قبل بيعة العقبة لم يؤذن له في الحرب ولم تحل له الدماء؛
إنما يؤمر بالدعاء إلى الله والصبر على الأذى والصفح عن الجاهل مدة عشرة أعوام؛
لإقامة حجة الله تعالى عليهم، ووفاء بوعده الذي امتن به بفضله في قوله: {وَمَا
كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15]. فاستمر الناس في الطغيان
وما استدلوا بواضح البرهان، وكانت قريش قد اضطهدت من اتبعه من قومه من المهاجرين
حتى فتنوهم عن دينهم ونفوهم عن بلادهم؛ فمنهم من فر إلى أرض الحبشة، ومنهم من خرج
إلى المدينة، ومنهم من صبر على الأذى. فلما عتت قريش على الله تعالى وردوا أمره
وكذبوا نبيه عليه السلام، وعذبوا من آمن به ووحده وعبده، وصدق نبيه عليه السلام واعتصم
بدينه، أذن الله لرسوله في القتال والامتناع والانتصار ممن ظلمهم، وأنزل {أُذِنَ
لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا - إلى قوله - الْأُمُورِ}.
الثالثة: في هذه الآية دليل على أن نسبة الفعل
الموجود من الملجأ المكره إلى الذي ألجأه وأكرهه؛ لأن الله تعالى نسب الإخراج إلى
الكفار، لأن الكلام في معنى تقدير الذنب وإلزامه. وهذه الآية مثل قوله تعالى:
{إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [التوبة: 40] والكلام فيهما واحد؛ وقد تقدم
في "التوبة"
والحمد لله.
(12/69)
الرابعة: قوله تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ
بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} أي لولا ما شرعه الله تعالى للأنبياء والمؤمنين من قتال
الأعداء، لاستولى أهل الشرك وعطلوا ما بينته أرباب الديانات من مواضع العبادات،
ولكنه دفع بأن أوجب القتال ليتفرغ أهل الدين للعبادة. فالجهاد أمر متقدم في الأمم،
وبه صلحت الشرائع واجتمعت المتعبدات؛ فكأنه قال: أذن في القتال، فليقاتل المؤمنون.
ثم قوي هذا الأمر في القتال بقوله: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ} الآية؛ أي
لولا القتال والجهاد لتغلب على الحق في كل أمة. فمن استبشع من النصارى والصابئين الجهاد
فهو مناقض لمذهبه؛ إذ لولا القتال لما بقي الدين الذي يذب عنه. وأيضا هذه
المواضع التي اتخذت قبل تحريفهم وتبديلهم وقبل نسخ تلك الملل بالإسلام إنما ذكرت
لهذا المعنى؛ أي لولا هذا الدفع لهدم في زمن موسى الكنائس، وفي زمن عيسى الصوامع
والبيع، وفي زمن محمد عليه السلام المساجد. {لَهُدِمَتْ} من هدمت البناء أي نقضته
فانهدم. قال ابن عطية: هذا أصوب ما قيل في تأويل الآية. وروي عن علي بن أبي طالب
رضي الله عنه أنه قال: ولولا دفع الله بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم الكفار عن
التابعين فمن بعدهم. وهذا
وإن كان فيه دفع قوم بقوم إلا أن معنى القتال أليق؛ كما تقدم. وقال مجاهد لولا دفع
الله ظلم قوم بشهادة العدول. وقالت فرقة: ولولا دفع الله ظلم الظلمة بعدل الولاة.
وقال أبو الدرداء: لولا أن الله عز وجل يدفع بمن في المساجد عمن ليس في المساجد،
وبمن يغزو عمن لا يغزو، لأتاهم العذاب. وقالت فرقة: ولولا دفع الله العذاب بدعاء
الفضلاء والأخيار إلى غير ذلك من التفصيل المفسر لمعنى الآية؛ وذلك أن الآية ولا
بد تقتضي مدفوعا من الناس ومدفوعا عنه، فتأمله.
الخامسة: قال ابن خويز منداد: تضمنت هذه الآية المنع من
هدم كنائس أهل الذمة وبيعهم وبيوت نيرانهم، ولا يتركون أن يحدثوا ما لم يكن، ولا
يزيدون في البنيان لا سعة ولا ارتفاعا، ولا ينبغي للمسلمين أن يدخلوها ولا يصلوا
فيها، ومتى أحدثوا زيادة وجب نقضها. وينقض ما وجد في بلاد الحرب من البيع
والكنائس. وإنما لم ينقض
(12/70)
ما في بلاد الإسلام لأهل الذمة؛ لأنها جرت مجرى بيوتهم
وأموالهم التي عاهدوا عليها في الصيانة. ولا يجوز أن يمكنوا من الزيادة لأن في ذلك
إظهار أسباب الكفر. وجائز
أن ينقض المسجد ليعاد بنيانه؛ وقد فعل ذلك عثمان رضي الله عنه بمسجد النبي صلى
الله عليه وسلم.
السادسة: قرئ {لَهُدِمَتْ} بتخفيف الدال وتشديدها. {
صَوَامِعُ} جمع صومعة، وزنها فوعلة، وهي بناء مرتفع حديد الأعلى؛ يقال: صمع
الثريدة أي رفع رأسها وحدده. ورجل أصمع القلب أي حاد الفطنة. والأصمع من الرجال
الحديد القول. وقيل: هو الصغير الأذن من الناس وغيرهم. وكانت قبل الإسلام مختصة
برهبان النصارى وبعباد الصابئين - قال قتادة - ثم استعمل في مئذنة المسلمين.
والبيع. جمع بيعة، وهي كنيسة النصارى. وقال الطبري: قيل هي كنائس اليهود؛ ثم أدخل
عن مجاهد ما لا يقتضي ذلك.
قوله تعالى: {وَصَلَوَاتٌ} قال الزجاج والحسن: هي كنائس
اليهود؛ وهي بالعبرانية صلوتا. وقال أبو عبيدة: الصلوات بيوت تبنى للنصارى في البراري
يصلون فيها في أسفارهم، تسمى صلوتا فعربت فقيل صلوات. وفي {صلوات} تسع قراءات
ذكرها ابن عطية: صلوات، صلوات، صلوات، صلولي على وزن فعولي، صلوب بالباء بواحدة
جمع صليب، صلوث بالثاء المثلثة على وزن فعول، صلوات بضم الصاد واللام وألف بعد
الواو، صلوثا بضم الصاد واللام وقصر الألف بعد الثاء المثلثة، [صلويثا بكسر الصاد
وإسكان اللام وواو مكسورة بعدها ياء بعدها ثاء منقوطة بثلاث بعدها ألف]. وذكر
النحاس: وروي عن عاصم الجحدري أنه قرأ {وصلوب}. وروي عن الضحاك {وصَلُوث} بالثاء
معجمة بثلاث؛ ولا أدري أفتح الصاد أم ضمها.
قلت: فعلى هذا تجيء هنا عشر قراءات. وقال ابن عباس: "الصلوات
الكنائس". أبو العالية: الصلوات مساجد الصابئين. ابن زيد: هي صلوات المسلمين
تنقطع إذا دخل عليهم العدو وتهدم المساجد؛ فعلى هذا استعير الهدم للصلوات من حيث
تعطل، أو أراد موضع صلوات فحذف المضاف. وعلى قول ابن عباس والزجاج وغيرهم يكون
الهدم
(12/71)
حقيقة. وقال الحسن: هدم الصلوات تركها، قطرب: هي الصوامع
الصغار ولم يسمع لها واحد. وذهب خصيف إلى أن القصد بهذه الأسماء تقسيم متعبدات
الأمم. فالصوامع للرهبان، والبيع للنصارى، والصلوات لليهود، والمساجد للمسلمين.
قال ابن عطية: والأظهر أنها قصد بها المبالغة في ذكر المتعبدات. وهذه الأسماء
تشترك الأمم في مسمياتها، إلا البيعة فإنها مختصة بالنصارى في لغة العرب. ومعاني
هذه الأسماء هي في الأمم التي لها كتاب على قديم الدهر. ولم يذكر في هذه الآية
المجوس ولا أهل الإشراك؛ لأن هؤلاء ليس لهم ما يجب حمايته، ولا يوجد ذكر الله إلا
عند أهل الشرائع. وقال النحاس: {يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ} الذي يجب في كلام العرب
على حقيقة النظر أن يكون {يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ} عائدا على المساجد لا
على غيرها؛ لأن الضمير يليها. ويجوز أن يعود على {صوامع} وما بعدها؛ ويكون المعنى
وقت شرائعهم وإقامتهم الحق. فإن قيل: لم قدمت مساجد أهل الذمة ومصلياتهم على مساجد
المسلمين؟ قيل: لأنها أقدم بناء. وقيل لقربها من الهدم وقرب المساجد من الذكر؛ كما
أخر السابق في قوله: {فَمِنْهُمْ
ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ}
[فاطر: 32].
قوله تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} أي
من ينصر دينه ونبيه. {إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ} أي قادر. قال الخطابي: القوي يكون بمعنى القادر،
ومن قوي على شيء فقد قدر عليه.
{عَزِيزٌ} أي جليل شريف؛ قال الزجاج. وقيل الممتنع الذي لا
يرام؛ وقد بيناهما في الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى.
الآية: 41 {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي
الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ
وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ}
قال الزجاج: {الَّذِينَ} في موضع نصب ردا على {مَنْ} ،
يعني في قوله: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} . وقال غيره: {الَّذِينَ} في موضع خفض ردا
على قوله: {أُذِنَ لِلَّذِينَ
(12/72)
يُقَاتَلُونَ} ويكون {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي
الْأَرْضِ} أربعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن في الأرض غيرهم.
وقال ابن عباس: "المراد المهاجرون والأنصار والتابعون بإحسان". وقال
قتادة: هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. وقال عكرمة: هم أهل الصلوات الخمس. وقال
الحسن وأبو العالية: هم
هذه الأمة إذا فتح الله عليهم أقاموا الصلاة. وقال ابن أبي نجيح: يعني الولاة.
وقال الضحاك: هو شرط شرطه الله عز وجل على من أتاه الملك؛ وهذا حسن. قال سهل بن
عبد الله: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على السلطان وعلى العلماء الذين
يأتونه. وليس على الناس أن يأمروا السلطان؛ لأن ذلك لازم له واجب عليه، ولا يأمروا
العلماء فإن الحجة قد وجبت عليهم.
الآيات: 42 - 44 {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ، وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ
وَقَوْمُ لُوطٍ، وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ
لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ}
هذا تسليه للنبي صلى الله عليه وسلم وتعزية؛ أي كان قبلك
أنبياء كذبوا فصبروا إلى أن أهلك الله المكذبين، فاقتد بهم واصبر. {وَكُذِّبَ
مُوسَى} أي كذبه فرعون وقومه. فأما بنو إسرائيل فما كذبوه، فلهذا لم يعطفه على ما
قبله فيكون وقوم موسى. {فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ} أي أخرت عنهم العقوبة.
{ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ} فعاقبتهم. {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} استفهام بمعنى
التغيير؛ أي فانظر كيف كان تغييري ما كانوا فيه من النعم بالعذاب والهلاك، فكذلك
أفعل بالمكذبين من قريش. قال الجوهري: النكير والإنكار تغيير المنكر، والمنكر واحد
المناكير.
الآية:
45 {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ
ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ
مَشِيدٍ}
(12/73)
قوله تعالى: {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا}
أي أهلكنا أهلها. وقد مضى في "آل عمران" الكلام في كأين. {وَهِيَ
ظَالِمَةٌ} أي بالكفر. {فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} تقدم في الكهف.
{وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} قال الزجاج: {وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ}
معطوف على {مِنْ قَرْيَةٍ} أي ومن أهل قرية ومن أهل بئر. والفراء يذهب إلى أن
{وَبِئْرٍ} معطوف
على {عُرُوشِهَا}. وقال الأصمعي: سألت نافع بن أبي نعيم أيهمز البئر والذئب؟ فقال:
إن كانت العرب تهمزهما فاهمزهما. وأكثر الرواة عن نافع بهمزهما؛ إلا ورشا فإن
روايته عنه بغير همز فيهما، والأصل الهمز. ومعنى {مُعَطَّلَةٍ} متروكة؛ قاله الضحاك. وقيل:
خالية من أهلها لهلاكهم. وقيل: غائرة
الماء. وقيل: معطلة من دلائها وأرشيتها؛ والمعنى متقارب. {وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} قال
قتادة والضحاك ومقاتل: رفيع طويل. قال عدي بن زيد:
شاده مرمرا وجلله كلـ ... ـسا فللطير في ذراه وكور
أي رفعه. وقال سعيد بن جبير وعطاء وعكرمة ومجاهد: مجصص؛ من
الشيد وهو الجص. قال الراجز:
لا تحسبني وإن كنت امرأ غمرا ... كحية الماء بين الطين
والشيد
وقال امرؤ القيس:
ولا أطما إلا مشيدا بجندل
وقال ابن عباس: {مشِيدٍ} أي حصين"؛ وقال الكلبي. وهو
مفعل بمعنى مفعول كمبيع بمعنى مبيوع. وقال الجوهري: والمشيد المعمول بالشيد.
والشيد "بالكسر": كل شيء طليت به الحائط من جص أو بلاط، وبالفتح المصدر.
تقول: شاده يشيده شيدا جصصه. والمشيد "بالتشديد" المطول. وقال الكسائي:
"المشيد" للواحد، من قوله تعالى: {وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} والمشيد للجمع، من
قوله تعالى: {فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ}. [النساء: 78]. وفي الكلام مضمر
(12/74)
محذوف تقديره: وقصر مشيد مثلها معطل. ويقال: إن هذه البئر
والقصر بحضرموت معروفان، فالقصر مشرف على قلة جبل لا يرتقى إليه بحال، والبئر في
سفحه لا تقر الريح شيئا سقط فيه إلا أخرجته. وأصحاب القصور ملوك الحضر، وأصحاب الآبار
ملوك البوادي؛ أي فأهلكنا هؤلاء وهؤلاء. وذكر الضحاك وغيره فيما ذكر الثعلبي وأبو
بكر محمد بن الحسن المقرئ وغيرهما أن البئر الرس، وكانت بعدن باليمن بحضرموت، في
بلد يقال له حضور، نزل بها أربعة آلاف ممن آمن بصالح، ونجوا من العذاب ومعهم صالح،
فمات صالح فسمي المكان حضرموت؛ لأن صالحا لما حضره مات فبنوا حضور وقعدوا على هذه
البئر، وأمروا عليهم رجلا يقال له العلس بن جلاس بن سويد؛ فيما ذكر الغزنوي.
الثعلبي: جلهس بن جلاس. وكان حسن السيرة فيهم عاملا عليهم، وجعلوا وزيره سنحاريب
بن سوادة، فأقاموا دهرا وتناسلوا حتى كثروا، وكانت البئر تسقي المدينة كلها
وباديتها وجميع ما فيها من الدواب والغنم والبقر وغير ذلك؛ لأنها كانت لها بكرات
كثيرة منصوبة عليها، ورجال كثيرون موكلون بها، وأبازن "بالنون" من رخام
وهي شبه الحياض كثيرة تملأ للناس، وأخر للدواب، وأخر للبقر، وأخر للغنم. والقوام
يسقون عليها بالليل والنهار يتداولون، ولم يكن لهم ماء غيرها. وطال عمر الملك الذي
أمروه، فلما جاءه الموت طلي بدهن لتبقى صورته لا تتغير، وكذلك كانوا يفعلون إذا
مات منهم الميت وكان ممن يكرم عليهم. فلما مات شق ذلك عليهم ورأوا أن أمرهم قد
فسد، وضجوا جميعا بالبكاء، واغتنمها الشيطان منهم فدخل في جثة الملك بعد موته
بأيام كثيرة، فكلمهم وقال: إني لم أمت ولكن تغيبت عنكم حتى أرى صنيعكم؛ ففرحوا أشد
الفرح وأمر خاصته أن يضربوا له حجابا بينه وبينهم ويكلمهم من ورائه لئلا يعرف
الموت في صورته. فنصبوا صنما من وراء الحجاب لا يأكل ولا يشرب. وأخبرهم أنه لا
يموت أبدا وأنه إلههم؛ فذلك كله يتكلم به الشيطان على لسانه، فصدق كثير منهم
وارتاب بعضهم، وكان المؤمن المكذب منهم أقل من المصدق له، وكلما تكلم ناصح لهم زجر
وقهر. فأصفقوا على عبادته، فبعث الله إليهم نبيا كان الوحي ينزل عليه في النوم دون
اليقظة، كان اسمه
(12/75)
حنظلة بن صفوان، فأعلمهم أن الصورة صنم لا روح له، وأن
الشيطان قد أضلهم، وأن الله لا يتمثل بالخلق، وأن الملك لا يجوز أن يكون شريكا
لله، ووعظهم ونصحهم وحذرهم سطوة ربهم ونقمته؛ فآذوه وعادوه وهو يتعهدهم بالموعظة
ولا يغبهم بالنصيحة، حتى قتلوه في السوق وطرحوه في بئر؛ فعند ذلك أصابتهم النقمة،
فباتوا شباعا رواء من الماء وأصبحوا والبئر قد غار ماؤها وتعطل رشاؤها، فصاحوا
بأجمعهم وضج النساء والولدان، وضجت البهائم عطشا؛ حتى عمهم الموت وشملهم الهلاك،
وخلفتهم في أرضهم السباع، وفي منازلهم الثعالب والضباع، وتبدلت جناتهم وأموالهم
بالسدر وشوك العضاه والقتاد، فلا يسمع فيها إلا عزيف الجن وزئير الأسد، نعوذ بالله
من سطواته؛ ومن الإصرار على ما يوجب نقماته.
قال السهيلي. وأما القصر المشيد فقصر بناه شداد بن عامر بن
إرم، لم يبن في الأرض مثله - فيما ذكروا وزعموا - وحاله أيضا كحال هذه البئر المذكورة في
إيحاشه بعد الأنيس، وإقفاره بعد العمران، وإن أحدا لا يستطيع أن يدنو منه على
أميال؛ لما يسمع فيه من عزيف الجن والأصوات المنكرة بعد النعيم والعيش الرغد وبهاء
الملك وانتظام الأهل كالسلك فبادروا وما عدوا؛ فذكرهم الله تعالى في هذه الآية
موعظة وعبرة وتذكرة، وذكرا وتحذيرا من مغبة المعصية وسوء عاقبة المخالفة؛ نعوذ
بالله من ذلك ونستجير به من سوء المآل. وقيل: إن الذي أهلكهم بختنصر على ما تقدم
في سورة "الأنبياء" في قوله: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ}
[الأنبياء: 11]. فتعطلت
بئرهم وخربت قصورهم.
الآية: 46 {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ
لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا
تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}
(12/76)
قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ} يعني كفار
مكة فيشاهدوا هذه القرى فيتعظوا، ويحذروا عقاب الله أن ينزل بهم كما نزل بمن
قبلهم. {فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} أضاف العقل إلى القلب لأنه
محله كما أن السمع محله الأذن. وقد قيل: إن العقل محله الدماغ؛ وروي عن أبي حنيفة؛
وما أراها عنه صحيحة. {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ} قال الفراء: الهاء
عماد، ويجوز أن يقال فإنه، وهي قراءة عبد الله بن مسعود، والمعنى واحد، التذكير على
الخبر، والتأنيث على الأبصار أو القصة؛ أي فإن الأبصار لا تعمى، أو فإن القصة. {لا
تَعْمَى الْأَبْصَارُ} أي أبصار العيون ثابتة لهم. {وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ
الَّتِي فِي الصُّدُورِ} أي عن درك الحق والاعتبار. وقال قتادة: البصر الناظر جعل بلغة
ومنفعة، والبصر النافع في القلب. وقال مجاهد: لكل عين أربع أعين؛ يعني لكل إنسان
أربع أعين: عينان في رأسه لدنياه، وعينان في قلبه لآخرته؛ فإن عميت عينا رأسه وأبصرت.
عينا قلبه فلم يضره عماه شيئا، وإن أبصرت عينا رأسه وعميت عينا قلبه فلم ينفعه
نظره شيئا. وقال
قتادة وابن جبير: نزلت هذه الآية في ابن أم مكتوم الأعمى. قال ابن عباس ومقاتل:لما
نزل {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى} [الإسراء: 72] قال ابن أم مكتوم: يا رسول
الله، فأنا في الدنيا أعمى أفأكون في الآخرة أعمى؟ فنزلت {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى
الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}. أي من كان في
هذه أعمى بقلبه عن الإسلام فهو في الآخرة في النار.
( معلومات الكتاب - عودة إلى القرآن - فهرس القرآن )
========
الحج - تفسير القرطبي
الآية:
47 {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ
وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ}
قوله تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ} نزلت في
النضر بن الحارث، وهو قوله: {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ
الصَّادِقِينَ} [الأعراف:
70]. وقيل: نزلت في أبي جهل بن هشام، وهو قوله: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ
الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ} [الأنفال: 32]. {وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ} أي في
إنزال العذاب. قال الزجاج: استعجلوا العذاب فأعملهم الله أنه لا يفوته شيء؛ وقد
نزل بهم في الدنيا يوم بدر.
(12/77)
قوله تعالى: {وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ
سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} قال ابن عباس ومجاهد:يعني من الأيام التي خلق الله فيها
السموات والأرض. عكرمة: يعني من أيام الآخرة؛ أعلمهم الله إذ استعجلوه بالعذاب في
أيام قصيرة أنه يأتيهم به في أيام طويلة. قال الفراء: هذا وعيد لهم بامتداد عذابهم
في الآخرة؛ أي يوم من أيام عذابهم في الآخرة ألف سنة. وقيل: المعنى وإن يوما في الخوف والشدة
في الآخرة كألف سنة من سني الدنيا فيها خوف وشدة؛ وكذلك يوم النعيم قياسا. وقرأ
ابن كثير وحمزة والكسائي {مما يعدّون} بالياء المثناة تحت، واختاره أبو عبيد لقوله: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ}
. والباقون بالتاء على الخطاب، واختاره أبو حاتم.
الآية: 48 {وَكَأَيِّنْ مَنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا
وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ}
قوله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مَنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا
وَهِيَ ظَالِمَةٌ} أي أمهلتها مع عتوها. {ثُمَّ أَخَذْتُهَا} أي بالعذاب.
{وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ}.
الآية: 49 - 51 {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا
لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ، فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ
مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ، وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ
أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ}
قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ} يعني أهل مكة.
{إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ} أي منذر مخوف. وقد تقدم في البقرة
الإنذار في أولها. {مُبِينٌ}
أي أبين لكم ما تحتاجون إليه من أمر دينكم. {فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} يعني الجنة. {وَالَّذِينَ
سَعَوْا فِي آيَاتِنَا} أي في إبطال آياتنا. {مُعَاجِزِينَ} أي مغالبين مشاقين؛ قال
ابن عباس. "الفراء: معاندين". وقال عبد الله ابن الزبير: مثبطين عن
الإسلام.
(12/78)
وقال الأخفش: معاندين مسابقين. الزجاج: أي ظانين أنهم
يعجزوننا لأنهم ظنوا أن لا بعث، وظنوا أن الله لا يقدر عليهم؛ وقاله قتادة. وكذلك
معنى قراءة ابن كثير وأبي عمرو {مُعَجِّزِين} بلا ألف مشددا. ويجوز أن يكون معناه
أنهم يعجزون المؤمنين في الإيمان بالنبي عليه السلام وبالآيات؛ قاله السدي. وقيل:
أي ينسبون من اتبع محمدا صلى الله عليه وسلم إلى العجز؛ كقولهم: جهلته وفسقته.
الآية:
52 {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا
نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ
اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ
حَكِيمٌ}
فيه ثلاث مسائل:-
الأولى: قوله تعالى: {تَمَنَّى} أي قرأ وتلا. و {أَلْقَى الشَّيْطَانُ
فِي أُمْنِيَّتِهِ} أي قراءته وتلاوته. وقد تقدم في البقرة. قال ابن عطية: وجاء عن
ابن عباس أنه كان يقرأ {وَمَا
أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ وَلاَ مُحَدَّث} ذكره مسلمة
بن القاسم بن عبد الله، ورواه سفيان عن عمرو بن دينار عن ابن عباس. قال مسلمة:
فوجدنا المحدثين معتصمين بالنبوة - على قراءة ابن عباس - لأنهم تكلموا بأمور عالية
من أنباء الغيب خطرات، ونطقوا بالحكمة الباطنة فأصابوا فيما تكلموا وعصموا فيما
نطقوا؛ كعمر بن الخطاب في قصة سارية، وما تكلم به من البراهين العالية.
(12/79)
قلت: وقد ذكر هذا الخبر أبو بكر الأنباري قي كتاب الرد له،
وقد حدثني أبي رحمه الله حدثنا علي بن حرب حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو عن ابن
عباس رضي الله عنهما أنه قرأ {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا
نَبِيٍّ وَلاَ مُحَدَّث} قال أبو بكر: فهذا حديث لا يؤخذ به على أن ذلك قرآن.
والمحدث هو الذي يوحي إليه في نومه؛ لأن رؤيا الأنبياء وحي.
الثانية: قال العلماء: إن هذه الآية مشكلة من جهتين: إحداهما:
أن قوما يرون أن الأنبياء صلوات الله عليهم فيهم مرسلون وفيهم غير مرسلين. وغيرهم
يذهب إلى أنه لا يجوز أن يقال نبي حتى يكون مرسلا. والدليل على صحة هذا قوله
تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ} فأوجب للنبي
صلى الله عليه وسلم الرسالة. وأن معنى {نَبِيٍّ} أنبأ عن الله عز وجل، ومعنى أنبأ
عن الله عز وجل الإرسال بعينه. وقال الفراء: الرسول الذي أرسل إلى الخلق بإرسال
جبريل عليه السلام إليه عيانا، والنبي الذي تكون نبوته إلهاما أو مناما؛ فكل رسول
نبي وليس كل نبي رسولا. قال المهدوي: وهذا هو الصحيح، أن كل رسول نبي وليس كل نبي
رسولا. وكذا ذكر القاضي عياض في كتاب الشفا قال: والصحيح والذي عليه الجم الغفير
أن كل رسول نبي وليس كل نبي رسولا؛ واحتج بحديث أبي ذر، وأن الرسل من الأنبياء
ثلاثمائة وثلاثة عشر، أولهم آدم وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم.والجهة الأخرى
التي فيها الإشكال وهي:
الثالثة: الأحاديث المروية في نزول هذه الآية،
وليس منها شيء يصح. وكان مما تموه به الكفار على عوامهم قولهم: حق الأنبياء ألا
يعجزوا عن شيء، فلم لا يأتينا محمد بالعذاب وقد بالغنا في عداوته؟ وكانوا يقولون
أيضا: ينبغي ألا يجري عليهم سهو وغلط؛ فبين الرب سبحانه أنهم بشر، والآتي بالعذاب
هو الله تعالى على ما يريد، ويجوز على البشر السهو والنسيان والغلط إلى أن يحكم
الله آياته وينسخ حيل الشيطان. روى الليث عن يونس عن الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن
بن الحارث بن هشام قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} [النجم: 1]
فلما بلغ {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى. وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ
الْأُخْرَى} [النجم: 19 - 20]
(12/80)
سها فقال: "إن شفاعتهم تُرْتَجَى" فلقيه
المشركون والذين في قلوبهم مرض فسلموا عليه وفرحوا؛ فقال: "إن ذلك من
الشيطان" فأنزل الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ
وَلا نَبِيٍّ} الآية. قال النحاس: وهذا حديث منقطع وفيه هذا الأمر العظيم.
وكذا حديث قتادة وزاد فيه "وإنهن لهن الغرانيق العلا". وأقطع من هذا ما
ذكره الواقدي عن كثير بن زيد عن المطلب بن عبد الله قال: سجد المشركون كلهم إلا
الوليد بن المغيرة فإنه أخذ ترابا من الأرض فرفعه إلى جبهته وسجد عليه، وكان شيخا
كبيرا. ويقال إنه أبو أحيحة سعيد بن العاص، حتى نزل جبريل عليه السلام فقرأ عليه
النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقال: "ما جئتك به"! وأنزل الله {لَقَدْ
كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً} [الإسراء: 74]. قال النحاس: وهذا
حديث منكر منقطع ولا سيما من حديث الواقدي. وفي البخاري أن الذي أخذ قبضة من تراب ورفعها
إلى جبهته هو أمية بن خلف. وسيأتي تمام كلام النحاس على الحديث - إن شاء الله -
أخر الباب. قال ابن عطية: وهذا الحديث الذي فيه هي الغرانيق العلا وقع في كتب
التفسير ونحوها، ولم يدخله البخاري ولا مسلم، ولا ذكره في علمي مصنف مشهور؛ بل
يقتضي مذهب أهل الحديث أن الشيطان ألقى، ولا يعينون هذا السبب ولا غيره. ولا خلاف
أن إلقاء الشيطان إنما هو لألفاظ مسموعة؛ بها وقعت الفتنة. ثم اختلف الناس في صورة
هذا الإلقاء، فالذي في التفاسير وهو مشهور القول أن النبي صلى الله عليه وسلم تكلم
بتلك الألفاظ على لسانه. وحدثني
أبي رضي الله عنه أنه لقي بالشرق من شيوخ العلماء والمتكلمين من قال: هذا لا يجوز
على النبي صلى الله عليه وسلم وهو المعصوم في التبليغ، وإنما الأمر أن الشيطان نطق
بلفظ أسمعه الكفار عند قول النبي صلى الله عليه وسلم: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ
وَالْعُزَّى. وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} [النجم: 19 - 20] وقرب صوته من
صوت النبي صلى الله عليه وسلم حتى التبس الأمر على المشركين، وقالوا: محمد قرأها.
وقد روي نحو هذا التأويل عن الإمام أبي المعالي. وقيل: الذي ألقى شيطان الإنس؛
كقوله عز وجل: {وَالْغَوْا فِيهِ} [فصلت: 26]. قتادة: هو ما تلاه ناعسا.
(12/81)
وقال القاضي عياض في كتاب الشفا بعد أن ذكر الدليل على صدق
النبي صلى الله عليه وسلم، وأن الأمة أجمعت فيما طريقه البلاغ أنه معصوم فيه من
الإخبار عن شيء بخلاف ما هو عليه، لا قصدا ولا عمدا ولا سهوا وغلطا: اعلم أكرمك
الله أن لنا في الكلام على مشكل هذا الحديث مأخذين: أحدهما: في توهين أصله، والثاني:
على تسليمه. أما المأخذ الأول فيكفيك أن هذا حديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة، ولا
رواه بسند سليم متصل ثقة؛ وإنما أولع به وبمثله المفسرون والمؤرخون المولعون بكل
غريب، المتلقفون من الصحف كل صحيح وسقيم. قال أبو بكر البزار: وهذا الحديث لا
نعلمه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد متصل يجوز ذكره؛ إلا ما رواه شعبة
عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس "فيما أحسب، الشك في الحديث أن النبي صلى
الله عليه وسلم كان بمكة..."
وذكر القصة. ولم يسنده عن شعبة إلا أمية بن خالد، وغيره
يرسله عن سعيد بن جبير. وإنما يعرف عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس؛ فقد بين لك
أبو بكر رحمه الله أنه لا يعرف من طريق يجوز ذكره سوى هذا، وفيه من الضعف ما نبه عليه
مع وقوع الشك فيه الذي ذكرناه، الذي لا يوثق به ولا حقيقة معه. وأما حديث الكلبي
فما لا تجوز الرواية عنه ولا ذكره لقوة ضعفه وكذبه؛ كما أشار إليه البزار رحمه
الله. والذي منه في الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ {والنَّجْمِ} بمكة
فسجد وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس؛ هذا توهينه من طريق النقل.
وأما المأخذ الثاني فهو مبني على تسليم الحديث لو صح. وقد
أعاذنا الله من صحته، ولكن على كل حال فقد أجاب أئمة المسلمين عنه بأجوبة؛ منها
الغث والسمين. والذي يظهر ويترجح في تأويله على تسليمه أن النبي صلى الله عليه
وسلم كان كما أمره ربه يرتل القرآن ترتيلا، ويفصل الآي تفصيلا في قراءته؛ كما رواه
الثقات عنه، فيمكن ترصد الشيطان لتلك السكنات ودسه فيها ما اختلقه من تلك الكلمات،
محاكيا نغمة النبي صلى الله عليه وسلم بحيث يسمعه من دنا إليه من الكفار، فظنوها
من قول النبي صلى الله عليه وسلم وأشاعوها.
(12/82)
لم يقدح ذلك عند المسلمين لحفظ السورة قبل ذلك على ما
أنزلها الله، وتحققهم من حال النبي صلى الله عليه وسلم في ذم الأوثان وعيبها ما
عرف منه؛ فيكون ما روي من حزن النبي صلى الله عليه وسلم لهذه الإشاعة والشبهة وسبب
هذه الفتنة، وقد قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ
رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ} الآية.
قلت: وهذا
التأويل، أحسن ما قيل في هذا. وقد قال سليمان بن حرب: إن "في" بمعنى عنده؛
أي ألقى الشيطان في قلوب الكفار عند تلاوة النبي صلى الله عليه وسلم؛ كقوله عز
وجل: {وَلَبِثْتَ فِينَا} [الشعراء: 18] أي عندنا. وهذا هو معنى ما حكاه ابن عطية
عن أبيه عن علماء الشرق، وإليه أشار القاضي أبو بكر بن العربي، وقال قبله: إن هذه
الآية نص في غرضنا، دليل على صحة مذهبنا، أصل في براءة النبي صلى الله عليه وسلم
مما ينسب إليه أنه قاله؛ وذلك أن الله تعالى قال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ
قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ
فِي أُمْنِيَّتِهِ} أي في تلاوته. فأخبر الله تعالى أن من سنته في رسله وسيرته في
أنبيائه إذا قالوا عن الله تعالى قولا زاد الشيطان فيه من قبل نفسه كما يفعل سائر
المعاصي. تقول:
ألقيت في دار كذا وألقيت في الكيس كذا؛ فهذا نص في الشيطان أنه زاد في الذي قال
النبي صلى الله عليه وسلم، لا أن النبي صلى الله عليه وسلم تكلم به. ثم ذكر معنى
كلام عياض إلى أن قال: وما هدي لهذا إلا الطبري لجلالة قدره وصفاء فكره وسعة باعه
في العلم، وشدة ساعده في النظر؛ وكأنه أشار إلى هذا الغرض، وصوب على هذا المرمى،
وقرطس بعدما ذكر في ذلك روايات كثيرة كلها باطل لا أصل لها، ولو شاء ربك لما رواها
أحد ولا سطرها، ولكنه فعال لما يريد.
وأما غيره من التأويلات فما حكاه قوم أن الشيطان أكرهه حتى
قال كذا فهو محال؛ إذ ليس للشيطان قدرة على سلب الإنسان الاختيار، قال الله تعالى
مخبرا عنه: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ
فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} [إبراهيم: 22]؛ ولو كان للشيطان هذه القدرة لما بقي لأحد
(12/83)
من بني آدم قوة في طاعة، ومن توهم أن للشيطان هذه القوة
فهو قول الثنوية والمجوس في أن الخير من الله والشر من الشيطان. ومن قال جرى ذلك
على لسانه سهوا قال: لا يبعد أنه كان سمع الكلمتين من المشركين وكانتا على حفظه
فجرى عند قراءة السورة ما كان في حفظه سهوا؛ وعلى هذا يجوز السهو عليهم ولا يقرون
عليه، وأنزل الله عز وجل هذه الآية تمهيدا لعذره وتسليه له؛ لئلا يقال: إنه رجع عن
بعض قراءته، وبين أن مثل هذا جرى على الأنبياء سهوا، والسهو إنما ينتفي عن الله تعالى،
وقد قال ابن عباس: "إن شيطانا يقال له الأبيض كان قد أتى رسول الله صلى الله عليه
وسلم في صورة جبريل عليه السلام وألقى في قراءة النبي صلى الله عليه وسلم: تلك
الغرانيق العلا، وأن شفاعتهن لترتجى. وهذا التأويل وإن كان أشبه مما قبله فالتأويل
الأول عليه المعول، فلا يعدل عنه إلى غيره لاختيار العلماء المحققين إياه، وضعف
الحديث مغن عن كل تأويل، والحمد لله. ومما يدل على ضعفه أيضا وتوهينه من الكتاب
قوله تعالى: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ} [الإسراء: 73] الآيتين؛ فإنهما
تردان الخبر الذي رووه؛ لأن الله تعالى ذكر أنهم كادوا يفتنونه حتى يفتري، وأنه
لولا أن ثبته لكان يركن إليهم. فمضمون هذا ومفهومه أن الله تعالى عصمه من أن يفتري
وثبته حتى لم يركن إليهم قليلا فكيف كثيرا، وهم يروون في أخبارهم الواهية أنه زاد
على الركون والافتراء بمدح آلهتهم، وأنه قال عليه الصلاة والسلام: افتريت على الله
وقلت ما لم يقل. وهذا ضد مفهوم الآية، وهي تضعف الحديث لو صح؛ فكيف ولا صحة له.
وهذا مثل قوله تعالى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ
طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا
يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ} [النساء: 113]. قال القشيري: ولقد طالبته قريش وثقيف إذ
مر بآلهتهم أن يقبل بوجهه إليها، ووعده بالإيمان به إن فعل ذلك، فما فعل! ولا كان
ليفعل! قال ابن الأنباري: ما قارب الرسول ولا ركن. وقال الزجاج: أي كادوا، ودخلت
إن واللام للتأكيد. وقد قيل: إن معنى {تَمَنَّى} حدث، لا "تلا". روي عن
علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله عز وجل: {إِلَّا إِذَا تَمَنَّى} قال: إلا
إذا حدث {أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} قال: في حديثه {فَيَنْسَخُ
(12/84)
اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ} قال: فيبطل الله ما
يلقي الشيطان. قال النحاس: وهذا
من أحسن ما قيل في الآية وأعلاه وأجله. وقد قال أحمد بن محمد بن حنبل بمصر صحيفة
في التفسير، رواها علي بن أبي طلحة لو رحل رجل فيها إلى مصر قاصدا ما كان كثيرا.
والمعنى عليه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا حدث نفسه ألقى الشيطان في
حديثه على جهة الحيطة فيقول: لو سألت الله عز وجل أن يغنمك ليتسع المسلمون؛ ويعلم
الله عز وجل أن الصلاح في غير ذلك؛ فيبطل ما يلقي الشيطان كما قال ابن عباس رضي
الله عنهما. وحكى الكسائي والفراء جميعا {تَمَنَّى} إذا حدث نفسه؛ وهذا هو المعروف
في اللغة. وحكيا أيضا {تمنى}
إذا تلا. وروي عن ابن عباس أيضا وقاله مجاهد والضحاك وغيرهما. وقال أبو الحسن بن
مهدي: ليس هذا التمني من القرآن والوحي في شيء، وإنما كان النبي صلى الله عليه
وسلم إذا صفرت يداه من المال، ورأى ما بأصحابه من سوء الحال، تمنى الدنيا بقلبه
ووسوسة الشيطان. وذكر المهدوي عن ابن عباس أن المعنى: إذا حدث ألقى الشيطان في
حديثه؛ وهو اختيار الطبري.
قلت: قوله تعالى: {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ
فِتْنَةً} الآية، يرد حديث النفس، وقد قال ابن عطية: لا خلاف أن إلقاء الشيطان
إنما هو لألفاظ مسموعة، بها وقعت الفتنة؛ فالله أعلم. قال النحاس: ولو صح الحديث
واتصل إسناده لكان المعنى فيه صحيحا، ويكون معنى سها أسقط، ويكون تقديره: أفرأيتم
اللات والعزى؛ وتم الكلام، ثم أسقط "والغرانيق العلا" يعني الملائكة
"فإن شفاعتهم" يعود الضمير على الملائكة. وأما من روى: فإنهن الغرانيق
العلا، ففي روايته أجوبة؛ منها أن يكون القول محذوفا كما تستعمل العرب في أشياء كثيرة،
ويجوز أن يكون بغير حذف، ويكون توبيخا؛ لأن قبله {أفرأيتم} ويكون هذا احتجاجا
عليهم؛ فإن كان في الصلاة فقد كان الكلام مباحا في الصلاة. وقد روى في هذه القصة
أنه كان مما يقرأ: أفرأيتم اللات والعزى. ومناة الثالثة الأخرى. والغرانقة العلا.
وأن شفاعتهن لترتجى. روى معناه عن مجاهد. وقال الحسن: أراد بالغرانيق العلا
الملائكة؛ وبهذا فسر الكلبي الغرانقة أنها الملائكة. وذلك أن الكفار كانوا يعتقدون
[أن] الأوثان والملائكة بنات
(12/85)
الله، كما حكى الله تعالى عنهم، ورد عليهم في هذه السورة
بقوله: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى} فأنكر الله كل هذا من قولهم. ورجاء
الشفاعة من الملائكة صحيح؛ فلما تأوله المشركون على أن المراد بهذا الذكر آلهتهم ولبس
عليهم الشيطان بذلك، نسخ الله ما ألقى الشيطان، وأحكم الله آياته، ورفع تلاوة تلك
اللفظتين اللتين وجد الشيطان بهما سبيلا للتلبيس، كما نسخ كثير من القرآن؛ ورفعت
تلاوته. قال القشيري: وهذا غير سديد؛ لقوله: {فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي
الشَّيْطَانُ} أي يبطله، وشفاعة الملائكة غير باطلة. {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}
{عَلِيمٌ} بما أوحى إلى نبيه صلى الله عليه وسلم. "حكيم" في خلقه.
الآية: 53 {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً
لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ
لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ}
قوله تعالى: {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ
فِتْنَةً} أي ضلالة. {لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} أي شرك ونفاق.
{وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ} فلا تلين لأمر الله تعالى. قال الثعلبي: وفي الآية
دليل على أن الأنبياء يجوز عليهم السهو والنسيان والغلط بوسواس الشيطان أو عند شغل
القلب حتى يغلط، ثم ينبه ويرجع إلى الصحيح؛ وهو معنى قوله: {فَيَنْسَخُ اللَّهُ
مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ} . ولكن إنما يكون
الغلط على حسب ما يغلط أحدنا، فأما ما يضاف إليه من قولهم: تلك الغرانيق العلا،
فكذب على النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن فيه تعظيم الأصنام، ولا يجوز ذلك على الأنبياء،
كما لا يجوز أن يقرأ بعض القرآن ثم ينشد شعرا ويقول: غلطت وظننته قرآنا. {وَإِنَّ
الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} أي الكافرين لفي خلاف وعصيان ومشاقة لله عز
وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم. وقد تقدم في "البقرة" والحمد لله وحده.
الآية: 54 {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ
أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ
وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}
(12/86)
قوله تعالى: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ}
أي من المؤمنين. وقيل: أهل الكتاب. {أَنَّهُ} أي أن الذي أحكم من آيات القرآن هو
{الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ} أي تخشع
وتسكن. وقيل: تخلص .{وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا} قرأ أبو حيوة
{وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا} بالتنوين. {إِلَى صِرَاطٍ
مُسْتَقِيمٍ} أي يثبتهم على الهداية.
الآية: 55 {وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ
حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ
عَقِيمٍ}
قوله تعالى :{وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ
مِنْهُ} يعني في شك من القرآن؛ قال ابن جريج. وغيره: من الدين؛ وهو الصراط المستقيم.
وقيل: مما ألقى الشيطان على لسان محمد صلى الله عليه وسلم، ويقولون: ما باله ذكر
الأصنام بخير ثم ارتد عنها. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي {في مُرْيةٍ} بضم الميم.
والكسر أعرف؛ ذكره النحاس. {حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ} أي القيامة.
{بَغْتَةً} أي فجأة. {أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} قال الضحاك: عذاب
يوم لا ليلة له وهو يوم القيامة. النحاس: سمي يوم القيامة عقيما لأنه ليس يعقب
بعده يوما مثله؛ وهو معنى قول الضحاك. والعقيم في اللغة عبارة عمن لا يكون له ولد؛
ولما كان الولد يكون بين الأبوين وكانت الأيام تتوالى قبل وبعد، جعل الاتباع فيها
بالبعدية كهيئة الولادة، ولما لم يكن بعد ذلك اليوم يوم وصف بالعقيم. وقال ابن
عباس ومجاهد وقتادة: المراد عذاب يوم بدر، ومعنى عقيم لا مثل له في عظمه؛ لأن
الملائكة قاتلت فيه. ابن جريج: لأنهم لم ينظروا فيه إلى الليل، بل قتلوا قبل
المساء فصار يوما لا ليلة له. وكذلك يكون معنى قول الضحاك أنه يوم القيامة؛ لأنه
لا ليلة له. وقيل: لأنه لم يكن فيه رأفة ولا رحمة، وكان عقيما من كل خير؛ ومنه
قوله تعالى: {إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ} [الذاريات: 41] أي
التي لا خير فيها ولا تأتي بمطر ولا رحمة
(12/87)
( معلومات الكتاب - عودة إلى القرآن - فهرس القرآن )
==========
الحج - تفسير القرطبي
الآيتان: 56 - 57 {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ
يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ
النَّعِيمِ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ
عَذَابٌ مُهِينٌ}
قوله تعالى: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ
بَيْنَهُمْ} يعني يوم القيامة هو لله وحده لا منازع له فيه ولا مدافع. والملك هو
اتساع المقدور لمن له تدبير الأمور. ثم بين حكمه فقال: {فَالَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ. وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا
بِآياتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ}.
قلت: وقد يحتمل أن تكون الإشارة بـ {يومئذٍ} ليوم بدر، وقد
حكم فيه بإهلاك الكافر وسعادة المؤمن؛ وقد قال عليه السلام لعمر: "وما يدريك
لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم".
الآيتان: 58 - 59 {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ
اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً
وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ، لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً
يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ}
أفرد ذكر المهاجرين الذين ماتوا وقتلوا تفضيلا لهم وتشريفا
على سائر الموتى.
وسبب نزول هذه الآية أنه لما مات بالمدينة عثمان بن مظعون
وأبو سلمة بن عبد الأسد قال بعض الناس: من قتل في سبيل الله أفضل ممن مات حتف
أنفه؛ فنزلت هذه الآية مسوية بينهم، وأن الله يرزق جميعهم رزقا حسنا. وظاهر
الشريعة يدل على أن المقتول أفضل. وقد قال بعض أهل العلم: إن المقتول في سبيل الله
والميت في سبيل الله شهيد؛ ولكن للمقتول مزية ما أصابه في ذات الله. وقال بعضهم:
هما سواء، واحتج بالآية، وبقوله تعالى: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً
إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ
(12/88)
أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً
رَحِيماً} [النساء: 100]، وبحديث أم حرام؛ فإنها صرعت عن دابتها فماتت ولم تقتل
فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "أنت من الأوّلين" ،
وبقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن عتيك: "من خرج من بيته مهاجرا
في سبيل الله فخر عن دابته فمات أو لدغته حية فمات أو مات حتف أنفه فقد وقع أجره
على الله ومن مات قعصا فقد استوجب المآب". وذكر ابن المبارك عن فضالة بن عبيد
في حديث ذكر فيه رجلين أحدهما أصيب في غزاة بمنجنيق فمات والآخر مات هناك؛ فجلس
فضالة عند الميت فقيل له: تركت الشهيد ولم تجلس عنده؟ فقال: ما أبالي من أي
حفرتيهما بعثت؛ ثم تلا قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ
اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا} الآية كلها. وقال سليمان بن عامر: كان
فضالة برودس أميرا على الأرباع فخرج بجنازتي رجلين أحدهما قتيل والآخر متوفي؛ فرأى
ميل الناس مع جنازة القتيل إلى حفرته؛ فقال: أراكم أيها الناس تميلون مع القتيل!
فوالذي نفسي بيده ما أبالي من أي حفرتيهما بعثت، اقرؤوا قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا
فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا}. كذا ذكره الثعلبي في تفسيره،
وهو معنى ما ذكره ابن المبارك. واحتج من قال: إن للمقتول زيادة فضل بما ثبت عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل: أي الجهاد أفضل؟ قال: "من أهريق دمه وعقر جواده". وإذا كان
من أهريق دمه وعقر جواده أفضل الشهداء علم أنه من لم يكن بتلك الصفة مفضول. قرأ
ابن عامر وأهل الشام {قتِّلوا} بالتشديد
على التكثير. الباقون بالتخفيف. {لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ} أي
الجنان. قراءة أهل المدينة {مَدْخَلاً} بفتح الميم؛ أي دخولا. وضمها الباقون، وقد
مضى في الإسراء. {وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ} قال ابن عباس: عليم بنياتهم،
حليم عن عقابهم.
الآية: 60 {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا
عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ
لَعَفُوٌّ غَفُورٌ}
(12/89)
قوله تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ} {ذلك} في موضع رفع؛
أي ذلك الأمر الذي قصصنا عليك. قال مقاتل: نزلت في قوم من مشركي مكة لقوا قوما من
المسلمين لليلتين بقيتا من المحرم فقالوا: إن أصحاب محمد يكرهون القتال في الشهر الحرام
فاحملوا عليهم؛ فناشدهم المسلمون ألا يقاتلوهم في الشهر الحرام؛ فأبى المشركون إلا
القتال، فحملوا عليهم فثبت المسلمون ونصرهم الله على المشركين؛ وحصل في أنفس
المسلمين من القتال في الشهر الحرام شيء؛ فنزلت هذه الآية. وقيل: نزلت في قوم من
المشركين، مثلوا بقوم من المسلمين قتلوهم يوم أحد فعاقبهم رسول الله بمثله. فمعنى
{مَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ}أ ي من جازى الظالم بمثل ما ظلمه؛ فسمى
جزاء العقوبة عقوبة لاستواء الفعلين في الصورة؛ فهو مثل {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ
سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى:
40]. ومثل {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا
اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194]. وقد تقدم .{ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ} أي
بالكلام والإزعاج من وطنه؛ وذلك أن المشركين كذبوا نبيهم وآذوا من آمن به وأخرجوه
وأخرجوهم من مكة، وظاهروا على إخراجهم. {لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ} أي لينصرن الله
محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ فإن الكفار بغوا عليهم. {إِنَّ اللَّهَ
لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} أي عفا عن المؤمنين ذنوبهم وقتالهم في الشهر الحرام وستر.
الآية: 61 {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي
النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ}
قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ
فِي النَّهَارِ} أي ذلك الذي قصصت عليك من نصر المظلوم هو بأني أنا الذي أولج
الليل في النهار فلا يقدر أحد على ما أقدر عليه؛ أي من قدر على هذا قدر على أن
ينصر عبد ه. وقد مضى في "آل عمران" معنى يولج الليل في النهار. {وَأَنَّ
اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} يسمع الأقوال ويبصر الأفعال، فلا يعزب عنه مثقال ذرة ولا
دبيب نملة إلا يعلمها ويسمعها ويبصرها.
(12/90)
الآية: 62 {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ
مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ
الْكَبِيرُ}
قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} أي ذو
الحق؛ فدينه الحق وعبادته حق. والمؤمنون يستحقون منه النصر بحكم وعده الحق
{وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} أي الأصنام التي لا استحقاق
لها في العبادات. وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر وأبو بكر {وَأَنَّ مَا تدْعُونَ}
بالتاء على الخطاب، واختاره أبو حاتم. الباقون بالياء على الخبر هنا وفي لقمان،
واختاره أبو عبيد. {وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ} أي العالي على كل شيء
بقدرته، والعالي عن الأشباه والأنداد، المقدس عما يقول الظالمون من الصفات التي لا
تليق بجلاله. {الْكَبِيرُ} أي الموصوف بالعظمة والجلال وكبر الشأن. وقيل: الكبير ذو
الكبرياء. والكبرياء عبارة عن كمال الذات؛ أي له الوجود المطلق أبدا وأزلا، فهو
الأول القديم، والآخر الباقي بعد فناء خلقه.
الآية: 63 {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ
السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ}
قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ
السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً} دليل على كمال قدرته؛ أي من
قدر على هذا قدر على إعادة الحياة بعد الموت؛ كما قال الله عز وجل: {فَإِذَا
أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} [فصلت: 39]. ومثله كثير. {فَتُصْبِحُ} ليس
بجواب فيكون منصوبا، وإنما هو خبر عند الخليل وسيبويه. قال الخليل: المعنى انتبه! أنزل الله من
السماء ماء فكان كذا وكذا؛ كما قال:
ألم تسأل الربع القواء فينطق ... وهل تخبرنك اليوم بيداء
سملق
(12/91)
معناه قد سألته فنطق. وقيل استفهام تحقيق؛ أي قد رأيت،
فتأمل كيف تصبح! أو عطف لأن المعنى ألم تر أن الله ينزل. وقال الفراء: {أَلَمْ تَرَ}
خبر؛ كما تقول في الكلام: اعلم أن الله عز وجل ينزل من السماء ماء. {فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ
مُخْضَرَّةً} أي ذات خضرة؛ كما تقول: مقلة ومسبعة؛ أي ذات بقل وسباع. وهو عبارة عن
استعجالها إثر نزول الماء بالنبات واستمرارها كذلك عادة. قال ابن عطية: وروي عن
عكرمة أنه قال: هذا لا يكون إلا بمكة وتهامة. ومعنى هذا: أنه أخذ قوله {فَتُصْبِحُ}
مقصودا به صباح ليلة المطر وذهب إلى أن ذلك الاخضرار يتأخر في سائر البلاد، وقد
شاهدت هذا [في] السوس الأقصى نزل المطر ليلا بعد قحط أصبحت تلك الأرض الرملة التي
نسفتها الرياح قد أخضرت بنبات ضعيف رقيق. {إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} قال ابن
عباس: {خَبِيرٌ}
بما ينطوي عليه العبد من القنوط عند تأخير المطر. {لَطِيفٌ} بأرزاق عباده. وقيل: {لَطِيفٌ} باستخراج
النبات من الأرض، خبير بحاجتهم وفاقتهم.
الآية: 64 {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ
وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}
قوله تعالى: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي
الْأَرْضِ} خلقا وملكا؛ وكل محتاج إلى تدبيره وإتقانه. {وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ
الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} فلا يحتاج إلى شيء، وهو المحمود في كل حال.
( معلومات الكتاب - عودة إلى القرآن - فهرس القرآن )
===========
الحج - تفسير القرطبي
الآية:
65 {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي
الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ
أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ
رَحِيمٌ}
قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ
مَا فِي الْأَرْضِ} ذكر نعمة أخرى، فأخبر أنه سخر لعباده ما يحتاجون إليه من
الدواب والشجر والأنهار. {وَالْفُلْكَ} أي وسخر لكم الفلك في حال جريها. وقرأ أبو
عبد الرحمن الأعرج {والفلك} رفعا على الابتداء وما بعده خبره.
(12/92)
الباقون بالنصب نسقا على قوله {مَا فِي الْأَرْضِ}.{وَيُمْسِكُ
السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ} أي كراهية أن تقع. وقال الكوفيون: لئلا
تقع. وإمساكه لها خلق السكون فيها حالا بعد حال. {إِلَّا بِإِذْنِهِ} أي إلا بإذن
الله لها بالوقوع، فتقع بإذنه، أي بإرادته وبحيلته. {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ
لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} أي في هذه الأشياء التي سخرها لهم.
الآية: 66 {وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ
ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْأِنْسَانَ لَكَفُورٌ}
قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ} أي بعد أن كنتم
نطفا. {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} عند انقضاء آجالكم. {ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} أي للحساب
والثواب والعقاب. {إِنَّ الْأِنْسَانَ لَكَفُورٌ} أي لجحود لما ظهر من الآيات الدالة
على قدرته ووحدانيته. قال ابن عباس: يريد الأسود بن عبد الأسد وأبا جهل بن هشام
والعاص بن هشام وجماعة من المشركين. وقيل: إنما قال ذلك لأن الغالب على الإنسان
كفر النعم؛ كما قال تعالى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13].
الآية: 67 {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً هُمْ
نَاسِكُوهُ فَلا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى
هُدىً مُسْتَقِيمٍ}
قوله تعالى: {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً} أي
شرعا. {هُمْ نَاسِكُوهُ} أي عاملون به. {فَلا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ} أي لا
ينازعنك أحد منهم فيما يشرع لأمتك؛ فقد كانت الشرائع في كل عصر. وروت فرقة أن هذه
الآية نزلت بسبب جدال الكفار في أم الذبائح، وقولهم للمؤمنين: تأكلون ما ذبحتم ولا
تأكلون ما ذبح الله من الميتة، فكان ما قتل الله أحق أن تأكلوه مما قتلتم أنتم
بسكاكينكم؛ فنزلت الآية بسبب هذه المنازعة. وقد مضى هذا في "الأنعام"
والحمد لله. وقد تقدم في هذه السورة ما للعلماء في قوله تعالى {مَنْسَكاً} [الحج:
34]. وقوله:
{هُمْ نَاسِكُوهُ} يعطي أن المنسك المصدر، ولو كان الموضع لقال هم ناسكون فيه.
(12/93)
وقال الزجاج: {فَلا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ} أي فلا
يجادلنك؛ ودل على هذا {وَإِنْ جَادَلُوكَ}. ويقال: قد نازعوه فكيف قال فلا ينازعنك؛
فالجواب أن المعنى فلا تنازعهم أنت. نزلت الآية قبل الأمر بالقتال؛ تقول: لا
يضاربنك فلان فلا تضاربه أنت؛ فيجري هذا في باب المفاعلة. ولا يقال: لا يضربنك زيد
وأنت تريد لا تضرب زيدا. وقرأ أبو مجلز {فَلاَ يَنْزِعنّك في الأمر} أي لا
يستخلفنك ولا يغلبنك عن دينك. وقراءة
الجماعة من المنازعة. ولفظ النهي في القراءتين للكفار، والمراد النبي صلى الله
عليه وسلم. {وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ} أي إلى توحيده ودينه والإيمان به. {إِنَّكَ
لَعَلَى هُدىً} أي دين. {مُسْتَقِيمٍ} أي قويم لا اعوجاج فيه.
الآيتان: 68 - 69 {وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ
بِمَا تَعْمَلُونَ، اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا
كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}
قوله تعالى: {وَإِنْ جَادَلُوكَ} أي خاصموك يا محمد؛ يريد
مشركي مكة. {فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ} يريد من تكذيبهم محمدا
صلى الله عليه وسلم؛ عن ابن عباس. وقال مقاتل: "هذه الآية نزلت على النبي صلى
الله عليه وسلم ليلة الإسراء وهو في السماء السابعة لما رأى من آيات ربه الكبرى؛
فأوحى الله إليه {وَإِنْ جَادَلُوكَ} بالباطل فدافعهم بقولك: {اللَّهُ أَعْلَمُ
بِمَا تَعْمَلُونَ} من الكفر والتكذيب؛ فأمره الله تعالى بالإعراض عن مماراتهم صيانة
له عن الاشتغال بتعنتهم؛ ولا جواب لصاحب العناد. {اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ} يريد بين النبي صلى الله عليه وسلم وقومه. {فِيمَا كُنْتُمْ
فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} يريد في خلافكم آياتي، فتعرفون حينئذ الحق من الباطل.
مسألة: في هذه الآية أدب حسن علمه الله عباده في الرد على
من جادل تعنتا ومراء ألا يجاب ولا يناظر ويدفع بهذا القول الذي علمه الله لنبيه
صلى الله عليه وسلم. وقد قيل: إن هذه الآية منسوخة بالسيف؛ يعني السكوت عن مخالفه
والاكتفاء بقوله: {اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ}
(12/94)
الآية:
70 {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي
السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ
يَسِيرٌ}
قوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا
فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} أي وإذ قد علمت يا محمد هذا وأيقنت فاعلم أنه يعلم
أيضا ما أنتم مختلفون فيه فهو يحكم بينكم. وقد قيل: إنه استفهام تقرير للغير. {إِنَّ ذَلِكَ
فِي كِتَابٍ} أي ما يجري في العالم فهو مكتوب عند الله في أم الكتاب. {إِنَّ
ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} أي إن الفصل بين المختلفين على يسير. وقيل: المعنى
إن كتاب القلم الذي أمره أن يكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة على الله يسير.
الآية: 71 {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ
يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ
مِنْ نَصِيرٍ}
قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ} يريد كفار قريش. {مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا
لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً} أي حجة وبرهانا. وقد تقدم في "آل
عمران". {وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ}.
الآية: 72 {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا
بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ
يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ
بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ
الْمَصِيرُ}
قوله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا
بَيِّنَاتٍ} يعني القرآن. {تَعْرِفُ
فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ} أي الغضب والعبوس. {يَكَادُونَ
يَسْطُونَ} أي يبطشون. والسطوة شدة البطش؛ يقال: سطا به يسطو إذا بطش به؛ كان ذلك
بضرب أو بشتم، وسطا
(12/95)
عليه.
{بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} وقال ابن
عباس: "يسطون يبسطون إليهم أيديهم". محمد بن كعب: أي يقعون بهم. الضحاك:
أي يأخذونهم أخذا باليد، والمعنى واحد. وأصل السطو القهر. والله ذو سطوات؛ أي
أخذات شديدة. {قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ} أي أكره من
هذا القرآن الذي تسمعون هو النار. فكأنهم قالوا: ما الذي هو شر؛ فقيل هو النار.
وقيل: أي هل أنبكم بشر مما يلحق تالي القرآن منكم هو النار؛ فيكون هذا وعيدا لهم
على سطواتهم بالذين يتلون القرآن. ويجوز في {النار} الرفع والنصب والخفض؛ فالرفع
على هو النار، أو هي النار. والنصب بمعنى أعني، أو على إضمار فعل مثل الثاني، أو
يكون محمولا على المعنى؛ أي أعرفكم من ذلكم النار. والخفض على البدل. {وَعَدَهَا
اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} في القيامة. {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} أي الموضع الذي
يصيرون إليه وهو النار.
( معلومات الكتاب - عودة إلى القرآن - فهرس القرآن )
==============
الحج - تفسير القرطبي
الآية:
73 {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ
إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا
لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ
الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ}
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ
فَاسْتَمِعُوا لَهُ} هذا متصل بقوله: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا
لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً} . وإنما قال: {ضُرِبَ مَثَلٌ} لأن حجج الله
تعالى عليهم بضرب الأمثال أقرب إلى أفهامهم. فإن قيل: فأين المثل المضروب؛ ففيه
وجهان: الأول: قال الأخفش: ليس
ثم مثل، وإنما المعنى ضربوا لي مثلا فاستمعوا قولهم؛ يعني أن الكفار جعلوا لله
مثلا بعبادتهم غيره؛ فكأنه قال جعلوا لي شبيها في عبادتي فاستمعوا خبر هذا الشبه. الثاني:
قول القتبي: وأن المعنى يا أيها الناس، مثل من عبد آلهة لم تستطع أن تخلق ذبابا
وإن سلبها الذباب شيئا لم تستطع أن تستنقذه منه. وقال النحاس: المعنى ضرب الله عز
وجل ما يعبد من دونه مثلا، قال: وهذا من أحسن ما قيل فيه؛ أي بين الله لكم شبها
(12/96)
لمعبودكم. {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ
اللَّهِ} قراءة العامة {تَدْعُونَ} بالتاء. وقرأ السلمي وأبو العالية ويعقوب
{يدعون} بالياء على الخبر. والمراد
الأوثان الذين عبد وهم من دون الله، وكانت حول الكعبة، وهي ثلاثمائة وستون صنما.
وقيل: السادة الذين صرفوهم عن طاعة الله عز وجل. وقيل: الشياطين الذين حملوهم على معصية
الله تعالى؛ والأول أصوب. {لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً} الذباب اسم واحد للذكر
والأنثى، والجمع القليل أذبة والكثير ذبان؛ على مثل غراب وأغربة وغربان؛ وسمي به
لكثرة حركته. الجوهري: والذباب
معروف الواحدة ذبابة، ولا تقل ذبانة. والمذبة ما يذب به الذباب. وذباب أسنان
الإبل حدها. وذباب السيف طرفه الذي يضرب به. وذباب العين إنسانها. والذبابة البقية
من الدين. وذبب النهار إذا لم يبق منه إلا بقية. والتذبذب التحرك. والذبذبة نوس الشيء
المعلق في الهواء. والذبذب الذكر لتردده. وفي الحديث "من وقي شر ذبذبه".
وهذا مما لم يذكره - أعني - قوله: وفي الحديث. {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ
الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ} الاستنقاذ والإنقاذ التخليص. قال
ابن عباس: كانوا يطلون أصنامهم بالزعفران فتجف فيأتي فيختلسه. وقال السدي: كانوا
يجعلون للأصنام طعاما فيقع عليه الذباب فيأكله. {ضَعُفَ الطَّالِبُ
وَالْمَطْلُوبُ} قيل: الطالب الآلهة والمطلوب الذباب. وقيل بالعكس. وقيل: الطالب
عابد الصنم والمطلوب الصنم؛ فالطالب يطلب إلى هذا الصنم بالتقرب إليه، والصنم
المطلوب إليه. وقد قيل: {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً} راجع إلى ألمه
في قرص أبدانهم حتى يسلبهم الصبر لها والوقار معها. وخص الذباب لأربعة أمور تخصه: لمهانته وضعفه
ولاستقذاره وكثرته؛ فإذا كان هذا الذي هو أضعف الحيوان وأحقره لا يقدر من عبد وه
من دون الله عز وجل على خلق مثله ودفع أذيته فكيف يجوز أن يكونوا آلهة معبودين
وأربابا مطاعين. وهذا من أقوى حجة وأوضح برهان.
الآية: 74 {مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ
اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ
(12/97)
قوله تعالى: {مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} أي ما
عظموه حق عظمته؛ حيث جعلوا هذه الأصنام شركاء له. وقد مضى في "الأنعام".
{إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} تقدم.
الآيتان: 75 - 76 {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ
رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ، يَعْلَمُ مَا بَيْنَ
أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ}
قوله تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ
رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ} ختم السورة بأن الله اصطفى محمدا صلى الله عليه وسلم
لتبليغ الرسالة؛ أي ليس بعثه محمدا أمرا بدعيا. وقيل: إن الوليد بن المغيرة قال: أو أنزل عليه
الذكر من بيننا؛ فنزلت الآية. وأخبر
أن الاختيار إليه سبحانه وتعالى. {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ} لأقوال عباده {بَصِيرٌ}
بمن يختاره من خلقه لرسالته .{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} يريد ما قدموا.
{وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} يريد ما خلفوا؛ مثل قوله
في يس: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا} [يس: 12] يريد
ما بين أيديهم {وَآثَارَهُمْ}
يريد ما خلفوا.
الآية: 77 {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا
وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا
وَاسْجُدُوا} تقدم في أول السورة أنها فضلت بسجدتين؛ وهذه السجدة الثانية لم يرها
مالك وأبو حنيفة من العزائم؛ لأنه قرن الركوع بالسجود، وأن المراد بها الصلاة
المفروضة؛ وخص الركوع والسجود تشريفا للصلاة. وقد مضى القول في الركوع والسجود
مبينا في "البقرة" والحمد لله وحده. {وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ} أي امتثلوا
أمره. {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} ندب فيما عدا الواجبات التي صح وجوبها من غير هذا
الموضع.
(12/98)
الآية:
78 {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ
اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ
إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ
الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا
الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ
الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ}
قوله تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ}
قيل: عنى به جهاد الكفار. وقيل: هو إشارة إلى امتثال جميع ما أمر الله به،
والانتهاء عن كل ما نهى الله عنه؛ أي جاهدوا أنفسكم في طاعة الله وردوها عن الهوى،
وجاهدوا الشيطان في رد وسوسته، والظلمة في رد ظلمهم، والكافرين في رد كفرهم. قال ابن
عطية: وقال مقاتل وهذه الآية منسوخة بقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا
اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]. وكذا قال هبة الله: إن قول {حَقَّ جِهَادِهِ} وقوله
في الآية الأخرى. {حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: 102] منسوخ بالتخفيف إلى الاستطاعة في هذه
الأوامر. ولا حاجة إلى تقدير النسخ؛ فإن هذا هو المراد من أول الحكم؛ لأن {حَقَّ
جِهَادِهِ} ما ارتفع عنه الحرج. وقد روى سعيد بن المسيب قال قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "خيرُ
دينكم أيْسرَهُ". وقال أبو جعفر النحاس. وهذا مما لا يجوز أن يقع فيه نسخ؛
لأنه واجب على الإنسان، كما روى حيوة بن شريح يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم
قال: "المجاهد من جاهد نفسه لله عز وجل". وكما روى أبو غالب عن أبي
أمامة أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الجهاد أفضل؟ عند الجمرة الأولى
فلم يجبه، ثم سأله عند الجمرة الثانية فلم يجبه، ثم سأله عند جمرة العقبة؛ فقال
النبي صلى الله عليه وسلم: "أين السائل"؟ فقال: أنا ذا؛ فقال عليه
السلام: "كلمة عدل عند سلطان جائر" .
(12/99)
قوله تعالى: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ} أي اختاركم للذب عن دينه
والتزام أمره؛ وهذا تأكيد للأمر بالمجاهدة؛ أي وجب عليكم أن تجاهدوا لأن الله
اختاركم له.
قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ
حَرَجٍ}
فيه ثلاث مسائل:-
الأولى: قوله تعالى: {مِنْ حَرَجٍ} أي من ضيق.
وقد تقدم في "الأنعام". وهذه الآية تدخل في كثير من الأحكام؛ وهي مما خص
الله بها هذه الأمة. روى معمر عن قتادة قال: أعطيت هذه الأمة ثلاثا لم يعطها إلا
نبي: كان يقال للنبي اذهب فلا حرج عليك، وقيل لهذه الأمة: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ
فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}. والنبي شهيد على أمته، وقيل لهذه الأمة: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ
عَلَى النَّاسِ}. ويقال للنبي: سل تعطه، وقيل لهذه الأمة: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}.
الثانية: واختلف العلماء في هذا الحرج الذي رفعه الله
تعالى؛ فقال عكرمة: هو ما أحل من النساء مثنى وثلاث ورباع، وما ملكت يمينك. وقيل:
المراد قصر الصلاة، والإفطار للمسافر، وصلاة الإيماء لمن لا يقدر على غيره، وحط
الجهاد عن الأعمى والأعرج والمريض والعديم الذي لا يجد ما ينفق في غزوه، والغريم
ومن له والدان، وحط الإصر الذي كان على بني إسرائيل. وقد مضى تفصيل أكثر هذه
الأشياء. وروي عن ابن عباس والحسن البصري "أن هذا في تقديم الأهلة وتأخيرها
في الفطر والأضحى والصوم؛ فإذا أخطأت الجماعة هلال ذي الحجة فوقفوا قبل يوم عرفة
بيوم أو وقفوا يوم النحر أجزأهم"، على خلاف فيه بيناه في كتاب المقتبس في شرح
موطأ مالك بن أنس رضي الله عنه. وما ذكرناه هو الصحيح في الباب. وكذلك الفطر
والأضحى؛ لما رواه حماد بن زيد عن أيوب عن محمد بن المنكدر عن أبي هريرة قال قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فِطركم يوم تُفْطِرون وأضحاكم يوم
تضحون". خرجه أبو داود والدارقطني، ولفظه ما ذكرناه. والمعنى: باجتهادكم من
غير حرج يلحقكم. وقد
روى الأئمة أنه عليه السلام سئل يوم النحر عن أشياء، فما يسأل عن
(12/100)
أمر مما ينسى المرء أو يجهل من تقديم الأمور بعضها قبل بعض
وأشباهها إلا قال فيها: "أفعل ولا حرج".
الثالثة: قال العلماء: رفع الحرج إنما هو لمن
استقام على منهاج الشرع، وأما السلابة والسراق وأصحاب الحدود فعليهم الحرج، وهم
جاعلوه على أنفسهم بمفارقتهم الدين، وليس في الشرع أعظم حرجا من إلزام ثبوت رجل
لاثنين في سبيل الله تعالى؛ ومع صحة اليقين وجودة العزم ليس بحرج.
قوله تعالى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ} قال الزجاج: المعنى
اتبعوا ملة أبيكم. الفراء: انتصب على تقدير حذف الكاف؛ كأنه قال كملة. وقيل:
المعنى وافعلوا الخير فعل أبيكم، فأقام الفعل مقام الملة. وإبراهيم هو أبو العرب
قاطبة. وقيل: الخطاب لجميع المسلمين، وإن لم يكن الكل من ولده؛ لأن حرمة إبراهيم
على المسلمين كحرمة الوالد على الولد. {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ
قَبْلُ} قال ابن زيد والحسن: {هُوَ} راجع إلى إبراهيم؛ والمعنى: هو سماكم المسلمين
من قبل النبي صلى الله عليه وسلم. {وَفِي هَذَا} أي وفي حكمه أن من اتبع محمدا صلى
الله عليه وسلم فهو مسلم. قال ابن زيد: وهو معنى قوله: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا
مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} [البقرة: 128].
قال النحاس: وهذا القول مخالف لقول عظماء الأمة. روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس
قال: سماكم الله عز وجل المسلمين من قبل، أي في الكتب المتقدمة وفي هذا
القرآن"؛ قال مجاهد وغيره. {لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ} أي
بتبليغه إياكم. {وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} أن رسلهم قد بلغتهم؛ كما
تقدم في "البقرة". {فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ
وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ
النَّصِيرُ} تقدم مستوفى والحمد لله.رب العالمين
(12/101)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق